الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 679
- بتاريخ: 08 - 07 - 1946
بين الإلهام والحكمة
للأستاذ عباس محمود العقاد
نقلنا عن الجماعة الإسلامية في لاهور أنهم يعدون حضرة مرزا غلام أحمد القادياني مجدد القرن الرابع عشر، ويثبتون أنه ما ادعى النبوة قط كما قال بكلامه:(إنني لا أدعي النبوة وكل ما أدعيه أنني محدث، وأن معنى المحدث هو الذي يسمع كلام الله. كلا. ما أنا مدع للنبوة، وما مدعي النبوة عندي إلا خارج على الدين، وإنما يكذب علي الذين يحسبونني من أولئك المدعين).
وقد شاءت المطبعة أن تضبط (المحدث) بكسر الدال، ولا أدري كيف وقع ذلك، لأن الكلمة التي تليها تفسرها وتمنع أن تكون على صيغة أسم الفاعل، إذ كان الذي يسمع كلام الله هو المحدث بصيغة أسم المفعول. وإنما المحدث هو الذي يتكلم وليس هو الذي يسمع الكلام.
ولهذا أصاب الأستاذ (السهمي) حين ردها إلى التطبيع، وأشار إلى تفسير المحدث فقال:(جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به - حدسا وفراسة، وهو نوع يختص به الله من عباده الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشيء فقالوا. . .)
ولكن المسألة كبرت بعد ذلك، لأن المراد أن يكون هناك خطأ ينسب إلى العقاد على ما يظهر. فكتب الأستاذ الطنطاوي يقول (إن السهمي لم يصحح الخطأ في تفسير العقاد. . . فقد ذكر أن المحدث هو الذي يسمع كلام الله. مع أن الذي قالوه في المحدث أنه الملهم. . .)
ثم كبرت مرة أخرى فقال كاتب بتوقيع منصف يخاطب الأستاذ الطنطاوي: (لو أعاد الأستاذ الطنطاوي قراءة ما كتبه السهمي لوجده قد صحح الكلمة وتفسيرها بما نقله عن كتاب النهاية لابن الأثير. . .)
فعجبت لهذا التصحيح في غير موضع للتصحيح.
وعجبت لتسمية هذا التصحيح تصحيحا لتفسيري أنا، مع أنني أروي عن القادياني فيما أقول.
فتصحيح التفسير كلمتان اثنتان ليس فيهما حرف واحد صحيح؛ لأنه لا تفسير لي أولا في تلك الكلمة المنقولة، ولأنه لا تصحيح هناك ولا موجب للتصحيح على وجه من الوجوه.
ولماذا يخطئ الذي يقول إن المحدث بفتح الدال هو الذي يسمع كلام الله؟
إن المحدث لغة هو الذي تتحدث إليه، وليس هذا هو المعنى المقصود بالكلمة في الحديث المنسوب إلى النبي عليه السلام، إذ لو كان هذا هو المعنى المقصود بها لكان كل إنسان من خلق الله محدثا بغير استثناء. ولم يكن ذلك شأن عمر بن الخطاب وحده أو شأن أمثاله من الملهمين. فما من أحد إلا وقد تحدث إليه أحد فهو محدث بهذا المعنى (اللغوي) الذي لا تمييز فيه.
فالمحدث المقصود إذن هو الذي يستمع حديثا من غير الناس أو يستمع حديثا من عالم الغيب. وكل حديثا من عالم الغيب فهو إما حديث من وحي الله وملائكته أو حديث من وحي إبليس وشياطينه. ولا تحتمل الكلمة معنى غير هذين المعنيين، بل لا تحتمل إلا معنى واحدا حين يكون الموصوف رجلا من القديسين وطلاب القداسة، وهو الاستماع إلى وحي الله، أو تلقي الإلهام من الله، ولا فرق بين القول بهذا أو القول بذاك.
فأين هو التصحيح إذن في التفسير كائنا من كان صاحب الكلام المفسر؟
ولماذا قال النبي عليه السلام (محدث) ولم يقل (ملهم) إذا كان من الخطأ أن نقول إن المحدث هو الذي يتلقى الحديث من عالم الغيب!
على أنني لم أنسى الإلهام في المقال نفسه لأنني ختمته بتلخيص كلام القادياني حيث يقول: (إن الإلهام درجات تبدأ بالحدس الصادق وتنتهي بعين اليقين وهو أعلى مراتب الملهمين، وأنه من الخطأ أن نخلط بين الإلهام الفني والإلهام الديني، لأن الإلهام الفني قد يكون في الشر كما يكون في الخير، وقد يقال إن اللص وهو يحاول سرقة المكان سنحت له خاطرة ملهمة - لتيسير السرقة ثم لتيسير الهرب من الحراس، وليس هذا من الإلهام الرباني في شيء، وإنما يكون إلهام الله في سبيل الحقائق العليا والكشف عن الأسرار الروحية، والنفاذ إلى لباب الخلق وبواطن الحكمة الإلهية، وهذه منزلة يرتقي إليها طلاب الوصول إلى الله، ومنهم ميرزا أحمد القادياني في رأيه وآراء مريديه؟)
فإذا كانت مادة (حدث) لا تقبل تفسيرا في المصطلح المقصود غير سماع الحديث من عالم الغيب، وكان الإلهام من المعاني التي ذكرناها في هذا السياق، فأين موضع التصحيح، وأين موضع التنبيه مرة بعد مرة إلى التصحيح؟ وهل حصل أو لم يحصل ولا يزال في حاجة
إلى تحصيل؟
إن (المحدث) بفتح الدال لا تحتمل معنى واحدا حين يوصف بها الرجل الصالح غير سماع الحديث من وحي الله، وإنما الإلهام هو تفسير لهذا الحديث وليس هو بالتصحيح، - فليس الإلهام إلا أن تتلقى إشارة من الله أو من عالم الغيب، ومتى كانت - المادة مادة (الحديث) فالإشارة المقصودة هي الحديث أو ما فيه معنى الحديث، وإلا لكانت التخطئة لاستخدام الكلمة في هذا الموضع وليست للتفسير والتوضيح.
ومن طرائف هذه التصحيحات (تصحيحه) أخرى وقعنا عليها في رسالة عن (عبد الله فكري) للأستاذ محمد عبد الغني حسن وصلت إلي منذ أسابيع.
فنحن نعتقد أن عبد الله فكري باشا رحمه الله كان من أنبغ كتاب الدواوين في عصره، وقد كتبنا عن هذه المدرسة في مقالاتنا عن شعراء القرن التاسع عشر، فقلنا إن أشياع تلك المدرسة كانوا في تلك الفترة كثيرين ثم قلنا:(إن الذين بلغوا منهم جهارة الشأن قليلون ونريد جهارة الشأن في المنصب كما نريدها في الأدب، فإن قليلا من الديوانيين من ضارع عبد الله باشا فكري في صحة اللغة، وبراعة التركيب، وسلامة الفهم والتفكير)
أما الشعر فرأينا في الرجل أنه لم يكن من كبار الشعراء و (أن قصائده في الحكمة هي ألصق بوصايا المتأخرين ونصائحهم منها بالحكم المطبوعة التي كانت تتخلل قصائد الشعراء عفوا في أدب الجاهلية والخضرمة وفحول القرن الثالث والقرن الرابع. فهي بكلام المعلمين أشبه منها بكلام الشعراء، وبوصايا الآباء المحنكين أشبه منها بالخبرة المطبوعة التي تعبر عنها قرائح أهل الفنون، ومن ذلك قصيدته الرائية التي يقول فيها:
إذا نام غر في دجى الليل
…
فاسهر وقم للمعالي والعوالي وشمر
ثم قلنا: (فهذه وأشباهها نصائح معلم وليست وحي شاعر، ولا نعرف بين كبار الشعراء في العالم كله واحدا صرف إليها شعره وجعلها من أغراض فنه)
وهذا كلام في رأي الأستاذ عبد الغني يحتاج إلى تصحيح لأنه لم يفهمه ولم يحاول فهمه، بل حاول تصحيحه ليكون من المصححين ولا يكون من الفاهمين.
فهو (أولا) يسأل مستهولا: (ما دخل كبار الشعراء في العالم كله في ميدان هو بشعراء العربية أشبه؟) ثم يقول (لقد نظم كثير من شعراء العربية مثل هذه القصيدة الفكرية في
عصور مختلفة فما حط من شاعريتهم. ولقد أوردت أبياتا من قصيدة ابن سعيد المغربي تزكية لقضية أرى من الحق أن أدافع عنها. فإذا احتج محتج أن المغربي من شعراء العصور المتأخرة نسبيا، فإن الجواب عندنا حاضر عتيد، وهو أن بشاراً بن برد من شعراء القرن الثاني ترك لنا أبياتا في المواعظ والحكم فيها كثير من وحي الشاعر).
وهو (ثانيا) يقول ليصحح لا ليفهم (إن الحكمة سواء لبست ثوب النصيحة والموعظة أو ثوب الحكمة المطبوعة ليس من الضروري أن تكون وحيا شعريا. ولقد فرق النقاد قديما بين الشاعر والحكيم حتى قالوا إن المتنبي وأبا تمام حكيمان والشاعر البحتري. فالمقابلة بين نصائح المعلم ووحي الشاعر هي مقابلة في غير موضعها ولا بابها. وقد يكون المعترض على حق لو أنه قابل بين نصائح المعلم وحكمة الحكيم).
هكذا قلنا مصحّحين بفتح الحاء.
وهكذا قال السيد عبد الغني بكسر الحاء.
ويؤخذ من هذا وذاك بالبداهة أن التصحيح أيسر من الفهم الصحيح بكثير، وأن السيد عبد الغني يفضل (أن يصحح) على (أن يفهم) ولا جناح عليه في تفضيلاته وتصحيحاته، لأن الإنسان معذور في هذه الدنيا إذا هو عدل عن جانب العناء إلى جانب الرخاء.
ومن ثم وجب عليه أن يصحح بكسر الحاء ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء لأنه لا شأن لكبار الشعراء في الدنيا بتحقيق الملكة الشعرية وتمحيص الآداب العربية؛ فإن كبار الشعراء شيء، والآداب الشعرية شيء آخر لا يتصل به، ولا يستدل به عليه.
ووجب عليه أن يصحح بكسر الحاء، ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء إذا أنكرنا على أحد أن يكون شاعرا مطبوعا في أغراض الحكمة، بعد أن قال بشار بن برد في تلك الأغراض ما قال:
ووجب عليه أن يصحح بكسر الحاء، ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء إذا قلنا إن الملكة الشعرية غير المنظومات الحكمية ولم نقل إن التعليم غير حكمة الحكيم.
وقياسا على ذلك قد أصبحنا مصححين ناجحين، فنقول وعلى الله القبول: إن أشعر الشعراء طرا وأحكم الحكماء شعرا هو السيد أبو الفتح علي بن محمد البستي حيث قال:
زيادة المرء في دنياه نقصان
…
وربحه غير محض الخير فقدان
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
…
فطالما استعبد الإنسان إحسان
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
…
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وحيث قال:
الدهر خداعة خلوب
…
وصفوه بالقذى مشوب
وأكثر الناس فاعتزلهم
…
قوالب ما لها قلوب
فلا تغرنَّك الليالي
…
وبرقها الخلب الكذوب
ففي قفا أمنها كروب
…
وفي حشا سلمها حروب
وأنه كان ينثر في الحكمة كما ينظم فلا تعوزه القافية ولا التحسين وإن أعوزته التفاعيل والموازين. ومن ذاك أنه قال: (حد العفاف الرضى بالكفاف) وأنه قال: (من سعادة جدك وقوفك عند حدك) وأنه قال (المنية تضحك من الأمنية). وأنه قال: (من أصلح فاسده أرغم حاسده) وأنه قال: (إذا بقى ما قاتك فلا تأس على ما فاتك) فلا جرم كان أشعر الشعراء وأحكم الحكماء، وحق له أن يقول في شمم وإباء وعزة وخيلاء:
يقولون ذكر المرء يحيى بنسله
…
وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت لهم نسلي بدائع حكمتي
…
فإن فاتنا نسل فإنا بها نسلو
نعم وأصبحنا مصححين ناجحين غير فاهمين ولا متفهمين، لأننا رجعنا إلى الفوائد الفكرية، فوجدنا فيها هذه النصائح الحكمية:(وينبغي للولد أن لا يدخل المحل الذي تكون أمه واضعة فيه المأكولات مثل العسل والسمن والفاكهة وغير ذلك إلا بإذنها، ولا يمد يده لشيء يرفعه من مكانه إلا بعلمها، فأنه يتعب والدته المشفقة اللينة القلب عندما تطلب ذلك الشيء ولا تجده. فليحذر غاية الحذر من كل ما يؤدي إلى تعبها وتغير قلبها)
فلما رجعنا إلى الفوائد الفكرية ووجدنا فيها هذه النصائح الحكمية، قلنا هي ملكة شعرية لا تعوزها غير الأوزان العروضية لأنها تنظم في اللغة العربية، ولا تنظم بالإفرنجية في اللغات الأجنبية، وكله عند العرب صابون، كما يقول المصححون الذين يصححون ولا يفهمون، بل كل قول مليح، إذا عجز الإنسان عن الفهم وقدر على التصحيح.
عباس محمود العقاد
من صميم الحياة
وحي الشيطان. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
(على أرباب الأقلام أن يوقظوا النيام وليس عليهم أن يحيوا
الموتى. .)
علي
وهذه (أيضا) قصة من قصص الحياة، (ألفتها) و (مثلتها) على مسرحها، وهي قصة واقعة أعرف زمانها ومكانها وأشخاصها، ولكني لن أصف شيئاً من ذلك ولا أشير إليه، لأني لا أريد أن أسوء أحدا ولا أن أعرّض به، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما في التعريض بالناس نفع للقراء ولا لي وما أكتب تاريخا إنما أسرد قصة. . .
وقعت هذه القصة في بلد من بلدان هذا الشرق العربي الذي يقف اليوم حائرا في مجمع الطرق، لا يدري أين يسلك ولا إلى أين يتجه، والذي يعيش عيشة تحكى الثوب المرقّع، فيها شيء من الجاهلية وشيء من العصور الإسلامية الأولى، وشيء من عصر الانحطاط، وشيء من فرنسا ومن إنكلترا ومن روسيا ولكنه لا يكاد يأخذ من كل (شيء) إلا أسوأ ما فيه.
وكان مما أخذ أهل ذلك البلد عن أمريكا، أنهم عملوا من بناتهم في المدارس مثل المجندات فيها، وما جندت أمريكا المجندات في هذه الحرب إلا (للترفيه) عن الجنود، فعمّن نريد أن (نرفه) نحن؟!
وانتشرت هذه البدعة في مدارس البنات حتى بلغت هذه المدرسة، وأراد القائمون عليها إعداد هذا اللباس العسكري للطالبات، ولم يكن بدّ من الاستعانة بخياط فبحثوا حتى وجدوا خياطا أخبروهم أنه رجل أمين صاحب خلق متين، وجاؤا به ليقيس أجساد الطالبات، وجعلوا يدخلونهن عليه واحدة بعد واحدة، وهو ماض في عمله، يغض من بصره إلا عما لابد من رؤيته، ويترفق في جسه ومسه، إبقاء على طيب الذكر، وحرصا على صناعته، ولعنة الله عليها من صناعة، أن يخيط الرجل ثياب النساء، ولعن كل من يرضى بها. ولبث
كذلك حتى دخلت هذه الفتاة، وكانت بنت ست عشرة كاعبا غرة مكلثمة بيضاء ذات غضاضة وبضاضة وخفر، من رآها رأى ملامح طفلة حلوة فتانة بطهرها وجمالها، في وجه خَوْد عذراء، على جسم راقصة مِفَنَّة، في ثياب عروس. . . . فلما رآها وقام للقياس. . . ومدَّ يده إليها أحس بقلبه يجب وجبانا منكرا، وبأنفاسه تتلاحق حتى كاد يدركه البهر، ولم يكن قد أصابه ذلك من قبل، وقد (طالما) رأى فتيات أجمل منها وأبهى وقمن أمامه بالغلائل ومسهنَّ وقاسهنَّ، فما صنعن به مثل هذا، وما كان تقيا ولا عفيفا، ولا يمتهن هذه المهنة رجل ويخيط للنساء ويبقى عفيفا، ولا تمشي إليه لتخيط عنده عفيفة ولا شريفة ولكنه لم يكن مشهورا بالفجور، ولم يكن ماجنا مستهترا فمن هنا عدَّه أهل هذه الأيام. . . أمينا صاحب خلق متين!
