الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 681
- بتاريخ: 22 - 07 - 1946
حقوق المناقشة
للأستاذ عباس محمود العقاد
للمناقشة حقوق.
ولا يرعى للمناقشة حقها من يناقش طالب المعرفة والإنصاف كما يناقش طالب الحزازة والادعاء، أو يناقش المفيد المستفيد كما يناقش المفترى الذي يضيع على القراء أوقاتهم في شفاء ضغن ومرضاة غرور.
فلا بد من تفرقة بين المناقشتين.
ومن حق الكاتب على نفسه ألا يخاطب المخلص المهذب الذي يصدق النية في سؤاله والرد عليه، كما يخاطب إنسانا يغمطه حقه وينحله ما لم يقله ويسيء فهم ما قاله ويتعالى عليه بالباطل وهو منه في مرتبة دون مرتبة التلميذ من الأستاذ.
ومن حق القراء على الكاتب ألا يسوي أمامهم بين من يخدمهم في طلب الحقيقة، ومن يخدم نفسه في شهوة مريضة لا تعنيهم ولا تعني الأدب والثقافة.
ومن حق الأخلاق على من يرعاها أن يكشف هذه الأمور ويعطيها ما هو واجب لها من التنبيه والتعقيب. .
ونرجو أن يكون فيما تقدم جواب للسائل الأديب الذي يسألنا عن (يوم نعمنا ويوم بؤسنا) كما سماهما وهو يشير إلى أسلوبنا في الإجابة على أناس بالرفق واللين، والإجابة على أناس آخرين بالشدة والتقريع. ونقول له إننا لو فعلنا غير ذلك لكنا مخطئين، لأن الناس لا يسألون جميعا بنية واحدة ولا لغرض واحد، وينبغي أن يكون الجواب على حسب اختلاف الأغراض والنيات ونرجو أن تكون فيما يلي أمثلة من المناقشات التي تنجم عن سوء الفهم أو سوء النية أو عنهما معا فلا تجاب إلا كما ينبغي أن تجاب. .
من الحقائق الأدبية التي لا تحتاج إلى عناء كبير في تفصيلها أن نظم الحكم الشائعة والأمثال المتواترة يتيسر لكل من يقدر على النظم أو على وزن التفاعيل، ولا يدل حتما على ملكة شعرية ولا على حكمة فطرية، وأن ورود بعض الحكم في أشعار الفحول المطبوعين لا يثبت لنا أن كل قائل ينظمها هو شاعر مطبوع يضارع أولئك الفحول المطبوعين. .
هذه من البدائه التي لا تحتاج إلى عناء. .
وقد أشرنا إليها في كتابنا عن شعراء مصر وبيئاتهم وقلنا في سياق الكلام على عبد الله فكري باشا: (إننا لا نعرف بين كبار الشعراء في العالم كله واحدا صرف إليها شعره وجعلها من أغراض فنه).
وهذا أيضاً صحيح، لأن كبار الشعراء في العالم معروفون، وليس نظم الحكم والأمثال من الأغراض التي تتعذر على من دونهم من الشعراء بكثير.
وعلى مكان هذه الحقيقة من البداهة لا مانع عندنا أن يجهلها بعض الناس، وأن يتشككوا في عمومها وشمولها، ولكن المانع عندنا أن يعتبر تقريرنا لها (جريمة تهويل) وإقحام للدعاوى في غير موضعها. . . كأننا نزج بأسماء كبار الشعراء في مقام لا يدعونا إليه إلا المباهاة بذكرهم، والظهور بهذه المباهاة!
وهذا الذي صنعه السيد عبد الغني حسن حين سأل مستهولا: ما دخل كبار الشعراء في العالم كله في ميدان هو بشعراء العربية أشبه؟).
فإن هذا الإستهوال نفسه لهو غاية ما يمكن من الادعاء مع جهل الصواب وقلة الرغبة في الفهم الصحيح.
فلو أن السيد عبد الغني كلف عقله عناء الفهم قبل أن يستكثر علينا هذه العبارة لفهم أننا لم نذكر فيها كلمة واحدة يتأتى حذفها بغير إخلال بالمعنى المقصود.
فتحقيق الملكة الشعرية لا يكون بالرجوع إلى صغار الشعراء ولا أوساط الشعراء، ثم هو لا يكون بالرجوع إلى كبارهم في قطر واحد، لأن التقاليد الموضعية قد تولع بعض الشعراء في قطر من الأقطار بأسلوب لا يرتضيه كل شاعر كبير. ولا سبيل إلى التحقق من الملكة المطبوعة إلا إذا عرضناها على (كبار الشعراء في العالم كله) وعرفنا حظها منهم أو حظهم منها، فتعرف هل هي عرض في شعرهم أو هي أصل صميم.
فللشعراء الكبار في العالم كله دخل في هذه المسألة ولم نقحمهم نحن ثمة لغير مناسبة ولا دلالة. وإذا كان السيد عبد الغني يفهم أننا نتكلم فيما لا نعلم حين نتكلم عن كبار الشعراء في العالم كله فليس له علينا حق الحمد والتسبيح، ولا حق الإطراء والمديح!
وأغرب من السيد عبد الغني حسن في تصحيحاته وتهويلاته سيد آخر من بيروت يدعى
(عمر فروخ). . . ولعله من أصحاب العلم والأدب بالرخص (الأمريكانية) أو (الفرنسيوية) التي ابتلى بها الشرق العربي في الزمن الأخير.
وصلت إلينا لهذا الفروخ رسالة عن ابن الرومي يقول في مقدمتها: (قال سليمان البستاني: وكأني بابن الرومي وفيه لمحة من كنيته إلي جرثومة أصله أو عرفانه، كانت تحمله على تحدي هوميروس في كثير من أساليبه ومعانيه وتشبيهاته. وقرأ عباس محمود العقاد هذا فبنى عليه فصلا تاما من كتابه ابن الرومي 263 - 302 وبعض فصل. . .)
ثم تناول هذا الفروخ قلمه الأحمر وتفضل بتوزيع الدرجات والتوبيخات فقال: (لقد غفل البستانيان والعقاد عن طبيعة الاجتماع وفاتهما كثير من حقائق التاريخ وأسس الأدب. إن الوراثة العرقية أو وراثة الدم تؤثر في الاستعداد العام أو في الذكاء الفطري وفي الصفات الجسمانية، ولكنها لا تؤثر في اتجاه التفكير ولا في الإنتاج الأدبي. ثم إن ابن الرومي نشأ في بيئة عربية يجهل اللغة اليونانية وكذلك أبوه، ولم يكن من سبيل لاتصاله بالأدب اليوناني القديم أو المتأخر، وأن عبقرية ابن الرومي لم تتكون إلا كما تتكون كل عبقرية غيرها من عوامل في البيئة وعناصر الشخصية. . .)
ثم رفع هذا الغر مقرعة المعلم على رؤوسنا وراح يهزها ويقول (إن بعض المتأدبين عندنا تأخذهم حمية الإنشاء فيندفعون في كتابة خيالية، من غير تحقيق أو اهتمام بما كتبه العلماء والباحثون. . .)
فهل علم القارئ إذن ماذا نحن وماذا هذا الفروخ الجهول؟
هذا الفروخ الجهول معلمنا نحن المتأدبين، وحذار أن تخطئ فتزعمنا من الأدباء!! وهو يتربع الديوانية ويتبختر الفطحلية، ويعجب لهؤلاء التلاميذ الذين يسودون الصفحات بالإنشاء، ولا يفقهون ما قاله العلماء، ولا يعرضون عليه كتبهم ليوزع عليها الحمراء والخضراء، من درجات التصحيح والإملاء.
وما الذي أخطأنا فيه نحن المتأدبين، فأدبنا هذا الفروخ على هذا الخطأ المبين؟
أخطأنا لأنه افترى علينا، ولأن الذي قلناه نقيض ما نسبه إلينا. والعجيب أنه يذكر الصفحات، وهذا الذي قلناه في تلك الصفحات:
قلنا: (ربما كان القول بأن ابن الرومي رجل حساس متوفز الأعصاب ملبي المزاج نشأ في
حضارة زاهية فأجابته وأجابها، وأخذت منه وأخذ منها. . . أقل في العجب من تفسير عبقريته بأنها عبقرية يونانية على اعتبار أنها موروثة عن آبائه اليونان. إذ من هم آباؤه اليونان؟ لا ندري أهم من إغريق الجزر، أم من إغريق البلاد المعروفة باسم اليونان، أم من إغريق آسيا الصغرى التي كانت تدور الحرب فيها وحولها بين المسلمين ودولة الروم. ومن الصعب الذي يحتاج إلى التفسير أن نقول إن هؤلاء الإغريق جميعا سليقة واحدة وأمة واحدة وعنصر واحد ينحدر منه الرجل وينتقل إلى بيئة أخرى وينجب الأبناء في بيئته الجديدة فيجتمع فيهم كل ما تفرق من خصائص العبقرية الفنية التي تسمى الآن بالعبقرية اليونانية. ثم نحن لا نعلم أن الإغريق في قديم عهدهم كانوا عنصرا واحدا ينتمي إلى سلالة واحدة، لأن امتزاج الأنساب بينهم وبين الأسيويين ثابت لا شك فيه، لأن امتزاج الأنساب بينهم وبين الأسيويين ثابت لا شك فيه، واقتباسهم من عقائد الأسيويين وفنونهم ولغاتهم ثابت كذلك أقطع ثبوت. . . ولا يمكن أن نجزم برأي في وراثة الفطرة الفنية ولا سيما الفطرة في الشعب كله حتى لو عرفنا الأصل الذي تحدر منه ابن الرومي بين أصول اليونان الكثيرة. فقد كان في بلاد اليونان نفسها ألوف من أبناء الشعب اليوناني المحاطين بالبيئة اليونانية في جميع ظواهرها وبواطنها، فلم ينبغ منهم في عصر ابن الرومي شاعر مثله ولا نبغ منهم في العصور السابقة التي أزهرت فيها آدابهم وفنونهم شاعر من طرازه في جميع خصائصه وملكاته. فلو أننا نقلنا ابن الرومي من الأدب العربي إلى الأدب اليوناني لكان فذا في أدبهم كما كان فذا في أدبنا. . . ولو أننا بحثنا مزية أصيلة في الفطرة اليونانية تنتقل مع الدم وتسرى في خلال التكوين لأعيانا أولا أن نحصر هذه الفطرة، ثم أعيانا بعد ذلك أن نحصر هذه المزية. فنحن لا نفسر عبقرية الشاعر حين نسميها بالعبقرية اليونانية، ولكننا نصفها في كلمات موجزة وصفا يقربها إلى الأذهان، ويطبعها بهذا الطابع المعروف عند المطلعين على الآداب. . .)
فالعبقرية اليونانية التي نطلقها على ابن الرومي هي إذن صفة أدبية فنية لم نجزم بموقعها من الوراثة العرقية، ولا أهملنا الإشارة إلى هذه الوراثة لأنها مما لا يجوز إهماله، فكيف قولنا الفروخ ذلك الكلام في تلك الصفحات وهذا ما قلناه في تلك الصفحات؟
هذا ما قلناه في كتاب قرأه الألوف ولم نقله في كلمة شفوية أو مقال غير معروف، وهكذا
افترى علينا ذلك الفروخ بما شئت لاسمه من تقديم أو تأخير في الحروف. فماذا يقال لمثل هذا؟ أيناقش مناقشة الأكفاء؟ أيخاطب خطاب العلماء والفضلاء؟ كلا، بل ذلك خليق أن ينخع نخعا من تلك الجلسة الفطحلية وتلك الحبوة الديوانية، ثم تنزع من يده العصا التي يهزها هز المعلم على رؤوس معلميه ليحس بها فوق رأسه ويقال له بحق: إن العقاد يا هذا ليتواضع غاية التواضع حين يسمح لأستاذتك أن يجلسوا بين يديه جلسة التلميذ المستفيد. فتأدب أيها المسكين، لأنك لا من الأدباء ولا من المتأدبين.
ومخلوق آخر يسمى المشنوق، يشكو المجاعة ولا طعام لمخنوق! ويتحدث عن (المجاعة الأدبية في مجلة الأديب. . . وهو حديث لا يقال في مجلة، ولا يقال في السوق. . .
قال: (وإذا بعباس محمود العقاد يترك ابن الرومي ونتشه والعبقريات ليكتب في كل موضوع. كخادمة المنزل التي تصلح لجميع الغرف. . .)
فالعقاد ملوم إذا كتب في موضوع واحد، والعقاد ملوم إذا كتب في أكثر من موضوع، والعقاد مكذوب عليه لأنه لا يزال يكتب عن أبي الشهداء وعن باكون وعن أثر العرب في الحضارة الأوربية، وعن هذه الشجرة، وعن غير هذا وذاك، ولكن ينبغي أن يلام والسلام، وأن يطلب منه إطعام من لا يقبل الطعام، وأن يفك الحبال عن الحلوق والأقدام، ليأكل المشنوق ويمشي من يعجز عن القيام.
لا يا عبد الله. . . ما هكذا تكون الأشباه.
ليس العقاد خادمة، في كل غرفة حائمة، بل هو سيد في نعمة دائمة، له في كل غرفة مائدة، وعلى كل مائدة حلوق طاعمة. . . ولكنه لا يفتح حلوق المشانيق، لأنها حلوق صائمة، ليس لها في القائمة حساب ولا لها في الحساب قائمة.
وهكذا يكتب لهؤلاء. . . فعلى من اللائمة؟. . .
عباس محمود العقاد
من لغو الصيف:
إلى الإسكندرية. . .
للأستاذ سيد قطب
إلى الإسكندرية. . .
لابد من تغيير الهواء في هذا العام. . . فها هي ذي أعصابي تعلن الثورة، وتعلنها وتعلنها، ثم تمل من هذا الإعلان فتضرب إضرابا تاما وتنام!. . . وها هو ذا الطبيب والطبيب والطبيب، لا يجدون في جعبتهم - بعد أن أتناول نصف ما في صيدلية حلوان من الأدوية حقنا وتجرعا وبلعا - إلا أن يقولوا: غير الهواء!
لا بد من تغيير الهواء في هذا العام. . . فقد انقضت سبع سنوات عجاف ولم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا إلا أياما في الصعيد - في مطلع الصيف - (للتفتيش)! التفتيش لحساب وزارة المعارف (ولا أدري متى تغير هذا العنوان، ومتى تغير - تبعا لهذا - وظيفته فتجعلها مثلا (التوجيه) اسما ومعنى (.
لم يكن تفتيشا في الواقع. لقد كان نفيا!
كانت الحرب، وكانت الأحكام العرفية، وقال الوزير: لا بد أن يفصل هذا الموظف أو ينفي من الأرض أو يشرد فيها. فقد أبلغتني إدارة الأمن العام عنه أشياء!
إدارة الأمن العام؟ أي إدارة الأمن العام!. . . وأبلغتني أنه يعمل لحساب المعارضة. . . ثم إن (دوسيهه) ليس نظيفا. فيه إنذاران على كتابته في الصحف مقالات سياسية وهو موظف!
موظف. أي عبد. لا رأي له في قضية بلده، ولو لم يكن لهذا الرأي صفة الحزبية!
وأبلغت أنني منفي من الأرض. وقررت أن أستقيل! وأباها الرجل الأريحي الدكتور طه حسين. وقال: لن تصنعها وأنا هنا في الوزارة!
