المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 680 - بتاريخ: 15 - 07 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٨٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 680

- بتاريخ: 15 - 07 - 1946

ص: -1

‌من الفصول المزيدة على كتابنا (في أصول الأدب):

النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه

ذكرنا في ختام المقالة الأولى أن حظ العرب من تاريخ الأدب قد ضؤل لأنه فرع من التاريخ العام؛ وفن التاريخ العام بمعناه الصحيح لم يكن في طوقهم لعجزهم عن وسائله وجهلهم بعلومه. ثم أضفنا في المقالة الثانية في بسط العوامل المؤثرة في الأدب لنوضح العلاقة الوثيقة بين التاريخ السياسي والتاريخ الأدبي.

وفي هذه المقالة نذكر نقصا آخر في الوسائل الضرورية لمؤرخ الأدب وهو ضعف أدبائنا القدامى في النقد واعتسافهم طرائق الحكم فيه. والنقد كما علمت داخل في تعريف تاريخ الأدب بمعناه الأخص؛ فالعجز عنه أو الضعف فيه يستلزم حتما ذلك النقص الذي تراه واضحا في أكثر ما صدر عن أسلافنا من تعليل أو موازنة أو حكم. فإن من يطلع على ما أثر عن السلف من الموازنة والنقد يجد الخطأ في الأقيسة، والخلل في الموازين، وذلك لتحكم الذوق الخاص واستبداد الهوى المطلق، وإرسال الناقد الحكم على غير قاعدة مرسومة ولا مذهب معين. وربما اكتفوا في تقديم شاعر أو تفضيل بيت بالعبارة العامة، أو الإشارة المهمة، أو الهتاف الموجز كقولهم: ولله دره إذ يقول. . . وهذا مما لم يسبق إليه أحد. . . وما أحسن هذا البيت!. . .

هذا أبو المنصور الثعالبي قد أفرد في كتابيه: الإيجاز والإعجاز، وخاص الخاص، بابا مسرف الطول لوسائط قلائد للشعراء، رتبهم فيه ترتيبا زمنيا من عصر الجاهلية إلى عصره، ثم حكم على كل شاعر بجملة من جزاف القول لا تعليل فيها ولا فائدة منها، كقوله: يقال إنه أمير الشعراء، وأمير شعره قوله:. .، ومن جوامع كلمه قوله. . . وأمير شعره وغرة كلامه قوله. . . وليس للعرب مطلع قصيدة في مرثية أوجز لفظا وأحسن عنى من قوله. . . وأمدح بيت قالته العرب في الجاهلية قوله. . . ومن لطائف كلامه وطرائفه قوله. . . فلما أراد الإسهاب والاستيعاب في كتابه:(يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) عنى باللفظ المختار والسجع الرائق والاختيار الحسن؛ ولكنه لم يعن بالخطوط التي تميز كلاما من كلام، ولا بالحدود التي تفرق بين شاعر وشاعر. فلو نقلت ما قاله من المدح في شاعر إلى شاعر آخر لما تغير المعنى ولا أضطرب السياق. والأمر كذلك في كل ما ألف

ص: 1

من الكتب على طراز اليتيمة كدمية القصر للباخرزي، وخربدة القصر لعماد الدين الأصفهاني، وريحانة الألباء لشهاب الدين الخفاجي، وسلافة العصر في محاسن أعيان العصر، لأبن معصوم المحبى.

كذلك فعل الأدباء اللغويون كالأصمعي في كتابه (فحول الشعراء)، فقد توخى فيه تمييز فحول الشعراء من غيرهم بأحكام لا أسباب لها، وأقوال لا غناء فيها؛ ومثله سائر اللغويون والرواة الذين سجل الأصفهاني آراءهم في أغانيه، فإنها لم تعد أن تكون آراء شخصية لا تقوم على دليل ناهض، ولا تعتمد على قاعدة عامة. وسواء أكان النقاد من الأدباء أم كانوا من اللغويين فإن أحكامهم كانت تصدر على الشاعر في جملته، أو على بيت أو بيتين أو ثلاثة في قصيدته. . .

ولم نعثر على مثال من النقد البياني لقطعة كبيرة من الشعر إلا في كتاب إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني، حين حاول أن يبين ما جاء من العوار في نصف معلقة امرئ القيس، على أنه لم يستطع إنصاف ولم يبرأ من الهوى.

ولقد أكثر البيانيون من سرد الأبيات المفردة مستشهدين بها على قواعد المعاني والبيان البديع، ولكن أحدا منهم لم يوفق إلى عقد باب للنقد البياني يضع فيه قواعده ويرسم حدوده ويبين غايته.

نعم، لقد ألف قدامة بن جعفر كتابا سماه (نقد الشعر) يقول في أوله:(العلم بالشعر ينقم أقساما، فقسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه، وقسم ينسب إلى علم قوافيه ومقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبة ولغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد به، وقسم ينسب إلى علم جيده ورديئه، وقد عني الناس بوضع الكتب في القسم الأول وما يليه إلى الرابع عناية تامة، فاستقصوا أمر العروض والوزن، وأمر القوافي والمقاطع، وأمر الغريب والنحو، وتكلموا في المعني الدال عليها الشعر، وما الذي يريد بها الشاعر، ولم أجد أحدا وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئة كتابا، وكان الكلام في هذا القسم أولى بالشعر من سائر الأقسام) ولكن المؤلف لم يخرج عن السنن المألوف في ذكر ما يحسن أو يقبح الأبيات المفردة أو المقطوعات القصيرة، على منهج لا يختلف عن مناهج المتأخرين من أصحاب البيان والبديع

ص: 2

والحال بالموازنة كالحال في النقد سواء بسواء. تنازع علماء الأدب في أي الشعراء أشعر، وذهب الخلف بينهم كل مذهب، فلم يتفق ناقدان على رأي، ولم يجتمع رأيان على شاعر، وكان مدار المفاضلة على الأبيات المفردة من الشعر والصفات العامة للشاعر. فأبو زيد محمد بن الخطاب القرشي أضاع ثماني عشرة صفحة من كتابه جمهرة أشعار العرب في أن من علماء اللغة في القرنين الثاني والثالث من كان يقدم امرأ القيس أو زهيرا أو النابغة أو الأعشى أو لبيداً أو عمرو بن كلثوم أو طرفة، ولكن إذا نظرت في أسباب المفاضلة لم تجد فيها ما يقنعك على أن تتابع واحدا منهم فيما يرى. وإذا قرأت (باب المشاهير من الشعراء) في كتاب العمدة لأبن رشيق القيرواني، وهو فصل نسخ أكثره جلال الدين السيوطي في كتابه (المزهر في علوم اللغة) لم يزدك اختلاف العلماء في الحكم على الشعراء إلا ريبة وحيرة. ولقد تشعبت الآراء وتعارضت الأهواء في الموازنة بين جرير والفرزدق والأخطل، ثم بين مسلم بن الوليد وأبي نواس وأبي العتاهية، ثم بين أبي تمام والبحتري والمتنبي، ولكنك لا تدري إلى اليوم علام أستقر الرأي وكيف انحسم الخلاف. ولعلك لا تجد الفرق بعيدا بين حكم يصدر جوابا عن سؤال أو عرضا في مقال، وبين حكم يصدر عن رواية وبحث في كتاب قائم بذاته، فكتاب (الموازنة بين الطائيين) لأبي القاسم الحسن بن بشير الآمدي، يبتدئ بذكر أخطاء أبي تمام كقوله: (وقال:

ضحكات في إثرهن العطايا، وبروق السحاب قبل رعوده فأقام البرق مقام الضحك، والرعد مقام العطايا، وإنما كان يجب أن يقوم الغيث مقام العطايا لا الرعد). ثم يستطرد إلى تخطئة الشعراء القدامى في المعاني، ثم ينتقل إلى سرقات أبي تمام ويعود إلى تخطئته في المعاني، ثم يعقد بابا لما في شعر أبي تمام من قبح الاستعارات، وبابا في سوء نظمه وتعقد ألفاظ نسجه، ثم بابا فيما كثر في شعره من الزحاف واضطراب الوزن؛ وينتقل بعد ذلك إلى البحتري فيسلك في الكلام عنه الطريقة التي سلكها في الكلام عن أبي تمام؛ ثم يخلص إلى الموازنة بين الشاعرين فيقول: (وأنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء المعاني التي يتفق فيها الطائيين فأوزان بين معنى ومعنى، وأقوال أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه. فلا تطلبني أن أتعدى هذا إلى أن افصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق، فإني غير فاعل ذلك؛ إن قلدتني لم تحصل لك الفائدة بالتقليد، وإن طالبت بالعلل والأسباب التي أوجبت

ص: 3

التفضيل فقد أخبرتك فيما تقدم بما أحاط به علي من نعت مذهبيهما وذكر مطلوبيهما في سرقة معاني الناس، وانتحالهما وغلطهما في المعاني والألفاظ، وإساءة من أساء منهما في الطباق والتجنيس والاستعارة ورداءة النظم واضطراب الوزن وغير ذلك مما أوضحته في مواضعه وبينته، وما سيعود ذكره في الموازنة من هذه الأنواع على ما يقوده القول وتقتضيه الحجة، وما ستراه من محاسنهما وبدائعهما وعجيب اختراعهما، فإني أوقع الكلام على جميع ذلك وعلى سائر أغراضهما ومعانيهما في الأشعار التي أرتبها في الأبواب، وأنبه على الجيد وأفضله على الرديء وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التلخيص وتحيطه به العناية، ويبقى ما لم يكن إخراجه إلى البيان ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علة ما بعد أن يكون هناك طبع فيه تقبل لتلك الطباع وامتزاج وإلا لا يتم ذلك، وأكلك بعد ذلك إلى اختبارك، وما تقضي عليه فطنتك وتميزك)

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌من التاريخ الإسلامي:

قضية سمرقند

للأستاذ علي الطنطاوي

كانت ليلة ميتة لا يتردد في صدرها نفس من نسيم، ولا تبدو فيها حركة من حياة، عمياء لا تبصر فيها عين من نجم يسطع في السماء، أو مصباح يزهر على الأرض، وقد أوى كل حي في (سمرقند) إلى مضجعه، ونامت المدينة تحت أثقال من الصمت والظلام، ولم يبق متيقظا فيها إلا هذا الرجل الذي خرج من داره، يخوض لجة الليل مارا إلى غايته، ولا يقف ولا يلتفت حتى بلغ قصر الإمارة فألقى عليه نظرة، لو كانت نظرة تحرق لأحرقه الشرر المتطاير منها، ثم أوسع الخطو، وأسرع كأنه يريد أن يجنب نفسه مرأى هذا القصر، وأن يسابق الزمن إلى هدفه الذي يرمي إليه. . . .

وفارق المدينة واحتواه الغاب، وطنت في أذنيه أصوات هوامه وحشراته، وكان الغاب موحشا غارقا في ظلمتين، ظلمته وظلمة الليل. . . ولكن الرجل لم ينتبه إلى وحشته وظلامه، وقد كان له من ضخامة المطلب الذي يسعى إليه وعظم الخطر الذي يقدم عليه، شاغل عن التفكير في ثقل هذه الليلة، وانفراده في الغاب، والخوف من أن تنشق هذه الظلمة المتراكبة حوله عما يؤذي ويروع. . . حتى إذا بلغ الصخرة التي تقوم عند باب المعبد وقف وأحجم، وخالطته هيبة شديدة، ووقر على صدره شئ لم يجد مثله في الغاب الموحش، ولم يكن غلاما تفزعه الأشباح، ولا كان الجبان الرعديد، ولكن ما وضعوه في نفسه وهو صغير من أسرار المعبد وعجائبه، جعله يشب ويكتهل ولا يزال أمامه مثل الطفل الصغير وكان فارس البلد غير مدافع، وبطل المعارك المكفهرة، ولكن المعبد غير الميدان، ولئن واجه في الميدان رجالا مثله، ففي المعبد قوى لا يراها، وخفايا لا تصنع معها شجاعته شيئا. . . ولم يدخله قط، إنما يدخل المعبد هؤلاء النفر من الشيوخ الذين مارسوا من أنواع العبادة والرياضيات ما يجعلهم أهلا لدخوله، ثم لا يخرجون منه أبدا، ولا يجوز لهم أن يعودوا فيروا نور الشمس ولا زهر الروض، وكان يشعر بأن لهؤلاء الكهنة مهابة في قلبه ومحبة، ويحس بالخوف منهم وهو الذي يواجه الأبطال الصناديد، ويقدم على الموت الأكيد غير خائف ولا وجل. وطال وقوفه عند الصخرة وهو يتهيب أن يقرعها

ص: 5

بيديه على نحو ما أمروه أن يفعل إذا هو وصل. . . وجعل يحدق في الظلام فرأى كأن شخصا عظيم الهامة له لحية بيضاء عريضة قد نبع من الأرض، ففزع وإرتاع، ولكنه سمع صوتا إنسانيا يناديه باسمه ويدعوه إلى أن يتبعه، فعلم أنه الحارس الموكل بباب المعبد، فلحق به وقلبه يخفق تطلعا إلى ما وراءه من خفايا وأسرار، فأجتاز به سردابا طويلا ملتويا تضيئه مصابيح نحاسية منقوشة، يخرج منها لهيب أزرق يتراقص فيلقى على الجدران الصخرية ظلالا عجيبة، وفي السرداب تماثيل (آلهة) ذات صور بشعة مرعبة، يومض من عينيها ضوء أحمر فيكون لها منظر يخلع قلوب الجبابرة. . . وفي السرداب شقوق يدخل منها الهواء فيصفر صفيرا مخيفا كأنه صوت سرب من البوم. . . ثم دخل به غرفا منقورة في الصخر حتى انتهى به إلى قاعة الكهنة الذين لا يراهم أحد لأنهم لا يخرجون من المعبد، وقل أن يدخلوا أحدا عليهم، والذين كانوا هم حكام البلد وملوكه وأصحاب الكلمة فيه، لا يجرؤ على مخالفة أمرهم أحد إلا حقت عليه لعنة (آلهة. . .) المعبد، ذات الوجه البشع المرعب. . .

لم يستطع الرجل من دهشته أن يدير نظره فيما حوله، أو أن يملأ عينيه من الكهنة ومن كان معهم، وسمع كلاما بنصب في أذنيه بصوت خافت رهيب كأنما هو يسمعه حالما. . . وفهم أن المتكلم يذكر ماضي سمرقند وسالف مجدها، وكيف هبط عليها هؤلاء المسلمون هبوط البلاء، فأزاحوا عرشها، وحطموا جيشها، وحكموا وملكوا أمرها، ثم أفاض في الكلام على الخطة التي اختطها لإفساد أخلاقهم ودينهم، وإضعافهم وإلقاء الخلف بينهم، وكانت خطة شيطانية أرتجف لسماعها، ثم عاد المتكلم فقال:

- غير أنا رأينا أن نرجئ خطتنا، ونرمي أخر سهم في جعبتنا، وذلك أنا سمعنا أن لهؤلاء القوم ملكا عادلا يقيم في دمشق، فأزمعنا أن نرسل إليه رسولا يرفع إليه شكايتنا، ويشرح له مظلمتنا، ثم نرى ما هو فاعل، وقد اخترناك لمعرفتك العربية وجراءة جنانك لتكون أنت الرسول؛ فهل أنت راض؟ قال: نعم. قال: أمض بتوفيق الآلهة. . .!