وأحسَّ بالفتور في أعصابه، ولكنه تماسك وتحامل على نفسه حتى أتمَّ القياس، وتكلم فعجب في نفسه أن وجد صوته يتهدج ويخرج مبحوحاً مخنوقاً، وما عهده كذلك. . . وخاف أن يفتضح فاستأذن في الانصراف، وخرج وفي نفسه عواطف متضاربة، فهو يرجو العودة إليها ويريد الفرار منها، وهو قد سعد بلقائها ولكنه يتمنى إن لم يكن عرفها. ولما وصل إلى دكانه لم يستطع أن يبقى فيه، وأحس كأنه افتقد شيئاً، وأنه يحيا في فراغ مخيف، وكان له، (وتلك من لعنات هذه الصناعة) عاملات وكان يأنس بهن ويلهو، فأعرض اليوم عنهن ولم ينظر إليهن، ووجد تراخياً في بدنه وشيئاً مثل الدوار في رأسه، فترك الدكان وذهب إلى أقرب قهوة إليه، فألقى بنفسه على كرسي فيها وأغمض عينيه وراح يحلم يقظان، ولم يكن يتخيل الفتاة بلحمها ودمها وجوارحها، وإنما كان يرى لها صورة غامضة عجيبة فيها كل ما كان يحلم به من ألوان السعادة وصور الجمال، ولم يكن يفكر في (وصالها) إنما كان في فكره التقديس لها والرغبة فيها والخوف منها والغيرة عليها من عيون الرجال بل من عين الشمس التي تراها!
وهذا هو الحب العذري، من النظرة الأولى، وإن أنكره العلماء وأقاموا الأدلة على إبطاله. لقد عشقها وهو لا يعرف اسمها، ولا دارها، ولا مطمع له في الوصول إليها.
ومرت الأيام ولا أصف لك كيف مرت عليه، وعاد إلى المدرسة ومعه الثياب ليجربها على صاحباتها، ودخلت البنات عليه، وخلعن أمامه ولبسن، وتحركن وحركن. . . وتكلمن
وسمعن. . . ولكنه لم يسمع ولم يره، وكان ينظر إليهن كما ينظر النائم إلى خيالات تجوز به وهو غارق في لجج الكرى، وكان فكره معلقا بتلك وحدها، وكان يتمنى لرغبته فيها أن تمر الدقائق مسرعة حتى يراها، ويرجو لخوفه منها أن يبطئ الزمان حتى يتهيأ للقائها. . . وكان كلما دخلت واحدة اضطرب وخفق قلبه يحسبها هي. . . حتى جاءت. . .
وكان لطول ما فكر فيها وخلع عليها خياله من سمات الجمال وأحاطها به من التقديس والإكبار ، لا يراها فتاة جميلة كالفتيات بل ملكا هبط من سمائه، أو حوراء من حور الجنان نزلت إلى الأرض، وكان يقدس كل شعرة منها، وكان يخشى أن يمسّ طرف ثوبها، لأنها كانت عنده كالزهرة التي يذبلها اللمس، فكان يخاف عليها ويرعاها من بعيد، ويحسّ الرغبة بأن يمرغ وجهه بتراب قدميها، وأن يقبل حذاءها. . . حماقة من حماقات العشاق. . .
ولم تكن البنت قد سفرت من قبل، أو خالطت الرجال، فهي لا تزال مستحيية، فتهيبت أن تجرب الثوب ووقفت. . . فأعانها المدرس وأنزل بيده جواربها، وخلع عنها ثوبها، وبقيت بـ (الشلحة)، فلما أبصرها الخياط كذلك، ورأى المدرس وهو يعينها على نزع الثوب عنها، اهتز كأنما مشى فيه تيار كهربائي، واجتمع في قلبه دمه كله، فخفق حتى كاد يخرج من صدره، وشحب وجهه حتى صار بلون قشرة الليمون، ثم دارت به الدنيا، ولم يعد يشعر بشيء. . .
لقد أغمى عليه فحملوه إلى دكانه، ولم يعد إلى المدرسة أبدا.
وهام الرجل بها، وزهد في كل امرأة من أجلها، ولم يبقى له في الحياة مطمح سواها، فرحمه جماعة من جيرانه، وذهبوا يطبونها له من أبيها، وأخذوه معهم، فلما عرف ما جاءوا له، أباه عليهم وردهم، فخرج الشاب وقد ضاقت به الدنيا، ولم يجد سبيلا يسلكه إلا سبيل الفجور. . . فأوغل فيه، وسخر ماله وشبابه لإفساد الفتيات، فأفسد منهن العشرات، وهنّ يتهاوين عليه كما تتهاوى الفراشات في النار. ومرت الأيام وسمع إن البنت قد خطبت، وعقد العقد، وزفت إلى بعلها.
هنالك أيس الرجل فانقلب شيطانا، واستحال ذلك الحب في نفسه بغضاً، وكذلك يكون البغض الشديد من علامات الحب الشديد، وأقسم ليدمرن حياتها وحياة أهلها، ولو دفع ثمن ذلك ماله كله وحياته، واستوحى الشيطان الأكبر، ورفاق السوء. . .
وهبط عليه (وحي الشيطان)!
فاستعان بمن يعرف من الفتيات من رفيقات البنت، وأغراهن بالمال وبالمتع أن يأتينه بها إلى داره مرة واحدة، وحلف لهن بالأيمان المؤكدة أنه لا يمسّ جسدها.
واحتلن عليها وزعمن لها أن رفيقة لهن مريضة فهن يحببن أن يزرنها معها، ورضيت وضربت لهن موعداً، فأخبرن به الرجل فأعد عدة الانتقام.
ولما وصلن إلى الدار تأخرن عنها حتى صارت من داخل، ثم رجعن واغلق هو الباب دونهن وبقيت وحدها، ونظرت فإذا الدار خالية ففزعت وركضت نحو الباب، فاعترضها الرجل وأخرج مسدسا ضخما، وهددها بأنه قاتلها به إن لم تخلع ثيابها كلها، وحلف لها أنها إن فعلت لا يمسها بيده، ولا يدنو منها، ويدعها تمضي بسلام، ونظرت الفتاة فإذا هو على صورة الوحش الهائج، أو الشيطان الغضبان، فارتاعت وجعلت ترجع حتى التصقت بالجدار، وهو يسلط عليها بريق عينيه وفوهة مسدسه، فلم تجد مناصاً من الامتثال.
فألقت خمارها عن رأسها، ثم نزعت معطفها بيد ترتجف من الرعب، ووقفت، فاستحثها، فانفجرت تبكي وتنشج، وتتوسل إليه:
- أرجوك، أنا في عرضك، أبوس رجليك. . . ارحمني استرني، ماذا عملت لك، إني امرأة شريفة ولي زوج. . .
فزأر في وجهها:
- بس!
وأوهمها أنه سيطلق المسدس، ثم رماه وراءه واستلّ سكينا طويلة أدناها منها حتى وجدت حدها على عنقها، وقال:
- اخلعي!
فخلعت الثوب، فقال:
- اخلعي كل شيء!
فعادت إلى توسلها وبكائها، وعاد إلى قسوته وتهديده.
فرمت (الشلحة)، والقميص، وبقيت بذلك (الكلسون) الذي يشبه خرقة بين رجليها، وصدرة الثديين، فصرخ بها حتى نزعتها، ووقفت أمامه كما ولدت أمها. . .
ومرت لحظة، ثم أعرض عنها، وقال لها: البسي واذهبي.
وصدق وعده فلم يمسسها.
فلما خرجت رفع ستارة، وقال للمصور:
هل أخذت الصورة!
قال: نعم، أخذت لها ثلاث صور!
خرجت وما تصدق أنها نجت، فلما بلغت دارها سقطت مريضة. . . وكانت هذه الواقعة كابوسا على صدرها، ما تفارقها ذكراها، في يقظتها ولا في كراها، وهجرت رفيقاتها جميعا رفيقات السوء، واتخذت لها ملاءة ساترة. . . ولكنها أخطأت فلم تنبئ بما جرى لها زوجها، ولم تصدقه خبرها.
ثم كان الفصل الأخير من الرواية:
وصل الخبيث حبله بحبل الزوج، وتزلف إليه حتى جمعته به سهرة، فأحضر معه طائفة من أصحابه الفساق، وكان قد بيت معهم أمرا، فلما احتدم الحديث وحميت السهرة، وزالت الكلفة وجاءت الألفة، أدار الخبيث الحديث حتى وجهه وجهة الحب والغرام، وانطلق يقص قصة لفقها، فلما انتهى منها، أخرج الصورة وقال:
وهذه صورة صاحبتي فيها، انظروا إلى جسمها وجمالها!
ودفعها إليهم فتناقلتها الأيدي، وكلما رآها واحد من أصحابه قال:
وأنا أعرف هذه الفتاة ومعي صورة أخرى لها.
حتى وصلت إلى يد الزوج، فنظر فيها، فأحس كأن لطمة انحطت على وجهه، فأظلمت منها عيناه ولم يعد يبصر ما حوله.
لقد كانت صورة زوجته!
ودمّر بيتان، وعوقب بريئان، وبقى المجرم الأول بلا عقاب، وهو القرد الذي جاءنا تقليده بهذه البدعة المخزية، بنظام (المرشدات)!
علي الطنطاوي
مما لم ينشر للرافعي:
أم من عصر العقل إلى عصر القلب؟ أم من عصر العقل إلى
عصر المعدة؟
مشكلة الفقر والغنى بين العلم والقانون والإيمان
للمرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
يزعمون أننا في عصر العلم، وفي دهر القانون، ويريدون أن يسلبوا الناس إيمانهم، كأن الإيمان هو مشكلة الإنسانية؛ مع أنه لا حل لمشكلتها إلا به. إن مسالة الغنى والفقر، وما كان من بابهما لا يحلها العلم ولا القانون إذ هي من مواد القضاء والقدر في إنشاء الآلام والأحزان وأضدادها التي تقابلها، وما كان فوق الإنسانية من السماء قوة لا تحد، وتحت الإنسانية من القبر هوة لا تسد، فلا نظام إلا على تصريف النفس أمراً ونهياً، وتأويل الحياة معنى وغاية، فإن لم يكن الشأن في ذلك مقرراً في الغريزة على جهة الإيمان، فلن يكون العلم والقانون على ظاهر النفس إلا ثورة بما في باطنها، ولن يبرح الناس على ذلك بعضهم من بعض كالهارب منه وهو مضطر إليه، أو كالمضطر إليه وهو هارب منه، وكلّ من كلٍ في معنى من معاني النفس لا إنسانية فيه
ما زاد العلماء على أن خلقوا في ساعدي الحياة هذه العضلة البخارية، وذلك العصب الكهربائي. فمن لم يستطع أن يتوقى ضربة الحياة المدنية بعدة من قوة، وعتاد من مال، طاحت به فدكته دكّ الخسف، ووضعته من الناس موضع الحبة من الرحى الدائرة. فما بينه وبين أن ينهار موضع يستمسك عليه، وإنما هذا الموضع هو إيمان المؤمن إذ يعطف على الضعفاء أو يسعد أو يبرّ بما كتب عليه أن يرق لهم من ذات نفسه ويتحنى ويتوجع.
ومتى كان العلم والدين يقومان جميعاً على تنظيم الطبيعة في مادتها وإنسانيتها لم تجر الإنسانية إلا على بقاء الأصلح في الجهتين، فإذا تخلى بها العلم وحده فلن تجري أبداً إلا على ناموس بقاء الأصلح في ظاهرها لإيجاد الأفسد في باطنها.
لن يصلح الإنسان للحياة الطيبة - ما دام بهذا التركيب الذي لن يتغير - إلا إذا وازن بين بيئته التي هو يوجهها وبين طباعه التي توجهه، فقيد أشياء في قيودها، وأطلق أشياء من
قيودها، وجمع في متبوئ نفسه حداً بحرية وديناً بعلم. بيد أن طغيان العلم في هذه المدنية قد مرد على طباع الإنسان وشمائله في كل موضع من الحياة لا تكافئه فيه قوة الدين فإذا هو يزين الشهوات، وإذا الشهوات تطوع المغامرة، وإذا المغامرة تجلب المنازعة، وإذا المنازعة تدفع إلى الحرص، وإذا الحرص يتصرف بالحيلة، وإذا الحيلة تهلك التقوى، وكان في تقوى الإنسان إيمانه، وكان في إيمانه رحمته، وكان في رحمته الأثر الإنساني الذي تعيش فيه الروح. وعلى ذلك يقع في الإنسان من النقص بمقدار ما يزيد له العلم، فإذا هو منحدر إلى السقوط مقبل على المحق راجع إلى الحيوانية بأكثر مما يحتمل تركيبه منها.
أولا يرى الناس أن تفوق أمة على أمة لم يعد في هذه المدنية إلا معنى من معاني القدرة على أكملها. . .؟
ومضى العلم على شأنه ذاك حتى جعل الإنسان آلة من آلاته التي غمر بها الدنيا فأصبح من لا إيمان له يتعسف خسائسه لا يدري أين يؤم منها وأين يقف، فلا يتسفل بقوة إنسان ولا بضراوة وحش، ولكن بقوة آلة من الآلات الكبرى ودقتها وسرعتها وإتقانها. . . حتى لا رذيلة من رذائل هذه المدنية إلا هي مفننة في تركيب على نسق الأمور المخترعة، وكأن الآلات العمياء ما زادت إنسانها شيئاً إلا أن قالت له كن أعمى، وكأن المدنية الملحدة ما عدت أن جعلت الوحشية تعمل أعمالها الفظيعة بتأنق وتمدن.
نسى الناس الإيمان أو انسلخوا منه، فإذا أيديهم تموج بأسباب الفضائل تحكمها ولا تضبطها، وما كان الإيمان الصحيح إلا التقوى، ولا كانت هذه التقوى إلا عملا من أعمال الإرادة غايته إيجاد الغرائز العليا في الإنسان بالأسلوب الذي لا تخلق الغريزة العملية في النفس إلا به، وعلى النحو الذي لا تصلح في الحياة إلا عليه. أظهر آثار الإيمان تحديد الغايات الإنسانية وتنسيقها والملائمة بينها، فإن إطلاق الغاية لكل إنسان على شأنه وسبيله كيف درّت معيشته وكيف دارت أهواؤه يجعل طرق الناس متداخلة متعادية فيقطع بعضها على بعض ويقوم سبيل في وجه سبيل، فلا تحل عقدة إلا من حيث تقرض أختها، ولا يتخلص خيط من خيوط اللذات الملتبسة المتشابكة إلا قاطعاً متقطعاً معاً. وأنت إذا بحثت عن الوحدة التي تحاول ضم الإنسانية المتنافرة وردها إلى مرجع واحد لم تجدها في غير
إيمان المؤمنين، فهو أبدا يقابل في كل نفس ما تطغى به الحياة على أهلها، ولا عمل له إلا أن يحذف الزيادات الضارة بالإنسان من بيئته، وبالبيئة من إنسانها، وهو بهذا حائل في كل مجتمع بين أن تنقلب أسباب السمو العقلي فتعود من أسباب الدناءة والخسة.
وإنما محل الإيمان من أهله محل الحكومة ممن تحكمهم؛ فهو الأمر والنهي بلغة الدم والعصب، وهذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات كأمن الناس ونظامهم وسعادتهم هي أنفسها محكومة بمسائل تأتي من ورائها في طبائع الناس وعاداتهم ومعايشهم ومصالحهم، فإن لم تكن في النفوس من الدين أصول تأمر وتحكم، وفي الطباع من اليقين أصول تستجيب وتخضع، رجعت الحكومة في الناس أداة مسلطة لا تغنى كبير غناء في الخير والشر. إذ يحتاج الخير أبداً إلى قوتها تحميه، ويحتال الشر أبداً على قوتها تستنقذه، ومتى لم يكن الخير إلا بالقوة فاحتياجه إليها شر، ومتى لم يكف الشر عن القوة فاحتيالها عليها شر مثله، فإذا تضعضعت من الأديان هذه الدعائم الراسية، وفرط من الإنسانية هذا الفارط الذي ليس في الأرض كفاء منه - لم تجد حسنة في حكومة من الحكومات إلا معها من طبيعتها سيئة، ولم تجد سيئة إلا هي سيئتان، فلن تكون الحياة حينئذ إلا تعقيداً اشد التعقيد من طغيان القادرين عليها بالمال والغنى، ومن حقد العاجزين عنها بالفقر والحاجة.
والغني القادر على متع الحياة ولذاتها هو دائماً في فلسفة العاجز قادر بلا قدرة، كما أن الفقير الضعيف هو دائماً عند نفسه عاجز بلا عجز، ولا أدل على ذلك من تعبيرهم عن معناه بالكلمة التي تشبه أن تكون هي أيضاً معنى بلا معنى. . . وهي الحظ. فلا بد للناس من الحدود التي تبنى بين كل ضدين من أحوال الإنسانية جداراً يعطف نفساً على نفس بالرحمة، ويرد قوة عن قوة بالصبر، ويكف عادية عن عادية بالتقوى، ويحقق عوامل التوازن بين أسباب الاضطراب في الجماعات المتصادمة ليقر كل مضطرب في حيز إن لم يمسكه فيثبت فيه لم يفلته فيعدو على سواه. فإذا عملت المدنية على هدم هذه الحدود، وتركت قوة الإيجاب في طبيعة الحياة بغير قوة قلبية سليمة من الإيمان في طبيعة النفس، كشفت للإنسان عيوبه ببلاغة من تعبير شهواته فزادتها رسوخاً فيه كما نقول للص: إنك لتسرق ستصبح غنياً تمر يدك في الذهب تنفق وتستمتع على ما تشتهي. فما يراك قلت له لا تكن لصا وتعفف، بل قلت له كن غنيا واستمتع. ويومئذ يغبر البؤس ويقشعر الفقر كما
نرى لعهدنا في الأمم التي فشى الإلحاد فيها، فليس من بعد إلا أن يتحول الفقر عن صورته البيضاء في سكب الدمع إلى صورته الحمراء في سفك الدم، وكان سؤالا فيعود اغتصابا، وكان الأسفل فيرجع الأعلى، وكان يفرضه الحق فإذا هو الحق نفسه. والله لكأن المسكين في هذه المدينة هو الجزء اللئيم الذي طرده الغني من نفسه وتبرأ منه وأمات ما بينه وبينه، فإذا هما اعترضا في مذهب من مذاهب الحياة، نفر الغني كأنما يرى قبره يدنو منه، وأطبق عليه البائس بمعاني النقمة واللعنة يقول له ما أنا إلا لؤمك أنت.