قلت: ولكنني لن أخضع لأهواء الوزراء. واجهوني بما يقال عني، ثم اصنعوا ما تشاءون. وسأصنع كذلك ما أشاء!
قال: وإذا استقلت فماذا تصنع وأنا أعرف أعباءك الثقال؟ قلت: أصنع ما يتيهأ لي، فلست من عجزة الديوان!
قال: لن تستطيع أن تصنع شيئا في هذه الأيام. فالأحكام العرفية تملك أن تنقلك إلى أي مكان، وأن تلزمك الإقامة في هذا المكان، حتى لو استقلت من الحكومة! فخير لك أن تقيم فيه موظفا، ولا تقيم فيه منفيا!
قلت: معذرة يا سيدي الدكتور؛ فإني أفضل أن أقيم هناك منفيا! ثم. . . ثم. . . إنني سأكون بطلا في عهد الوزارة القادمة!
(ولم لا؟ ألم تتدهور البطولة عندنا حتى صارت تكتسب بالنقل إلى جهة نائية في عهد من العهود، أو بالتخلف عن درجة استثنائية كالزملاء!).
وقال الرجل:
- أتنفي لي أنك أتيت ما نسب إليك؟
- قلت: وهل أدري ما ينسب إلي؟
- قال: أشياء، جلست في بار اللواء، وقلتها لبعض الجالسين والأصدقاء عن بعض الوزراء! ومعارضات سرية للعهد الحاضر تنفيذا لخطة حزبية معينة.
- قلت لقد اعتدت أن أنشر آرائي، وأن أوقعها بإمضائي. فليس من عادتي أن أثرثر في المجالس بشيء! أو أن أعمل في الخفاء!.
- قال: وأنت عندي مصدق. فدع لي الأمر. وسأحدث أزمة من أجلك لو اقتضى الحال!.
ووفق الرجل بين أريحيته الكريمة وتشدد الوزير. فكلفني أن أقوم بمهمة تفتيشية في الصعيد لمدة شهرين اثنين، أختار فيها من الجهات والمدارس ما أشاء، وأكتب له تقريرا شاملا عن دراسة اللغة العربية في المدارس على اختلافها، وأفصل اقتراحاتي في إصلاح هذه الدراسة بصفة عامة!.
ووجدت في ذات المهمة ما يغري، وفي أريحية الرجل ما يخجل. . . فنفت التكليف.
نفذته متناسيا - بل ناسيا - تلك المهزلة، مهزلة الاتهام. لقد أخطأ الوزير. أخطأ، فلم أعد أجد في حزب من هذه الأحزاب ما يستحق عناء الحماسة له والعمل من أجله. كلهم سواء أولئك الرجال! رجال الجيل الماضي. للجميع عقلية واحدة لا تصلح لهذا الجيل - عقلية أنصاف الحلول - كلهم نشأوا وفي قرارة نفوسهم أن إنجلترا دولة لا تقهر؛ وأن الفقر مرض مستوطن. . وكلهم يؤمن - إن كانت قد بقيت لأحد منهم طاقة الإيمان بشيء - أن
الله خلق الدنيا في ستة أيام!.
هؤلاء جميعا لم يعودوا يصلحون لقيادة الجيل. أعصاب منهوكة. وقلوب خاوية من الإيمان الحار بشعبهم وأمتهم. كلهم يستحقون (المعاش)، كلهم سواء، لا يستحقون من الجيل الجديد الحماس!
إلى الإسكندرية. . .
فقد انقضت سبع سنوات عجاف لم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا، إلا لهذا (التفتيش)! ولم أبصر فيها وجه البحر يسفر، ولم أستمع فيها إلى صوته يجيش. . . وكيف؟ ولم أكن (غنى حرب!) بل موظفا وصاحب قلم؟! موظفا في وزارة المعارف. لا في وزارة التموين، ولا في وزارة التجارة، ولا حتى في الأشغال أو المواصلات!. وصاحب قلم للأدب أو السياسة القومية؛ لا للدعاية الإنجليزية والأمريكية ولا للسياسة الحزبية فأنى لي بوجه البحر في تلك السنوات العجاف؟!
وهبني كنت أجد المال الذي أجارى به أغنياء الحرب ومأجوري الدعاية أو الحزبية، فما يحملني على أن أكون من أهداف طيارات المحور، ولست ضابطا ولا جنديا في الجيش المصري الذي احتمل ضحاياه في أثناء الحرب، دون أن يفوز بشرف الحرب!.
لقد كان موقف الساسة المصريين حرجا حقا!
فهم لا يعلنون الحرب على المحور - ولهم العذر - فلم يعلنونها؟ ليقاوموا احتلالا متوقعا، وهم في احتلال واقع؟! لينصروا الديمقراطية، والديمقراطية تفعل بهم الأفاعيل؟. . . أم لا يعلنون الحرب، ومصر تحتمل ويلاتها بلا مقابل، وتهدد في النهاية بأنها إذا لم تعلن الحرب فستحرم من مؤتمر الصلح. (ثم تعلنها وتحرم من مؤتمر الصلح أيضا!).
أم لا تعلن الحرب، ولا تساهم فيها؟. . . هناك معاهدة الشرف والاستقلال، وهناك الشيخوخة الروحية، وهي أشد (شرفا) من معاهدة الشرف والاستقلال!!!.
إنهم رجال الجيل الماضي! أولئك الذين لا يعرفون متى يحسن اللاعب أن ينسحب من الميدان.
إلى الإسكندرية. . .
فقد انقضت سبع سنوات عجاف لم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا إلا لذلك (التفتيش)
السياسي العجيب!
ولكن ما هذا؟
أهذه محطة القاهرة؟ أم ذلك يوم الحشر الأكبر؟ ما بال الناس هكذا يتدافعون بالمناكب، ولا يعرف حميم حميما؟ أهذا قطار؟ أم حمام الثلاثاء! وإن كنت لا أعرف حمام الثلاثاء. ولعل الدكتور زكي مبارك يعرفه فله قصيدة عن ليلة الثلاثاء. لا بد أنها كتبت هناك!
فلنزاحم، على شدة ما أكره الزحام!
الحمد لله! لقد وجدت مكانا. . . مكانا للحقيبة في (طرقة) العربة. في الممر. . . وهل ذلك شيء هين؟ إن السعيد من يجد لحقيبته مكانا في هذا الممر. إنه بعد أن يهدأ القطار ويروق، وينزل المودعون الذين يكظون الفراغ كظاً، يستطيع أن يتخذ من حقيبته مقعداً، بينما الآخرون يقفون طول الطريق خفافًا أو ثقالا يحملون بعض متاعهم، ما لم يريحوه على أقدام المسافرين!!!
وجلست بعد فترة ووقف الآخرون. وسار القطار. . وفي الزحام الشديد وقعت عيناي على سيدة شابة جميلة واقفة تحمل شيئا، شيئا أثمن من كل ما يحمل المسافرون. . . تحمل جنينا!
وبمقدار ما يثير في نفسي منظر الشابة الحامل من الأسى، يثير في نفسي كذلك الاحترام والإشفاق.
فأما الأسى، فعلى ذلك الجمال الضائع. كلما تخيلت هذه الشابة في رشاقتها الفاتنة، ثم في هذه الكظة التي عير بها ابن الرومي - سامحه الله - إحدى المغنيات! إنه أسى يكمد نفسي ويؤذيها بقدر ما ترتفع في هذه الشابة درجة الجمال!.
وأما الاحترام والإشفاق فلهه التضحية النبيلة التي تبذلها الفتاة للحياة - أرادت أم لم ترد. وشعرت أم لم تشعر - التضحية بالجمال - أعز شيء في هذه الحياة - وبالراحة، وبالذاتية كلها في النهاية التضحية إلى حد الفناء!
أقول وقعت عيناي على هذه السيدة الشابة الجميلة تحمل كنزها وكنز الحياة في حرص وإشفاق. وتحركت في نفسي كل هذه المعاني، فوقفت متنازلا عن مقعدي الخاص - على ما برجلي من ألم وما بأعصابي من تعب - لهذه السيدة المضحية. . . فجلست شاكرة. . .
وفجأة همس في أذني أحد الواقفين: خسارة! إنها لا تستحق، إنها من بنات صهيون!.
وتفرست في ملامحها فرجحت رأى الزميل - الزميل في الوقوف - وكدت أنا الآخر أندم ما صنعت لولا نظرة إلى الحمل الثمين!
قلت:
ليت الصهيونيين يعلمون ماذا يفعلون! إنهم بموقفهم الإجرامي في قضية فلسطين يكادون يجردون نفوسنا حتى من العطف الإنساني، والروح الآدمي على أبناء صهيون، وبناته الملاعين!
ماذا يكسب أولئك الصهيونيون من عداء العرب؟ العرب الذين عطفوا عليهم وآووهم. . . على مدى التاريخ - والعالم كله يسومهم سوء النكال؟!
ماذا يكسب أولئك الصهيونيون من خطتهم الحمقاء التي تثير عليهم سبعين مليونا من العرب، ومائة مليون على الأقل من المسلمين الآخرين في مشارق الأرض ومغاربها، دون أن تكسبهم صداقة حقيقية من أحد في هذا الكوكب الأرضي - ولا في كواكب السماء -! فهذه أمريكا التي تشتري أصواتهم الانتخابية ونفوذهم المالي بتصريحات جوفاء، لا ترضى بأن تبيح لهم الهجرة إلى بلادها الواسعة الغنية، بدل هذه التصريحات الجوفاء. وهذه إنجلترا التي تحميهم بالمدافع والدبابات لا تشارك في تخفيف محنتهم بإيوائهم في مستعمراتها الواسعة!
لقد كان لهم من صدور العرب الكرام حصن رفيق رحيم في عهود التشريد المديدة، ففقدوا بحماقتهم في النهاية هذا الحصن الرفيق الرحيم.
هذا كل ما جنوه من سياستهم الأثيمة الحمقاء.
إلى الإسكندرية. . .
وها هي ذي مشارفها تبدو. الركاب يتحركون. يتحركون - ولا مؤاخذة - حركة بغلة الشاعر القاهري الظريف - البها زهير - أو بغلة صديقه على الأصح:
لك يا صديقي بغلة
…
ليست تساوي خردلة
تمشي فتحسبها العيو
…
ن على الطريق مشكلة
تهتز وهي مكانها
…
فكأنما هي زلزلة
وتخال مدبرة إذا
…
ما أقبلت مستعجلة
مقدار خطوتها الطوي
…
لة حين تسرع: أنملة
أشبهتها بل أشبه
…
تك كأن بينكما صلة!
إلى الإسكندرية. . .
فقد أوصيت زميلا كصديق البها زهير! أن يختار لي منزلا هادئاً فاختاره - حفظه الله - على هواه.
أما قصة ذلك المنزل. . . فإلى حديث آخر من (لغو الصيف) الذي اخترته في هذا الأوان بعداً بنفسي وبالقراء عن معارك النقد الحامية، وعن مضايقة عباد الله المؤلفين، وكفى الله المؤمنين القتال!!!
سيد قطب
من التاريخ الإسلامي
قضية سمرقند
للأستاذ علي الطنطاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
مضى السمرقندي نحو دار الخليفة يتعثر في مشيته، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، تتقد نار الحماسة في نفسه فيخطو، ثم تعصف بها رياح الشك فيقف، وكان يطربه الخيال إلى ملوك بلده، فيتصور تلك الحجب على القصور، وأولئك الحجاب على الأبواب، والسيوف المسلطة والرماح المشرعة، ثم يبصر هذه الدار. . . وهذا الذي قالوا إنه أمير المؤمنين، فيزداد به الشك. . . إنه يعرف السلطان الذي يحكم بالبطش، والرعية التي تطيع بالخوف، أما سلطان العدل وطاعة الجب، فشيء لم يعرفه في بلده!
واستقر في نفسه أن الرجل يسخر به، فعدا وراءه حتى لحقه وقال له:
- ناشدتك الله أيها الرجل، هل هذه الدار هي دار أمير المؤمنين؟
- قال: نعم والله إنها لهي داره. . . هذه دار الرجل الذي أورثته سيوف قومه تيجان الملوك الأربعة: كسرى وقيصر وفرعون وخاقان، فكانت هامته أرفع من أن ببلغها تاج منها، فما سمت إليها إلا (العمامة) تاج العرب. . . هذه دار الرجل الذي جبيت إليه ثمرات الأرض، فكال الذهب كيلا، وأعطاه لمستحقه باليدين، ومنح الفقراء الجوهر، وقسم في المحتاجين الدرر، وبقى هو وأسرته بغير شيء. . . لأن نفسه أكبر من أن يملأها كل ما في الدنيا من ذهب وجوهر، إنها أكبر من الدنيا، فلذلك حقرتها وطمحت إلى ما هو أعظم منها: إلى الجنة!!
وما هجر الحياة ومناعمها ليأوي إلى غار في جبل فيعتزل الناس، أو إلى مسجد فيناجى الله، إذن لزاد العباد واحداً، ولما كان في ذلك حديث يروى، ولا عجب يؤثر، ولكنه زهد في الدنيا وهو رجل الدنيا وواحدها، وإليه أمرها، وبيده بعد القدر صلاحها وفسادها، فهو في اللجة ولا يبتل، وهو (في اللهب ولا يحترق)، هو زاهد ولكن في رأسه عقل حكيم، وفي صدره قلب بطل، وفي فيه لسان أديب، فهو يدير بعقله هذا الملك الواسع، بقضائه
وماليته وداخليته وخارجيته، وسلمه وحربه، وهو القائد وهو المفتى وهو المعلم. . . أداره أحسن إدارة وأقومها، فاستقر الأمن، ونامت الثورات، وقعد القائمون بالمعارضة، وسكت الناقمون على بني أمية، وتصافى الشيعي والخارجي، والمصري واليماني، والأسود والأحمر، واصطحب في البرية الذئب والحمل. . . وهو يواجه بقلبه أحداث الدهر، فترتد عنه الأحداث ارتداد الموج عن صخر الشاطئ، وهو يصوغ ببيانه الحكمة العليا أدباً خالداً. . .
سمع غداة بويع بالخلافة مكرها، هدة ارتجت منها الأرض، وكان منصرفًا من دفن أمير المؤمنين سليمان فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة قربت إليك لتركبها، بالسروج المحلاة بالذهب، المرصعة بالجوهر، فقال: ما لي ومالها؟ نحوها عني وقربوا لي بغلتي، وأمر بها أن تباع ويدخل ثمنها بيت مال المسلمين، فقربت إليه بغلته. فركبها، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال له: تنح عني، مالي ومالك؟ إنما أنا رجل من المسلمين.
ومشى بين الناس، راكبا على بغلته، بلا موكب ولا حرية ولا راية ولا طبل. الرجل الذي يحكم الأندلس ومراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والحجاز ونجدا واليمن وسورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والعجم وأرمينية والأفغان وبخارى والسند وسمرقند. . . مشى ومشى الناس بين يديه حتى دخل المسجد، فقام على المنبر، فقال:
أيها الناس: إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأى كان مني فيه، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين، أني قد خلعت بيعتي من أعناقكم، فاختاروا لأنفسكم.
فصاح الناس صيحة واحدة: إننا اخترناك ورضينا بك.
