الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 683
- بتاريخ: 05 - 08 - 1946
مراجعة ديمقراطية
للأستاذ عباس محمود العقاد
معرفة الحاضر على ضوء الماضي كمعرفة الماضي على ضوء الحاضر: كلاهما وسيلة من وسائل المعرفة الصحيحة بعد المقابلة بين الحالات المختلفة
ومنذ أيام رجعنا إلى وثائق الحركة الدستورية والحركة الاستقلالية على عهد الاحتلال، لأنهما مدار القضية المصرية، وهي الآن في دور الفصل والتقرير. فوقفنا على نبذ من طرائف التاريخ القريب تدلنا على ما نحن فيه وما كنا فيه، وتحتاج إلى بعض التوضيح من طريق التعقيب
كان لورد كرومر يتكلم عن المطالب الوطنية في تقريره عن سنة 1906 فقال عن مطالب الحزب الوطني: (. . . فهمت إنه يطلب إنشاء مجلس شبيه بمجلس النواب البريطاني. ولا أدري هل كان يطلب حصر السلطة كلها في مجلس واحد، أو إنشاء مجلس ثان بمثابة مجلس الشيوخ في فرنسا، أو مجلس الأعيان في إنجلترا، ولا أدري كذلك هل كان يقصد إن ذلك المجلس النيابي المصري يسن القوانين لسكان القطر المصري كلهم بلا فرق ولا تمييز، أو يسنها لرعايا الحكومة المحلية وحدهم دون غيرهم. . . فلعلي لا أخطئ إذا قلت أن ذلك الحزب يطلب أولا أن تكون الوزارة مسئولة لذلك المجلس، وأن يتوقف وجودها على بقاء أكثريته معها، وثانيا أن تكون للمجلس السيطرة التامة على مالية البلاد كما هي الحال في المجالس التي ينتخب أعضاؤها في بلاد الإنجليز وفي غيرها من البلدان الأوربية)
ثم قال: (فلو قبل طلبه الأول لأفضى إلى الفوضى بلا مبالغة، لأنه يثير الدسائس على اختلاف أنواعها، ويعيد القوة إلى الرشوة التي كانت ضاربة إطنابها في طول البلاد وعرضها، ولا تزال إلى يومنا هذا تموت موتا بطيئا جدا، ولا يبعد إنه يعيد أسوأ مساوئ الحكومة الشخصية تحت ستار المجالس الحرة الشورية. ولو قبل طلبه الثاني وتولى المجلس مراقبة المالية، لأفضى ذلك بالأمة إلى الإفلاس لا محالة. . .)
هكذا كان لورد كرومر يقول قبل أربعين سنة في إبان سيطرة الاحتلال
ومهما يكن الظن بالباعث له على هذا الرأي سواء اعتقده أو غلبت عليه المصلحة السياسية
فيه، فقد كانت الرقابة البرلمانية هي الشرط الذي اشترط الإنجليز عندما سلموا ببعض الحقوق الوطنية في سنة 1922، أي بعد تقرير كرومر بخمس عشرة سنة. فلم يتشاءموا بالحياة النيابية المصرية يومئذ كما تشاءموا بها قبل تلك الفترة، ولم يجهلوا ما فيها من الضمان أيا كان غرضهم المقصود من ذلك الضمان
ومضت بضع وعشرون سنة على حياة نيابية متقطعة، فلم بفض الأمر إلى الإفلاس في ثروة الحكومة أو ثروة الأمة، بل زادت موارد الحكومة ثلاث أضعاف، ونشأت للأمة موارد صناعية وتجارية لم تكن معروفة عند كتابة ذلك التقرير
وعزل لورد كرومر بعد كتابة هذا التقرير بأقل من عام واحد، فخلفه سير الدون غورست، وكتب عن الانتخابات المصرية التي حدثت في أول عهده فقال:(تمت الانتخابات لمجلس شورى القوانين والجمعية العمومية في آخر السنة الماضية. ولما كانت الميول قد اتجهت مؤخراً إلى إدخال شكل من أشكال الحكم النيابي إلى هذه البلاد، فيحسن بي أن أروي بالتمام ما يحدث في هذه الانتخابات)
وبعد أن أوجز القول عن قانون الانتخاب قال: (في القاهرة 134000 بالغ مصري، ولكن المقيدة أسماؤهم في السجلات منهم 34000، وقد بلغ عدد الذين اقترعوا من بين هؤلاء 500 فقط، أي 4 ، 4 في المائة من الذين قيدوا أسماءهم في السجلات، و 1 ، 1 من مجموع الذين لهم حق الاقتراع. وكان عدد المندوبين الذين اقترعوا في الانتخاب الثاني 12 فقط بدلا من 13 على عدد دوائر القاهرة لان الانتخاب لم يتم في إحدى الدوائر إذ لم يترشح أحد للانتخاب).
ومضى في إحصاءات كهذا الإحصاء للدلالة على قلة إقبال الشعب على الانتخاب ثم قال: (ولكن الحال تتبدل متى دخل الانتخاب في طوره الثاني واجتمع المندوبون لانتخاب أعضاء مجلس المديرية أو الجمعية العمومية أو مجلس الشورى حسبما تدعو الحال؛ فإن الاهتمام يشتد اشتداداً عظيماً وينصرف هم المرشحين إلى اكتساب أصوات الناخبين، وقل أن يتخلف أحد من المندوبين عن الحضور).
ثم قال: (فالأحوال التي تتم الانتخابات العمومية المصرية فيها تؤيد رأي الذين يرون أن هذه البلاد لا تزال بعيدة جداً عن بلوغ المنزلة التي يستطاع فيها إنشاء شيء من المجالس
النيابية الحقيقية، وقد يتيسر تشكيل مظاهر حكومة كهذه، وإنما يستحيل ضمان تمثيل آراء أكثرية الأمة تمثيلاً صحيحاً فتكون النتيجة الوقوع في أيدي السياسيين الذين لا يهمهم سوى مصلحتهم فيسهل عليهم العبث بالنظام حتى يطابق أغراضهم).
ثم ختم هذا البحث بالكلمة التي تستحق الوقوف لديها كثيراً لأنها هي النتيجة المستخلصة من جميع هذه المقدمات إذ يقول: (لست أريد أن يحمل كلامي على رغبتي في الحط من فائدة هذين المجلسين في شكلهما الحالي أو المعارضة في ترقيتهما تدريجياً على نسبة قيامهما بتأدية ما أنيط بهما بالحكمة والعقل. فإن الاقتراحات التي يقترحها هذان المجلسان كانت تقع موقع الاعتبار لدى الحكومة دائماً، وقد تيسر في السنوات الأخيرة قبول كثير من اقتراحاتهما مما يدل على أنهما سالكان السبيل القويم. . .).
فالسير الدون غورست لم يكن مقصراً في تصوير عيوب الانتخاب، ولا كان عظيم الرغبة في الشهادة لمجلس الشورى أو الجمعية العمومية، ولكنه اعترف بالحقيقة التي هي خلاصة البحث في هذا الموضوع، وهي أن الهيئات النيابية تأتي بالفائدة التي لا يستغني عنها أيا كان نظام الانتخاب ومبلغ العناية بإعطاء الأصوات بين الناخبين.
ونحن نعلم من التجربة أن نظام الانتخاب ذو شأن في الحياة النيابية، ولكننا لا نبالغ في شأنه حتى نحسب إنه يغير تمثيل الأمة في مجالسها الدستورية.
فالطبقة التي يتألف منها مجلس النواب المصري هي هي بعينها كلما جرى الانتخاب على اختلاف القوانين من الدرجة الواحدة إلى الدرجتين ومن المندوبين الثلاثينيين إلى المندوبين الخمسينيين، وهي هي بعينها بالغاً ما بلغ عدد الناخبين في العواصم والأقاليم، لأن ألف ناخب يمثلون العناصر المصرية كما يمثلهم عشرة آلاف أو أكثر من عشر آلاف، إذ كان الاختلاف مقصوراً على العدد فلا يتجاوز ذلك إلى الاختلاف في تركيب البنية الاجتماعية أو تعدد المصالح الطائفية. فمائة ساكن من سكان المدن يمثلون آراء الشعب ويؤلفون عناصره كما يمثلهم أو يؤلف عناصرهم ألف أو ألفان، ومن أجل هذا لا يصح أن يقال أن قلة الناخبين تخرج للبلد مجلساً لا يمثل أكثرية الأمة كما قال السير الدون غورست في تقريره. فإن الألف تكرار (عددي) للمائة لا يترتب عليه تغيير في حقيقة المصالح ولا في حقيقة التكوين الاجتماعي ولا في حقيقة التربية السياسية. فلا سبيل إلى تمثيل اصدق من
هذا التمثيل بزيادة العدد أو تعديل بعض الشروط.