إن من الشجر شجرة تنبت في الفقر تعتصر ماؤها بين رمل وحجر، وتمتص غذاؤها من لؤم الجدب، فإذا حان أن يزهر عودها شوك فلا يكون في عقده ونبره إلا شوك، فإذا ازدرعوها في الخصب وخضلها الماء، وساغت لها الطبيعة، ثم حان أن يزهر عودها ملسه كرم الأرض؛ فإذا في موضع كل شوكة زهرة كأنها كلمة الحمد. وكذلك مثل الفقير بين الملحد والمؤمن
ترى أيخرج الإنسان في هذه المدنية من عصر العقل إلى عصر القلب، أم هو منحدر من عصر عقله إلى عصر معدته؟
وكان على هذه الأرض أغنياء مؤمنون فيهم من كرم الحس شبه الفقر، ومساكين مؤمنون لهم من كرم الصبر شبه الغنى، فهل تنقلب المدنية من الغنى المحض والفقر المحض إلى مادة تخلق اللحم الحي وأخرى لا تخلق له إلا الظفر الحي. . .؟
وكان اختراع الإنسان في المادة الجامدة، أفتراه يجيء يوم على الناس يكون أعظم اختراع فيه للإنسان الأخير أن يعيد إلى الأرض إنسانها الأول الكريم؟
مصطفى صادق الرافعي
مسكين.
. .!
للأستاذ صلاح الدين المنجد
جلس بسام على صخرة مشرفة على طريق القرية الضيق، يلهو بقذف الحصى، ويرنو إلى الأضواء الراعشة، وهي تخفق في السهل البعيد. وكان الناس قد آووا إلى دورهم، منذ طفلت الشمس للمغيب. فتلك كانت عادتهم في المصيف المتواري في ثنايا الجبال. وكانت الطرقات قفراً، والليل هادئاً، والقمر يقطع السماء بدلال واطمئنان، تحف به النجوم باسمات، يتنادين ويتغامزن، كأنهن حسناوات يتبعنه في لجة البحر. . .
وطرق سمعه صوت ناعم رخيم نبهه، فأرهف أذنيه، وحدق بعينيه، ثم قفز من الصخرة، يتلفت يمنة ويسرة. فلمح في طريق تخرج من سفح الجبل، فتترامى على صدره، وتغيب في قمته، شبحين ينحدران وسط الظلام في مشيتهما ميسان وفتور. وقد استند رأس برأس برفق، واشتبك ذراع بذراع بعنف، وغرقا في تمتمات وغماغم، شغلتهما عما يحيط بهما، من طبيعة وسنا، وقمر ضاحك، ونسيم رطب ونجوم ساطعات.
وتقدم الشبحان يميسان. فخفق قلب بسام، وظن أنه حبيب يغازل فتاته في هذا الليل الوسنان. فخطر على قلبه أن يعبث بهما فيقلد عواء الكلاب ليرعبهما، ولقد هم. . . لولا أن حدق ثم حملق، ثم بلع ريقه، وخفق قلبه، وذهل. . . لقد لمح، تحت ضوء القمر، حسناؤه زهرة الياسمين، التي فتنته ذات يوم، في قاعة الدرس، أنه يوم مسحور. . . أبصر به جمال الحياة يشع في عينين زرقاوين كالبحر، وشعر أشقر مجدل كسنابل القمح، وفم رقيق كأنه الجرح يقطر الدم، وينفح العطر. . . فراح هيمان بها، لا يصحو من حبه ولا يفيق.
وفار الدم في عروقه، ورمى بحصوات كانت في يده، وساءل نفسه عما تفعله الآن، وقد انتشر الليل؟ ترى أهي تحب فتى غيره؟ وكيف تحب، وهي له وحده؟. وهم أن يهجم على هذا الذي معها فيهشم عظامه، ويسحقه. فاقترب مغيظا. . . ولكنه ما لبث أن تبين إن الذي معها فتاة، وليس فتى. فشعر بتيار بارد يجري في عروقه، وتصبب العرق من جبينه. . . وبهت. . .
وضحك، بعد برهة، من نفسه كالمجنون. . وعاد إلى الوراء خطوات، فاختفى وراء صخرة ضخمة. . وحدثته نفسه أن ينتهز الفرصة فيكلمها. فهذه فرصة لن يجد مثلها. الجو صفو،
والحب شديد، والرقباء بعيدون.
وهو ما انفك مذ عرفها في المدرسة، يحاول الكلام معها ويود التقرب منها، فلا يستطيع. فكان يكتم هواه ويتجلد. وربما زور في نفسه جملا حلوة، وكلمات ناعمات، آملا أن تتصل بينهما المودة، فيحدثها بها. . . ولكنه كان يفشل دائماً فيما كان يحاوله. فقد كان أستاذه القصير يقلقه، وكان رفيقه الشيخ المتعصب للدين يزعجه. فهؤلاء أوانس يحرم على الشبان كلامهن، أو النظر إليهن.
وشعت فكرة التحدث إلى حسنائه، في نفسه كالشمس. وشعر بقوة تدب في جسمه. وأخذ قلبه يخفق. . . ورفع رأسه ليرى الشبحين. . . وهم أن يوقفهما، فقد اقتربا منه. وظن أنها ستفرح بلقياه. . . فلقد كان يخيل له أنها تحبه، ودلائله على هذا لا تعد. كم مرة عمد إلى كتب الأدب، فاستفتى صفحاتها، فكانت تغريه. كم مرة فتح دواوين الشعراء، ليعلم (حظه منها) فكانت الأشعار تبشره. حتى لو كانت القصائد على غير ما يشتهي. أنه كان يقنع نفسه أن الشاعر كان يقصد غير ما قال. . . وكم مرة نظرت إليه نظرة، قد تكون عابرة، فقضى الليالي يفسر النظرة ويقول لنفسه: أنها لتحبني. . . فكيف لا تفرح الآن، إذا رأته أمامها. . . أنها لا تفرح فقط، بل ستلقى بنفسها عليه، وستقول له خذني. . . فهاأنذا بين يديك. . .!
وتقدمت زهرة الياسمين، فتبين من معها. أنها رفيقتها بنفسجة فسر. ترى من يجامل منهما؟ وكيف يغازل زهرة الياسمين؟ ألا تغار هذه البنفسجة؟ وقال: أوف، هذه مشكلة جديدة. . . إن زهرته قد تنكره أمام صاحبتها، وقد تسمعه قارس الكلام. . . ولكن كيف يقدم لها ما زور في نفسه من كلمات غزلات، وقد صنعها لها وحدها؟
ومر الشبحان، فتقلص بسام، واختبأ، وحبس أنفاسه.
ثم عاد فرفع رأسه، لقد ضاعت الفرصة. مرت ولم يكلمها لابد من التحدث معها. ولكنه لم يفكر قط في رفيقتها هذي ولم يحسب لها حساباً. . . وخطا خطوات. . . واتجه نحوها.
فسمع هامساً يهمس في أذنه: (أنت شاعر. . . وأديب) فرفع، بلا شعور، رأسه، ونفخ صدره، وامتلاء زهواً. وردد بنفسه: (نعم. . . أديب، لي من سعة المعارف، في الشعر، ما يسهل لي كل عسير. ثم أنا شاعر. . . وشعري رقية للحسان وسحر. . . سأحدثها. فإذا
أعوزني الأمر، نثرت ما حشوت به رأسي، من أشعار، كالزهر).
واندفع. . . تاركا عن يمينه صخرته التي كان يجلس إليها، ثم مشى بحذر فخلف وراءه الطريق الوعرة التي تقوده إلى بستان القرويات الثلاث اللواتي أبغضن الرجال، فتبادلن، كما زعموا الحب. ثم عرج فجأة، فإذا هو وراء الفتاتين، على بعد أمتار. . . لقد أدركهما.
ولكن كيف يبدأ الحديث؟ هذه مشكلة ثانية. . . وأخذ يتذكر، وقد اطمأن أنه وراءهما، ما كان زوره في نفسه. لقد نسى بعض ما زور. . . إن فيه (رأيت إلى الوردة التي عشقها البلبل، يا زهرتي، فطاف في الدنيا يجمع لها اللآلئ ويزينها بها، ويغنيها في الصباح والمساء من الغناء ما يبهجها. إنك لأجمل منها عندما تبتسمين. . .) ولكنه تلعثم. . . ترى أتليق هذه الكلمات؟ إنها خيالات شاعر يغازل بها الورق، لا الحسان. . .! ثم، أتفهم عنه ما يقول. كان يعتقد إن المرأة ليست جديرة بهذا ولكنه كان يجد نفسه مسوقاً نحوها مفتوناً بها. . .!
وحاول أن يذكر جملة أخرى. . . (أنت يا زهرتي، بين أنشودة وبنفسجة، لك الشمس تبدو رفافة بين غمامتين تضحك للدنيا وتغمرها بالنور. . .) فأعجب بما قال وزهى. ولكنه فطن أن أنشودة غائبة، وأن في الليل القمر. وإذن ماذا يقول؟ وتنبه. لقد كادتا تصلان إلى السفح. وها هو ذا طريق القرية يبدو، بل ها هي ذي دار حسنائه، تلمع سقوفها الحمر، تحت ضياء القمر، أنها قريب، في رأس الطريق. ونادى من أعماق نفسه:(يا رب. . . يا رب!) وقبض على أصابعه، وضغط على أسنانه، وفار الدم في وجهه. كيف يحدثها؟ كيف يبدأ الحديث؟ وبم يحدثها؟ وتأفف. ولعن هذه الدراسة الطويلة التي قطع شبابه بها، ثم هو يجبن عن التحدث إلى فتاة. أنه بارد بليد. ولم يجد شفاء لنفسه غير سباب أرسله إلى أستاذه ورفيقه.
وشعت في رأسه فكرة فتمسك بها كأنه يخاف أن تفر. بعد أسابيع سيرسل، وترسل، للتدريس لقد جمعتهما المهنة. فلماذا لا يتخذ ذلك سبيلا إلى التحدث. ولقد كان يغيظه أن يراها تناجي رفيقتها وهو قريب منها ولا تناجيه. يا ويحهما. كأنهما عاشق وحبيب.
وبلغ السفح، وهو يمشي على رود، ويئس وفكر في الرجوع، وانثالت على رأسه فكر جديدة:(هيا. لأتعثر عمدا فأتدحرج أمامهما. . . عندئذ تقفان. . . وعندئذ أحدثها. . .) وهم
وتشجع ولكنه جبن. لقد خاف أن يتبعثر شعره الذي صففه ورجّله.
وخشي أن تضحكا منه وتهزئا به، فأجفل، ووقف، والفتاتان مسرعتان.
ورآهما وقد بلغتا طريق القرية تهرولان فجمد بصره. وشعر كأن في عنقه حبلا يشد به نحوهما. فهرول هو أيضاً بلا وعي، وأخذ وهو يهرول يلوم نفسه ويشجعها ويدفعها أن تحييهما، فالتحية مفتاح الحديث. وأسرع في العدو وقد خاف أن يفوته إدراكهما. لقد بلغتا القصر. . . هذا القصر الذي زينت جدرانه بالياسمين، وتدلى فوقه زهر أحمر يسمونه (الزهر الفرحان) وأسرع. . . وجهد نفسه. . . وفي عينيه نار، وفي قلبه نار. . . آه! ليت الطريق تطوى. . . وليت قلبه لا يخفق. . . ليستطيع إدراكهما. . .
وبلغ القصر، وهو يلهث. فتشجع، وابتسم. وفي اللحظة التي فتح فيها فاه ليقول بصوت راعش:
- مساء الخير يا آنسة. . . مساء الخير. . .
كان باب القصر يغلق. . . وزهرة الياسمين، تغيب. . .
وأغمض عينيه، وشحب وجهه، وأطرق برأسه. ثم مضى وفي عينيه دمعة.
وردد النسيم الهائم في تلك الليلة تحيته اليائسة، وتهامس الزهر العارش. . . (إنه مسكين. . . إنه مسكين!).
صلاح الدين المنجد
شكسبير العاشق
للأستاذ يوسف روشا
كان جون شكسبير، والد الشاعر، فلاحا. ويقول بعض الرواة أنه كان جزاراً. وليس ببعيد أن يكون الرجل قد اتخذ هاتين الحرفتين في آن واحد، فقد كان جم النشاط سريع الانسجام لا يحجم عن المغامرة فيما يعرض له من الشئون، فتحسنت حاله بسرعة إذ نراه في سنة 1556 - ولم يمض على وفادته على (ستراد فورد) سوى خمس سنوات - قد ابتاع دارين أنيقتين وانتخب نائبا عن هذه البلدة، ثم قام بعد هذا بقليل بأكبر صفقة في حياته وذلك بزواجه من (ماري أردن) ابنة المزارع الغني، فاستقامت حاله وارتفع في مدة وجيزة من مزارع بسيط إلى مصاف أعيان البلدة.
ولد وليم شكسبير في سنة 1564 ولا يزال اليوم الذي ولد فيه موضوع أخذ ورد، فمنهم من يقول أنه 22أبريل، ومنهم من يزعم أنه 23أبريل، فليس في هذا ما يهم، إنما الذي يعنينا أنه ولد في 1564 وكان الصبي الأول والطفل الثالث لجون وماري شكسبير.
لم يرسل جون ابنه وليم إلى المدرسة إلا عند بلوغه السابعة من عمره. وليس من شك في أن وليم، وما عرف عنه من توقد في الذهن ونفاذ في البصيرة، كان قد التهم بسهولة ويسر كل ما تلقاه في مدرسته، وليس هذا الذي تلقاه مما يغني، ذلك أنه لم يكن يتعدى النحو وشيئاً قليلا جدا من اليونانية واللاتينية اللتين لم يتقدم فيهما تقدما ملموساً، حتى أن (بن جونسن) وقد كان معاصراً للشاعر، قال عنه مرة إن معرفة شكسبير باللاتينية قليلة وًقل منها معرفته باليونانية.
على أن حالة الأب المالية أخذت في التدهور حتى اضطر آخر الأمر إلى إخراج كافة أبنائه من المدرسة.
لا نعرف شيئاً عما كان يفعله الشاعر من الثالثة عشرة إلى الثامنة عشرة من عمره، وأغلب الظن أنه كان يساعد أباه في مهنته كجزار، إلا أن سوء الحظ لازم جون شكسبير، فأخذ ينحدر رويداً رويداً إلى هاوية الإفلاس والفقر المدقع، فساءت أخلاق وليم وانضم إلى جماعة من الأشرار يسرقون الغزلان من حدائق الأغنياء.!
ولكن اقتحام الحدائق واختطاف الغزلان لا يعدان شيئا بجانب ما كان يقوم به وليم شكسبير
من غزواته الغرامية، فقد وجه سهامه، وهو لا يزال في الثامنة عشرة من عمره إلى فؤاد (آن هاتوي) ابنة فلاح، فصادها!
كان وليم مشبوب العاطفة، زير نساء، كما تدل عليه أشعاره وخاصة قصيدته (فينوس وأدونيس). ومن المؤكد أنه لم يقصد من مغازلة (آن) سوى العبث وإشباع الشهوة، ذلك أنه لم يكن يحبها، كما تبين فيما بعد، ولكن المسألة تطورت وأرغم آخر الأمر على أن يتزوجها.
كانت (آن) تكبره بثماني سنوات، وبعد ستة اشهر من زواجها وضعت له صبية اسماها (سوزان) ولا ريب أن هذا هو السبب الذي من أجله أرغم وليم على الزواج.
على أن هذا الزواج كان نكبة على الشاعر ونعمة على الأدب الإنكليزي خاصة والأدب العالمي عامة.
ذلك أنه لو لم يتزوج (آن) هذه لما نزح إلى لندن ولما عرف تلك الفتاة ذات الشعر الناعم والحاجبين الأسودين التي جرعته الصاب والعلقم، والتي من أجلها أخذ يخرج تلك الروائع الخالدات، ينفث فيها سمه، وينفس بها عن كربه.