ومشى إلى الخضراء، وما الخضراء؟ جنة الأرض التي حشر إليها كل ما في الأرض من كنوز وطرف، القصر الذي أزرت عظمته بالخورنق والسدير وغمدان والإيوان، فأمر بستورها فأنزلت، وببسطها ونمارقها فطويت، وبطرفها وكنوزها فحملت، وأمر ببيع ذلك كله ووضع ثمنه في بيت المال، وأم داره هذه.
فقال الناس: إنه رجل صالح، ولكن الملك له أهل. إن الملك لا يقيمه إلا قوى أمين ابن دنيا. . .
ظنوه أم داره يقبع فيها يسبح ويهلل، فإذا به يحد قلمه ويعد قراطيسه ويكتب من فوره بيده، إلى أقاليم الأرض، منشورا فيه الدستور الذي لا يقوم إلا به الملك، وينفذ الكتب من ساعته. فعلموا أن خليفتهم زاهد في الدنيا، ولكنه ابنها وأبوها. . .
فعل ذلك كله من الصباح إلى الضحى، ثم ذهب يقيل، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بني أقيل. قال: تقيل ولا ترد المظالم؟ قال: أي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، وإني إذا صليت الظهر رددت المظالم. قال: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر؟ فترك مقيله، وخرج فبعث مناديه ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فاني منصفه من نفسي ومن آل بيتي ومن الناس أجمعين. . . ولقد والله فعل أكثر مما قال!
نعم يا أيها الغريب، هذه دار أمير المؤمنين، فلا يغررك صغرها وضيقها، وعطل أبوابها من الزخرف وجدرانها، وأنه لا حاجب عليها ولا جند ببابها، فإن هذه الدار أكرم من كل قصر حملته على ظهرها هذه الأرض، فامش إليها ولا تخف!
فعاد السمرقندي، فلما دنا من الدار سمع ضجة ورأى ولدين قد شج أحدهما الآخر شجة منكرة، ورأى الخليفة يخرج بنفسه فيأخذ الولدين، فيراه، فيسأله، فيقول: إني متظلم يا أمير المؤمنين فيقول له: مكانك حتى أعود إليك. ويدخل بالغلامين ويسمع السمرقندي صوت امرأة تصرخ، (أبني) فيعلم أنها أم الولد المشجوج، وتدخل الدار مريئة. فترى الولد الآخر، فتقول ابني.
ويسمع القصة فيعلم أن ابن أمير المؤمنين قد خرج يلعب مع الغلمان فشجه ابن هذه المرأة. وتقول المرأة: ارحموه، إنه يتيم فقير. ويرق قلب السمرقندي ويشفق على هذه المرأة أن تضرب عنق ابنها أمامها، وهو طفل لا ذنب له ولا يسأل عن فعلته، وإذا بأمير المؤمنين يقول لها: أما له من عطاء؟ فتقول: لا. فيقول: سنكتبه في الذرية.
وتخرج المرأة شاكرة داعية، ويسمع السمرقندي فاطمة بنت عبد الملك تقول مغضبة: فعل الله به إن لم يشجه مرة أخرى فيقول الخليفة: إنكم أفزعتموه.
وخرج الخليفة فدعاه، فسأله عن حاله، فشكا إليه قتيبة، وأنه دخل سمرقند غدرا من غير دعوة إلى الإسلام ولا منابذة ولا إعلان.
فقال الخليفة: والله ما أمرنا نبينا بالظلم ولا أجازه لنا، وأن الله أوجب علينا العدل في المسلمين، يا غلام. . . قلما وقرطاسا!
فجاءه الغلام بورقة قدر إصبعين، فكتب عليها أسطرا وختمها وقال له: خذها إلى عامل البلد!
ورجع يطوي هذه الشقة مرة ثانية، وكلما وصل إلى بلد دخل المسجد فوقف في الصف كتفه إلى كتف أخ له في الإسلام، ووجهته وجهته، وفي قلبه إيمانه، وعلى لسانه تسبيحاته وتكبيراته. . . أحس أنه عضو في هذه الجمعية الكبرى، وأدرك عظمة هذا الدين وحلاوته، إذ يؤم المصلين واحد منهم فلا قساوسة ولا كهان، ويصلون في كل أرض فلا معابد ولا تماثيل، ويقفون جميعا صفا واحدا فلا كبير ولا صغير، ولا مأمور ولا أمير، وشعر بعظم هذه الدائرة التي تطيف من حول الكعبة تمر على السهل والحزن، والعامر والغامر، والمدينة والقرية، يقوم فيها عباد الله، هم رهبان في الليل وجن في النهار، خاشعة قلوبهم وأبصارهم وجوارحهم، يقفون أمام رب العالمين، فلا يبالون الدنيا كلها بلذائذها وآلامها وخيرها وشرها!
ولم تثقل عليه هذه المرة سعة دنيا الإسلام لأنها دنياه، ولم يجد لهذه السفرة مشقة ولا تعباً، لأنه كان كلما انقضت الصلاة وجد في المسجد (في كل بلد يمر عليه) من يسأله عن حاله، فإذا علم أنه غريب أنزله داره، وقدم له قراه، ومنحه عونه، فكان يقابل بين مجيئه كافرا وبين عودته مسلما، وكيف كان يشعر بطول الشقة، وبعد الطريق، وألم الغربة، فصار يتقلب في النعيم، ويحمل على أكف الأخوان، فيدرك سر المسجد وجمال هذا الدين.
ووصل إلى المعبد، ولكنها لم ترعه هذه المرة تماثيله ولا مصابيحه، ولم يمتلئ قلبه فرقا من أسراره وخفاياه، فقد أضاء له الإسلام ظلمة الحياة فرأى حقائقها من أوهامها، وعلم أن هذه الأصنام التي نحتوها بأيديهم وسموها آلهة، لا تنفع ولا تضر، ولا تمنع عن نفسها ضربة الفأس ولا لهب النار، ولكنه كتم إسلامه، وقرع الباب قرعة السر، ففتح له ورآه الكهنة بعد أن حسبوا أنهم لن يروه أبدا، ووصف لهم ما رأى، فكادت أعينهم تخرج من حناجرهم دهشة. . . وأيقنوا أن قد جاءهم الفرج، وأمروه فحمل الكتاب مختوما إلى العامل، فإذا فيه أمر الخليفة بأن ينصب قاض يحتكم إليه كهنة سمرقند وقتيبة، فما قضى به نفذ
قضاؤه!
وأطاع العامل ونصب لهم قاضيا جميع بن حاضر الباجي، رعين موعد المحاكمة!
ولما عاد فأخبر الكاهن الأكبر، أظلم وجهه بعد إشراقه، كما تربد في سماء النهار الصحو السحب السود، وخبا ضياء الأمل الذي بدا له فحسبه فجرا صادقا فإذا هو برق خلب. . . وأيقن أن هذه المحاكمة فصل جديد من كتاب غدر المسلمين. . .
. . . وجاء اليوم الموعود، واحتشد أهل سمرقند من كل قاص منها ودان، وجاء الكهنة الذين كانوا محتجين لا يراهم من أحد، وجاء القائد الفاتح قتيبة، وكانت المحكمة في المسجد فقعدوا ينتظرون القاضي.
ولم يكن الكهنة يأملون في شيء. . . وفيم يأملون؟ في أن يحكم لهم القاضي المسلم بطرد المسلمين من سمرقند؟ يحكم لهم هم المغلوبين على أمرهم، المخالفين للقاضي في دينه، الذين لم يبق لهم حول ولا طول؟ وعلى من يحكم؟ على القائد المظفر الفاتح الذي لم يطأ أرض المشرق قائد أعظم منه، ولا أكثر ظفراً، ولا أعظم فتحا، اسكندر العرب: قتيبة؟
كانت القلوب تخفق ارتقابًا لأعجب محاكمة سمعت بها أذنا التاريخ، وكانت الأبصار شاخصة إلى باب المسجد الذي يدخل منه القاضي الفرد الذي وضعت في عنقه أعظم أمانة وضعت في عنق قاض، والذي ألقى بين حجري الرحى، فها هنا مصلحة أمته، وسيادة دولته، والبلد العظيم الذي خفقت فوقه راية الإسلام وامتلكه أهله، وهناك الحق والشرف. وإنها لمزلة أقدام القضاة وإنها لمحنة الضمائر. . .
وكان صاحبنا السمرقندي يقرأ الشك والارتياب في وجوه أهل بلده وفي أوجه الكهنة، كما يقرأ المرء في صحيفة منشورة أمامه. أما هو، وأما المسلمون فلم يكونوا يشكون، ولم تكن تداخلهم ريبة في أن الحق والشرف فوق مصلحة الوطن، وما الوطن؟ إن وطن المسلم دينه فحيثما صاح المؤذن: الله أكبر، فثمة وطنه. . . وأن جهاده للحق، فإن جاء الحق زهق معه كل باطل ولو كان فيه نفع الأمة، وكان فيه الغنم الأكبر.
ونظروا فإذا رجل له هيئة الأعراب، هزيل ضئيل الجسم شاحب اللون، قد لاث على رأسه عمامة له، ووراءه غلام، فجاء حتى قعد على الأرض محتبيا، وقام غلامه على رأسه. أهذا هو الرجل الذي أتى ليحكم على قتيبة العظيم وعلى أميره وعلى مصلحة دولته؟ أهذا هو
قاضي المسلمين؟ وانطفأت آخر شعاعة من الأمل في نفوس الكهنة. ونادى الغلام، باسم قتيبة بن مسلم، هكذا بلا إمارة ولا لقب، فجاء حتى جلس بين يديه، ونادى باسم كبير الكهنة فأجلسه إلى جانبه.
وابتدأت المحاكمة. . .
وتكلم القاضي فإذا صوته يخرج خافتا ضعيفا فقال للكاهن:
- ما تقول؟
- قال: إن القائد المبجل قتيبة بن مسلم قد دخل بلدنا غدرا من غير منابذة ولا دعوة إلى الإسلام:
- قال القاضي لقتيبة: ما تقول؟
- قال: أصلح الله القاضي، إن الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم قد أنقذه الله بنا من الكفر، وأورثه المسلمين.
- قال أدعوت أهله إلى الإسلام، ثم إلى الجزية، ثم إلى القتال؟
- قال: لا.
- قال: إنك قد أقررت، وأن الله ما نصر هذه الأمة إلا باتباع الدين واجتناب الغدر. وإنا والله ما خرجنا من بيوتنا إلا جهادا في سبيل الله. ما خرجنا لنملك الأرض ولا لنعلو فيها بغير الحق. حكمت بأن يخرج المسلمون من البلد، ويردوه إلى أهله، ثم يدعوهم وينابذوهم ويعلنوا الحرب عليهم.
ورأى الكهنة وأهل سمرقند وسمعوا، ولكنهم كذبوا عيونهم وآذانهم أنهم في حلم، ولبثوا شاخصين، حتى أن أكثرهم لم يلحظ أن المحاكمة قد انتهت وأن القاضي والقائد قد انصرفا، وجعل صاحبنا السمرقندي المسلم ينظر في وجه الكاهن الأكبر، فيحس أن نور الحق قد أشرق على قلبه الذي رققته العزلة والتأمل، وكان الكاهن ينظر إلى عالمه الذي طالما أحبه وآثره فيراه عالما ضيقا مقفرا، وينظر إلى دنيا الإسلام فإذا هي خصبة واسعة مزهرة بالخير والعدل والجمال، وما عالمه؟ فجوة معتمة وسط الصخر الأصم لا يبلغها شعاع الشمس ولا ضياء القمر ولا زهر الربيع ولا جمال المجد ولا جلال الإيمان. . .
وسطع النور في قلبه فرأى أن ديانته كهذا المعبد، فأين هذا المعبد من معبد الإسلام، وهو
الأرض الطهور التي تمتد حتى تصل إلى بلاد ما سمع بها. . . أين ضيقه من سعتها، أين ظلمته من نورها، أين سقفه الواطى من سمائها العالية. .؟ إنه الحد في دينه وخرج من المعبد وقد حرم عليه الخروج منه فلن يعود إليه أبدا. أيعود الجنين إلى بطن أمه بعدما رأى بياض النهار ورحب الكون؟ أيعبد مرة ثانية تلك الآلهة ذوات الوجه البشع المخيف بعد ما عرف رب الأرباب وخالق كل شيء. . .
لا. لقد ماتت ديانة المعبد ومرت أيامها، فهل لما مر مآب، هل يعود أمس الغابر؟
وإنه لفي تفكيره، وإذا الجو يموج بصليل الأبواق ويرتجف من إرعاد الطبول، ونظر فإذا الرايات تلوح على حواشي الأفق القريب فسأل: ما هذا؟ قالوا: لقد نفذ الحكم وانسحب الجيش.
هذا الجيش الذي لم يقف في وجهه شيء من مدينة يثرب إلى سمرقند، والذي اكتسح جيوش كسرى وقيصر وخاقان ردته كلمة من شيخ هزيل خافت الصوت، ليس معه إلا غلام بعد محاكمة لم تستمر إلا دقائق، ولكنه سينذر وسيعود إلى القتال، أفتقوى سمرقند على ما عجزت عنه الممالك كلها؟ أترد صخور هذا المعبد سيل الحق الدافق، وتأكل ظلمته نور الإسلام؟
لا. لقد قضى الله أن يمحو الفجر سدفة الليل. لقد أطل على العالم يوم جديد، فلن نتوارى من نور هذا اليوم في ظلمة المعبد.
وأقبل يسأل أصحابه: ماذا تقولون؟
فيقول السمرقندي المسلم: أما أنا فلقد شهدت أنه لا إله إلا الله، وأم محمداً عبده ورسوله.
فيقول الكاهن: وأنا أشهد.
وتتزلزل سمرقند بالتكبير. . . ويعود الجيش المسلم إلى البلد المسلم، لم يبق حاكم ولا محكوم، صار الجميع إخوانا في الله!.
علي الطنطاوي
شريعة الكمال والخلود
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
تمهيد:
فكرت اللجنة القانونية والثقافية بالجامعة العربية في عدة مشروعات ثقافية وقانونية، يعود نفعها الجم وخيرها العظيم على الأمم العربية والإسلامية، بل إن هذا الخير يتجاوز هذه الأمم إلى سائر أمم العالم، ومنها أمم أوربة التي ضربت بسهم وافر في العلوم الإنسانية والمدنية والثقافية القانونية.
وكان من خير تلك المشروعات وأسدها وأعظمها نفعا وأبعدها أثراً ما أشارت به من إنشاء معهد للفقه الإسلامي يكون تابعا للجامعة العربية به إحياء تالد مجده، وبعث الدفين من كنوزه الثمينة وجواهره النفيسة، وفيه ينشأ الباحثون وتغرس فيهم ملكة الفقه والتشريع، والبحث والتحليل، فيخرجون علماء نافعين، وفقهاء باحثين، يجمعون وينظمون ويحسنون العرض والتبويب، ثم لا يلبثون أن يكونوا رجال ترجيح واجتهاد، وبذلك يحيون عهد سلافهم الأولين وأئمتهم المجتهدين.
فكرة - لعمر الحق - ما أجل خطرها، وما أعظم أثرها، ثلجت لها نفوس المؤمنين، وبهجت بها أفئدة المصلحين - قوى الله رجال الجامعة وأمدهم بروح منه، حتى يحققوا هذه الأمنية، فتنتصر الشريعة الإسلامية، وتتبوأ مكانها الرفيع بين شرائع الأمم الأخرى.
