الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 68
- بتاريخ: 22 - 10 - 1934
في سبيل التحرير الاقتصادي
موسم السياحة
أقبل موسم السياحة. ولمصر موسم للسياحة مشهور في جميع أنحاء العالم، لا لأنها أغنى بقاع الأرض من الناحية الأثرية فقط، ولكن لأنها تتمتع أيضاً في الشتاء بجو بديع وطبيعة ساحرة. وفي جميع الأمم التي تشتهر بتراثها الأثري أو جمالها الطبيعي، يوجد موسم أو مواسم للسياحة؛ وتنظم هذه المواسم بحيث تغدو موارد ينتفع بها أهل القطر من الناحية المادية؛ بل توجد أمم وبقاع تعيش على السياحة كسويسرا مثلاً وبلاد التيرول، وساحل الريفييرا والبندقية وغيرها. وتعتبر السياحة في مصر أيضاً مورداً له قيمته وأهميته، وتبذل الحكومة لترويجه كثيراً من المال ومن وسائل الدعاية؛ ولكن هل استطاعت مصر أن تنظم موسم سياحتها على نحو يكفل مصالحها ومصالح أبنائها الذين يتصلون به كما تفعل جميع الأمم؟ وهل تجني مصر ويجني المصريون منه ما يحق لهم أن يجتنوه من المزايا المادية والمعنوية؟ الجواب معروف، وهو أن مغانم موسم السياحة المصري مازالت نهباً للأجانب، يستغلونها باسم مصر والمصريين، ولكن دون مصر والمصريين؛ وما تفيده الحكومة من أجور السكك الحديدية وتذاكر الآثار، وما يفيده بعض المصريين المتصلين بالموسم لا يعد شيئاً بالنسبة لما تحققه الفنادق ووكالات السياحة الأجنبية من الأرباح الوفيرة.
هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن هناك حقيقة أخرى هي أن تبعة هذه النتيجة المؤلمة تقع على عاتق مصر حكومة وشعباً. فالحكومة لم تفعل حتى اليوم شيئاً جدياً لتنظيم موسم السياحة على نحو تراعي فيه المصالح المصرية، ويوضع فيه حد معقول للاستغلال الأجنبي؛ والمصريون من جانبهم لا يفكرون في العمل على استثمار هذا الموسم الذي تهيئه لبلادهم مزاياها الأثرية والطبيعية. فمن المعروف مثلاً أن الفنادق تستأثر بأهم موارد الموسم، وأن هذه الفنادق كلها أجنبية؛ ولكن هل فكرنا نحن في إنشاء فنادق يستطيع أن يؤمها السياح؟ إن إنشاء الفنادق صناعة لها قيمتها وأهميتها ولاسيما في مراكز السياحة المشهورة؛ ففي سويسرا مثلاً تعتبر صناعة الفنادق من أهم الموارد القومية، وقد عرف الأجانب في مصر هذه الحقيقة بإنشاء الفنادق واحتكروا صناعتها، ولكن المعروف أنهم
يذهبون في استغلالها إلى حدود مرهقة، حتى إن كثيراً من السياح الذين يفدون على مصر يضجون بالشكوى من غلاء الأجور والأثمان التي تفرض عليهم. وهذا بلا ريب عيب في موسم السياحة المصري له أثره السيئ في سير الموسم، وهو بلا ريب يصرف الكثيرين من متوسطي الحال عن القدوم إلى مصر والتمتع بآثارها وشتائها.
ونذكر أن الحكومة قدرت خطر هذه المسألة منذ أعوام وفكرت فعلاً في إنشاء فندق كبير فخم يقتضي من السياح أجوراً معتدلة، ولكن الفكرة ماتت في مهدها ككل فكرة يخشى منها على المصالح الأجنبية في مصر. وإذاً فليس لنا إلا أن نعتمد على الجهود الخاصة في غزو هذه الصناعة التي يحتكرها الأجانب في بلادنا، ويجنون منها الثروات الطائلة، وهي صناعة لا تقتضي فنوناً أو مواهب خارقة، ولا تقتضي سوى الإقدام وموهبة التنظيم وحسن الذوق؛ وهي ليست أجل خطراً من الشئون المالية الدقيقة التي استطعنا أن نغزوها وأن نبرع فيها على يد بنك مصر وشركاته القوية الميمونة. ولقد أتيح لهذه المؤسسة القومية العتيدة أن تبدأ بالفعل بغزو ميدان له صلة وثيقة بالسياحة وموسمها؛ فقد أنشأت شركة للمواصلات الجوية وأسطولاً جوياً يقوم اليوم بنصيبه في الموصلات المحلية؛ وأنشأت شركة للملاحة لها اليوم أسطول بحري لا يزال في مستهل حياته، ولكن يشق اليوم عباب البحر الأبيض، ويربط مصر بالقارة الأوربية؛ وإذا كنا ننبه اليوم على تقصيرنا في العمل على استثمار موسم سياحتنا والأخذ بنصيبنا في صناعة الفنادق المحلية، فإنما نتجه في تلافي هذا التقصير بادئ بدء إلى بنك مصر أيضاً، وإلى تلك العصبة الميمونة من زعمائنا الاقتصاديين الذين أتوا في الميدان الاقتصادي بالعجائب، فهم أحق الناس بأن يتولوا الزعامة في هذه الناحية أيضاً، فينشئوا لنا شركة مصرية حقيقية تقوم بإنشاء بضعة فنادق فخمة تشترك في استثمار موسم السياحة لحساب المصالح المصرية، وتفتح بذلك باب هذه الصناعة واسعاً أمام المصريين، فيقتدون بها في الإقدام والعمل؛ ولا ريب إن صناعة فنادق مصرية إذا أقيمت على أسس مستنيرة تلقى نصيبها الأوفر من النجاح، نظراً لقناعتها واعتدالها.
هذا وفي وسع المصريين أن يحققوا بغزو هذه الصناعة، فضلاً عن الأرباح المادية لبلادهم، مزايا أدبية جليلة عن طريق الاتصال بموسم السياحة؛ فالسياح من مختلف الأمم،
لا يتصلون عند مقدمهم إلى هذه البلاد بكثير من المصريين المستنيرين، إذ يتلقفهم الأجانب والفنادق الأجنبية، ويأخذون معظم معلوماتهم عن مصر من الأجانب؛ وليست هذه المعلومات دائماً دقيقة ولا نزيهة. فإذا أتيح للمصريين أن يتصلوا بطبقات السياح عن غزو ميدان السياحة، فإنهم يستطيعون أن يقدموا لضيوفهم عن بلادهم كل المعلومات المطلوبة، وأن يذيعوا بذلك مآثرها ومحاسنها بين السياح من مختلف الأمم، فيكون لها بذلك حسن الذكرى في كثير من البلاد.
هذه كلمة أوحى بها إلينا إقبال موسم السياحة الذي يتجدد كل عام في مثل هذا الفصل؛ والذي ما يزال الأجانب يستأثرون بمغانمه باسم مصر؛ نرجو أن يكون لها بعض الصدى والأثر.
(ع)
قُبحٌ جميل
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
دخل أحمد بن أيمن (كاتب ابن طولون) البصرة، فصنع له مسلم بن عمران التاجر المتأدب صنيعاً دعا إليه جماعة من وجوه التجار وأعيان الأدباء، فجاء ابنا صاحب الدعوة، وهما غلامان، فوقفا بين يدي أبيهما، وجعل ابن أيمن يطيل النظر إليهما، ويعجب من حسنهما وبزتهما وروائهما، حتى كأنما أُفرغا في الجمال وزينته إفراغاً، أو كأنما جاءا من شمس وقمر لا من أبوين من الناس، أو هما قد نبتا في مثل تهاويل الزهر من زينته التي تبدعهما الشمس، ويصقلها الفجر، ويتندى بها روح الماء العذب. وكان لا يصرف نظره عنها إلا رجع به النظر، كأن جمالهما لا ينتهي فما ينتهي الإعجاب به.
وجعل أبوهما يسارقه النظر مسارقة، ويبدو كالمتشاغل عنه، ليدع له أن يتوسم ويتأمل ما شاء، وأن يملأ عينيه مما أعجبه من لؤلؤتيه ومخايلهما. بيد أن الحسن الفاتن يأبى دائماً إلا أن يسمع من ناظره كلمة الإعجاب به، حتى لينطق المرء بهذه الكلمة أحياناً، وكأنها مأخوذة من لسانه أخذاً، وحتى ليحس أن غريزةً في داخله كلمها الحسن من كلامه فردت عليه من كلامها.
قال ابن أيمن: سبحان الله؛ ما رأيت كاليوم قطُ دميتين لا تُفتح الأعين على أجمل منهما؛ ولو نزلا من السماء وألبستهما الملائكة ثياباً من الجنة ما حسبتُ أن تصنع الملائكة أظرف ولا أحسن مما صنعت أمهما.
فالتفت إليه مسلم، وقال أحب أن تعوّذهما. فمد الرجل يده ومسح عليهما، وعوّذهما بالحديث المأثور، ودعا لهما، ثم قال: ما أراك إلا استجدْت الأم فحسُن نسلك، وجاء كاللؤلؤ يشبه بعضه بعضاً، صغاره من كباره؛ وما عليك ألا تكون تزوجت ابنة قيصر فأولدتها هذين، وأخرجتهما هي لك في صيغتها الملوكية من الحسن والأدب والرونق، وما أرى مثلهما يكونان في موضع إلا كان حولهما جلال المُلك ووقاره، مما يكون حولهما من نور تلك الأم.
فقال مسلم: وأنت على ذلك غير مصدّق إذا قلت لك إني لا أحب المرأة الجميلة التي تصف، وليس بي هوى إلا في امرأة دميمة هي بدمامتها أحبّ النساء إليّ، وأخفّهن إلى قلبي، وأصلحهن لي، ما أعدِل بها ابنة قيصر ولا ابنة كسرى.
فبقى ابن أيمن كالمشدوه من غرابة ما يسمع، ثم ذكر أن من الناس من يأكل الطين ويستطيبه لفسادٍ في طبعه، فلا يحلو السكّر في فمه وإن كان مكرراً خالص الحلاوة. ورثى أشد الرثاء لأم الغلامين أن يكون هذا الرجل الجلف قد ضارها بتلك الدميمة أو تسرّى بها عليها. فقال وما يملك نفسه: أما والله لقد كفرتَ النعمة، وغدرتَ وجحدتَ وبالغتَ في الضُّر، وإن أم هذين الغلامين لامرأة فوق النساء، إذ لم يتبين في ولديها أثر من تغير طبعها وكدر نفسها، وقد كان يسعها العذر لو جعلتهما سخنةَ عين لك، وأخرجتهما للناس في مساوئك لا في محاسنك، وما أدرى كيف لا تندّ عليك، ولا كيف صلُحت بمقدار ما فسدتَ أنت، واستقامتْ بمقدار ما التويتَ، وعجيب والله شأنكما! إنها لتغلو في كرم الأصل والعقل والمروءة والخلق، كما تغلو أنت في البهيمية والنزق والغدر وسوء المكافأة.
قال مسلم: فهو والله ما قلتُ لك، وما أحب إلا امرأة دميمة قد ذهبتْ بي كل مذهب، وأنستني كل جميلة في النساء، ولئن أخذتُ أصفها لك لما جاءت الألفاظ من القُبح والشّوهة والدمامة؛ غير إنها مع ذلك لا تجئ إلا دالة على أجمل معاني المرأة عند رُجلها في الحظوة والرضا وجمال الطبع. وانظر كيف يلتئم أن تكون الزيادة في القبح هي زيادة الحسن وزيادة في الحب، وكيف يكون اللفظ الشائه، وما فيه لنفسي إلا المعنى الجميل، وإلا الحس الصادق بهذا المعنى، وإلا الاهتزاز والطرب لهذا الحس؟
قال ابن أيمن: والله إن أراك إلا شيطاناً من الشياطين، وقد عجّل الله لك من هذه الدميمة زوجتك التي كانت لك في الجحيم، لتجتمعا معاً على تعذيب تلك الحوراء الملائكية أم هذين الصغيرين، وما أدرى كيف يتصل ما بينكما بعد هذا الذي أدخلتَ من القبح والدمامة في معاشرتها ومعايشتها، وبعد أن جعلتها لا تنظر إليك إلا بنظرتها إلى تلك. أفبهيمةٌ هي لا تعقل، أم أنت رجل ساحر، أم فيك ما ليس في الناس، أم أنا لا أفقه شيئاً؟
فضحك مسلم وقال: إن لي خبراً عجيباً: كنت أنزل (الأُبُلّة) وأنا متعيّش فحملت منها تجارة إلى البصرة فربحت، ولم أزل أحمل من هذه إلا هذه فأربح ولا أخسر، حتى كثر مالي، ثم بدا لي أن أتسع في الآفاق البعيدة لأجمع التجارة من أطرافها، وأبسط يدي للمال حيث يكثر وحيث يقلّ، وكنت في ميْعة الشباب وغُلَوائه، وأول هجمة الفتوة على الدنيا، وقلتُ: إن في ذلك خلالاً؛ فأرى الأمم في بلادها ومعايشتها، وأتقلّب في التجارة، وأجمع المال والطرائف،
وأفيد عظةً وعبرة، وأعلم علماً جديداً، ولعلني أصيب الزوجة التي أشتهيها وأصور لها في نفسي التصاوير، فإن أمري من أوله كان إلى علوّ فلا أريد إلا الغاية، ولا أرمي إلا للسَبَق، ولا أرضى أن أتخلف في جماعة الناس. وكأني لم أر في الأبلة ولا في البصرة امرأة بتلك التصاوير التي في نفسي، فتأخذها عيني، فتعجبني، فتصلح لي، فأتزوج بها. وطمعت أن استنزل نجماً من تلك الآفاق أحرزه في داري؛ فما زلت أرمي من بلد إلى بلد حتى دخلت (بلخ) من أجلّ مدن خراسان وأوسعها غلّة، تحمل غلّتها إلى جميع خراسان وإلى خوارزم؛ وفيها يومئذ كان عالمها وإمامها (أبو عبد الله البلخي) وكنا نعرف اسمه في البصرة؛ إذ كان قد نزلها في رحلته وأكثر الكتابة بها عن الرواة العلماء؛ فاستخفّتني إليه نزّية من شوقي إلى الوطن، كأن فيه بلدي وأهلي؛ فذهبت إلى حلْقته، وسمعته يفسر قول النبي صلى الله عليه وسلم:(سوداءُ ولود خيرٌ من حسناء لا تلد) فما كان الشيخ إلا في سحابة، وما كان كلامه إلا وحياً يوحى إليه. سمعت والله كلاماً لا عهد لي بمثله، وأنا من أول نشأتي أجلس إلى العلماء والأدباء وأداخلهم في فنون من المذاكرة، فما سمعت ولا قرأت مثل كلام البلخي، ولقد حفظته حتى ما تفوتني لفظة منه، وبقي هذا الكلام يعمل في نفسي عمله، ويدفعني إلى معانيه دفعاً حتى أتى عليّ ما سأحدّثك به. إن الكلمة في الذهن لتوجد الحادثة في الدنيا.
قال ابن أيمن: إطو خبرك إن شئت، ولكن اذكر لي كلام البلخي، فقد تعلّقت نفسي به.
قال سمعت أبا عبد الله يقول في تأويل ذلك الحديث: أما في لفظ الحديث فهو من معجزات بلاغة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من أعجب الأدب وأبرعه، ما علمت أحداً تنبه إليه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لا يريد السوداء بخصوصها، ولكنه كنى بها عما تحت السواد، وما فوق السواد، وما هو إلى السواد من الصفات التي يتقبّحها الرجال في خلقة النساء وصورهن؛ فألطف التعبير ورقّ به، رفعاً لشأن النساء أن يصف امرأة منهن بالقبح والدمامة، وتنزيهاً لهذا الجنس الكريم، وتنزيهاً للسانه النبوي؛ كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إن ذِكر قبح المرأة هو في نفسه قبيح في الأدب، فإن المرأة أم أو في سبيل الأمومة؛ والجنة تحت أقدام الأمهات؛ فكيف تكون الجنة التي هي أحسن ما يُتخيّل في الحسن تحت قدمي امرأة، ثم يجوز أدباً أو عقلاً أن توصف هذه المرأة بالقبح.
أما إن الحديث كالنص على أن من كمال أدب الرجل إذا كان رجلاً ألا يصف امرأة بقبح
الصورة البتة، وألا يجري في لسانه لفظ القبح وما في معناه، موصوفاً به هذا الجنس الذي منه أمه: أيودّ أحد أن يمزق وجه أمه بهذه الكلمة الجارحة؟
وقد كان العرب يفضلون لمعاني الدمامة في النساء ألفاظاً كثيرة؛ إذ كانوا لا يرفعون المرأة عن السائمة والماشية. أما أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم، فما زال يوّصي بالنساء ويرفع شأنهن، حتى كان آخر ما وصى به ثلاث كلمات كان يتكلم بهن، إلى أن تلجلج لسانه وخفي كلامه؛ جعل يقول (الصلاة. . الصلاة. وما ملكت أيمانكم، لا تكلفوهم ما لا يطيقون؛ اللهَ اللهَ في النساء.)
قال الشيخ: كأن المرأة من حيث هي إنما هي صلاة تتعبد بها الفضائل، فوجبت رعايتها وتلقيها بحقها. وقد ذكرها بعد الرقيق، لأن الزواج بطبيعته نوع رق؛ ولكنه ختم بها وقد بدأ بالصلاة، لأن الزواج في حقيقته نوع عبادة.
قال الشيخ: ولو أن أماً كانت دميمة شوهاء في أعين الناس لكانت مع ذلك في عين أطفالها أجمل من ملكة على عرشها؛ ففي الدنيا من يصفها بالجمال صادقاً في حسه ولفظه، لم يكذب في أحدهما، فقد انتفى القبح إذن، وصار وصفها به في رأى العين تكذيباً لوصفها في رأى النفس، ولا أقل من أن يكون الوصفان قد تعارضا فلا جمال ولا دمامة.
قال الشيخ وأما في معنى الحديث، فهو صلى الله عليه وسلم يقرر للناس أن كرم المرأة بأمومتها، فإذا قيل: إن في صورتها قبحاً فالحسناء التي لا تلد أقبح منها في المعنى. وانظر أنت كيف يكون القبح الذي يقال إن الحسن أقبح منه. . .!
فمن أين تناولت الحديث رأيته دائراً على تقدير أن لا قبح في صورة المرأة، وإنها منزهة في لسان المؤمن أن توصف بهذا الوصف، فإن كلمات القبح والحسن لغة بهيمية تجعل حب المرأة حباً على طريقة البهائم، من حيث تفضلها طريقة البهائم بأن الحيوان على احتباسه في غرائزه وشهواته لا يتكذب في الغريزة ولا في الشهوة بتلوينهما ألواناً من خياله، ووضعهما مرة فوق الحد، ومرة دون الحد.
فأكبر الشأن هو للمرأة التي تجعل الإنسان كبيراً في إنسانيته، لا التي تجعله كبيراً في حيوانيته، فلو كانت هذه الثانية هي التي يصطلح الناس على وصفها بالجمال فهي القبيحة لا الجميلة، إذ يجب على المؤمن الصحيح الإيمان أن يعيش فيما يصلح به الناس، لا فيما
يصطلح عليه الناس؛ فإن الخروج من الحدود الضيقة للألفاظ إلى الحقائق الشاملة هو الاستقامة بالحياة على طريقها المؤدي إلى نعيم الآخرة وثوابها.
وهناك ذاتان لكل مؤمن: إحداهما غائبة عنه، والأخرى حاضرة فيه، وهو إنما يصل من هذه إلى تلك، فلا ينبغي أن يحصر السيماوية الواسعة في هذه الترابية الضيقة. والقبح إنما هو لفظ ترابي يشار به إلى صورة وقع فيها من التشويه مثل معاني التراب. والصورة فانية زائلة، ولكن عملها باقٍ؛ فالنظر يجب أن يكون إلى العمل. فالعمل هو لا غيره الذي تتعاوره ألفاظ الحسن والقبح.
وبهذا الكمال بالنفس، وهذا الأدب، قد ينظر الرجل الفاضل من وجه زوجته الشوهاء الفاضلة، لا إلى الشوهاء، ولكن إلى الحور العين. إنهما في رأى العين رجل وامرأة في صورتين متنافرتين جمالاً وقبحاً؛ أما في الحقيقة والعمل وكمال الإيمان الروحي فهما إرادتان متحدتان تجذب إحداهما الأخرى جاذبية العشق وتلتقيان معاً في النفسين الواسعتين، المراد بهما الفضيلة وثواب الله والإنسانية؛ ولذلك اختار الإمام احمد بن حنبل عوراء على أختها، وكانت أختها جميلة، فسأل: من أعقلهما؟. فقيل: العوراء. فقال: زوجوني إياها. فكانت العوراء في رأي الإمام وإرادته هي ذات العينين الكحيلتين، لوفور عقله وكمال إيمانه.
قال أبو عبد الله: والحديث الشريف بعد كل هذا الذي حكيناه يدل على أن الحب متى كان إنسانياً جارياً على قواعد الإنسانية العامة، متسعاً لها غير محصور في الخصوص منها - كان بذلك علاجاً من أمراض الخيال في النفس، واستطاع الإنسان أن يجعل حبه يتناول الأشياء المختلفة، ويرد على نفسه من لذاتها، فإن لم يسعده شئ بخصوصه، وجد أشياء كثيرة تسعده بين السماء والأرض، وإن وقع في صورة امرأته ما لا يعدّ جمالاً، رأى الجمال في أشياء منها غير الصورة، وتعرّف إلى ما لا يخفى، فظهر له ما يخفى.
وليست العين وحدها هي التي تؤامر في أي الشيئين أجمل، بل هناك العقل والقلب، فجواب العين وحدها، إنما هو ثلث الحق. ومتى قيل (ثلث الحق) فضياع الثلثين يجعله في الأقل حقاً غير كامل.
فما نكرهه من وجه، قد يكون هو الذي نحبه من وجه آخر، إذا نحن تركنا الإرادة السليمة
تعمل عملها الإنساني بالعقل القلب، وبأوسع النظرين دون أضيقهما (وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا.)
فوثب ابن الأيمن، وأقبل يدور في المجلس مما دخله من طرب الحديث ويقول: ما هذا إلا كلام الملائكة سمعناه منك ياْبن عمران. قال مسلم: فكيف بك لو سمعته من أبي عبد الله؛ إنه والله قد حبب إلي السوداء القبيحة والدميمة، ونظرت لنفسي بخير النظرين، وقلت: إن تزوجتُ يوماً فما أبالي جمالاً ولا قبحاً، إنما أريد الإنسانية كاملة مني ومنها ومن أولادنا، والمرأة في كل امرأة، ولكن ليس العقل في كل امرأة.
قال: ثم إني رجعت إلى البصرة، وآثرت السكنى بها، وتعالم الناس إقبالي، وعلمت أنه لا يحسن بي المقام بغير زوجة، ولم يكن بها أجلّ قدراً من جد هذين الغلامين. وكانت له بنت قد عضلها وتعرض بذلك لعداوة خطابها، فقلت: ما لهذه البنت بد من شأن، ولو لم تكن اكمل النساء وأجملهن ما ضن بها أبوها رجاوة أن يأتيه من هو أعلى، فحدثتني نفسي بلقائه فيها، فجئته على خلوة. . .