أما إذا تبدل تكوين العناصر الاجتماعية في الأمة فيومئذ لا يغنى الألف عن عشرة الآلاف، ويومئذ يتحرك العشرة الآلاف جميعاً لإعطاء أصواتهم لان مصالحهم لا تمثلها مصالح ألف منهم أو ألفين، ويومئذ يتعلق الأمر بالبواعث النفسية التي تحفز الناخب إلى الاهتمام بإعطاء صوته لمن يرضاه، ولا يتعلق الأمر بالنصوص الحرفية أو بالكمية العددية، لأن النصوص الحرفية لا تخلق الاهتمام، ولا تخلق المصالح التي تبعث في النفوس ذلك الاهتمام.
نعم إن القوانين تحتاج إلى التعديل بين الحين والحين لرفع بعض القيود وتوسيع بعض الحقوق، وليس هذا الذي ننفيه وننكره لأنه بديهي واضح لا يقبل النفي والإنكار، ولكننا نريد أن نقول إن شأن النصوص والكميات العددية دون ذلك الشأن الضخم الذي يبالغ فيه بعض المعقبين على إحصاءات الانتخابات؛ لأن تغيير النصوص كما رأينا لم يغير (تركيبة) المجلس النيابي في مصر لا من حيث الطبقة ولا من حيث الكفاءة ولا من حيث المزايا الاجتماعية أو الخلقية، ولان عدد الناخبين يغنى فيه ألف كما يغنى فيه عشرة آلاف، إذا كان هؤلاء جميعا على تشابه في العناصر الاجتماعية والمصالح الطائفية، فيصح التمثيل القومي بالعدد القليل كما يصح بالعدد الكثير.
تلك هي عبرة المقابلة بين نظم النيابة في العهد الحاضر ونظم النيابة في عهد الاحتلال.
أما حركة الاستقلال فقد كان لورد كرومر حريصاً على تقرير الواقع في وصفها حين قال: (. . . إذا قلنا أن الحركة الوطنية المصرية الحالية ليست إلا حركة نحو الجامعة الإسلامية لم يطابق قولنا الواقع من كل وجه) ولعله لم يخالف الواقع كثيراً حين وصف تلك الحركة في أيامه فقال إنها مصبوغة صبغاً شديداً بصبغة الجامعة الإسلامية) ثم عاد فقال: (وإني على الرغم من جميع الظواهر لا أزال غير مقتنع بأن الميل إلى الجامعة الإسلامية متأصل كثيراً في الهيئة الاجتماعية المصرية. بل إني واثق إنه لو كان المصريون يعتقدون إمكان إخراج الآراء المتعلقة بتلك الجامعة من القوة إلى الفعل لانقلب الرأي العام عليها انقلاباً عظيماً سريعاً. . .).
هذه التفرقة بين حركة الاستقلال وحركة الجامعة الإسلامية هي نظرة مشكورة من سياسي
إنجليزي لا يرضيه إعلان الحقيقة في هذا الموضوع على التخصيص، ولكننا على يقين أن الجيل الذي انقضى بعد كتابة التقرير الكرومري قد فصل في هذه المسألة فصلاً لا يجوز اللبس فيه. لأنه قد ابرز حب الاستقلال الوطني بمعزل عن العصبية الدينية. فلا يقال أن المصري يقبل الحكم الأجنبي من أبناء هذا الدين ويرفضه من أبناء ذلك الدين وإنما يطلب الاستقلال لأنه يؤمن بأن مصر للمصريين، أيا كانت عقائد هؤلاء المصريين.
عباس محمود العقاد
من تاريخ الإسلامي:
حكاية الهميان.!
للأستاذ علي الطنطاوي
(كتبت بطلب من (محطة الشرق الأدنى) لتذاع أول رمضان
سنة 1365)
كان أذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومائتين للهجرة، فيهبط على تلك الذرى المباركات من قعينقاع وأبى قبيس، فينساب مع نسيم السحر رخياً ناعشاً، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت محطة بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعاملين، حتى يمسح ستور الكعبة، فيتنزل على من في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين. . .
وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها، وتبصرها بقلوبها، وتقوم وراء الجبال الشم والبحار، في المدن والقرى، والصحارى والسهول، والأودية والقمم، في القصور والأكواخ، والسجون والمغائر، في القفار المشتعلة حراً، والبطاح المغطاة بالثلج. . تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.
وأم أهل مكة الحرم، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وإن محطم ما عليه إلا قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشوا به بطونهم من طيبات الطعام، من كل حلو وحامض، وحار وبارد، وسائل وجامد، ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع، فقد امسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قلبها بلا غداء. . . فلما قضى صلاته قعد في محرابه منكسراً حزيناً، وما كان يفكر في نفسه فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه عليه الدنيا حتى نسى نعيمها وازدراها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله، وهو كاسبها ومعيلها، وهذه المناكب العارية. . . ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيراً، ويضيعون الألوف في الباطل على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا
يجده. . . لثار على الدنيا، وذم الزمن، وحقد على الناس، ولكنه كان رجلا مؤمناً موقناً إن الله هو الذي قسم الأرزاق فأعطى - لحكمة يعرفها - ومنع، وإن الناس لا يملكون عطاء ولا منعاً، وإن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
فقال: أه. الحمد لله على كل حال!
وقام فنزع القميص، ونادى: يا لبابة. فجاءت امرأة ملتحفة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص وأخذ الخرقة فالتف بها. . . فقالت المرأة: يا أبا غياث، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاماً، وهذا يوم صيام وحر. . . فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات والعجوز لا يقدرن على الصبر، وقد هدهن الجوع، فاستعن بالله، واخرج فالتمس لنا شيئاً فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها لفطورنا.
قال: أفعل إن شاء الله.
وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها، وكان الناس قد انصرفوا إلى دورهم ليقيلوا فلم يلق في تطوافه أحداً. واشتد الحر، وتخاذلت ساقاه، وزاغ بصره، وأحس بجوفه يلتهب التهاباً من العطش، وكان قد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار. وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمناً، فيتخلص من هذا الشقاء وينال سعادة الأبد. وجعل ينكت التراب بيده، وهو سادر في أمانيه، فلمس يده شئ مستطيل لين، فسحبها ونظر فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب، فتعوذ بالله، ثم عاودته رغبته في الموت، وتمنى لو تلدغه فتريحه، ثم ذكر إنه لا ينبغي للمؤمن أن يطلب الموت، وإنما ينبغي له أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الموت خيراً لي. فقالها واستغفر الله. وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة، فعجب منها ولمسها برجله، فلم تتحرك فبحث عنها وحفر، فإذا الذي رآه حزام وليس بحية، فشده فجاء في يده (هميان) فيه الذهب، عرفه من رنينه وثقله، فأحس كأن جوعه وعطشه قد ذهبا، وكأن القوة قد صبت في أعصابه، والشباب قد عاد إليه. . . وتصور إنه سيحمل إلى نسائه الشبع والدعة والراحة، ويملا أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الحياة ورغد العيش، وجعل يفكر فيما يشتريه لهن، وكيف يتلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن حتى كاد يخالط
في عقله. ثم تنبه في نفسه دينه، وعلا صوت أمانته يقول له: إن هذا المال ليس لك. إنما هي لقطة لا بد لك من التعرف بها سنة فإذا لم تجد صاحبها حلت لك. وتصور السنة وطولها وهو الذي يبحث عن عشاء يومه. . . وهل يبقى حياً سنة أخرى؟ وهل تبقى أسرته في الحياة؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعد ما مات من الجوع. ومات معه من يرثه؟. . . وأحس كأن قواه قد خارت، وود لو أعاد الهيمان إلى مكانه، ولم يكن قد ابتلى بهذه البلية. . . ولكنه كان رجلا فقيهاً يعلم أن اللقطة أن مست فلا بد من التعرف بها، وان هو أرجعها إلى مكانها وفقدت كان المسئول عند الله عنها، أما إذا لم يمسها فلا شيء عليه منها. . .