لقد كان وليم، كما أسلفنا، زير نساء، لا يكف عن رمي شباكه هنا وهناك لاصطياد الكواعب، وكانت (آن) زوجته شديدة الغيرة، شكسة الطبع، فكان الخلاف بينهما يتسع والحالة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
إن غلمته العارمة ورعونته الهوجاء هما اللتان ورطتاه وقيدتاه بهذه الأنشوطة فلا مناص له الآن إلا أن يقطع الحبل. لقد كان عليه أن يختار أحد أمرين، إما أن يكون مخلصاً لطبيعته وفنه، وإما أن يذعن لعرف المجتمع وواجبه؛ فاختار الأول وفر إلى لندن، ولقد عاد هذا الاختيار على العالم بأكبر فائدة.
ولقد حاول الشاعر أن يعتذر عن هذه الزلة بهذا البيت:
(الحب طفل غرير ليس يدري ما الضمير)
لا نريد أن نقف طويلا لنتبع خطوات شكسبير في لندن مخافة أن يطول بنا الكلام فيلهينا عما نحن بصدده. يقول الرواة إن أول عمل قام به الشاعر عند هبوطه على لندن هو إمساك الجياد عند أبواب المسرح مقابل جعل، ثم تدرج قليلا قليلا إلى أن اصبح ممثلا
ومؤلفاً للمسرح.
يذهب (فرانك هارس)، الناقد الإنكليزي الشهير إلى أن حياة شكسبير في لندن حتى سنة 1597 - السنة التي تعرف فيها إلى (ماري فتون) - كانت سعيدة إلى حد ما على الرغم من هذه السحابة القاتمة المتغلغلة في نفسه. لقد كان، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره أعظم شاعر ومؤلف للمسرح أنجبه التاريخ، وكانت أواصر الصداقة تربطه مع (الايرل أوف ساوثمتن) واللورد هربرت (بمبروك)، وهما شابان أرستقراطيان عريقان في المجد، وهذان قرباه إلى القصر.
ومن طريف ما يذكر إن الملكة (اليزابيث) شاهدت مرة رواية (الملك هنري الرابع) فأعجبت (بفلستاف)، تلك الشخصية الجذابة المرحة، فأوعزت إلى شكسبير رغبتها في أن ترى (فولستاف) عاشقاً قد تيمه الحب. فنزولا على رغبتها أخرج شكسبير في مدة لا تتجاوز الأسبوع مسرحيته (زوجات وندسور المرحات) فكان نصيبها الفشل، ذلك لأن الفن العالي لا يخضع للمؤثرات الخارجية ولا يصدر إلا من منبع واحد هو وحي الفنان!
والآن من هذه السيدة (ماري فتون) التي سيطرت على فؤاد الشاعر وأضرمت فيه نار الحب؟ أنها وصيفة الملكة (اليزابيث)، في التاسعة عشرة من عمرها ومن عائلة عريقة في المجد. لقد وصفها شكسبير بأنها امرأة لا كالنساء، فارعة القوام، شاحبة اللون، عيناها وحاجباها سوداوان، غجرية الطبع، متغطرسة، متمردة خليعة، من أرومة عريقة في المجد وصاحبة مركز رفيع.
هذه هي المرأة التي جن بها الشاعر، فما هي صفات شكسبير ومؤهلاته حين ذاك؟
لقد كان في الرابعة والثلاثين من عمره، ضعيف البنية، محطم الأعصاب، خجولا، فقيراً، شاعراً. ولكن أغلبية الشعب في ذلك العصر، عصر البطولة الجسمية، لم تكن تحفل بالشعر والشعراء، وكانت تفضل مصارعة الديكة على أية تحفة في الفن والأدب.
لذلك لم يجد شكسبير من نفسه الشجاعة لبث هواه اللاعج لحبيبته بنفسه، فرجا صديقه (اللورد هربرت) أن يقوم عنه بهذه المهمة فقبل، ولكن (ماري فتون) تشبثت باللورد الشاب الوسيم وبادلها هو أيضاً الحب وخلفا الشاعر يندب الصداقة والوفاء.
على أن شكسبير لم تخمد جذوته بل زاد وجده ضراما على مر الأيام.، فما انفك يصب جام
غضبه على العاشقين في مسرحياته وقصائده، يصرح حيناً ويلمح أحياناً. ففي مسرحيته جعجعة ولا طحن يذكر الحادثة بصورة جلية على لسان (كلوديو) ناصحا للعشاق ومحذرا لهم من الوقوع فيما وقع هو فيه إذ يقول:(حقاً إن الأمير يبثها غرامه ويستهويها لنفسه. إن دعائم الصداقة تكون ثابتة متينة في كل شيء ما عدا أمور الحب؛ فنصيحتي للمحبين ألا يتخذوا وسيطاً بينهم وبين من يحبون، بل ليبثوا غرامهم بأنفسهم، ذلك لأن الجمال نوع من السحر لا تلبث الأمانة أن تزول أمامه وتتلاشى).
ولقد تشتد بالشاعر الأزمة ويضيق (بماري) ذرعه ويرعد ويزيد مهددا إياها بأنه سيهجوها أقذع الهجاء وأقساه؛ ولكن فاته أن امرأة (كماري فتون)، التي كانت تلد نغلا بعد نغل دون ما حياء أو خجل، لا يهمها ما يكتب عنها بعد ما ذاع أمرها بين الملأ، وأغلب الظن أنها كانت تقابل التهديد بشيء غير قليل من السخرية والاستخفاف.
إذا أردت أن تعرف رأي شكسبير في (ماري فتون) هذه فما عليك إلا أن تقرا مسرحيته (أنطونيو وكليوباترة) فما (أنطونيو) سوى شكسبير وما (كليوباترة) سوى (ماري فتون) وإليك البيان.
(أنطونيو): إن مكرها لا يكاد أن يتصوره عقل إنسان.
(أنوبربس): مهلا سيدي لا تقل هذا. إن عواطفها لمن أنبل العواطف وان حبها لصاف نقي لا تشوبه أية شائبة
(أنطونيو): لكم وددت إني لم أراها قط.
(أنوبربس): ولكن تكون في تلك الحالة يا سيدي قد فاتتك قطعة من الفن مدهشة؛ وتصبح رحلتك بدونها جافة عقيمة بهذه الأسطر الوجيزة عبر لنا شكسبير عن رأيه في (ماري فتون). أنها شر لا بد منه
ثم يصيح على لسان (أنطونيو) والحسرة تكاد تمزق أحشاؤه (إلى أين قادتني مصر؟)
إلى الهاوية ولا ريب.
كان ذلك في 1608 وكان قد مضى على تعرفه (بماري فتون) إحدى عشرة سنة، ذاق في أثناءها الأمرين، فانطوى على نفسه، وأخذ يخرج تلك المآسي الرائعة، حتى وهن جسمه، وانهدت أعصابه، ونال منه الإعياء فانسحب إلى (ستراتفورد)، مسقط رأسه، ليقضي ما
تبقى من حياته القصيرة تحت عناية ابنته ورعايتها.
(بغداد)
يوسف روشا
الأدب في سير أعلام:
مِلْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال)
للأستاذ محمود الخفيف
- 19 -
الزواج والصدمة الأولى:
لم يكن زواج هذا الشاعر الفيلسوف أمرا من أمور حياته الشخصية فحسب، يتدبر قصته من يريد أن يستكمل فهم شخصيته ويحيط به من أقطاره، وإنما كان الزواج وما وقع له فيه إلى جانب ذلك حادثا اثر في تفكيره وفلسفته، فعمد إلى توضيح فكره في كتيبات جديدة جرت عليه مخالفة من دافع عنهم من البرسبتيرينز إياه، وأدت به إلى مخاصمتهم ومحاربتهم،؛ ثم استقر اثر ذلك الزواج في نفسه حتى كان ناحية من نواحي فلسفته في قصيدته الكبرى فيما بعد. . .
في أواخر ربيع سنة 1642، ذهب ملتن إلى الريف في غير غرض معلوم اللهم إلا ما ظن أصحابه من طلبه الاستجمام، وقضى ملتن زهاء شهر في قرية فورست هل، وتقع على نحو خمسة أميال من اكسفورد، وهي المقاطعة التي نبتت فيها أرومته فقد كان جده لأبيه أحد الموظفين في الغابات الملكية هناك.
ونزل ملتن ضيفا على ريتشارد بوول، وكانت بين أسرة بوول وأسرة ملتن صلة معرفة ومودة.
وعاد ملتن إلى لندن فما كان اعظم دهشة أصحابه إذ رأوه يأتي ومعه ماري بوول زوجا له، وكانت فتاة في السابعة عشرة من عمرها، وكان هو يومئذ يتشرف على الخامسة والثلاثين؛ ولطالما رأوه عزوفا عن الزواج منصرفا عنه إلى كتبه وشعره، يسرف أحيانا خياله الشاعر ويغلو في وصف العفة حتى ليجعلها في أن يعيش الإنسان أعزب أبدا!
وجاء مع العروس سيدات وفتيات من أهلها فاقمن في بيت ملتن أياما نعمن فيها بما أقامه من زينات ومباهج وأفراح أحاط بها هذا العرس حفاوة منه بعروسه، وشوقا منه إلى المسرة وقد تحمل سام العيش وقسوته زمنا طويلا في حرب القساوسة ومكابدة الدرس ومعاناة التعليم.
وانصرف أهل العرس وتركنها في كنف زوجها الشاعر الفذ والفيلسوف المرموق المكانة، ولكنها ما لبثت أن لحقت بهن ولم يكد ينتهي شهر العسل، الأمر الذي دهش له أصحابه اكثر مما دهشوا لزواجه المفاجئ.
وكانت العروس قد أرسلت إلى أمها تسألها أن تكتب إليها لنحضر إلى بيت أبيها لتقضي هناك بقية الصيف، وما كان أبواها ليجيباها إلى ما طلبت ولم يكد يمضي عليا شهر في بيت بعلها، لولا أنهما ظنا أن وراء طلبها سرا حملها عليه؛ وكان ملتن يعلم ذلك السر فوافق على رحيلها لأنه أيقن أن لا شيء اجدر من نصيحة أمها بان يصلح شأنها ويبث في قلبها شعور الواجب نحو زوجها؛ فرحلت عنه عذراء كما جاءته عذراء. . .
وحل الموعد الذي حددته لعودتها ولكنها لم تعد، فكتب إليها ملتن فلم تجبه، فأرسل إليها رسولا بكتاب منه فأصرت على صمتها وأهانت الرسول، فوقع في وهمه أنها لن تعود أبدا، وابتأست نفسه بما فعلت وامتلأ قلبه منها غيضا وحنقا
وحار أصحابه في أمرها كما حار من كتبوا حياته من بعد إلى أي شيء يردون مسلكها أكان ذلك منها لأن زوجها بيوريتاني من أنصار البرلمان في حين كان أبوها من اتباع الملك وأنصاره وقد اشتعلت نار الحرب بين الجانبين؟ أم كان ذلك لأنها كانت من قبل في موطن يعج بالحياة والإنس حيث كان يغشى جند الملك بيت أبيها بين الفينة والفينة فتقع عيناها هناك على وجوه جديدة وتسمع أنباء جديدة، فانتقلت منه إلى بيت شاعر عاكف على كتبه وأوراقه تشيع في أنحائه الوحشة ويسد السكون ولا تسمع فيه من الأصوات إلا بكاء من يضربهم ملتن منى طلابه؟ أم نال من كبريائها أن أباها كان مدينا لأسرة ملتن بمبلغ من المال عجز عن أدائه، فإن دخله من أرضه ومن مال زوجته لم يكف نفقات عيشه إلا بجهد نظرا لكثرة عياله ولما كان يهبط داره من الجند وغيرهم من أنصار الملك؟ أم خيل إليها وهي ابنة سبعة عشر عاما لم تحس بين يدي زوجها وقد كان عمره ضعف عمرها ما كانت
تحس به لو أنها كانت بين يدي شاب في مثل سنها؟ أم إن ما بينها وبين زوجها من تفاوت عظيم في الثقافة ومن اختلاف في النظر إلى الحياة نتيجة لهذا التفاوت قد جعلاها تخجل من نفسها وتحس ضآلة شخصيتها إلى جانبه وتشعر أنها غير حقيقة بان تدخل على نفسه من السرور ما يطمع فيه رجل من زوجته؟
كل أولئك في الواقع كان خليقا أن يلحق الفشل بهذا الزواج. ما أهل العروس فقد عولوا ألا يردوا هذا الفشل إلا إلى الخلاف في السياسة والدين بينهم وبين ملتن البيوريتاني البرسبتيري الذي يميل إلى جانب الرؤوس المستديرة كما كان يسمي جند البرلمان بينما هم ينحازون إلى جانب الفرسان كما كان يسمي جند الملك في هذه الحرب الأهلية الدائرة الرحى على أنهم يحسون بينهم وبين أنفسهم إن ذلك لا يكفي وحده للمباعدة بين الزوج وبين عروسه على صورة لا تكون إلا لنفور أحدهما من الآخر نفورا لا تجدي معه حيلة، ولا تفسره إلا تلك الأسباب التي ذكرناها مجتمعة، فقد انقضى شهر العسل ولم يقضي منها وطرا، وكان النفور من جانب العروس لأن الزوج ظل يدعوها بكتب متلاحقة لتعود إليه فلم يجد منها إلا إعراضا وإصراراً. . . . . .
وحق اللوم على ملتن فهو الذي اختارها زوجة له، وكان جديرا أن يتدبر ما كان بينها وبين أبيها من فوارق وما بينه وبينها من تفاوت؛ على أن عين الحب عمياء كما يقول شكسبير، وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما يقول أبو الطيب، وقد كان ملتن كما رأينا في سالف مواقفه سريع التأثر بسر المرأة يتهافت على ما يصوره له خياله الشاعر من الجمال تهافت الفراشة على الضوء، فقد احب كما علمنا من أمره وهو في صدر شبابه فتاة وقعت عليها عيناه لأول نضرة في زحمة لندن ولم يراها بعد ذلك أبدا، حتى لقد عول على الهرب من لندن مخافة أن تصيده سهام كيوبيد. ولقد تعرض لهذه السهام في إيطاليا كما رأينا، وما زال يتحاماها وهو الحريص على عفته حتى وقعت عيناه على هذه الفتاة الريفية وكانت تهجس أحاديث الزواج في نفسه كما تبين في رثائه صديقه ديوداتي، فاقبل على الفتاة وقطع أمره في غير روية، فما به خوف اليوم من كيوبيد والمسالة مسالة زواج - وهكذا تصيده السهام ويملك قلبه الحب
واختلف مؤرخو حياة الشاعر في هذه الفتاة أكانت جميلة ساحرة أم كان حظها من الجمال
بحيث لا يصل إلى حد الفتنة؟ فمنهم من يؤكد سحر جمالها، وحجته أنها لو لم تك كذلك ما بلغت من نفس الشاعر بمثل السرعة وهو الذي لا تخطيء الجمال عيناه. ومنهم من يؤيد الرأي الآخر وحجته أنه لم ترد فيما ذكر الشاعر عنها إشارة إلى سحرها، وما افتن ملتن منها إلا بما رآه من وداعتها وخفرها ونظرة الريف في محياها وجسدها، والشاعر خليق أن يضيف بخياله إلى محاسنها جمالا فترى عيناه فيها ما لا يرى غيره من الناس. على أن هؤلاء وهؤلاء لا يتجاوز كلامهم الاستنتاج فلم يقع أحد منهم على دليل لما يقول؛ ومهما يكن من شيء فإن عين الحب عمياء وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولقد كان ملتن تلقاء فتاة قروية في السابعة عشرة إلا تكن فارهة الجمال فقد كانت في روعة الشباب، وقد جمع للزواج عزمه، فما اسهل أن تريه عيناه فيها من معاني الجمال والطهر والعفة في بيت أبيها الريفي ما يتغلب في خياله الشاعر على كل عقبة. . .
ولقد اقض الألم مضجعه لهذا الفشل وقد كان يطمع أن يسكن إليها ويجد بين يديها مودة ورحمة، كما ملأ الحنق نفسه لما أصاب كبرياءه برفضها العودة إليه وإهانتها رسوله، وقد كان يظن أن نصيحة أمها وحزم أبيها سيعودان بها إلى الصواب. . .
ولا ريب أن ملتن كلن يستشعر في نفسه الخجل والندم كما استشر الألم، وذلك أن اختياره ماري بوول متأثرا بمظهرها على هذه الصورة العاجلة إن هو إلا اندفاع العاطفة في فورة من فوراتها، وإلا فماذا دفعها إلى هذا الاختيار ولم يك يعرف ماري بوول من قبل حتى يظن أنه انس فيها من الصفات ما يهتم به شاعر مثله كالذكاء والثقافة وبراعة الحديث وما يتصل بها؛ وكان خليقا وهو الذي طالما افتخر بامتلاكه زمام نفسه وطالما اعتقد أنه قادر على كبح جماح عاطفته أبدا، أن يندم ويألم فقد سيطرت عليه عاطفته، وتغلب الجسد في نزوعه الشديد نحو رغبة له اتقدت، وليهت حقق بالزواج تلك الرغبة؛ فلئن تزوج فما هو بمتزوج إذا صح هذا التعبير، ثم أنه أخذ يطفئ في نفسه جذوة جسده ووقدة عاطفته مستعينا بالصبر والصوم؛ ولقد اثر انقياده لعاطفته على هذا النحو على ما كان فيه من كبرياء أثرا عميقا في حياته وفكره سوف يظهر في فلسفته وفنه.