وخرج وما تسعه من فرط الزهو الأرض، وأحس من الخفة والنشاط أنه سيطير، ورأى ظلام الليل أبيض مضيئا، ولقد اعتدها نعمة كبرى أن دخل المعبد وكلم الكهنة، وكان موضع ثقتهم ونجواهم، وأن أولوه شرف القيام بأضخم مهمة عهدوا بها إلى أحد، وشعر أن

ص: 6

حرية قطر سمرقند وشرفه في يمينه، وأنه هو المحامي عنه والمنافح دونه، وكان لفرط شجاعته يتمنى لو كلفوه حرب المسلمين وإخراجهم من بلده، ولم يكن يعرف مبلغ قوتهم، وجلال ملكهم، وأن هذا القطر كله في جنب دولتهم كالساقية التي جاءت تغالب البحر. . . ولو مد البحر وأزبد وهاج لاقتلع الساقية من منبعها فشربها فضاعت فيه فلم يبق لها أثر، فلما شد رحاله وسافر ومضى يقطع الليالي الطوال، والأسابيع والشهور، وهو لا يفتأ يمشي في ظلال الراية الإسلامية المظفرة، لم يلق عصا التسيار ولم يبلغ العاصمة. . . من سمرقند إلى بخارى إلى بلخ إلى هرات إلى قزوين إلى الموصل إلى حلب إلى دمشق. . . دنيا من الخصب والحضارة والمجد، وبلاد كانت ممالك كثيرة ما مملكة منها إلا وهي أعظم وأضخم من سمرقند. . . وما سمرقند في جانب ملك كسرى وخاقان؟ فأين ملك خاقان وكسرى! لقد ابتلعته المدينة المتوارية بين الحرتين وراء رمال الجزيرة، تلك القرية التي هزها محمد بيمينه، فولدت الأبطال الذين انتشروا في آفاق الأرض وملكوها. . . وأنبتت رمالها جنات الشام والعراق وفارس وخراسان. . . وهذه البلاد الخصبة الممرعة التي ليس لها آخر. . . وكان كلما تقدم ورأى جديدا من دنيا الإسلام تمتلئ نفسه فرقا من لقاء الخليفة. . .

وأفاق يوما من ذهوله، بعدما صرم في هذه الرحلة أشهرا، على صوت الدليل، وهو يهتف باسم (دمشق).

هذه دمشق سر الأرض، هذه سدة الدنيا، هنا التقى والعلي والمجد والغنى والجلال والجمال. . . من هنا تخرج الكلمة التي تمضي مطاعة حتى تنتهي إلى بلده سمرقند، وتمضي من هناك حتى تبلغ أرضا أبعد وأنأى، حتى تجوز أسبانيا، هنا يقيم الرجل الذي ملك ما لم يملكه في سالف الدهر قيصر ولا كسرى ولا الإسكندر ولا خاقان. . . والذي لا يجد من جبال الصين إلى بحر الظلمات من يخاف عن أمره، أو يرد قوله. . .

ولكن كيف الوصول إليه؟ وأني لغريب منكر مثله بالدخول عليه؟ وخالط قلبه اليأس. . . فسأل عن خان ينزل فيه فأرشد إلى خان أمضى فيه ليلته، فلما أصبح أخرج ثيابه فلبس أحسنها، وخرج ليلقى الخليفة. . . وأقبل على أول إنسان لقيه يريد أن يسأله عن (القصر)، فاعترته هيبة شديدة، وخاف من مواجهة الرجل الذي يحكم نصف الأرض، والذي لا يبلغ

ص: 7

ملك شاهنشاه العظيم ولاية واحدة من ولايته، يحكمها أمير من أمرائه. . . وذكر كيف كانت تتصدع الأفئدة خوفا من لقاء كسرى، وتقف الملوك على بابه، وكيف كان يقتل على الظنة، وأمر بضرب عنق الرجل يقول كلمة لا تعجبه، أو يأتيه في ساعة يكون فيها لقس النفس ضيق الصدر، وتلمس عنقه وتخيله من الفزع مضروبا، وتصور رأسه طائرا عن جسده، فطارت معه حماسته وشجاعته. . . وكره لقاء الخليفة، وفكر في العودة إلى بلده سالما قبل أن يحيق به مصاب لا ينفعه معه مجد يناله، ولا وطن يحرره، ولا كاهن يرضيه. . . وغر في مخاوفه وأفكاره، وجعل يسير على غير هدى، كلما مر على قصر من قصور دمشق، ورأى بهاءه وعظمته ظنه قصر الخليفة، فخفق قلبه واضطرب. . . حتى رأى قصرا ما له في جلاله نظير، له باب هائل، عرضه مثل الشارع العظيم، له قوس مشمخرة عالية، ذات مقرنصات ونقوش، قائمة على أسطوانتين من المرمر الصافي، ورأى الناس يدخلون ويخرجون لا يسأل أحد أحدا، ولا يمنعه حاجب ولا بواب، فأيقن أنه قصر الخليفة، وتشجع وشد من عزمه ودخل يقدم رجلا ويؤخر أخرى. . . فلما لم ير أحدا قد منعه سكنت نفسه، ونظر فإذا هو في صحن واسع، إذا كنت في طرفه لا تستطيع أن تتبين من هو في الطرف الآخر، قد فرشت أرضه بناصع الرخام فهو يلمع كالمرايا، والناس يجلسون عليه، وحوله جدران عالية، ما رأى قط بناء أرفع منها، وهي مزخرفة بأعجب الزخارف والنقوش، وفي وسط الصحن بركة واسعة يتفجر منها الماء، فيضربه شعاع الشمس فيكون له منظر عجيب. . . ونفذ من الصحن إلى قاعة لا تقل عنه سعة، ولا يدانيها بهاء وجمالا، قد قام سقفها على أساطين الرخام، تحمل أقواسا فوقها أعمدة أصغر منها، فوقها أنحاء وطاقات معقودة، تتدلى من السقف سلاسل الذهب والفضة تحمل المصابيح والثريات، وجعل يمشي خلال الناس ذاهلا، لا يدري ماذا يصنع فأصطدم برجل كان يقوم ويقعد ويذكر اسم الله. . . وتلفت الرجل إلى اليمين وإلى الشمال، ونظر إليه فرآه غريبا، فسأله عن حاله، فسبق لسانه إلى الحقيقة فأخبره أنه جاء من بلده يريد لقاء الخليفة، ثم تنبه وقدر أن الرجل سيرتاع لذكر الخليفة بلا تعظيم ولا تبجيل، وأنه سيدفعه إلى الشرطي فيستاقه إلى السجن. . . فرأى الرجل ساكنا هادئا كأنه لم يسمع نكرا، وسمعه يقول له:

أتحب أن أدلك على داره؟

ص: 8

قال: أو ليست هذه داره؟

قال الرجل مبتسما: لا هذا بيت الله، هذا المسجد، أصليت؟

صلى؟ وكيف يصلي وهو على دين سمرقند، ذلك الدين الذي لا يعرف منه إلا هذا المعبد المملوء بالأسرار، وتلك الآلهة المخيفة ذات الوجه البشع المرعب. . . وجعل يفكر: أين هذا المعبد من معبده المختبئ في بطن الصخر، وأين هذا النور وهذا الجمال، من تلك الظلمة وذلك القبح؟ وشك لأول مرة في عمره في دينه الذي نشأ عليه!

وأعاد الرجل سؤاله. فقال له لا لم أصل، ولا أعرف ما الصلاة. . .

- قال: وما دينك؟

- قال: أنا على دين كهنة سمرقند؟ قال: وما دينهم؟

- قال: لا أدري!

- قال: من ربك؟

- قال: آلهة المعبد المرعبة. . .

- قال الرجل: وهل تعطيك إن سألتها؟ وهل تشفيك إن مرضت؟

- قال: لا أدري. . .

ورآه الرجل ضالا جاهلا، فألقى في هذا القلب الخالي أصول الدين الحق بوضوحها واختصارها وجمالها، فلم تكن إلا ساعة حتى صار رسول كهنة سمرقند مؤمنا بلله ورسوله محمد الذي جعل الله به العرب سادة الدنيا، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. . .

ثم قال الرجل قم الآن أدلك على دار الخليفة، وإن كانت هذه هي الساعة التي يعالج شأنه فيها وشأن عياله، وينفرد بنفسه.

وتبعه وهو يفكر في جمال هذا الدين وسموه، وقد زالت الغشاوة عن عينيه فأدرك الآن سر هذا الفتوح وهذه القوة التي لم يقم لها شئ. أين هذه الديانة السافرة الواضحة التي تجعل كل واحد من أتباعها كاهنا لها ورجل دين. . . من تلك الديانة المجهولة الخفية. . . أين. . .

وخرج من المسجد، من باب غير الذي دخل منه، فما راعه إلا الرجل يقول له، مشيرا إلى باب من ألواح الخشب، غير مصبوغة ولا منقوشة: هذه داره!

هذه؟! أيمكن أن تكون دار الخليفة دون دور السوقة من رعيته، وقد مر عليها فرأى فيها

ص: 9

بهاء وجلالا؟ ونظر إلى الرجل يحسبه يسخر منه فرآه جادا، فتركه وتقدم من الباب وهوشاك فيما قال الرجل، ونظر فرأى كهلا قائما يصلح بالطين جدار المنزل وامرأة تعجن. . . فترك الباب ولحق بالرجل مغيظا محنقا فقال له:

ما كان لك أن تكذب علي وتسخر مني، أسألك عن دار الخليفة فترشدني إلى دار طيان؟

قال: ومن الطيان؟

قال: صاحب الدار.

ووصف له ما رأى.

قال الرجل: ويحك هذا والله أمير المؤمنين الذي ليس فوقه إلا الله. وهذه المرأة، ألا تدري من هذه المرأة؟ هذه زوجة الخليفة عمر وبنت الخليفة عبد الملك، وأخت الخليفتين الوليد وسليمان، وأخت هشام ويزيد وسيكونان خليفتين، هذه أمجد امرأة في العرب، ولقد كان أمير المؤمنين أرفه الناس عيشا، وأكثرهم طيبا، ولكنه كان رجل فيه عرق عمر بن الخطاب فنزع به عرقه من عمر إلى ما ترى، فعد إليه فأقرع بابه وأنفض إليه شكاتك، ولا تخف، فوالله ما هو بالملك المتكبر ولا الحاكم الجبار، ولكنه عند الله متواضع هين لين، فإذا رأى الحق أمضاه فلم يقف دونه شئ، وإذا غضب لله كانت العواصف والصواعق دون غضبه قوة ونفاذا. . . فأذهب موفقا.

(البقية في العدد القادم)

علي الطنطاوي

ص: 10

‌تونس المجاهدة. . . أليس لها من نصير؟

للأستاذ حسن أحمد الخطيب

ياله من ظلم عبقري، وجور ليس له ضهي، ذلك الذي تصبه فرنسا ورجالها المستعمرون على القطر العربي تونس من سوط العذاب، لا تعرف في ذلك عدلا، ولا ترعى عهدا، ولا يصدفها عن البغي حق إنساني، ولا كرامة أدبية، ولا حرمات واجبة الرعايا، حتى صار أحب الأشياء إلى القاسطين من رجالها، وذوي الغشمرية من ممثليها في تلك البلاد أن ينكلوا بأبنائها ويسوموهم الخسف، ويذيقوهم ضروب العذاب وألوان النكال!

هل أتاك حديث هؤلاء الفرنسيين وما اكتسبوا من سيئات؟ وهل قرع سامعيك - في هذا الوقت الذي يتشدق فيه الدعاة بمبادئ الديمقراطية والحرية - نبأ تلك الفظائع والقوارع التي يشيب من هولها الولدان، وتقشعر من سماعها الأبدان، إذ اندلعت نيران الثورة بإقليم الساحل من القطر التونسي، لما شعروا به من فداحة الظلم وثقل الجور واهتضام الحقوق، فاندفعت الجنود والكتائب الفرنسية نحو القرى الآمنة، واقتحمت الدور الوادعة، وأهلها عزل من كل سلاح إلا سلاح الحق والإيمان، فاعتقلوا الرجال، وأخذوا الرهائن، وانتهبوا البيوت، ودكوا بمعاول الهدم والتخريب!

ولم يكتف هؤلاء الجنود ومن يأتمرون بأمرهم من الرؤساء بهذا العدوان الآثم، وهذه الجرائم التي لا يقرها عرف ولا قانون، فطوعت لهم أنفسهم إحياء ما كمن فيها من غرائز دونها غرائز الحيوان الذي حرم نعمة النطق والتفكير والتربية والتهذيب، فاستباحوا الحرمات، وهتك العلوج أعراض النساء المسلمات، وعرضوهن عاريات، إمعانا في التنكيل، وإيغالا في الإذلال والتعذيب!!

فكيف تستطيع فرنسا وقد اجترح رجالها هذه السيئات، واقترف جنودها تلك الآثام أن تواجه الأمم المتحضرة وتجلس معها جنبا إلى جنب، وتشترك معها في تقرير مصاير الأمم وحريتها، وأن تدعي لنفسها أنها ميزان من موازين القسط، وإنها من سدنة الحرية والإخاء والمساواة؟!

ألا إنهم يخادعون الناس، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون!!

هذه الأمة التونسية كرمت محتدا وطابت أرومة: إنها عربية تجري في عروقا فضائل

ص: 11

العرب ومزاياهم من الشهامة والبسالة والنجدة، والانطباع على الشجاعة وحب الحرية والذود عنها، ومقت الذل، وإباء الضيم، والحرص على الشرف والكرامة.

وإنها لمسلمة قد أشربت حب الإسلام، واستمكنت وصاياه ومبادئه من نفسها حتى سيط بلحمها ودمها، فأيقنت أن الإسلام والذلة لا يجتمعان، وآمنت أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وعرفت أن من أجل تعليم الإسلام ووصاياه الجهاد في سبيل الله والحق، الذي يراد منه دفع الفتنة والبلاء، ويراد منه دفع العدوان عن الوطن والبلاد، ويقصد منه رد الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، والحق والحرية لا يقومان في هذه الحياة إلا على أساس الجهاد المشروع والدفاع المحتوم الذي لا إنحياص عنه ولا مناص. فجهاد تونس وسائر الأمم التي سلبت حريتها مشروع، ولا شك في مشروعيته ولا امتراء، وما أصيبت البلاد الشرقية بما أصيبت به إلا من التقصير في أداء هذا الواجب، والتفريط في المحافظة على هذا السياج الذي هو السبيل الوحيد لحماية الحق وحفظه:

(إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور. أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد، يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز)!

أدت الأمة التونسية، وستؤدي واجبها في الدفاع عن حريتها وحقوقها وبلادها، وستنهض بأعباء ذلك كله غير حافلة بالضحايا تقدمها، والدماء الطاهرة تسفكها، والأنفس والأموال تبذلها. .!

ولكن الأمم العربية والإسلامية عليها تبعات وواجبات لهذه الأمة المظلومة المضطهدة، ستسأل عنها أمام الله، وأمام التاريخ والأجيال القادمة!

إن تونس المجاهدة العانية، والجزائر المغلولة المصفدة، ومراكش المغلوبة على أمرها، لا تقل مآسيها وكوارثها عن الخطر الداهم والبلاء النازل بفلسطين. فعلى الأمم العربية والإسلامية أن ترعى قضايا أمم المغرب العربية والإسلامية كما ترعى قضية فلسطين!

وإنا لنطالب الجامعة العربية بمزيد من العناية والرعاية لتلك القضايا، حتى تتم للجامعة وحدة أبنائها في المشرق والمغرب، وتتحقق عزتهم، ويتمتعوا بحقوق السيادة والإنسانية.