وجعلت الأفكار تصطدم في رأسه وتتراكض وتصطرع وحتى شعر أن عظم صدغيه سيتكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه، وطفق يسمع صوتاً يهتف به ان: خذها فهي رزق ساقه الله إليك. ادفع بها الموت عن بناتك اللاتي اطاف بهن الموت. اشبع بها هذه الأكباد الغرثى. اكس هذه الأجساد العارية، ثم إذا أيسرت رددتها إلى صاحبها، أو دفعتها إليه ناقصة دنانير لن يضره على غناه نقصها. ثم يسمع هاتف دينه يقول له: اصبر يا رجل ولا تخن أمانتك، ولا تعص ربك. وعقد العزم على الصبر، واستعان بالله، وذهب إلى داره يخبأ الهميان حتى يجئ صاحبه. . . أو يحكم الله فيه. .
ودخل الدار متلصصاً، فرأته امرأته فقالت:
ما جاء بك يا أبا غياث؟
قال: لا شيء. واحب أن يكتمها خبر الهميان، وما كان يكتمها من قبل أمراً.
قالت: بلى والله؛ إن معك شيئاً، فما هو؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها. . . فقص عليها القصة، وكانت امرأة تقية دينة، ولكنها أضعف منه إرادة، وأوهن عزماً، فقالت:
افتحه، وخذ منه دنانير اشتر لنا بها شيئاً، فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة. . .
قال: لا والله، ولئن مسسته أو خبرت خبره أحداً فأنت طالق.
وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه، لعله يأخذ منه شيئاً حلالا يدفع به الضر عن عياله.
ومشى الحرم، وكان فيه شاب طبري طالب علم.
قال الشاب الطبري: (فرأيت خراسانيا ينادي، معاشر حاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده على، أضعف الله له الثواب. فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال: يا خراساني، بلدنا فقير أهله، شديد حاله، أيامه معدودة، ومواسمه منتظرة، ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا، فيأخذه ويرده عليك. قال الخراساني: يا أبا. وكم يريد؟ قال: العشر، مائة دينار. قال: يا أبا. لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى. وافترقا).
قال الطبري: (فوقع لي أن الشيخ هو الواجد للهميان فاتبعته، فكان كما ظننت، فنزل إلى دار مسفلة زرية الباب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة! قالت: لبيك أبا غياث. قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا. فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئاً، فقال: كم؟ قلت؛ عشره. قال لا نفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجل، فأيش نعمل؟ لا بد لي من رده. فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم).
يا أبا غياث إن الله اكرم من أن يعاقب رجلاً يحيي هذه الأنفس، انك لم تسرقه ولم تغصبه، ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله بها عليك، إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة. . .
وتصور الشيخ بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحبطة الجوفاء تتردد فيها الأنفاس، ففاضت نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه. . . ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة. . . لقد ود لو استعان بشيء من هذه الدنانير. . . ولكنه ذكر إنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع ذلك كله في لذة اليوم، وذكر إنه على شفير القبر وأنه سيلقى الله فما كان ليلقاه خائناً أمانته، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم، وشد من عزمه، وصاح بها:
(لست أفعل، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة).
قال الطبري: (ثم سكت وسكتت المرأة. وانصرفت أنا).
وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساؤه على كسيرات وتمرات التقطها لهم. . . وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء يأكلونها ويستمتعون بها، وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وان الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب. . . ولكن ليذكرنا هذا الجوع الاختياري الموقوت أن في الدنيا من يجوع جوعاً إجبارياً لا حد له ينتهي عنده، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا مذكر بالإحسان. فمن يقعد إلى مائدته الحافلة بالطعام، وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه ولا يشاركه طعامه فما صام ولا عرف الصيام، وان جاع نهاره كله وعطش. . .
إن العادة تضعف الحس، وان ألف النعم يذهب لذتها، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقر فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار اللقمة من الخبز الطري، والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية وهذه الجرعة الباردة نعمة من النعم فلا ندع الإحسان مهما كان قليلاً، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها. ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل هذه اللقم وتصدق بالرغيف. . .
كان الشيخ يفكر في هذا، فيألم لما صارت إليه حال المسلمين، ثم يذكر أن الله هو ملهم الخير، ومصرف الأرزاق، فيحمده حمد رجل مؤمن راض. . . وأمضى ليلته الرابعة بلا طعام، لأنه ترك التمرات والكسيرات للعجوز والبنات يتبلغن بها. . .
قال الطبري: (فلما كان من الغد سمعت الخرساني يقول: معاشر الحاج ووفد الله من حاضر وباد، من وجد همياناً فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب. فقام الشيخ إليه، فقال: يا خرساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك، وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعله يقع في يد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل، فامتنعت فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة.
فقال له الخراساني: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل. ثم افترقا.
فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه، فقام إليه الشيخ. فقال، يا خراساني: قلت لك أول أمس العشر منه، وقلت لك أمس عشر العشر عشرة دنانير فلم
تقبل، فأعطه ديناراً واحداً عشر عشر العشر، يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله.
قال: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.
فرأى الشيخ أن لا حيلة له فيه، وانقطع آخر خيط من حبال آماله، وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها. . . وان هذا الخراساني منعهم ديناراً واحداً من ألف يدفعون به الجوع والعرى والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها، أو يدفعها إليه ناقصة ديناراً، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة، وهو يعلم إن لذات الدنيا كلها لا تنسي كربة واحدة من كرب يوم الحشر، وشقاءها كله تذهبه نفحة واحدة من نفحات الجنة؟ لا والله، ولقد روي في الحديث أن (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه)، فترك له الهميان، وقال للخراساني:
تعال خذ هيمانك. . .
فقال له: امش بين يدي. . .
قال الطبري: (فمشيا وتبعهما، حتى بلعا الدار. فدخل الشيخ فما لبث أن خرج، وقال: ادخل يا خراساني، فدخل ودخلت، فنبش الشيخ تحت درجة له فاخرج الهميان اسود من خرق غلاظ، وقال: هذا هميانك؟ فنظر إليه، وقال: هذا همياني.
ثم حل رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مراراً، ثم قال: هذه دنانيرنا).
وكانت لبابة والبنات ينظرن من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله، وحسبنه قد فقد من الأرض، كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم. . . يتمنى لقمة منها يشد بها صلبه. . .
(وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده، ووضعه على كتفه وقلب خلقاته فوقه وخرج). ولم ينظر في وجه الشيخ، ولم يلق في إذنه كلمة شكر. . . وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها، وكأن شعبة انخلعت من قبلها، فطارت وراءه، وشده البنات، ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولا. . . فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس. . .
وسمع الشيخ حركة، فنظر فإذا الخراساني قد رجع. . . فرفع إليه رأسه ينظر ماذا يريد،
وكان أولى به أن يعرض عنه، وان يبغضه، وقد منعه ديناراً واحداً يحيي لو جاد به عليه هذه الأنفس المشرفة على الموت، ولكن الشيخ كان رجلا سمحا لا يتسع قلبه البغضاء، فقام إليه وسأله عما رجع به، فقال الخراساني:
(يا شيخ، مات أبي وترك ثلاثة آلاف دينار، فقال، اخرج ثلثها ففرقه في أحق الناس عندك له، وبع رحلي واجعله نفقة لحجك، ففعلت ذلك، وأخرجت ثلثها ألف دينار، وشددته في هذا الهميان، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى الآن جلا أحق به منك، فخذه بارك الله لك فيه.
ووضعه وولى).
قال الطبري: (وكنت قد ذهبت فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني، فرجعت إليه فقال لي: لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم، وعلمت انك عرفت خبرنا، وقد سمعت أحمد بن يونس اليربوعي يقول: سمعت مالكا يقول: سمعت نافعاً يقول: عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر ولعلي رضي الله عنهما: إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها، ولا ترداها فترداها على الله؛ فهي هدية من الله والهدية لمن حضر. فسر معي.