ومما زاده غما وألما أنه كان بعد أن هجرته زوجه لا يستطيع بالضرورة أن يتزوج غيرها، وهذا في ذاته قيد ظن؛ وهل كان يستطيع أن يحمل نفسه على قبول هذا القيد لأن
الدين أو لأن الكنيسة تحول بينه وبين الطلاق إلا وفق شروط معينة؟ ومتى خضع إلا ملا يهديه إليه فكره، وقد نزع إليه وجدانه وتعلق به إيمانه؟ وإذا كان هو نصير الحرية الذي دافع عنها أمام تعصب القساوسة فكيف يتخاذل عن نصرتها الآن؟ ألا يستطيع أن يدع الجانب الشخصي من فشله في زواجه فلا يتعرض له ثم يخلق من الحادثة في ذاتها موضوعا عاما؛ فيكتب دفاعا عن الحرية في ناحية من نواحيها واعني بها الناحية الشخصية؟ بلى أنه لقادر على ذلك وأنه لفاعله، وأنه لنصير الحرية الشخصية اليوم.
ويمكننا أن نتصور حالته النفسية في هذا الموقف، فهذا رجل ذو كبرياء وأنفة، طالما افتخر بتغلبه على شهوات نفسه، وقد عاش حتى الخامسة والثلاثين من عمره عيشة الطهر والعفة مستعينا بعزم المصمم على قهر وساوس الشباب، يسمو في طهره على الناس ليكون أهلا لرسالته التي يستشرف لها، ويقبل على دراساته ليتهيأ إلى ما يتطلع إليه، ثم إذا به يجد نفسه، وقد ارتطم في ورطة بسبب انقياده لعاطفته بعد طول امتنع، ولئن كلن ما وقع فيه لم يعد كونه أمرا مشروعا هو الزواج، إلا إن فشله في اختيار زوجته كان نتيجة تسلط عاطفته على عقله أو تغلب جسده على روحه، وان ذلك ليشعره بينه وبين نفسه أنه لم يعد إنسانا كسائر الناس؛ ولكم نال ذلك من كبريائه وادخل الغم على نفسه، فضلا عن أن ما انتهى إليه إنما هو حد من حريته.
على أن كبرياءه تأبى عليه إلا أن يلتمس مخرجا لنفسه فما يطيق أن يذعن، ويجد ذلك المخرج في تقريره إن العاطفة في ذاتها من الأمور المشروعة التي وضعها الله في الإنسان، وما لم تنطوي على جريمة فلن يضير المرء أن تقوده إلى خطا؛ ويستنكف أن يشير إلى مسألته الشخصية، فيعمد إلى فلسفة عامة في الزواج والطلاق ينفس بها عن نفسه ويراب بها ما تصدع من كبره، فإذا كانت العاطفة أمرا مشروعا فوجب أن تكون العلاقة بين الزوجين على أساسها، فيكون الزواج اتفاق عاطفتين أو التقاء روحين، فإن كانت العلاقة على غير هذا الأساس، وكانت مجرد التقاء جسدين، أو كانت العاطفة لا تقابلها مثلها في الناحية الأخرى بطل الزواج ووجب الطلاق؛ وهو إنما يبتكر بذلك سببا للطلاق لم يتجه إليه أحد من قبله، ومرده إلى المنطق لا إلى شريعة سماوية أو قانون بشري؛ على إن كلامه هذا في الوقت نفسه ينطوي على تأنيب منه وزجر لنفسه، وإلا فهل فكر قبل
اختياره مالي هل كانت عاطفتها تجاوب عاطفته، أم كان الأمر أمر افتتان بها لم يتمالك عندها نفسه؟ وإذا فهو الملوم وحده.
ولكنه يقدر وقوع الخطأ، فقد يخدع الإنسان فيمن يخطبها لتكون زوجه، ويحس أنها تبادله عاطفة بعاطفة؛ فإذا وقع الخطأ فعلا فما السبيل إلى تجنب ما يجره ذلك الخطأ من عواقب هي شر منه فلا سبيل في رأيه غير الطلاق، وإلا فكيف يتباعد الزوجان ولا يستطيع كلاهما أن يتزوج غير الآخر؟
بهذه الآراء البالغة الجرأة والخطر في أمر له أهميته وخطورته في المجتمع قذف ملتن الناس في كتيب نشره في أغسطس سنة 1643 وسماه (قانون الطلاق ونظامه)، ولم يك غافلا عما كانت مثل هاتيك الآراء خليقة أن تثيره من سخط وغضب ودهشة تشبه الجزع في الأوساط جميعا، ذلك أنه كان يدرك أنه كان طلعة في تناول الموضوع على هذا النحو، ولكنه كما يقول الإنجليز احرق القوارب كلها من ورائه وليس يبالي أيبلغ ما يريد أم يهلك دونه.
ويزخر هذا الكتيب بحماسة شاعر عظيم تدفعه للكلام روح قوية نبيلة وألم يمنح جوانحه لما لحق كبرياءه، وغضب عاصف كما هاج البحر ثائر كما تأججت النار، ولذلك تقع فيه على مظاهر الحماسة قوية رائعة، فيرسم الشاعر طائفة من المثل العليا للحياة الزوجية، ويصور الألم والخيبة التي تعقب الزواج الفاشل، ويبدع إذ يستند إلى العقل والمنطق في براهينه، وإذ يسوق الأدلة التي تؤيد رأيه من الإنجيل، وإذ ينقض ما ينهض فيه حجة عليه، ويبلغ ذروة الإقناع والفصاحة إذ يدعو إلى تحرير العقل من حرفية القانون، وهو في ذلك كله يصل من البلاغة إلى ما لم يصل إليه في كل ما كتب قبله، والحق انك تجد في هذا الكتيب ملتن الرجل وملتن الفيلسوف وملتن الشاعر على خير ما يكون من حالاته في ذلك جميعا وان كان النثر وسيلته وأداته.
وكان يعتقد ملتن أنه خرج من الشؤم الذي لحقه بخير يسوقه للناس جميعا، فهو يخيل إليه أن ما انتهى إليه من رأي في الطلاق إنما هو خلاص للبشر من قيد بغيض ظالم يوبق أرواحهم ويريهم مثل حياة الجحيم في هذه الدنيا، وذلك هو معيشة الزوجين معا على رغمهما لأنهما ارتبطا برباط الزواج.
وكانت تحف عنه آلام نفسه كلما ذكر أنه إنما يكتب ما يكتب ليخفف عن الناس آلامهم، فلا ضير أن يتحمل الألم ما دام الناس سيفيدون مما حاق به من سوء المصير، على أنه أنفة منه وتكبرا حريصا على ألا يشير بشيء إلى مسألته الشخصية
(يتبع)
الخفيف
بمناسبة حال العمال اليوم:
واجبات الإنسان. . .
للزعيم الإيطالي يوسف مزيني
بقلم الأستاذ عامر عبد الوهاب
نشر مزيني هذا المال عام 1860 موجها كلامه إلى الطبقة العاملة في إيطاليا قال: أود أن أتحدث إليكم عن واجباتكم، وأود أن أتحدث إليكم كما يوحى إلى قلبي عن اقدس ما نعرف من الأشياء: عن الله سبحانه تعالى، وعن الإنسانية والوطن والأسرة. أصغوا إلي إصغاء محبة، كما سأتحدث إليكم حديث مودة. إن كلماتي لهي كلمات اليقين الذي صهرته السنون الطوال التي قضيتها في كمد ونظر ودرس. واعلموا أني ابذل قصارى جهدي في تأدية الواجبات التي سأشرحها لكم وسأستمر في تأديتها إلى آخر رمق من حياتي. قد أخطئ ولكن قلبي متشبع بالحق. قد اخدع نفسي ولكني لن أخدعكم، لذلك أرجو أن تستمعوا إلي كأخ، ولكم أن تحكموا بحرية فيما بينكم إن كنت أتكلم بلسان الحق. واهجروني إذا ما شعرتم أني انطق عن الهوى، ولكن اتبعوني وسيروا على نهج خطتي إذا ما تبين لكم أني رسول صدق مبين. إن الخطأ بلية تستحق الإشفاق، ولكن إذا عرف الإنسان الحق ولم يهتد بهدية في أعماله، فذلك جرم تستنكره السماوات والأرض!
لماذا أتحدث إليكم عن واجباتكم قبل أن أتحدث إليكم عن حقوقكم؟ لماذا وانتم تعيشون في مجتمع ينبغي كله الإجحاف بكم طوعا أو كرها، وفيه يحرم عليكم دواما أن تمارسوا الحقوق التي تخص الإنسان، والذي كتب فيه أن يكون البؤس نصيبكم، وما يعرف بالسعادة من حظ غيركم من الطبقات؟ لماذا أخاطبكم عن التضحية لا عن الغلبة، أخاطبكم عن الفضيلة والتهذيب الخلقي والتربية لا عن الرفاهة المادية؟ هذه مسالة لا بد لي أن اشرحها قبل أن اشرحها قبل أن أتابع حديثي، لأنه هنا يتبين الفارق الحاسم بين نظريتنا وبين النظريات الأخرى التي تشيع الآن في أوربا. هذا فضلا عن أنها مسألة يضطرم بها العقل المتبرم، عقل العامل المتألم!
(نحن فقراء مستعبدون أشقياء، فتحدث إلينا عن أحوال انعم من حالنا، وكذلك تحدث إلينا
عن الحرية والسعادة. نبئنا إن كان مقضيا علينا أن نذوق البلاء إلى الأبد، أو إننا سنسترفه بدورنا. توجه بحديث الواجب إلى سادتنا، إلى الطبقات المتحكمة فينا والتي تعاملنا معاملة الآلات، والتي تحتكر لنفسها الخيرات التي هي حق للجميع. تحدث إلينا عن الحقوق وعن الوسائل التي تؤيد هذه الحقوق، كما تحدث إلينا عن قوتنا انتظر حتى نظفر بمكانة يعترف بها، وحينئذ يجمل بك أن تخاطبنا عن الواجبات والتضحية)
هذا ما يقوله كثير من رجالنا العاملين وهم يتابعون الأساتذة والهيئات التي تساير ميولهم. هم ينسون شيئا واحدا فقط، ذلك أن النظرية التي يثيرونها قد دان بها الناس منذ خمسين عاما دون إحداث أي اثر من الإصلاح المادي في حالة الشعب العامل.
إن كل ما حدث في الخمسين عاما الماضية في سبيل الخير والفلاح ضد الحكومات المطلقة والأرستقراطية الوارثة، إنما حدث باسم حقوق الإنسان، باسم الحرية كوسيلة، وباسم الصالح العام كغاية الوجود، فكل أحداث الثورة الفرنسية، بل وجميع الثورات التي تبعتها وقلدتها كانت نتائج (إعلان حقوق الإنسان). وان جميع مؤلفات الفلاسفة الذين مهدوا لها كانت تقوم على نظرية الحرية وعلى قاعدة تعريف كل فرد ماله من الحقوق.
إن جميع المدارس (المذاهب) الثورية نادت بان الإنسان قد خلق للسعادة، وبان له الحق في أن يسعى لها بكل ما يملك من الوسائل، وان لا حق لغيره في أن يصده عن هذا المسعى، كما أن له الحق في أن يزيل كل ما يصادف من العوائق في هذا الطريق. ولقد زالت العوائق وتحققت الحرية ودامت سنين في بلاد كثيرة ولا تزال كائنة في البعض، فهل تحسنت حال الشعب؟ وهل حققت الملايين التي تعيش بكدحها اليومي اتفه نصيب من الهناءة التي رجوها والتي وعدوا بها؟
كلا، فحالة الشعب لم تتحسن، بل لقد زادت ولا تزال تزيد سوءا في كل بلد تقريبا، وعلى الأخص هنا (في إيطاليا)، حيث أسجل أسعار حاجيات المعيشة التي أخذت في الارتفاع، وأجور الطبقة العاملة التي هبطت في كثير من فروع الصناعة، بينما السكان آخذون في الازدياد.
ولقد اشتدت حال العمال زعزعة واضطرابا في كل بلد تقريبا كما ازدادت أزمات العمل التي قضت بالعطل والخمول على آلاف من العمال، وان الزيادة السنوية في تعداد
المهاجرين من قطر إلى قطر، ومن أوربا إلى النواحي الأخرى فمن العالم، والزيادة المستمرة في عدد الجمعيات الخيرية، والزيادة في مخصصات الفقراء ومساعدات المعوزين، كل أولئك كلف في إثبات ما نقول، والشاهدان الأخيران يدلان كذلك على أن العناية العامة آخذة في التيقظ لآلام الشعب، ولكن عجزهم عن تخفيف هذه الآلام إلى أي حد محسوس يدل على استمرار مروع في شيوع الفاقة بين الطبقات التي يجهدون في معاونتها
ومع ذلك فالواقع أنه حدث في الخمسين عاما المنصرمة أن زادت ينابيع الثروة العامة، وكثرت خيرات الحياة، وتضاعف الإنتاج، واشتد نشاط التجارة، واتسعت دائرتها وسط الأزمات المتلاحقة التي لا مفر منها إذا انعدم النظام. كما أن المواصلات أصبحت مأمونة وسريعة في كل مكان تقريبا، وهبطت أسعار السلع بسبب انخفاض أجور النقل.
ومن جهة أخرى، فنحن نرى الآن كيف أن فكرة الحقوق المتأصلة في الطبيعة الإنسانية أضحت مقبولة على العموم
نعم مقبولة، ولكن لفظا وخداعا، حتى عند أولئك الذين يسعون في اجتنابها فعلا. فلماذا لم تتحسن حال الشعب؟ ولماذا نرى استهلاك المنتجات بدلا من أن يكون مقسطا على السواء بين جميع أعضاء المجتمع الأوربي نراه محصورا في أيدي فئة قليلة تكّون أرستقراطية جديدة؟ ولماذا نرى الانتعاش الذي أصاب التجارة والصناعة لم يود إلى يسر الأكثرية، بل إلى ترف الأقلية؟
إن الجواب يتضح لأولئك الذين ينعمون النظر قليلا في الأشياء. فالناس نتاج التربية. وهم في سلوكهم يصدرون عن مبدأ التربية الذي طبعوا عليه؛ فالرجال الذين ألهبوا نيران الثورات حتى اليوم إنما أثاروها بوحي فكرة حقوق الفرد. وها قد حققت هذه الثورات أمنية الحرية: الحرية الشخصية، وحرية التعليم، وحرية الاعتقاد، وحرية التجارة،؛ بل الحربة في كل شيء ولكل إنسان ولكن ما فائدة إعلان الحقوق لمن لا يملك وسيلة لاستخدامها؟ وماذا تعني حرية التعليم لأولئك الذين لا يجدون وقتا أو واسطة للانتفاع بها؟ أو حرية التجارة لمن لا يملك شيئا يتاجر به، لا راس المال ولا النسيئة (الائتمان)؟ بل لقد حدث في جميع البلاد التي أعلنت فيها هذه المبادئ إن المجتمع كان يتكون من فئة كانت تملك الأرض وتحوز النسيئة وراس المال ومن جماهير غفيرة لا تملك غير أيديها، وكان عليها
أن تزاول الأعمال الأزمة للطبقة السالفة على أية شرائط حتى يتسنى لها أن تعيش كما كان عليها أن تصرف اليوم كله في الكدح الآلي المطرد الممل. فهل كانت الحرية بالنسبة لهؤلاء الذين قضى عليهم أن يكافحوا الجوع سوى خدعة غادرة وسخرية لاذعة؟ أما لو كان القصد من الحرية شيئا خلاف ذلك، لكان إذن يتعين على الطبقات المترفة أن توافق على تقليل ساعات العمل وزيادة الأجر وتعمل على نشر التعليم المجاني المتماثل للجماهير، كما تسعى في جعل أدوات العمل في متناول الجميع، وان تقدم مكافآت مالية للعمال الذين تثبت كفايتهم ونبل غايتهم.
ولكن لماذا يتعين عليهم أن يقوموا بذلك؟ ألم تكن الرفاهية الغرض الأسمى من الحياة؟ ألم تكن الخيرات المادية مرغوبة قبل كل شيء آخر؟ لماذا ينتقصون من حظهم هم لأجل نفع غيرهم؟ أليس على كل إنسان أن يساعد نفسه قدر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وإذا ما كفل المجتمع حرية استخدام الحقوق الإنسان لكل من توفرت فيه القدرة على ذلك؛ فيكون حينئذ قد أدى كل ما يطلب منه. أما إذا كان هناك أوربا فرد يعجز بحكم ظروفه القهرية علن استخدام أوربا حق من هذه الحقوق فما عليه إلا أن ينسى حساب نفسه ولا يلوم سواه.