وإنهم بذلك العمل الجليل لجديرون.
وقد رأيت - بهذه المناسبة - أن أبين - فيما يأتي - كمال هذه الشريعة وخلودها، وأن أدفع ما وجه إليها من شبهات:
وفاء الشريعة الإسلامية بحاجات الأمم في كل عصر:
الشريعة الإسلامية أعدل الشرائع وأحكمها وأقواها أركانا وأرسخها دعائم، وأبقاها على تناسخ القرون والأحقاب، فهي باقية ما بقيت الحياة الدنيا، لا مبدل لها من دون الله ولا ناسخ، وهي يسر ورحمة، وحكمة ونعمة.
أساسها رعاية المصالح ودرء المفاسد، وغايتها إسعاد البشر في معاشهم ومعادهم. ولا غرو فهي قبس من نور هداية الله، ومشتقة من سنا وحيه، ووذيلة مجلوة انعكست فيها سمات
الرسالة وإرشاد النبوة، ثم هي إلى ذلك مضمار لتصاول قرائح المجتهدين من العلماء، وميدان لذوي الأفكار الحرة المخلصة لله وللحق، استهدوا بهديه، وسعوا وفي يدهم مصباح هدايته، فعرفوا من كتاب الله وسنة رسوله وجوه المصالح العامة والحكم التشريعية السامية، وقواعد التشريع وأصوله العادلة، وبها حكموا على الحادثات الجزئية والمسائل الفرعية، فاستقام لهم من ذلك كله تشريع قيم، واستوى منه قانون سماوي، سداه جلب المصالح، ولحمته درء المفاسد - انتظم جميع ما يحتاج إليه الأفراد والأمم من عبادات ومعاملات، وأحكام مدنية وتجارية، وشئون جنائية، وأحكام سياسية واجتماعية: فقد نظم علاقة العبد بربه، وحدد علاقة الفرد بأسرته ومجتمعه، وبين علاقة المجتمع بالفرد، ووضع أساس النظم والعلاقات بين الأمم بعضها وبعض.
ورائده في ذلك كله تحقيق العدل والمساواة بين الناس كافة، لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين ملك وسوقة، ولا بين ضعيف وقوي، لا مقصد له إلا إقرار الحق والمعدلة - ألا ترى إلى قوله جل شأنه:(يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وورد في النهاية في غريب الحديث: (لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها) أي لا طهرت. ويقول صلوات الله وسلامه عليه:
(المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
وفسر الميزان بالعدل في قوله تعالى: (الله أنزل الكتاب بالحق والميزان)، وفي قوله:(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
هذا هو دستور التشريع الإسلامي. العل مبدؤه وغايته، والحق قوامه وشرعته - سن ذلك سيد الخليقة ومصلح البشر خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم سار على سنته خلفاؤه الراشدون، فقد جاء في كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبى موسى الأشعري: وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك).
فليت شعري - إذا كانت شريعة الإسلام قد بلغت المدى في الحرص على العدالة والمساواة، ووصلت الغاية في الاستمساك بالحق والاعتصام بحبله المتين، ولها من
الأصول الراقية والقواعد السليمة والمبادئ السامية ما يعتمد عليه في وضع الأحكام عند عدم النص - ما الذي حدا الولاة على تنكب أحكامها، والحكم أن يبحثوا عن قانون غير قانونها حتى تجرءوا في عصور مختلفة، وفي عصرنا هذا على مخالفة الشرع؟!
زعموا أن لهم في ذلك حجتين - نقول ذلك فرضا وتوسعا وإلا فهما في الحقيقة وهمان أو شبهتان داحضتان:
حجتهم أو شبهتهم الأولى:
توهموا أن الشريعة ناقصة لا تقوم بمصالح الناس ولا بسياسة الأمم وحاجاتها، ولا تساير تطور الزمان، ولا تفي بمختلف الأحوال وما جد من ضروب المعاملات - فطوعت لهم أنفسهم تعدى حدود الله ومخالفته في كثير من أحكامه وأوامره، وهو خطأ عظيم وضلال مبين، فإن الله تعالى أوجب على الحكام القيام بالقسط في كل شيء مع التزام ما بينه من كليات الشريعة وأصولها ومبادئها - فحكمه كما يقول ابن القيم دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، وبأي دليل صحيح كان، فأي تشريع يقر العدل ويجري مع الحق هو من الشريعة غير خارج عن نطاقها.
على أن سعة أصول الشريعة الإسلامية وتعددها، وسمو قواعدها، ورجوع علمائها إلى الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب وسد الذرائع عند الاجتهاد واستنباط الأحكام، ثم بحوث المجتهدين في الفقه الإسلامي وتوسعهم في البحث، وما أمرنا به من الاجتهاد عند عدم النص، ومن ترك التقليد - كل أولئك يهدم هذه الشبهة من أساسها، فلا يكون هناك نقص في الشريعة، وإنما النقص في أداء هذا الواجب.
وإن في الشريعة الإسلامية من بحوث المجتهدين السالفين في المسائل المدنية والجنائية والمعاملات ما يدحض هذه الشبهة.
فمن ذلك أنهم أجازوا الحبس في التهم والضرب فيها - غير أنهم قسموا المدعي عليه في دعوى الجناية والأفعال المحرمة كدعوى القتل وقطع الطريق والسرقة ثلاثة أقسام: فإن المتهم إما أن يكون بريئا ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرا من أهلها، أو مجهول الحال.
فإن كان بريئا لقرائن شاهدة لم تجز عقوبته اتفاقاً. وإن كان مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور - فهذا يحبس حتى تنكشف حاله عند عامة علماء الإسلام.
وإن كان معروفا بالفجور فحبسه أولى من حبس المجهول، ويسوغ ضرب هذا النوع من المتهمين عند كثير من العلماء، وقيل لا يضرب المتهم.
أضف إلى ذلك ما حفلت به كتب الفقه من تعدد آراء الفقهاء واختلافهم في المسائل الاجتهادية حتى في العبادات، مما يدل على خصب الشريعة الإسلامية وتقبلها لاختلاف الرأي فيما يصح فيه الاجتهاد.
فهل الشريعة الحرة التي فيها رغب وسعة، والتي تجود بمثل هذه الآراء، ويترعرع في أحضانها وفي ظل مبادئها وقواعدها وأصولها أئمة الاجتهاد وأعلام الفقه والتشريع - ترمي بالنقص، وهي تصلح أن تكون مرجعا للحكام يأخذون منها ما يناسب الأحوال في كل عصر ومكان!!
ومما يدحض أيضاً شبهة نقص الشريعة اتساع باب التعزيز والعقوبات فيها: فإن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه حد ولا كفارة فيه كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، ونوع فيه كفارة ولا حد فيه كالقربان في الإحرام وفي نهار رمضان؛ ونوع لا كفارة فيه ولا حد كالنظر إلى الأجنبية واليمين الغموس عند الإمامين أبي حنيفة وأحمد.
فالنوع الأول لا تعزيز فيه لوجوب الحد، وفي الثاني قولان للفقهاء - أما الثالث ففيه التعزيز وجوبا عند الأكثرين، وجوازاً عند الشافعي.
والتعزيز يختلف باختلاف الجرائم، وبحسب حال المذنب نفسه، ولذلك قد يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس أو بالضرب أو بالنفي عن الوطن، وقد يكون بالقتل. وللفقهاء أقوال أربعة في صفة التعزيز وقدره، وقد بسطنا القول في ذلك في العدد 648 من الرسالة. ومن هذه الأقوال أن التعزيز موكول إلى اجتهاد ولي الأمر يقدره وفق المصلحة وعلى حسب الجريمة.
وبعد فماذا ترى فيما سقته لك من النصوص والمذاهب والآراء الفقهية في العقوبات التي تدخل في باب التعزيز، وفي غير العقوبات من الأحكام الاجتهادية الأخرى؟
ولا ريب أن كل منصف يحكم بكمال الشريعة وسعتها، وأنه لا عذر لمن يترك شريعة الإسلام إلى غيرها من القوانين.
وبطلت بذلك دعوى الجاهلين أو الخراصين وهي أن الشريعة لا تستطيع أن تمد الحاكمين
في العصر الحاضر - وبخاصة في القانون الجنائي - بالأحكام الصالحة، فإن للمشرعين المحدثين مجالا أي مجال في الرجوع إلى آراء أئمة الإسلام واختيار الصالح لنا منها، أو في استنباط أحكام جديدة فيما يدخل في باب التعزيز على أن نحافظ على أصول شريعتنا ونراعي مقاصدها وننزل على المحكم من نصوصها ن وبذلك تستطيع الأقطار الإسلامية أن تضع قانونها الجنائي أو أي قانون آخر على أساس من الشرع قويم.
(للبحث بقية)
حسن أحمد الخطيب
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
الزواج والصدمة الأولى:
وفي فبراير سنة 1644 أعاد ملتن طبع الكتيب ورتبه. فقد عاب الناس طبعته الأولى، وقدم ملتن لطبعته الثانية بمقدمة فزعه فيها إلى البرلمان أن يؤيد آراءه فيصدر بها قانونا مدنيا للطلاق، وإلى مجمع البرسبتيرنز أن ينظر يما يقول نظرة العطف فيسدى إلى المسيحية صنيعا يبقى على الدهر. . . ولا يفوته إذ يلجأ إلى البرلمان أن يشير إلى رسالة انجلترة في هذا العالم، فلئن اعتنقت انجلترة ما يذهب إليه من رأى ذاع هذا الرأي حتى يملأ الدنيا، ويهيب بالنواب قائلا بعد أن يسرد الأمثلة على سبق انجلترة في العلم والدين (لا تدعوا انجلترة تنسى سوابقها في تعليم الأمم كيف تعيش)، ولا يفوته كذلك أن يلجأ إلى الاسبتيرنيز أن يمتدح ما اجتمع في مجلسهم من تقوى وعلم وحصافة.
كانت الفكرة الأساسية في كتيبه (قانون الطلاق ونظامه) هي أن الزواج والحب يجب أن يكون أساسهما التوافق والانسجام العقلي والروحي بين المرأة والرجل، فإذا لم يتحقق هذا التوافق في الشعور والفكر بطل الزواج، وكان الطلاق من حق الرجل متى طلبه.
وللدفاع عن هذه الفكرة الموجزة بسط ملتن القول فنظر في الزواج قديما وحديثا، وأستعرض أراء الأقدمين، وأراء آباء الكنيسة الأولين، وراجع ما جاء في الإنجيل ليأتي بما يؤيد رأيه، ثم عمد إلى المنطق بعد الدليل النقلي فدافع عن رأيه في قوة وإيمان، وأتى بطائفة من الآراء استقر بعضها في نفسه حتى ظهر كجانب من فلسفته في قصيدته الكبرى فيما بعد.
اشتدت ثورة ملتن على الجسد وفتنته وما في سيطرته من شر وضلال؛ ولكنه أكد أن قهره في استطاعة أولى العزم من العقلاء الذين يغلبون الحكمة على العاطفة، وما يسلم ملتن
بغلبة الجسد أبداً وتسلطه على العقل والحكمة وهو الذي تسلط جسده مرة في فورة من فوراته على حكمته الوثيقة وعزمه الطويل، وإنما يعبر بهذا الإنكار عن ثورته الكامنة في نفسه على الجسد وقد بقى هذا المعنى في حسه حتى كان حديث غواية آدم في (الفردوس المفقود) وما كان لسحر المرأة من أثر في هذه الغواية.
وساق ملتن هذا المعنى إلى معنى آخر، وذلك أن الشر هو أن تتغلب العاطفة على العقل وأن يضل الوجدان البصيرة، أما العاطفة في ذاتها والوجدان في ذاته فلا ضير منهما، ولا يحق اعتراض سبيلهما إلا أن يطغيا على الحكمة؛ فإن لم يفعلا فليتخذا جمراهما طليقين. . .، وما كانت قصة هبوط آدم من الجنة إلا قصة تسلط العاطفة على العقل.
ويطبق ملتن ذلك على الزواج فيقول إنه إذا لم يتم التوافق العاطفي بين الزوجين، فإن الاتصال الجسدي ضرب من انحطاط البهيمية حتى مع الزواج؛ وعلى ذلك فإن الإحساس بفقدان الميل بين الزوجين أو بالقصور العقلي من أحدهما تلقاء الآخر، أو بتنافر العقلين، تلك العلل التي يكون مردها إلى أسباب في طبيعة النفس لا يمكن تغييرها، إنما هي مبررات للطلاق أوجه من الجمود وأحق، فالطلاق أمر يرد من حيث مشروعيته إلى ضمير الإنسان، ولا وجه عنده لأن يخضع الإنسان لعبودية قانون الكنيسة الذي يجعل الإثم المادي أعظم من الآثم العقلي والروحي وأشد خطرا.
ولا يسع من يقرأ هذا الكتيب إلا العطف على الشاعر إذ يعبر عن مقدار ما يحيق بالنفس من عذاب إذا مني المرء بالفشل في زواجه ولم يتح له ما يتطلع إليه من وراء الزواج (من حديث طيب ملؤه السرور بين الرجل والمرأة يريحه وينعش نفسه بعد ما ذاقه من مساوئ العزلة) وما أشد ألمه وأقسى خيبته (إذا كان نصيبه زوجة خرساء لا روح لها فانه يظل أكثر من عزلة من ذي قبل، ويبقى في تحرق وشوق أشد على طاقة المرء من التحرق الجسدي وأدعى منه إلى التفكير فيه والاهتمام به)، ويصف الشاعر هذا التحرق وصفا شعريا بقوله (أن الماء الغزير لن يطفئه لا ولا الفيض يغرقه)، وفي التطلع إلى مثل تلك السعادة الزوجية وإلى مثل ذلك الحب الصحيح (يقضى المرء أيام شبابه وليس فيها ما يلام عليه)، ويجهل بذلك كثيرا مما كان خليقا أن يرشده متى شاء أن يختار زوجة فيدع هذه ويأخذ تلك عن بينة كما يفعل عند الزواج من قضوا صدر شبابهم فيما لا يخلو من اللوم ثم
إذا به يجد نفسه (مقيدا قيدا وثيقا إلى من لا تجاوب بينها وبينه ولا تواؤم بين طبعها وطبعه، أو كما يحدث غالبا إلى صورة من الطين تطلع من قبل ليكون شريكها في اجتماع حلو ملؤه الفرح، ويجد في النهاية أن قيده لا انعتاق منه؛ ومثل هذا حتى لو كان أقوى مسيحي فانه لا مناص على أهبة أن ييأس من الفضيلة ويقنط من رحمة الله، وهذا بلا ريب سبب ذلك الفشل، وذلك اليأس الحزين الذي نراه في طائفة كثيرة ممن يتزوجون)، ويصور ملتن بخيال الشاعر مقدار ما يكون بين زوجين في مثل تلك الحالة من خلاف بقوله:(حين تتنافر أفكارهما وروحاهما وتتباعدان كلاهما عن الآخر كبعد ما بين الجنة والجحيم).