فقطع عليه ابن أيمن وقال: قد علمنا خبرها من منظر هذين الغلامين، وإنما نريد من خبر تلك الدميمة التي تعشّقتها.
قال: مهلاً فستنتهي القصة إليها. ثم إني قلت: يا عم، أنا فلان بن فلان التاجر. قال: ما خفي عني محلك ومحل أبيك. فقلت: جئتك خاطباً لابنتك. قال: والله ما بي عنك رغبة، ولقد خطبها إلي جماعة من وجوه البصرة وما أجبتهم، وإني لكارهٌ من إخراجها عن حضني إلى من يقوّمها تقويم العبيد. فقلت: قد رفعها الله عن هذا الموضع، وأنا أسألك أن تدخلني في عددك، وتخلطني بشملك. فقال: ولابد من هذا؟ قلت: لابد. فقال: أُغد عليّ برجالك.
فانصرفت منه إلى ملأ من التجار ذوي أخطار، فسألتهم الحضور في غدٍ. فقالوا: هذا رجل قد ردّ من هو أثرى منك، وإنك لَتُحرّكنا إلى سعى ضائع. قلت لابد من ركوبكم معي. فركبوا على ثقة من أنه سيردهم.
فصاح ابن أيمن، وقد كادت روحه تخرج: فذهبْت فزوجك بالجميلة الرائعة أم هذين، فما خبر تلك الدميمة.
قال مسلم: يا سيدي قد صبرتَ إلى الآن، أفلا تصبر على كلمات تنبئك من أين يبدأ خبر
الدميمة، فإني ما عرفتها إلا في العرس.
قال: وغدونا عليه فأحسن الإجابة وزوجني، وأطعم القوم ونحر لهم، ثم قال: إن شئت أن تبيت بأهلك فافعل، فليس لها ما يُحتاج إلى التلوّم عليه وانتظاره.
فقلت: هذا يا سيدي ما أحبه. فلم يزل يحدثني بكل حسن حتى كانت المغرب، فصلاها بي، ثم سبّح وسبّحت، ودعا ودعوت، وبقي مقبلاً على دعائه وتسبيحه ما يلتفت لغير ذلك، فأمضّني - علم الله - كأنه يرى أن ابنته مقبلة مني على مصيبة، فهو يتضرع ويدعو. ثم كانت العتَمة فصلاها بي، وأخذ بيدي فأدخلني إلى دار قد فُرشت بأحسن فرش، وبها خدم وجوار في نهاية من النظافة. فما استقر بي الجلوس حتى نهض وقال: أستودعك الله، وقدّم الله لكما الخير وأحرز التوفيق.
واكتنفني عجائز من شمله، ليس فيهن شابة إلا من كانت في الستين. . . فنظرت فإذا وجوه كوجوه الموتى، وإذا أجسام بالية يتضام بعضها إلى بعض، كأنها أطلال زمن قد انقضّ بين يديّ.
فصاح ابن أيمن: وإن دميتك لعجوز أيضاً. . .؟ ما أراك ياْ ابن عمران إلا قتلت أم الغلامين. . .!
قال مسلم: ثم جَلَون ابنته عليّ وقد ملأْن عينيّ هرماً وموتاً وأخيلة شياطين وظلال قرود؛ فما كدت أستفيق لأرى زوجتي، حتى أسرعْن فأرخين الستور علينا؛ فحمدت الله لذهابهن، ونظرت.
وصاح ابن أيمن وقد أكله الغيظ: لقد أطلت علينا فستحكي لنا قصتك إلى الصباح، قد علمناها، فما خبر الدميمة الشوهاء؟.
قال مسلم: لم تكن الدميمة الشوهاء إلا العروس!
فزاغت أعين الجماعة، ، اطرق ابن أيمن إطراقة من ورد عليه ما حيره. ولكن الرجل مضى يقول: ولما نظرتها لم أر إلا ما كنت حفظته عن أبي عبد الله البلخي، وقلت: هي نفسي جاءت بي إليها، وكأن كلام الشيخ إنما كان عملاً يعمل فيّ ويديرني ويصرّفني. وما أسرع ما قامت المسكينة فأكبّت على يدي وقالت:
(يا سيدي، إني سر من أسرار والدي، كتمه عن الناس وأفضى به إليك إذ رآك أهلاً لستره
عليه، فلا تُخفِر ظنه فيك. ولو كان الذي يُطلب من الزوجة حسن صورتها دون حسن تدبيرها وعفافها لعظمت محنتي. وأرجو أن يكون معي منهما أكثر مما قصّر بي في حسن الصورة؛ وسأبلغ محبّتك في كل ما تأمرني. ولو أنت آذيتني لعدَدْتُ الأذى منك نعمة، فكيف إن وسعني كرمك وسترك؟ إنك لا تعامل الله بأفضل من أن تكون سبباً في سعادة بائسة مثلي. أفلا تحرص يا سيدي على أن تكون هذا السبب الشريف؟)
ثم إنها وثبت فجاءت بمال في كيس وقالت: يا سيدي، قد أحل الله لك معي ثلاث حرائر وما آثرْته من الإماء؛ وقد سوّغتك تزويج الثلاث وابتياع الجواري من مال هذا الكيس، فقد وقفته على شهواتك، ولست أطلب منك إلا ستري فقط.
قال احمد بن أيمن: فحلف لي التاجر: إنها ملكت قلبي ملكاً لا تصل إليه حسناء بحسنها، فقلت لها: إن جزاء ما قدمتِ ما تسمعينه مني (والله لأجعلنّك حظي من دنياي فيما يؤثره الرجل من المرأة، ولأضربن على نفسي الحجاب ما تنظر نفسي إلى أنثى غيرك أبداً) ثم أتممت سرورها فحدثتُها بما حفظته عن أبي عبد الله البلخي. فأيقنت والله يا أحمد أنها نزلت مني في أرفع منازلها، وجعلت تحسن وتحسن كالغصن الذي كان مجروداً ثم وخزته الخضرة من هنا ومن هنا.
وعاشرتُها فإذا هي أضبط النساء، وأحسنهن تدبيراً، وأشفقهن عليّ، وأحبهن لي؛ وإذا راحتي وطاعتي أول أمرها وآخره؛ وإذا عقلها وذكاؤها يظهران لي من جمال معانيها ما لا يزال يكثر ويكثر، فجعل القبح يقل ويقل، وزال القبح باعتيادي رؤيته، وبقيت المعاني على جمالها؛ وصارت لي هذه الزوجة هي المرأة وفوق المرأة.
ولما ولدت لي جاء ابنها رائع الصورة، فحدثتني أنها كانت لا تزال تتمنى على كرم الله وقدرته أن تتزوج وتلد أجمل الأولاد، ولم تدع ذلك من فكرها قط، وألف لها عقلها صورة أجمل غلام تتمثله وما برحت تتمثله. فإذا هي أيضاً كان لها شأن كشأني، وكان فكرها عملاً يعمل في نفسها، ويديرها ويصرّفها.
ورزقني الله منها هذين الابنين الرائعين لك؛ فانظر أي معجزتين من معجزات الإيمان.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
صفحة من التاريخ
ميدان القَبَق
بين السعد والنحس
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
صف لي ملاهي قوم من الأقوام أصف لك خلقهم ونصيبهم من الحياة - وإذا أخطأني حظ الإصابة مرة لم يكن الخطأ إلا مؤقتاً، ويكون تطاول الأيام كفيلاً بتحقيق ما أتوقع - وليس ذلك ناشئاً من أن الله قد وهبني ما لم يهب سواي من قدرة على التكهن أو التنبؤ، بل هي مجاري الأقدار تنساق في سبيل لا حيلة في الحيد عنها، ولا وسيلة إلى الانفلات منها. .
وقد علمت أن الرومان أقبلوا على ملاهٍ يقشعر بدن الإنسانية من تصور ما كان يجري فيها من فظائع. . وأيمن الحق ما كان لامرئ أن يتنبأ لشعب الرومان إلا بالانحدار والانحلال مادامت نفوسهم لا تهتز إلا بسفك الدماء، ولا ترتاح إلا إلى مناظر الوحشية. وقد رأيت ما تنم عليه آثار مدنية بومبي من هُوى إلى سحيق الدعارة، وما كان لك أن تتطلع في مستقبل ذلك الشعب إلا إلى نزول وهبوط، إذ إن النفوس لا تلهو إلا بما مرنت عليه واطمأنت إليه وسرى في عاداتها وتغلغل في حياتها. وللحياة القوية مطالب وتكاليف، إذا اعتادت النفوس القيام عليها صارت لذتها في مباشرتها. ودونك من الشعوب القوية ما يوضح ذلك أتم إيضاح، فذلك شعب الإنجليز ترى لذة شبانه وكهوله في ممارسة الرياضة بأنواعها، والجولان في البحر والبر والهواء، يجدون اللذة القصوى في مقارعة الأخطار ومقابلة العقبات. وإذا شئت مثلاً آخر فلا تعوزك المثل؛ فالشعوب القوية ولله الحمد كُثر في كل عصر، ولن ترى شعباً قوياً تنزو به الحياة وتثب به القوة إلا رأيت لذته في مثل مقارعة الخطوب ومنازلة قوى الطبيعة. ولقد كان لنا آباء رحمهم الله لم يكونوا من المتخلفين في ميدان الحياة. بل كانوا حماة عصرهم وسادة جيلهم. ولست أتردد في أن أسميهم بالآباء، على أنهم قد لا يكونون لي آباء. كما أنني لا أتردد في أن أسمي الفراعين آبائي، ولعلهم لم يكونوا من آبائي. فإنني لا تجري فيّ دماء الملوك. ولئن كان فيّ شئ منها فقد جهلته. فالملوك الأقدمون منذ خلدوا على صفحات التاريخ قد أصبحوا اليوم آباء لنا في أنهم كانوا
الحفظة لمُثلنا العليا، والقوّام على آمالنا القومية. فهم آباؤنا في التراث القومي وإن بعدت بيننا علاقات النسب. لا، بل وإن اختلفت ألوان الدماء وتباينت مواطن الشعوب.
في جانب القاهرة المعزية من الشمال الشرقي حي اسمه الآن حي العباسية الشرقية، ومن ورائه من ناحية الجبل مساحة عظيمة مسطحة لا تكاد ترى فيها نشزاً. وقد اختطت في بعض جهات هذا المتسع في أيامنا الحاضرة مدافن حديثة شقت ما بينها الشوارع وأنشئت الحدائق، وهذا السهل يتصل إلى جنوب القاهرة فيما يلي قلعة الجبل لا تكاد ترى في كل هذه المسافة تلاً تعكر سهولة السطح، وهذه المساحة هي بعينها الميدان القديم الذي أنشأه أحد أجدادنا العظام الذين قدمت الإشارة إليهم، وهو الملك العظيم الظاهر بيبرس البندقداري؛ وكان اسم هذا الميدان الفسيح في تسمية العامة:(الميدان الأسود) أو ميدان السباق. وكان في تسمية الخاصة: (ميدان القَبَق).
أما القبق فهو آلة من آلات التمرين الحربي، وهو عبارة عن قرص كبير من الخشب يوضع فوق سارية عالية، ويوضع وراءه هدف يرمي إليه الجنود سهامهم؛ وكان الرمي بالقسي والسهام من أكبر وسائل الرياضة عند أهل ذلك العصر من سني القرن الثالث عشر الميلادي أو القرن السابع الهجري.
وكانت مصر حينئذ قلب الشرق الإسلامي وكنانته. إذ كانت بلاد ما بين النهرين قد أكلتها نيران التتار، وأصبحت دامية صريعة تئن تحت سنابك خيل أحفاد جنكيز خان. وكانت بلاد الشام لا تزال تعاني بقايا الفتح الأوربي الذي اعتراها في مدة الحروب الصليبية، وكانت أوربا لا تزال في أول أدوار النهضة بعد أمد العصور الوسطى، ولا تزال على عقليتها القديمة التي دفعتها إلى الحروب الصليبية تحاول ما استطاعت أن تبطش بدول الإسلام.
فكان على دولة مصر أن تحفظ مدنية الإسلام، وتراث العلم والنور من موجة التتار المخربة المدمرة من جانب الشرق، وأن تدفع عادية أوربا المحنقة الثائرة من جانب الغرب. ولهذا كان لا مفر من أن تكون مصر على رباط دائم، وفؤاد يقظ حديد.
وكان بيبرس ممثل الدفاع في القرن الثالث عشر الميلادي؛ حمل الراية مدة حكمه الطويل فكان بطلاً موفقاً مجدوداً.
لم تكن أعوامه تخرج عن عام غزو في بلدة من بلاد الشام، أو عام موكب انتصار عقب فتح من الفتوح. وما كانت مواسم مصر على يديه إلا تلك المواسم النابضة بالحماسة، الجياشة بمعاني الرجولة والحياة القوية.
وكان ميدان القبق مشهد أكبر للمواسم وأحبها إلى الناس، سواء في ذلك العامة والخاصة. وها نحن أولاء نصف واحداً من تلك المواسم البيبرسية التي سادها السعد والتوفيق؛ فكان مبعث سرور للآلاف من الناس وآية مجد وجلال للدولة ورجالها.
كان ذلك في يوم شديد الحر في شهر رمضان؛ وكانت العادة أن ترش أرض الميدان الأسود بالماء قبل أن يبدأ فيه الاحتفال؛ فرأى السلطان الجليل (بيبرس) إن رش هذا الميدان الفسيح في مثل هذا اليوم القائظ وفي شهر الصيام فيه تكليف شاق على الناس. وأشفق أن ينالهم من ذلك أذى، فأمر أن يكف الناس عن الرش وأن يتحمل جنوده مشقة الاحتفال في القيظ بغير ترطيب الأرض بالماء.
وأبى الله أن يجزى مثل هذا العطف بغير جزائه. فكان من دلائل سعد السلطان ويمن أيامه أن ساقت الرياح غمامة في ذلك اليوم على غير عادة في مثل ذلك الوقت، فأمطرت الميدان حتى رطبت أرضه، ثم أقلعت. وما أتى وقت الاحتفال حتى رأى بيبرس وفرسانه ميداناً دهساً غير ملبد ولا زلق.
دخل السلطان العظيم على رأس قواته وجنوده، فكلف كبارهم بإظهار ما عندهم من البراعة في الرماية. ووقف الناس ألوفاً حولهم يعجبون بما يرون، وتثب قلوبهم سروراً بما يعجبون به، إذ رأوا حماتهم جديرين بما أولوهم من زعامة في الدفاع المجيد.
ثم ركب السلطان في قمة الصف، واصطف وراءه القواد والجنود بحسب المراتب المرسومة، وحمل كما يحمل إذ يكون في ميدان الحرب وحمل وراءه أتباعه كباراً وصغاراً، كأنما هم رجل واحد، ولهم إرادة واحدة. فإذا كر السلطان كانت الألوف وراءه كجزء منه، وإذا لف كانت الألوف من خلفه كأنما هي قطعة واحدة - وتعالت عند ذلك أصوات الإعجاب والحماسة، واختلطت بزفرات الدعاء والولاء، فلقد كان بيبرس العظيم مليكاً على الناس مسيطراً على الأفئدة.
وانتهى اليوم على ما ابتدأ به من السعد، ووزعت الهبات والصلات، وتتابعت العطايا
والهدايا، ونال الناس من بر ذلك اليوم ما لم يفت طبقة من الطبقات، فقد قرت أعين الأمراء بالتكريم، وأثلجت صدور الفقراء بالعطاء.
وما كان مثل عصر (بيبرس) ليذهب بغير أثره، فقد أصبح الناس جميعاً ولا همة لهم إلا في تقديس أبطال الفرسان، ولا مسرة إلا ما تبعثه مناظر الكر والفر، وأصبح بفضل هذا الروح في مصر جيش من أبطال مازالوا مضرب الأمثال في النظام والشجاعة والمهارة، وأصبح الشعب وذهنه منصرف إلى ناحية حياة الرجولة والدفاع والنضال، لا يقبل على لهو إقباله على شهود أيام الاحتفال. قال المقريزي في وصف ذلك:(وصارت تلك الأمكنة لا تسع الناس وما بقى لأحد شغل إلا لعب الرمح ورمي النشاب).
غير إن ذلك الميدان لم يشهد السعد وحده، بل شهد بعض ساعات من النحس بعد أن تغير الزمان وتبدل الحال. ولم يكن في الإمكان أن يجود الزمان بالأفذاذ يتبع بعضهم بعضاً بغير انقطاع. وإلا فلم سمي الأفذاذ أفذاذاً؟
فحكم مصر في أواخر القرن الثالث عشر المسيحي سلطان آخر يمتاز عن بيبرس بأنه من سلالة ملكية، إذ كان أبوه سلطاناً قبله غير أنه لم يكن في مثل قوة بيبرس ولا في مثل توفيقه وسعده، وذلك هو السلطان الأشرف خليل بن قلاوون.
أراد يوماً أن يحتفل احتفالاً مجيداً كمن سبقه من السلاطين العظام، واختار ميدان القبق لذلك الاحتفال، وأراد أن يجعل ذلك الاحتفال على ما شاء له الملك الضخم والغنى الواسع وبيت العز الجليل. وكانت الخاتون الجليلة زوجة السلطان على وشك أن تضع ولداً. وكان أكبر أمل الملك العظيم أن تلد له غلاماً يكون وارثاً لملك جده وأبيه، وسبق السلطان الأقدار إلى إعداد العدة لاستقبال المولود السعيد المنتظر، وكان يرجى أن يكون يوم ذلك الاحتفال هو يوم الوضع الموعود.
ومهد الميدان ورشت جوانبه، وجهزت أدواته وآلاته، وزينت طرقه وحواشيه، وأقبل السلطان في موكبه الفخم وركابه المهيب. وابتدأ الاحتفال يباهي الأيام الماضية بجلاله وضخامته، غير شئ واحد كان غير ماثل فيه، وهو جلال بيبرس العظيم وتعلق قلوب الشعب والجنود به. وجرى كل شئ على سننه المعتاد غير أمر واحد، وهو سعد السلطان بيبرس العظيم وتوفيقه. فما هي إلا جولة حتى أغبر الجو وأظلمت السماء، وثارت عاصفة
هوجاء يكاد الواقف فيها لا يرى جاره أو يستبين ما حوله. فتحول اليوم من احتفال وعيد إلى فوضى واختلال، وهدم في ساعة ما قضى السلطان في إعداده أياماً طوالاً وبذل في سبيله أموالاً طائلة. ثم وضعت الخاتون طفلها أنثى، ولم يتحقق أمل السلطان في وارث يحفظ الملك عقبه في بيته.
وهكذا تجري الأقدار في مسالكها الغامضة، وإنما يرى الناس منها الآثار التي تدهش لها الألباب وتعشى منها الأبصار، بغير أن يستطيعوا رؤية ما وراء ذلك من تدبير القضاء، فكان ذلك اليوم آخر ما شهده ميدان القبق من جليل الاحتفال. حقاً لقد عاد إليه بعض الملوك حيناً وأرجعوا إليه الحلبة، غير إن الروح لم يعد إليه، والروح سر عجيب لم تستطع البشرية أن تسمو إليه، فإنه يحل فلا تعرف أنه حل إلا من آثاره، ثم يذهب فلا تدرك ذلك إلا من آثار ذهابه، ولكنه غامض غموض المغيب المحجوب. ومن أعجب ما فيه أن السعد إنما يقبل مع إقباله، والنحس إنما يحل عند إدباره، وإنه إذا كان أدبر يوماً فلا جرم أنه يدبر لكي يعود في يوم آخر، ولو بعد حين.
محمد فريد أبو حديد
القتل السياسي
جريمة مرسيليا المروعة
عرض تاريخي لظروفها وبواعثها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم يشهد العالم منذ مقتل الأرشيدوق فرنز فردينند ولي عهد الإمبراطورية النمسوية في يونيه سنة 1914، جريمة سياسية أشد روعة وأبعد أثراً من تلك الجريمة التي وقعت في التاسع من هذا الشهر في مرسيليا، والتي ذهب ضحيتها المرحومان الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، ومسيو لوي بارتو وزير الخارجية الفرنسية. وقد كان مقتل الأرشيدوق فرنز فردينند فاتحة الأزمة الدولية الخطيرة التي انتهت بنشوب الحرب الكبرى، وكانت من أسبابها المباشرة. ومن المحقق إن جريمة مرسيليا ستحدث أثرها في شئون يوجوسلافيا الداخلية، وفي سير السياسة الأوربية بوجه عام؛ ومن الصعب أن نقدر منذ الآن مدى هذه الآثار، وإن كنا نشهد منذ الآن نذرها ومقدماتها.
كان الاغتيال وما زال على مر العصور وسيلة لتحقيق مآرب السياسة. وجريمة الأمس جريمة سياسية وقومية كما كانت جريمة سنة 1914. وقد شهدت أوربا في العصر الحديث طائفة حافلة من الجرائم السياسية الرنانة؛ وكان الملوك، والملوك الطغاة بنوع خاص هدف هذه الجرائم، ولم تكن هذه الجرائم شخصية، ولم تقع على الملوك أو الطغاة لمجرد أشخاصهم، ولكن لأنهم يمثلون في نظر الجناة نظاماً أو فكرة لا تتفق مع مثلهم القومية أو الديموقراطية. وكانت (النهليزم) الروسية أعظم مصادر الوحي للقتل السياسي خلال القرن التاسع عشر؛ وفي ظلها وبتدبيرها ارتكبت عدة جرائم رنانة على أشخاص القياصرة وأعوانهم من الطغاة؛ وذهب ضحية هذه الجرائم قيصران: اسكندر الثاني سنة 1881، واسكندر الثالث سنة 1885، وعدة من أكابر الحكام والساسة. ولما خبت ريح النهليزم في أواخر القرن الماضي خلفتها الدعوة اللاحكومية (الانارشي) في تنظيم الجريمة السياسية؛ وذهب ضحية هذه الدعوة عدة من الملوك والأكابر مثل كارنو رئيس الجمهورية الفرنسية، والإمبراطورة اليزابيث النمسوية، وماكفللي رئيس جمهورية الولايات المتحدة، ثم الملك
أومبرتو ملك إيطاليا الذي قتل سنة 1900 بعد عدة محاولات دموية مروعة. ووقعت في الأعوام الأخيرة على الملوكية عدة محاولات جديدة دبرها اللاحكوميون أيضاً، كان منها الاعتداء الذي وقع على الفونسو الثالث عشر ملك أسبانيا السابق (سنة 1926)، والاعتداء الذي وقع على جلالة ملك إيطاليا (سنة 1928).
هذه أمثلة قليلة من ثبت القتل السياسي الحافل الذي شهدته أوربا في العصر الأخير. ولكن جريمة مرسيليا تختلف عما تقدم في ظروفها وبواعثها؛ فهي جريمة قومية عنصرية كما سنرى؛ وهي أثر بارز من آثار ذلك الصراع الجنسي الذي تضطرم به أمة ينقصها التناسق الجنسي، والتضامن القومي، وتمثل فيها اقليات قومية غير راضية عن مركزها ومصايرها؛ وهي كذلك أثر من آثار ذلك الطغيان الحديدي الذي تعيش في ظله يوجوسلافيا منذ ستة أعوام، والذي تشعر بوطأته الأقليات الساخطة بنوع خاص. والقاتل بتروس كاليمن كرواتي الأصل، ينتمي إلى الشعب الكرواتي، أو إلى تلك الأقلية القوية التي ترزح تحت حكم الأغلبية الصربية ولا تشعر نحوها إلا بعواطف الغيرة والسخط. وقد وقعت الجريمة المروعة في ظل هذه المعركة الجنسية المضطرمة، واندفع الجاني أو الجناة في طريقهم بوحي الفكرة الجنسية التي تسيطر على شعب يعتقد أنه مغبون مضطهد مسلوب الحقوق.