لقد كان من الطبيعي أن يصرحوا بذلك، وفعلا فقد صرحوا به. وهذا الاتجاه العقلي الذي ساد الطبقات المميزة بالثراء والذي تحكم في نظرها إلى الفقراء سرعان ما اصبح الوجهة التي انتهجها كل فرد نحو الآخر. فعنى كل إنسان بحقوقه هو وبترقية حاله دون السعي في إعانة غيره. وإذا اصطدمت حقوقه بحقوق سواه تكون حرب، لا حرب الدماء؛ بل حرب الذهب والخداع. حرب أدنى شهامة ورجولة من الأبد، ولكنها تعدلها في الدمار، ويالها من حرب وحشية لا يألو فيها من وفرت وسائله، وبزت قوته في سحق الضعيف أو الأخرق سحقا لا هوادة فيه. وفي حومة هذا القتال المستعر أشربت قلوب الناس الأنانية، والشره في استلاب خيرات الحياة لذواتها دون غيرها وهكذا كانت حرية الاعتقاد معولا يهدم صرح الإيمان كما كانت حرية التعليم سببا في بث الفوضى الخلقية. أليس من شان الناس إذا فقدوا رابطة مشتركة، وانعدمت من بينهم وحدة العقيدة الدينية، ووحدة الغرض، وصارت الهناءة بغيتهم الفريدة،؛ أليس من شأنهم حينئذ أن يسعى كل منهم في سبيله الخاص دون النظر إلى فيما إذا كان في ذلك عدوان على إخوانه. إخوانه اسما وأعدائه فعلا؟ هذه هي
الحال التي صرنا إليها اليوم بفضل (نظرية الحقوق).
يقينا إن الحقوق كائنة؛ ولك حيث تصطدم حقوق فرد بحقوق آخر، كيف نستطيع أن نأمل التوفيق والتسوية بينهما من غير الاستناد إلى شيء أسمى من جميع الحقوق؟ وحيث تتعارض حقوق فرد أو أفراد كثيرين وحقوق الوطن فإلى أية محكمة ندعي؟ إذا كان الحق في الرفاهية في أقصى حدودها يتقسط كل شخص حي فمن ذا يفض النزاع بين العامل وصاحب العمل؟ وإذا كان الحق في الحياة هو أول واقدس حق لكل إنسان، فمن ذا يطلب تضحية هذه الحياة لمنفعة بقية الناس؟ أستطلبونها باسم الوطن أم باسم المجتمع أم باسم فريق من إخوانكم؟ ما الوطن في نظر من أتحدث عنهم سوى البقعة التي نظمن فيها حقوقنا الذاتية كل الظمآن. وما المجتمع سوى مجموعة من الناس الذين اتفقوا على استخدام قوة الكل لتأييد كل فرد؟
وهل بعد أن علمت الفرد مدة خمسين عاما إن المجتمع إلينا يقوم على غرض تأمينه على ممارسة حقوقه، هل بعد ذلك تطلب إليه أن يضحي بها جميعا في سبيل المجتمع وان يستسلم إذا دعت الضرورة إلى الكدح المتواصل أو السجن أو النفي باسم إصلاح المجتمع؟ وهل بعد أن بشرته في كل مكان بان غرض الحياة هو الخير والهناءة، هل بعد ذلك تأمن أن ينصرف عن هذا الخير بل وعن الحياة نفسها ليحرر وطنه من الأجنبي أو أن يجهد في إسعاد طبقة لا تربطه بها صلة؟ وكيف بعد أن تحدثت إليه أعواما عن الفوائد والمصالح المادية تستطيع أن تحرم عليه وقد ألفى الثروة والجاه في متناول يديه أن يمد تينك اليدين ليأخذ حظه منهما حتى ولو كان في ذلك ضرر لإخوانه؟
أيها العمال الإيطاليون. ليس ذلك من خواطر فكري المجردة عن حقائق الواقع بل هو تاريخ عصرنا نحن. ذلك التاريخ الذي تسيل على صفحاته دماء الشعب. سلوا جميع الرجال الذين حولوا ثورة سنة 1830 إلى مجرد تغيير طائفة من الأشخاص بأخرى. بل وان شئتم مثالا فأنهم اتخذوا من جثث إخوانكم الفرنسيين الذين راحوا ضحية قتال (الثلاثة أيام) مدارج يرتقون عليها إلى عرش العظمة والسلطان. إن جميع مبادئهم إلى ما قبل عام 1830 كانت تقوم على تلك النظرية العتيقة نظرية حقوق الإنتاج لا على عقيدة الإيمان بواجباته. إنكم تدعونهم خونة مارقين، ولكنهم في الحقيقة لم يكونوا إلا مصدقين لنظريتهم
مستمسكين بها. فجاهدوا اخلص الجهاد ضد حكومة شارل العاشر لأن تلك الحكومة كانت شديدة العداء للطبقات التي نشئوا منها حتى انتهكت حقوقهم وبالغت في حرمانهم منها، وحاربوا باسم الرفاهية التي لم ينعموا منها بالقدر الذي ظنوا أنه يجب أن ينعموا به. فعذب البعض بسبب حرية الفكر. ووجد آخرون من ذوي العقول الجبارة أنهم منسيون مبعدون من الوظائف التي يشغلها ناس دونهم كفاية. ثم زادتهم مظالم الشعب حرقة وغضبا، فشرعوا يكتبون في جرعة وإيمان عن الحقوق التي تلزم لكل إنسان. بيد أنهم لما آمنوا على حقوقهم السياسية والفكرية، وانفتح أمامهم سبيل الوظائف، وتحققت لهم الرفاهية التي سعوا من اجلها حينئذ نسوا الشعب. نسوا إن الملايين التي تقل عنهم ثقافة وطموحا. كانت تجاهد لتقرر حقوقا أخرى، وتحقق هناءة من نوع آخر، واخلدوا إلى الطمأنينة، ولم يعودوا يهتمون بأحد غير أنفسهم. لماذا تدعونهم خونة. أليس الأجدر أن تدعوا نظريتهم نظرية غادرة؟
(البقية في العدد القادم)
عامر عبد الوهاب
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
784 -
النبي والفيلسوف
الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي:
إن أبا سليمان (المنطقي السجستاني - محمد بن بهرام - يقول:. . . صاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي، والآخر مخصوص ببحثه، والأول مكفيء، والثاني كادح، وهذا يقول: أمرت وعلمت، وقيل لي، وما أقول شيئا من تلقاء نفسي. وهذا يقول: رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت، وهذا يقول نور العقل اهتدي به، وهذا يقول: معي نور خالق العقل امشي بضيائه. وهذا يقول: قال الله وقال الملك، وهذا يقول قال أفلاطون وسقراط.
785 -
لقد جئتم شيئا إدا!
رسالة الغفران لأبي العلاء:
حكى لي عن بعض ملوك الهند وكان شابا حسنا أنه جدر فنظر إلى وجهه في المرآة وقد تغير فاحرق نفسه، وقال: أريد أن ينقلني الله إلى صورة احسن من هذه. وحدثني قوم من الفقهاء ما هم بكاذبين ولا في أسباب النحل جاذبين أنهم كانوا في بلاد محمود وكان معه جماعة من الهند قد وثق بصفائهم، يفيض عليهم الأعطية لوفائهم، ويكونون اقرب الجند إليه إذا حل أو إذا ارتحل وان رجلا منهم سافر في جيش جهزه، فجاء خبره أنه قد هلك بموت أو قتل فجمعت امرأته لها حطبا كثيرا، وأوقدت نارا عظيمة، واقتحمتها والناس ينظرون، وكان ذلك الخبر باطلا، فلما قدم الزوج أوقد له نارا جامحة ليحرق نفسه حتى يلحق بصاحبته، فاجتمع خلق كثير للنظر إليه وان أصحابه من الهند كانوا يجيئون إليه فيوصونه بأشياء إلى أمواتهم هذا إلى أبيه وهذا إلى أخيه، وجاءه إنسان منهم بوردة وقال: أعط هذه فلانا يعني ميتا له، وقذف نفسه في تلك النار. وحدّث من شاهد إحراقهم نفوسهم أنهم إذا لدغتهم النار أرادوا الخروج فيدفعهم من حضر إليها بالعصي والخشب. فلا اله إلا الله، لقد جئتم شيئا إدا!!!
786 -
فضح الموت الدنيا
في (شرح النهج) لابن أبي الحديد: قيل لخالد بن صفوان: من ابلغ الناس؟
قال: الحسن لقوله: فضح الموت الدنيا!
787 -
وبقيت الدنيا
وقف بأبي العيناء رجلا من العامة فأحس به فقال من هذا؟
قال رجلا من بني آدم.
قال: مرحبا بك. أطال الله بقاءك، وبقيت في الدنيا ما ظننت هذا النسل إلا قد انقطع.
788 -
إياك أن تلقى الله كذابا بخيلا
في (كتاب المنظوم والمنثور) لأحمد بن أبي طاهر: قال بعض الأعراب مررت يوم عرفة ببيت، بطنبه كبش مربوط، فسمعت رجلا في البيت يقول: وا سوءتي من ضيفنا هذا! إننا وما عندنا ما نقربه إليه. فقالت له امرأته: أبا فلان، إياك أن تلقى الله كذابا بخيلا! أو ليست هذه شاتك مربوطة بفنائك؟
قال هذه نسيكتي غدا.
قالت: وأي نسيكة اعظم أجرا، واحسن ذخرا من ذبحك إياها لضيفك.
789 -
بالتوهم. . .
في (الأغاني): كان كثير (الشاعر) كيسانيا يرى الرجعة، وكان يزعم أن الأرواح تتناسخ ويحتج بقول الله تعالى (في أوربا صورة ما شاء ركبك) ويقول: ألا ترى أنه حوله في صورة من صورة. ولما قال - وهو يعني محمد بن الحنفية -:
هو المهدي خبرناه كعب
…
أخو الأحبار في الحقب الخوالي
قيل له: ألقيت كعبا؟ قال: لا. قيل: فلم قلت: خبرناه كعب؟ قال: بالتوهم. . .
790 -
فكان الخسوف حدادا على فقده
قال بعض المؤرخين مما يدل على ظرف محمد بن أحمد الحداد الوادي آشي أنه فقد سكنا عزيزا عليه، واحتاج الحال إلى تكلف سلوة، فلما حضر الندماء وكان قد رصد خسوف
القمر فلما حقق أنه قد أبتدأ اخذ العود وغنى:
شقيقك غُيِّبَ في لحده
…
وتُشرق يا بدر من بعده
فهلا خسفت فكان الخسوفُ
…
حداداً لبستَ على فَقْدِه
وجعل يردد الشعر، ويخاطب البدر، فلم يتم ذلك حتى اعتراه الخسوف، فعظم من الحاضرين التعجب.
791 -
إنما شهادة يا فتح. . .
قال صاحب الحدائق: إن الفتح بن خاقان ذكر الوزير ابن الصائغ الفيلسوف في قلائد العقيان فقال فيه: (هو رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين، يعتقد أن الزمان دور، وان الإنتاج نبات له نور، حمامة تمامه، واختطافه اقتطافه) فبلغ ذلك ابن الصائغ فمر يوما على الفتح بن خاقان وهو جالس في جماعة فسلم على القوم وضرب على كتف الفتح وقال: (إنما شهادة يا فتح) ومضى ولم يدر أحد ما قال للفتح. فتغير لونه، فقيل له: ما قال لك؟ فقال: إني وصفته - كما تعلمون - في (قلائد العقيان) فما بلغت بذلك عشر ما بلغ مني بهذه الكلمة، فأنه الشار إلى قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
792 -
صارف الهم
ابن المغارفي:
لا يصرف الهم إلا شدو محسنة
…
أو منظر حسن تهواه أو قدح
793 -
ما وجد بريدا غيرك
جاء رجل إلى وهب فقال: إن فلانا شتمك.
فقال: أما وجد الشيطان بريدا غيرك.
قال رجل لحكيم: عابك فلان بكذا.
فقال لقيتني لِقِحتكَ بما لم يلقني به لحيائه.
794 -
من فيّ مسيلمة. . .
صلى أعرابي بقوم فقرا:
أفلح من هينم في صلاته
وأخرج الواجب من زكاته
وأطعم المسكين من مخلاته
فضحك القوم فالتفت إليهم وقال:
أشهد أنى أخذته مِن فِيِّ مسيلمة.
795 -
سوى أن يرى الروحان يمتزجان
ابن الرومي:
أعانقها والنفس بعد مشوقة
…
إليها وهل بعد العناق تدان
وألثم فاها كي تموت حرارتي
…
فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الهوى
…
ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفى غليله
…
سوى أن يرى الروحان يمتزجان
رباعيات عتمان.
. .
للأستاذ عتمان حلمي
كنتُ يوماً أسعى على غير قصد
…
أتملى حسنَ المدينة وحدي
ليس لي غايةٌ ولا كنت أسعى
…
لمكان يممته أو لوعد
خالي النفس من تكاليف نفسي
…
لا أرى أن أسومها أيَّ جهد
غير سخري بمن أراه من النا
…
س لمن يستحق سخري ونقدي
فإذا بي أمام بنيان دارِ
…
طمستْ زهوَها يدُ الأقدارِ
كتبَ الليلُ والنهارُ عليها
…
اسطراً لا تروق في الأنظار
أمسها غيرُ يومها وبعيدٌ
…
بين محض الصفاء والأكدار
فلقد أيقظتْ دفائن نفسي
…
وأثارتْ مرارة التذكار
هي كانت لي بالأمس مهد درسي
…
وبعيدٌ ما بين يومي وأمسي
وبعيد بين الطفولة في الخل
…
ق وبين المشيب في كل نفس
وبعيد بين الأزاهر والشوك
…
بعيد في كل ذوق وحسِّ
وبعيد بين النظارة والقب
…
ح وبين المنى وبين التأسي
كل شيء فوق الثرى للفناء
…
من ضروب الجماد والأحياء
لا حفيظ من الليالي إذا جد
…
ت ولا في بقائها من بقاء
بيديها معاولُ الهدم أيا
…
نَ وأنَّي اغتدتْ يدُ البنّاء
ساخرات بالهمس في كل حال
…
من غرور الضحوك والبكاء
ههنا ههنا قضيت قليلا
…
من حياتي ضحكت فيها طويلا
ما عرفت الهموم فيه ولا كن
…
ت أرى في طفولتي مستحيلا
مشرق الوجه كالصباح جميل ال
…
نفس لا استحب إلا الجميلا
بين لهوى البريء والدرس لا أد
…
رك للهمّ في الحياة سبيلا
نوِّري يا نضارةَ الأطفال
…
فجمال الحياة في الأطفال
واسخري بالوقار والجد والآ
…
لام سخرا وبالأسى والملال
فترة أنت في الزمان إذا مرَّ
…
ت سريعاً رجوعها في المحال
فإذا عدت في الخيال وفي الذك
…
رى كفاني الرضا بهذا الخيال
ها هي الساحة التي كنت اجري
…
ببنها خلف صاحبٍ ليَ يجري
لم تزل تعبث الطفولة فيها
…
عبثاً لم يُشبْ باللؤم ومكر
ههنا ضاحك وها هوَ لاهٍ
…
طافح النفس من صفاء وبشر
وهنا لاعب وها هو غرٌ
…
لم تنر وجهه ابتسامة ثغر
هذه صورةٌ أعادت لذهني
…
كلَّ ما مرّ في الطفولة مني
فتأملتُ كيف تجري حياةُ ال
…
ناس جريا ما بين وهن ووهن
يرجع الشيخ مثلما كان طفلا
…
شادخ النفس في الهدى والتاني
وتظل الأيام في نشوة الده
…
ر على نغمة الفناء تغني
أيها الطفل لا يسؤك خطابي
…
وامض إن عشت في سبيل الشباب
حفنة أنت من صميم التراب
…
جُبِلتْ من متاعبٍ وعذاب
فتقبل فيها وجودك واجعل
…
لك حصنا منها منيع الجناب
وليكن في كيان جسمك قلب
…
وادعٌ طاهرٌ كماء السحاب
سوف تدري مرارةَ الحرمان
…
وتعاني قساوة الإنتاج
وتُعاني من التجارب ما عا
…
نيتُ منها وما لبثت أعاني
كلما دارت الليالي تعلم
…
ت جديداً من مستجدِّ الزمان
وتعلمت كيف يسخر بالح
…
قِّ دعاة الضلال والبهتان
ستُعاني تضارب الأهواء
…
من ضروب الصحاب والأعداء
وتغيم الشكوك في جو إيما
…
نك سودا تحكي غيوم السماء
وترى عينيك الكريه وكم تس
…
مع ما لا يروق في الأنباء
مقبل أنت في الصباح بما أم
…
لت فيه ومدبرٌ في المساء
سوف تطوي بالرغم عنك الشبابا
…
ذاهبا حيث لا تُرجِّى إيابا
حيث يأتيك منذرٌ من بياض الش
…
يب يطوي عن مقلتيك الحجابا
بعد جَمٍ من الصعاب وقد آ
…
منتَ إن الحياة كانت صعابا
ونلفت لم تجد غير نفس
…
قدمت عنك للزمان حسابا
ستلاقي من الأسى ما تلاقي
…
ثم مضى والهم في الأرض باق
وترى الحكمة انجلت في اختلافا ال
…
ناس أو في تفاوت الأرزاق
وهنا لا ترع من العيش إن جا
…
هدت يوما وعدت بالإخفاق
لك أن لا تنام في طلب الرز
…
ق ولو ذقت فيه مر المذاق
لهف نفسي على النظارة لهفي
…
وعلى القوة استحالت لضعف
وعلى الطلعة المليحة والق
…
دِّ وما يظهر الشباب ويخفي
بُدلِّ الحسن فيك بالرغم عن أنف
…
ك قبحاً شهدته رغم انفي
فتأمل إن عشت وجهك في المر
…
آة وابسم واقذف بها قذف نفسي
ضحكت منك يا المرآة
…
وتجلت في مقلتيك السماتُ
فالتجاعيد في جبينك والجف
…
نين فيها إذا فطنت عظاتُ
والسطور التي كتبن على الخد
…
ين عما كابدته مُنْبِآتُ
فتبسم فهكذا تسخر الأي
…
ام منا وتستبد الحياة
لست أنأى في الأرض من أن تمسا
…
لا ولا أنت ارهف الناس حسّا
هذه قسوة الحياة بلونا
…
ها وقد أنذرت بما هو أقسى
غامض ما نراه فيها ويزدا
…
د غموضا ما نراه ولبسا
عجز الخلق عن معالجة الغي
…
ب وقد أوسعوه ظنا وحدسا
مصبح في سلامه ثم أمسى
…
ليس يدري تحت الثرى كيف أمسى؟
حيرة ما لها لدى العقل أُفقٌ
…
واضح أو لها لدى الرشد مرسى
كيف مات الشباب في أول العم
…
ر وعسّ الشيوخُ في العمر عسّا
قصة هذه الحياة فمن ش
…
اء تأسى أو شاء لا يتأسى
همس الموتُ في صميمك همسا
…
دون علم وسوف يعطيك درسا
فتأمل رفاق عمرك لمّا
…
رُكسوا في الثرى على الموت ركسا
كلما مات واحد مات جزء
…
منك وازددت في وجودك وكسا
قِطَعٌ منك في التراب توارت
…
دسها الموت في ثرى الأرض دسا
فالذي كان للمجالس أُنسا
…
صار للتراب والجنادل أنسا
والذي كان للجمال مثالا
…
نكس الدهر حسنه فيه نكسا
والذي كان اجهر الناس صوتا
…
صار لا يستطيع في القول نبسا
والذي كان للرفاق حبيبا
…
ما استطاعوا له على القرب لمسا
كلُّ ما في الحياة هذا خداعُ
…
ظل يُشرى في سوقها ويباعُ
وتظل العيون تفتن بالمظ
…
هر فيها وتختل الأسماع
زخرف يستر الحقائق فيها بالبا
…
طل فيها ومحض مين يشاع
ما بدا الشر مظلم الوجه إلا
…
ستر المظلم الكئيب خداع
كم حياة باسم الحياة تضاع
…
ضيَّعتْها الأغراض والأطماع
ما استطاعت رذيلة أينما كا
…
نت ظهوراً أو ساغها الإجماع
فاستعرت من الفضيلة ثوباً
…
نمقته براعةٌ وابتداع
رب عات سلاحه أينما يب
…
طش حلم وحكمة واتضاع
عتمان حلمي
البريد الأدبي
في معرض الكتاب العربي:
زرت معرض الكتاب العربي الذي أعدته وزارة المعارف، فكانت زيارة ممتعة، لأني حصلت في ساعة ونصف ساعة ما لم أكن لأستطيع أن أحصله في عشر سنوات لو أني عكفت على متابعة تاريخ الكتاب العربي والصحافة العربية
وطفت بأقسامه المتباينة، فلحظت كيف تطورت الطباعة وتقدمت. كانت الكتب في عهد محمد علي تطبع على ورق عريض ذي هامش واسع، يحيط بالكتابة إطار مزخرف أو عادي. أما اليوم، فقلّ من يعنى من المؤلفين والناشرين باتباع هذا النظام العتيق!