ص: 12

وستظل الجامعة العربية - في رأينا - ناقصة البنيان غير عالية الذرا، حتى تضم إليها تلك الأمم، وتكفل لها حياة العزة والكرامة، وعيشة الرغد والسعادة. وإني لأرفع الصوت عاليا مناشدا الأمم الإسلامية والعربية، وحكوماتها في اليمن والحجاز والعراق وسورية ولبنان ومصر والهند، أن يهبوا لنصرة إخوانهم المستضعفين بشمال أفريقية، وذلك بالاحتجاج على دولة فرنسا، وتبليغ سفراء الدول وهيئة الأمم المتحدة صيحاتهم واستنكارهم لموقف فرنسا حيال الأمة التونسية، كما نرجو من الجامعة العربية أن تختار من هذه الأمم المظلومة من يمثلها في الجامعة، حتى تبدأ نشاطها الفعلي في الدفاع عنها، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وهو ولي العاملين وناصر المجاهدين!

حسن أحمد الخطيب

ص: 13

‌بمناسبة حال العمال اليوم:

واجبات الإنسان. . .

للزعيم الإيطالي يوسف مزيني

بقلم الأستاذ عامر عبد الوهاب

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

لقد كان في فرنسا في ذلك الوقت كاتب يجب أن لا تنسوه أبدا. كان أكبر عقلا وأرجح فكرا من كل أولئك جميعا. كان حينئذ خصمنا ولكنه كان يؤمن بالواجب، واجب تضحية الحياة جميعها للصالح العام والسعي وراء الحقيقة ونصرتها. درس الناس والظروف دراسة عميقة، ولم يقبل أن يضله غرور الثناء أو يثبط اليأس عزمه. فكان إذا سار في طريق وفشل لجأ إلى سبيل آخر سعيا منه وراء تحسين حال الجماهير. ولما أرته الحوادث أنه لا يوجد غير قوة واحدة قادرة على تحقيق هذا الغرض، أي حينما أثبت الشعب أنه في ميدان العمل أفضل وأصدق إيمانا من كل من يتظاهر بخدمة قضيته أصبح ذلك الرجل (لأمينيه) مؤلف كتاب (كلمات مؤمن) الذي قرأتموه جميعا، أصبح رسول القضية التي تجمعنا فيها آصرة الأخوة. إنكم ترون بينه وبين الرجال الذين تحدثت عنهم الفارق بين أصحاب نظرية (الحقوق) وبين دعاة الواجب. فالأولون حينما يحصلون على حقوقهم الذاتية يغشي نفوسهم ميل رجعي فيجمد بهم العزم عن متابعة الجهاد. أما الآخرون فلا ينتهي عملهم في هذه الأرض إلا بانتهاء حياتهم.

وإذا كانت هناك شعوب يغلب عليها الاستعباد، ولا يسلم فيها الكفاح من ألوان الظلم والاضطهاد، ولا تكاد تتحقق فيها خطوة واحدة نحو الإصلاح إلا ببذل النفوس وإراقة الدماء، وحيث يلزم أن تكون المساعي المبذولة في محاربة المظالم العليا محوطة بسياج من الكتمان والخفاء، غنية عن سلوى الشهرة ونشوة الثناء أي عهد وأي حافز على المثابرة يحمل ناسا في تلك الشعوب على الثبات في سبيل التقدم بينما هم ينحدرون بالجهاد الشعبي المقدس إلى حضيض النزاع من أجل حقوقهم فحسب؟

أرجو أن تتذكروا أني أتكلم عن العموميات لا عن الشواذ التي تعرض في جميع مذاهب

ص: 14

الفكر، فإذا فرضنا أن فترت الحماسة، وضعفت نزعة محاربة الظلم، هذان العاملان اللذان يحفزان الشباب بطبيعة الحال على الكفاح، ماذا يمنع حينئذ أن يتسرب الإعياء والملل إلى نفوس أولئك الرجال، ولم يمض عليهم في الجهاد غير بضع سنين لقوا فيها من أسباب الحبوط والقنوط ما لا مرد له في مثل هذا السبيل؟ لماذا لا يفضلون أي لون من ألوان الدعة على حياة مضطربة يهيجها النزاع الدائم وتحيق بها الأخطار من كل جانب، وليس ببعيد أن تنتهي يوما ما في قرارة السجون أو على حبال المشانق أو غياهب النفي؟ تلك هي القصة الشائعة في هذا العصر عن أغلب الإيطاليين الذين تشعبت أفئدتهم بالأفكار الفرنسية العتيقة، وإنها لقصة مفجعة حقا. ولكن كيف يمكن تغيرها إلا بتغيير المبدأ الذي يترسمونه ويسترشدون به؟

كيف وعلى أي اعتبار نحملهم على أن يستلهموا من الخطر والفشل حافزا يضاعف قوتهم، وعلى ألا يقفوا بالجهاد بعد عدة سنين بل يثابروا عليه حتى الممات؟

من ذا يقول لإنسان: ثابر على الكفاح من أجل حقوقك، إذا كان هذا الكفاح نفسه يكلفه أضعاف ما يكلفه التنازل عنها؟

وحتى لو كان هناك مجتمع قائم على أساس يفوق أساسنا نصفة وعدلا فمن ذا يستطيع في هذا المجتمع أن يقنع فردا آمن بنظرية الحقوق فقط بأن عليه أن يسعى لأجل الغرض العام، ويبذل جهده في نصرة القضية الاجتماعية؟ لنفرض أنه ثار وأنه أحس في نفسه القوة فيقول لك: مالي وللعهد الاجتماعي؟ لابد لي أن أنكث به لأن ميولي ومداركي تتجه بي ناحية أخرى. ولي حق مقدس مطلق في أن أفسح لها طريق الظهور والنشوء، وأفضل أن أكون في حرب مع كل إنسان، فأي واجب حينئذ تردون به عليه بينما هو يستمسك بنظريته في الحقوق؟ وأي حق لكم لأنكم أغلبية في أن ترغموه على طاعة قوانين لا تتفق ورغباته وأمانيه الشخصية؟. . . وأي حق لكم في معاقبته إذا ثار عليها؟

وإذا كانت الحقوق تتقسط كل فرد على السواء حتى لم يعد هناك مجال لأن يظهر فرد مستقل بنفسه عن باقي الأفراد الذين يعيشون معه في هيئة واحدة. وإذا كان المجتمع لا يزيد عن الفرد حقوقا، وإن زاد عنه قوة فكيف إذن ترومون أن تقنعوا الفرد بأن يدع إرادته تفنى في إرادة أولئك الذين هم إخوانه سواء في الوطن أو في الرابطة الكبرى رابطة

ص: 15

الإنسانية؟ أيكون ذلك عن طريق الإعدام أم عن طريق السجن؟ إن الجماعات التي عاشت حتى الآن استخدمت هاتين الوسيلتين، بيد أن ذلك هو سبيل الحرب، أما نحن فنبغي السلام.

ذلك ضغط تعسفي، أما نحن فنريد التهذيب.

نقول التهذيب، وإنها لكلمة كبيرة تلخص نظريتنا كلها. أليست المسألة الحيوية التي تشغل عصرنا هي مسألة التربية؟ لهذا يجب علينا ألا نقيم نظاما جديدا على أساس العنف. ذلك لأن أي نظام يقوم على هذا الأساس لا بد أن يكون نظاما جائرا حتى ولو كان أفضل من سابقه. إن علينا أن نستعين بالقوة في هدم القوة الغاشمة التي تعترض الآن كالسعي في الإصلاح.

وبعد ذلك نبدي ما نعتقد أنه أفضل النظم لتبت الأمة فيما تبتغيه منها. وهي حرة في إبداء إرادتها. كما نعلم الأفراد بكل وسيلة ممكنة أن يتعهدوا ما يستقر عليه رأي الأمة، وأن يسيروا وفاقا له في أعمالهم. إن نظرية الحقوق تعيننا على أن نثور ونهدم الحوائل ولكنها لا تكفل وفاقا منيعا دائما بين جميع العناصر التي تتكون منها الأمة. إننا لن نصل بنظرية السعادة والرفاهة كغرض أولي للحياة إلا إلى تكوين رجال أنانيين يعبدون المادة وينقلون شهوات النظام القديم إلى النظام الجديد الذي لا يلبث أن يفسد في بضعة شهور. لذلك كان لزاما أن نتفقد مبدأ من مبادئ التربية يسمو فوق أمثال تلك النظريات ويرقى بالناس إلى مثل فضلى، ويعلمهم الجلد في التضحية، ويربط بينهم وبين إخوانهم دون أن يجعلهم يعتمدون على آراء رجل فرد، أو على قوة المجموع. هذا المبدأ هو الواجب.

يجب أن نقنع الناس أنهم - وهم أبناء رب واحد - يلزمهم أن يطيعوا قانونا واحدا في هذه الأرض، وأن كلا منهم يجب أن يعيش لا لنفسه بل لغيره، كما نعلمهم ألا يكون غرض حياتهم الحصول على قدر من السعادة قل أو عظم، بل أن يسعوا في تحسين وترقية حالهم وحال غيرهم من الناس. كما نذكرهم أن محاربتهم للظلم والضلال في سبيل نفع إخوانهم ليست حقا فحسب، بل واجبا حتميا عليهم أبد الحياة. ومن الإجرام أن يتهاونوا في نفاذ هذا الواجب.

أي إخواني عمال إيطاليا! أفهموا ما أقول فهما صحيحا صادقا. إذا قلت إن علم الناس

ص: 16

بحقوقهم ليس كافيا في أن يعينهم على نفاذ أي إصلاح دائم أو يعتد به، فلست أسألكم أن تنبذوا هذه الحقوق، إنما أقصد أنها لا يمكن أن تتحقق إلا كنتيجة للواجبات النافذة، وأن على الإنسان أن يبدأ بالأخيرة كي يصل إلى السابقة. وإذا قلت أن اتخاذ السعادة أو الرفاهة أو المصلحة المادية غرضا للحياة، إنما يؤدي إلى إخراج أناس أنانيين، فلست أعني ألا تسعوا مطلقا وراء هذه الأشياء، بل أقرر أنه إذا جرى الناس وراء المصالح المادية فقط واعتبروها غاية لا وسيلة فإنهم يسوقون أنفسهم إلى هذه النتيجة السيئة الخطيرة: ذلك أنه لما أصبح الرومان الأقدمون في عهد الأباطرة لا يطلبون غير العيش واللهو تدهوروا إلى أحط دركات الشعوب. ولما استناموا إلى مظالم الأباطرة الوحشية الخرقاء كان حتما عليهم بعد ذلك أن يصبحوا عبيدا أذلاء للغزاة البرابرة.

وفي فرنسا وغير فرنسا كان أعداء أي تقدم اجتماعي يجهدون في نشر بذور الفساد، وتضليل عقول الناس عن مناحي التغيير، بتشجيع النزعات المادية، فهل لنا بعد ذلك أن نعين العدو بأيدينا! إن الإصلاح المادي ضروري. وعلينا أن نسعى في الحصول عليه لأنفسنا، ولكن لا لأن الأمر الفرد المحتوم على الإنسان هو أن ينعم بالطعام والمسكن، بل لأنكم لا تستطيعون أن تشعروا وشئ من الكرامة أو أي معنى من معاني سمو النفس إذا كنتم منهمكين كما أنتم الآن في مغالبة مستمرة للعوز والفاقة. أنتم تشتغلون عشرا أو اثنتي عشر ساعة في اليوم، فكيف تستطيعون أن تجدوا وقتا تثقفون فيه أنفسكم؟ وأكثركم لا يكاد يحصل من الرزق على ما يكفي لإعالتهم أو إعالة أسرهم، فكيف تستطيعون إذن أن تجدوا وسيلة لتثقيف أنفسكم؟ إن زعزعة خدمتكم وما يعتريها من فترات الانقطاع الكثيرة تتراوح بكم بين المجهدة والبطالة. فكيف تكتسبون عوائد النظام والمواظبة والمثابرة؟ وزهادة أرزاقكم تذهب أي أمل في توفير ما يكفي يوما ما لنفع أولادكم أو عونكم أنتم في شيخوختكم، فكيف يتيسر لكم أن تربوا فيكم خصائل الاقتصاد؟ بل إن كثيرين منكم تضطرهم الفاقة إلى أن يحرموا أطفالهم - لا نقول من مهاد التربية إذ أية تربية تستطيع نساء العمال البائسات أن يقدمنها لفلذات أكبادهن - بل يحرمونهم من حنان أمهاتهم ورعايتهن، ويرسلوهم في سبيل بضعة دريهمات إلى المصانع حيث يكابدون أعمالا ضارة بصحتهم. فكيف نأمل وهذه هي الحال أن تزهر المحبة العائلية ويسمو قدرها؟

ص: 17

وإذا كنتم محرومين من الحقوق المدنية ومن الاشتراك - سواء بالانتخاب أو بالتصويت - في القوانين التي تنظم أعمالكم وتتحكم في حياتكم فكيف تشعرون بفخار القومية وتحسون بأية غيرة على الدولة أو ولاء أكيد للقوانين؟ إن العدالة لا تسقط عليكم كما تسقط على الطبقات الأخرى فأنى لكم أن تتعلموا إجلال العدالة وحبها؟ إن المجتمع لا يعاملكم معاملة فيها شئ من العطف فأنى لكم أن تتعلموا العطف على المجتمع؟ فأنتم إذن في حاجة إلى تغيير في شؤونكم الحيوية يعينكم على رقيكم الأخلاقي، وأنتم في حاجة إلى الإقلال من العمل حتى تتوفر لديكم بضع ساعات من اليوم تنفقونها في تثقيف عقولكم ويلزمكم أن تعوضوا عن عملكم جزاء موفورا تدخرون منه ما يطمئن قلوبكم على المستقبل، ويطهر نفوسكم فوق كل شئ من الميل إلى الاقتصاص وعواطف الانتقام وشهوة النيل ممن تحامل عليكم ظلما وعدوانا. يجب أن تسعوا إذن من أجل هذا التغيير، ولا بد أن تحصلوا عليه، ولكن على أن يكون وسيلة لا غاية. جاهدوا من أجله لتصلحوا من أحوالكم لا لتحققوا سعادتكم المادية فحسب، وإلا فأي اختلاف يكون بينكم وبين طغاتكم؟ إنهم لم يكونوا طغاة إلا لأنهم لم يفكروا في شئ سوى الرفاهة واللذة والسلطان. ويجب أن يكون غرضكم الأسمى في الحياة ترقية حالكم. ولن تستطيعوا أبدا أن تخففوا من شقائكم إلا بإصلاح شؤونكم. أما إذا قصرتم جهادكم على تحقيق أغراض مادية أو إنشاء نظام خاص فلا بد أن يقوم بينكم آلاف من الطغاة. إن تغييرا يحدث في النظام الاجتماعي لا يكون له معنى إذا حملتم في قلوبكم أنتم وغيركم من الطبقات شهوات اليوم وأنانيته. إن النظم كبعض النباتات التي تخرج سما أو شفاء وفاقا للطريقة التي تستخدم فيها. لذلك نرى الرجال الأخيار يحيلون الأنظمة الفاسدة صالحة؛ بينما الرجال الأشرار يحيلون الصالحة فاسدة. وعليكم أن تقوموا الطبقات التي تجور عليكم اليوم قصدا أو عن غير قصد، وتقنعوهم بما عليهم من الواجبات. بيد أنكم لن تفلحوا في ذلك إلا إذا بدأتم بإصلاح أنفسكم ما استطعتم إلى ذلك سبيلا.