ويتساءل ملتن كيف يتسنى الاختلاط الجسدي الوثيق بين زوجين يكره أحدهما الآخر كرهاً شديداً فعالاً، ويود لو يعتزله اعتزالا ثم هو يعيش معه أبداً؟)؛ وينزه ملتن الله عن أن يكون ذلك قصده من الزواج فيقول:(هل فتح الله لنا ذلك الباب الذي يكون منه الخطر والمباغتة، باب الزواج ليغلقه من دوننا كما يغلق باب الموت فلا تراجع ولا أوبة؟)، ويعود إلى تصوير ما يؤول إليه مثل ذلك الزواج الفاشل فيقول (لا بد أن يفضي ما لم تقع معجزة من معجزات الصبر في كلا الجانبين، لا إلى ألم مرير، وحنق شديد فحسب، وهما مما يوبق الإذعان لله، بل إلى استهتار يائس فاجر، إذ يجد المرء نفسه في غير ذنب من جانبه قد جرته نوبة من الخداع إلى فخ من فخاخ الشقاء).
وماذا عسى أن يصنع من مني بمثل هذا الجد العاثر؟. . . أيتسلل إلى سرير جاره كما يتبع عادة في مثل هذه الخيبة؟ أم يدع حياته النافعة تذهب هباء فيما لا يجدى؟ كلا؛ إن الأقرب إلى الرجولة أن يقضى على شقائه بالطلاق، فانه إن بقى على ما هو عليه ولم يستطع أن يحسب جلب على نفسه جديدا من الضر، ولذلك فإن من يعمل على فصم تلك العروة إنما هو ذلك يعلي قدر الحياة الزوجية ولا يقبل أن يشينها.
ويرى من يقرأ كتيبه هذا أن الناحية العاطفية أقوى فيه من ناحية المنطق، ومرد ذلك إلى أن الشاعر إنما يصف ما عانى من ألم نتيجة لما رزئ به من خيبة، فهو يتحدث حديث الخبير، كما أن حديثه هو إلى الشكوى أقرب منه إلى الدرس وفي ذلك سحره وقوته.
ولئن أبت عليه كبرياؤه أن يشير إلى ذلك، فإن من يقرأ عباراته وليس يعلم قضية زواجه خليق أن يحس تلقاء ما تزخر به من حياة وحرارة أنها متنفس نفس متألمة، وشكاة قلب
معذب. وكذلك ينم عنه في كتيبه هذا تلمسه العلل لمثل ما وقع فيه من خطأ، فكل امرئ عرضة لأن تخدعه المظاهر فتجره إلى ما لا يحب (وإن أكثر الناس عقلا وأقواهم تمكنا من أزمة نفوسهم هم أقل الناس تجربة في مثل هذه الأمور وأجدرهم ألا يعرفوا أن ما تقع عليه أعينهم في عذراء من صمت خجول إنما يخفى وراءه ذلك الجمود وذلك الكسل الطبيعي الذي لا يصلح قط لحوار) وتكاد تلخص هذه العبارة قصة زواج ملتن بماري يوول فانه كما ذكرنا لم يك يعرفها من قبل ورأى في صمتها وقد مال إليها عذراء فحسب. . .
ومما يتعلل به ملتن من طرف خفي إشارته إلى عقيدة القدر المحتوم فهو يؤمن بها اليوم وإن أنكرها غدا؛ فلن يفر المرء مما قدر عليه وينطبق ذلك الزواج بالضرورة كما ينطبق على غيره.
ويجد ملتن في هذه القضية فرصة لتجديد طعنه على القساوسة فيقول إن ما يدعيه البابا ورجال الدين من اختصاص في أمور الزواج إنما يقوم على الاغتصاب، فإن الزواج والطلاق من اختصاص رب الأسرة كما قضى بذلك الله، وكما تقضى طبيعة الأشياء وكما ارتضى المسيح، ولكن بابوات روما اغتصبوا ذلك الاختصاص (وقد رأوا ما يصيبون من مغانم ومن سلطة تفوق سلطة الأمراء أنفسهم من وراء قضائهم في هذه الأمور وإبرامها) وينتهي ملتن إلى قاعدة سوف تنمو في ذهنه وتسع مداها في فكره ومؤداها أن لا قانون يتقيد به الرجل الحكيم.
ويبين ملتن مبلغ ما يسديه المشرعون من خير إلى الإنسانية إذا أخذوا بآرائه في الطلاق. فيقول: (إنهم بذلك يرفعون كثيرين ممن لا حول لهم من المسيحيين من أعماق الأسى والحزن حيث لا قبل لهم قط بأداء أية خدمة لله ولا لأحد من عباده، ويخلصون كثيرين من نفوذ الطوائف المظلمة المضطربة، وينقذون كثيرين من الإباحية البهيمية الجامحة وكثيرين من الشقاء الموئس ويعيدون الإنسان إلى كرامته الصحيحة وإلى حقه الطبيعي؛ ويعودون بالزواج من وضعه الحالي كفخ من الفخاخ ومسألة من مسائل الحظ يأتي منها الخطر إلى حالته المرجوة إذ يكون المرفأ الأمين والملجأ الاجتماعي السعيد.
وفي يوليو سنة 1644 نشر ملتن مقالاً مطولاً جعل عنوانه (رأي مارثن بنسر في
الطلاق)؛ ورد بهذا المقال على مخالفي آرائه التي تضمنها كتيبه (قانون الطلاق ونظامه)؛ وقد أخذ هذا الكتيب يثير عليه سخط البرسبتيرينز حتى أنهم شدوا عليه النكير في كنائسهم، ووضع مجمع وستنسر اسم كتيبه في قائمة الكتب التي لا يصح أن تقرأ واعتبر مؤلفه من الخوارج أو (المستقلين)؛ وطلبوا إلى نقابة الطابعين أن ينظروا في أمره ليلقى جزاء طبعه كتيبه بغير تصريح مخالفا بذلك قانون الطبع؛ ولكن التجاءهم إلى قانون الطبع ورغبتهم في مصادرة كتيبه لم يجدهم شيئا فقد أوشكت أن تقع مقاليد السلطة في انجلترة في يد كرمويل وأحس الناس أن فجر الحرية يوشك أن ينهل على البلاد نوره.
وستتسع مسافة الخلف بينه وبين البرسبتيرنز فيكون هذا الخلف هو الصدمة الثانية لنفسه بعد الصدمة الأولى وهي فشله في زواجه؛ ويرى بعض المؤرخين أن غضب البرسبتيرنز عليه، ونعتهم إياه بنعوت سوف نذكرها في حينها كان آلم وقعاً في نفسه من هجران زوجته إياه. . .
(يتبع)
الخفيف
تأثير الأدب العربي في الأدب الأوربي
للأستاذ عبد القادر علي الجاعوني
المقدمة:
في هذا العصر الذي تجتاح فيه مدنية الغرب الأقطار العربية فتنتقل إليها علومها وآدابها، يحسن بنا أن نلقي نظرة إلى الوراء، لنرى كيفية تمثيل الآداب العربية للدور نفسه في عصور مضت، وكيف أن احتكاك العرب بالغربيين كان له أثر ظاهر في آدابهم.
ومن البديهي أن يكون التأثير ضئيلا في منطقة الآداب، وأن يكون بارزا ملموسا في منطقة العلوم، لأن الأمم تتعصب لآدابها وتأنف أن تدخل فيها عناصر أجنبية من تلقاء نفسها.
ولهذا رأينا العرب تهافتوا على العلوم الفارسية واليونانية وغيرها، أما آدابهم فظلت محافظة على صبغتها العربية وقلما تأثرت بآداب هاتين الأمتين.
ولقد مثل الغرب نفس الدور، فقد تهافت على نقل العلوم التي اشتغل بها العرب إبان نهضتهم العلمية، ووقف مكتوفا أمام الآداب العربية إما مستغربا أو مترفعا إزاء الآداب الشرقية التي برزت أمامه بأثواب لم تألفها عينه من قبل، وليس من المعقول أن يكون ذلك التأثير قد حصل دفعة واحدة بل إنه اتخذ سبيلا تدريجيا حمل بين طياته كثيرا من العناصر الفنية، وشيئا من الأفكار الشرقية، وبدعا من الظلال الشعرية، وغير ذلك مما لا يقع تحت حصر.
تاريخ هذا التأثير في القرون الوسطى:
(من القرن العاشر إلى القرن الخامس عشر)
لما حلت اللغات الوطنية محل اللغة اللاتينية، وشاع استعمالها بدلا منها، ظهر في فرنسا نوع جديد من الشعر يدل على وجهة اجتماعية جديدة، وكان هذا الشعر شديد الشبه بنوع ظهر في الأندلس العربية، ولهذا شاعت النظرية القائلة بأن شعراء جنوبي فرنسا - برقانس - تأثروا بالأدب الأندلسي.
وهذا الشعر الجديد الذي ظهر في فرنسا، قد صور الحب - كما صوره الغزل الغربي - بشكل جديد، مثير للشعور، غني بالصور الخيالية، مفعم برقة الاستعطاف وشدة التيتم الذي
يقرب حد العبادة.
ومن المرجح أن هذه الطريقة في الغزل لم يكن منشؤها العادات الاجتماعية في ذلك العصر؛ لأن المرأة كانت منحطة، ولأن الفروسية تأبى أن تفرض على رجالها هذا النوع من التصنع العاطفي لمنافاته للروح الحربية ومخالفته مثل الكمال التي فرضتها الكنيسة في تلك العصور.
وبقيت هذه النظرية قائمة حتى القرن التاسع عشر عندما قام النقاد يطلبون وثائق خطية وعندما أخفقوا في إيجادها تحولوا إلى الطرف الآخر وقالوا بنفيها.
أما الأبحاث الحديثة فقد بينت لنا أن الشعراء المغنين تروبادور في فرنسا قد أخذوا من الأندلس أساليب الغزل الجديدة.
قال الأستاذ (جب) في تراث الإسلام في القرن الحادي عشر بلغ الشعر قمة ازدهاره بعد أن مرت عليه قرون طويلة يتابع فيها نموه، والغزل لا يزال أكثر أنواعه شيوعا يفتتحون به كثيرا من قصائدهم. هذه كانت طريقة الجاهليين تبعها الشعراء في عصور التمدن الإسلامي. إذ ذاك كثر الشعر الغنائي وصقلته المدنية، وزادته أناقة ورقة مصطنعة، وأصبح الغزل في أقصى حالاته نوعا من التصوف. وفي وسط هذا التهوس ظهر الشعراء العذريون ونظريتهم الأفلاطونية التي وجدت في الأندلس مرتعا خصبا، وأشهر من دان بها ابن حزم صاحب (طوق الحمامة) الذي عدها من وسائل تزكية النفس.
هذه الروح الرومانطيقية المغالية هي التي انتقلت إلى منشدي القرون الوسطى وشعراء الغرب الغنائيين وولدت فيما بعد الشعر الخيالي. أما كيفية انتقالها فيقول الباحثون إن ذلك جرى بواسطة الزجل أو الشعر العامي الذي استنبطه عرب الأندلس، وأدخلوا فيه شيئا من روح الشعر الغربي وأسلوبه، فنسج على منواله الأسبانيون، وأصبح هذا الرجل الشعبي حلقة الاتصال بين الشعر الغربي وشعر أوربا الجنوبية. لقد عثروا مؤخرا على مجموعة أشعار أسبانية من نوع (الفيلانسيكو) وهو الشعر العامي الذي لا يختلف عن الزجل العربي، والمجموعة لابن قزمان الذي عاش في أوائل القرن الثاني عشر. وكل ما في شعره يدل على أصل عربي إلا اختلافا قليلا في طريقة الوزن الذي يعتمد على الحركات لا على المقاطع كالشعر الإنكليزي.
وأخيرا كل القرائن تجتمع لتظهر أن هذا الغزل الجديد بروحه وطريقته كان مصدره الغزل العربي في الأندلس، ولا يخفى أن الغزل شاع في الشعر العربي من أقدم عصوره.
في صقلية وإيطاليا:
ولم ينحصر تأثير الشعر الأندلسي في فرنسا فحسب، بل تعداها إلى إيطاليا وصقلية، ولقى الشعر العربي مشجعا من الملوك والأمراء النرمنديين فقد استعمل الشعراء الإيطاليون أوزانه لنظم أشعارهم إلا أن (بترارك لم يرق له هذا الأدب الدخيل فثار عليه وعلى العرب في كتاباته.
ومن النواحي التي أثر فيها الأدب العربي: ناحية القصص والأمثال فقد ثبت مؤخرا لدى الباحثين أن كثيرا من القصص والأمثال في ألمانيا وفرنسا ترجع إلى أصول عربية، وكما انتقلت الألفاظ على ألسنة السواح والتجار، والمحاربون من الصليبين كذلك تنوقلت القصص والحكايات والأمثال إلى آدابهم، ويرجح أن أبوكاشيو قد نقل حكاياته الشرقية من مصادر شفهية.
ومن البديهي أن الأدب العربي مليء بالأمثال والقصص ذات المغزى الأخلاقي والأدبي الذي تسرب بعضه - فيما أعلم - من مصادر هندية أو فارسية أو يونانية، ولقد صادفت هذه الأمثال قبولا مرضيا عند الغربيين فنقلها اليهود استحسانا إلى الآداب الغربية، من ذلك كتاب السندباد المتحدر من أصل هندي؛ ثم مجموعة حكم وأمثال، وأقوال فلسفية ترجمت إلى الأسبانية واللاتينية أو غيرهما. وهذان الكتابان كان لهما أثرا خاص في النثر الأسباني الذي اعتمد على النثر العربي في أول عهده وكانت الترجمة الأولى لكتاب (كليلة ودمنة) في أوربا من العربية إلى الأسبانية. أما في باقي اللغات فقد نقل عن ترجمة لاتينية قام بها أحد اليهود ثم انتشرت في الأقطار الأوربية.
وأخيرا وصلت بعد تغيير وتحوير إلى اللغة الفرنسية تحت اسم جديد أمثال (بيدبا) المنقولة رأسا عن الفارسية وكانت أحد المصادر التي استقصى منها لافونتين الشهير أمثاله الموضوعة على ألسنة البهائم.
وعرف الأسبان فن المقامات عند العرب فنسجوا على منوالها في بعض رواياتهم، وفي جملة ما وضعوه كتاب يدعى (الفارس سيفار) يروي سلسلة مغامرات مقتبسة من أصول
عربية.
ولا نزال نرقب الباحثين في إثبات ما لرسالة الغفران من التأثير في الآداب الغربية، إذ المظنون أنها كانت أحد العناصر التي أدخلها (دانتي) في تأليفه رواية (الكوميديا الآلهية).
ثم كان عصر الانبعاث، وهو عصر إحياء الآداب اليونانية القديمة والانصراف عما سواها، ولم يلبث الناس أن سئموا الأنظمة البيانية وجنحوا إلى الخيال والألوان. ففي سنة 1704 ترجمت روايات ألف ليلة وليلة) إلى الفرنسية وكان هذا نتيجة للأسفار، وبدء الاستعمار في الشرق ونتيجة انجذاب الغربيين بسحر الشرق الذي مازال يستهويهم بغرائبه وأسراره وألوانه الزاهية قال مارتان في كتابه:(الشرق في الأدب الفرنسي) إن دراسة الشرق في أوربا ابتدأت في القرن السابع عشر، وتكونت ونمت في القرن الثامن عشر الذي يعد بحق عصر الأدب الشرقي في أوربا. هذا القرن الذي كثر فيه البحث العلمي الجاف، وكثرت فيه الويلات والانقلابات فكان أهله متعطشين إلى الخيال، ولذا كثر فيه التأليف في موضوعات شرقية وامتلأت الروايات بأبطال شرقيين، فوضع (راسين) مثلا روايته بايزيد ثم ظهرت روايات (فولتير) التمثيلية الشرقية والرسائل الفارسية لمونتسكيو وفي إنكلترا ظهرت (رؤيا مرزا) و (راسلاس).