ويجب لكي نفهم ظروف الجريمة وبواعثها الحقيقية أن نعود بضعة أعوام إلى الوراء، ففي سنة 1928، وقع الفصل الأول من حوادث هذه المأساة في بلغراد في بهو الجمعية الوطنية (اسكوبشتينا) ذاتها، وكان ذلك في مساء 20 يونيه، وكانت المناقشة تدور حادة بين نواب الأكثرية من الصرب والسلوفين، ونواب الاقلية المعارضة، وهم نواب الشعب الكرواتي حول العلائق اليوجوسلافية الإيطالية وموقف الحكومة منها، وكانت المعارضة ممثلة في حزب الفلاحين الكرواتي ورئيسه استيفان رادتش زعيم كرواتيا الوطني، والحزب الديموقراطي المستقل وزعيمه بربتش فتش؛ فلم تلبث المناقشة أن تحولت إلى نوع من السباب والتراشق المقذع؛ وعندئذ نهض أحد نواب الحزب الراديكالي الصربي، وهو حزب الأغلبية أو حزب الحكومة، وأطلق الرصاص على مقاعد حزب الفلاحين فقتل من نوابه اثنان أحدهما بول رادتش قريب الزعيم رادتش وأحد أقطاب الحزب، وجرح ثلاثة آخرون منهم استيفان رادتش نفسه زعيم كرواتيا الوطني. ووقع على أثر هذه الجريمة المروعة
اضطراب لا يوصف في بلغراد وفي كرواتيا، وأوقفت جلسات الجمعية الوطنية واستقالت الوزارة القائمة، واستمرت الأزمة الوزارية نحو شهرين. ثم كانت الطامة الكبرى بوفاة استيفان راديتش زعيم كرواتيا متأثراً من جراحه بعد ذلك بأسابيع قلائل؛ فشيعه مواطنوه إلى قبره في مظاهرات فخمة مؤثرة تجلت فيها البغضاء الجنسية التي يضطرم بها الكرواتيون نحو الصربيين ونحو حكومة بلغراد.
كان لهذه الفاجعة الوطنية أثر عظيم في إذكاء الأحقاد الجنسية في مملكة يوجوسلافيا الجديدة، وهي أحقاد تقوم على تراث التاريخ، وتنافر العناصر التي تتألف منها. ذلك أن مملكة الصرب القديمة المتواضعة استحالت عقب الحرب الكبرى إلى مملكة جديدة تسمى مملكة الصرب والسلوفين والكروات؛ تضم مملكة الصرب القديمة، وأمارة الجبل الأسود، وسلوفينا، وكرواتيا، ودلماسيا، والبوسنة والهرسك، وبعض أنواع أخرى من إمبراطورية النمسا والمجر القديمة. والشعب الصربي هو الكثرة بين هذه الأجناس المتنافرة، وهو صاحب الحكم والسيادة، وإليه تنتمي الأسرة الملكية ومعظم الوزراء والحكام والقادة. وكانت كرواتيا أو بلاد الكروات بين الولايات الجديدة أشدها مراساً وأعرقها قومية وتعصباً. وتشغل كرواتيا نحو خمس المملكة الجديدة وعاصمتها (زغرب) أو (أجرام) مدينة قديمة سكانها نحو ربع مليون وبها جامعة. والكروات شعب جبلي فلاح ساذج يبلغ زهاء ثلاثة ملايين من مجموع قدره ثلاثة عشر مليوناً. وكان الشعب الكرواتي قبل الفتح التركي في القرن الخامس عشر يتمتع باستقلاله في ظل مملكة بلقانية قوية، ثم غدت كرواتيا كما غدت صربيا والمجر ولاية عثمانية، وضمت منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى النمسا والمجر. ولم ينس هذا الشعب الجبلي الوعر استقلاله ونزعته القومية، فكان في ظل الإمبراطورية النمسوية يجيش بالأماني الوطنية، ويطمح إلى الاستقلال الذاتي؛ ولم يقف إلى جانب آل هبسبورج أثناء الحرب إلا طمعاً في تحقيق شئ من أمانيه القومية. واستمرت تحفزه مثل هذه الأماني في ظل يوجوسلافيا الجديدة؛ وكان بطل كرواتيا الوطني استيفان رادتش رئيس حزب الفلاحين أقوى الأحزاب الكرواتية وأشدها نفوذاً؛ وكان هذا الزعيم القومي الذي كونه مزيج من الثقافات الألمانية والفرنسية والروسية يسيطر ببيانه الساحر وخلاله القوية على مواطنيه ويقودهم حيثما شاء؛ وكان حزب الفلاحين حتى سنة 1925 جمهوري النزعة
يطالب بالاستقلال الذاتي؛ وكانت كرواتيا تضطرم من حين لآخر بالقلاقل والمظاهرات القومية؛ فتخمدها حكومة بلغراد الصربية بمنتهى الشدة؛ وتذكى بذلك أحقاد الكروات الجنسية. وفي سنة 1925 أدرك الملك اسكندر خطر هذه الحركة على وحدة يوجوسلافيا؛ فاستدعى الزعيم رادتش وتفاهم معه؛ وعقد اتفاق بين الصرب والكروات يمنح به الكروات بعض الحقوق والمزايا القومية؛ فهدأت حركة الكروات الاستقلالية نوعاً وأبدى الشعب الكرواتي شيئاً من الولاء نحو العرش والحكومة؛ واحتل الكروات مقاعدهم في الجمعية الوطنية؛ واشتركوا في حكم البلاد؛ وكان لهم في الجمعية 85 كرسياً أي نحو ربع مجموع الكراسي. ولكن هذا التفاهم لم يلبث طويلاً؛ لأن الجبهة العسكرية المحافظة التي تحكم البلاد من وراء الملك اسكندر لم يرق لها هذا التسامح مع الأقلية؛ ورأى الكروات من جهة أخرى أنهم لم ينالوا بهذا التهاون كل ما يطمحون إليه من المزايا الاستقلالية؛ فعاد سوء التفاهم بين الفرقين مرة أخرى؛ واشتدت الخصومة بينهما منذ سنة 1928؛ ووقعت في كرواتيا قلاقل جديدة؛ واتخذت المعارضة الكرواتية في المجلس اتفاقات (نتونو) التي عقدت يومئذ بين يوجوسلافيا وإيطاليا بشأن الحدود مادة لحملات قوية على حكومة بلغراد والملك اسكندر؛ واستمرت هذه الحملات في شدتها حتى ضاقت حكومة بلغراد وضاقت الأكثرية الصربية البرلمانية بها ذرعاً؛ ووقعت بين الفريقين في الجمعية مناقشات ومناظر عاصفة انتهت في 20 يونيه سنة 1928 بوقوع تلك المذبحة البرلمانية الرائعة، وسفك دم الزعماء الكروات في نفس المجلس الذي دعوا إلى الاشتراك في أعماله، ومصرع استيفان رادتش زعيم كرواتيا القومي ومعبودها الوطني.
وهناك أدرك الملك اسكندر خطورة الموقف، وحاول مرة أخرى أن يعمل على تهدئة الأحقاد القومية التي أثارتها الجريمة، ولكنه لم يستطع فيما يظهر أن يغالب نفوذ العسكرية المسيطرة على الحكم؛ فلم تتخذ حكومة بلغراد في شأن النائب أو النواب القتلة إجراءات جدية تهدئ الشعور المضطرم؛ وكان موقفها في ذلك كموقفها يوم مقتل الارشيدوق فردينند من عطف على الجريمة ورفق بالجناة؛ وأخمدت حركات زغرب عاصمة كرواتيا ومظاهراتها بشدة، وساد حكم الإرهاب في كرواتيا، وطورد زعماؤها وأبناؤها أشد مطاردة؛ وأبدت حكومة بلغراد وعمالها الصربيون في معاملة الشعب المغلوب منتهى الخشونة
والقسوة؛ فتوجست العناصر الأخرى شراً واشتدت الأحقاد القومية، وتعقدت الأزمة، وكادت يوجوسلافيا تنحدر إلى الحرب الأهلية؛ عندئذ لجأ الملك اسكندر إلى إجراء خطير حاسم؛ ففي 29 يناير سنة 1929 أعلن إلغاء الدستور والجمعية الوطنية، وأعلن نظام جديد يقبض الملك في ظله على كل السلطات، وتؤلف الحكومة من ستة عشر وزيراً، يُسألون أمام الملك شخصياً؛ وألغى تقسيم يوجوسلافيا القديم إلى ولايات عنصرية، وقسمت إلى تسع ولايات جديدة لكل ولاية حاكم مطلق؛ وغير اسمها من مملكة الصرب والسلوفين والكروات إلى مملكة يوجوسلافيا؛ وحل حزب الفلاحين الكرواتي، وقمعت كل حركة ومظاهرة عنصرية بمنتهى الشدة. وساد على يوجوسلافيا كلها حكم مطلق حديدي حتى اليوم. ولكن الملك اسكندر أبدى في اضطلاعه بمهام الحكم المطلق كثيراً من الحزم وبعد النظر؛ فاستقرت السكينة في البلاد، وخبت الأحقاد والنزعات القومية المحلية أمام البطش؛ ولكنها لبثت كالنار تحت الرماد تسري في صمت، وتتربص فرص الاشتعال. وكان من المستحيل إزاء هذه المشاكل العنصرية الخطيرة، وإزاء استئثار العنصر الصربي بالسيادة والحكم أن تحكم يوجوسلافيا بغير الحكم المطلق؛ ولم يكن في تقاليد العسكرية الصربية التي تحكم من وراء العرش، ولا في تقاليد أسرة كاراجورج فتش الجالسة عليه ما يؤيد النظم البرلمانية، أو يفسح لها أي مجال حقيقي.
وقد تولت أسرة كاراجورج فتش التي ينتمي إليها المرحوم الملك اسكندر بوسائل عنيفة أيضاً. وكان العرش قبلها لأسرة أوبرينوفتش يتولاه الملك اسكندر أوبرينوفتش حتى سنة 1903. وفي يونيه من هذا العام دبر الحزب العسكري بتحريض أسرة كاراجورج فتش مؤامرة كانت نتيجتها أن قال الملك اسكندر أوبرينوفتش وزوجته مدام دراجا ماشين التي أثار زواجه بها قبل ذلك بعامين ضجة كبيرة، في غرفة نومهما؛ وعلى أثر ذلك أعلن بطرس كاراجورج فتش، والد الملك اسكندر ملكاً؛ وعهد بمهام الحكم إلى الجناة الذين اشتركوا في مقتل سلفه، فدلل بذلك على إنه لم يكن بعيداً عن الجريمة. واستمر ملكاً حتى سنة 1921، وخاض غمار الحروب البلقانية والحرب الكبرى، وتولى ولده الملك اسكندر الحكم من بعده، وكان مولده سنة 1888، وكان أثناء حياة أبيه يتولى أخطر المهام العسكرية والسياسية، فأبدى حزماً ومقدرة في قيادة يوجوسلافيا الكبرى، ولكنه لم يوفق إلى حل
المشاكل العنصرية، ولم يستطع كبح جماح العسكرية كما قدمنا، وشاء القدر أن يذهب ضحية الأحقاد العنصرية على ذلك النحو المؤسي.
هذه هي حقيقة البواعث والظروف التي أدت إلى مقتل الملك الراحل، فالأحقاد القومية هي التي سلحت القاتل كاليمن وزملاءه الكرواتيين، وهي التي دفعتهم إلى ارتكاب جريمتهم الفظيعة انتقاماً لمصرع زعماء كرواتيا الوطنيين، وانتقاماً لما تلاقيه من آلام الاضطهاد المنظم. ومن المحقق أن سيكون للحادث أخطر الآثار في مصاير يوجوسلافيا، وإن كان من المستحيل أن نتنبأ اليوم بما سيكون. وقد تكون ثمت وراء الجريمة عوامل تحرض أجنبية عرفت أن تستغل الأحقاد العنصرية وأن توجهها، ولكن الجريمة تبقى مع ذلك جريمة عنصرية، باعثها الانتقام القومي.
إن المسألة الكرواتية تعتبر بالنسبة ليوجوسلافيا كالمسألة الأرلندية بالنسبة لإنكلترا، وستبقى خطراً دائماً على الوحدة اليوجوسلافية، مادامت العسكرية الصربية تأخذ بسياسة السيادة العنصرية، ومادام الشعب الكرواتي يشعر بأنه لم يأخذ حقه من العدالة والمساواة والاشتراك في أعباء الحكم.
أما المرحوم مسيو لوي بارتو، فقد كان ضحية بريئة للجريمة، ولم يقصده الجناة بالذات، وسيكون لمقتله أثر عميق في شئون فرنسا الداخلية، وربما في سياستها الخارجية.
محمد عبد الله عنان المحامي
ابن من يا فاجرة؟
للدكتور احمد زكي
وكيل كلية العلوم
كانت فاجرة لأنها ادعت ابنها الوليد لغير أبيه، وهي تعلم أنه لأبيه. وكان الرجل المتهم في عرضه، المقدوح في طهارته، رجلاً من ذوي الثراء، جمع من المال ما جمع في أيام صباه، من أعمال واسعة النطاق، وأشغال استغرقت كل زمانه فألهته عن ملذات الجسم ومتع الشباب. وبلغته الشيخوخة على حين غفلة، فأراد أن يدرك الفائت، وأن يلحق بالهارب، وأن يذكر نفسه، ويسترجع حسه، ويستجمع بقايا شبابه، فطلب الأنثى الشابة، فجاءته إناث كثيرات، فعلم أنهن لم يردنه، وإنما أردن ماله، وكان كلما أنس من بعضهن إلى الجناب الرفيق والصدر الحنون، وكان يهم بالخِطبة، هتف في نفسه الهاتف يقول: جناب عن قريب ينبو، وصدر لا يلبث أن يخون. وظل على هذه الحال زماناً، يحدوه أمله، وترده سنّه، وقام ثراؤه يتهم كل امرأة ولو أخلصته النية، ورضيت صادقة برعايته وحضانته وبتمريضه بكل ما فيها من أنوثة.
وفي أثناء ذلك اتصل بأحد المقربين إليه من مستخدميه، فشكا له الوحدة عرضاً، فذهب هذا المقرب إلى زوجته تلك الليلة يذكر لها الشكوى. وفي الصباح أتت الثري من الزوجة دعوةٌ على طعام، وتلت تلك الدعوة دعوات، في حضرة الزوج، وفي غير حضرة الزوج، وكثيراً ما حضرها الشباب من الصحاب، فامتلأت البطون، واحتر الدم بالرقص والشراب، وكثيراً ما نسى الشيخ وقاره في تلك الأجواء الزائطة، فنال من الزوجة المضيافة القبلة بعد القبلة، فأعطت عن سخاء، على أعين ضيوف اليوم الفرحين، وشهود الغد المحرجين.
فلما ولد المولود، وهم الشيخ بالتبريك، جاءه رسول القضاة يعلن اتهامه. وانعقدت المحكمة، وجاءها الشهود كأنما كانوا على موعد، فأثبتوا روحاته وجيئاته، وأثبتوا اختلاءه، وأثبت الزوج تغيبه ولم يبق على استقلال الطفل بكل تلك الثروة الواسعة من بعد أبيه إلا حكم المحكمة.
وفي اللحظة الأخيرة طلب الدفاع بحدة العلم، والالتجاء إلى المعمل عسى أن تكون عنده الشهادة التي لا تُرد، وفي الغد أو الذي يليه احتكموا عند أحد الأخصائيين المحلفين إلى
قطعة زجاج، وبعض سوائل في أنابيب، ثم إلى المكرسكوب - جمادات كلها لا تكذب إذا كذب الإنسان. وبذلك، وبذلك وحده، نجا الشيخ من الشرَك، ونذر ما عاش أن يبتعد عن الآنسات ميلاً، وعن المتزوجات أميالاً.
ثم غلب التهمة الملحة في نفسه واقترن بأرملة، باعدت عنه الريب وحملت عنه أعباء الحياة.
أما همنا اليوم ففي تلك الأشهاد من الجماد. وقصة ذلك إن الدم الإنساني يتركب من كرات حمراء وأخرى بيضاء، يسْبحن في سائل يسمى المصل، عديم اللون أو هو كلون زلال البيض، يحتوي عدة مواد ذائبة فيه. وقد كشف العلماء في الكرات الحمراء عن مادتين تسمى أولاهما ألفاً والثانية باء. ووجدوا فوق هذا أن الكرات الحمراء للرجل (أو المرأة) قد تحتوي على المادة ألف وحدها، وقد تحتوي على المادة باء وحدها، وقد تحتوي على كليهما معاً، وقد تخلو منهما جميعاً. وبناء على ذلك قسموا الناس إلى مجموعات أربع: مجموعة ألِفية، ومجموعة بائية، ومجموعة ألفبائية، ومجموعة صفرية، نسبة إلى الصفر في قولك رجل صفر اليدين أي خاليهما. فأنا وأنت وكل أحد لابد واقعون في أحد هذه الأقسام. وتعرف المجموعة التي ينتسب إليها الفرد من تفاعلات تقع بين الدماء عند خلطها. فهب أني أنا من المجموعة الألفية ولا فخر، وهب أنك أنت من المجموعة البائية ولا حط من قدرك، فلو أنك أخذت شيئاً من دمي، وفصلت عنه مصله ومزجته بنقطة من دمك لتجمعت كراتك الحمراء وتزاحمت في هلع وارتياع، كقطيع النعاج داهمها الذئب، فاتخذت تحت المكرسكوب شكل عنقود العنب. وسبب هذا أن بدمي مادة معادية خصيمة لكراتك الحمراء، أو بالأحرى للمادة البائية التي بها. وعلى هذا تسمى مادتي هذه بالخصيمة البائية.
ولو أنك مزجت مصل دمك بدمي لتعنقدت كراتي الألفية كذلك، لأن بمصلك الخصيمة الألفية. فبدمي إذن المادة الألفية والخصيمة البائية، وبدمك أنت المادة البائية والخصيمة الألفية، والزوجان في دمك وفي دمي بالطبع على غاية المحبة والوفاق وإلا لتعنقدت كراتنا جميعاً وودعنا الحياة، لأن تلك الكرات لابد من نفاذها في الشعريات الدموية الرفيعة التي تصل ما بين الأوردة والشرايين وهناك دم ثالث نستعير لشرحه صديقي الأستاذ الزيات، فدم الأستاذ تجمع كراته الحمراء المادتين ألفاً وباء معاً، فلو أنك خلطت نقطة من مصلي
بقطرة عزيزة من دمه لتعنقدت كراته، ولو أنك خلطت نقطة من مصلك بتل القطرة لتعنقدت كذلك، فصديقي الزيات من المجموعة الألفبائية. أما الدم الرابع فخالية كراته من كلتا المادتين فهي لا تتعنقد لا بمصلي ولا بمصلك.
وتابع العلماء دراسة دماء الناس في نواحي المعمورة تقصياً في البحث، وامتحنوا دماء الصغار والكبار، والأبناء والآباء لآلاف من الأسر ليتعرفوا العلاقة التي قد تكون بين الولد والأصلاب والأرحام التي انحدر منها، فوجدوا قوانين مطردة على مقتضاها ينسل الناسل. من ذلك أنهم وجدوا أن الطفل الألفي يتحتم أن يكون من أبوين أحدهما على الأقل ألفي. وأن الطفل البائي يتحتم أن يكون من أبوين أحدهما على الأقل بائي. وأن الأب أو الأم إن كان أحدهما ألفبائياً ورّث كلاً من بنيه ألفاً أو باء. فالرجل الألفبائي لا ينتج طفلاً صفرياً. كذلك إن كان الطفل ألفبائياً تحتم أن يكون قد ورث ألفاً من أحد أبويه وباءً من الآخر؛ ومثل هذا الطفل لا ينتج عن أب صفري.
وفي قضية الشيخ المثري التي فات ذكرها امتُحن دم الزوجة بأخذ قطرة دم من أنملها، وقسمت القطرة قطرتين، مزجت إحداهما بمصل الخصيمة الألفية فعنقدت كراتها، ومزجت الأخرى بمصل الخصيمة البائية فلم تتعنقد الكرات، فقُضي بأن الأم من الفصيلة الألفية. وامتُحن دم الوليد على هذا النحو فكان من الفصيلة البائية، فلزم على هذا أن يكون أباه بائياً أو ألفبائياً. فامتُحن الزوج فكان بائياً. وامتحن الشيخ فكان صفرياً، فنجا.
على إن امتحان الدم قد لا يؤدي إلى نتيجة حاسمة. فلو أن الشيخ كان بائياً أو بائياً ألفياً لجاز أن يكون الوليد من صلبه، ولجاز أيضاً ألا يكون. وقد حسب حاسب عدد الحالات التي يمكن فيها الجزم بوالد الطفل منسوبة إلى الحالات جميعها التي يحدث فيها اشتباه، فوجد أنها تبلغ الثلث.
وأريد أن أنبه أن المعمل قد يبرئ، ولكنه لا يستطيع وحده أن يتهم أحداً. فهب أن الولد كان بائياً، والأم ألفية، وكان زوجها ألفياً، وامتحن الشيخ فكان بائياً، فهل يقطع بأبوة الشيخ من أجل شهادة المكرسكوب وحدها؟ كلا. فكم من الرجال بائيون! ولم لا تكون الزوجة اتصلت بأحدهم؟ وإذن كان يتحتم على الاتهام إثبات ما كان بين الشيخ والمرأة في مسالك الحياة.
احمد زكي
عصران في دار
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
هي أسرة واحدة تعيش تحت سقف واحد، ولكن عصور أفرادها متباعدة، وثقافاتهم متعددة متفاوتة، والحضارات التي يمثلونها لا تنفك تتصادم وتحترب في دارهم. وقد عرفت بعضهم في لبنان وبقيتهم في مصر، وكنت أتمشى يوماً قبل الغروب في طريق (ضهور الشوير)، والشوير (ضيعة) كما يسمونها، أو قرية في واد يشرف عليه الجبل، فهذا هو (الضهور) أو (الظهور)، فملت إلى مكان هناك يسمونه (قهوة الحاج ياس) وهي قائمة بين بساتين فاكهة وزهر، فلمحت في طريقي من ظننتها واحدة ممن عرفتهن هناك، فحثثت الخطى إليها، فإذا هي فتاة لا عهد لي بها، ولي بنظري قِصر، ولكني كنت مطفلاً، وكانت الشمس قد اصفرت وضعف ضوؤها، وكان الشجر يحجب وجهها عني - أعني الفتاة لا الشمس - فلي العذر إذا أخطأت. وعلى أنه خطأ لم يسؤ وقعه في نفسي. بهذا أعترف. وكانت جالسة ترسم فأغراني هذا بها، فدنوت منها على أطراف أصابعي، ثم وقفت أتأملها - من وراء ظهرها - وهي مقبلة على اللوح. فلما طال ذلك عليّ، وهي لا تلتفت وراءها، تنحنحت، فأدارت وجهها بسرعة وقالت:(أوه!) ولم يكن في وجهها لا ابتسام ولا دهشة، كأنما كان من المألوف عندها أن تسمع الناس يتنحنحون وراءها وهي ترسم!.