وشهدت خلاصة تفكير المصريين من أيام محمد علي إلى يومنا هذا معروضة عرضاً شهياً في مكان واحد، فحسبت نفسي في بستان يانع حوى ما دنا من قطوف الثقافة وثمارها
وتأملت كتابا عنوانه (الأدلة القطعية على عدم دوران الكرة الأرضية) صدر في عهد عباس الأول - إن لم تخني الذاكرة - فأغرقت في الضحك، لأن ما كان يعده المؤلف إذ ذاك (أدلة قطعية) أصبحنا نعده اليوم (حججا واهية بالية)!
ورأيت كتابا آخر عنوانه (وفيات الأعيان)، فضحكت كذلك لأن مؤلفه لم يجد ما يكتب عنه إلا أن يسرد تواريخ وفيات الأعيان! كأن الدنيا وما فيها لا تهمه وكأن الإصلاح الاجتماعي لا حاجة لنا إليه، وكأن الكتّاب فرغوا من الكتابة في جميع الموضوعات، ولم يبق سوى الكتابة عن وفيات الأعيان!
وشاهدت الكتب الأولى للأساتذة: محمد حسين هيكل باشا، وطه حسين بك، وأحمد أمين بك، وأحمد حسن الزيات، وتوفيق الحكيم، وسواهم ممن تصدروا الحركة الثقافية المصرية، فكانت كتباً طريفة
وقرأت في مجلة كان يصدرها الأستاذ سلامة موسى في عام 1914 - وقد نسيت اسمها - إن الدكتور طه حسين تشرف بمقابلة الخديو قبل سفره إلى فرنسا للدراسة، فسأله الخديو عما ينوي التخصص فيه فأجاب: في الأدب وتاريخه. وعاد الخديو يسأله لماذا لا يتخصص في الفلسفة؟ فقال الدكتور طه: إن الفلسفة أفسدت الدكتور منصور فهمي (باشا فيما بعد)! وطبعت المجلة إلى جانب هذه الدعاية صورة للدكتور طه في زيه الأزهري
ورأيت مجلة كان يصدرها (أحمد أفندي لطفي السيد)، ويشترك في تحريرها (إسماعيل أفندي صدقي) و (عبد العزيز فهمي أفندي)!!
غير أني لاحظت أن المعرض كاد يكون قفرا من الكتب العربية التي طبعت في البلدان الشقيقة. فلا يشاهد المرء فيه - إلا عرضاً - كتباً لمؤلفين سوريين ولبنانيين وعراقيين وحجازيين وأردنيين وفلسطينيين، وكان يجدر بوزارة المعارف - ولا سيما المنظمين منها لهذا المعرض - أن تدعوا البلدان العربية الشقيقة إلى الاشتراك في هذه الحركة الثقافية المحمودة. والكتاب عادة خير ما يعرف الناس عن الشعوب الأخرى. وأحسب أن هذه الملاحظة جديرة بعناية وزارة المعارف وسائر الوزارات التي تزمع أن تنظم معارض مماثلة، فقد اصبح الشرق العربي في وحدة ينبغي العمل على تعزيزها وتنميتها.
وليت وزارة المعرف تعنى بأن تنشئ متحفا للنهضة الثقافية في العالم العربي كمتحف فؤاد الصحي، أو الزراعي، أو متحف البريد، أو متحف الآثار، ليستطيع المتشوقون إلى الوقوف على النهضة الثقافية وقوفاً عابراً الإفادة من زيارته. والمعروف أن دار الكتب لا يتيسر للمرء فيها أن يلقي نظرة عابرة على ما احتوته خزائنها من مؤلفات، كما يستطيع رواد المتاحف الأخرى.
وديع فلسطين
نص المحكم في الفعل (كفل):
رأيت بمناسبة ما دار من البحث حول (كفل المال وكفل به) في الرسالة الغراء أن أطلع على نص كتاب المحكم، وهو المعجم المشهور للإمام ابن سيده في إحدى مخطوطات دار الكتب المصرية، فإذا هو يقول في الجزء الثامن (في مادة الكاف واللام والفاء):(. . . وكفل المال وبالمال: ضمنه، وكفل بالرجل يكفل كفلا وكفولا وكفالة، وكفل وتكفّل به كله ضمنه، وأكفله إياه وكفله ضمّنه)
(ع. م)
(دار الكتب المصرية)
في رباعيات الأستاذ عتمان:
في العدد 677 من أعداد الرسالة الغراء اطلعت على (رباعيات عتمان) للأستاذ الشاعر عتمان حلمي، وعنّ لي فيها ما يأتي:
يقول الأستاذ الشاعر:
خلّ دنياك كيف شاءت وصلها
…
ما جنا إن أوسعتك مجونا
والمشاهد أن الشطر الثاني بصورته السابقة مكسور، فقد اسقط الشاعر سبباً خفيفاً من التفعيلة الأولى في الشطر الثاني.
وفي بيته:
إن موج الحياة يحمل في مدّ
…
هـ وفي جزره صنوف الهلاك
نراه أضاف سببا خفيفا في أول الشطر الثاني منه. . .
وكذلك في قوله:
لم أجد فيما مضى من حياتي
…
ليَ عذرا في الهم أو في الشكاة
نجد نقصا في الشطر الأول بسبب خفيف. . . والصحيح أن يقول:
لم أجد فيما (قد) مضى من حياتي. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي البيت:
ونصيب الشباب في العيش لا يف
…
ضل في حسنه نصيب الشيب
خطأ مطبعي في كلمة (الشيب) وأصلها (المشيب)
كل على ما سبق من الهنات الهينات مغفور، ولكن نعتب على الشاعر قوله:
لا تلمني وانظر إلى تكويني
…
فظنوني من كنهه ويقيني
حيث أتى (بالتشعيث) في العروض، وهو آخر الشطر الأول، مع علمه بأن التشعيث لا يدخل إلا في الضرب، وإن كان من العلل غير اللازمة
وجواز دخول التشعيث ما جاء في قوله:
ومحيط الإنسان أكبر جان
…
هو أو رحمة على الإنتاج
حيث وقع في الضرب وهو آخر الشطر الثاني من البيت
وبعد، فالقصيدة لا يغض من قيمتها ما سبق التنبيه إليه، فالجوهر جوهر حيثما كان!
وفي الختام أهدي السلام لناظم الرباعيات. . . مع التقدير.
(الزيتون)
عدنان أسعد
إلى الأستاذ علي الطنطاوي:
أضع بين يدي الأستاذ هذا التعليق على كلمته التي عرض فيها لديوان (الصيدح)
1 -
ذكر الأستاذ الكبير ديواني في معرض النقد، ولم يذكر وجه النقد أو أسبابه.
2 -
عرض لهذا الديوان بعد مرور ثماني سنوات من صدوره، أي بعد أن أصبح المؤلف نفسه غير راض عنه، لأنه من شعر الصبا، فقد وضع الشعر منذ أحد عشر عاما، حين كان المؤلف في التاسعة عشرة طالبا يؤدي امتحان (البكالوريا).
3 -
وبرغم هذا فإن الدوائر الأدبية تقبلته قبولا حسنا. وإني أتحدى الأستاذ أن يقتبس من شعر الديوان ما لا يدل على صدق التعبير، أو لا يصدر مثله عن شعور أو لا يتفق مع القاعدة.
4 -
إن النقد لا يسوءني، وحبذا لو بصرني ناقد بالخطأ فأتجنبه، أما التجني من غير دليل، فإني أعده تحاملا من غير مبرر؛ وأنا أعرف أن الأستاذ ليس بشاعر، ومع أن هذا لا يمنع من تمكنه من النقد، إلا أنى احسب أنه لو كان يقول الشعر لتذوق حلاوته في هذا الديوان.
5 -
إن لي أسوة في غيري من الشعراء المبرزين، لأتعزى، فقد طلع على الناس الأستاذ علي محمود طه، والدكتور إبراهيم ناجي بديوانيهما سنة 1933، فسلط عليهما النقاد السنة حداداً، وقال الدكتور طه حسين لأحدهما في ختام نقده: لا أكتمك يا سيدي الدكتور إنك لست على شيء! وقال الأستاذ سيد قطب: نظرت في الكتاب الأول فإذا هو تافه كله أغلاط، لا يستحق أن ينظر فيه؛ كانت حملة شديدة لم ينقذهما منها أو ينصفهما فيها إلا أستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات. حتى دارت الأيام فإذا الشاعران ملء الأسماع والقلوب، لا يقولان إلا المعجب المطرب.
والسلام على الأستاذ الطنطاوي (الكاتب) الحصيف المتمكن الذي أجله
(القاهرة)
خليل جرجس خليل
القصص
إيلو. . .!
للأستاذ عبد الحق فاضل
. . . إيلو، أو، إيلا، أو إيلي، أو إيلين، أو ما تشاء من أسماء التحبب والتدليل. ولكن (اليزا) هو اسمها الصحيح الذي سماها به أبواها وعمداها به في الكنيسة.
جميلة في غاية الجمال. وذكية جداً، ولبقة جداً.
لها عينان براقتان، وفم صغير رقيق الشفتين يلذ لك أن تتابع بعينك تثنيهما وتلويهما حين تتحدث إليك، وأن تراقب بأذنك تكسر الألفاظ عليهما في عذوبة ورشاقة ودلال. . . بارعة في تصريف الأحاديث بلباقة نادرة وظرف أخاذ. وهي إذا تحدثت إليك عبرت لك عن مرادها بكل جوارحها - بعذوبة صوتها، وإشارات يديها، وحركات رأسها، وتثني جسمها الغض ولحاظ عينيها اللامعتين. فجسمها كله يتكلم وكله يبتسم، حتى ليخيل إليك أن ثوبها وزينتها أيضاً وسيلة عندها من وسائل التعبير! فأنت لهذا مضطر إلى الإصغاء إليها بكل جوارحك أيضاً والافتتان بمحاسنها بكل قلبك وعقلك جميعا.
لعوب طروب لها مراح العصفور ونشاطه، وودود ظريفة تحملك على الإعجاب بها والهيام بكل وسيلة. فهي لذلك معتدة بنفسها، تعرف قيمة جمالها وسحرها، وهي لذلك أيضاً تعنى بأناقة ثوبها وزينتها ما وسعتها العناية.
لم أراها! ولكن أمها هي التي حدثتني عنها وسردت علي قصة مأساتها المحزنة وفاجعة موتها قبل أن تتم الخامسة من عمرها غما وكمدا. . . فهي طفلة صغيرة كما ترى! ولكن ذلك لم يمنعها أن تكون غاية في الجمال؛ ولا أن تكون ذكية جدا ولبقة جدا ولا أن تكون زينة البيت وريحانته، ومتعة الأهل والأصدقاء والزائرين، ولا أن تكون مدركة بذلك كله شاعرة بقيمتها، ومكانتها في كل قلب، معتدة بنفسها مزهوة بجمالها، معنية ما وسعتها العناية بأن تكون خليقة بكل هذا الإعجاب وكل هذا التقدير، طامعة في المزيد. فقد كانت أبداً تخلق حول نفسها جوا صافيا من المرح والسرور، ولا تطيق أن ترى عابساً أو حزيناً أو شخصاً منصرفاً عنها إلا بذلت جهدها لإخراجه من صمته وإدخال السرور إلى قلبه ولفت نظره إليها. فما يلبث، مهما كان مهموماً أو بليداً، أن يجاريها ما استطاع ويسر ما وسعه السرور
ويضحك ما واتاه الضحك، ويتخفف من همومه ولو إلى حين.
على إنها لم تكن تدرك إنها طفلة! فكانت تحاكي الكبار وتقلدهم فيما يصدر عنهم من قول أو فعل أو إشارة. ومن بوادر ذلك مساعدة أمها في أعمال البيت والقيام على مراقبة نظافته والعناية بشؤونه! ومن ذلك أيضاً أنها ما كانت تبخل على أحد بالنصيحة وإمداده بالري الصائب في رفق العقلاء المجربين وتوددهم ودماثتهم.
وكان يشق عليها أن يوجه إليها انتقاد، فيحمر وجهها ثم تحتال على الاعتذار فتحسن الاحتيال، وتشفع عذرها بابتسامة خجول، وتعد بألا تعود.
ولعل سر هذه الفتنة التي اختصت بها إيلو أو إبلا أو إيلين هو هذا التعقل والتوقر المكتسبان بتقليد الكبار ومحاكاتهم وهي بعد في بكور هذه الطفولة البريئة الجميلة، المحبوبة بطبيعتها. فكان المزاج من الطفولة والنضوج، وفيه هذا التوافق المصنوع والتناقض المطبوع، سحراً خالباً غالباً تتفتح له القلوب بلا مقاومة ولا عناء.
كان حديث أمها في بدئه عاديا طبيعيا تتخلله الابتسامات، ثم اخذ صوتها يكتئب ويرتعش؛ ثم شرعت تنفس عن نفسها بالتنهد والتحسر بين حين وحين كلما اقترب الحديث من آخره، وكانت تزيدني رغبة في الإنصات إليها هذه اللكنة الأرمنية الحلوة التي لم تقو على مغالبتها عشرون سنة أقامتها في بغداد بين زوج عراقي وجيرة عراقيين.