فإذا سمعتم إذن ناسا ينادون بضرورة انقلاب اجتماعي ويحدثونكم بأنهم قادرون على تحقيقه بدعوى حقوقكم فقط فاشكروهم على حسن مقاصدهم. ولكن أشفقوا من النتيجة. إن آلام الرجل الفقير معروفة - على الأقل - للطبقات المترفة ولكنها إن عرفتها فهي لا تحس بها.

ص: 18

ولقد كان من نتيجة عدم الاكتراث السائد الذي نشأ من عدم وجود عقيدة عامة كما كان من نتيجة الأثرة التي ولدتها مداومة التبشير زمنا طويلا بنظرية الرفاهية المادية؛ كان من نتيجة ذلك أن الذين لم يتذوقوا طعم الشقاء تعودوا على مر الأيام أن ينظروا إلى هذه الآلام كضرورة سيئة للنظام الاجتماعي، وأن يتركوا أمر علاجها للأجيال القادمة.

وليست الصعوبة في أن تقنعوهم، بل في أن تزيلوا عنهم كابوس الجمود، وأن تحفزوهم إذا ما اقتنعوا إلى العمل وإلى لم شعثهم، والتعاون معكم تعاونا أخويا في سبيل خلق نظام اجتماعي يكفل القضاء - إلى الحد الذي تجيزه ظروف الإنسانية - على آلامكم أنتم، وعلى مخاوفهم هم. والآن ندرك أن هذا من عمل الإيمان، الإيمان بالرسالة التي قدرها الله على الإنسان في هذه الدنيا. والواجب الذي يحتم على كل فرد أن يجاهد دوما باذلا التضحية الذاتية من أجل قضية الحق. أما نظريات الحقوق على شتاتها، ونظريات الرفاهية المادية فليس لها من أثر غير أن تحملكم على القيام بالمحاولات التي طالما بقيت منفردة موقوفة على قوتكم فحسب، فلن يقدر لها فلاح، فضلا عن أنها لابد أن تؤدي إلى ارتكاب أشنع الجرائم الاجتماعية بإثارتها حربا أهلية بين الطبقات.

أيها العمال الإيطاليون! أي إخواني! لما أتى المسيح وغير وجه الأرض لم يتكلم عن الحقوق، لا إلى الأغنياء الذين لم يكونوا في حاجة إلى الحصول عليها، ولا إلى الفقراء الذين ربما كانوا يسيئون استخدامها في مجاراتهم للأغنياء. لم يتكلم عن الفائدة أو النفعية إلى أمة أفسدتها الفائدة وأضرتها النفعية؛ إنما يتكلم عن الواجب. تكلم عن المحبة والتضحية والإيمان. قال:(يجب ألا يتصدر الناس إلا من أحسن بعمله إلى الناس أجمعين). فلما أن نفذت هذه الأفكار إلى سمع مجتمع لم يبق في فؤاده أي بريق في الحياة أحيته من جديد، وتسلطت على الملايين بل على العالم، ونهضت بتربية الجنس البشري نهضة جديدة.

أيها العمال الإيطاليون! أنا نعيش في عصر كعصر المسيح. أنا نعيش في وسط مجتمع فاسد شبيه بعصر الإمبراطورية الرومانية، ونحس في نفوسنا بضرورة تغييره وبعثه بعثا جديدا، ولم جميع أعضائه وعماله تحت راية إيمان واحد، وغرض واحد. أي أن الواجب علينا أن نرعى جميع المواهب التي أنعم بها الله على العباد، وأن ننشئها على غرار الحرية والتقدم، وأن نترسم حكم الله في الأرض كما في السماء. أو بعبارة أفضل أن تكون

ص: 19

الحياة الدنيا إعداد للحياة العليا، وأن يسعى الناس ليدنوا حثيثا من الوحي الإلهي.

لقد كان كل عمل من أعمال المسيح يمثل العقيدة التي نادى بها؛ كما كان حوله رسل أخرجوا هذه العقيدة إلى حيز الوجود في كل أفعالهم. فسيروا على نهجهم، وسوف يكون النصر لكم. بشروا بالواجب إلى رجال الطبقات التي تعلوكم، وأدوا بقدر ما في مكنتكم واجباتكم أنتم. بشروا بالفضيلة والتضحية والمحبة، وكونوا أنتم مثل الفضيلة والتضحية والمحبة، أعلنوا في شجاعة عن حاجاتكم وآرائكم، ولكن في غير غضب أو حقد أو تهديد، إن أبلغ التهديد - إذا كان هناك من هو في حاجة إلى التهديد - لهو القول الرصين لا الفائز.

وإذ تنشرون بين أقرانكم فكرة عن حظوظكم المقبلة، فكرة عن الأمة التي ستكسبهم اسما وتربية وعملا وأجورا عادلة وتبعث فيهم شعور الكرامة وتبوئهم مراكز الرجال، وبينما تضمرون في نفوسهم نيران الحماسة للجهاد المكتوم الذي لابد أن يتأهبوا له حتى يفوزوا بتحقيق هذه الأماني، برغم جميع قوى حكومتنا السيئة، وبرغم الأجنبي. بينما تقومون بهذا كله فلا تنسوا أن تثقفوا أنفسكم، وتهذبوا أحوالكم، وتتذكروا واجباتكم وتؤدوها.

هذا واجب غير ميسور على الجماهير في جانب كبير من إيطاليا، ولا يمكن تحقيق خطة في التربية الشعبية في بلادنا بدون تغيير في حالة الشعب المادية. بل وبدون ثورة سياسية، والذين يخدعون أنفسهم فيجرون وراء ذلك الخيال وينادون به كتمهيد لازم لأي محاولة في التحرر إنما يدعون دعوة خرقاء ليس إلا. أما القلائل الذين يمتازون بينكم بظروف طيبة، ومكنهم الإقامة في البلد الأجنبية أن يكتبوا شيئا من وسائل التربية الحرة، فأولئك هم الذين يستطيعون أن يقوموا بهذا الواجب. ولذلك يتحتم عليهم أن يقوموا به، وهؤلاء القلائل إذا ما تشبعوا بالمبادئ الحقة التي ترتكز عليها تربية الأمة كانوا كفاية في أن ينشروا بين الألوف كنبراس يهديهم سبيلهم، وحصانة تحميهم من الأوهام والنظريات الخاطئة التي ستصادفهم في حياتهم.

(ترجمة)

عامر عبد الوهاب

ص: 20

‌صور سودانية.

. .

للأستاذ عباس حسان خضر

(هذه الصور من وحي عهد كان لنا بالسودان، وكان لنا فيه

أهل بأهل وإخوان بإخوان. . .)

المفرق:

هنالك على مبعدة من الخرطوم ومقربة من أم درمان يلتقي النيلان: الأبيض والأزرق. وكم وقفت أشاهد هذا الاقتران الدائم الخالد، وكم تفرجت بمرأى الموجة الزرقاء تجد في أثر البيضاء، هذه تتدلل وتتلوى، وتلك لا تيئس ولا تني، حتى تدركها أخر الأمر، فتمتزجان. وقد تعطف البيضاء على الزرقاء، فتسيران كحبيبين يمشيان الهوينى عطفا إلى عطف، حتى إذا قطعتا شوطا أمنتا بعده أعين الرقباء امتزجتا. . .

ولست أنسى تلك الليالي القمرية التي كان مديرو حديقة المقرن ينظمون فيها حفلات موسيقية راقصة، ولم يكن همي أولئك الراقصات من بنات الروم اللائى يملأن الخرطوم، ولا موسيقى الجيش المصري - لم يكن أولئك، وهن قيد النواظر. . . ولا هذه، على جلال خطرها، ليمنعاني من التسلل بين الأشجار على شاطئ النيل الأزرق، حتى أبلغ ذلك الرأس الذي ينتهي عنده الشاطئان المنتهيان، فأنظر كيف يتم اتحاد النيلين، على اختلاف اللونين. . . ثم يحتضن الشاطئان الباقيان النيل المتحد، فيسير بينهما، يبعث الحياة في واديه، ويومئ بالوحدة بين بنيه. . .

ساقية المرغني:

والنيل الأزرق قبل أن يلتقي بالأبيض يمر بشمال مدينة الخرطوم متجها إلى الغرب، وعلى شاطئه مما يلي المدينة شارع طويل واسع جميل، يبتدئ من شرقي الخرطوم إلى غربيها، ثم يدعها سائرا مع النيل الأزرق إلى المقرن

وذلك الشارع من أجمل شوارع الدنيا. . . يقع فيه قصر الحاكم العام، وقصر السيد المرغني، ومنزل مفتش الري المصري، وفندق فخم يسمى (الجراند أوتيل)، وما عدا ذلك دور لكبار البريطانيين. وقد وقفت على جانبيه أدواح ممتدة الأغصان كثيفة الأوراق، تكاد

ص: 22

تسقف الشارع، فتقي السائرين لفحة الرمضاء، ولا تقع العين من خلل أشجار الطوارين إلا على صفحة النيل الزرقاء الصافية من جانب، وحدائق الدور الكبيرة الحافلة بشتى صنوف الثمار والأزهار من جانب الآخر، حتى تصل إلى قصر السيد المرغني الزعيم الكبير الذي يلهج الشعب السوداني باسمه وحركاته وسكناته - فترى هناك في مقابلة هذا القصر على حافة النهر ساقية يجرها ثور، تحمل الماء إلى حديقة القصر، وهي خاصة خص بها ذلك السيد الجليل. . . ولا تستهن بهذا الغلام الذي يحث الثور إذا توانى، فهو يشعر شعورا قويا ببركة سيده، ويثلج قلبه للقيام بهذه الخدمة، ويزدهي ببلوغه هذه المرتبة. . . ترى ذلك على وجهه، وتلمحه في ابتسامته الراضية المفترة عن أسنانه البيضاء الناصعة. . .

وبعد، فماذا تقول هذه الساقية، أو عم تعبر موسيقاها الواهنة في أنينها. . . القوية بتأثيرها؟

فهمتها مرة تتألم لوحدتها في هذه البقعة التي جعلت المدينة فيها رفع المياه بالطرق الآلية الحديثة، وبودها لو ترى لها جارات أمام قصور سادات كسيدها. . . ومرة أخرى أدركت ما ترمي إليه من ترتيلها المتصل الدائب الذي لا ينقطع غلا إذا غفل الغلام عن وقفة الثور، كأنها تدل على جدوى العمل المتصل يقظة الراعي. . . ومرة ثالثة سمعتها تزهي بأنها تروى وتطرب. . . وكثيرا ما قالت لي: أنت اليوم هنا، وغدا تكون هناك في الشمال. . . فهل ستذكرني؟

ربيع السودان:

في الوقت الذي يشتد فيه البرد بمصر حين يكون الشتاء - ينعم السودان بجو دافئ مشرق، تنبعث فيه الحياة، ويدب النشاط في كل شئ، ينشط الإنسان بعد أن ران عليه صيف طويل ثقيل، وتهش نفسه للطبيعة التي لانت له بعد شدتها، وتهدي إليه الأزهار شذاها مع الهواء الذي ينسى برقته ما كان من لفحه وهبوبه، ويكون النبات الذي ترعرع على فيضان النيل قد نضج وآتى أكله، فتكثر الخضراوات، وتعم الخيرات. . .

في ذلك الوقت (من أواخر ديسمبر إلى أوائل مارس) يكون الجو في السودان معتدلا، لا يكاد الإنسان ببرد فيه إلا في الليل، فإذا ما طلعت الشمس صبت حرارتها على الأرض كأنها مدفأة كهربية، وكأن الأرض كلها غرفة عملت فيها المدفأة عملها، فما ينتصف النهار، وتحمي الشمس، ويحل وقت الغداء، حتى يلذ أكل البطيخ الدائم هناك، كأنك في صيف

ص: 23

القاهرة!

ونحن في مصر لا نكاد نتمتع بالربيع، إذ ينقلب البرد إلى حر، لا يفصل بينهما إلا أيام قليلة، كأيام السعادة، تشوبها تغيرات فجائية كما تشوب السعادة طوارئ الهموم والأكدار، أما السودان فإن الطبيعة تعوضه الربيع (الذي يسمونه شتاء) عن قسوتها عليه سائر العام بطول الصيف وشدة القيظ.

جمال الليل:

ولولا ليالي الصيف الجميلة لكان شواظا من نار، فالليل هناك في الصيف متعة أي متعة! لا يجلس أحدا ولا ينام تحت سقف، فكل بيت له حديقة أو فناء، حيث توضع (العنجريبات) في المساء، و (العنجريب): سرير صغير، خفيف الحمل، لين المرقد، ولم أر أجمل من ليل كنت أقضيه على (عنجريب) في حديقة منزلي بالخرطوم ن تتنزل إلى أشعة القمر من خلال أوراق الشجر، كأنها روح من السماء يهبط على نفسي بالطمأنينة والرضى. . . وتنعشني نسمات الليل الرفيقة، وينقع غلتي كوز ماء من (الزير) الصغير الذي يأخذ من (العنجريب) مكان (الكومدينو) من السري في حجرة النوم. . .

وماء ذلك (الزير) في ذلك الليل هو الذي يشبه عمر بن أبي ربيعة وجده بحبيبته بالوجد به إذ يقول:

قال لي صاحبي ليعلم ما بي:

أتحب الفتول أخت الرباب؟

قلت وجدي بها كوجدك بالعذ

ب إذا ما منعت طعم الشراب.

عيون المها:

وما دمنا بصدد روائع في السودان، فلا مفر من تينك العينين اللتين تبدوان في وجه المرأة السودانية، ولا تكاد ترى منها غيرهما، وهما حسبك! فهي ملففة بالملاءة البيضاء، ترى فتور عينيها في مشيتها، تصطنع الأناة والتمهل، وتعد ذلك من تمام الجمال والدلال!

ولست أدري ماذا أقول في تلك العيون ولم يدع الشعراء شيئا يقال فيها إلا نسبوه إلى (عيون المها. . .؟) على أنني قد رأيت المها، وتأملت عيونها، فلم أجد شيئا من جمال عيون السودانيات. . .

ص: 24

ويظهر أن إخواننا السودانيين يخشون السهام التي تنطلق من تلك العيون، فلم يسمحوا بعد للمرأة أن تنزل إلى جانبهم في ميدان الحياة العامة، فنواديهم خالية منها، وهي تحوم حولها، فما أشبه ذلك بما وصفه الشاعر:

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يُثَقَّبِ

عباس حسان خضر

ص: 25

‌مما عثرنا عليه في أضاميم (الرسالة):

الملك الثائر. . .!

للأستاذ عبد الرحمن شكري

مقدمة:

(هذه الأقصوصة تحتوي نزعتين: النزعة الأولى سخط النفس من شرور الحياة وآلامها، والنزعة الثانية تهوين أمرها على النفس، لأن رفض الألم رفض للسعادة؛ إذ الإحساس الذي يحس السعادة لابد أن يحس الألم. ورفض الشرقي الحياة رفض للخير، إذ الخير في محاربة الشر، ولأن الرحمة نفسها التي تدعو إلى السخط ما كانت تكون لولا الشر. والقصة هي قصة ملك عصى ربه وهبط إلى الأرض كي يدعو الناس إلى محو الشر فآذوه وألحقوا به كل شر، وخسر رضوان الله كما خسر رحمة الناس وعدلهم ومحبتهم. والمراد العضة وتحبيب الحياة والثقة بالله).