فقلت وقد أحسست أن الفتيات عسراً:
(هل أزعجتك؟)
فقالت وهي ماضية في رسمها وغير ناظرة إليّ:
(أزعجتني؟؟ هل سمعتك تقول إنك أزعجتني؟)
وكانت لهجتها واشية باحتقار يحول الأدب دون ظهوره على وجهها، أو لعل الأصح أن أقول في اللهجة تهكماً خفيفاً حملته على محمل الاحتقار، فحقدتها عليها - في سري - غير أني لم أظهر ذلك لها واكتفيت بأن أقول:
(هذا ما كنت أخشى - فالحمد لله!)
فمضت في تخطيطها على اللوح وقالت: (إذا كنت تريد أن تتكلم فاجلس). فكانت هذه صدمة ثانية. فتلجلجت قليلاً وقلت (أ. . . أ. . . أجلس؟) فقالت وهي مكبة على اللوح (آه.
معذرة. . ثيابك بيضاء نظيفة، والأرض بليلة. . . مفهوم).
فاجترأت وقلت: (هل تريدين أن تدعيني إلى الجلوس؟.)
فقالت: (وماذا أصنع بك جالساً أو واقفاً؟ معذرة! إن غرورك هو الذي أجرى لساني بهذا الكلام)
فسألتها وأنا مبهوت: (غروري؟)
فقالت بلا اضطراب: (أعني غرور الرجال. . . وكنت تستطيع أن تدرك قصدي ولا تحوجني إلى الإيضاح)
وكنت في أثناء هذا الحوار لم أبرح مكاني وراءها، فتحولت حتى صرت أمامها وقلت وفي صوتي نبرة غضب مكظوم:
(هل تستطيعين أن تدعي أن بيني وبينك ثأراً قديماً؟)
فأدهشني أنها أجابت ببساطة ومن غير أن ترفع وجهها إليّ:
(ثأر؟ أوه لا!. ولكن ألا ترى أن أمثالك لا خير فيهم لمثلي)
فقلت: (معذرة فإني غير فاهم!.)
قالت: (بالطبع! ولست وحدك الذي لا يفهم. . . كلكم هكذا. . . لأنكم تفكرون بعقول معطلة. . . أعني أن أهواءكم تغلبكم وتدفع عقولكم في مجراها، وتمنعكم أن تفكروا في حاجات غيركم مثل تفكيركم في حاجاتكم. قد يبدو هذا القول غريباً من فتاة مصرية، لأن الفتاة في نظركم ليست سوى مطية. . . لا تستغرب هذه الصراحة، فلستم وحدكم كل من تعلموا وذهبوا إلى أوربا ورأوا بعيونهم وفكروا بعقولهم. . . ما علينا من هذا. . . نعم الفتاة ليست عندكم سوى مطية. . . لا تجادل من فضلك. . . لا تحاول أن تكذب. . . كلا. . . لا تقاطعني. . . إنك هنا لتتحكك بي. . . هذا واضح. . . بالطبع! دعني أتمم كلامي، لقد كنت أقول حين هممتَ بمقاطعتي إنكم معشر الرجال تعتقدون أن الفتاة مطية، وإنها لكذلك، ولكنها غير ذلك أيضاً. . . إعترف بصراحة. . . هل خطر لك مرة واحدة أن الفتاة أكثر من مطية؟!)
فخجلت لأني لم أكن أنتظر أن أسمع هذه المحاضرة، وأورثتني المفاجأة اضطراباً فقلت:
(ولكن هل من موجب لهذا الكلام؟؟ إنني. . .)
فقاطعتني قائلة (نعم فإنك ما جئت إلى هنا إلا وفي أملك أن تقضي دقائق لذيذة مع فتاة ترجو أن تؤاتيك وأن تنيلك دقائق أخرى ألذ منها وأعذب)
فهممت أن أقاطعها ولكنها أومأت إليّ فسكت، واضطجعت هي على الكرسي وقالت:
(لا تكابر. . . واسمع مني، ولا تعجب إلا إذا كنت غبياً. . . لا مانع عندي البتة أن أمنحك الدقائق اللذيذة لو كنت تستحقها في نظري. . فإني أنا أيضاً أطلب لنفسي دقائق لذيذة وأشتهي أن أتمتع بحياتي وأفوز بنصيبي من لذات الدنيا، ولكن هناك لذائذ أخرى تعدل هذه وتستبد بالنفس وتغلبها على أهوائها الأخرى. . . هذا التصوير هو مهنة لأكل العيش إلى حد ما، ولكنه أيضاً فن يزاول لذاته وبغض النظر عن المنافع المادية. . إني حرة. . فقيرة، نعم، ولكني أجد الكفاية، وقد استطعت أن أتعلم أرقى تعليم تسمح به مواردي، والباقي أحصله باجتهادي. . درست التصوير في إنجلترا ثلاث سنوات بينما كنت مبعوثة إليها لأدرس شيئاً آخر، ولكني لا أتكسب به. نعم أبيع بعض صوري، ولكني استخدم ثمنها في إتقان فني. . في تجويد أداته. . لقد بعدت عن الموضوع جداً. . . على الأقل في نظرك. . ولكن هذا الشرح كان لازماً لأمثالك حتى يستطيع أن يجتنب إساءة الظن حين أسأله. . هل تستطيع أن تكون أنموذجاً لصورة؟)
فصحت (إيه؟ أنمو. . .)
قالت مقاطعة (نعم، أنموذج لصورة. . إن جسمك ليس معتدلاً، وقوامك. . . غير حسن. . وهذا ليس غزلاً مقلوباً من فضلك. . ولكن لو أمكن أن أرسمك وأنت عار. . ولكن بالطبع لا تستطيع. . . كلا. . . لا تستطيع. . . لا فائدة. . . خسارة. . . إن في ذهني صورة تصلح لها، ولكن الحياء الكاذب. . كلا. . لا فائدة)
فكدت أجن من جرأة هذه الفتاة، ثم تصورت نفسي واقفاً أمامها - على رجل واحدة!. وأنا كما خلقني الله فقهقهت، فصعّدت إليّ طرفها مستغربة مستفهمة، فلم أكتمها ما دار في نفسي وتمثل لخاطري، ثم تعارفنا.
وفي مصر رأيت أباها، وهو شيخ في السبعين من عمره، تخرج في دار العلوم وزاول التدريس حتى أقعده الكبر، ولكنه لا يزال على ارتفاع سنه نشيطاً. ومن شذوذه أنه لا يقنع بأن ينفى العامية من كلامه، بل يفرض الكلام بالفصحى حتى على الخدم.
كنت معه يوماً، وكنا جالسين في حديقة البيت، فبصر بالخادم، فصاح به (ليس هكذا؟)
فانتفض الخادم ودار حول نفسه، وقال بلهجة الممتثل لقضاء الله فيه ولاستبداد هذا المجنون به:
(أفندم؟)
قال الشيخ: (ليس هكذا)
فعاد الخادم يسأل (أفندم؟)
فقال الشيخ مفسراً: (أقول ليس هكذا. ارفع رأسك وافتح صدرك. ألم أنهك أن تمشي متخلعاً؟)
فقال الخادم معترفاً: (أيوه يا أفندم؟)
فصاح به الشيخ: (قل نعم يا جاهل! أو بلى)
فاستغرب الخادم وسأل بلهجة المنكر: (بلى؟)
قال الشيخ (بلى)
فعاد الخادم يسأل (بلى؟)
قال: (نعم بلى! ماذا تظنني أقول؟)
قال الخادم: (بلى!)
قال الشيخ: (إذن قلها)
فحاول الخادم أن يعيدها ولكنه نسيها فجعل يقول: (أ. أ. بـ. بـ. . . وحك رأسه.
فأنكر الشيخ ضعف ذاكرته وقال: (نسيت بسرعة؟)
فتذكر الخادم وقال: (أ. . . بلى)
فعاد الشيخ يصيح: (مدهش! قل (لا) في هذا الموضع)
فظن المسكين أن عليه أن يردد كل ما يسمع فقال: (لا في هذا الموضع)
فضجر الشيخ وصاح: (ماذا كنت قبل أن تجئ إلى هنا؟ ببغاء؟)
فكرّ الخادم مسرعاً إلى الأولى استرضاء للشيخ وقال (أ. . . أ. . . بلى)
فيئس الشيخ وقال وهو ينظر إليّ (لا فائدة. . . لا فائدة!)
وحسب الخادم أن الكلام له فقال: (بلى.)
فصاح الشيخ. (اذهب. . . اذهب. . . وارم نفسك في بئر.) فظن المسكين أنه يحسن به أن يقول شيئاً آخر فقال:
(لا في هذا الموضع)
هذه هي الأسرة - أو على الأصح، هذا هو الأب، وتلك فتاته، وهما يعيشان في بيت واحد تحت سقف واحد، ولا أدري أيشعران أم لا يشعران بما بينهما من مسافة الزمن التي تحسب بالقرون، ولكن الذي أدريه أنهما على تباعد عصريهما سعيدان. وقد ساعد على ذلك وأتاحه سعة أفق الفتاة وما تمتاز به الشيخوخة من الحلم والجنوح إلى التسامح، أو الضعف إذا شئت. . .
إبراهيم عبد القادر المازني
نبتون
للأستاذ راشد رستم
في ناحية من نواحي الحديقة المنسقة الواسعة، أنشأوا بحيرة صغيرة صافية، وحول هذه البحيرة الساكنة قامت الأشجار عظيمة السيقان، كثيرة الأغصان - تباعدت في الأرض جذوعها، والتقت في السماء فروعها - دوحة خضراء، نادرة المثال في هذا النوع من التنسيق والجمال، اتخذت منها الأطيار الوديعة أراجيحها اللينة، وأقامت فيها أعشاشها الآمنة.
وفي وسط هذه البحيرة الصغيرة أقاموا تمثالاً كبيراً لأله البحر الأعظم: نبتون بن زحل. . .
أقاموه في هذا المكان الهادئ، واقفاً يحمل في يمناه صولجانه مثلث الأسنان، ويمد يسراه في اطمئنان مشيراً إلى الماء الخاضع في هدوء عند قدميه، وكأنه يقول: هذا ملكي، هذا عرشي!
أي نبتون! مزعزع ركن الثرى
ما كنا لنجهل ملكك، أو نسلبك عرشك.
رمز لظلمات ذلك الخيال المضطرب لما رآك أجدادنا المتقدمون؛ ولذلك الرعب الآخذ بنفوسهم لما تركوك إلى برهم؛ ولذلك التعدي، وقد جهلوه منك، عندما حاولت أن تصل إليهم بمدك؛ ولذلك الفشل، وقد تمنوه لك، لما عدت عنهم خائباً بجزرك.
على أنك لا تزال تطغى ولا ترحم، وستهشم ما تصل إليه يدك في غدك، كما كنت تفعل في أمسك، وإن كنت تحوي الدر، وتؤدي خيراً، فإنك لا تدري إن هذا خير وذاك در.
إن هذه البحيرة الصغيرة الهادئة لا تستحق من أهل السلام وأهل الجمال، أن تقوم أنت وسطها على جزيرة لا تكاد تفي بموطئ قدميك، تقوم فيها بثقيل هيئتك، وكالح وجهك وخشن شكلك. وهنالك في المحيط الواسع جزائر عظمى، خذها مسكناً وصقيلاً، فعندها تجد لخشونتك مجالاً، ولوحشيتك ميداناً، وهنالك حيث أهلها وسكانها أقرب طباعاً لما يرضيك، فتتخذهم أعواناً أو عبيداً أو خلقاً جديداً، تسخرهم فيما تشاء من إغراق وإغداق، وتراهم يرتاحون لجوارك ويحافظون على سلطانك، وهم يرون في عتوك وجبروتك حماهم الذي
لولاه لكانوا في الأرض أغناماً لسباعها، أو أسلاباً لناسها.
أيْ نبتون!
تضيع بهجة هذا المكان، وتذهب وداعة هذه البحيرة، مادمت قائماً فيها برمزك هذا الخشن.
وكأني بصاحب المكان فظاً غليظ الفؤاد، إذ يجعل جباراً يداعب ضعيف الجناب! أي ضعف في الذوق! وأي خشونة في الطباع أشد من أن يقيم المنسق رمزاً للخشونة الواضحة، والقسوة المتجددة، في المكان الساكن، ذي الروح الوديعة، والجو الهادئ. . .
كأني بهذا المنسق، وقد أقامك بين هدوء المكان وبهجته، بل وقد حبسك في هذا القفص الرطب. كأني به يستهزئ من قوتك، ويستنزل من شأنك، فيقيم الرمز الثقيل في بحيرة صغيرة، تكاد تكون نقطة في بحرك.
أم أن هذا المنسق حكيم بصير! أراد تغليب صفاتك القاسية على ميزات المكان اللينة، فيقول للناس بذلك، وهم وقوف عند البحيرة المسكينة المستسلمة - يقول: أحقاً أيها الناس أرباب العواطف، أحقاً تشعرون بجمال هذا المكان ووداعته، وهاهو ذا تمثال طاغية يذكركم بأمواج كالجبال، وطباع كالبحار، ودخيلة لا أمان لها؟ أتظنون أن طائر الرحمة والرضا، يأوي إلى القلوب، وهو يرى رمز القسوة والحماقة قائماً ماثلاً؟
أتظنون أيها الفنانون أن في هذا العالم جمالاً صافياً خالياً؟ جمالاً للجمال. . .
لا أدري حقيقة ما يقصد صاحب المكان، ولكن خطأ يا سادة أن تقيموا هذا الرمز الخشن في هذه الطبيعة الناعمة. إن من جمال النفس أن تجمع بين الماء والخضرة (والتمثال) الحسن.
وإن الذي يأتي إلى هذا المكان الهادئ، لا يقيم قليلاً حتى يمسه تيار قاتم من روح هذا الجبار العتيق. يشعر وسط هذا النعيم الأخضر بلفحات من جحيم الحياة القاسية.
فيا حراس المكان وحفظة السلام، ويا أهل الجمال، أزيلوا هذا الرمز الخشن، وردوه إلى حيث تتناسق صفاته وقسوة الطبيعة فتكونون قد صنعتم جميلاً، وأرضيتم أهل الخيال وأهل الحقيقة.
(حديقة انطونيادس)
إسكندرية
راشد رستم
5 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
العناصر الرئيسية التي تتكون منها الشخصية القوية:
الثقة بالنفس والاعتماد عليها:
من العناصر الأساسية في تقوية الشخصية الثقة بالنفس أولاً، والاعتماد عليها ثانياً. ومتى وجدت الثقة بالنفس فمن السهل الاعتماد عليها في كل عمل ممكن من الأعمال، وفي التغلب على صعوبات الحياة. والسبب في كثرة الاعتماد على الغير أن الغريزة الاجتماعية قوية في الجنس البشري متأصلة فيه، وأننا اعتدنا التفكير الجمعي لا التفكير الاستقلالي. فينبغي أن نعود الأطفال الاعتماد على أنفسهم، والاستقلال في تفكيرهم من غير اتكال على أحد، حتى يستطيعوا في المستقبل أن يعيشوا معتمدين على أنفسهم. ولا نريد بذلك أن يعتزل الإنسان العالم وينقطع عن الناس، ويفكر في نفسه فحسب، فليس هذا من الإنسانية في شئ، بل إنهباعتزاله غيره يفقد كثيراً، ولا يربح إلا قليلاً. ولكننا نريد تعويد الأطفال الاستقلال الشخصي والقدرة على القيام بأعباء الحياة من غير اتكال على الغير في كل شئ، حتى يمكنهم أن يقوموا بواجبهم نحو أنفسهم ونحو المجتمع. والاعتماد على النفس يتطلب الثقة بالنفس، والدقة في العمل، والتحقق منه، حتى تكون أحكامنا صائبة، وأمورنا نافذة، وأقدامنا ثابتة. أما إذا انتفت الثقة بالنفس أو الدقة في العمل، أو التثبت منه، فالاعتماد على النفس حينئذ يكون عبثاً ومن قبيل الأحلام. والرجل الواثق بنفسه ثقة بعيدة عن الغرور والاستبداد، الواثق بقوله وفعله - يستطيع أن يقف وحده منادياً برأيه مبرهناً على سداده وصوابه. وليس من يستقل برأيه في أمر من الأمور يكون مخطئاً دائماً، بل قد يكون مصيباً في رأيه، وقد يسبق في آرائه المجتمع الذي يعيش فيه بعشرات السنين، كما هي الحال في المصلحين الذين يكونون غالباً في واد والمجتمع في واد آخر، لا يقدر رأيهم إلا بعد مماتهم. وبالمصلحين الذين يثقون بأنفسهم يحيا المجتمع. وإذا مدحنا الثقة بالنفس فلا نمدح الإفراط فيها؛ لأنه قد تكون علامة على الضعف لا على القوة، كما لا نمدح ضعف
الثقة فإنه دليل على ضعف الشخصية.
المزاج:
من العناصر الهامة المؤثرة في الشخصية: المزاج؛ فالناس يختلفون في أمزجتهم كما يختلفون في شخصيتهم، فهذا متفائل، وذاك متشائم، هذا سريع التأثر، وذاك بليد لا يكاد يتأثر، هذا كثير التردد، وذاك كثير الإقدام. كل له مزاج خاص، وسلوك يختلف باختلاف ذلك المزاج. ولكن ما السبب في اختلاف هذه الأمزجة؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نذكر رأي العلماء قديماً وحديثاً، حتى تتضح لنا الأسباب التي من أجلها اختلفت الأمزجة فنقول:
إن العلماء قديماً حاولوا تقسيم الأمزجة إلى أربعة أقسام: دموي، وصفراوي، وبلغمي، وسوداوي. وبنوا هذا التقسيم على السوائل والإفرازات الجسمية. فالشخص الاجتماعي المتفائل الواثق بنفسه، الغيور على عمله، الصافي الذهن، الحاد الذاكرة، كانوا يعتبرونه كثير الدم، وبعبارة أخرى دموي المزاج. والشخص العنيد السريع الانفعال القوي الإرادة، كانوا يقولون إن لديه كمية زائدة من الصفراء، أو المِرة، ويدعونه صفراوي المزاج. والشخص الهادئ، الذي يغلب عليه الكسل، وتلوح عليه البلادة، الذي لا يبالي ولا يكترث كثيراً ولا يتأثر بسهولة، كانوا يحسبون أن عنده مقداراً زائداً من البلغم، ويسمونه بلغمياً.
أما الشخص الذي تنتابه الأحزان، وتلعب به الوساوس، وتتقاسمه الهموم والمخاوف من غير سبب ولأقل سبب، فكانوا يخالون أن لديه زيادة في المِرة السوداء أو الطحال، ويعدونه سوداوياً. وقد زاد بعضهم مزاجاً خامساً وهو المزاج العصبي الناشئ من وفرة السائل العصبي.
أما المحدثون من العلماء فيرون أن هذا التعليل قديم ولا قيمة له من الوجهة العلمية؛ لأنه مبني على الجهل بعلم وظائف الأعضاء، وعلى نقص في المباحث العلمية قديماً. وهم إن أنكروا هذا التعليل في اختلاف الأمزجة لا ينكرون اختلافها، ويسلمون بتعدد أنواعها، ويعتقدون أن هناك أسباباً أخرى لاختلاف الأمزجة كالوراثة، والبيئة، والغذاء، والمرض، وضعف الأعصاب، كما يعتقدون أن إفرازات الغدد لها أثر كبير في اختلاف الأمزجة؛ فمزاج الشخص يختلف باختلاف قوة إفراز الغدد أو ضعفه. فلهذه الإفرازات تأثير كبير في
الجسم والعقل، وعنها وعن الأمر السابقة ينشأ الاختلاف في الأمزجة. فالمزاج في رأي المحدثين يتأثر بالمواد الكيميائية وإفرازات الغدد المختلفة التي يحملها الدم إلى المخ والعضلات، لا بوفرة الدم أو الصفراء أو البلغم أو السوداء كما يقول القدامى من العلماء. ومن هذه الغدد:
(1)
الغدتان الخاصتان بالكليتين، ولمهما صلة بالانفعالات والعواطف؛ فإذا كان إفرازهما قوياً كان الشخص سهل التأثر، سريع الغضب، وإذا كان إفرازهما ضعيفاً كان حليماً بطئ التأثر قليل الغضب.
(2)
والغدد النكفية. وهي غدد صغيرة أسفل العنق، ولها صلة بالذكاء؛ فإذا كانت قوية الإفراز كان الشخص ذكياً، وبالعكس. ويرى (مكُدوجُل) وهو حجة في علم النفس أن الضعف العقلي قد ينشأ عن قلة إفراز الغدد النكفية أو عن عدم وجودها.
(3)
وغدة تفاحة آدم ولها صلة بنشاط الشخص ومثابرته على العمل، وبالتجربة رأى بعض الأطباء وعلماء وظائف الأعضاء أن للغد تأثيراً قوياً في الإنسان، وقالوا - ونرجو أن تثبت التجارب قولهم - إن العمليات الجراحية يمكن أن تنظم إفراز غدتي الكليتين، وتغيير سلوك الشخص وطباعه. وإذا ثبت أن للغد تأثيراً كبيراً في ذكاء الشخص ومزاجه فينبغي التفكير في معالجة الضعف العقلي، وحدة الطبع من الوجهتين الطبية والنفسية معاً.
ومجمل القول أن الشخصية القوية يجب أن تتحقق فيها العناصر الآتية:
(1)
الجاذبية، (2) النشاط العقلي أو الذكاء، (3) المشاركة الوجدانية، (4) الشجاعة، (5) الحكمة، (6) التفاؤل، (7) التواضع وعدم التصنع، (8) حسن مظهر الإنسان وقوامه، (9) قوة البيان، (10) الثقة بالنفس والاعتماد عليها، (11) اعتدال المزاج.
وهناك صفات أخرى كثيرة لابد منها في الشخصية. سنتكلم عنها فيما بعد عند التكلم على أنواع الشخصية والصفات الكمالية لها. ولكن العناصر المذكورة هي الأساسية في تقوية الشخصية الضرورية للنجاح في الحياة.
يتبع
محمد عطية الأبراشي
بين فن التاريخ وفن الحرب
4 -
خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
الحركات الأولية:
والواضح من أخبار الرواة أن مناوشات طفيفة وقعت قبل أن يتسلم خالد بن الوليد قيادة الجيش للقضاء على أهل الردة في بلاد نجد.
والظاهر أن الرواة لم يتفقوا على أخبار هذه المناوشات جرياً على عادتهم، والروايات المنتهية إلى سيف بن عمر وهو الراوي الذي يستند إليه الطبري في ذكر الكثير من أخباره تبحث في قتال عنيف وقع بين المسلمين وأهل الردة قبل أن يزحف خالد بجيشه إلى طليحة بن خويلد الأسدي في بزاخة. أما الأخبار التي يرويها الواقدي والبلاذري فتذكر قتالاً طفيفاً جرى في ذي القصة أو البقعاء بين مقدمة المسلمين وعبس وذبيان انتهى بهزيمة المرتدين بعد أن رأوا أن كوكب (القسم الأكبر) جيش المسلمين وصل لنجدة المقدمة، وإن قسماً من هذا الجيش طاردهم إلى ثنايا العوسجة، ولما لم يلحق بهم عاد إلى المعسكر.
ولم يتفق الرواة على هذا القتال أجرى قبل عودة جيش أسامة بن زيد أم بعد عودته من بلاد الشام.