فسرت معه. فقال لي: إنك لمبارك، وما رأيت هذا المال قط، ولا أملته قط، أترى هذا القميص؟ إني والله لأقوم سحرا فأصلى الغداة فيه، ثم انزعه فتصلى فيه زوجتي وأمها وبناتي وأختاي واحدة بعد واحدة، ثم البسه وأمضى اكتسب إلى ما بين الظهر والعصر، ثم أعود بما فتح الله به علي من اقط وتمر وكسيرات كعك فنتداول الصلاة فيه. . .
حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى: يا لبابة يا كيتنه يا فلانة وفلانة، حتى جئن جميعاً فأقعدهن عن يمينه، وأقعدني عن شماله؛ وحل الهميان وقال: ابسطوا حجوركم، فبسطت حجري، وما كان لواحدة منهن قميص له حجر تبسطه فمددن أيديهن، وأقبل يعد ديناراً ديناراً، حتى إذا بلغ العاشر قال، وهذا لك، حتى فرغ الهميان فنال كل واحدة منهن مائة دينار، ونالني مائة)
ولما أذن المغرب، وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس، عليها الطيبات من الطعام، قال لامرأته:
أرأيت يا لبابة؟ يا لبابة إن الله لا يضيع أجر الصابرين، إن الله هو أرحم الراحمين يا لبابة، لقد منعنا أنفسنا ديناراً حراماً، فجاءنا الله بألف حلال. وأكل الشيخ لقيمات، ثم قام ليخرج، فقالت له امرأته:
إلى أين يا أبا غياث؟
قال: افتش، فلعل في الناس فقيراً صائماً، ولا يجد ما يفطر عليه، فنشركه في طعامنا. .
ذيل القصة:
قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري:
(وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقوت بها، وكتبت العلم سنين، وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك، وعلمت أن الشيخ توفي بعد ما فارقته بشهور، فكنت انزل على أزواجهن وأولادهن فاروي لهن القصة، ويكرموني غاية الإكرام.
وسألت عنهم بعد ذلك بأربعين سنة فعلمت إنه لم يبق منهم أحد، رحمة الله عليهم جميعاً).
علي الطنطاوي
من لغو الصيف:
صراصير. . .!
للأستاذ سيد قطب
- 2 -
. . . لقيني صاحبي ذاك - أو صاحب ألبها زهير - على محطة سيدي جابر، متهلل الوجه، منطلق الأسارير. . . قال: لقد وجدت لك داراً هادئة توافق أمثالك الشعراء!
قلت: خير وبركة، وشكرت وانطلقت إلى الدار
ولكن ماذا؟
يا لعنة الله! أهذه هي الدار التي وتوافق الشعراء؟ أهذا هو الشعر عندك يا صديق ألبها زهير؟ يا رحمة للشعر والشعراء!
أيها القارئ:
أرأيت السراديب والكهوف؟ أم هل سمعت عن السراديب والكهوف؟ تلك هي الدار التي فهم صاحبنا إنها توافق أمزجة الشعراء!
تلك جناية بعض المتصعلكة على الشعر، فلقد مرت فترة كان الشعر فيها هو البؤس، أو هو التباؤس، ولم يكن الناس يصدقون أن فلاناً شاعر إلا إذا بدا في مزق مهلهلة، منتكث الشعر، يضم تحت إبطه (رزمة) من ورق الصحف القديمة، ويحشو جيوبه الممزقة بخرق من الورق الخلق، وقطع من علب السجائر وما إليها، دون فيها شعره، ولا بد أن يقول للناس: إنه جائع، وانه (خرمان) سجاير و (كيوفاً) أخرى. . . وإلا فما هو بشاعر!
ووجد هؤلاء بعض من يعطف عليهم، أما تظرفا وتباهيا بالعطف على الشعراء، وأما رحمة حقيقية لهذه الحال البائسة!
وكان هؤلاء البائسون، أو المتبائسون، يعيشون في جحور أو يقولون: إنهم يعيشون في جحور، ويصفون (صراصيرها) وفيرانها وعناكبها في كلام يهتزله بعض الناس - ولو لم يكن فيه شيء من الفن - لمجرد التظرف والتفكه، ومن هنا اختار لي صاحب ألبها زهير، تلك الدار. . .!
الصراصير. . .
ولكن. . . أهذه صراصير؟!
إنني أعرف الصراصير جيدا. . . اعرفها في حلوان! فقد شاء السفه الذي يستحق الحجر من القضاء الشرعي، إن تهمل هذه الضاحية الجميلة الفريدة بين بلاد العالم كله - كما يقول العارفون - بهوائها وتربتها ومياهها واتفاعها، حتى تصبح أكوماً من الأتربة، ومجاري من القاذورات، تسبح فيها وتعيش شتى الهوام والحشرات!
ومن هنا كانت صراصير حلوان، تلك التي كتبت في شأنها على صفحات الصحف مرات. . .
وقيل لي: اسكت فلا فائدة من الكتابة، فرنين الكلمات غير رنين الجنيهات، ومنطق العبارات غير منطق الشيكات، وهناك شركات أجنبية يهمها ألا تقوم لحلوان قائمة، ومنطقها هو منطق الشيكات، فأين يذهب منطقك أنت، ولو كان هو منطق الحق والعدل والحياء؟!
وسكت من يومها وتركت أمر حلوان لله، وليقظة الضمير العام، حين يستيقظ ذلك الضمير العام!
المهم إنني في حلوان تعرفت على جميع (عائلات الصراصير) وصنوفها وأشكالها، ولم أجد من بينها نظيراً ولا شبيها لصراصير تلك الدار التي اختارها لي صاحبي، أو صاحب ألبها زهير!
وما هذا أنت الذي تبص وتتوارى في ثقب الجدار؟ انك لست بصرصار. . . وإلا فأين خبرتي بكل صنوف الصراصير في حلوان؟
أوه. . خيبة الله عليك! هذا أنت (صرصار) عجوز، فقد لونه الذهبي، وفقد أحد شاربيه أيضا، وتقلص ظهره وانكمش وتضاءل، حتى بدا في هيئة الخنفساء! تعال هنا. . . يا لعنة الله عليك! أو هكذا تغشني فيك، وتعبث بمعارفي كلها في عالم الصراصير؟!
لا يا عم! لا يا صاحب ألبها زهير، لا ويفتح الله، لن أقيم في دار الصراصير هذه، أو في دار الشعراء!
وكلها (فركة كعب) بين الصراصير وبعض الشعراء، لا أولئك الشعراء البائسين أو
المتبائسين الذين تحدثت عنهم في الفقرة السابقة، ولكن هؤلاء الشعراء الذين كثروا في هذه الأيام، شعراء الحفلات والمناسبات والسهرات والرحلات!
يا لعنة الله!
لقد كنا استرحنا فترة من (شعراء المناسبات)، ففي عام 1932 أخرجت كتيباً صغيرا اسمه (مهمة الشاعر في الحياة وشعراء الجيل الحاضر)، وحملت فيه حملة شعواء على شعراء المناسبات، أولئك الذين قلت عنهم: إنهم كخدم الفنادق يستقبلون كل قادم ويودعون كل راحل بنفس الابتسامة، ويعدون أيام العظماء والمشهورين ليعدوا لهم - مقدما - قصائد الرثاء! انهم يأكلون على كل مائدة كالقطط الضالة! استغفر الله، بل كالصراصير!
لقد تطوروا أخيرا مع الزمن، فلم يعودوا يقولون فقط في (مناسبات) التكريم والرثاء، بل امتد رشاشهم. . فأصاب القمر وفصول السماء!. . . صراصير!!
واخترت دارا أخرى غير دار الشعراء! والدور في الإسكندرية كثير في هذا العام. إن (أغنياء الحرب) لم يزحموها تماماً. فالكثيرون قد ذهبوا إلى أوربا ولبنان، وأغنياء الحرب الذين اعنيهم ليسوا هم الذين أغنتهم هذه الحرب وحدها، فغيرهم كثير في تاريخ هذا الشعب قد اغتنوا في حروب، حروب طويلة، لا بين الدول، ولكن بينهم وبين الشعب المصري المنكوب!
حروب الجشع والطمع، والغدر والخيانة، وحروب التسفل والتبذل، ولو سن قانون: من أين لك هذا؟ لتكشفت أشياء وأشياء!