على أن هذه التآليف المقلدة كانت على جانب من الضعف والركاكة، ولهذا يهملها تاريخ الأدب العربي لأنها شوهت قسما من صفحاته. وكان لحركة الاستشراق التي بدأت في فرنسا صدى في أوربا، وكانت ألمانيا أسبق الجميع إلى اقتباس بعض مظاهر الأدب الشرقي. وقام كثيرون من شعراء ألمانيا (الرومانطيقيين) يستوحون الخيال الهندي والفارسي وكان قائد الحركة هردر وبعد وكان (جوته) أول من اعتمد الأسلوب الخيالي الشرقي لأنهم أرادوا أن يتعزوا بالخيال عن الحقائق المؤلمة. على أن تآليفهم الأدبية لم تكن ذات قيمة تذكر لأن التقليد غلب عليها، إلا أنها أدت للأدب خدمة جلى إذ فتحت للأدباء بابًا جديداً ما يزال يلجه الكثيرون.
أما في فرنسا، فقد كتب (فكتور هوجو) قصائده المعروفة (بالمشرقيات) وصدرها بهذه الجملة (في عهد لويس الرابع عشر كان جميع الناس (هلينيين) أي طلاب الثقافة اليونانية؛ أما اليوم فجميعهم مستشرقون أي طلاب للثقافة الشرقية)، لكنه مع شغفه بالثقافة الشرقية لم
تبلغ معرفته بها الحد الذي وصل إليه الكتاب الألمان أمثال غوتي وسواه.
وفي إنجلترا نرى نفس هذه الحركة التي تهتم بالسطحيات، ولا تتغلغل إلى جوهر الأشياء؛ فهناك قام سكوت يسعى لإبراز رواياته الشرقية بحلة شرقية. واقتدى به غيره من الروائيين، وتبعه في ذلك بيرون قبل ذلك، ونجح في تحبيب الشرق إلى الغربيين، وتبعه في ذلك مور في روايته.
ففي هذه الأحوال جميعها أخطأ أدباء الأدب الغربي فهم الأدب الشرقي، واستعملوه للتزيين والتلوين أي أخذوا منه القشور وأنكروا الحقائق المنطوية تحتها، وأعرضوا عن الميراث المعنوي الذي قدمه الشرق للعالم. ومع هذا فالقرن التاسع عشر لم يعدم كاتبا يبين لنا الصلة الجوهرية بين الشرق والغرب في شخص فتزجرلد فنقل (رباعيات عمر الخيام) إلى الإنكليزية، وقد أبدع في نقلها حتى قيل إنها إنكليزية بقدر ما هي فارسية.
الخلاصة:
هناك ثلاثة أدار ظهر فيها تأثير الأدب الإسلامي في الغرب وجاء بنتائج متماثلة إن لم تكن متعادلة. أولها في العصور الوسطى، ثم بعد مرور عصر الانبعاث في القرن الثامن عشر، ثم في القرن التاسع عشر، وكان التأثير على أشده في القرون الوسطى عندما اقتبس الغرب عن الشرق بعض العناصر الفنية التي دخلت في تكوين أدبه. أما بعد سيادة الأدب اليوناني فلم يأت الاحتكار إلا بنتائج ضئيلة، وكانت المنتجات الأوربية الشرقية أشبه شئ بنوادر أو تحف غربية تثير الفضول ولا تتعدى التقليد. هذا في القرن الثامن عشر، أما في القرن التاسع عشر فقد ظهر في ألمانيا حركة مثمرة لم تدم طويلا. وفي سائر أوربا كان الناس في القرن الماضي ينظرون شزرا إلى كل ما هو أجنبي. وقد أسكرهم التبجح بالسيادة العالمية. أما في القرن الحالي فقد أخذوا يغيرون وجهة نظرهم، ويشعرون أن دائرتهم مهما اتسعت فهي أضيق من أن تشغل العالم بأسره، وتأكدوا بأن هناك خارج منطقتهم كنوزا يجب أن تكتشف.
(القدس)
عبد القادر علي الجاعوني
بكالوريوس في العلوم
(فلسطينيات):
العابث. . .!
للأستاذ نجاتي صدقي
من يجتز ميدان المغربي بتل أبيب، وهو يشبه في الظاهر ميدان سنت ميشيل بباريس، ير في طرفه الأيسر مقهى صغيرا، جميل الهندسة، حسن الترتيب. فاخر الأثاث، يؤمه عادة أهل الفن والأدب من يهود تل أبيب، كما يتردد إليه عدد لا يستهان به من المهاجرين والمهاجرات، يتعارف بعضهم إلى بعض ويتبادلون الآراء ويحتسون الجعة على أنغام الموسيقى المهدهدة.
ولا يجوز قط اعتبار هذا المقهى مكاناً لترفه اليهود فقط، فمن رواده الدائميين أيضاً بطل قصتنا هذه (عزيز). وهو شاب تجاوز الثلاثين، فلم يدع بابا في الحياة إلا طرقه، ولم يترك حرفة في المجتمع إلا مارسها، وهو في طبعه محب للمغامرات له شذوذه، كما أنه يتذوق الأدب، ويبدي أراء جريئة في السيكولوجي، ويجيد الإنكليزية، ويتكلم العربية قليلا. . .
وفي إحدى الأمسيات جاء (عزيز) المقهى وبصحبته صديق مزارع من شمال فلسطين، أنعم الله عليه بالثراء وسعة العيش، وحرمه العلم وسعة المدارك، وجلسا إلى مائدة، وكانت ملامحهما تدلان على أنهما من مهاجري بلغاريا أو رومانيا، فلم يكترث بهما أحد، في حين أنهما كانا يبديان اهتماما زائدا بجلاس المقهى، ويخصان الغانيات الفاتنات من بنات يهوذا بنظرات كلها عطف وشوق. . .
وإذ كانا يتناولان الكأس الرابعة من الويسكي في جو اختلطت فيه ضجة الحاضرين بلحن (الفولغا) لمحا من خلال الدخان الكثيف امرأة ممشوقة القد، شقراء الشعر، زرقاء العينين، ترتدي معطفا قوزاقيا، تلج المقهى وهي تتهادى في مشيتها. فما إن وقفت عند بنك الساقي حتى انتصب (عزيز) واقفا، وتقدم نحوها بأدب مخمور وقال:
- أتأذن لي مولاتي بكلمة؟
- تفضل. . .
- مولاتي، لا ريب في أنك من أهل القوزاق. . . إني لأرى تموجات نهر الفولغا تتلاقى مع تموجات شعرك الذهبي، أنت لحن الفولغا الحي. . . أنت أنشودة نظمتها الحياة. . .
ارتبكت المرأة لهذا الإطراء المفاجئ وأجابته مبتسمة - أأنت شاعر؟
قال - كلا، لست شاعرا، ولكني أعبد الفن. . . أنا عربي أومن بأن ليس للفن والجمال حدود عنصرية أو إقليمية. . . فبيتهوفن معبود العالم بأسره، وروفائيل سيد الرسامين، وآينشتين يعترف بفضله كل مخلوق. . . و. . .
وإذا برجل مديد القامة عريض المنكبين يقطع على (عزيز) خياله، ويتطلع في وجهه مبتسما. . .
قالت المرأة للشاب - هذا زوجي. . .
وقالت لزوجها - إنه فنان عربي. . . ظن أنني قوزاقية ولم يدر بخلده أني من كوينسبرج. . .
قال الزوج - يسرنا جداً أن نتعرف إلى شاب عربي. لقد قضينا عشر سنوات في تل أبيب لم نزر خلالها مدينة يافا قط. . . نحن نسمع عنكم ولا نراكم. والواقع أننا نوهم أنفسنا في هذه المدينة بأننا لم نخرج من أوروبا قط، فترانا ننشئ بيوتاً غريبة الطراز، ونعيش في المقاهي. . . أي إننا لا نكون في بيوتنا إلا وقت تناول الطعام والنوم. . . وإذا ما مللنا المقاهي تجولنا في الشوارع أو ذهبنا إلى دور السينما والموسيقى. . . ونحن على الجملة نشعر في حياتنا خارج منازلنا كما لو أننا في منازلنا. . . فنساؤنا يسرن في الشوارع وهن يرتدين عباءة البيت أو السراويل الفضفاضة، أو لباس البحر. أجل هكذا نعيش، أما يافا فاقسم لك بأن كثيراً منا لا يعرف بالضبط أتقع هي في جنوب تل أبيب أم في شمالها. أرجو المعذرة على هذه الغباوة التي هي أشبه بحلم لذيذ.
وبعد لحظات كان الأربعة يجلسون حول مائدة واحدة، وقدم (عزيز) زميله إلى الزوج وزوجه بوصفه كاتبا مفكرا يعني بتصوير الحياة أكثر من عنايته بهندامه. . .
وتوالت الأنخاب، وأظهر الثرى القروي كرمه الحاتمي، فذهلت السدية البروسية، وارتاح لهذا التعارف السعيد. . . ودارت بينهم أحاديث منوعة تخللتها النكات الموفقة والتافهة، وافترقوا على أن يكون اللقاء في اليوم التالي، في بيت (عزيز) بيافا لتناول الغذاء. . .
- أهلا وسهلا أدون ايسبرجر. أهلا بالسيدة (القوزاقية) هه. . هه. . أعرفكما بقرينتي. وهذا زميلي بالأمس. وهؤلاء أصدقائي. . وقدمت السيدة أيسبرجر باقة زهور لقرينة
صاحب الدعوة وتناولوا أكلا عربيا صرفا وهما يلهجان بالثناء العاطر على (عزيز) وكرمه ولطفه. .
وفي اليوم التالي ردت الزيارة إلى تل أبيب، وكانت زهور وغداء، وملاطفات وعدم فهم متبادل لما يقصد من هذه الصداقة. ثم كان وداع على أن يكون اللقاء في المستقبل في المقهى الذي حدث فيه التعارف. . .
ولما حل مساء اليوم التالي لهذه الزيارة أحس (عزيز) أن شيئا يقلقه، ويشغل فكره، ويثير أعصابه، فأسرع إلى حانة ما وطلب من العرق أولا وثانيا وثالثا فخيل له أنه يسمع لحن الفولغا؛ وتراءت له السيدة (القوزاقية) كما أرادها أن تكون، فلم يقو على الاصطبار حتى يحين اللقاء (في المستقبل). . فعقد النية على المجازفة مهما كانت العواقب. وإذ كانت ميزانيته لا تسمح له بالإسراف توجه إلى زميله المزارع الثري وسأله - أأنت مستعد للبذل في سبيل ربة الجمال؟
قال - ومن هي؟
قال - السيدة أيسبر جر. . .
قال - كل ما أملك فداء لها. . وإنني للجمال لعابد. . .
وفي الساعة الحادية عشرة من الليل كان عزيز وزميله يترنحان ثملين في شوارع تل أبيب، فقادتهما أقدامهما إلى دار ايسبرجر ثم صعدا إلى الطابق الثاني ووقفا أمام باب الشقة. . تردد (عزيز) في الضغط على الزر الكهربائي، فالعاطفة تحثه على الضغط، والفكر المكبوت بالخمر يوحي إليه خيبة الأمل. . وأخيرا مد إصبعه نحو الزر وضغطه، فمرت ثوان دون جواب، فأعاد الضغط وإذا بنور يشع في الداخل وبخطوات تقترب من الباب مسرعة ثم فتح الباب وياله من منظر: السيدة ايسبرجر بلباس النوم، وشعرها مسدول على كتفيها، وقفت أمام الزائرين الليليين مشدوهة، وقد عانقت نفسها بذراعيها من الخجل والبرد معا. . .
فبادرها (عزيز) قائلا - (شالوم. . . مدام!. . .)
لقد توقعت السيدة ايسبرجر أن يكون الطارق في تلك الساعة المتأخرة أي مخلوق من أهلها ومعارفها لكنها لم تتوقع قط أن يكون هذا الطارق (عزيز) وزميله. . . والواقع أنها ذعرت
لمرآهما، وانعقد لسانها في فمها فراحت تحدق فيهما النظر محاولة استجلاء ما في نفسيهما، فأجاباها بنظرات حائرة شاردة. . . وقد تدلت شفتاهما السفليان قليلا. . ولما استعادت المرأة رباطة جأشها، دفعت الباب في وجه الزائرين غير المنتظرين، وصرخت. . .
هرول (عزيز) وزميله إلى الشارع ووقفا عند مصباح كهربائي يلهثان ثم خاطب المزارع عزيزا بقوله - أتضللني أيضا؟ أين ربة الجمال؟ أعد لي خمسة جنيهات أنفقتهما عليك هذه الليلة.
فأجابه (عزيز) ما الذي تعنيه بقولك هذا؟ إنني دعوتك إلى زيارة أدبية فنية فقط. . . وجل قصدي من هذه الزيارة إفهامك ماهية الجمال من حيث هو فن إيحائي!. . .
قال المزارع - ماذا؟. . . ماذا. . .؟
قال - الجمال يا عزيزي على نوعين: مجرد، وفني. . . فالمجرد هو الجمال الملائكي البلوري، وأما الفني فهو جمال تقاطيع الوجه الدالة على ماهية النفس.
قال - دعنا من الهذر، إنني لم أنفق ما أنفقته هذه الليلة لأسمع منك هذه الثرثرة. لن أبرح هذا المكان حتى تأتيني بربة الجمال.
قال - صه. . . لا ترفع صوتك وإلا فضحنا، وأساء القوم الظن فينا. . . وحاول المزارع المطالبة بحقوقه. . . لكن (عزيز) استوقف سيارة، ودفعه إلى داخلها، وقال للسائق: إلى يافا. . أسرع. . .
قص علي (عزيز) قصته هذه وقال:
بودي أن أذهب مرة أخرى إلى السيدة ايسبرجر لأبين لها حسن نيتي من تلك الزيارة الليلية فما رأيك. . .؟
نجاتي صدقي
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
805 -
أصدق مع الله في جميع أحوالك
الفتوحات المكية: أخبرني الثقة عندي عن الشيخ أبى الربيع الكفيف المالقي كان بمصر يخدمه أبو عبد الله القرشي. فدخل عليه الشيخ وسمعه يقول في دعائه: اللهم يا رب، لا تفضح لنا سريرة، فصاح فيه الشيخ وقال له: الله يفضحك على رؤوس الأشهاد يا أبا عبد الله، ولا شئ تظهر لله بأمر وللناس بخلافه، أصدق مع الله عز وجل في جميع أحوالك، ولا تضمر خلاف ما تظهر. . .
806 -
طفيلي
دعا رجل قوماً فجاءوا وأتبعهم طفيلي، ففطن به الداعي فأراد أن يعلمه أنه فطن به فقال: ما أدري لمن أشكر منكم: لكم إذ أجبتم دعوتي أم لهذا الذي تجشم من غير دعوة.