ومن الأخبار ما تروي أن كبار الصحابة أشاروا على أبي بكر ألا يرسل جيش أسامة بعد أن وردت الأخبار بارتداد العرب، إلا أن أبا بكر لم يقدم على تغيير ما أمره الرسول به في حياته. والذي اتفق عليه الرواة أن جيش أسامة لم يغب عن المدينة أكثر من شهرين، وكان الجيش متجمعاً في الجرف في شمال المدينة لما توفى الرسول. ومع أن أكثر الرواة يزعم أن أخبار الارتداد في الشرق وفي الشمال وفي الجنوب الشرقي وردت قبل حركة جيش
أسامة - وذلك ما جعل كبار الصحابة يشيرون على الخليفة بإبقاء الجيش ليعتز المسلمون به في محاربتهم أهل الردة - إلا أن الواقع لا يؤيد ذلك إذ لا يعقل أن يصل نعي النبي إلى بلاد عمان والبحرين فيرتد أهلهما ويصل ذلك النعي إلى المدينة وجيش أسامة قاعد لا يحرك ساكناً. وإذا كان الخليفة يريد أن ينفذ أوامر الرسول فلماذا يؤخر حركة هذا الجيش طول هذه المدة؟ وتدل الأنباء على أن أول من أنبأ بالارتداد عامل مكة وأعقبه عامل الطائف بالخبر، ثم ورد عمرو بن العاص إلى المدينة بخبر ارتداد أهل عمان والبحرين ونجد، وكان الرسول بعد حجة الوداع قد أوفده إلى عمان، فلما بلغه نعي النبي قفل راجعاً إلى المدينة وأخبر بوضوح أن الغرب ارتدت من دبا إلى المدينة، والمدة التي تصل فيها أخبار الوفاة إلى عمان ليست قصيرة، كما إن السفر من عمان إلى المدينة أيضاً يتطلب عدة أيام، لأن المسافة بين عمان والمدينة 1250 ميلاً (أعني مسيرة أكثر من عشرين يوماً على الذلول)
ومن الواضح أن كبار الصحابة لم يرتأوا إبقاء جيش أسامة بمجرد رؤيتهم قبائل فزارة وغطفان يرتدون، والأمر الذي لاشك فيه أن خبر امتناع بعض القبائل العربية القريبة من المدينة عن تأدية الزكاة وردت إلى المدينة قبل حركة جيش أسامة.
وإذا صح ادعاء الرواة بأن خبر ارتداد العرب في أقصى البلاد ورد إلى أبي بكر فأطلعه على حرج الموقف قبل سفر جيش أسامة، فيكون الخليفة قد جازف مجازفة خطيرة، بإيفاده الجيش شمالاً بينما كان الخطر يهدد المسلمين في عقر دارهم.
ومن الرواة من يزعم أن أبا بكر شرع في قتال أهل الردة بعد عودة جيش أسامة، ومنهم من يدعي أن قتال ذي القصة والربذة جرى قبل عودة الجيش.
أما نحن فنميل إلى الاعتقاد أن القتال وقع قبل عودة الجيش، إذ لا يعقل أن تتواطأ غطفان على الهجوم على المدينة، وتعلم بأن جيش أسامة مرابط في شمالها. بينما الروايات التي يستند إليها الواقدي والبلاذري تدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة في ذلك القتال.
الشروع في العصيان:
أول من شرع في العصيان خارجة بن حصن الفزاري من رؤساء بني فزارة، إذ أنه أوقف جابي الزكاة في طريقه إلى المدينة وأخذ منه ما في يده على بني فزارة ورجع الجابي إلى
أبي بكر.
أما القبائل التي ثارت وتظاهرت بالعداء فهي: بنو أسد وغطفان والبعض من بطون طئ، فاجتمع بنو أسد في سميراء، وعلى رأسهم طليحة بن خويلد، واجتمعت فزارة في جنوبي طيبة، واجتمعت عبس وذبيان في الربذة والتف حولهم جماعة من كنانة، ولما كثر عددهم لم تحملهم البلاد لأن المياه شحيحة والمرعى قليل فتفرقوا إلى فرقتين، فأقامت فرقه بالأبرق بالقرب من الربذة والأخرى في ذي القصة، وأمد طليحة فرقة ذي القصة بقوة من بني الأسد. والداعي إلى تفرقهم هو أن الوقت كان صيفاً، لأن الرسول توفى في شهر ربيع الأول للسنة الحادية عشرة من الهجرة. وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران سنة 632 ميلادية. والمياه على ما نعلم تشح في الصيف، وكذلك المرعى تقل حينئذ. فبعثت غطفان وفداً إلى المدينة ليعرض على أبي بكر رغبتها في أن تقيم الصلاة وألا تأتي الزكاة، وكان عيينة بن حصن الفزاوي وأقرع بن حابس في الوفد.
فلم يلب أبو بكر طلبهم برغم إشارة بعض الصحابة عليه بالتساهل معهم إلى أن يعود جيش أسامة، إلا إنه في الوقت نفسه قدر خطورة الموقف لما عاد الوفد إلى أهله. وكان للوفد على ما يظهر مهمتان: عفو الزكاة، والإطلاع على قوة المسلمين في المدينة. وقد لاحظ أبو بكر ذلك، إذ لم يعد الوفد حتى جمع الصحابة وأطلعهم على حرج الموقف وكلفهم بحراسة المدينة ليلاً ونهاراً. فأقام رجالاً في الأبراج لمراقبة الطرق الممتدة إلى المدينة من جهة البادية ورتب قوة احتياطية في المسجد لتكون على استعداد للنجدة عند الحاجة، وحذر أهل المدينة بقوله (إنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً وأدناهم منكم على بريد) يشير بذلك إلى قرب المسافة بين المدينة والقبائل المتحفزة للهجوم.
وقد يعجب الإنسان بصلابة أبي بكر في رفضه طلب الوفد بعد اطلاعه على أخبار عماله لدى القبائل وسماعه حديث عمرو بن العاص. وكانت جميعها تنبئ بارتداد العرب عامة أو خاصة ولا يوجد في المدينة سوى نفر قليل وجيش أسامة بعيد عنها.
ونظراً إلى ما ذكره الواقدي في كتاب الردة أن أبا بكر لم يكتف بالتدابير التي اتخذها في المدينة، بل طلب من القبائل العربية كأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب أن تمده بالرجال فأسرعت إلى نجدته. فأخذ الناس يتوافدون إلى المدينة بسلاحهم، وأرسلت جهينة
أربعمائة راكب.
وإذا صدقنا رواية سيف بن عمر التي نقلها الطبري، ظهر لنا أن ظن أبي بكر كان في محله، إذ لم تمض ثلاثة أيام على عودة الوفد حتى كان المرتدون قد غزوا المدينة ليلاً.
لابد أن الوفد بعد عودته أخبر القبائل المتحفزة للهجوم عن ضعف قوة المسلمين بالمدينة وشجعها على الهجوم وكانت من غطفان، وهي عبس وذبيان وفزارة على ما نعلم.
المواقع التي جرى القتال فيها:
وردت أسماء السميراء والربذة وطيبة والأبرق وذي القصة عند البحث في تجمع القبائل. ولا يوجد الآن من هذه الأسماء في الخرائط الحالية إلا السميراء. ولنا من الأخبار التي نستقيها من رواة العرب الأقدمين أن القبائل الساكنة في شرقي المدينة وعلى طرفي الطرق الذاهبة إلى العراق وخليج فارس هي بنو سليم وهي أقربها إلى المدينة في الشمال الشرقي، ثم يليها بنو كلاب إلى شمال بني سليم، ثم عبس وذبيان في شرقي حرة خيبر إلى الشمال.
أما قبائل طي فتسكن في جبليها أجأ وسلمى، وفي شرقي بني عبس وذبيان وفزارة من غطفان في وسط وادي الرمة وعلى جانبيه.
وتأتي بعدها قبائل بني أسد. وموقع سميراء على ما يظهر من الخريطة واقع إلى شمالي وادي الرمة، ويبدأ منه وادي السميراء الذي يصب في الوادي في جوار الحاجر.
الربذة:
يذكر ياقوت الحموي أن موقع الربذة على الطريق التي تصل موقع فيد بالمدينة. وفيد في حي طئ وهي قرية من قرى جبل شمر واقعة إلى شرقي جبل سلمى على الطريق التي تصل الكوفة بالمدينة ويمر بها طريق الحج، وهي بعيدة عن المدينة مسافة ست مراحل.
وتلتقي فيها عدة طرق من الجوف والعراق والمدينة وبريدة والرس.
والربذة على هذه الطريق، وهي تبعد عن المدينة أربعة وعشرين فرسخاً، وواقعة إلى شمالي شرقها، ولعل موقع حناكية الحالي هو موقع الربذة القديم أو قريب منه، لأن بعده عن المدينة زهاء ثمانين ميلاً. والفرسخ العربي طوله أربعة كيلومترات ونصف كيلومتر أو أربعة كيلومترات. والذي يجعلنا نميل إلى ذلك إن القوة لم تجتمع في الربذة بل في
الأبارق، وكلمة أبارق إسم خاص لبعض المحلات تدل على أرض حجرية ورملية مختلطة.
وموقع الحناكية بالقرب من حدود حرة خيبر، والحرة على ما نعلم أرض بركانية خامدة وفيها محلات يتراكم الماء فيها. ومادامت القبائل مجتمعة فيها فلابد حينئذ من وجود الماء فيها. والحناكية واقعة في بطن وادي الحمض.
ذو القصة أو البقعاء:
والظاهر إن كلتيهما تدلان على موقع واحد في شرقي المدينة وقريب منها، وهو بلا شك على الطريق التي تمتد إلى المدينة في غربي الربذة أو في جنوبها، وهو أما الشقرة أو السابية.
والأخبار تدل على أن أبا بكر بعد أن هزم المرتدين في البقعاء طاردهم بخيله إلى ثنايا العوسجة بالقرب من الركبة، وهذا الموقع الأخير واد يصب في الرمة، ولعله وادي الركب الذي ينبع من حرة خيبر ويجري شمالا في شرق وثنايا العوسجة في المحل الضيق الذي يتسلق فيه الطريق صاعداً إلى رأس الوادي أو ينزل منحدراً منه.
أما موقع طيبة الذي اجتمع فيه غطفان وفزارة فلم نعثر عليه في معجم البلدان ولعله في شرقي الربذة أو في شماليه. أو إنه موقع طابة في سفح جبل سلمى الجنوبي في شمالي السميراء وهو من ديار غوث من طئ.
مباغتة المدينة:
لم يهجم المرتدون بكل قوتهم لأنهم أرادوا أن يكونوا خفافاً فتركوا قسماً منهم في يدي حسى بين ذي القصة والمدينة ليكون ردءاً لهم، واقتربوا ليلاً من المدينة ولم يباغتوها لأن العيون أخبرت المسلمين بدنوهم، فقاتلتهم الربايا الخارجية، وأسرع أبو بكر بمن في المسجد فأنجد الربيئات وهزم الهاجمين، ولم يكتف بذلك بل هاجمهم على الجمال التي تسقى الماء من الآبار لاسقاء مزارع المدينة، إلى أن نفرت الإبل من الجلود المنفوخة التي دهدهها الفارون من أعلى الروابي، فرجعت على أعقابها نافرة حتى دخلت المدينة.
والظاهر أن الهاجمين لم يكونوا في قوة كبيرة، ولا سيما بعد أن تركوا قسماً منهم في الخلف. ويظهر أنهم من بني عبس وذبيان. أما فزارة فبقيت في ذي القصة. وهكذا انقسمت
القوة التي أرادت أن تهاجم المدينة إلى ثلاثة أقسام: قسم في ذي القصة وقسم في ذي حسى، والقسم الثالث أغار على المدينة. أما قوة المسلمين فلا شك في أنها كانت ضعيفة، ولعلها لم تزد على المائتين.
وتشجع المرتدون من فرار جمال المسلمين وظنوا بهم الوهن، وبعثوا إلى من بذي القصة بالخبر فلحقوا بهم.
يتبع
طه الهاشمي
في الأدب الدرامي
11 -
الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم احمد حسن الزيات
تحليل موجز لأشهر ملاهي موليير
(البخيل '
موضوعها وصف البخيل، وأهم أشخاصها أرباجون البخيل أبو كليانت وإيليز وعاشق مريان، وكليانت بن أرباجون وحبيب مريان، وإيليز بنت أرباجون وحبيبة فالير بن أنْسِلم، ومريان بنت أنسلم وحبيبة كليانت ومحبوبة أرباجون، وأنسلم أحد الأغنياء وأبو فالير ومريان، ومترجاك طباخ البخيل وسائقه، وفرسين امرأة محتالة، ولافيش خادم كليانت، وسيمون سمسار. وقد وقعت حوادثها في بيت أرباجون بباريس.
الفصل الأول: (كنز أرباجون ومشروع زواجه)
يتنكر فالير حبيب إيليز، ويقيمه البخيل وكيلاً على بيته، فيعلن إلى ابنته غرامه، ويشكو إليها بثه، فتعده بالزواج. ويدخل كليانت فيفضي إلى أخته بحبه لفتاة فقيرة شريفة تدعى مريان. ويشكو إليها عجزه عن مساعدتها لبخل أبيه، فهو يبحث عن مرابٍ يقترض منه ما يصلح به حالها. ثم يدخل أرباجون البخيل وهو يشاجر خادمه (لافيش) في عنف ويتهمه بالسرقة، فيقرره ويعزره ويبحث في جيبه ومطاوي ثوبه ثم يطرده، وهو لا يتحرج أن يعامل ولديه معاملة العدو، ويتهمهما بالتبذير. وحينما يريد الولدان أن ينبئاه بمشروع زواجيهما يفاجئهما هو بأنه عقد العزم على الزواج من مريان، وأنه فكر في مستقبل ولديه فخطب لكليانت أرملة غنية، ولإيليز أنسلم المثرى، لأنه قبل أن يتزوج منها من غير مهر تسوقه إليه. ثم هو لا يقبل جدلاً ولا يريد مشورة. ويدخل فالير فيتخذونه في الموضوع حكماً.
الفصل الثاني: (ربا أرباجون) يريد كليانت أن يقترض خمسة
عشر ألف فرنك فيجدها له السمسار سيمون بشروط فادحة
وربح خمسة وعشرين في المائة. ويقبض منها كليانت اثني
عشر ألف فرنك عيناً، ثم يأخذ بباقيها مجموعة من الأثاث
البالي. على أن أغرب ما في المسألة أن السمسار يطلب هذا
القرض من أرباجون، فيقف الابن أمام الأب موقفاً غريباً
يتبادلان فيه ألفاظ التقريع على بخل أحدهما وتبذير الآخر، فلا
يخرجهما من هذا الموقف الحرج إلا دخول (فرسين) المحتالة
تعلن إلى أرباجون أن أم مريان قبلت أن تزوجه من ابنتها،
وهي تطلب منه مقداراً من المال يسيراً تستعين به على كسب
قضية لها في المحكمة، فيبادر إلى الخروج قائلاً: آه! إن أحد
الناس يدعوني. . .
الفصل الثالث: (إعداد المأدبة) دعا أرباجون أنسلم وابنته
مريان إلى العشاء. فهو يوزع العمل على خدمه: فيأمر كلود
أن تنظف البيت، ويحذرها أن تحك الأثاث بقوة مخافة أن
يبلى، ويخصص (براندافوان)(والامرلوش) للشراب،
وينهاهما أن يقدماه إلا إلى من به ظمأ شديد، ويوكل إيليز
بملاحظة المائدة، ويأمر الطاهي جاك أن يهيئ الطعام بثمن
زهيد. ولكن المترجاك يؤدي عمل الطاهي وعمل الحوذي
معاً، فهو باعتباره الأول يطلب مالاً كثيراً، فيغضب أرباجون
ويرشده إلى صنع المآكل التي تصد النفس وتميت الشهوة،
ويرفض باعتباره الثاني أن يشد الخيل إلى العربة، لأن الجوع
قد أضناها والتعب قد أنهكها، ويلوم سيده على شحه القبيح
فينهال عليه البخيل ضرباً بهرواته.
الفصل الرابع: (سرقة الكنز) يعثر الخادم (لافيش) على كنز
سيده البخيل مدفوناً في الحديقة فيأتي به إلى كليانت. ويحاول
الابن أن يحول بين الأب وبين زواجه من مريان، فيرميها
عنده بالخلاعة والجفاء والغباوة، ويرتاب الأب في نصيحة
ابنه، فيتظاهر بأنه يريد أن يزوجه منها حتى يحمله على
الإقرار بحبه إياها؛ فتثور ثائرة البخيل، ويلوح له بالعصا،
ويحاول أن يصده عن حبها فيأبى كليانت فيخرجه الأب من
ميراثه ويلعنه، ثم يفتقد الكنز فلا يجده، فينسى مشروعاته
الجميلة، ويصيح بملء صوته: يا لي من اللص!! يا لي من
القاتل! يا لي من السفاك!. ثم يفزع إلى القضاء يريد أن يشنق
كل الناس، حتى إذا لم يجد كنزه شنق نفسه. وهذا الموقف من
أبدع مواقف الرواية.
الفصل الخامس: (وجود الكنز): يحضر رجال الشرطة
فيسألون (الأسطا جاك) فيتهم الوكيل فالير. ويدخل الوكيل
فيشهر به أرباجون ويقول له: أريد أن تخبرني عن المكان
الذي خطفتها منه، فيظن فالير أنه يكلمه عن إيليز فيجيبه: إني
لم أخطفها، ولا تزال عندك في منزلك. ويستمر هذا الخطأ
بينهما طويلاً، ثم ينتهي بأن يبوح فالير بحبه إيليز، ويدخل
حينئذ أنسلم فيعرف ابنه فالير وابنته مريان، وقد فقدهما منذ
ست عشرة سنة. ثم يقترح أن يتزوج فالير من إيليز وكليانت
من مريان، فيقبل البخيل على شرط أن يردوا إليه كنزه، وألا
يغرم صداقاً إلى ولديه، وأن يفصلوا له ثوباً جديداً يوم
الزفاف. وتنتهي الملهاة بقول أرباجون: ولنذهب لنرى كنزي
العزيز! هذه الملهاة متقنة محكمة، فحركة العمل فيها سريعة
قوية، والأخلاق تبدو ظاهرة جلية، والحوار طبيعي حي يملك
الذهن ويسترعي الأسماع. ولكنهم يأخذون عليها أن الموضوع
محزن وان الحل ضعيف.
(النساء العالمات
موضوعها تحذلق النساء وتركهن تدبير البيت، واشتغالهن بالفلسفة والحساب والفلك. وأهم أشخاصها: كريزال وزوجته فيلامنت، وابنتاه ارماند وهنرييت، وأخوه أريست وأخته بيليز
وخادمته مارتين، ثم كليتاندر حبيب هنرييت وتريسوتين أحد الأذكياء، فاديوس أحد العلماء. وقد وقعت حوادثها في منزل كريزال بباريس.
الفصل الأول:
هنرييت ترغب في الزواج من كليتاندر، ولكن أختها أرماند المتحذلقة تنصح لها أن ترفض هذا الزواج وتعكف على دراسة العلم فإن ذلك أخلق بالمرأة اللبقة الذكية، وتضرب لها المثل بأمها وخمولها في الأندية والمجامع لجهلها، فتتهمها هنرييت بالغيرة وتناقشها في الموضوع بحضرة كليتاندر، فيفصل في هذه المسألة بتصريحه أن الدكاترة من النساء لا يلائمن ذوقه، وأنه يفضل أن تكون المرأة مستنيرة فاهمة، لا متشدقة عالمة. هو إذن يختار هنرييت، ولكنه لا يجرؤ على مكاشفة أمها فيلامنت بحبه، لأنها مولعة بالمدعي تريسوتين، وهو يحتقره لادعائه وحذلقته. وتدخل بيليز فيستميلها إليه ويصارحها بأمره، فتظن أن هذا الحب لها لا لغيرها.
الفصل الثاني:
يأخذ على نفسه أريست أخو كريزال أن يخطب هنرييت لكليتاندر، فهو يقول لأخيه: إن كليتاندر فقير من المال ولكنه غني بالفضيلة. فيجيبه كريزال إلى طلبه، ثم يذهب إلى زوجته يقنعها به، وفي تلك الساعة تطرد فيلامنت خادمتها مارتين، لا لأنها كسرت وعاء أو سرقت إناء، ولكن لأنها أهانت النحو والقواعد. ويضعف كريزال أمام امرأته فيقر هذا الطرد، ولكنه يسخط كل السخط على حمق النساء العالمات، ويختصر شكواه في هذا البيت الجميل:
إنني أعيش بالحساء الجيد
…
لا بالإنشاء البليغ!
فإذا ما كلمها في زواج هنرييت من كليتاندر تأبى الأباء كله، وتعلن إليه أنها ستزوجها من الشاعر الأديب تريسوتين. ويحرض أريست أخاه على المقاومة حتى يرفع عن كاهله نير هذا الظلم الفادح.
الفصل الثالث:
يقرأ تريسوتين للعالمات فيلامنت وأرمان وبيليز موشحاً وأهجية من نظم الأميرة (أوراني)
فيملك عليهن حواسهن وأنفاسهن، إلا هنرييت فتظل فارغة البال من كل ذلك. لم يكتب هؤلاء المتحذلقات شيئاً، ولكنهن يردن أن يتعمقن في العلوم، وينشئن أكاديمية لهن كأكاديمية الرجال. ويقبل المتفيهق فاديوس فيصفه ترسوتين للنسوة بأنه أعلم الفرنسيين باللغة اليونانية، وأبرع الأدباء في صناعتي النظم والنثر. ويبادله المتحذلقات صنوف التحية وضروب التعظيم، ثم ينتقد فاديوس موشح الأميرة (أوراني)، دون أن يعلم أنه من نظم تريسوتين، فيتخاصم الرجلان ويتسابان بأفحش السباب. ويخرج فاديوس محنقاً يتحدى خصمه بقوله:(إني أدعوك لمساجلتي في النظم والنثر واللاتينية واليونانية). وتعزي فيلامنت صديقها تريسوتين عن هذه الفضيحة بأن تقدم إليه ابنتها هنرييت لتكون له زوجة، ويصر كريزال على أن يزوج ابنته من كليتاندر.
الفصل الرابع:
تتلهب فيلامنت من الغيظ، فتقسم أن تقطع زوجها عن عزمه، وتنفذ إرادتها على هنرييت، ويلقى إليهما تلك الساعة كتاب من فاديوس يتهم فيه تريسوتين بالنفاق والطمع في ثروة هنرييت، فلا يضعضع ذلك من عزم فيلامنت فتبعث في طلب المأذون (المسجل)؛ ولكن كريزال يصمم على رأيه فلا يتقهقر.
الفصل الخامس:
تسخر هنرييت من تريسوتين، وتريده على أن يرفض زواجها، وأبوها يرغى ويزبد موغر الصدر على أمها، ويقول إني أريد أن أعلمها كيف تعيش، ولقد أرجعت مارتين إلى الخدمة على الرغم منها. وتدخل حينئذ فيلامنت وفي أثرها المأذون وتريسوتين، ويصل الأمر في العقد إلى تسمية الزوج فتقول الأم: تريسوتين. ويقول الأب: كليتاندر. فتغضب فيلامنت وتنتصر الخادم مارتين لسيدها فلا تزداد السيدة إلا عتواً وإصراراً ويوشك كريزال أن يسلم الأمر إلى امرأته لولا أن يدخل أخوه أريست، فيخبرهم بالكذب أن أسرتهم قد أفلست لخسرانها قضية كبيرة. فلم يكد يسمع تريسوتين النبأ حتى يدير لهم ظهره ويخرج فيظهر نفاقه وأثرته، وينتهي الأمر بانتصار كريزال وتحقيق أمل كليتاندر.