كثيرون من هؤلاء يسمون (الطبقة الأرستقراطية) ووسائل إثراء الكثيرين منهم - على مدى التاريخ - مما يندى له الجبين، بعضهم دفع اعراضاً، وبعضهم دفع خدمات لا يقوم بها الشرفاء. . ثم صاروا فيما بعد (أرستقراط)!
كثيرون من هؤلاء لم يزحموا الإسكندرية في هذا العام، لأنهم في أوربا أو لبنان، وقليلون منهم في الاسكندرية، ولهم حديث خاص في (لغو الصيف) فلندعهم الآن!
واسترحت في الدار الجديدة شيئا، وأخذت سمتي إلى الشاطئ. . هذا هو البحر، إنني اعرفه هذه هي الحياة المرحة القوية تدب في أوصالي. هذا هو صدري المقوس ينشد لاستقبال هوائه الجذل، هذه هي نفسي المنقبضة تتفتح لاستجلاء المنظر البهيج، هذه هي
أعصابي المكدودة تستروح وتنشط وتحيا. . .
وعرائس البحر. . .؟
ويحيى! إنني لا أرى هنا عرائس ولا حتى شياطين.
إن العرائس والجنيات، لأطياف هائمة طليقة، خالصة من الضرورات والقيود. ولكني أحس هنا ثقل الضرورات وصلصلة القيود. هنا أجساد تشدها الغريزة؛ هنا لحم. لحم فقط يكاد يتجرد من الروح. لحم قذر رخيص.
هنا صراصير!
محال أن تقنعني أن هذه التي تتخلع مع زميلاتها، وهي تقطع (البلاج) ذهاباً وإياباً بلباس البحر (المايوه) وكل ما فيها جسد يتخلج بالغريزة الهابطة. . . وان هذا الفتى الذي يتدسس بالنظرة الخائنة إلى مواضع الضرورة في هذه الأجساد المتخلجة، بينما يلقي بنظره متباهيا على مواضع الحيوانية في جسده (بالمايوه). . . محال أن تقنعني أن هؤلاء أو هؤلاء، عرائس البحر، أو - حتى (شياطين).
إن الشيطان أنظف وارشق وأخف، وأكثر انطلاقا من القيود! هنا لحم. لحم فقط. لحم رخيص!
رخيص. فكثير من هذه الأجساد العارية يفقد حتى قيمة اللحم العزيز. لست اشك الآن في أن الملابس من صنع حواء. فهذا التستر وهذا الخفاء هما مبعث الفتنة والأشواق - حتى الجسدية - وحين يتجرد الجسد نفسه يموت!
ولكن المرأة في هذا الجيل تفتقد حتى فطنة الغريزة وسلامتها. إنها الشهوة المريضة. شهوة الحيوان الضال الهزيل، لا الحيوان الفاره الأصيل!
وبين يوم وليلة قدمني أصدقاء إلى كثيرات، وقدمتني صديقات إلى كثيرين!
الإباحية! التي لا تخجل ولا تستحي ولا تغار!
هنا الصداقات السريعة: يبدأ التعارف ضحى. ويتم كل شيء في المساء. وفي الصباح التالي يتفرق الجميع؛ وتتبدد الصداقات، كأن لم يكن هنالك شيء. ويبحث الجميع عن شيء جديد!
سعار. . .!
وفي المساء جلست أتناول طعامي. وعلى المائدة المقابلة جلس أربعة شخوص: انهم لا يحوجون أحداً للتسمع. . فالأصوات جهورية، والضحكات رنانة.
هذه سيدة شابة، خاتم الرباط المقدس في يدها اليسرى. وهذه فتاة خاتم الرباط المقدس في يدها اليمنى. . . وما هذان؟ ليسا زوجا ولا خطيبا، فأصابعهما خلو من كل قيد!
وزجاجات البيرة. . . والضحكات والغمزات. . .
ويحيى!
إن الرجلين ليطأطئان رأسيهما خجلا، لنكتة خارجة ترسلها سيدة، وتتضاحك لها الآنسة. . . نكتة في الصميم!
ولقيت سيدة بعد لحظات فلم أتمالك أن أقص عليها ما شهدت. سيدة من آسرة. لها زوج ولها عائلة وقالت تعلق على الحادث:
يا سيدي نحن في المصيف! إن اسخف سيدة هي التي تستصحب زوجها في مصيفها، ماذا تأخذ؟ وماذا يستفيد؟ يجب أن يذهب إلى مصيف وتذهب إلى مصيف، لتكون هنالك قيمة للتصييف!
فلسفة المغامرة! ومنطق الجموح!
رباه! أتكون هذه هي مصر وأنا لا ادري؟ إنني رجل متخلف. لست - مع الأسف - من (التقدميين) في هذا الجيل!
ولكن لا. إن مصر لشيء آخر وإلا لانهارت إلى الحضيض. مصر لا تزال أمة. ولن تقوم أمة على هذا الأساس المنهار:
إنما هي حفنة من الرقعاء الذين لا أعراض لهم، ظلوا يهتفون للمرأة بهذا النشيد: وأوتي بعضهم أقلاماً وصحفاً، فلكي يرتعوا في كلأ مباح ومن اجل هذا الغرض الصغير، حاولوا إتلاف أمة، وإضاعة شعب. ولكن لم يستسلم لهم إلا عدد محدود! عدد يطفو على سطح المجتمع كما تطفو الجيف فيتمتعن بنشر أسمائهن ونشر صورهن. . . أما الحرائر فهن هناك في البيوت، لا تقع عليهن أنظار هؤلاء الرقعاء، ولا عدساتهم المصورة. ولا تلوك الألسنة أسماءهن في هذا الجيل!
وأحسست أني اختنق داخل الجدران، فخرجت. خرجت إلى البحر والليل. . لا أحد هنا
على (البلاج). . .
أيها البحر. . . انك هنا الشيء الوحيد النظيف!.
سيد قطب
تاريخ جحا.
. .
للأستاذ كامل كيلاني
- 2 -
9 -
شخوص جحوبة
وكما اسند القصصي الجحوي إلى جحا التركي، ممثلا في الأستاذ نصر الدين، اسند مثله - أو قريب - إلى جحا الألماني ممثلا في:
(تل أو بلن شبيجل)
أعني (تل) الملقب ب (مرآة البومة) و (جحا) اليوناني ممثلا في (ديوجين)
و (جحا) الفرنسي يمثله السادة: (دي كراك) مرة و (دي لاباليس) مرة ثانية و (ميشيل موران) مرة ثالثة
وفي مرسيليا نرى (مسيو بونوس)
و (كالينو) و (ماريوس)
وفي باريس (دوق دي سان سيمون) وما إلى هذه الشخصيات الجحوية المتخيلة الفاتنة التي تشيع في أرجاء فرنسا وغيرها روح الدعابة البريئة والتهكم الساذج.
كما أسند إلى جحا الفارسي ممثلا في (طلحة)، وجحا الهندي ممثلا في الشيخ تشللي، وجحا الأرمني ممثلا في أرتين. وجحا الإنجليزي يمثله في إنجلترة (سمبل سيمون
وقد ذاعت في بريطانيا أسماء طائفة من القديسين، افتن الظرفاء والمتطرفون في إسناد طرائف من الدعابة اليهم، ونحلوهم ما شاء لهم الخيال الخصب من فنون الفكاهات الحلوة المحببة، والنكات البريئة المستعذبة. فاشتهر في أيرلندة (بات) وهو - كما يرى القارئ - ترخيم لاسم القديس (باتريك) وقد كاد يصبح لقبا على كل ايرلندي في معرض الدعابة والتنادر، والتمثيل للسذاجة وطيبة القلب.
واشتهر في اسكتلندة (داود) وكاد يصبح علما على كل اسكتلندي، وافتن المتخيلون في إسناد كل ما خطر ببالهم من نوادر البخل والتقتير.
واشتهر (اندراوس) كذلك في جنوب إنكلترا، في بلاد الغال (الويز)، كما اشتهر جورج
في إنجلترا.
وقد أصبحوا - على توالي الزمن - أعلاماً للفكاهة والمرح في بلادهم، ثم ذاعت بدائعهم في العالم، فأشاعت في أرجائه ألوانا مشرقة من البهجة والسرور.