807 -
فان ترد الزيادة هات قلبا
أبو الفوارس سعد بن محمد:
تشربش أو تقمّصْ أو تقَّبا
…
فلن تزداد عندي قطَّ حبَّا
تملك بعضُ حبك كلَّ قلبي
…
فإن تردِ الزيادة هاتِ َقلبا
808 -
وما أقدر أن أتكلم بالفارسية
قال ابن جني في كتاب النوادر الممتعة: بينما أبو علقمة النحوي يسير على بغلة إذ نظر إلى عبدين أحدهما حبشي والآخر صقلبي، فإذا الحبشي قد ضرب بالصقلبي الأرض، وأدخل ركبته في بطنه، وأصابعه في عينيه، وعض أذنيه وضربه بعصا كانت معه فشجه، وأسال دمه. فجعل الصقلبي يستغيث فلا يغاث، فقال لأبي علقمة: اشهد لي. فقال قدمه إلى الأمير حتى أشهد لك، فمضيا إلى الأمير، فقال الصقلبي: هذا يشهد لي، فنزل أبو علقمة عن بغلته وجلس بين يدي الأمير، فقال له الأمير عم تشهد يا أبا علقمة؟
فقال: أصلح الله الأمير بينما أنا أسير على كوردني هذا إذ مررت بهذين العبدين فرأيت هذا الأسحم قد مال على هذا الأبقع فحطأه على فدفد ثم ضغطه برضفته في أحشائه حتى
ظننت أنه تدمج جوفه وجعل يلج بشناتره في جحمتيه يكاد يفقؤهما، وقبض على ضارتيه بمبرمه وكاد يجذهما جداً، ثم علاه بمنسأة كانت معه فعفجه بها.
وهذا أثر الجريال عليه بينا، وأنت أمير عادل.
فقال الأمير: والله ما أفهم مما قلت شيئاً.
فقال أبو علقمة: قد فهمناك إن فهمت، وعلمناك إن علمت، وأديت إليك ما علمت، وما أقدر أن أتكلم بالفارسية. . .
فجعل الأمير يجهد أن يكشف الكلام فلا يفعل حتى ضاق صدره، فقال للصقلبي: أعطني خنجرا. فأعطاه وهو يظن أنه يريد أن يستقيد له من الحبشي، فكشف الأمير رأسه وقال للصقلبي: شجني خمسا وأعفني من شهادة هذا.
809 -
هذا مقال من لا يموت حتف أنفه
قال أبو خالد الخزاعي الأسلمي: قلت لدعبل: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد. ووترت الناس جميعاً، فأنت دهرك شريد طريد هارب خائف. فلو كففت عن هذا، وصرفت هذا الشر عن نفسك. فقال: ويحك إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالي بالشاعر - وإن كان مجيدا - إذا لم يخف شره. ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم. وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة - ولم يكن ذلك فيه - انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه، وخاف من مثل ما جرى على الآخر. ويحك يا آبا خالد ان الهجاء المضرع آخذ بطبع الشاعر من المديح المفرع.
فضحكت من قوله وقلت: هذا (والله) مقال من لا يموت حتف أنفه.
810 -
تكتب برجلها
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة:
في سنة (576) قدمت امرأة إلى القاهرة عديمة اليدين، وكانت تكتب برجليها كتابة حسنة، فحصل لها القبول التام.
811 -
كأن عليه من حرق نطاقا
أنشد المتنبي سيف الدولة قصيدة قافية، وكان السري الرفاء حاضرا وأول القصيدة:
أيدري الربع أي دم أراقا
…
وأي قلوب هذا الركب شاقا
فلما قال:
وخصر تثبيت الأبصار فيه
…
كأن عليه من حدق نطاقا
فقال السري: هذا والله معنى ما قدر عليه المتقدمون. ثم إنه حم في الحال حسداً وتحامل إلى منزله ومات بعد ثلاثة أيام.
812 -
نار المتنبي
أنشد بعضهم بيتا من الشعر. فقال: هذا البيت لو طرح في نار المتنبي لأطفأها، إشارة إلى قوله:
ففي فؤاد المحب نار جوى
…
أحر نار الجحيم أبردُها
813 -
أقوى جند لأبليس
في (محاضرات الراغب) لما ضربت الدراهم والدنانير صرخ إبليس صرخة، وجمع أصحابه فقال: قد وجدت ما استغيث به عنكم في تضليل الناس؛ فالأب يقتل ابنه، والابن يقتل أباه بسببه.
814 -
لينفق ذو سعة من سعته
إسحق بن عمار: سألت ابن عباس عن الرجل الموسر المتجمل يتخذ الثياب الكثيرة والجباب والطيالسة والقمص يصون بعضها ببعض ويتجمل بها، أيكون مسرفا؟
فقال: إن الله يقول: (لينفق ذو سعة من سعته).
815 -
الما. . .
الكلم الروحانية في الحكم اليونانية:
قال فورس (ملهى الاسكندر: إذا سألت الحكماء عن شيء فسلني.
فقال له: ما الذي ينتفع به الرجل عند الكبر؟
قال: المال.
فأعجب الاسكندر.
الحسرة الأولي.
. .
لشاعر الحب لامرتين
(قال لامرتين: (في أحد أيام 1830، بينما كنت داخلا كنيسة
في باريز، إذ بصرت هناك بتابوت فتاة انطفأ سراج حياتها
ولما تزل صبية، قد حمل على الأيدي وأسدلت عليه ملاءة
بيضاء، فذكرني هذا التابوت بموت وهاجت الذكرى شجني،
فطفقت أبكي وأنشج نشيجاً محزناً، ثم عدت إلى غرفتي
ونشرت بين يدي مذكراتي عن تلك الحادثة، ونفست هذه
المقطوعة - التي ستقرؤها الآن - وكتبتها في دفتري، والقلب
واجف، والدمع واكف، وسميتها الحسرة الأولى وها هي
ذي):
هناك على سيف المحيط المصطفق،
حيث يقذف بحر (سورانت) بأمواجه الزرقاء،
فتتكسر تحت قدمي شجرة البرتقال،
وثم صخرة صغيرة، ضيقة الحجم، متساوية الطول والعرض كانت قريبة من الطريق اللاحب، تحت الصباح العتق بشذى الأزهار فكانت للغريب الهائم منتدىً ومزازا.
وأزهار الخيري الباسمة قد سترت تحت أغصانها اسماً منقوشا على هذه الصخرة، نعم! قد سترت اسماً لم يردده الصدى قط فلم يك معروفا عند أحد! ولكن المسافر الذي أنهكه السير، يجلس هناك أحيانا ليستريح، ثم يزيح الحشائش عن الصخرة، فيقرؤ عمرها وتاريخ وفاتها، ويقول وعيناه تشرقان بالدمع أسفاً وحزنا:
لقد عاشت ست عشرة عاما! ولعمري إنها سن مبكرة إلى الموت،)
ولكن! ليت شعري! لم أحمل نفسي على استذكار تلك الذكريات الغابرة؟
فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب، وتعالي هنا أيتها الخواطر المضطربة، والعواطف الملتهبة!
عودي إلي قليلا، لعلى أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!
إن القارئ ليقول: (لم تعش وا أسفاه إلا ستة عشر عاماً)!
- أجل! لقد عاشت كذلك! ولكن هذا العمر القليل، لم يسطع قط فوق جبين أزهى من جبينها، ولم تتأمل قط عين - حبيبة إلى كعينها - إذ تنظر إلى سناء الشاطئ الملتهب، وجلال الخضم المضطرب!
لقد أبصرتها أنا كذلك، حتى أن وجداني قد طبع شخصها الحي في نفسي، تلك النفس التي تحتفظ بكل شئ، فلا تموت صورة فيها ولا تمحى
نعم لم تزل حية في نفسي! فكأن عينيها الساجيتين ترمقان عيني بنظراتهما، وكأننا كنا سوية نلقى بأحاديثنا الأولى في اليم، وشعرها المغمودن الفاحم يستسلم إلى أنفاس النسيم ويسترسل معها، فتداعبه تارة، وتستخف به أخرى،
ثم يلقى هذا الحاجب الهائم ظله الكثيف، على وجهها اللطيف. وإذ كانت ترهف أذنيها، لتسمع أنشودة الصياد الذي يتخبط في ظلام الليل،
ولتنصت إلى أنفاس النسيم العبقة، حيث تنثر نضارتها وزهوها،
ولقد أرتني القمر المبتهج وهو يصعد في السماء، كأنه زهرة جميلة في الليل، ترقب فجرها الجميل، وإلى الزبد الفضي المتلألئ، كنا ننظر سوية، فتلفت إلي، وبحنان تقول:
(أخبرني، لماذا أرى كل شيء يضيء في هذا الفضاء، فيتشعشع في نفسي يمثل هذا السناء؟
إن هذه الحقول اللازوردية، وقد ملئت بالنيران المتوهجة، وان هذه الرمال الذهبية، وقد تكسرت فوقها أواذي المحيط، وان هذه الجبال الشماء إذ تضارع بعليائها إذن الجوزاء، وهذه الخلجان المكللة بتلك الغابات الصماء، وهذه الأضواء التي تنبعث من ضفة الدماء، وتلك الأنغام التي تقذف بها الأمواج، إن كل ذلك لا يثير نفسي، ولا يهيج حسى، بلذة
مبهمة، أو سرور لا عهد لي بمثله!
ليت شعري! كيف لا أحلم بمثل هذا اليوم، وكيف لا أبتهج بهذه المناظر؟ هل صعد إلى قلبي ذلك الكوكب الدري، فأنار ظلامه، وبدد أوهامه؟
وأنت أيها القمر اللاءلاء، سل الليالي الحلوة الظلماء، وقل لها: هل تضارع ليالي بلادك - إن غبت عنك - هذه الليالي في البهاء؟)
- وإذ ترمق بنظرتها الوديعة أمها الرؤوم، حيث كانت على كثب منا. ثم تتطرح على نفسها من السقم، وتلقى بجبينها فوق ركبتي أمها، فيعقد الكرى الهنيء، أهداب عيونها الوطف.
ولكن، ليت شعري؟ كيف أحمل نفسي على استذكار هذى الذكريات الغابرة؟
فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب،
وتعال هنا، أيتها الخواطر المضطربة، والأفكار الملتهبة!
عودي إلى قليلا، لعلي أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!
لله ما أصفى أديم عينها الساجية! وما أحلى حمرة شفتها المغترة! ولشد ما ترد عينها نظري خاسئا وهو حسير!
إن بحيرة (نيمي لجميلة المنظر، لا تستخف بأديمها نسمة، ولا تعبث بسطها تأمة، ولكنها رائقة السطح، لازوردية الماء، تشبه بزرقتها أديم السماء!
كنت تستطيع أن ترى أفكارها الساهمة، من خلال نفسها الحالمة، قبل أن تتعرف إلى شخصها،
فجفناها الفاتران، لم يغمضا قط على عينيها الوديعتين، فيحجبا عنا نظراتها البريئة، وجبينها المشرق، ولم تغضنه تباريح الهموم، ولم تضغطه آلام أو شجون، فالكل يطفر مرحاً في نفسها وحسها:
أما هذه الابتسامة العذبة الفتية، فلقد ماتت على فمها البارد. وكانت من قبل تغمر شفتيها المفترتين،
كأنها قوس قزح، صافي اللون، مبشر بيوم صحو جميل!
إن من القسامة البارعة، والجهارة الرائعة، أن يكون هذا الوجه الفاتن مرئيا من كل عين،
لا يحجبه ظل، ولا تخفيه ظلمة.
فلقد كان هذا القاع اللطيف ساطعا، لا تمر بسمائه سحابة. مضيئا في كل نفس، حبيبا إلى كل قلب!
وخطاها الحائرة المترددة، كانت تسترسل هائمة أو تعدو راكضة، كأنها موج مستبد، هدهده النهار واستخف به،
وصوتها الرنان العذب، كان صدىً صافياً وترجيعاً نقياً لنفسها الوليدة، وطالما كان موسيقى حلوة لتلك النفس التي يغنى فيها كل شئ
فيشرح الصدر، ويهيج النفس، حتى يصعد إلى طبقات الأثير حيث يذوب ويتلاشى.
ولكن ليت شعري! لم أحمل نفسي على استذكار هذى الذكريات الغابرة؟ فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب،
وتعالي هنا أيتها الخواطر المضطربة، والعواطف الملتهبة!
عودي إلى قليلا. لعلي أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!
كما ينطبع نور الصباح على العين، كذلك انطبعت صورتي في قلبها؛
ولكناه لم ترن بعينها أبداً ذاك اليوم.
وفي الساعة التي أحبت فيها، رأت العالم كله فيضا من الحب والحساسة! ولقد امتزجت معها في حياتها الخاصة، وتطلعت من نفسها إلى ذلك الذي استفله الطرب، فأخذ يمر أمام عينيها،
وإلى تلك السعادة الزائلة، والأمل المقيم في السماوات العلى!
لم تفكر قط في مرور الزمن، أو ضياع الوقت،
فساعة واحدة كانت تشتف وجودها، وتضيق بها ذرعا،
وحياتها قبل أن يجمعني الدهر بها، لا تحتاج إلى ذكرى.
إن مساء أحد تلك الأيام الجميلة كل حظي من الدنيا ونصيبي من الحياة!
لشد ما كانت تركن إلى الطبيعة الضاحكة، إذ تبسم الينا، وتفتر عن ثغرها الضحوك أمام ناظرنا،
ولشد ما كانت تسكن إلى الصلاة الهادئة، والدعاء البريء، وما أكثر ما كانت تأخذ طريقها
إلى المذبح المقدس، حيث تنثر فوقه الأزهار الفواحة بالارج، وقلبها يطير فرحا، عكس ما يكون باكيا متقبضا؛ إذ تجتذبني لألحق بها إلى هيكلها، فأقفو أثرها، كأنني غلام وضيع، أو طفل مطيع، وصوتها الخافت يناديني ويقول:
(لنصل معا يا أخي، فإنني لا أفهم للصلاة معنى بدونك! ولا أستطيع أن أخبت لك إذا لم تكن حاضرا بقربي!)
ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي على استذكار تلك الذكريات الغابرة. فلندع الهواء يحف. . . الخ!
هلا نظرتم يا صحابتي إلى الماء النمير، يتدفق في حوضه. كأنه ينبوع لا يفور؟ هلا أبصرتموه وقد عقد نطاقاً مستديراً، كما تفعل البحيرة بشاطئها الضيق الصغير؟ هلا نظرتم إلى زرقته الصافية، وهو ذمة الهواء الساري وفي كنف الشعاع الملتهب، الذي جفف ماءه، وأضوى معينه؟ وإذ ذاك يقذف الإوز بنفسه في جوفه، ليعوم فوق أديمه الرجراج، وهو يغمس عنقه بين ثناياه المتموجة؛ فيزين تلك المرآة السائلة، دون أ، يكدرها، أو يمسها بسوء ويهدهد نفسه وسط الماء، الذي يعكس النجوم المتألقة في كبد السماء.
ثم يضرب الماء المصطفق بجناحيه المبللتين، ليأخذ سمته، مسفا نحو نبع آخر، فيمحو بطيرانه صفحة السماء المنعكسة، في جوف الماء الصقيل؛ وتسقط منه ريشة، تكدر صفاءه، وتنزع عنه رواءه، كأن نسرا كاسرا، وهو عدو جنسه الألد، قد بعثر رفاته الممزقة، ورمى بها إلى كل موجة، فذهبت بها أباديد،
وإذا باللازورد الساطع، للبحيرة المرحة، يغدو موجة قاتمة، تصعد فوقها الرمال الميثاء! وأنا شبيه بذلك الطائر يا صحابتي!