يتبع
(الزيات)
إلى الفردوسي
أتينا محتفلين
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
(ذهب شاعر الفراتين ممثلاً للأدب العراقي في الاحتفال الألفي بالفردوسي، فألقى على قبر الشاعر الخالد هذه القصيدة الخالدة)
1
أنت في شعرٍ كان فتحاً مبينا
…
واحدٌ من أولئك الخالدينا
بعد ألفٍ من السنين أتينا
…
بك يا فردوسيّ محتفلينا
وإلى قبرك الذي فيه تغفو
…
نحمل الورد الغضّ والياسمينا
ولو أن الإحداث ألفى مساغا
…
جعل القوم حجّ قبرك دينا
لك في تأريخ الملوك كتابٌ
…
يحمل الوحي والهدى واليقينا
قمت في نظمه ثلاثين عاما
…
ثم لم تسأم طول تلك السنينا
حزت حينا تجلّةً واحتراما
…
وتألمتَ للمصائب حينا
2
شاعرٌ أنت جامعٌ للمزايا
…
خالدٌ لا تدنو إليك المنايا
أنت في دولة البيان بحقٍ
…
ملكٌ ذو عرشٍ ونحن الرعايا
جاء ما قد نظمته من كتاب
…
تحفةً فارسيةً للبرايا
ولقد أهديت الكتاب إلى مَن
…
لم يكن ذا علم بقدر الهدايا
وألمّت بك الرزايا ولكن
…
أنت ما كنت عابئاً بالرزايا
يا إمام القريض بعدك فينا
…
نفد الشعر الجزل إلا بقايا
قد طلبنا التحرير للشعر حتى
…
كثرت في الطلاب منا الضحايا
3
إن ما قد قصصته من حروب
…
سوف يبقى تأثيره في القلوب
أنت شمسٌ لها البيان شعاعٌ
…
لم تمل في طريقها للغروب
ما لإلياذةَ التي حبّرتها
…
يد هومير مثلُ ذا الأسلوب
تلك ليلٌ جهمٌ وهذا صباحٌ
…
مسفرٌ ما بوجهه من شحوب
كنت تمشي إلى الأمام حثيثا
…
بخطىً لم تخلق لغير الوثوب
يهتف اليوم الوافدون من الأقطار أفواجاً باسمك المحبوب
جلّ ما قد نظمته في مزايا
…
الفارسيين عن جميع العيوب
4
أنت في شعرك البليغ إمام
…
فسلام عليك ثم سلام
حبذا ما نظمتَه من كتاب
…
أكبرته الشعوب والأقوام
أنت للشرق شاعرٌ عبقريٌّ
…
تتغذى بقوله الأفهام
(لست أدري وليتني كنت أدري)
…
أهو السحر أم هو الإلهام
كنت للناس كوكباً ذا بهاء
…
أينما ألقى النورَ زال الظلام
في رياض الآداب غرسك يحكى
…
شجراً من أثماره الآلام
حُلُماً كان ما أملتَ ولكن
…
بعد ألفٍ قد صحّت الأحلام
5
أنت يا من بهرتَ بالشعر عيني
…
شاعرُ المشرقين والمغربين
أنت لو تمسك الثريا بأيدٍ
…
شعراءٌ، أمسكتَها باليدين
أنت مما تشعّه من ضياء
…
يملأ العين، ثالث القمرين
ما كتاب الملوك إلا بلاغ
…
من أبي قاسمٍ إلى المَلَوَين
كلما جئت منه أقرأ فصلا
…
أسبلت عيني فوقه دمعتين
تحفةٌ من بلاغة وشعورٍ
…
قد جَلَتْ ما بخاطري من رَيْن
جمعت بعد أن مضى ألف عامٍ
…
بينه لُحمةُ القريض وبيني
6
إن ما ناله الردى من حياتك
…
لم ينله للعجز من كلماتك
أنت في شعرك البليغ نبيّ
…
وكتاب الملوك من معجزاتك
لك فيه بلاغة أدهشتنا
…
أي روحٍ نفختَ في أبياتك
كُلُ ما كنا قد نظمناه قبلاً
…
نظرةٌ في الحياة من نظراتك
كل ما عندنا من النظم والنث
…
ر قبسناه من سنا آياتك
كل ما قلناه في هذه الذك
…
رى ثناءً عليك بعضُ صفاتك
قيل لي أنت في حفيرٍ ولكن
…
لم أجد في الحفير غيرَ رفاتك
7
قصّرت في تقديرك الآباء
…
فتلافت ما فاتها الأبناء
بعد ألفٍ من السنين أقامت
…
لك نيروزاً أمةٌ شمّاء
لك يا حجة البلاغة شعرٌ
…
عجزت عن تقليده الشعراء
بمصابيح شعرك ازدانت الأر
…
ض كما ازدانت بالنجوم السماء
نمّقته يراعةٌ ذات حَوْلٍ
…
وبه لوّحت يدٌ بيضاء
وإذا ضِيم الشاعر الحر يوماً
…
في بلاد جلاه عنها الإباء
بعد آمالٍ كنّ فيك خيالاً
…
فاجأتك الحقيقة السوداء
8
يا كتاب الملوك أنت كتابُ
…
فيه للناس حكمةٌ وصواب
خلق الفردوسيّ منك خِضمّاً
…
فاض يرغو كما يفيض العُباب
بك للشرق ما اهتدى الشرق فخرٌ
…
بك للغرب ما ارتقى إعجاب
بك في أمةٍ قد ازدادت الأخ
…
لاق طيبا وازدانت الآداب
معجزاتٌ وراءها معجزاتٌ
…
آمنت إعجابا بها الألباب
إنما في الشعر الحقيقة أصلٌ
…
والخيالات كلها أثواب
وإذا أنكر النبوغ على الشر
…
ق فريقٌ فأنت أنت الجواب
9
الذي لم يقم به الغَزْنَويّ
…
قام مستوفيا به البهلويّ
ملكٌ من أرقى الملوك عظيم
…
لاسمه في سمع الزمان دويّ
ملكٌ بالسياستين خبير
…
وله فيهما الطريق السويّ
أخضع الأمة العظيمة بالحسنى فلله عطفه الأبويّ
وإذا قوة الإرادة جلّت
…
جلّ فيهم تأثيرها المعنويّ
والذي لا يرى الحقيقة أعمى
…
والذي ينكر الرشاد غويّ
إنما اليوم ليس يصلح للمُلْ
…
ك على وجه الأرض إلا القويّ
10
إنك السيف في يد الأيام
…
قد نضته للحرب أو للسلام
حاقناً للدماء بالمثل منها
…
في صدام الأقوام بالأقوام
في يديك القويتين إذا الأمر
…
دعا حقّ النقض والإبرام
وإذا ما بدأت يوما بأصلا
…
حٍ جديد فالبدء للإتمام
حبذا إيرانٌ وعمرانُ إيرا
…
نَ وما في بلادها من نظام
ولقد سرّني كما سرّ غيري
…
ما بها من نزاهة الأحكام
زرتُ بالأمس الروضَ أمتِع عيني
…
وإذا الورد فيه ذو أكمام
11
أهلُ إيرانَ والحديث شجون
…
أمةٌ ما بها يليق السكون
شأنها في التاريخ أكبر شأنٍ
…
حبذا في التاريخ تلك الشؤون
وعلى عين الشرق رانَ رقادٌ
…
دونه في غير الرجاء المنون
ثم أنحى ينبّه الشرق منه
…
مَلِكٌ حدُّ سيفه مسنون
إنه لما قام للمجد يدعو
…
شخصت عن بعدٍ إليه العيون
طار بالشعب كله للثريا
…
صاعداً لو يكون ما لا يكون
سيعود المجد القديم لإيرا
…
نَ فتفضي إلى اليقين الظنون
12
أيها الشعر إنك ابن شعوري
…
تغتذي من كآبتي وسروري
حاملاً ضحكة الذي عيشه كا
…
ن رغيداً أو دمعةَ الموتور
سالماً من ضعفٍ يريبك منه
…
خالياً من زوائد وقشور
ليس شعراً ما ليس في شعورٌ
…
لا يهيج الشعورَ غيرُ الشعور
وإذا الشعر لم تهزّك منه
…
روعةٌ فهو جامدٌ كالقبور
إنما الشاعر الموفق يمشي
…
من خلودٍ على رقاب الدهور
معجَبٌ بالهزار كل بني الأر
…
ض وإن لم يكن سوى عصفور
جميل صدقي الزهاوي
شوقي أيضاً
قطعة كتبها الأستاذ البشري صدراً لحديثه في الراديو عن ذكرى شوقي، ثم بدا له أن يرتجل.
سيداتي سادتي:
في مثل هذا اليوم من عامين مضيا أذّن مؤذن أن البلبل قد سكت بعد طول سجعه وتغريده، وأن الزهر قد ذبل بعد إشراقه وتوريده، وأن النجم قد هوى فلم يعد يتألق، وأن الغدير قد غاض وهيهات له بعد الآن أن يترقرق.
مات شوقي ولو كان شوقي كسائر الناس ما كان لموته جليل خطر. ولرب رجل يموت فلا يفرق المجموع بين موته وحياته. ولكن موت شوقي شيء آخر. . أرأيت إلى النهر إذا يبس وإلى المطر حين يحتبس؟ وارحمتا للسارين إذا لحق النجم الغروب، وقد تشعبت الطرق واختلفت رؤوس الدروب!
. لقد كان شوقي نعمة من النعم العامة التي تفضل الله بها على هذه البلاد، بل التي تفضل بها على أبناء العربية جمعاء. فموته من المصائب العامة التي يحس خطرها كل امرئ يقدر روعة الفكر، ويحتفل لأبهى صور الجمال.
ولو إن الله تعالى بعث الشعور في مظاهر هذه الطبيعة وأقدرها على النطق، لشارك في إحياء ذكرى شوقي البحر الخضم، والجبل الأشم، والفلك الدائر، والنجم المختلج الحائر، والعود إذا أورق، والزهر إذا نوّر وأشرق، ولاجتمعت لمأتمه كل سجوع من بنات الهديل، يقمن عليه المناحات بأحد النواح وأحر العويل. فلقد طالما أضحك وسرى، ولقد طالما أطرب وأشجى، ولكم جلا من صور الطبيعة فأجاد وأحكم، وأنطق الصخر في مرسخه لو كان الصخر يتكلم، ولكم لاغى الطير غادية ورائحه، ولكم لاعب الغزلان شاردة وسانحة، ولكم داعب الغصن حتى تثنى خصره، وغازل الزهر حتى تنفس بهواه أرجه وعطره!
شوقي لم يمت، ومثل شوقي لا يموت أبداً، بل إنه ليزداد حياة على طوال الأجيال. هذا شوقي حي أقوى الحياة في بيانه القوي، وسيظل هذا البيان المشرع العذب النمير ينهل منه بنو العروبة ما قدّرت للعربية في هذه الدنيا حياة.
سيداتي سادتي:
وافقت ليلة حديثي ذكرى وفاة أمير الشعراء. ولابد من أن أقول فيه كلاماً، ولكن كيف لي
بهذا الكلام، وقد جئت الليلة إلى المحطة وأنا متداع متهدم من أثر المرض، هذا فضلاً عن أنني لا أذكر أنني كتبت في إنسان مثل ما كتبت في شوقي. فلقد جلوت له من ثماني سنوات (مرآة) عريضة في السياسة الأسبوعية، وحللت تاريخه وشخصيته وشاعريته في كتاب المفصل المقرر للسنين الأخيرة في التعليم الثانوي. وكتبت فيه هذه الأيام كلاماً كثيراً سينشر هذا الأسبوع في مجلة (الرسالة) بمناسبة هذه الذكرى أيضاً، فلم يبق لي مع هذه الأحوال طاقة بجديد فيه الآن، فأرجوكم أن تعذروني إذا حدثتكم بعد هذا بنبذ مما سبق به القول، أقتبسها من هنا ومن هنا، ولعلها تجلو شوقي على من لم يدرسه بعض الجلاء.
عبد العزيز البشري
العلوم
5 -
بحث في أصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافية
إذا قلنا إن الإنسان يمتاز من سائر الحيوان بقواه العقلية وقدرته على التفكير الحر فيجب ألا ننسى حينئذ أن من أهم مميزات الإنسان اعتدال قامته وعدم اعتماده على شئ عند المشي: لكنا مع ذلك لا نستطيع القول بأنه خلق كذلك، لأن صغار القردة تكون ذات جسم معتدل تحمل جسمها وكل عضلاته في صغرها على اتجاه عمودي، إلا أن أقدامها لا تساعدها على البقاء كذلك في سيرها، ولا يمكن لجسمها الاحتفاظ بتوازنه عليها، لأنها لا زالت تعد وتستعمل أداة للقبض، فانفرج ما بين أصابعها لهذا الغرض، بعكس الجنس الإنساني الذي تطورت حاملة قدميه، فصار في طاقته المشي عليهما وحدهما دون الاعتماد على يديه.
هناك أجزاء ثلاثة: وهي القدم وعظام الفخذ والسلسلة الفقرية، وقد كان في تطورها والتغيرات التي حدثت بها أكبر مساعد على اعتدال قامة الإنسان وقدرته على المشي وحده. ولذلك يمكننا أن نحكم على أي مخلوق بالدرجة التي وصل إليها مقترباً من الإنسانية أو مبتعداً عنها بمجرد فحص عظمة فخذ أو عظمة من عظامه المتحجرة.
كيف وقف إنسان جاوة
إذا نحن دققنا البحث في عظمة فخذ إنسان جاوة وهي الأثر الذي تركه، نجدها طويلة دقيقة إنسانية في كل شئ، تدلنا على إن ذلك الإنسان أو المخلوق الذي صارت هي بقيته الباقية، لابد وأنه كان يسير مستقيم الظهر يعرف الجري والقفز. . . حقيقة هنالك بعض اختلافات في تكوين وشكل هذه العظام المتحجرة إلا إن هذه الاختلافات لا تبعدها عن كونها إنسانية ولا تقربها بأي حال من الأحوال من شكل عظم فخذ القردة. وبرغم أوجه الشبه بين الإنسان القرد والقرد فإنه كان إنساناً. ومن شكل وطول عظمة الفخذ هذه يمكننا أن نصور إنسان جاوة بأنه كان نحيفاً تبلغ قامته 5 أقدام و9 بوصات وأنه كان معتدلها يمشي كما
نمشي نحن الآن تماماً.
وهنا يمكننا أن نقول بكل ثقة إن الإنسان قد اكتسب هذا الاعتدال في القامة والمشي قبل نهاية عصر
البليوسين وإننا إذا أردنا البحث عن حاله قبل ذلك فإنه يجب علينا حينئذ أن نتوغل في عصر جيولوجي أقدم من ذلك بكثير ولكن قبل أن نتقدم بذلك يحسن بنا أن نذكرك بالحقيقة الهامة وهي إن الإنسان قد اكتسب قوامه المعتدل قبل اكتسابه قوامه الفكرية كإنسان، وإنه قد ظل مطبوعاً بطابع القردة في شكل الفك والجمجمة حتى نهاية عصر البليوسين، وبدء عصر البلستوسين.
وبواسطة تلك الآثار والمخلفات التي وجدناها في المقابر والكهوف ومدرجات الأنهار، أمكننا أن نتتبع تاريخ الإنسان إلى عصور سحيقة من عصور التاريخ متناهية في القدم. وعندما أردنا البحث في ذلك بدأنا البحث في بقايا العصور الحديثة، ومنها تعمقنا إلى ما هو أقدم منها، وطريقنا في ذلك سهلة للغاية، فإننا نبدأ بالعلومكي نصل إلى المجهول، وبالظاهر حتى نكشف عن الخفي، ولذلك فإنه بفضل تلك الأدوات والمخلفات الصخرية القديمة قد أمكننا أن نتتبع تاريخ الإنسان في عصر البلستوسين، ومنه تدرجنا إلى البليوسين.
جولة في عصر ذوات الثدي (العصر الثالث)
لذلك سوف نتعمق في أبحاثنا نحو عصر من العصور القديمة جداً، هو العصر الثالث أو الـ ولكن قبل أن نخوض في غمار ذلك البحث نجد لزاماً علينا نحو القارئ الكريم أن نعطيه فكرة عن ذلك العصر الذي ذكرناه.
لازلنا نذكر أننا قد أعطينا في مقال سابق تحت عنوان مقال اليوم مقياساً تقديرياً لعصور الكهف ومدرجات الأنهار وتتابع الطبقات وأعمارها في كل منهما، وسنجد أنفسنا مضطرين لأن نفعل ذلك في ذلك العصر الذي نحن بصدده الآن.
من الشكل (8) يمكنك أن ترى تتابع عصر البلسوسين لعصر البليوسين، وهذان العصران يفصلهما حد زمني له أهمية في هذا المجال لأنه عند تخطي عصر البليوسين للعصر الذي يتبعه نجد اختلافاً كبيراً في شكل الحيوانات الثدية الموجودة به، ولذلك فإن علماء الجيولوجيا يعتبرون عصر البلستوسين أول مجموعة من المجاميع التي تكون حلقات تاريخ
الأرض وتاريخ الإنسان الذي سكنها، وقد وضع لهذه المجموعة اسم وهي تبدأ بعصر البلستوسين وتنتهي حينما تراجع الخط الجليدي إلى الدائرة القطبية.
أما الحلقة الثانية فقد بدأت (على قول العلماء) بعد ذلك بنحو عشرة أو اثني عشر ألف سنة، وفي إبانها أخذت الإنسانية تظهر بمظهرها الحديث، ويبدأ الإنسان بإعداد نفسه بصقل مواهبه وقواه الفكرية، ليغزو العالم ويسيطر على عرشه الذي قد أعده الله له.
أما عصر البليوسين وهو الذي يقع في الجانب الآخر من هذا الفاصل فهو الرابع والأخير لمجموعة تكون إحدى حلقات السلسلة التي تكلمنا عنها، وهذه المجموعة هي التي أطلق عليها العلماء اسم
وأما الحلقة الثالثة وهي عصر الميوسين فإنها تشمل مدة أطول من مدة عصر البليوسين. ولما كانت الطبقات التي تدل عليه وتحمل آثاره يبلغ سمكها 9000 قدم، بينما طبقات البليوسين لم تتجاوز 5000 قدم، وإذا كنا قد قدرنا عمراً لعصر البليوسين مقداره 250 ألف سنة بالنسبة إلى سمك طبقاته، فإننا لا نغالي إذا قدرنا لهذا العصر من العمر 450 ألف سنة.
وأما ثاني حلقات عصر الـ وهو الأوليجوسين فإنها تغمر عصراً أطول من سابقتها، وقد بلغ سمك طبقاتها 12 ألف قدم، ولذلك فإنه لا يسعنا أن نقدر لها عمراً أقل من 600 ألف سنة.
نصل بعد ذلك إلى أولى وأقدم حلقات هذا العصر وهي الأيوسين ونقدر لها عمراً 600 ألف سنة أخرى وذلك بالنسبة إلى سمك طبقاتها التي تساوي أو تقارب سمك الحلقة السابقة.
هذه هي الحلقات التي يتكون منها العصر المسمى وهي في الدرجة الأولى من الأهمية في تطور الإنسان. إذ إنها تشمل فجر نشوء الحيوانات آكلة الخضروات، وهي التي ترضع صغارها، وهي كلها من ذوات الرحم عدا أنواع قلائل يمكن استثناؤها. وفي فجر هذا العصر بدأت ذوات الثدي في تغيير شكلها وتكوينها تغيراً كبيراً، وتغلبت في تنازعها البقاء والصلاحية على باقي الحيوانات الزاحفة القديمة.
ولما كان الإنسان من ذوات الثدي، فإن من العبث أن ننتقل إلى عصر آخر أقدم من هذا لنبحث عن نشأة الإنسان، لأن العصر الذي يلي ذلك لا يشمل إلا كل زاحف. ومن الشكل
(8)
نرى أن العصر الثاني وهو الشامل لعصر ذوات الثدي يمتد لفترة طويلة جداً قد يبلغ مقدارها نحو 6 ملايين سنة كما يقول العلماء، وإني لا أريد أن يتبادر إلى ذهنك أنه عند الحد الفاصل بين العصرين قد حلت ذوات الثدي محل الزواحف دفعة واحدة، أو أن الأخيرة صارت من الأولى بتغيير سريع فجائي، لأن هذا التغير يلزمه وقت طويل مع بطء وتدرج، وقد وجد من حفائر العلماء في طبقات العصر الثاني آثار لزواحف كانت قد أخذت تتغير وتطور من شكلها وتكوينها كي تتناسب مع الوسط الذي كانت ستعيش فيه، وهو وسط ذوات الثدي ولتصير إحداها، وأن هذه الزواحف قد أخذت تتغير وتتشكل حتى نهاية هذا العصر واتسمت بسمات خاصة ميزتها في أوائل عصر الأيوسين.
ولست أرى أية ضرورة لأن أتعمق أكثر من هذا العصر الجيولوجي الأول حيث تظهر قوة التطور في الأسماك والحيوانات البحرية حتى أمكنها أن تغير من شكلها في أواخره وتستطيع العيش على البر كما تستطيع العيش في البحر فأطلق عليها اسم برمائية.
والآن وقد تكلمنا عن العصور الجيولوجية، وأعطيناك من المعلومات عنها ما فيه الكفاية، نعود بك إلى بحثنا الأصلي وهو أصل الإنسان.
عندما تتبعنا آثار الإنسان القديم في الطبقات الجيولوجية القديمة في شرقي أنجليا أمكننا الوصول والتعمق بأبحاثنا إلى ما نريد بواسطة ما قد وجدناه من آثاره وأدواته الصخرية المتحجرة إلى وسط عصر البليوسين، وقد توصلنا بعد ذلك إلى الكشف عن بقايا مخلوق آخر أسميناه إنسان جاوه واعتبرناه أنموذجاً للكائن الذي كان يسكن هاته الجزيرة في ذلك العصر. وعرفنا أنه كان شبيهاً بالقردة في شكل الجمجمة فقيراً إلى تلافيف المخ، قليل الإدراك والتفكير، لكننا مع ذلك عرفنا أنه كان إنساناً في مشيته واعتدال قامته.
ولذلك كان واضحاً جلياً أن يعمد العلماء إلى التعمق في بحثهم في عصر أقدم من ذلك العصر بكثير حين تطور الإنسان شكلاً وعقلاً من حال القردة. ومع أنه لم يوجد أي أثر لهذه الحلقة في التطور الإنساني في أي طبقة من طبقات الأرض، وذلك ما جعل العلماء في حيرة من أمرها، فقد وجد في الطبقات الأولى من عصر البليوسين ما ساعدهم على كشف سر هذا التطور والوصول إلى حلقتهم المفقودة.