نُبِّئتُ أن ملاكا ثار من حزَنٍ

يسائل الله في خلق الرزيئات

(قول الملك الثائر يناجي الله):

تكلمَ الشر فأبعث منك هاتفة

من الجوامع تُرضى في المناجاة

الأرض منبره وهو الخطيب بها

يدعو النفوس إلى هُوْج المطيَّاتِ

فارحم مسامع لم تسمع نجِيَّكَ أو

نفساً لضوئك ترنو في الخصاصات

وارحم عيونا إلى مرآك ظامئة

آبت من النحس في شك كليلات

إذن أَعرْها لحاظاً منك صادقة

تدعو لها العيش محمود الصفيحات

وابعث لنا حكمة مما خُصصْت به

فحكمة لك تُطفئ حرِ غُلاَّت

ندري الوجودَ كما تدري الوجود بها

ونرتضيه بأرواح أبيَّات

فما الخلود ولا الفردوس مِن أَرَبى

ولا كمالٌ لمعصوم السجيات

حتى أرى الناس لا دمع ولا حزَنٌ

ولا شقاء بإجرام وغمَّات

سأبلغ الأرض آسَى مثلما حزنوا

وأُبرئ الناس من جرح البليات

إن الجهاد على النقص الذي طبعوا

عليه أفضل من عصم السجيات

ص: 26

فالسيف أفضل مشهوراً وإن صدئت

بالصون ما درنت منه بإصْلاتِ

(صوت من السماء):

اهبط إلى الناس واندبهم إلى خلق

كما تشاء على تقوى وإخبات

وارغب بهم عن شرور أنت ناقما

وداوِ ما استطعت كلْمَ المصمئلات

أوردهُمُ الخُلُقَ الأعلى لعل لهم

إلى الدنيات طبعاً غير منصات

فإن فشلت فلا غَرْوٌ فإن لنا

في الخلق حكمة مخبوء العلامات

(مسعى الملك الثائر واضطهاد الناس إياه وفشله):

سعى إلى الناس ساع نحو خيرهُم

يدرُّ للخير أرواحاً بكِيَّات

فيا لسعدهم لو أنهم جَنَبوا

ما يجنب السعدَ من حرص المباراة

عزيز عاداتهم للشر رائدهم

كم قدسوا العادَ تقديس الديانات

تبغي المُحالَ فتبغي الخير أجمعه

هيهات لو عزِّيت نفس بهيهات

كشَّفتَ عيب نفوس أنت ناصحها

فاحمل عن الخلق آلام الشقاوات

ثارت به الناس كالأغوال يقدمهم

غليه كل عريق في الجهالات

وحَّملوا خُلقَه من سوء خلقهم

وكم رموه بأدناس الراميات

ومزَّقوه بأظافر كما خُضبتْ

فواتك الوحش من دامي الفريسات

وعلَّقوهُ على جزْعِ وقيلَ له

اصعد كما رمت في مرقى السجيات

ما راعه أن رأى الأشرار ترجمه

وإن توجَّع من وقع النكايات

حتى إذا ما رأى الأبرار تظلمه

غرارةَ وانصياعاً للسِّعَايات

بكى لبغض ذوي خير وما منيت

نفس بأوجع منه في العداوات

من كل لحظ بضوء الخير مُنبعثٍ

يجدو عليه بتقطيب السخيمات

تلك النفوس التي عاف السماء لها

وثار يُغضب جبار السماوات

يُكفَّرُ الناس بالآلام قاطبة

عن الخطايا وعن شر الدَّنيَات

وعن رضاء بعيش جلُّهُ نقمٌ

وعن ولوع بنعماء ولذات

هم يعذرون بمدح الخير شرَّهُم

تكفير من لم يُطق هجر الخطيئات

لسان بَرٍّ بثلب الشر منطلق

مثل الأفاعي وما قلب بعزْ هاةِ

ص: 27

ما أنكر الناس شراً غير ضائرهم

أينكرون شهياتِ الغريزات

(صوت من الجحيم: إبليس يتكلم):

ناداه في النار إبليس فقال له:

هوِّن عليك ولا تُوْلَع بإعنات

قد شاء ربك إن الشر عدته

في صيغة الخير في قَدْرٍ وميقات

أنا الشقيُّ بما لم أجنه أبداً

من خلق نفسي ومن آثام زلاتي

(قول الثائر الساخط):

فقال ذو شقوة بالجذع منتصب

يكلمُ الله في نجوى السريرات

أَنزلْ عليَّ شقاء الخلقِ قاطبة

وطهر الناس من ضَير الجريرات

إن يظلموني فمن بالشر يجبلهم

أو يصلبوني فمن باري الجنايات

هل يَعذرُ الشر أن الخير غايته

أم هل تهوَّن آثامٌ بغايات

(مصير الثائر):

فَخُلِّقتْ روحه كالطير سابحة

في الجو تنشد مخضرَّ النباتات

طارت إلى الملأ الأعلى فما لقيت

لها قراراً ولم تظفر بمهُوَاةِ

لا في الجحيم ولا الفردوس مسكنها

حيرى المسالك من فقد القرارات

ترى الملائك حول العرش آسية

تاسى الملائك من أثم وزلات

(صوت من السماء)

يا ناقم الشر هلا كنت مُضْطلعاً

بالجزع والصلب قبل الكارث الآتي

عصيت ربك في كبر وفي جهَل

لما بَرْمت بإيلام الملمات

الخلْقُ للخلق ربح لو فطنت له

كمغنم الحي من أسلاب أموات

والشر والخير لا يُرْجى افتراقهما

فارفض إذا اسطعت نعمائي ولذاتي

حتى العقول وحتى الفضل اجمعه

ولذة النفس في بذل المروءات

ومُرتضى الخير لو يسعى إلى دتس

لَباَء منه بإخلاف العلالات

ومرتضى الزهد مسعود بعفته

ولذة المنع إنماء الخيالات

برحمة قد نماها الشر تنقمه

ورحمة المرء من وخز المصيبات

أن كان سخطك خيراً في مراحمه

أجزت خلْقي بأرواح رحيمات

ص: 28

فالشر للخير مردود وان أَسيت

منه النفوس بأنَّاتٍ وآهات

وباحث سِرَّ عيش غير مُدركه

كالطفل ينشد أفلاك السماوات

عبد الرحمن شكري

ص: 29

‌تعالوا نكفر بالمدينة!

للأستاذ عبد الحميد ياسين

إن من حق الأسماك والحيوانات الأخرى في المحيط الهادي، بل من واجبها أن تبتهج وتلهج بالثناء على جمعية حماية الحيوانات في سويسرا حين تقرأ - كما قرأنا بالأمس - نبا الاحتجاج الشديد الذي قدمته هذه الجمعية إلى الرئيس ترومان على تجربة القنبلة الذرية في مكان ما في ذاك المحيط.

حقا، أن المدينة قد بلغت الذروة في السمو، والشعور الإنساني قد بلغ حدا من الإرهاف لم نكن نحلم به

لقد ساء هذه الجمعية تعريض الحيوانات للخطر من جراء تجربة القنبلة الذرية فاندفعت تحتج عليه؛ أما أنا فسرعان ما عادت بي الذاكرة طاوية اشهرا عشرا إلى اليوم الذي أسقطت فيه إحدى القلاع الطائرة الأمريكية هدية نفيسة صغيرة الحجم غالية الثمن على مدينة هيروشيما اليابانية. لقد كانت هذه أيضاً قنبلة ذرية، بل أول واحدة تفتقت عنها عبقرية مدينة الغرب، وأهدتها إنسانيته الرفيعة. كان لهذه القنبلة دوي وانفجار، ودخان ونار، وحرق وهدم، وموت مخيف أودت بحياة مائتي ألف من الناس، وأصابت كثيرين بعاهات. وبعد أيام معدودة تلتها قنبلة أخرى أهديت إلى مدينة أخرى في اليابان كانت أقوى أثرا وأشد فتكا

عدت ابحث في زوايا الذاكرة عن نبا استهجان أو استنكار أو احتجاج أوحت به العاطفة الإنسانية الرفيعة إلى جمعية في سويسرا أو غيرها من البلدان الموغلة في المدينة، فلم أجد شيئا. ثم جعلت افكر، فهداني الفكر إلى تعليل بدا مقبولا: إذ قلت لنفسي: لو استنكرت جمعية كهذه عملا كهذا، أو استهجنته، أو احتجت عليه، لفسر ذوو الحول والطول عملها بأنه مناهض للقوى الديمقراطية، وانعموا عليها وعلى القوم الذين تقوم بين ظهرانيهم بقنابل صاعقة ماحقة بغية التأديب والتهذيب

وفكرت في سويسرا تلك البلاد البالغة الذروة في المدينة والرقي الإنساني، وذكرت أنها كانت مقرا لعصبة الأمم، وأنها فندق أوربا في الصيف والشتاء وما بينهما. فقلت: لعل هذه الصيحة من جمعية فيها تذكر الناس بأنها لا تزال الفندق الفخم الذي عرفوه، ليعودوا أليها

ص: 30

بمنظمتهم العالمية الجديدة، حيث الجو الإنساني مؤات، والعواطف النبيلة السامية تملا الأرجاء.

وكدت اسبح بحمد الرغيف الذي يوحي سياسات الدول، ويقرر مصاير الشعوب؛ ولكني آثرت الاتئاد والتروي، واعدت النظر في احتجاج تلك الجمعية، فرأيت فيه نفاقا لا ينكره إلا أعمى، ولا يسكت عليه إلا مأجور، ولا يستسيغه إلا ذو ذهن بليد، وشعور مثلم، وخيال مهيض الجناح. ودعوت الله أن لا يجعلني وبني قومي من المنافقين العمى المأجورين، وجئت أدعو الناس، دعوة خالصة لوجه الله، أن نكفر بهذه المدينة ونؤمن بالله وحده

(القدس)

عبد الحميد ياسين

ص: 31

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

796 -

ما أكثر العبر واقل الاعتبار

شرح النهج لابن أبي الحديد:

(ما أكثر العبر واقل الاعتبار) ما أوجز هذه الكلمة، وما اعظم فائدتها ولا ريب أن العبر كثيرة جدا بل كل شيء في الوجود فيه عبرة. ولا ريب في أن المعتبرين فيها قليلون، وان الناس قد غلب عليهم الجهد والهوى، وأرداهم حب الدنيا، وأسكرهم خمرها، وان اليقين في الأصل ضعيف عندهم، ولولا ضعفه لكانت أحوالهم غير هذه الأحوال.

797 -

ما خلا لذة الهوى والسلافة

في (نفح الطيب):

قال الوشاح المحسن أبو الحسن المريني: بينما أنا اشرب مع ندمائي بازاء الرصافة (في قرطبة) إذا إنسان رث الهيئة، مجفو الطلعة قد جاء فجلس معنا. فقلنا: ما هذا الأقدام على الجلوس معنا دون سابق معرفة فقال: لا تعجلوا علي، ثم فكر قليلا أنشدنا:

أسقنيها إزاء قصر الرصافه

واعتبر في مآل أمر الخلافة

وانظر الأفق كيف بدل أرضا

كي يطيل اللبيب فيه اعترافه

ويرى أن كل ما هو فيه

من نعيم وعز آمر سخافة

كل شيء رايته غير شيء

ما خلا لذة الهوى والسلافة

قال المريني: فقبلت راسه، وقلت له: بالله من تكون؟ فقال: قاسم بن عبود الرياحي الذي يزعم الناس انه موسوس احمق، فقلت له: ما هذا شعر أحمق، وان العقلاء لتعجز عنه، فبالله إلا ما تممت مسرتنا بمؤانستك ومنادمتك وإنشاد طرف أشعارك، فنادم وانشد وما زلنا معه في طيبة عيش إلى أن ودعناه وهو يتلاطم مع الحيطان سكرا، ويقول: اللهم غفرا

798 -

بين ملك وعالم

قال ياقوت: لما خرج عضد الدولة لقتال عز الدولة بختيار ابن معز الدولة، دخل عليه أبو علي الفارسي فقال له: ما رأيك في صحبتنا.

ص: 32

فقال له أنا من رجال الدعاء، لا في رجال اللقاء، فخار الله للملك في عزيمته، وانجح قصده في نهضته، وجعل العافية زاده، والظفر تجاهه والملائكة أنصاره ثم أنشده:

ودعته حيث لا تودعه

نفسي ولكنها تسير معه

ثم تولى وفي الفؤاد له

ضيق محل وفي الدموع سعه

فقال له عضد الدولة: بارك الله فيك، فإني واثق بطاعتك وأتيقن صفاء طويتك. وقد أنشدنا بعض أشياخنا بفارس:

قالوا له إذ سار أحبابه

فبدلوه البعد بالقرب

والله ما شطت نوى ظاعن

سار من العين إلى القلب

فدعا له أبو علي وقال: أيأذن مولانا في نقل هذين البيتين، فأذن فاستملاهما منه.

799 -

لا. . .

كان يعقوب الكندي بخيلا وكان يقول: من شرف البخل انك تقول للسائل: لا ورأسك إلى فوق، ومن ذل العطاء انك تقول:(نعم) وأنت برأسك إلى أسفل.

في (الكنز المدفون): وصف بعض النبلاء بخيلا فقال: هو جلم (أي مقص) من حيث جئته وجدت (لا)

800 -

بل أنت كما قال في هذه القصيدة

قال: ابن جني: حدثني المتنبي قال: حدثني فلان الهاشمي من جران بمصر قال: أحدثك بظريفة: كتبت إلى امرأتي بحران كتابا تمثلت فيه ببيتك وهو:

بم التعلل لا أهل ولا وطن

ولا نديم ولا كاس ولا سكن

فأجابتني عن الكتاب وقالت: ما كنت (والله) كما ذكرت في هذا البيت، بل أنت كما قال الشاعر في هذه القصيدة:

سهرت بعد رحيلي وحشة لكم

ثم استمر مريري وارعوى الوسن

801 -

ما جمعته أنت في بيت واحد

حدث بعض آل نوبخت قال: جاء النظام يوما فسألنا عن منزل أبي نؤاس فقلنا له: انه يسكن تلك الغرفة، وأمانا إلى غرفة كان ينزلها وكان له غلام اسود قال: فاستأذن عليه وقال

ص: 33

له أنشدني قولك:

تركت مني قليلا

من القليل أقلا

يكاد لا يتجزأ

اقل في اللفظ من لا

فانشده فقال له النظام: أنت اشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ منذ دهرنا الأطول نخوض فيه ما خرج لنا فيه من القول ما جمعته أنت في بيت واحد.

802 -

أقول له اسكت

أنشد ابن الجوزي في بعض مجالسه وعظه:

أصبحت الطف من مر النسيم سرى

على رياض يكاد الوهم يؤلمني

في كل معنى لطيف اجتلى قدحا

وكل ناطقة في الكون تطربني

فقام إليه شخص وقصد العبث به فقال: يا مولانا قولك وكل ناطقة في الكون تطربني فإن كان الناطق حمارا؟

فقال له الشيخ: أقول له: اسكت يا حمار.

803 -

لا تقل ذلك فانك أميرنا

قال بعض الأمراء لجنده: يا كلاب!

فقال أحدهم: لا تقل ذلك فانك أميرنا. . .

804 -

الحق رحمة الله عليه!