وليست شخصية (دون كيشوت) إلا لونا مبتدعا جديدا لشخصية جحا كما يتخيلها الأسبان.
وقلما تخلو أمة من مثال قريب أو بعيد لهذه الشخصية المرحة الطريفة، وقد طوع القصاصون كثيرا من الطرائف والرموز الجحوية، وفصلوا منها أنماطا فكرية البسوها عرائس أفكارهم وآرائهم.
ولم تلبث الصورة الجحوية على مدى الأزمان واختلاف الأمم التي تناقلتها أن تشكلت بألوان العصور والأمم التي قبستها. كما يتشكل الماء بلون الإناء الذي يستودع فيه.
10 -
فبراق:
إن البحث ليطول إذا لم نوجزه إيجازا حتى ليضيق الوقت الفسيح بتفصيل قليل من كثير مما عرضنا له.
وبحسبنا أن نقرر الآن في هذه الإلمامة الخاطفة أن جحا التركي كاد يكون نسخة مكررة من جحا العربي، وإن ضاع قبر الثاني فلم يعرف له مكان كما ضاع الكثير من أثاره فلم يهتد إليه وبقى قبر الأول مزارا يحج إليه في مقبرة (آق شهر).
11 -
من آراء الناس:
وقد غلا بعض الناس، فكاد يلحق الجحيين كليهما بالأولياء والأطهار والقديسين الأبرار.
وغلا آخرون، فكدوا يتمثلون كليهما آية من آيات الغفلة والبله، ومثلا من أمثلة الغباء والحماقة، وتمثلهما آخرون نموذجا للخداع والتلبيس ورمزا للغش والتدليس.
12 -
مذهب (أبى الغصن):
ومهما يكن من امر، فقد كان كلا الجحيين ذكيا بارعا، راجح العقل، محدثا (أي: ملهما صادق الفراسة)، يتغابى في غير غباء، ويتباله في غير بله، ويمكر في غير خبث، ليخلص من كيد الكائدين، وينجو من بطش المعتدين.
ورحم الله شوقي بك القائل:
(إذا الفتنة اضطرمت في البلاد
…
ورمت النجاة، فكن إمعة)
(والإمعة كما تعلمون، هو الذي يقول لكل إنسان أنا معك)
واليكم شعار الأول اعني شعار: (أبى الغصن عبد الله دجين بن ثابت) المعروف بجحا العربي، وهو يلخص رأيه في الحياة أبدع تلخيص:
(مذهبي في الحياة صبر جميل
…
هل ينجِّني من البلاء عويل
لم أضق بالحياة ذرعاً، وعندي
…
بسمات للخطب وهو جليل
لا أرى في الوجود إلا جمالا
…
كل ما في الوجود حُسن أصيل
أُضمرُ الصفح والمحبة للنا
…
س، إذا ما أساء باغٍ جهول
الأمانيُّ عذبة أسعدتني
…
فحياتي بهن حُلمٌ جميل
وحماقات من أرى أضحكتني
…
وتعنَّي بها غضوب ملول
إنما يغلب الزمان صبور
…
واسع الصدر باسم بهلول
لا يهاب الخطوب أن دهمته
…
سوف يتلو الأحزان أنس طويل
كل خطب إذا صبرت تولَّى،
…
وتجلّى، وكل حال تحول)
13 -
مذهب نصر الدين:
وهو بهذا يلتقي مع فلسفة الأستاذ نصر الدين خوجة أو جحا التركي كما يسمونه، الذي اتخذ شعاره في الحياة قوله:
(مذهبان أن نتسلى بالحياة
بما نلاقي من سرور وأذاه
فالكون محبوب بهيج ما حواه
وما نرى إلا جميلا ما نراه)
14 -
تشابه المذهبين:
على أن كلا الجحيين كان كما يقول فيلسوف المعرة:
(إذا سألوا عن مذهبي فهو بين
…
وهل أنا، إلا مثل غيري أبلهُ
خلقت من الدنيا، وعشت كأهلها
…
أجدُّ كما جدُّوا، والهوا كما لهوا)
فقد أحسن المعري التعبي عنهما، بهذين البيتين، وان كان يفصله زهاء من الزمان بعد مولد أولهما وثلاثة قرون قبل مولد الآخر منهما. وكأنما ألهما المعري قوله:
(إن جدَّ عالمك الأرضي في نبأٍ
…
يغشاهم، فتمثل جدَّهم لعبا)
وقوله:
(تَرَجَّ - بلطف القول - ردّ مخالفٍ
…
إليك، فكم طِرْف يسكَّن بالنَّقْر)
15 -
تشابه الرجلين:
لقد تشابه الجحيان - كما أسلفت لحضراتكم - كما تشابه الموز أو البرتقال في رأي بعض الشعراء حين قال:
(. . . . . . . . . . . . فالفم ملآن به فارغ سيان قلنا: مطعم طيب فيه، وإلا مشرب سائغ)
تشابه الرجلان وامتزجت آثارهما، وبعضهما ببعض كما امتزجت - بعد ذلكم وقبله - بالكثير من آثار غيرهما من الشخصيات الجحوية وما إليها. وما أضيف عليها مما تخيله المتخيلون، وانتحله المنتحلون، حتى أصبحت كلمة (جحا) الآن كافية للتعبير عن كل جحا، في كل عصر، وفي كل أمة كما أصبحت كلمة (خرافة) أيضاً كافية للتعبير عن كل حديث خيالي لا حقيقة له: قديما كان أو حديثا، رائعاً أم سخيفا، عربيا أم أعجميا، شرقيا أم غربيا، وقد اصبح الرمز الجحوي - على توالي الأجيال أشبه بالرمز الجبري، فإن (س) تارة تساوي مليونا من الجنيهات، وتارة تساوي عشر تفاحات، وثالثة ست دجاجات، ورابعة صفراً.
وقد ألف (كارليل) - فيما يعلمه الكثيرون منكم - كتاب الأبطال، فتحدث عن البطل في صورة نبي، والبطل في صورة زعيم، والبطل في صورة قائد، والبطل في صورة شاعر وهكذا.
وسيرى المتتبع لتاريخ جحا وما نسب إليه من أخبار كيف سلك المتحدثون عنه مثل هذا المنهج، أو قريب:
فمثلوا لنا جحا في صورة فيلسوف، وجحا في صورة أبله، وجحا في صورة قاض، وجحا في صورة متقاض، وجحا في صورة سارق، وجحا في صورة مسروق، وجحا في صورة
ذكي وجحا في صورة غبي، وجحا في صورة فقير، وجحا في صورة غني، وهكذا.
وقد أصبحت كلمة (جحا) كافية في التعبير عن هذا كله - كما ترون - فلا غرو إذا اجتزانا بها في الحديث اقتصاداً للوقت، واختصاراً للبحث في التفاصيل المسهبة، والشروح المستفيضة التي عرضنا لها في غير هذا المقام.
كامل كيلاني
صور من العصر العباسي:
الخلفاء العباسيون والهدايا
للأستاذ صلاح الدين المنجد
درج الناس في العصر العباسي على تقديم الهدايا للخلفاء، ونلاحظ أن هذه الهدايا كانت تقدم في النيروز والمهرجان، وفي الفصد، وفي العودة من الحج، هذا عدا الهدايا التي كانت تحملها الرسل الواردة على الخليفة من الولاة والأمراء، أو من ملوك الروم.
أما الهدايا في النيروز والمهرجان، فعاده فارسية أخذها العرب عن الفرس منذ فجر العصر الإسلامي. ويقول الجاحظ إنها كانت معروفة زمن معاوية، وظلت كذلك طول عهد الأمويين، حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأبطلها. فلما دالت دولة الأمويين، وقامت دولة العباسيين، عادت هذه العادة إلى الناس، وصارت فرضاً عليهم نحو الملوك.