يتبع
نعيم علي راغب
البريد الأدبي
مؤتمر الكتاب السوفييت
وسير الأدب الروسي الحديث
عقد أخيراً مؤتمر الكتاب السوفيتيين (الروسيين البلاشفة) في موسكو، فشهده زهاء ستمائة كاتب من مختلف الجمهوريات السوفيتية مثل: اليوكرين، والقوقاز، وبلاد الكرج، والتركمان، والغرغيز، ثم روسيا ذاتها؛ وهم يمثلون اثنتين وخمسين أمة مختلفة هي أمم الاتحاد السوفيتي، واثنتين وخمسين لغة وآداباً مختلفة؛ وشهده أيضاً جمهور كبير من كتاب الأمم الأخرى والصحفيين من مختلف البلدان؛ وألقى أعلام الأدب الروسي المعاصر مثل جوركي، وبوخارين، وإيفانوف، وبابل، وايرنبورج، واسكندر تولستوي، خطباً إضافية في وصف الروح الجديدة التي تسيطر على التفكير الروسي، وهي روح الحقيقة الاشتراكية.
وخطب في جمهور الشباب الذين شهدوا المؤتمر الكاتب الفنان أوليخا، فتساءل عن الجيل الروسي الجديد ما هو؟ وماذا يغلب في توجيهه، أهي للعاطفة أم للعقل؟ وهل هو حساس يفيض حناناً ودمعاً؟ وماذا يشعر نحو المجتمع الاشتراكي الذي خلقه ورعاه؟ وكان من المناظر الشائقة أن خطبت صبية سيبيرية في الرابعة عشرة من عمرها؛ فتحدثت عن أماني الشباب نحو الأدب، وطالبت الكتاب الروس بمضاعفة نشاطهم في إخراج الكتب التي يحتاج إليها الشباب، ثم نوهت بما يلاقي الأطفال من رعاية في روسيا، وبأنهم ينعمون بما لا ينعم به الأطفال في أي بلاد أخرى من بلاد العالم.
وقد ساد في المؤتمر على ما يصفه كاتب مشاهد، جو من الحرية والصراحة والإخلاص قلما يبدو في المؤتمرات العامة، وألقيت فيه الآراء المضمرة والظاهرة بحرية لم يحدها شئ، ولم يحجم الكتاب الضيوف عن إبداء آرائهم بمنتهى الصراحة؛ وتولى الرد عليهم أقطاب التفكير البلشفي مثل بوخارين وكارل رادك؛ وكان الجدل برغم احتدامه يطبعه كثير من الصراحة والولاء.
ونقول بهذه المناسبة إن الفن والآداب الروسية لم تتأثر بالموجة البلشفية الهدامة بل ازدهرت في عهد الحكم السوفيتي، وعنى البلاشفة دائماً برعايتها وتشجيعها. ذلك لأن أقطاب البلاشفة كانوا كتاباً وأدباء قبل كل شئ. والاشتراكية تقوم على توجيه الفكر وتغذيته
بالأدب والفن؛ وفي روسيا الآن نهضة أدبية وفنية تضارع أعظم النهضات المماثلة في البلاد الأخرى. وبزغ فجر النهضة الأدبية الروسية المعاصرة منذ سنة 1919 بعد أن خمدت الحركة الأدبية مدى عامين كانت روسيا تضطرم فيهما بنار الثورة والحرب الأهلية. وظهرت الروايات والقصص الأولى المطبوعة بروح الاشتراكية سنة 1920؛ وبدأ الكتاب القدماء باتخاذ أساليب وصور جديدة تناسب الروح والأحوال الجديدة. وفي وسعك أن تتتبع مراحل البلشفية والمجتمع الجديد خلال الكتب. ففي المرحلة الأولى كانت المبادئ الثورية والاقتصادية الجديدة تطبع الأدب بطابع عميق؛ ولما تطورت البلشفية، وأبيحت الملكية الخاصة في حدود معينة، وظهر مجتمع (بورجوازي) جديد، ظهرت الميول (البورجوازية) مرة أخرى في الأدب الروسي ولكن بصورة مخففة. ونشبت هنا معركة بين الأدب الشيوعي المتطرف، والأدب المعتدل، وعاونت الحكومة دعاة التطرف في هذه المعركة؛ وسيطر الجناح الشيوعي على التوجيه الأدبي، وعاق بذلك تقدم الحركة الأدبية. ولكن مهمة الجناح الشيوعي الأدبية انتهت بتغلب السياسة الاقتصادية الجديدة. وفي أبريل سنة 1932 أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي حل جميع الجمعيات الأدبية، ومنها جماعة الحزب نفسه؛ وأعلنت إنشاء هيئة واحدة تضم كتاب الاتحاد السوفيتي جميعاً؛ واستمرت الهيئة الجديدة في طور الإنشاء مدى عامين؛ وهذا المؤتمر هو أول مؤتمراتها.
المناعة ضد الحمى الصفراء
اكتشاف طبي جليل
قدمت أخيراً إلى أكاديمية العلوم الفرنسية مذكرة باكتشاف طبي خطير هو مصل جديد لمقاومة الحمى الصفراء. والحمى الصفراء من الأمراض الوبائية التي تجتاح المناطق الحارة في أفريقية وأمريكا الجنوبية، وتحدث من لدغ البعوض الذي يحمل ميكروبها، وهو المعروف في اللغة العلمية وقد وفق إلى هذا الاكتشاف الجليل الدكتور ليجريه من أطباء معهد باستور في تونس، والدكتور سيلاردس الأمريكي، ومذ اكتشف البعوض الذي يحمل الميكروب كانت مقاومة الحمى الصفراء تجرى بواسطة إتلافه في المدن الاستوائية الكبرى مثل ريودي جانيرو وهافانا وثغور أفريقية الغربية، ولكنه كان في الداخل يعصف بالسكان
شر عصف. فعكف العالمان المذكوران على إجراء البحث لاكتشاف مصل يفيد في المناعة ضد الميكروب ويقي الإنسان نهائياً شر هذا البعوض الفتاك، وتوصلا إلى اكتشافه عن طريق القرد والجرذ. ذلك أن ميكروب هذا البعوض لا تمكن رؤيته بالميكروسكوب؛ وهو شديد الفتك بالقردة، ولكنه لا يؤذي الجرذان إلا إذا كانت الإصابة في المخ، فعندئذ يتحول فعل الميكروب ويغدو شديد الفتك بها، وقد لقح العالمان المذكوران الجرذ في المخ بدم البعوض، ثم استخرجا (الفيروس)(الميكروب) من الجرذ ولقحا به القردة فلم يؤثر فيها. ومن هنا نشأت فكرة المصل الواقي، وقد لقي الدكتور ليجريه صعاباً كثيرة، ومنع من إجراء تجاربه في البشر في معهد باستور، ولكنه استطاع أن يجريها في ثلاثة من التونسيين تطوعوا لذلك، فجاءت النتائج العملية تؤيد اكتشافه. فانتقل إلى أفريقية الغربية، وفاوض السلطات في دكار حتى سمحت له بتلقيح ثلاثة آلاف أوربي بالمصل الجديد؛ وكانت النتيجة باهرة، لأن ألفين لم يحدث لهم شئ؛ وأصيب الألف الباقي بشيء من رد الفعل والحمى اليسيرة؛ وكانت مناعة الذين لقحوا تامة ضد البعوض المعدي؛ وتأيدت بذلك صحة الاكتشاف وخطورته، وقدم بذلك مذكرة إلى أكاديمية العلوم لتتوجه بصفة رسمية.
ويجري اللقاح المذكور على ثلاث دفعات بين كل منها عشرون يوماً، وتؤخذ مادته من ميكروب الجرذان الحي، ويمكن تجفيفه وتصديره إلى الجهات الحارة دون أن يفقد خواصه.
ولا ريب أن سيكون لهذا الاكتشاف أثر عظيم في مكافحة الحمى الصفراء وانقاذ الملايين من فتكها الذريع.
مؤرخ مسرحي
توفي في أوائل هذا الشهر أديب ومؤلف فرنسي كبير هو فيلكس جاف، أستاذ الآداب بالسوربون، وكان مولده في سنة 1874. وقد بدأ بتدريس النحو وفقه اللغة في السوربون؛ ولكنه شغف بالموسيقى والمسرح والفن؛ وعنى عناية خاصة بدرس تاريخ الفن والمسرح؛ وأصدر في سنة 1910 أول كتاب جامع عن (الدرامة)، وعنوانه (الدرامة في فرنسا) ثم أصدر كتاباً عن (المتناقضات في عصر لويس الرابع عشر) وشغل كرسي (تاريخ الأدب المسرحي) في كلية باريس أعوام طويلة، وكان حجة في كل ما يتعلق بهذا النوع من الأدب.
ذكرى أناتول فرانسي
كان يوم 12 أكتوبر الجاري هو الذكرى العاشرة لوفاة كاتب فرنسا الأكبر أناتول فرنس. وبهذه المناسبة عنيت جمعية تخليد ذكرى أناتول فرانس التي يرأسها الكاتب الكبير جول رومان بوضع لوحة تذكارية في قرية بشيليري التي قضى فيها فرانس أعوامه العشرة الأخيرة، وتوفي في 12 أكتوبر سنة 1924، واحتفل بوضع هذه اللوحة في جمع حافل من أصدقاء الكاتب الكبير والمعجبين به. وهي خطوة من خطوات تزمع الجمعية اتخاذها لتخليد ذكراه.
قبر سيرانودي برجراك
للفرنسيين ولع شديد باكتشاف قبور عظمائهم التي طمست وغمرها النسيان، وفي فرنسا جمعيات أثرية كثيرة تعنى بالعمل في هذا السبيل. ومنذ أعوام قلائل استطاعت إحدى هذه الجمعيات أن تعثر بقبر الفيلسوف فولتير ورفاته تحت أقبية الكنيسة التي تذكر الرواية أنه دفن بها. ومنذ أشهر اكتشفت جمعية أخرى قبر الشاعر رونسار في بلدته التي دفن بها؛ وقد قرأنا أخيراً أن جماعة أثرية أخرى تعنى باكتشاف قبر (سيرانودي برجراك) وهو السيد الذي خلد روستان اسمه في روايته الشهيرة. والمعروف أن سيرانو حينما اشتد عليه المرض غادر باريس في سنة 1665 إلى بلدته الأصلية (سانوا) ومات هنالك، ولا يزال اسمه مسجلاً في دفتر الوفيات بكنيسة القرية المذكورة. وقد أجريت مباحث في السهل الذي يوصف بأنه دفن فيه في ظاهر القرية. واكتشف بالفعل هيكل عظمي ظن بادئ بدء أنه هيكل سيرانو، ولكن ظهر من فحصه أن عظامه دقيقة كأنما هي عظام امرأة أو فتى لم يكتمل أطوار النمو. ولكن الباحثين لم ييأسوا، ولازال البحث يجري لاكتشاف رفات سيرانو ذي الأنف الضخم.
النقد
2 -
أصدقائي الشعراء
هذا لا يؤدى
بقلم معاوية محمد نور
وعندي أن السر في أن شعر علي محمود طه المهندس قد نال شيئاً من التقدير والثناء مرجعه لإجادة الصنعة والصقل، ولو أن مواده هي الأخرى تافهة بدائية المعنى، غير صادقة، يعوزها الشعور الفردي القوي، والنظر الأصيل الواحد.
ثم لأن العرف الدارج والعقل الشعبي قد تعود أن يقرن الشعر بمظاهر الطبيعة المعروفة. . فيقول الناس عن ليلة مقمرة: أنها ليلة شعرية، أو عن روضة فيحاء: إنها تبعث على النشوة والسرور، وإنهما لكذلك. غير أن الشاعر الذي لا يتعدى في نغمه ووعيه الشعري سوى ترديد ما تواضع عليه الناس وأقروا به، إنما يدل على أن المحاكاة والتقليد والعرف الدارج هي أميز خواص فكره، وأخص ميادين لعبه الفكري.
وعلي محمود طه يكتب عن الطبيعة ويستوحي النهر والبحر والغدير والقمر والأشباح والرياض والشفق، ويفهم أن (الطبيعة) التي يجدر بأن تنظم شعراً هي الطبيعة في أضخم مظاهرها وأعظمها، وأوقعها في الحس، وأشدها رائحة، وأهولها منظراً؛ وهو لا يفهم هذا الفهم ويتجه إليه لأن مزاجه هكذا، ولكن لأن هذه الأشياء قد كثرت في الشعر وأصبحت معروفة معترفاً على أنها تصلح موضوعاً للشعر، ولو لم يحس الأديب تجاهها بأي شعور غريب أو نظر حديث.
وبديهي أن الشاعر المعاصر الذي لا يلتفت في عالم الطبيعة إلا إلى المظاهر التي التفت إليها خلافه من عهد آدم، يدل أولاً على أن تقدمه الذهني وقف هناك، وأن وعيه الفني لم يتطور؛ ففي الطبيعة خلاف البحر الذي يقف عنده القروي، وفي الطبيعة خلاف الشواطئ التي تقف عندها سفن البحارة، أشياء أخرى أدق وربما كانت ألصق بحياتنا وأجدر بالتفات الشاعر. فالحجر الصلد الذي يقف في طريقك، و (الشارع) الذي تصقله مصلحة التنظيم حيث يعمل جماعة المهندسين، والفأر الهارب من سفينة خربة، والذباب الذي يطن على
جيفة عفنة، وقطعة الحديد التي أكلها الصدأ، والخشب الذي نأكل عليه، والزرع الذي نلبسه ثياباً، والعصفور الوحيد الذي ينتقل من بيت لآخر، والنمل، والنحل، وصوت الباخرة، وضجيج الترام، وخلافها من المظاهر التي نراها ونسمعها في غدوّنا ورواحنا هي أجزاء حية في الطبيعة، والالتفات إليها في وضع جديد أتى به نظام حياتنا الراهنة وحضارتنا المعاصرة، لأدلّ على فهم الطبيعة من آلاف القصائد عن البحر والشفق والنجوم!.
ويجب ألا يفهم من هذا أننا ننكر على الشاعر أن يعنى بمظاهر الطبيعة الكبرى البدائية الجميلة أو المتوحشة، ولكن هنا يقل الإبداع، ولا يسلم الشاعر من الإسفاف والتفاهة، إلا إذا كان عملاقاً عظيم النظر فريد الشاعرية؛ كما إننا لا ننكر الالتفات إلى (المظاهر الرومانتيكية) التي يولع بها المهندس، ولكن هذا الالتفات وهذه العناية (بالربيعيات) يسهل فيه الغش، وتندر به الإجادة والتفرد؛ وهو أقرب طريق يلجه الأديب القليل الحيلة، المقلد الأسلوب، الذي لا تميزه شارة، ولا يستشف في تكوينه إصالة نظر أو عمق تفكير.
وكثير من شعراء أوربا المعاصرين اقتربوا من الموضوعات الرومانتيكية بأسلوب جديد، فبدلاً من الحديث عن سحرها وخوفها وهولها، تراهم يحاولون تفسيرها والنظر إليها من خلال شعور وعقلية رأت وسمعت وقرأت ما يجعلها تنظر إلى هذا الجمال والهول والخوف من زوايا جديدة ليس فيها ذلك الجهل الناطق. فإن كل شئ لا يعرفه الإنسان يبدو له سراً تحار فيه الأذهان، ولو كان من أبسط البسائط!
فالقروي الذي يزور القاهرة لأول مرة ويشاهد (المصعد الكهربائي) لا يمكنه إلا أن يذكر الله والأسرار، وتتملكه الحيرة والعجب، فإذا حاول مثل هذا الرجل أن ينظم قصيدة عن (المصعد) فقد تروق لأمثاله الذين لا يعرفون الميكانيكيات (وقوانين الطبيعيات). ولكن القارئ المتحضر لا يستطيع قراءة قصيدة تنسب إلى هذا المصعد أهوال الجن وعمل الشياطين!
فالثقافة ووعي العصر الذي نعيش فيه لابد منهما لأي فنان يكتب ليقرأه الجيل الذي يعيش بينه، وذلك لأن الشاعر المصري المعاصر لا يعيش في (شبره) أو (ديوان حكومي)، ولكنه قبل ذلك إنسان حي يعيش في كل العالم، ويحس ببعض ما يدفع بالنفوس الآدمية إلى مناجاة النفس مثلاً في روسيا، أو الحركة والعمل في أسبانيا واليابان. والذي يستطيع أن يرى في
شارع عماد الدين مثلاً وجوهاً وأجساماً وثياباً وآلات كاملة الصنعة مصقولة المظهر، يخبر مظهرها عن السكون والاطمئنان، غير إنها تفتح عوالم داخلية مروعة. وبالاختصار فإن الفنان الذي - لم يحس بقبس أو لمحة أو ناحية من (تيار وعي) كامل يمكنه من رؤية التشابه في أشياء، ومظاهر بادية الاختلاف، أو بالعناصر والقوى والفكر التي تذهب جميعاً لإخراج فكرة أو مظهر عادي مما نراه في حياتنا اليومية؛ ليس لديه تلك الملكة الشاعرة التي تستطيع أن تبني القصور من الرماد والهواء، أو تحلل السيارة الجيدة الصنع، الجميلة المظهر إلى عناصر حلم وغفوة إنسان وعصب حيوان، أو فقرات مادة سنجابية وجرح عامل فقير، ليس له ذلك الإحساس النافذ القدير على التكوين والتحليل، الذي يجبر القارئ على الإنصات له والاستماع لنغمه الشعري.
وإني لأعجب كيف يعجب أي قارئ له حظ من الثقافة ودقة الحس بكلام مثل هذا:
رب ليل مر أمضيناه ضماً وعناقا
وأدرنا من حديث الحب خمراً نتساقى
في طريق ضرب الزهر حواليه نطاقا
وتجلى البدر فيه، وصفا الجو وراقا
فإذا كان هنالك حب وضم وعناق، وزهر وبدر وجو رائق، فالإنسان العادي ليس به حاجة ليحس بنشوة آدمية حسية من غير أن ينظم له هذا الكلام شعراً. وإن أي أفريقي في أدغال أفريقيا، حينما يصفو الجو، وينمو الزهر، ويشرق البدر، ويحب امرأة يستطيع أن يقول هذا الكلام.
وعند علي محمود طه أيضاً شعور غير محمود بأنه شاعر، ذلك لأنه قد ضم كل الشعريات وأحصاها في ديوانه. فقصيدة ميلاد شاعر مثلاً كلها تمجيد لهذا الرجل الذي يحسب نفسه شاعراً، لأن لفظة الشعر والشاعر والزهور والألحان تكثر في كلامه.
والرجل الذي يستطيع أن يكتب - بعد معرفتنا الحاضرة وشعورنا المحدود الذي أتاحه لنا العلم والبحث العصري مثل هذه الأبيات الآتية، إنما أحسده لبساطته التي لا تحسد.
وتجلى الصدى الهتوف الساحر
…
في محيط من الأشعة غامر
وسكون يبث في الكون روعاً
…
وقفت عنده الليالي الدوائر (كذا)
واستكان الوجود والتف الدهر
…
وأصغت إلى صداه المقادر (كذا)
وقد يتورط محمود طه في غرامه (بالشعريات) برسمه صوراً مضحكة إذا لم تكن مستحيلة كقوله:
ماؤه ذوب خمرة وسنا شم
…
س وريا ورد وألحان طائر
وعنده إذا لم يجعل هذا الماء ذوب خمر وسنا شمس وريا ورد وألحان طائر في آن واحد فهو ليس بشاعر. وأي منطق يستطيع أن يفهم شيئاً يكون سنا شمس محرقة، وريا ورد، ثم يكون في نفس الوقت صوت طائر؟!. اللهم إن هذا إلا خلط قبيح لا نرضاه لصديقنا الشاعر.
وليس أدل على فهم شاعرنا لطبيعة الشعر من قوله في رثاء شاعر:
وهو شعر صورت ألوانه
…
بهجة الفجر وأحزان الشفق
ونشيد مثلت ألحانه
…
همسات النجم في إذن الغسق.
وفي قصيدة (الله والشاعر) بساطة مؤلمة في أن يأمر أديب الأرض بأن:
مدى لعينيه الرحاب الفساح
…
ورقرق الأضواء في جفنه
وأمسكي يا أرض عصف الرياح
…
والراعد المغضب في أذنه
فهذا كلام لا يشرف أي طالب في مدرسة ثانوية، فضلاً عن شاعر عصري. والقصيدة ملآى بهذه الأشياء التي تواضع البسطاء على إنها الطبيعة التي لا طبيعة غيرها.
مر بنهر دافق سلسبيل
…
تهفو القمارى حول شاديه
في ضفتيه باسقات النخيل
…
ترعى الشياه تحتها غانيه
فإذا كان هذا النهر ملحاً مثلاً، وكانت هنالك ضفادع على حوافيه، وأحجار تدمي الأقدام بدلاً من النخيل، فليس هنالك طبيعة تجدر بالشاعر والشعر!:
حتى إذا شارف ظل الشجر
…
في روضة غناء ريا الأديم
قد ضحكت للنور فيها الزهر
…
وصفقت أوراقها للنسيم
فهذا الشاعر لا يكفيه أن تكون هنالك روضة غناء ريا الأديم ولكن لابد أن يضحك الزهر ويصفق النسيم لأول مرة!
أما المسائل الفكرية التي أثارها الشاعر في حواره مع الله فهي أول ما يقرأ الطالب في
العلوم الدينية في باب القضاء والقدر. إن مسألة الإثم والشر لا يعالجها فنان عارف بمثل هذه البساطة
. وفي قصيدة (قيثارتي) مثل قوي لهذه النزعة نحو (الشعريات) التي حاولنا إيضاحها، وهذه هي أواخر الأبيات من غير تحوير ولا مبالغة، ولو أنها أشبه بالمبالغة والتحوير:
الغور والآكام. الشعر والإلهام. مودتي وذمامي - قديم هيامي. قلبي الدامي. دمعي إلهامي. حبيسة الأنغام.
إن مثل هذا الشعر ليوحي إلى القارئ الدقيق الحس كراهة الآكام والزهور والبحار والأنغام وما إليها لهذه النغمة المبتذلة الكثيرة التكرار، التي لا تحس معها بواقعة حال صحيحة، أو شعور نضر مباشر!
وإنما أتينا بهذه الاستشهادات لندل القارئ على إننا لا نتعسف، وإلا فإن الديوان كله يصح أن يستشهد به، فما يخرج من ألفاظه ومعانيه عن هذه الألفاظ والأمثلة والمعاني.
وقد كنا نظن أن أصدقاءنا من الجيل الجديد الذين يشتغلون بالشعر، يفهمون الشعر على حقيقته، وأنه ليس ألفاظاً ومبالغات عن عالم الطبيعة والزهر والحب وما إليه من الألفاظ والأخيلة التي يسهل على أي يد تحرك القلم أن تأتي بها.
أصدقائي الشعراء، أقولها لكم مخلصاً: إن هذا عبث قبيح بالكبار. وأقبح ما فيه أن يأتي من جيل جديد له دعوى كبيرة نسمع عنها في الصحف، وهو على هذا التخلف المعيب في فهم الفنون والحياة. ولو أننا رأينا الاتجاه صحيحاً، وأن الطريق الذي تسلكونه مهماً كانت النظرة زائغة والنغم غير منسجم لتساهلنا، وكانت معالجتنا للموضوع غير هذه، غير أن الطريق من أوله خاطئ، وأن الفهم من أساسه غير صحيح، وأن هذا الطريق لا يؤدي أبداً، وأن الشيء الذي نسميه شعراً هو خلاف هذا في جملته وتفصيله، فمن شاء منكم فليرجع إلى نفسه يحاسبها، وينظر من جديد، ويقرأ ما يقول خلافه من الشعراء الفحول، وخاصة المعاصرين في أوربا ليرى في أي طريق تسير الأقدام، وأي عوالم يكتشف الفنان المعاصر، وأي المسائل يبحث النقاد، وأي (وعي فني) يجدر بالفنان الحي الذي يعيش في عالم الأحياء الشاعرين.