كتاب عين الأدب والسياسة، وزين الحسب والرياسة لعلي ابن هذيل:

إن الحق والباطل اصطحبا في سفر، فمشيا إلى الليل، فلما نزلا قال الباطل للحق: اذهب فاتنا بشيء نفطر عليه. فذهب الحق فلم يجد شيئا من حله فرجع، فقال له الباطل: اجلس حتى آتيك، فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء بشيء، فقال للحق: كل. فقال: ما أراه من حلة ولست بآكله. فقال له الباطل: بعثتك لتأتيني بشيء فلم تجد شيئا، فلما ذهبت أنا وجئت بما نفطر عليه حرمته علي، فنازعه فوثب الباطل على الحق فقتله ثم قال: إن أهل الحق قد علموا انه خرج معي، ولا بد لهم أن يطلبوني به، فعمد إلى حطب فجمعه ثم اضطرم عليه النار حتى صار رمادا ثم ذهب وتركه فجاء أهل الحق فقالوا: ما فعل الحق؟ قال: لا علم

ص: 34

لي به، فقالوا: خرج معك، فقال: نعم، ولا ادري ما فعل. فخرج أهل الحق يطلبونه حتى وقفوا على الموضع الذي أحرقه فيه الباطل، فقالوا: هذا رماد الحق، وهذا موضع ناره، فجمعوا رماده، وصنعوه مدادا يكتبون به.

فهذا ما بقي من الحق، بعينه فقد ذهب. . .

ص: 35

‌من حياة اليونان القدماء وطرائف أحاديثهم:

حفلة الشاعر. . .

للأستاذ ماجد فرحان سعيد

(نقلت عن الإنكليزية من كتاب (الحيوانات الخالدة لعظماء الفلاسفة) لمؤلفيه هنري توماس ودانا لي توماس).

أحيا الشاعر الأثيني القديم حفلة ساهرة في بيته، دعا أليها نخبة ممتازة من خيرة أصحابه ليشاركوه سروره بمناسبة فوزه بالجائزة الأولى لروايته التي مثّلت في (الملهى الإغريقي). وكان المدعوون يتناقشون في أحد الموضوعات التي يجدون فيها ألذ متعة أمتع لذة - وهو الحب، فجرب كل واحد بدوره أن يبسط رأيه في معنى هذا الموضوع الشائق.

فاستهل الموضوع بقوله: (الحب أقدم الآلهة ومن اشدها قوة. فهو ذلك القانون الذي يحول الشخص العادي إلى بطل صنديد، لان العاشق يستحي ويربا بنفسه أن يظهر أمام محبوبته بمظهر الجبان الرعديد. ولو قدر لحم أن تجهزوني بجيش من العشاق، لاستطعت أن أدوخ العالم بأسره)

فيوافق على هذا ويزيد عليه قوله: (نعم! ولكن يجب عليك أن تميز بين الحب الأرضي والحب السماوي، اعني أن تميز بين جاذبية جسمين من جهة، وائتلاف روحين من جهة أخرى. أن الحب الجسماني المبتذل، يتخذ أجنحة ويطير عندما تذوي زهرة الشباب. وأما الحب الروحاني الرفيع، فهو سرمدي خالد).

وعندئذ يفاجئنا الشاعر الهزلي اريستو بنظرية طريفة جديدة في الحب، فيقول: (في الأيام القدامى، كان الجنسان متحدين في جسد واحد، وكان هذا الجسد مستديرا كالكرة، مجهزا بأربع أيد وأربع أرجل ووجهين، ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة مدهشة، إذ يثب وثبات منقلبة متتابعة. ومع ذلك، كان هؤلاء الناس قوما جبابرة، ليس لطموحهم حد. فلقد رسموا الخطط، ووضعوا التصاميم، كي يتسلقوا أجواء السماوات ويهاجموا الآلهة. ولكن خطرت على بال زيوس خطة غريبة رائعة إذ قال: لنقسم الواحد منهم إلى شطرين، فيكون للشطر نصف القوة، وهكذا نضاعف عدد ضحاياهم. . . وبالفعل شطرهم إلى ذكر وانثى، ومنذ ذلك الحين تولدت في كل من هذين الجنسين رغبة عنيفة في الاتحاد مرة ثانية. وهذه

ص: 36

الرغبة الملحة الاتحاد الجنسين هي ما نسميه الحب).

ولقد عرضت بعد هذا التفسير الفكاهي لنظرية الحب تعريفات أخر مشوقة؛ ولكن طلب أخيرا من ضيف الشرف أن يدلي ببعض التعليقات على الموضوع.

فابتدأ سقراط حديثه بهذه التوطئة: (ماذا يمكنني أن أقول بعد أن خلبتني آيات هذه البلاغة الساحرة وأسرت فؤادي؟ لقد تحولت إلى حجر صلد، وأصبت بالعي والحصر. إذ كيف يتسنى لبلاهتي أن تباري مثل هذه الحكمة الرائعة؟!) وبعد أن يرمي عن كاهله هذا العبء الثقيل من (التوطئة السقراطية) التي تتميز بأدبها التهكمي، يتقدم إلى جرح (حكمتهم ببلاهة) على حد تعبيره. فيفند حججهم بعدة أسئلة متتابعة - نقول هذا غير غافلين انه كان عميد المدرسة التي نهجت لنفسها الطريقة الاستجوابية في التعليم.

ثم يعمد إلى اتباع هذه العملية التدميرية بعملية إنشائية من عنده. فيفضي إليهم بالحديث التالي: (الحب هو جوع الروح البشرية إلى الجمال الإلهي. فالعاشق لا يكتفي بوجود الجمال، بل يهفو إليه ويحاول أن يخلقه، ويعمل على تخليده بزرع بذرة الخلود في الجسد البشري. ولهذا السبب يحب كل من الجنسين الآخر، من اجل التناسل وتمديد الزمان إلى الأبدية، وكذلك يحب الأباء أبناءهم لان أرواح الأباء المحبين لا توجد الأبناء فحسب بل توجد شركاء وزملاء وخلفاء في البحث الدائم عن الجمال).

وما هو هذا الجمال الذي نسعى لتخليده بواسطة الحب؟ هو الحكمة والفضيلة والشرف والشجاعة والعدل والأيمان. أو بكلمة جامعة: الجمال هو الصدق؛) والصدق هو الطريق الوحيد الذي يؤدي مباشرة إلى عزته تعالى).

فتشرق وجوه الضيوف تقديرا وعجابا، ويعلو هتافهم استحسانا لما قاله هذا الفيلسوف الحافي، ثم يسترسلون فيما يختص بحفلة المساء، إذ يستهويهم السمر، ويمعنون في شرب الخمر. وما هي إلا دقائق، حتى يحسر الفجر لثامه، فيصيح الديك، ويغادر أكثر الضيوف البيت، ولا يبقى هناك إلا ثلاثة وهم: سقراط وأجاثون وأريستوفانيس فيتناول هؤلاء بنت الحان من كأس كبيرة تدار عليهم واحدا فواحدا، وفي الوقت نفسه سمع سقراط يشرح للشاعرين اللذين أخذ النعاس يراود أعينهما، بأن الكاتب المتفوق في الروايات الهزلية، يجب أن يكون كاتبا متفوقا في المآسي. وبينما هو كذلك، يغفو أريستوفانيس وأجاثون

ص: 37

فيضجعهما سقراط بكل هدوء وراحة، ويعب من الكأس للمرة الأخيرة على ذكرى إله الخمر ديونيساس ويذهب لمباشرة عمله اليومي، ألا وهو توزيع الحكمة على أبناء أثينا.

ماجد فرحان سعيد

ص: 38

‌هذا العالم المتغير!

عشنا بالطاقة الذرية!

للأستاذ فوزي الشتوي

الشمس تعلمنا

هل تعلمنا الشمس كيف نستخرج الطاقة الذرية بأبسط الوسائل ومن أكثر العناصر انتشارا في العالم؟

كل القرائن تقول نعم. فهي ترسل إلينا بإشعاعاتها منذ القدم. وهي تغذينا بطاقتها الذرية طول عمرنا وعمرها. وتستغل في هذا السبيل ابسط العناصر وأكثرها في الوجود وهو غاز الأيدروجين. فهذا الهواء حولك جزء من أيدروجين، وهذا الماء الذي تغتسل به وتشربه أو تسبح فيه مؤلف من الأيدروجين والأوكسجين.

ومن ثم يسيل لعاب العلماء والحكومات ورجال الصناعة. بالمعلم (الشمس) تشرق على كل مكان، ويستطيع كل إنسان أن يرقبها، ويدرس طريقتها في فلق ذرات الأيدروجين وإرسال طاقتها. والأيدروجين موجود في كل مكان تطرقه. ومن المعروف أن الخالق لا يحب التعقيد بل يلجا في تدبيره إلى البساطة المتناهية. وأول علاماتها في هذا الصدد أن الأيدروجين هو ابسط العناصر، فتتألف ذرته من كهرب واحد يدور حوله كهرب سالب واحد.

ومن ثم يبدو بعد الشقة بين كمال قدرة الخالق ونقص كمال قدرة الإنسان، وقد بدت حكمته فتركنا نسعى بعقلنا حتى اكتشفنا الطاقة الذرية من اعقد طريق، وبأعقد الوسائل والمواد، ثم استغللناها في الدمار والخراب. فعرفناها عن طريق اليورانيوم اعقد العناصر، وبآلات بالغة الضخامة، ثم استخدمناها لقتل البشر ودمار المدينة، أما هو فكانت وسائله على النقيض تماما. ويكفي أن نقول أن الشمس مصدر الحياة.

وليس هذا مجال التوسع في هذا الحديث فنحن قبل بحث جديد لا يعرف سوى الله مداه. فقد وفق الإنسان إلى استخراج الطاقة الذرية، ولكن من اليورانيوم والبلوتونيوم اعقد العناصر المعروفة وأبهضها تكاليف، فضلا عن أن بقاعا شاسعة من العارض لا تملك منهما شيئا.

ص: 39

وقد تكلف الرطل الواحد من العنصر الأخير 25 ألف دولار حين صنعته المصانع الأمريكية لقنبلتي هيروشيما وناجازاكي.

الطاقة من الأيدروجين:

والمعروف أن الشمس توالي غذاء عالمنا بالحرارة والإشعاعات الناتجة من فلق ذرات الأيدروجين المحيط بها وهي كسائر النجوم التي نراها تتلألأ في السماء تستخدمك الطاقة الذرية. وهي لا تحترق كما قد يتوهم البعض لان كتلة الشمس أو النجوم لا تسمح ببقائها كل تلك الحقب من السنين بل المعروف أن تضاؤلها بطيء مما لا يتفق مع طبيعة الاحتراق.

وتستخدم الشمس الطاقة الذرية الناتجة من الأيدروجين ببطء بالغ وبطريقة غير معروفة، فلا تحول من كتلته إلى أكثر من واحد في المائة. وهي نسبة أكبر من النسبة التي تحول من ذرة اليورانيوم التي تبلغ واحدا في الألف تبعا لأحدث الوسائل العلمية، ويقدر أن الشمس ستعيش على هذا المنوال من استخدام طاقتها الذرية 40 ، 000 ، 000 ، 000 سنة.

ومن الطبيعي أن الطاقة الناتجة من فلق ذرة الأيدروجين ستكون اقل من الطاقة الناتجة من ذرة اليورانيوم، ففي ذرة الأول جسيمة واحدة، وفي ذرة الثاني بضع مئات من الجسيمات. ولكن وفرة الأيدروجين وكثرة ذراته ستعوض النقص أو تفوقه، ففي رطل الأيدروجين الواحد ما يقرب من 2 وأمامها 26 صفرا من الذرات. وقدر ثمن الطاقة الناتجة من هذا الرطل بمبلغ 570 مليون دولار.

حقيقة أن العلماء لم يوفقوا لاستخراج الطاقة الذرية من الأيدروجين كما وفقوا إلى استخراجها من عنصر اليورانيوم؛ ولكنهم يعتقدون أن تحويل ذرة الأيدروجين إلى طاقة ايسر من تحويل ذرة اليورانيوم، ومن ثم يحرصون إلى التوسع في دراسته على سطح الأرض وفي الشمس أيضا.

بساطة تغري:

وقد اتجه العلماء إلى استخراج الطاقة الذرية من اليورانيوم 235 لان كتلة ذرته الكبيرة

ص: 40

نسبيا وكثرة جسيماتها التي تعد بالمئات تسهل فلقها بخلاف الأيدروجين الذي تتألف نواته من جسيمة واحدة لا يتيسر النفاذ إليها بالوسائل المعروفة. ولكن بساطة تركيبها قد تساعد العلماء في حل كثير من الغاز الذرة. ومثال ذلك التي توجد في الذرات الأخرى ولكنها ليست في الأيدروجين.

ويظن أن المتعادلة تتألف من جسيمتين تعادل أحدهما كهارب الأخرى ومن ثم لا يبدو لها أثرا في مدارات الذرة الخارجية. وليس لها كهارب ولكنها ذات تأثير كبير في استخراج الطاقة الذرية من اليورانيوم أو من أي عنصر آخر، فالغالب أن الأيدروجين هو العنصر الوحيد الذي يخلو منها.

ولم يصل العلماء بعد إلى الطريقة التي يمكن بها تحويل المتعادلة إلى كهرب موجب أو تحويل الكهرب الموجب إلى متعادلة برغم ما بذلوه في هذا السبيل من جهد نظرا لأهميته وما قد يسفر عنه من تحول خطير في مجال تركيب الذرة واستغلال ذرات العناصر كلها في إخراج الطاقة الذرية فضلا عما ينتاب الصناعة ذاتها من انقلاب خطير.

الأشعة الكونية مفتاح!

ويدرس الدكتور جون هويلر من جامعة برنستون بأمريكا الأشعة الكونية حتى يحصل على مفتاح يتوسل به إلى تحويل نواة الأيدروجين إلى طاقة - والدكتور هويلر هو أحد العلماء الذين ساهموا بقسط وافر في أبحاث عنصر اليورانيوم. وهو يرى أن نواة الأيدروجين قد تؤدي إلى نتائج كبيرة القيمة.

وقد أدت دراسة الأشعة الكونية إلى العثور على جسيمة ذرية أطلقوا عليها اسم وهي ثمن كتلة الكهرب الموجب وتنتج حين تصطدم الأشعة الكونية النشطة كهربا موجبا فتبدو كقطرات الماء الساقطة من (دش) الحمام.

وتنطلق جسيمات (الماسون) مسافة قصيرة في الجو ثم تختفي قبل وصولها إلى الأرض. ولم يوفق العلماء لمعرفة سر اختفائها أو إلى العوامل التي تؤثر عليها. وان كان المعروف أن الأشعة الكونية التي تطلق رذاذ (الماسون) ذات نشاط يصل إلى مائة بليون إلكترون فولت.

هل وصلنا!

ص: 41

وفي رأي الدكتور هويلر أن نشاطا قدره بليون إلكترون فولت يكفي لفلق ذرة الأيدروجين وإنتاج هذا الرذاذ الذي يمكن تحويله إلى طاقة. وفي رأيه أيضاً أن مائة مليون إلكترون فولت قد تؤدي نتائج مشجعة.

وقد تيسر أخيرا لبعض شركات الكهرباء الأمريكية أن تصنع آلة تنتج هذا السيال الكهربائي كما أن العالم الأمريكي لورانس الأستاذ في جامعة كاليفورنيا صنع مدفعا لتحطيم الذرة (سيكلوترون) بهذه القدرة.

ولهذا ينتظر أن تدخل فكرة الدكتور هويلر في مرحلة التجارب العملية في أمد قريب لفلق ذرات الأيدروجين. وعندئذ تصبح دراسة الإشاعة الكونية مرشدا يقود البحث ولكن بأدوات يصنعها الإنسان وعرف كيف يتحكم فيها ويستغلها.

فوزي الشتوي

ص: 42

‌حزب الاستقلال المراكشي كما يرى:

مراكش والوحدة العربية

ثلاثة اتجاهات تسيطر الآن على الحالة السياسية في مراكش

1 -

المراكشيون تحت زعامة حزب الاستقلال يريدون الاستقلال التام وضم بلادهم إلى دول الجامعة العربية.