ولقد ذوى كل ما في نفسها، عندما بعدت عنها وشط بي النوى، فخبا ذلك الشعاع المضيء في نفسها، وصعدت جذوتها الهامدة الأخيرة سريعة نحو السماء، كيما تعود أبدا بعد ذلك!
لم يكن في أملها ولا في مرجوها أن تنتظر ثانية أملا يعدها، ولم تكن لتذوى أملها بالريب، أو لتطغى على ألمها بالحياة
لقد تجرعت كأس الألم دهاقا فغرق قلبها بأول دمعة حرى سقطت من عينها!
ما أشبهها بذلك العصفور الصغير! إنهما ليتفقان في الدعة والهناء، وان قل عنها ذاك في
الحسن والبهاء!
أتراه عند المساء وقد غشى جناحه عنقه لينام نوما هادئا لذيذا؟ وكذلك هي: فقد رقدت مثله، يغشاها يأس قاتل، وضنى مبرح، إلا أن رقادها كان مبكرا. فلم يكن لليلها صباح، ولا لنومها يقظة!
ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي. . . الخ. . .
خمسة عشر عاما قضتها تحت التراب، وما رثى مصيرها أحد، ولا بكت ملجأها عين،
فسرعان ما غسى النسيان - وهو ثاني كفن للموتى - تلك الطريق التي تؤدى بنا إلى شاطئ الحياة؛
لم يزر أحد وا أسفاه هذه الصخرة التي طمسها الدهر ودرسها، لم يفتكر بها أحد، ولم يندبها باك! إلا مخيلتي فقد قضت لبانتها من حق الذكرى وحق الدعاء!
إذا ما قضيت موجة أيامي الأخيرة، فأحسست بدنو أجلي،
رأيتني أستذكر قلبي جميع من فقدهم فنسيهم، ثم أرسل عيني نحو تلك الأطلال الخاشعة والآثار الدارسة، فأذرف الدمع،
وأسكب العبرات، حزناً على تلك النجوم النيرة، التي خبا ضوءها المشتعل، وانطفأ سراج حياتها من سمائي المتعذرة!
ولقد كانت هي أول الشهب الآفلة، من نهار بهي جميل؛
فضوءها اللألاء لا يزال ينير ظلام قلبي، ويضرم ما بقى حذوة حبي!
ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي. . . . . . الخ. . . . . .
كل حظها من الحياة شجيرة شائكة ذات خضرة باهتة فحطمتها رياح البحر الشديدة، وهشمتها أشعة الشمس المحرقة. ورغم هذا بقيت ضاربة بجذورها تحت تلك الصخرة، دون أن تخلع عليها ظلها، كأنها حسرة مضنية، تأصلت جذورها في القلب. وغبار الثرى كسا أوراقها طبقة بيضاء، فاستقلت على الارض، وانعطفت أفنانها، فجذمتها أسنان الماعز الحادة.
ثم تتفتح زهرة ناصعة في فصل الربيع، كأنها رضاب الثلج، فتفجر هذه الشجير يوما أو بعض يومين،
ولا تلبث الريح بعد ذاك أن تطوقها، وتنثر ورقها، قبل أن ينتشر عرفها الشذي؛ وعصفور صغير، شجي اللحن، حزين النفس، يقع على غصن الشجيرة المنعطف فيغرد تغريدا شجيا، هو إلى الحزن والبكاء، أقرب منه إلى الترجيع والغناء!
إيه أيتها الزهرة، التي طالما أذوتها الحياة،
رددي القول معي: (ألا توجد هناك أرض، نعود فيها إلى الحياة ثانية، فتزدهر فيها أنفسنا ونعيش فيها عيش السعداء الناعمين؟
هيا اصعدي إذن! اصعدي أيتها الروح الذاوية، وتذكري مضى الساعات الخالية. ان ذكرياتك المحزنة لتساعدني أن أنفث زفرة الحزن الباقية!
أذهبي معها، أيتها النفس حيث تذهب وتمضي! ودعيني لوحدي أيتها الأفكار المضطربة.
لقد طفح قلبي بالذكرى
فدعيني أنوح وأبكى
(حماه: سوريا)
أديب لجمي
القصص
عزاء. . .!
للأستاذ لبيب السعيد
قطع الشك اليقين. إن سكوت أبيه هو سكوت الموت. لقد مات ككل الذين ماتوا من الأهل والجيران والمعارف، وإلا فما هذا الصراخ في البيت، ولم النحيب، ولم احتشاد هؤلاء الأقارب والقريبات وقد أقبلوا من الليل على غير عادة؛ ولأية مناسبة يقيم الفراشون سرادقا، وفيم قول الناس: تجلد. . البقية في حياتك! بل - وما أشد وما أعظم كيف يتحدث إليه شيوخ الآسرة كالمستشيرين في أمور فاجعة: الكفن والمغسلين والمقبرة والمقرئين. .، وكيف طلعت صحف النهار حاشرة اسم أبيه في زمرة الموتى، وكيف ترد عليه البرقيات بالعزاء من شتى الجهات؟
الأمر إذن لاريب فيه. وأخواته إذ تنفرد كل منهن الآن في حجرة باكية ولهى، إنما يبكين أباهن الذي انتاشه الموت منهن فجأة، والذي يدركن على غرارة صباهن أنهن بعده ولا رجاء لهن ولا جناح يرف عليهن أصبحن بذل اليتيمات. وأخوته وهم لم يتخطوا بعد سن اليفاعة إذ يلبسون الأربطة السوداء ويذيلون الدموع في حزن أخرس تارة وحزن ثائر تارة، ويسيرون مترنحين يتحاملون على أنفسهم، إنما يقع لهم هذا لأن الدهر الضرار بت آمالهم ورابهم في أبيهم. وأمه إذ تذرع البيت ذاهلة حيرى مولهة إنما تفعل لأن مصابها فيمن هو من هولها ولبناتها وبنيها، سلبها سكينتها وهد أعصابها هدا.
وانفجر (فؤاد) يبكي، لقد كان عليه - فيما يحس - أن يبكي لأمه وأخواته وأخوته، وأن يحزن ويخاف لا بقلب واحد ولكمن بثمانية قلوب.
وسار خلف نعش أبيه فياض الشؤون يعض على شفتيه كالمتصبر، أو يفتحهما عن ابتسامة هستيرية مزعجة، ويسكت فترة لينطق بكلمات مضطربة فترة أخرى.
وأوقفوه في الليل عند باب السرادق يتلقى العزاء مع كبار الأسرة، فكان يتلقى ألفاظ المواساة بوجوم صامت أليم. كانت هذه الألفاظ لا تكاد تفتق سمعه، كانت تسبح لديه، وكان أقواها وأفصحها أعجز من أن يشفى داءه الثائر أو يداوي جرحه الغائر. وانفض المعزون وانفض (فؤاد) إلى نفسه. . .
ما أعظم فجيعته! أبوه مات، وكان على أبيه أن يموت ماجدا كما مات من لم يكدحوا في الحياة كدحه حتى ممن عرفهم فؤاد فيما اجتاز من شبابه. ولكن، وا ذلاه! إن الحياة لم تمكن أباه من شئ، لقد أفقدته التجارة ثروته، ولم يدع له الجهاد في سبيل الرزق فرصة فسيحة للجهاد في سبيل غرض كبير. لقد مات بعد طول النصب وفرط اللغوب ولكنه لم يورث بنيه رفعة ولا ثروة ولا مجدا. تركهم بقلوب كسيرة، ومثله كان جديرا بما يذل من ذات نفسه أن يترك بنيه في مقام كريم ونعمة.
هذه أفجع شعب المصيبة! هكذا قال فؤاد لنفسه.
وجاء شيخ الحارة، ومعه معاون المجلس الحسبي، يحصيان تركة الميت. . .
يا خجلتا! ان التركة ليست إلا حطام ثروة، كل شئ أودى به الحرص على شئ واحد نشأ (فؤاد) فرأى أباه يردد لفظه ويتغنى بمعانيه: الشرف.
وأحس فؤاد يتمه ويتم أخوته أقوى ما يكون الإحساس، وتبدت له المصيبة فادحة مروعة، فبيتهم اليوم بين أرملة وصبيان وصبيات لا مال لهم، فهم حريون ألا ينجحوا في الحياة لأنهم فقدوا عصبها. وهم بعد لا يملكون الاسم الضخم الذي يوارون فيه فقرهم، أو الجاه البعيد الذي يعتصمون به من العالم الساخر.
وريع فؤاد، ورخصت عبراته، فهي مبذولة كلما رأى أخوته وأمه، وكلما رأى الأقارب أو الأباعد، وكلما رأى أحباءه، وكلما رأى أعداءه، وكلما رأى غنيا أو ماجدا، وكلما رأى فقيرا أو مغمورا، وكلما سمع عن المباهج أو عن الأحزان.
وشعر أنه ما دام كبير اخوته فقد أصبح أباً لهم بعد أبيهم، وعليه أن يضمن لهم دوام الدعة، وأحس أن بينه وبينهم فرقا كبيرا في السن. إن الأربعة والعشرين عاما التي سلخها طفرت فجأة فصارت ستة وخمسين كما كانت سن أبيه.
وجاءت ليلة الجمعة الأولى، فأضاء فناء البيت والمناظر، وقعد يستقبل المواسين من ذوي قرباه ومن خاصة أبيه، والحزن ينهشه نهشا، والجزع على مستقبله ومستقبل اخوته وأخواته الذي ما زال في ضمير الغيب يهفو بقلبه.
واستمتع في غير اكتراث كعادته إلى كلام المواسين، وغلبه البكاء كعادته أيضاً فانخرط فيه. . .
وجاء رجل لا عهد لفؤاد به تحف به شمائل الطيبة وينم مظهره عن يسار؛ جاء يسأل: أليس هذا هو بيت المرحوم الشيخ حامد أبو إبراهيم؟
- بلى هو، تفضل. . .
ودخل، هو يهتف بالجالسين: عظم الله أجركم!
وشرب القهوة، ثم اتجه بوجهه إلى فؤاد الذي كان إلى جواره وسأله: أنت كبير أخواتك يا بني!
- نعم.
أجمل الله عزاءكم يا حبيبي، ورعاكم الله الكريم! لقد قرأت نعي أبيكم العظيم في الجريدة، فآثرت الحضور بنفسي لقضاء حق التعزية.
ودهش فؤاد للنعت الكبير الذي يضفيه الرجل على أبيه، فمتى كان مثل أبيه عظيما وهو الرجل الذي مات ولم يخلف ثروة تدفع الخجل على الأقل أمام رجال المجلس الحسبي؟ ان العظيم في المجتمع هو الذي يورث ذريته بيوتا وطينا وغلاة وجواميس وحميرا، ولكن أباه أفنى كل شئ قبل سفرته البعيدة. لقد مات وماله ما يخلد ذكره أو حتى ما يكفل ذكر اسمه يوما، ولقد ترك من خلفه ذرية ضعافا يخاف عليهم. . .
ووضع الرجل يده على كتف فؤاد، واتجه به إلى منظرة ليس فيها زحمة، وحدثه: اسمع يا بني، إن مصابكم كبير حقا. لقد عرفت أباك لأول مرة منذ عشرين عاما. والظن أنك لا تعرف ذلك. كان أبوك وقتئذ عنوان التاجر الناجح ولو أنه كان محدود رأس المال. وجئت إليه اشترى صفقة أرز، ولم يكن معي غير مائتي جنيه أملت أن أدفعها له عربونا عن الصفقة على أن أبيعها حالا فأتمكن من أداء حقها والانتفاع بربحها. وتضمنت الشروط أن أدفع باقي الثمن في عشرة أيام وإلا صار العربون حقا له. وإذا تحسنت الأسعار فله أن يعتبر البيع باطلا ذلك يا بني كان وما زال العرف التجاري السائد.
وخطر لي فجأة السفر إلى الإسكندرية لبيع الصفقة الكبيرة ففجأني حادث اصطدام أدخلني المستشفى شهرا لم يدر خلاله أحد من أهلي أو معارفي شيئا عني. وكنت لاقيت الحادث في أجل مستأخر فسلمت.
وغادرت المستشفى إلى بلدي، فكيف كانت السوق وقتئذ؟ لقد عرفت والحسرة تقطع فؤادي
أن السعر ارتفع إلى نحو الضعف فقدرت في شأن الصفقة ما لابد من تقديره، وأيست من العربون، ودخلت بيتي مهموما محزونا. ولم أكد أطمئن زوجتي على حالي، حتى قدمت إلى برقية بتوقيع أبيك نصها:(نقدر أنك تأخرت لسبب قاهر، فاطمئن. البضاعة لك) ولم أصدق ما قرأت، وتخالجتني الريب، أتكون خدعة من أحد عرف بالأمر؟ أتكون سخرية من سمار شامت؟ أتكون. . أتكون. .؟ وقدمت على أبيك في متجره توا، ومعي مصوغات امرأتي وبناتي، ووجه الأمل يبيض في وجهي حينا ويسود حينا فإذا بأبيك يستقبلني مبتسما كأن لم يكن تأخير، وكأن لم تكن شروط لصالحه.
وعرضت عليه - وكرمه الرائع يبهرني - أن يشاركني ربح الصفقة، فرد في شدة كريمة: هذا لن يكون!! وكانت هذه الصفقة بالذات بدء تقدمي في الحياة.
وأخرج الرجل من حافظته برقية كاد البلى يتلفها، وأطلع عليها (فؤاداً). فأمعن فؤاد النظر إليها في استغراب بالغ. إنها من أبيه حقا، وان عليها لخاتم مصلحة البرق في المدينة من حوالي عشرين عاما حقا. واستطرد الرجل قائلا: هذه يا بني شهادة العظمة في أبيك. وإني لأحتفظ بها تقديرا لمأثرته، بل تبركا بمروءته.
وربت الرجل كتف فؤاد وهو يقول: كفكف دموعك يا بني، هذه قصة أبيك، ألا ترضى بها عزاء!
ورفع فؤاد رأسه الخافض، وابتسم في رضى وازدهاء، وكأنه أمسك بزمام مستقبله ومستقبل ذويه، وكأنما أضاءت الظلمات، وكأنما شاهد عناية الله تشجعه وتحف أخوته وتكلؤهم جميعاً.
وختم المقرئون السهرة، فنهض المعزون وفيهم الرجل وخف فؤاد إلى الباب يشكر لهم مواساتهم، وما انصرفوا حتى صعد إلى أمه وأخوته وأخواته، يقفز إليهم السلم قفزا غير خاش دموع أمه التي كانت تحز قلبه، ولا وجل من إجهاش أخواته الذي كان ينهدم له انهداما، صعد غير متعثر ولا مضطرب ونادى:
يا أولادي! - هكذا ينادى فؤاد الآن أسرته - جاءنا العزاء! هاكم قصة أبيكم، لكم من روحه قدوة ووحي وإمام وأسمعهم القصة. . .
ونظر بعضهم إلى بعض في زهو وكأنما امتلئوا قوةً انبثق الأمل في نفوسهم انبثاقا، كأنما
انتشر عليهم رواق الأمان فجأة. وعلت وجوههم ابتسامات حلوة، وترقرقت في المآقي الدموع: دموع الفرح لا دموع الأحزان.
لبيب السعيد