معاوية نور
القصص
الأم الثانية
للأستاذ محمد سعيد العريان
كم كان نجيب أفندي وفياً لزوجه براً بأسرته؛ إنه لم يكن يسمح لنفسه أن يقضي خارج البيت قليلاً من الوقت لغير عمل؛ فأيان تلتمسه لا تجده إلا في الديوان أو في البيت، وفي فترات قليلة كان يجلس إلى أصحابه في النادي يستمع إليهم ويستمعون إليه، ولكنه كان حريصاً كل الحرص على الموعد الذي حدده لعودته إلى حيث يجد في الأنس بزوجه وولديه ما لا يجد جزءاً منه في مكان آخر. لقد كان من طراز غير طراز هؤلاء الكثرة من الرجال الذين لا يعرفون البيت إلا كما يعرفون الفندق أو المطعم، ولا يفهمون من واجبات الأسرة إلا كما يفهم المدين ألح عليه دائنه، ولا من حقوق الزوجة إلا ما تلهمه الغريزة، ولا من بر الوالد أكثر مما يفهم مدير ملجأ اليتامى. .!
ولم يكن يعجب لشيء أو يرثي لأحد عجبه ورثاءه لهؤلاء الذين لا ينفكون يصرحون بالشكوى والألم من متاعب الزوجية وقيود الزواج؛ بل لقد كان يسيء الظن بهؤلاء الشاكين ويرميهم بالحمق وسوء التدبير في سياسة بيوتهم أكثر مما يرثى لهم ويعجب.
ولكن هذه السعادة التي كانت تشرق عليه بالبشر والإيناس، وتعمر صدره بالبهجة وحب الحياة - لم تلبث أن زالت؛ وتبدل البيت من أنسه وحشة، وتحولت ضحكات الفرح والمسرة فيه إلى همسات حزينة باكية، وخيم الظلام الموحش الرهيب. . لقد ماتت زوجه. .!
مَن لهذين الصغيرين يرعاهما ببره، ويسبغ عليهما من عطفه وحنانه ما يعوض عليهما بعض ما فقداه من بر الأم وحنانها؛ مَن لهذه الصغيرة (كريمة) يرتب شعرها ويغني لها في الصباح تلك الأغنية الجميلة التي كانت تدللها بها أمها وهي توقظها في رفق لتذهب مبكرة إلى المدرسة الإلزامية القريبة. ومَن للصغير (صلاح) وما تزال الأرض تجاذبه فما يمشي خطوات إلا معتمداً على الحائط، ثم يتم سيره حبواً على الأربع؛ ومن ذا يقطف من ثغره الزهرة الناظرة حين يبتسم، ويطبع على خده القبلة الناعمة حين يبكي؛ بل من ذا يجيبه حين يحرك شفتيه بالكلمة العزيزة التي لا يعرف غيرها:(أمي!) وقد ماتت أمه. ومن ذا
يعوض على نجيب زوجه التي فقد بفقدها نضارة عيشه، وبهجة حياته، وأنس أليفه، وأم ولديه. .؟ إنه ما يزال يذكر ذلك الحديث القصير بينه وبين كريمته غداة حملوا أمها إلى حيث لا تراها، فتسأله:
- أبي، أين أمي؟
- أمك عند أبيها يا كريمة.
- لقد كنت أظنها عند الطبيب، وأين أبوها؟ إنني لا أعرف بيته
- أبوها هناك. في مكان بعيد لا تعرفينه ولا أريد أن تعرفيه.
- ولماذا لم تأخذني معها، لقد غابت كثيراً فمتى تعود؟!
وأخفى الرجل دمعة تنحدر على خده، وأطبق فمه أن تفلت منه زفرة محبوسة؛ وقام يستحث الخادم على إعداد الطعام. . لقد ترك هذا الحديث في نفس نجيب أثراً عميقاً كان عسيراً عليه أن ينساه، وكان أليماً أن يذكره؛ وكلما أحس أن ابنته توشك أن تعود إلى مثله أسرع يقص عليها حكاية مسلية، أو يروي نادرة مضحكة ليصرفها عن الحديث. .
وأنس الصغيران إلى أبيهما، ومرت يد الزمن رفيقة على رأسيهما فمحت منهما تلك الذكريات عن صاحبة الوجه الجميل التي كانا يدعوانها أمهما إلى قريب. ولكن هذا الزمن لم يستطع بأيامه ولياليه أن يمحو هذه الذكريات وذكريات أخرى عزيزة كان يحتفظ بها نجيب أثراً من ماضيه السعيد.
وكلما مرت الأيام أحس نجيب بالوحشة والفراغ من حوله، وعاد يستذكر الماضي بما فيه، ويقلب حوله عيناً حزينة لا تقع على أثر من آثار ذلك إلا عادت ملأى بالدموع. ومضت خمس سنين وهو يعيش في هذا البيت عزباً يرعى ولديه، ويقوم بأمرهما قيام الأم والأب، تعاونه خادم صغيرة على إعداد الطعام وتنظيف البيت وقضاء حاجات الصغيرين. .
وأتمت كريمة دراستها الأولية والتحقت بمدرسة ابتدائية قريبة من الحي، وأخوها يتأهب لأن يفارق معلم (الكتّاب) وعصاه إلى المدرسة، ونجيب ما يزال على عهده يشعر بالضيق من وحدته، ويتمنى لو يستطيع أن يظفر بزوج تعمر هذه الدار الموحشة، وتعيد إليها بهجة فقدتها منذ عهد طويل، بل تشرق بابتسامتها في وجهه العابث، وتمهد بيدها الناعمة فراشه الخشن، ولكنه. . . ولكنه يحب ولديه ويريد أن يؤثرهما بهذا الحب، وهو يرى أنه ليس
في الوجود إلا أم واحدة لكل مخلوق وأب واحد وقد ماتت أمهما! وأنه ليخشى أن يفقدا في سبيل البحث لهما عن أم ثانية - أباهما الواحد؛ يخشى أن تستأثر به زوجه فلا يكون لهما أب ولا أم!
وتعرّف إلى صديق جديد، هو زميله في الديوان، وتوثقت عُرى الودّ بينهما فاطمأن كل منهما إلى صاحبه، وتعاهدا على الوفاء فكانا روحاً في جسدين، واتحدا عاطفة وإحساساً فصارا - كالشخص وخياله - يبتسمان ويقطبان في مرآة.
وعرف (إبراهيم) من حال صاحبه ما نعرف فنصح له أن يتزوج، وعرض عليه أخته زوجاً له وأماً لولديه. . . ومضى شهران زفّت بعدهما (زينب) إلى نجيب، فرأى من أدبها وإشراق طلعتها وحسن معاملتها لولديه - ما أعاد إليه بهجة الشباب. وكأنما تناول القدر مقصاً قطع به ذلك الجزء الباقي من صور الماضي القريب ليصل عهدين كلاهما له من السرور رونق ورواء.
وعاد إليه أنسه، واطمأنت نفسه، واستروح نسيم السعادة وتفيأ ظل الاستقرار، ومضت أشهر.
وقالت له زوجه: (البيت مدرسة الفتاة، فهلا احتجزنا كريمة عن مدرستها تعرف من شئون البيت ما عرفت من فنون العلم، وتجيد في الطهي ورفو الثياب ما تجيد من القراءة ومداعبة القلم؟)
وتريث نجيب قليلاً ثم سمع لكلام زوجه، وبقيت كريمة من اليوم التالي في البيت تستمع إلى دروس جديدة من فن تدبير المنزل، وعرفت كيف تدير الملعقة في القدر، وكيف تقشر البصل وكيف تغسل الأطباق وترتبها على المائدة في نظام جميل. وكانت تفرح حين تكلفها (أمها) إعداد شئ، أو تطلب إليها مرافقة الخادم إلى السوق لقضاء حاجة، ولم يكن يسوءها شئ أكثر مما تسوءها سرعة اتساخ ملابسها الزاهية؛ لأنها كانت تغسلها بنفسها. . وخرجت الخادم مرة فلم تعد؛ لأن زينب طردتها. وقالت لزوجها:
- إن هؤلاء الخادمات لا يحسنّ القيام بشيء غير طلب الأجر، وأكثرهن لا يعرف الأمانة ولا يشكر النعمة؛ فلا تتعجل في اختيار أخرى قد تكون شراً من سابقتها، وسأبحث على مهل عن خادم أمينة لا تضايقنا ما كانت تضايقنا تلك الفتاة الملعونة. . . وأسند عمل الخادم
مؤقتاً إلى كريمة، ولكن هذا التوقيت لم يكن إلى نهاية. . .! فلم تعد تلك الفتاة الناضرة التي كانت، وانطفأ بريق عينيها، وذبل خداها، وعلت وجهها غبرة من الحزن كانت تواريه عن أبيها. . . وأخذت تعود إلى رأسها الصغير ذكريات بعيدة مشرقة، تبدو خلف ضباب البعد في فتنة الخيال - ذكريات عن أم أخرى رفيقة كانت دائماً تبتسم في وجهها، وكثيراً ما كانت تحتضنها إلى صدرها وتقبلها وتعنى بنظافتها وراحتها، فتصنع لها اللعب وتشاركها اللعب بها؛ وكانت إذا جاء المساء تروح تحدثها حديثاً عذباً، وتقص عليها حكايات لا تزال تذكر بعضها، فإذا جاء وقت النوم احتوتها بين ذراعيها، ثم لا تستيقظ في الصباح إلا على نغمات من صوتها النديّ الرقيق. أين ذهبت تلك الأم فلم تعد، ومن هذه الأخرى؟ لقد كانت أمها الأولى أرحب صدراً وأوسع عطفاً وأكثر حناناً.! وابتدأت الفتاة تتبرم بما تؤديه من عمل، وابتدأت زينب تشكوها إلى أبيها. وأول مرة سمعتها كريمة من بعيد تحدث أباها عنها ذهبت إلى غرفتها وجلست تبكي، فلم يسأل عنها أحد.
ويوماً عاد صلاح من المدرسة في الصباح، فقد طرده الضابط لقذارته، وانهالت عليه (أمه) توبخهوتشتمه، وتركته منزوياً في جانب من الردهة يبكي حتى عاد أبوه في الظهر. ورفعت إليه الشكوى من (ولده) وتجاهلت أشياء واختلقت أشياء. وغضب الوالد، وهم بالولد يخيفه برفع يده، ووقفت كريمة في الطريق:(أبي، ما هذا؟ إن أخي لم يفعل ذنباً، أمي هي التي تهمله!)
وسقطت يد الرجل بجانبه، لقد رأى كريمة في صورة أخرى، لكأنه لم يسمع صوتها منذ زمن طويل. هذا الصوت الذي تحدثه به لشد ما أثار في نفسه من ألم وأعاد إلى رأسه من ذكريات. ووازن بين صورتي ابنته أمس واليوم؛ صورتها أمس في طفولتها الجميلة وهي جالسة في حجره تعبث بشاربه وتربت بيدها على خده. لقد كانت مثل زهرة تفتحت في الربيع تتألق في حسن وتفوح بعطر - وصورتها اليوم! ماذا تلبس؟ إنها ثياب الخادم المطرودة. . . وحوّل وجهه إلى ناحية أخرى فأبصر ولده متجمعاً من خوف في زاوية المكان: صلاح. ووقف الولد يرتعد، وجذبه أبوه برفق، وطأطأ رأسه في ذلة، وانحدرت من عينيه دمعة: ولدي. وتهدج صوته فأمسك عن الكلام؛ وأحست زينب عاصفة توشك أن تنقضّ فانسحبت في هدوء.
لم يتحدث نجيب مع زوجه في شأن العناية بولديه، فقد عرف معنى انسحابها، وأدرك أنها فهمت ما همّ أن يفعله. . . وعادت الحياة في البيت مطمئنة هادئة، فقد غيرت زينب سياستها في معاملة الولدين، ونسي نجيب ما كان، أو كاد.
وليلةً جلسوا على المائدة للعشاء، ومد صلاح يده يتناول قطعة من الفاكهة، فانجذب إليه غطاء المائدة فتلف نظامها وسقط بعض الأطباق على ملابسه وملابس أخته في جواره، وغضب أبوه ونظر إليه نظرة، وتوقفت زينب عن الأكل لحظة تقلب بصرها في نظرات ذات معنى بين الولد وأبيه، وتألم الولد فقام عن المائدة يدعي الشبع، ثم نهضوا جميعاً. ولم يطل بهم السهر تلك الليلة فصحب الرجل زوجه إلى النوم، وترك الولدين يهيئان فراش نومهما في غرفتهما. ولما سكن الصوت قالت زينب:
- نجيب! أرأيت ما فعل صلاح؟ لقد فقدت شهوتي للطعام حين رأيتك متألماً لما فعل، ألا ترى من الخير أن يأكلا وحدهما؟
- زينب! اسكتي. ونهض الرجل إلى الفراش ولكن لم يغمض له جفن، لقد تعاورته أفكار مظلمة، وأخذ يردد النظر بين حاضره وماضيه، لقد كان للأسرة معنى يحس وحدته في قلبه فأصبح لها في مرأى عينيه معنيان؛ في زوجه وولديه. ورجع أدراج الزمن يلاحق ذكريات عزيزة كاد يطمسها البعد الطويل؛ ثم أخذته إغفاءة الفجر، وخرجت له امرأته الأولى من فكره المضطرب وقلبه المتألم - طيفاً يعاتبه؛ وتخلت عنه حجة المعتذر؛ وأغضى حياءً من عنف تأنيب تينك العينين؛ ورأى ولديه يفران في رعب وفزع إلى حيث يلتمسان الأمان في صدر أمهما. وابتسم الطيف في رثاء وألم. . . واستيقظ، فارتدى ملابسه على عجل وخرج مبكراً إلى الديوان.
ووقف إبراهيم أفندي على سر صاحبه، وآلمه من أخته أن تكون على ما وصف زوجها قسوة وغلظة، ولم يخش على عشها أن ينهدم أكثر مما يخشى على ما بينه وبين صديقه من ود أن تنفصم عروته، وينحل وثاقه، ويعبث في عقدة الإخلاص منه إصبع الشيطان أو إصبع امرأة. . . ودبرا أمراً وافترقا على ميعاد.
في عصر ذلك اليوم دعا نجيب زوجه إلى نزهة، فركبا سيارة إلى بيت أخيها حيث استودعها نجيب إلى أن يعود. وأبدى إبراهيم لمقدمها شعور مرتاح وهو يخفي الغيظ في
صدره، وتعلق بها أولاد أخيها يتجاذبون ثوبها في سرور ظاهر، واستقبلتها زوجه بقبلة وداد وعناق مشتاق؛ واستدارت بهم حلقة يتناولون من كل حديث طرفاً، ويتبادلون شتى ذكريات أمس وأنباء اليوم وآمال الغد:
منذ أشهر لم تطأ زينب عتبة هذه الدار؛ منذ فارقتها إلى بيت زوجها تعترك في رأسها أحلام، وتصطرع في نفسها عواطف، وتعبث بطمأنينتها رهبة، وتتحرك في دمها غريزة امرأة، ترى ماذا تحقق من أحلامها وما أخفق وماذا تسعى إليه بعد، وأي حاليها كانت خيراً: حالها الآن وقد أصبحت ربة بيت وصاحبة أمر وسلطان، أم حالها أمس في تلك الغرفة من بيت أخيها ريانة شبعانة كاسية، ثم حسبها مما وراء ذلك من سعادة العيش أحلام لا تولد إلا في الظلام فلا تعيش تحت الشمس؟
وانتهت تأملاتها وقد زحف الظلام ولم يعد نجيب؛ ترى أي جليل من الأمر تلكأ به وهو الوفي إذا وعد! وهتف نفسها إليه، وهتف باسمه الشوق، وتحدثت إليه المنى: متى يعود.؟ ومد الليل رواقه ولم يعد، وراحت تتناهبها الأفكار، وتنوشها الهواجس، وتعبث بلبها مختلف الخواطر، وذكرت موقفها من ولديه أمس وموقفه، وخشيت أن يكون به ألم من بعض ما فعلت يريد أن يعاقبها عليه. . .
وكأن لم يكن لها عهد بالأكل على مائدة أخيها فجلست تقلب بصرها في أنواع الطعام وفي وجوه الآكلين، لا تكاد تمد يدها أو تحرك فكيها. وقاموا عن المائدة، ثم أوشك الليل أن ينتصف ولما يعد نجيب. . . وغلبها الخوف والألم، وهمت أن تكاشف أخاها بما في نفسها فلم تفعل، وطوت صدرها على هم متكبر! وقام أخوها يتثاءب فدعاها إلى النوم هناك. . . في الغرفة التي ودعتها منذ أشهر يوم صحت من أحلامها تستقبل الحياة التي طالما تمثلتها وتخيلت أيامها ولياليها في كنف الزوج العزيز. . وسلخت ليلتها لم تنم على جنب واحد، وأقبل الصباح أقبح من ليل داج مخيف. ومضى يوم ويوم وأيام وهي تصبح وتمسي على حال واحدة، وأحست أنها ضيف مملول. وشعرت بالوحشة تكتنفها، واجتمعت عليها الأفكار السود، ولم تستبن في ظلام يومها ما يضمره لها الغد، وأيقنت بما هناك. . . أترى زوجها يقدم على ذلك وهو الذي كانت تعرف من حبه إياها أنه يشق عليه أن يفارقها لحظة، فهل يطيق أن يفارقها إلى الأبد؟ ولكنها لم تحرص على هذا الحب، لقد كانت تطمع أن يكون لها
وحدها قلبه، وأن تستأثر بحبه من دون ولديه، ففقدت كل شئ ولم تظفر بشئ!!
وقال لها أخوها وقد جلسوا للطعام:
- لماذا لا تأكلين يا زينب؟ لعلك تخجلين أن تجلسي معنا على المائدة، فلا حرج أن تأكلي وحدك إن كان يحلو لك ذلك؛ وتستطيعين أن تطهي طعامك بيدك إذا أحببت ألا تأكلي من طعامنا. ونظر إلى زوجه ونظرت إليه. وسكتت زينب فلم تجب، ولم تأكل أيضاً، فقد ازدحمت في عينيها الدموع. وقامت عن المائدة فلم يلح عليها أن تجلس كما يلح على زوجه وأولاده حين يفرغون قبله من الطعام. أتراها ثقلت عليهم إلى حد أن يكرهوا أن تأكل معهم من طعام واحد؟ لقد هانت عليهم من قبل، حين أذنوا للخادم أن تسافر لزيارة أمها، وتركوها وحدها تؤدي عملها، فلم يساعدها أحد أو يشكر لها يداً، أي هوان!
وخلت إلى نفسها تبكي وتدفن الزفرات في صدرها، ثم تحصي الزمن وتقدر حساب الغد. لقد طال بها الانتظار ونجيب لما يعد. . ومرت بها من الماضي صورة فذكرت. . لكم كانت قاسية جبارة في معاملة كريمة وصلاح، ما أقبح الجريمة وما أعدل الجزاء! وانحدرت على خدها عبرة الندم. لقد كانت عمياء فأبصرت، واشتملها إحساس عميق بالرثاء والعطف؛ كيف لم تدرك من قبل سوء ما كانت تصنع؟ إنه ذنب الصغيرين، ستكفّر عنه حين تعود، ولكن. . . هل تعود؟
وتركت كبرياءها في الغرفة وخرجت تحدث أخاها:
- إبراهيم، ألم يقابلك نجيب؟
- بلى.
- انه لم يحضر!
- أعرف ذلك!
- وهل تعرف السبب؟
- السبب؟!
وتركها مطأطئة الرأس تبكي في حسرة وندم ومذلة، وراح يخفي علائم الظفر تبدو في أساريره؛ لقد أفلحت الخطة ونجح العلاج.
وحين عاد في المساء كانت زينب لا تزال تبكي. لقد غلت القدر وتوشك أن تنفجر؛
واقترب منها فوضع يده على كتفها؛ ورفعت إليه عينين مخضّلتين بالدموع، واندفع في غير رفق يصب عليها جام غضبه، ويوجه إليها قارص اللوم وعنيف العتاب؛ وراحت تعتذر في كبرياء جريح، وراح يحملها تبعة ما يخشاه؛ يخشى أن يفقد صديقه أكثر مما يخشى أن تفقد زوجها. . . ثم ترك القدر في غليان.
والتقى الصديقان، وقص إبراهيم على صديقه ما سمع وما رأى. . . وجلست زينب تصارع اليأس بالإيمان، وتغالب الحزن بالأمل. ومر يومان ولم يعد إبراهيم إلى التحدث معها في شأن زوجها، ولم يعد نجيب. وغلبها الهم واليأس، واستسلمت للمقادير مؤمنة بأنها إنما تلقى جزاءها العادل. وجاء يوم الجمعة ثالثاً وعاد إبراهيم من الصلاة ومعه ضيف. لقد عاد نجيب بعد طول الغياب!
وجلسوا حول المائدة يتداعون إلى شهي الطعام، ويتبادلون بين اللقيمات كلمات قصيرة عذبة. ثم انفضوا عن المائدة يسمرون، إلا نجيباً وزينب؛ لقد ظلا صامتين، ولكن ضمائرهما كانت تتناجى في حديث خافت، وخواطرهما تفترق وتتلاقى.
وفي اليوم التالي حين عادت زينب إلى عشها المهجور كانت أسعد منها يوم قدمت إلى هذا البيت أول مرة عروساً متوجة بالزهر مودعة بالزغاريد. ورأت كريمة (أمها) فأسرعت تسلم عليها في لهفة وشوق، وعلى فمها ابتسامة، وفي نظراتها بشر وفرح وترحيب. وهرول إليها صلاح يتعلق بذراعها ويجذبها إلى الخلف كأنما يخشى أن تهجره ثانية إلى غير لقاء.
لقد استوحش الطفلان لغيبة زينب، فنسيا كل ما كان من قسوتها، لأن قلوب الصغار طاهرة بريئة، لا تمسك العداوة، ولا تذكر السيئة، ودنياها يومها المتجدد. وكأنما أحس الولدان إن المصيبة إن كانت في فقد الأم، فتمامها أن يفقدا شبه الأم!.
ورأت زينب في ترحيب الصغيرين معنى لم تحسه من قبل، وتحركت فيها الأمومة، وتزاحمت في رأسها إحساسات شتى: من الندم، ومن الحب، ومن التأثر بهذا الوفاء. وطفرت من عينيها قطرتان من الدمع تلهبان خديها بأقسى مما يلذع صدرها الندم. واقتربت منها كريمة وعلى شفتيها تساؤل مشفق:
- أمي، أنت تبكين؟ لا يا أمي، لا تبكي لا تبكي. ودفنت رأسها في صدر زينب مختنقة
بالعبرات. ووقف صلاح على مقربة، وقد وضع إصبعه على فيه في حيرة ودهش مما يرى. وتحرك في قلب زينب حنين الحب، فمسحت بيدها في رفق وحنان على رأس (ابنتها) وتدانى فم من وجنتين. وأقسمت، وأشهدت ربها، لتكونن من اليوم لهذه الطفولة الوفية - أمهما الثانية.
محمد سعيد العريان