ويبين الجاحظ العلة في تقديم الهدايا في النيروز والمهرجان فيقول: (وإن من حق الملك هدايا المهرجان والنيروز، والعلة في ذلك إنهما فصلا السنة، فالمهرجان دخول الشتاء وفصل البرد، والنيروز إيذان بدخول فصل الحر)
(ومن حق الملك أن تهدي إليه الخاصة والعامة، والسنة في ذلك عندهم أن يهدي الرجل ما يحب من ملكه إذا كان في الطبقة العالية، فإن كان يحب المسك أهدى مسكا لا غيره، وان كان يحب العنبر أهدى عنبراً، وإن كان صاحب بزة ولبسه أهدي كسوة وثياباً، وإن كان من الشجعان والفرسان، فالسنة أن يهدي ذهباً أو فضة، وإن كان من عمال الملك، وكانت عليه متأخرات أو بقايا للسنة الماضية جمعها وجعلها في بدر حرير صيني وشريحات فضة وخيوط ابريسم. . . ثم وجهها. وكان يهدي الشاعر الشعر، والخطيب الخطبة، والنديم التحفة والطرفة والباكورة من الخضروات. وعلى خاصة نساء الملك وجواريه أن يهدين إلى الملك ما يؤثرنه. ويجب على المرأة من نساء الملك إن كانت عندها جارية تعلم أن الملك يهواها ويسر بها، أن تهديها إليه بأكمل حالاتها، وافضل زينتها، وأحسن هيأتها. فإذا فعلت ذلك، فمن حقها على الملك أن يقدمها على نسائه ويخصها بالمنزلة ويزيدها في الكرامة).
وعاد الجاحظ في المحاسن والأضداد ففصل ما اجمل. قال: وجعلوا شعارهم: كل يهدي
على قدره. فكان القواد يهدون النشاب والأعمدة المصمتة من الذهب والفضة. والكتاب والوزراء والخاصة من قراباتهم جامات الذهب والفضة المرصعة بالجوهر، وجامات الفضة الملوحة بالذهب. والعظماء والأشراف يهدون البزاة والعقبان والصقور والشواهين والفهود. وربما أهدى الرجل الشريف سوطاً. وكانت الحكماء يهدون الحكمة والشعراء الشعر، وأصحاب الجوهر الجوهر، وأصحاب نتاج الدواب الفرس الفاره والشهري النادر. والظراف قرب الحرير الصيني مملوءة ماء ورد. والمقاتلة القسي والرماح والنشاب. وكانت نسوة الملك تهدي إحداهن الجارية الناهدة والوصيفة الرائعة، والأخرى الدرة النفيسة والجوهرة الثمينة، وفص خاتم، وما لطف وخف. وأصحاب البز الثوب المرتفع من الخز والديباج وغير ذلك والصيارفة نقر الذهب مملوءة بالفضة، وجامات الفضة مملوءة دنانير.
وكان للهدايا كاتب خاص، يكتب اسم كل مهد، وجائزة كل من يجيز الملك على هديته ليودع ديوان النيروز مهما كان شأن الهدية، صغرت أم كبرت، كثرت أم قلت. فإذا أهدى أحدهم الملك هدية، ثم لم يخرج له من الملك صلة، عند نائبة تنويه، أو حق يلزمه، فعليه أن يأتي ديوان الملك ويذكر بنفسه.
ويذهب آدم متز إلى أن المهرجان كان يمتاز خاصة بأن الرعية يهدون فيه إلى السلطان، ولا وجه لتمييز المهرجان من النيروز وقد رأيت أن الجاحظ جعلهما سواء، وذكر هدايا المهرجان، وهدايا النيروز. وقد كان النيروز عيداً قومياً، يحفلون به حفلهم بعيد الفطر، ويتبارون فيه بالقصائد والهدايا.
ولنر الآن أنموذجات من هذه الهدايا، في ضروبها وأصنافها.
فقد أهدى المنصور الوصائف من الرجال. حدث الفضل بن الربيع عن أبيه قال: كنت في خمسين وصيفاً اهدوا للمنصور، ففرقنا في خدمته.
وأهدت جارية إلى المهدي تفاحة، فأعجب بهذه الهدية وقال:
تفاحة من عند تفاحة
…
جاءت فماذا صنعت بالفؤاد
والله ما أدري أأبصرتها
…
يقظان أم أبصرتها في الرقاد؟
ولما عشق أبو العتاهية عتبة، جعل هديته إلى المهدي وسيلة لوصالها. فقد ذكر المبرد أن أبا العتاهية استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين في النيروز والمهرجان.
فأهدى له في أحدهما برنية ضخمة فيها ثوب ناعم وطيب، قد كتب على حواشيه:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة
…
الله، والقائم المهدي يكفيها
إني لأيأس منها ثم يطعمني
…
فيها احتقارك للدنيا وما فيها
وحدث إبراهيم بن المهدي قال: كنت عند الرشيد، فأهديت له أطباق ومعها رقعة. فلما قرأها استفزه الطرب. فقلت: يا أمير المؤمنين ما الذي أطربك؟ قال: هذه هدية عبد الملك بن صالح. ثم نبذ إلى الرقعة فإذا فيها: (دخلت يا أمير المؤمنين بستاناً أفادنيه كرمك، وعمرته بنعمتك، وقد أينعت ثماره وفاكهته. فأخذت من كل شيء وصيرته في أطباق القضبان، ووجهته لأمير المؤمنين ليصل إلي من بركة دعائه، مثل ما وصل إلي من بركة عطائه).
قلت وما في هذا ما يقتضي هذا السرور. قل ألا ترى إلى ظرفه كيف قال القضبان، فكنى عن الخيزران إذ كان يجري به اسم أمنا.
ثم كشف المنديل فإذا بعضها فوق بعض، في أحدها فستق وفي الآخر بندق إلى غير ذلك من الفاكهة.
أهدى أحمد بن يوسف للمأمون مرة ثوب وشى. وأهدى إليه مرة ثانية طبق جذع عليه ميل من ذهب فيه اسمه منقوش. وكتب إليه: (هذا يوم جرت فيه العادة، بألطاف العبيد السادة، وقد أرسلت إلى أمير المؤمنين طبق جذع فيه ميل).
وأهدى عبد الله بن طاهر له فرساً، وكتب إليه: (قد بعثت إلى أمير المؤمنين بفرس يلحق الأرانب في الصعداء، ويجاوز الظباء في الاستواء، ويسبق في الحدور جري الماء.
وهدية الخيل كانت معروفة من قبل فقد أهدى الحجاج عبد الملك فرساً، واهدي عمرو بن العاص إلى معاوية ثلاثين فرساً من سوابق خيل مصر.
ولما أفضت الخلافة إلى المتوكل اهدي إليه إليه الناس على أقدارهم وأهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائتا وصيفة ووصيف. وفي الهدية جارية يقال لها محبوبة كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها وعلمها من صنوف العلم وكانت تحسن كل ما يحسنه علماء الناس. فحسن موقعها من المتوكل، وحلت من قلبه محلا جليلا.
وبعث الحسن بن وهب إلى المتكل بجام من ذهب فيه ألفا مثقال من عنبر.
وأهدى إليه خالد المهلبي في يوم نيروز ثوب وشي منسوجا بالذهب ومشمة عنبر عليها فصوص جوهر مشبك بالذهب، ودرعاً مضاعفة، وثوباً بغدادياً فأعجبه حسنه، ثم دعا به فلبسه. وقال: يا مهلبي إنما لبسته لأسرك به، فقال يا أمير المؤمنين: لو كنت سوقة لوجب على الفتيان تعلم الفتوة منك، فكيف وأنت سيد الناس؟
وذكروا إنه كان للمتوكل جارية اسمها شجرة الدر. وكان يميل إليها ميلا كبيراً ويفضلها على سائر حظاياه. فلما كان يوم المهرجان أهدى إليه حظاياه هدايا نفيسة واحتفلن في ذلك، فجاءت شجرة الدر بعشرين غزالا تربية، على كل غزال خرج صغير مشبك حرير فيه المسك والعنبر والغالية وأصناف الطيب، ومع كل غزال وصيفة بمنطقة ذهب وفي يدها قضيب ذهب في رأسه جوهرة فقال المتوكل لحظاياه، وقد سر بالهدية، ما فيكن من تحسن مثل هذا وتقدر عليه. فحسدنها وعملن على قتلها بشيء سقينه لها فماتت.
والى جانب هذه الألوان من الهدايا كانوا يهدون الطين. قال الثعالبي: وكانوا يهدون طين نيسابور، وهو طين الأكل لا يوجد مثله في الارض، يحمل إلى أدنى البلاد وأقاصيها، ويتحف به الملوك، وربما بيع الرطل منه بدينار.
(له بقية)
صلاح الدين المنجد
المخدرات.