قالت:
(. . . فلما بلغت إيلو عامها الرابع رزقت غلاما كان شؤماً على نفسه وشؤماً وعلى أخته وعلينا. فقد مات بعد موت إيلو بأسبوعين، بعد أن قضى عليها وأفسد صفو حياتنا. وكان أول عهدها به أنها رأت كتلة صارخة من اللحم تضطرب في المهد، فدنت منه بحذر وأنعمت نظرها فيه، وإذا طفل لم تره من قبل وصراخ لم تألفه في البيت. فرابها أمره وأوجست منه خيفة، والتفتت إلى تقول:
ماما. . . ما هذا؟! فقلت لها: أنه أخوك وديع. فقال: أخي! ولم يصيح هكذا؟ إني لا احبه!
إنها لا تحبه. . . كلمة سبقت منها كأنها ألهمتها إلهاماً قبل أن تعرف خطرها أو تدرك سببها أو تعلم ما سيكون لها في حياتها وموتها من شان. وقد زادتها الأيام بغضا له كلما رأت أن له عندنا أهمية أو قيمة، أو وجدتنا نكترث له أو نعنى بشؤونه. فهي يشق عليها
أن تجدنا نصرف عنها ولو جزء من عنايتنا ورعايتنا إلى أخيها وديع أو أي مخلوق سواه، وهي تفهم من ذلك أننا نزدريها ونجدها غير خليقة بالاستئثار بكل حبنا وعنايتنا.
وعبثاً كنا نحاول - أبوها وأنا - إقناعها بأن لها المنزلة الأولى وأنها وحدها الأثيرة عندنا، وأننا لا نحفل وديعاً إلا رأفة به، وأننا سنتخلص منه يوماً ما ونريحها ونريح أنفسنا منه. وكنا نتظاهر معها باحتقاره ونجاريها في تعداد عيوبه ومثالبه. وكنت أتحاشى أنا إرضاعه أو مداعبته أمامها، ولكنها كانت تراقبني فتراني أحيانا متلبسة بتقبيله أو ملاعبته فتعاتبني بنظرة أبية وتنصرف، كأنها تقول: إنكم تخدعونني!
قالت لي يوما: ماما. . . ماذا تصنعون بهذه الخليقة الحقيرة؟ أنه مجنون يبكي ويصرخ بلا سبب! وقذر جداً. يحدث في ثيابه وفراشه ونفسي تشمئز منه! وليست فيه فائدة لنا. إني أحسن منه، وعاقلة ونظيفة! فلماذا لا تلقونه في الطريق؟. . .
فقلت لها: لا يا بنيتي، أنه صغير مسكين، ومريض. ولهذا ترينه يبكي.
فقالت: لا يا ماما. أنه يكذب! أنه لا يبكي بل يصرخ فقط، ولا تسيل من عينه دمعة واحدة! فلو ألقيته في الطريق للكلاب لاسترحت منه، فإنه يتعبك كثيراً وأخاف عليك أن تمرضي!
فأجابتها لو ألقيناه في الطريق يا إيلو لحق علينا غضب المسيح فلنشفق عليه إكراما للمسيح حتى يشفى من علته - فنتركه وشأنه. ما قولك في هذا يا إيلو؟
فقالت: ولماذا يغضب المسيح. . . أترينه يحب المجانين والقذرين. . .؟
فقلت: لا، ولكنه يحب الضعفاء والمرضى، ويوصينا بالعناية بهم والعطف على بؤسهم.
فقالت مغضبة: لماذا يا ماما لا يحب المسيح الأصحاء النظاف والعقلاء، ويؤثر عليهم الذين فراشهم منتن مثل وديع الكلب؟ أليس المسيح جميلا وطيباً كما تقولون. إني ابغضه!
ورأت بعد ذلك أن الجدال والمنطق وحدهما لا يعودان عليها بفائدة، فراحت تبرهن لنا ولمن يتصل بها وبنا عملياً على أنها كفء لكل تقدير وإكبار، وأنها وحدها الجديرة بكل الإعجاب والاهتمام. فصارت تستيقظ مبكرة مع العصافير، وتلقى بنظرة شاملة على البيت وتشرع بانتقاده وتصف فساد نظامه بخطاب موجز، ثم تأخذ بترتيبه على رأيها ووضع كل شيء في محله. وتغسل أواني الشاي وتنصب المائدة قبل أن اشرع أنا بإعداد الشاي نفسه. ثم تأخذ بالمكنسة لتنظف الدار! وتجشم نفسها من المشقة والنصب ما لا قبل لطفولتها به،
فأمنعها سدى وترفض أحياناً حتى أن أساعدها. وأنا أعلم فيم تشق على نفسها كل هذه المشقة وفيم تتكلف كل هذا العناء، فتنفطر مرارتي من الحزن. . .
ثم تعمد إلى نفسها فتفيها حظها من التزيين والتجميل، وترتدي أنظف ثيابها وأجملها في عينيها، وتجلس إلى المرآة تصفف شعرها وتمشطه حتى ترضى عن نفسها. فإذا جاءنا زائر خفت وبشت في وجهه، وقد لحظت أنها ضعفت ثقتها بنا فصرفت عنايتها إلى الزائرين. . . تسعى بين أيديهم وتسائلهم إن كانوا عطاشاً لتأتيهم بالماء، وتقدم إليهم السكر لعل الشاي أقل سكرا مما يشتهون، وما تفتأ تتودد إليهم وتعرض عليهم محاسنها وتباسطهم وتغني لهم وتستميلهم بمرحها ورشاقتها وفكاهتها حتى يأخذونها في الأحضان ويوسعوها ضما وتقبيلا، ويؤدوا لها حقها من المديح والإعجاب. فتتنهد وتنفض إليهم جملة حالها. . . وتنكشف سريرتها فإذا كل هذا اللعب والمراح أشبه برقص الطائر الذبيح. . .
تأخذ بانتقاد عدوها وديع، وتنقص أمامهم منه. وأصل عيوبه ومخازيه عندها أنه بكّاء وقذر. وتشكو إليهم ظلامتها وبثها، وتشكو إليهم أننا مع كل هذا نحبه وندلله ولا نظن عليه بالعطف والإيثار. فتحكمهم بيننا وتطلب إليهم أن ينصفوها منا. فإذا حكموا لها، وهم دائما يفعلون ذلك، نظرت إليّ في عتب ورجاء. وإذا أكدت لها أننا لا نباليه ولا نقيم له وزنا أطرقت في يأس وهزت رأسها الصغير كأنها لا تريد أن تقول لي في صراحة: إنك تكذبين يا ماما!
ولكنها مع كل ما تضمره لوديع من بغض وموجدة لم تحاول يوما أن تؤذيه أو تمسه بسوء، فقد كنت أراقبها إذا اختلت به مخافة أن تمتد إليه يدها البريئة بشر، غير أنها لم تفعل من ذلك شيئاً، وإنما كانت تكتفي بأن تحدجه بنظرات ساخطة حزينة ثم تنصرف عنه.
وكانت لنا جارة صديقة لم ترزق ولداً، اسمها ماري، تصلنا بها قرابة بعيدة ومودة وثيقة. وكانت مشغوفة بحب اليزا حتى ما تكاد تنقطع عن زيارتنا وقضاء شطر من نهارها عندنا قرب حبيبتها إيلين كما كان يحلو لها أن تسميها، فقالت لها مرة:
انظري يا أختي ماري! أنهم لا يزالون يحبون هذا النجس وديعا، وقد رأيت ماما تقبله أمس! وهي تسهر الليالي عليه وتخف إليه كلما بكى لترضعه وتهز أرجوحته المنتنة! أنا أكنس البيت كل يوم وأطوي ثياب بابا وأعين ماما. . . ونظيفة وجميلة! وهذا المجنون
وديع الذي لا يكف عن الصياح وقذر. . . ورأسه صلعاء!
فلاطفتها ماري وأكدت لها أنها واهمة، وأننا نحبها ونؤثرها ولا نقيس بها إنسانا. فقالت: لا يا أختي، أنهم يخدعونني ويكذبون عليّ. . . لو كنت مكانهم لأطعمته الكلاب أو أعطيته الشحاذين القذرين مثله.
فقالت لها ماري: اطمئني يا أختي إيلين. سنخلصك منه قريبا، أنه قبيح بكاء لا خير فيه.
وأسرت إلى ماري بعد ذلك أنها ستأخذ وديعاً عندها طيلة نهار الغد. ثم تزعم لإيلين أن كلب ماري، وكان لها كلب عظيم الحلقة، قد افترسه وأراحها منه لترى ما عساها تصنع أو تقول. وأخذته في اليوم التالي خلسة إلى دارها، فدهشت إيلو في ذلك النهار لم ترى وديعا ولم تسمع له نأمة. ومضت إلى فراشه مرات عدة فلم تجده. فراحت تطوف البيت وتتحرى الغرف صامتة متلصصة لترى ماذا حل به فلم تفز بطائل. فإذا فرغت من التفتيش عادت إليّ تدور حولي وتطيل النظر في وجهي لعلها تقرأ في أساريره ما يجلو لها الخبر اليقين. . . فلما ضاقت ذرعا بالصمت والكتمان، سألتني:
- ماما. . . أين وديع؟ فقلت لها:
- وديع القذر؟ ماذا تريدين منه يا إيلا؟. . . فقالت:
- أين هو؟ أنه ليس في البيت! فأجبتها:
- مسكين! لقد أكله كلب ماري.
- صحيح يا ماما؟ هل أكله كله؟!
- نعم. التهمه عن آخره!
فتورد خداها وبرقت عيناها، وصاحت:
- فلأقبلنك إذن! وألقت نفسها في حضني تغمر وجهي بقبلاتها، وأخذت تضمني بشدة غريبة وهي تدس رأسها في صدري كأنها تريد أن تدخل في أضلاعي. فسالت دموعي على هذه الصغيرة المعذبة اللعوب. وخشيت وخامة العاقبة متى اطلعت على جلية الأمر، فلم أك أقدر أن يصيبها كل هذا الفرح الجنوني البريء.
ثم تركتني وهرعت إلى الأرجوحة لناجذ منها الفراش، وبذلت جهدا عنيفا حتى أخرجته فأمسكت من أحد أطرافه كأنها تحاذر أن تتنجس يدها منه، وراحت تجره وراءها في
صحن الدار. وصادف دخول أبيها في تلك اللحظة فأخذها بين ذراعيه وسألها ما تصنعين يا ايلي؟ فقالت له:
- بابا، لست تدري! إن كلب ماري قد أكل وديعا كله، ولم يترك منه ذرة واحدة! فلنرم فراشه في الطريق، وأرجوحته أيضاً وثيابه. كلها قذرة ورديئة.
وما كادت تفلت من بين يديه وتأخذ بالفراش من جديد حتى دخلت علينا ماري وعلى ذراعها وديع وهي تقول:
- أنه بكّاء مزعج حقاً فخلصوني منه!
ولا تسل عما أصاب إيلو. فقد بهتت ووجمت، واصفر وجهها، وافلت طرف الفراش من يدها. ولم تعد تقوى على الوقوف فقعدت من فورها على الأرض مستندة إلى الجدار. ثم انتبذت ناحية منزوية من تلك الغرفة (وأشارت بيدها إلى الغرفة التي عنتها) في ذلك الركن. وطفقت تبكي بكاءاً متصلا أبكانا نحن الكبار، إذ لم يستطع كل بغضها لوديع أن يسيل لها دمعة من قبل، ولم تعودنا يوما وهي الطروب اللعوب أن نراها تبكي أو تشكو من شيء، فقد كانت أبدا كما قلت لك لاعبة ضاحكة! لسن نشيطة خفيفة الظل والحركة - تكظم الغيظ وتداري أحزان قلبها الغض باللعب والمزاح. ولكنها شعرت هذه المرة أنها أهينت في صميم كبريائها. وقد قالت لنا ونحن نحاول عبثا أن نسترضيها ونمنيها الوعود: إنكم لم تعودوا تحبون إيلو. . . تزدرونها وتضحكون عليها.
وظلت تبكي بلا انقطاع رغم ما بذلنا من جهود، وظل جسدها يضطرب ويهتز بين أيدينا من الانتحاب والشهيق كالسعفة تعبث بها ريح هوجاء.
ولم تذق عشاء تلك الليلة، ولا أحسبها نامت فقد كانت تتململ في فراشها تململ السليم، فإذا ناديتها أو دنوت منها أغمضت جفنيها وتناومت. . . ولم تنهض على عادتها باكرة في الصباح، ولم أشأ أن أوقضها حتى علا النهار، فقامت مثاقلة مسترخية محمرة العينين منتفخة الأجفان من السهر والبكاء، ولم تعن بالبيت أو تلق بالا إلى نظامه أو نظافته، ولا جفلت زينتها، أو مرآتها، ولا غيرت ثوبا أو مشطت شعرا، ولا رحبت بزائر ولا صديق. وخلا المنزل من لعبها وقفزها وأوحش منذ ذلك اليوم. وكان كل ما تفعله أن تقابلني وتجلس أمامي في المطبخ أو في الصحن أو في الغرفة، خافضة الرأس ساكنة الأطراف
مغرقة في الوجوم والتفكير مستسلمة إلى الحزن الصامت واليأس الأليم. وأخذ جسمها يذوى ويذوب كالشمعة المحترقة يوما بعد يوم، وغاضت ابتسامتها وخبا ضوءها وخفت صوتها. فراعنا الأمر وتحيرنا ماذا نفعل. ولم يكن في عزمنا أن نتخلى عن وديع أو نعهد به إلى مرضع أو مربيه فقد كان أثيراً عندنا حقا إذ لم يكن لنا ولد ذكر سواه، ولم يكن بيدنا مالا ننفق منه على المربيات والحواضن لو أردنا ذلك. وحار في أمرها الطبيب وكثر ما تناولته من الأدوية والعقاقير صابرة طيعة لا تتمرد ولا تقاوم، وقد ذقت مرة دواء كانت تشربه فوجدته مرا حادا كريها تعافه النفس؛ وعجبت كيف كانت تشربه في طوعية واستسلام فأرقته وأعفيتها من شربه، كأنها تنازلت عن إرادتها إذ لم تعد تنتفع بها، أو رفضتها ورمت بها في وجهنا. فلم تبد رغبة في شيء أو تتذمر من أمر. حتى أن ماري اقترحت عليها مرة أن تأخذها عندها لتعتني بها وتقوم على راحتها وتسليتها وتتبناها فقالت نعم. فسألتها أنا هل ترغبين حقا أن تمضي مع ماري إلى دارها؟ فقالت نعم. أم تؤثرين البقاء عندنا؟ فلم تزد على أن قالت نعم! فنظر بعضنا في وجوه بعض قانطين حائرين.
ولبثت عند ماري أياما لم تزد فيها حالها إلا سوءا على سوء، فلم نجد بدا من استرجاعها. وشرع أبوها يطوف بها المنتزهات ويقتني لها الملاهي والألاعيب والحلوى أصنافاً وضروباً، ولا يألو جهدا في تسليتها والترويح عنها، في غير جدوى.
ومالي أطيل عليك وأثقل على نفسي ونفسك. . . إن ذكرى أيامها الأخيرة لتحز في فؤادي كالمدية الكليل، وتشب في ضلوعي مثل النار. . . وجدناها ذات صباح مثل جثة هامدة في فراشها شاخصة إلى الأرجوحة ببصرها كما يشخص القتيل ببصره إلى القاتل. . .).
واختنق صوتها بالبكاء وانهمرت من عينيها الدموع. فلم أتمالك أن أخرج منديلي وأجفف به عيني الدامعتين.
هذه هي قصة إيلو أو إيلا أو إيلين أو ما تشاء. . . كما سمعتها من أمها. لقد كانت ذات نفس كبيرة وحس دقيق رهيف، جاوزت حدّ الطفولة في الشعور بالعظمة والكبرياء. . . غيورا يهمها أن تكون ملحوظة أبداً معنيا بها لا ينازعها في ذلك منازع ولا يزاحمها على منزلتها عند أبويها إنسان. فماتت شهيدة بطلة بعد أن ناضلت وجاهدت، وأبلت أحسن البلاء؛ وحيدة لا معين لها ولا نصير، شجاعة صابرة لا يعروها ضعف ولا جزع، ولا ينال
من بشاشتها أو يخرجها عن سجيتها خور ولا قنوط. . . حتى خذلها الأهل وعز النصير، فأيقنت بالفشل وأدركت أن جهودها ضائعة لا محالة، وأنهم لم ينصفوها ويقدروها قدرها على حال. فألقت سلاحها وانسحبت من الميدان في إباء وحسرة وسكون، وأسلمت قلبها الغض إلى الأحزان، وفوضت أمرها إلى الله. وهكذا انتحرت تلك الكرامة البريئة المؤذاة!
ومع أنى لم أراها. . . ثم مع أنى قد مضى على سماعي نبأ مأساتها عام أو يزيد، فإني ما زلت تعودني ذكراها من آن لآن فأحزن عليها حزني على القريب والحبيب. لكأني رأيتها وعرفتها ولاعبتها وأحببتها كل الحب وكلفت بها أيما كلف، ثم. . . كأنني فقدتها الساعة.