2 -

الفرنسيون الرسميون، والرأسماليون المستحوذون على الأرض والمالية، يريدون إبقاء ما كان على ما كان، وإكراه المراكشيين على الرضوخ لإرادتهم بالطغيان والتحدي.

3 -

طائفة من اليساريين الفرنسيين ومن بينهم من له مسؤولية في حكومة باريز الحالية يريدون إلغاء عقد الحماية المبرم بين الحكومة المغربية وحكومة فرنسا سنة1912، وإبداله بعقد آخر تدخل به مراكش في حضيرة العائلة الفرنسية، على شكل يشير من قرب أو من بعد إلى شكل جمهوريات القوقاز التابعة للاتحاد السوفياتي.

هذه هي الاتجاهات العامة في هذا القطر العربي الذي عاش ثلاثة عشر قرنا مستقلا مرهوب الجانب حتى طوقته الدسائس الأجنبية فأرغم على الخضوع لإملاء 30 مارس سنة 1912 أي معاهدة الحماية.

وقد كان هذا الإملاء كما يذكر القراء نتيجة حتمية لاتفاق 1904 الذي تنازلت فيه بريطانيا العظمى عن مراكش لفرنسا في مقابل تنازل فرنسا لبريطانيا عن مصر.

وكان الاحتلال الأجنبي سبب محنة عظمى للشعب المراكشي الذي ظل يدافع عن استقلاله بالسلاح ويعلن الثورة تلو الثورة، سواء ضد الفرنسيين أو ضد الأسبان، منذ إملاء 30 مارس سنة 1912 إلى أواخر سنة 1934 أي طيلة اثنين وعشرين سنة كاملة لم يمر منها يوم واحد (أقول يوم واحد) لم تكن فيه الحرب معلنة في ناحية ما من نواحي الإقليم المراكشي بجميع أهوالها وويلاتها المعروفة.

وقد ابتدئت مقاومة الفرنسيين الساسة في شكل أحزاب عصرية منظمة منذ سنة 1930، فكان الفرنسيون يقابلون بالتشريد والرصاص والسجن كل طموح سياسي يظهره المراكشيون لتحسين حالتهم.

وفي 11 يناير سنة 1944 طرأ تغيير جوهري على موقف المراكشيين السياسي من فرنسا

ص: 43

وذلك بالمذكرة التي رفعها حزب الاستقلال إلى جلالة الملك والى اللجنة الفرنسية بالجزائر (حكومة الجنرال دي جول) والتقت حولها الشعب برغم التدابير الجهنمية التي لجا إليها الفرنسيون لإقناع الأمة بالسكوت والاستسلام والتنازل.

ولكن الفرنسيين يضعون الشعب المراكشي، كما قلت، بين احتمالين لا ثالث لهما، أما البقاء تحت نظام النهب والإرهاب والمحق التدريجي، كما كان الحال في الماضي؛ وأما الاندماج في حضيرة العائلة الفرنسية، أي الانتحار وتحدي كل إحساس طبيعي يشعر به المراكشيون في نفوسهم.

أما المراكشيون فهم في أعماق قلوبهم يشعرون انهم عرب ويشعرون أن تطورهم وحظارتهم يجب أن يصبا في قالب لغتهم العربية واتخذوها لغتهم قبل أن يتكون الشعب الفرنسي وقبل أن توجد الفرنسية بقرون، لذلك يعتبرون أن مستقبلهم مرتبط ارتباطا طبيعيا بمستقبل الأمم العربية الاخرى، مرتبط بمستقبل العرب، من الوحدة الثقافية والعاطفية، ولا مانع من ارتباطه بالوجهة الاقتصادية التي تعد محور السياسة اليوم، وهم بأجمعهم ينتظرون بفارغ الصبر اليوم الذي توقع فيه حكومة مراكش المستقلة على دستور الجامعة العربية وتصبح عضوا عاملا بين بقية الأعضاء العاملين العرب، بذلك يصبح المراكشيون عاملا نشيطا لتثبيت السلم العالمي كما كانوا عاملا نشيطا لكسب الحرب.

والمراكشيون يريدون أن يسترجعوا استقلالهم السياسي أولا لأنه حق من حقوقهم الطبيعية، لا يقبل أي مناقشة، وثانيا لأنهم يرون في الاستعماريين الفرنسي والأسباني، خطرا يهدد كيانهم كأمة. وقد اتخذ في مراكش، وبالأخص الاستعمار الفرنسي، وسيلتين لمحو الشخصية المراكشية، والقضاء على كيان الأمة، فمن جهة، باتباع السياسة المعروفة بسياسة الإدماج وهي تتلخص في الإدارة المباشرة للبلاد، ونزع أراضي الفلاح بالقوة وتقديمها للمعمر الفرنسي، وإحلال اللغة الفرنسية محل اللغة العربية، لغة البلاد الوطنية، والاستيلاء على رؤوس الأموال؛ ومن جهة أخرى بمقاومة نشر التعليم، وإهمال الصحة العامة، وخنق الحريات، وتأسيس نظام بوليسي مرعب يحاول بجميع الوسائل الدنيئة، قتل الإحساس بالكرامة في نفس المراكشي لتسهيل السيطرة عليه.

وليس من شك في أن الفرنسيين، ومثلهم الأسبانيون، كانوا ينتظرون من وراء هذه السياسة

ص: 44

انقراض أمة لتحل مكانها أمة اخرى، فتصبح مراكش امتدادا لفرنسا أو لأسبانيا في قارة أفريقيا، وهو حلم ردده الجنرال ديجول لجنرال فرنسا الجديدة، في خطاب له وهو في طريقه إلى بلاد السوفيات، وهو نفسه الحل الذي يقترحه (اليساريون) الأحرار في لهجة أدبية تقدمية، معادية للاستعمار وأساليبه الرجعية الغاشمة كما يزعمون.

أما الشعب المراكشي فهو يعرف ما يريد، وغيته واضحة لا غبار عليها، وهو يطمع الآن لعقد معاهدتين أساسيتين، معاهدة يحصل بها على استقلاله التام، والأخرى يدخل بها كعضو عامل في وسط دول الجامعة العربية.

(مراكش)

(خبير)

ص: 45

‌البريد الأدبي

حول مذكرة السنهوري باشا:

قرأت في (الرسالة) الغراء كلمة أشارت فيه إلى ما تضمنته مذكرة السنهوري باشا التي تهدف إلى إنشاء معهد الفقه الإسلامي للجامعة العربية. . . والفكرة جليلة قويمة. . . ولكنها أهملت دعامة الفقه الإسلامي، وحصنه الحصين ألا وهو (الأزهر) إهمالا تاما، ولم تشر إليه من قريب أو بعيد!! فقد أشارت (الرسالة) إلى المعاهد التي تقترح هذه المذكرة إنشاءها.

أولها: (معهد التدريس يمنح الشهادات والدبلومات الجامعية يلتحق به الحاصلون على ليسانس الحقوق من إحدى الجامعات العربية). . . عجبا!! أليس للأزهريين الحق في دخول هذا المعهد وهم أولى به؟! ولماذا حرموا منه؟!. . . ثم ذكرت انه ينبغي أن يلحق هذا المعهد بإحدى جامعات الدول العربية، وافضل هذه الجامعات هي جامعة فؤاد الأول!!. . . وكأن الأزهر الذي حافظ على دراسة الدين الإسلامي ألف عام وخّرج من خّرج من العظماء ليس أهلا لان يلحق به هذا المعهد، وهو الذي يجمع بين أبناء العروبة من قديم الزمن! وقد جعلته أمم العروبة منارا به يهتدون وكعبة إليها يحجون!. . . وإني لا اشك في أن الأزهر محتاج للتجديد كما نادى بذلك أستاذنا الجليل (الزيات). . . ولا ريب في أن الأزهر سينال حقه من التجديد والإصلاح عما قريب لما نعهد في شيخه الأكبر من حب للتجديد وأيمان بالإصلاح.

تصحيح:

طالعت في ذلك البحث الفياض للأستاذ أبي القاسم بدري عن (الشاعران المتشابهان). . . وقد ذكر من شعر أبي القسم الشابي رحمه الله هذين البيتين:

(أنت روح غبية تكره النو

ر وتقضي الدهور في ليل حدس

أنت لا تدرك الحقائق إن طا

فت حواليك دون حس وحس)

وصحة المصراعين الأخيرين (في ليل ملس)، (دون مس وجس) وذكر كذلك هذا البيت:

(أيها الشعب أنت طفل صغير

لاعب بالتراب والليل ينسى)

وصحة المصراع الأخير (واليل مغس) كما جاء في (الرسالة) الغراء عدد نمرة 664 في

ص: 46

قصيدة (ليتني. . .!). . وأورد من شعر التجاني رحمه الله هذا البيت هكذا:

(وأنا اليوم لا حراك كأن قد شد

في مكمن القوى أوثاق)

وهو من البحر الخفيف. وصحته:

(وأنا اليوم لا حراك كأن قد

شد في مكمن القوى أوثاق)

وهذه ملاحظات يسيرة لا تغض من قيمة البحث الجليل.

إبراهيم عبد المجيد الترزي

حول معرض الكتاب العربي:

كتب صديق الأستاذ وديع فلسطين في (الرسالة) الغراء كلمة عن (معرض الكتاب العربي) الذي أقامته وزارة المعارف بدار الجمعية الزراعية الملكية؛ وقد تعجبت كثيرا حينما وجدت الأستاذ يقول في أثناء حديثه:

(ورأيت كتابا آخر عنوانه (وفيات الأعيان) فضحكت كذلك، لان مؤلفه لم يجد ما يكتب عنه إلا أن يسرد تواريخ وفيات الأعيان! كان الدنيا وما فيها لا تهمه، وكان الإصلاح الاجتماعي لا حاجة لنا إليه، وكان الكتّاب فرغوا من الكتابة في جميع الموضوعات، ولم يبق سوى الكتابة عن وفيات الأعيان!) اهـ.

أهذا كلام يقال؟. وهل يدل ذلك الحكم على أن الأستاذ فلسطين قد طالع شيئا في كتاب الوفيات أو عرف قيمته في المكتبة العربية؟. . .

أن كتاب (وفيات الأعيان) أيها الصديق من أمهات المراجع التاريخية التي لا يستغني عنها مؤلف أو اديب، وهو لم يقتصر كما فهمت خطا على ذكر وفيات المشهورين من الناس، بل أوجز الحديث عن حياتهم وأعمالهم وصفاتهم وولادتهم ووفاتهم، واسم الكتاب كاملا هو:(وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان)، وقد ألفه صاحبه شمس الدين أبو العباس أحمد ابن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الشافعي، وانتهى من ترتيبه بالقاهرة المحروسة سنة أربع وخمسين وستمائة هجرية. أي منذ أكثر من سبعة قرون، وقد شرح ابن خلكان في مقدمة كتابه جانبا من غرضه فيه فقال:

(ولم اقصر هذا المختصر على طائفة مخصوصة مثل العلماء أو الملوك أو الأمراء أو

ص: 47

الوزراء أو الشعراء، بل كل من له شهرة بين الناس، ويقع السؤال عن ذكرته، وأتيت من أحواله بما وقفت عليه من الإيجاز، كيلا يطول الكتاب، واثبت وفاته ومولده إن قدرت عليه، ورفعت نسبه على ما ظفرت به، وقيت من الألفاظ ما لا يؤمن تصحيفه، وذكرت من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمة أو نادرة أو شعر أو رسالة، ليتفكه به متأمله، ولا يراه مقصورا على أسلوب واحد فيمله، والدواعي إنما تنبعث لتصفح الكتاب إذا كان مفننا).

وتعبير ابن خلكان بان كتابه (مختصر) فيه تواضع العلماء القدامى، وإلا فكتابه ليس مختصرا، بل هو موسوعة كبيرة لو طبعت على ورق حديث لبلغت آلاف الصفحات، وقد وصف أحد الأدباء كتاب الوفيات فقال انه (روضة يانعة الأزهار، متدفقة الجداول والأنهار، بل كنز بالفرائد حافل، ولبدائع المحافل شامل كافل، لما حواه من تراجم أكابر الفضلاء، وتضمنه من فكاهات الأدباء والشعراء، مع ترتيب عجيب، وأسلوب فائق غريب، وضم الشوارد، واقتناص الأوابد، وضبط غريب مبانيه، وتهذيب مقصده ومعانيه).

وحياة ابن خلكان بعد هذا أيها الصديق لا تدل على انه كان تافها أو ضعيف المنة، فله من عمله وأدبه ومؤلفاته وفقهه ما يرفعه إلى مصاف العظماء من الرجال، وله فوق هذا شعر في غاية الرقة والجمال. فهو القائل في الغزل:

أنا والله هالك

آيس من سلامتي

أو أرى القامة التي

قد أقامت قيامتي!

وهو القائل أيضا:

تمثلتمو لي والديار بعيدة

فخيّل لي أن الفؤاد لكم مغنى

وناجاكموا قلبي على البعد والنوى

فأوحشتمو لفظاً، وآنستمو معنى!

لقد ظلمت (وفيات الأعيان) يا وديع وظلمت صاحب الوفيات. ورحم الله ابن خلكان إذ يقول في آخر خطبته التي قدم بها الوفيات: (حرسنا الله تعالى من التردي في مهاوي الغواية، وجعل لنا من العرفان بأقدارنا امنع وقاية!).

هذا وقد لاحظت أن المعرض قد خلا من الكتب التي صدرت في الأقطار الشقيقة، وهذا صحيح، فقد زرت المعرض كما زرته، ولاحظت أنا فوق ما لاحظته أنت. أن المعرض قد خلا من قسم للكتب الأزهرية، مع أن الجامعات والمعاهد العليا ودور الطباعة والنشر قد

ص: 48

مثلت في هذا المعرض؛ وكم كنت أتمنى أن يطلع الناس في هذا المعرض على نماذج من الكتب الأزهرية القديمة والحديثة، ويرون كيف تطور التأليف الأزهري عل مر العصور، وكم كنت أتمنى أن يشاهد الناس كتب الباجوري والشرقاوي والأشموني والسيوطي والصبان والدرديري وغيرهم، وكم كنت أتمنى أن يرى الناس في هذا المعرض مؤلفات أو مطبوعات المراغي ومصطفى عبد الرزاق والصعيدي وعرفة ومحي الدين وعوني وعبد القادر ويوسف موسى وغلاب وماضي وقرقر وبدير والخضر وغيرهم!!. . .

ليت شعري! كيف فات الأزهر هذا وعلى رأسه اليوم الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق خريج السوربون وصاحب المؤلفات العديدة؟. . . لئن فات الأزهر هذا اليوم نرجو مخلصين ألا يفوتهم يوم يحتفلون بالعيد الألفي للأزهر. ولكن متى يكون هذا الاحتفال؟.

أحمد الشرباصي

المدرس بالأزهر الشريف

ص: 49

‌القصص

مجنون!. . .

للقصصي الفرنسي جي دي موباسان

بقلم الأديب م. كمال جلبي

مات الرجل الفذ الذي اهتزت له مجالس القضاء الفرنسية قاطبة، وانحنت لموته رؤوس الحقوقيين وأعضاء مجالس الشورى انحناء احترام وخضوع لوجه الهزيل الذي كانت تضيئه نظراته الحادة.

كان عدو اللصوص والقتلة لأنه الوحيد الذي يقرا أفكارهم الرهيبة ويكتشف أسرار الجرائم التي ارتكبوها، فبنظرة واحدة إلى إحداهم يعرف أسراره المدفونة.

مات الرجل في الثانية والثمانين من العمر، فشيعت نعشه حسرات شعب كامل؛ وسار وراءه جنود الحكومة لابسين البناطيل الحمر؛ يتقدمهم أعاظم رجالات فرنسا ويندبه أصحاب الربطات البيضاء بدموع صادقة.

وقد وجدوا بعد موته في غرفته الخاصة التي تحوي أوراق كبار المجرمين مذكرات بعنوان (لماذا)

20حزيران سنة 1851:

انتهت جلسة اليوم بعد حكمي على بلوندل بالإعدام.

لم قتل هذا الرجل أولاده الخمسة؟ ولم تظهر علائم اللذة على هؤلاء إذا قضوا على غيرهم؟

نعم! نعم! يجب أن يكون القتل لذة، ولعلها تكون اعظم اللذات جميعها! أليس للموت شبه عظيم بالحياة؟

الحياة والموت!!

كلمتان تتألف منهما قصة المجتمع، نعم المجتمع كله؛ أي كل ما هو كامل؟ إذا لماذا يولع الإنسان بالقتل؟

25 حزيران:

ص: 50

فكر في مخلوق حي، يسير وينظر ويضحك. . . مخلوق؟!

ما هو المخلوق؟

هو كائن يحيا بحركة نظامية، وبفكر ثاقب يدير تلك الحركة الكامنة فيه، ولا يشغل هذا الكائن فراغا لان رجليه اللتين يسير بهما لا تتعديان وجه الأرض. إذن فهو حبة حياة متحركة لا ادري مم تكونت! تبدو بسيطة كأحقر الأشياء وأتفهها كان لا قيمة لها مطلقا.

26حزيران:

لم يعد القتل جريمة؟ نعم لماذا؟

فقانون الطبيعة لا يعاقب القاتل، والقتل كما أرى فريضة على كل كائن: فانه يقتل طلبا لعيش رغيد؛ يقتل لأنه عرف لذة القتل؛ فالحيوان يقتل في كل لحظة من وجوده - والرجل لا ينقطع عن القتل، بل يقتل ليتغذى، ويرى في القتل ضرورة، لذلك رأى في الصيد لذة - وقد لا يشعر الطفل بالنشوة ألا إذا خنق صغار الحشرات وصغار العصافير التي تصل إليها يده؛ وكل هذا لا يطفئ شهوة القتل الملتهبة فيه.

لم يكفه الحيوان فعدا على رفيقه الإنسان. وقديما كانت القرابين البشرية تقدم للآلهة، فاستعيض عنها حديثا بالجرائم التي جعلت القتل جريمة يكافحها القانون بالإعدام أو بالسجن!

والحقيقة أننا لا بد أن نؤدي واجبنا نحو هذه الغريزة الطبيعية التي ينتج عنها الموت الوشيك. وكثيرا ما تخفف غلواؤنا عندما نرى أمم الأرض تتطاحن، ونسمع بشعوب تذبح أخرى، وتكون هناك مجازر دموية تهيم بها الجيوش؛ فترى أهالي المدن الثملين بخمرة النصر مع نسائهم وأولادهم يطالعون بانتباه على ضوء المصباح أخبار مجازرهم الفظيعة.

هل فكر أحد بان شعوب الأرض تكره تلك المذابح التي نسميها الحروب. أبدا! إذا فلم نثني عليهم بشتى أنواع الثناء، ونلبسهم الجوخ الثمين محلى بالذهب الوهاج، ونقلدهم أوسمة يحلون بها صدورهم، ثم نغدق عليهم ألقابا عظيمة فستصبح (مودة) النساء لهم مسخرة مع إرادة الشعوب عامة، أليس ذلك لأنهم مسخرون لقتل الإنسان؟ إذن فالقتل نظام أودعته الطبيعة صدر الإنسان ليصيب السعادة الدائمة والشرف الرفيع!

ص: 51

القتل هو القانون، والطبيعة تحب الشباب الخالد، فتحث أبناء الحياة على ترك الحياة، وكلما أهلكت رطلا أحيت آخر مثله.

2تموز:

الكائن؟! ما هو الكائن؟

هو كل شيء، وهو لا شيء؛ فهو انعكاس الكون. وتصغير العالم، هو تاريخ، وشكله مرآة لأعماله، فكل مخلوق محيط في هذا العالم!

إرحل وابحث عن الأجيال ترى الكائن لا شيء. اصعد في زورق وابعد عن الشاطئ المزدحم بالمخلوقات فلا ترى شيئا بعد برهة، ومن هنا نستدل على حقارة الإنسان. اقطع أوربا بالقطار السريع وتطلع من بابه الصغير ترى رجالا لا يحصون مجهولين، يحرثون الحقول. . . ويتراكضون في الشوارع، وفلاحين بلهاء لا يعرفون سوى فلح الأرض مع نسائهم السمجات اللاتي لا يتقنّ سوى طبخ الحساء لرجالهن وأولادهن.

اذهب إلى الهند، إلى الصين، تجد الحال هي الحال: أناس يولدون ويشقون ثم يموتون دون أن يتركوا أثر نملة.

زر بلاد الزنوج الآوين إلى بيوت من الطوب؛ زر بلاد العرب البيض القابعين تحت خيامهم القاتمة المتموجة مع الرياح تر حقيقة المخلوق المنعزل الذي نعتناه بلا شيء

والعقلاء من البدو والحضر ينظرون إلى الموت نظرهم إلى المر الذي لا بد منه، فلا يكترثون له. والجريمة كذلك في نظر البدو الذين نشأوا وتأصلت في نفوسهم منذ نشأتهم فكرة الأخذ بالثار كأنها شيء طبيعي. أما أهل الحضر فلا يتأثرون بهذه الجرائم وان كانت أفكارهم لا تتعدى حدود اعتبارها أمرا طبيعيا لازما لإطفاء شهوة القتل، والقتل تنتقل عدواه من بيت لآخر ومن مقاطعة لأخرى.

تأمل في أشخاص العالم المجهولين!

المجهولين؟

وصلنا أساس البحث!؟

قلنا إن القتل جريمة لان القانون أحصى عدد المخلوقات

وسجلها وأطلق عليها أسماء عديدة، ثم قدّسها رجال الدين فإذا هي في حمى القانون يدفع

ص: 52

عنها عدوان القتلة السفاكين؛ والمولود الذي لا يسجل لا يعترف القانون بوجوده

الطبيعة تحب الموت، ولا تعاقب القتلة؛ وهي نفسها تدافع عن الإنسان الذي جعله القانون سلعة في يده يفعل به ما يشاء، لأنه خول لنفسه الحق فيه، فتراه بعد مئات الألوف للحرب منتظرا أن يسقط أسمائهم من سجلاته. ولكننا نحن الضعفاء لا يمكننا تبديل أي اسم ولو من سكان الاقضية، بل الواجب علينا أيضاً احترام حياة الكائن، مع احترام سلطة الحكومة المدنية التي تملك الهياكل البلدية.

قف وادع الله يا ابن الطبيعة!

3تموز:

في القتل غرابة ولذة مقرونتان بالسرور؛ فإذا كان المخلوق الحي العامل تحت سلطتك وتمكنت من عمل جرح صغير واحد في جسده ووقفت ترى المادة اللزجة الحمراء تسيل أمام عينيك ثم يفقد ذلك الجسم الحياة، فلا ترى بعد أذن كتلة لحم لين، بارد عديم الحركة التفكير.

15آب:

لقد قضيت حياتي بالمحاكم، اعدم، وأميت، بكلام رقيق يخرج من فمي، وتنفذه المقصلة في الذين أماتوا بحد السكين، أنا! أنا! ماذا يكون مصيري إذا أصبحت أحد هؤلاء القتلة!؟ من يدري؟

15آب:

من يدري؟ لا أحد!

أيفكر امرؤ باني قاتل ولا سيما إذا انتقيت كائنا لا فائدة تعود علي من حذفه؟

17آب:

الشهوة، الشهوة، نعم، تملكتني شهوة القتل كالدودة حابية في جسمي وفي عقلي، إني متعطش إلى رؤية الدم وبجانبه الموت، حيث تسمع أذناي صوتا فضيعا يناديني، ويذكرني بآخر صرخة تخرج من المحتضر. لعل في القتل لذة، وخصوصا إذا كانت الضحية كائنا مطلق الحرية وأسعها يملك قلبه الهادئ الرزين بنفسه.

ص: 53

22آب:

لا يمكنني الصبر، قتلت حيوانا إطاعة لتلك النزعة الحمقاء التي تغالبني.

لخادمي (جان) عصفور في قفص ثمين ومعلق بنافذة الدار، وقد أرسلت خادمي ذات يوم لقضاء حاجة، وبعد أن ذهب أخذت العصفور الصغير في يدي فشعرت بجسمه الحار، وبنبضات قلبه المتفاوتة، ثم صعدت إلى غرفتي، وأخذت اضغط عليه شيئا فشيئا إلى أن أحسست بدقات فؤاده السريعة. لقد كان المنظر وحشيا مع فظاعته. كدت اخنقه. ولكن لا فائدة لأني لن أرى دمه يسيل، فأخذت المقص وجعلت رقبته ثلاث قطع؛ ففغر المسكين فاه، وأراد التخلص بكل ما أوتي من قوة، ولكن أنى له ذلك ويداي كالحديد تطوقان عنقه؟ لقد كان عملي يسترعي الدقة والانتباه، فكنت أعمل بتؤدة!!

الدم!. . . الدم!. . . ما أجمله!!

أحمر قان، صاف! لقد أردت أن أخضب به لساني، وفعلا كان ذلك! أن هذه الكمية القليلة لا تبعث النشوة، لكنها لذيذة! ضاق نطاق الوقت للتمتع بهذا المنظر؛ فقد حان حضور خادمي.

آه! لو كان بدل هذا العصفور ثور لكان أبهى وألذ.

يا له من شقي! لأني أصبحت كالقتلة: غسلت المقص بيدي، وحملت الجثة الهامدة إلى مثوى أعددته لها في الحديقة، ودفنتها تحت شجرة (فريز).

لا يمكن لأحد معرفة هذا المكان، وسآكل كل يوم حبة من هذه الشجرة الحمراء.

بكى خادمي عصفوره كثيرا بعد عودته، وظن انه طار من قفصه أيمكنه اتهامي!؟ لا. . . لا. . .!!

25آب:

الأمر بسيط: ذهبت للنزهة مرة في غابة (فيرن) لا أفكر في شيء مطلقا، وإذا ولد صغير يأكل خبزا عليه قليل من الزبدة على قارعة الطريق. وقف ليراني مارا بجانبه، وعندما اقتربت منه حياني قائلا:

- نهارك سعيد، يا سيدي الرئيس.

وهناك. . . طرأت علي فكرة (قتله) فرددت عليه:

ص: 54

- أنت وحدك هنا يا ولدي؟

- نعم يا سيدي الرئيس.

- ألا يصحبك أحد من أقاربك أو أصدقاؤك في هذه الغابة العظيمة المقفرة؟

- أبدا يا سيدي الرئيس.

لقد عصفت في رأسي شهوة القتل وأثرت في نفسي كما تفعل الخمرة براس شاربها.

اقتربت منه ببط خوفا من أن يفر كما كان يخيّل ألي ّ. ضغطت على عنقه بعنف، فنظر ألي بعينين تحاكيان البحر عمقا والسماء صفاء و. . . لم اشعر طول عمري بمثل هذا الإحساس الغريب الذي سيطر عليّ. لقد أمسكت يديه الصغيرتين بساعديّ القويتين المفتولتين، بينما كان جسمه يتطاير في الهواء كما تتطاير ريشة الطير على سفود. ثم همت حركته ووقفت أنفاسه. وهنالك أحسست بتواثب دقات قلبي العنيفة؛ مسكين ذلك الصغير، لقد رميت جثته في حفرة وغطيتها ببعض الحشائش ثم عدت.

تناولت غدائي هادئ الأعصاب كأني لم آت شيء! لقد شعرت بخفة نفسي التي عادت فجددت شبابها الأول، وقضيت سهرة الليلة عند مدير الناحية. انهم وجدوني سريع النكتة، خفيف الروح في تلك الليلة، ولكني لم أر الدم، لذلك لم أك مطمئنا تمام الاطمئنان.

30آب:

عثروا على الجثة، والسعي جار لمعرفة القاتل؛ أنا مطمئن فلم يرفع الستار عن المجرم.

أول أيلول:

أوقف قاضي التحقيق رجلين من عابري السبيل كانا يجوبان تلك الناحية، وقد أخلى سبيلهما لان الأدلة غير كافية أدانتهما.

2ايلول:

بكى أهل الطفل أمامي متضرعين!! ألا ما أعذب قولهم!

6تشرين أول:

إن شهوة القتل تمتلكني وهي متأصلة في عروقي، تجري مع دمي، وهذا ما يدفعني إلى القتل كابن العشرين عندما يتيمه الحب.

ص: 55

20تشرين أول:

جريمة أخرى:

ذهبت بعد الغداء ناحية النهر أتريض، وهناك رأيت صيادا نائما تحت شجرة حور، وكان الوقت ظهرا. تطلعت حولي فإذا بمعول في أرض مجاورة مزروعة بطاطس، فأخذت المعول، ثم عدت أدراجي إلى الصياد، فرفعته بين يدي كالهراوة وضربته ضربة واحدة بحد ذلك المعول قطعت رأسه. تدفق الدم الوردي الخداع بغزارة، وانحدر إلى ماء النهر الجاري!

عدت أدراجي بخطوات مريبة، آه،. . .! لو شاهدوني لعرفوا فيّ قاتلا وحشيا مريعا.

25تشرين أول:

أحدث مقتل الصياد ضجة عظيمة بين الآهلين وفي الدوائر؛ واتهم في ذلك ابن أخي المقتول لأنه كان يصطاد معه.

26تشرين أول:

رأى قاضي التحقيق أن ابن الأخ مجرم وكل من في البلدة يعتقد ذلك، مسكين ذلك الحمل!!؟

27تشرين أول:

دافع الصبي عن نفسه دفاعا ضعيفا، لقد حلف أيمانا مغلظة بان عمه قتل أثناء غيابه، وهو في البلد يشتري خبزا وجبنا.

ولكن من يصدقه؟

15تشرين الثاني:

بالموت! بالموت! بالموت!

حكمت على الطفل البريء! وقد احسن المدعي العام فكان ينطق كالملاك، وذكر الأسباب التي دعت إلى إدانة الطفل، وهو انه وريث عمه الوحيد.

لقد رأست جميع جلسات محاكمته وسأذهب لأرى مصرعه.

18آذار سنة 1852:

ص: 56

انتهى كل شيء هذا الصباح. مات الطفل بسرور وبشجاعة مما زاد في ابتهاجي! ما أروع رأسه المتطاير، وما ألذ دمه المتدفق كالسيل! نعم كالسيل! آه لو مكنوني من الاستحمام فيه والاستلقاء عليه حيث اشعر بسريانه في شعري وعلى وجهي، وأقوم بعدها بالأحمر القاني.

ما أفضع الحقيقة لو عرفوها!

والآن أستطيع أن انتظر وان اسهر الليالي لا يثير دهشتي أحد، ولا يعكر صفوي معكر. . .

لم تنته المذكرات بعد. وهي تحوي عدة صفحات أخرى بدون جريمة جديدة. واقر الأطباء الذين كلفوا بدرس المذكرات بان هذا الضرب من المرض العقلي هو اقل أثرا لما نفكر في عصرنا المادي الذي زاد فيه السقوط الأخلاقي والجنون العصبي

(حلب)

م. كمال جلبي

ص: 57