. .!
بين الأدباء والعلماء
للدكتور فضل أبو بكر
سأتناول من هذه المواد الغريبة أهمها وأكثرها استعمالاً، واعني بذلك الأفيون والحشيش. وسميت بالمخدرات لأن من أخص مميزاتها تخدير الآلام الجسمية والنفسية. كذلك يسمونها (المذهلات) لما تسببه من ذهول (وسطل)، وهو الاسم الذي تعرف به في علم الأدوية والعقاقير.
هي قديمة كالأزل عرفها الإنسان منذ أقدم العصور، وقد ذكر هوميروس نبات الأفيون في إلياذته. كذلك أبو قراط إله الطب عن قدماء الإغريق كان يستعملها في العلاج لبعض الأمراض مثل الهستريا التي كان يظن من مسبباتها عند النساء نزول الرحم والأمعاء وهبوطهما من المكان الخاص بهما في البطن. وقد حذا حذوه في استعمال الأفيون - بقصد العلاج - بعض أطباء الإغريق والرومان، ونذكر من الأخيرين (اندروماكلوس) طبيب نيرون الخاص كان يستعمله مع بعض العقاقير كمخدر وكنوع من الترياق. كذلك أطباء العرب وصيادلتهم مثل ابن البيطار الذي فند تعاليم جالينوس والذي يدين له علم الأدوية والعقاقير بالشيء الكثير. أما ابن سينا ومن انتمى إلى مدرسته من الفلاسفة والعلماء، فقد استعملوه بكثرة في الأدوية والعلاج.
أما في القرون الوسطى فقد قل نسبيا استخدام الأفيون في العلاج. واستمر الحال كذلك إلى أواخر القرن السابع عشر فقد هيئ له أن يبعث من جديد على يد الطبيب المعروف (سيدنهام) إذ خلط منقوع الأفيون - المنقوع في الكحول - بالزعفران والقرفة والقرنفل وركب منها خليطاً مشهوراً باسمه ولا يزال يستعمل ليومنا هذا ضد بعض الحالات الإسهال وآلام البطن. وقد قال في ذلك الطبيب سيد نهام إنه لولا الأفيون لصار الطب ناقصا أجدع.
أما الحشيش فقد عرف كذلك منذ آباد وأجيال سحيقة؛ فالهنود والصينيون كانوا يتعاطونه منذ أقدم العصور. وقد ادخله إلى بلاد الغرب بعض قبائل البدو والرحل الذين كانوا يقطنون شمال أسيا والجزء الواقع في الشمال الشرقي من أوربا. وقد روى (هيرودوت) المؤرخ أن تلك القبائل كانت تغلى بذور فاكهة الأفيون في الماء وتستنشق البخار المتصاعد
ثم تحتسى في نشوة عجيبة منقوعة هذه البذور.
وأول من عنى بدراسة الحشيش من الوجهة العلمية هما الطبيب الألماني (مارشال) والطبيب الفرنسي (مورم دي تور) الذي كان مديراً لمستشفى الأمراض العقلية والعصبية في باريس والذي كتب في سنة 1845 مؤلفاً نفيساً سماه (الحشيش والجنون) يصف فيه خواص الحشيش وأثرها في الجهاز العصبي، وقد تعاطى هذه المادة وجرب أثرها في نفسه. وقد قيل في المثل (سل المجرب ولا تسل الطبيب) فقد كان مجرباً وكان طبيباً فلا غرابة إن كان مؤلفه مصدراً موثوقاً به في هذا الصدد.
الأدباء والمخدرات:
كان بعض الأدباء يتعاطى هذه المواد ووجدوا فيها إلهاماً وإيحاءاً ووصفوا مفعولها وصفاً رائعاً يشوبه الخيال وما يميله من مبالغات تنافي بعض الشيء صرامة العلم ودقة العلماء. ومن هؤلاء الأدباء الأديب والشاعر الفرنسي (شارل بودلير) الذي عاش إلى سنة 1967 وهو من اعظم شعراء الغرب وأشبههم من حيث الرقة والظرف والمجون بأبي نواس؛ فقد ورد في بعض مؤلفاته - واسمه (الفردوس الاصطناعي) - وصف الحشيش؛ فتأمله إذ يقول: (إن في الإنسان رغبة مستأصلة لإدراك المثل العليا والوصول إلى الحقيقة؛ لذلك يحاول ما أمكنه أن يخلص الروح ويطلقها من سجنها المادي العائق لها عن الوصول لهذه الأهداف. كذلك السعادة هي الضالة المنشودة لبني الإنسان؛ وبما إنها ليست في متناول الجميع فهو يحاول ما أمكن أن يتوهمها ويصطنعها: فقدح من مدام وشهقة من تبغ ومضغة من عشب (الحشيش) بهذا فقط تجد الروح تخلصت وتبدلت).
أما الكاتب الفرنسي (تيوفيل جوتيبه) الذي عاش إلى سنة 1843 فقد ألف كتاباً سماه (نادي الحشاشين) يصف فيه مفعول الحشيش وأثره في نفسه فيقول: (ما هي إلا بضع دقائق حتى استولى على جسمي التخدير، وخيل لي إن جسدي قد ذاب وانحلت مادته وصار شفافاً، فأبصرت قطعة الحشيش التي مضغها تنزل هابطة في أحشائي كأنها زمردة تشع منها الملايين من أجسام ذرية لامعة؛ وتراءى لي أن هدب عيني يطول ويمتد إلى اللانهاية ثم يطوى كأنه أسلاك رفيعة من الذهب ويلتف حول عجلات صغيرة من العاج تدور حول نفسها بسرعة مدهشة، وقد اكتنفتني نهيرات من لجين تكدست على شواطئها أكوام من
الحجارة الكريمة من مختلف الأشكال والألوان. وبعد فترة قصيرة تبددت عني هذه الأحلام وعدت إلى صوابي من غير ما خمول أو صداع كما يعقب عادة شرب الخمر. وقد هالني كثيراً ما رأيت. وما كادت تمضي نحو نصف ساعة حتى عاودتني النشوة وتهت في ملكوت الحشيش. غير أن أحلامي في هذه المرة كانت اشد غرابة وأكثر تعقيداً. فقد أحاطت بي هالة من نور يأخذ وميضه بالأبصار، وتطير حول هذه الهالة ملايين من الفراش لها أجنحة ذات ألوان مختلفة تسر الناظرين، وسمعت لأول مرة صوت الألوان المختلفة. فهنالك صوت اصفر وازرق واخضر واحمر؛ وهذه الأصوات اللونية تصل موجاتها إلى أذني في وضوح تام. كذلك رأيت أكثر من خمسمائة ساعة دقاقة تنبئ عن الوقت بدقات أشبه بأهازيج العود والمزمار وقد ذابت نفسي في اللانهاية، وخيل إلي أن هذا الحلم إنما دام نحو ثلاثمائة عام، وان كل من المستحيل تقدير الزمن على وجه التحقيق إذ كانت المناظر تتتابع وتتنوع بسرعة، وما أن عدت إلى رشدي حتى رأيت أن هذا الحلم لم يدم أكثر من ربع ساعة).
ومن أدباء الإنجليز اذكر (توماس دي كنسي) وكان يعني كثيراً بدراسة (الكلاسيك) من الأدب الإغريقي والروماني القديم، وقد ألف كتاباً بعنوان (اعترافات مدمن في الأفيون) فتأمل حين يناجي المدمن مخدره العزيز:
(أيها الأفيون أنت الحق والحقيقة! أنت حياة المحتضر ومال المعوز وسعادة الشقي والخالق من الشجي خلياً! أنت ملهم البيان! أنت الذي تذكر المجرم والقاتل أيام الطفولة الغريرة حيث لا جريمة ولا جريرة! أنت الذي تشتد في غسق الظلام قصوراً وبنياناً أكثر سحراً من بنيان بابل وطيبة).
كذلك الشاعر الإنجليزي (كولردج) وقد كان ممن يتعاطونه من وقت لآخر بقصد التنبيه ونشاط القريحة، وقد كتب قصيدته (كبلخان) بعد أن تعاطى ما تيسر من الأفيون وهي تعد من ارق أنواع الشعر وأرقاه معنى.
أما أثر هذه المواد من الوجهة الطبية والفسيولوجية فهاكها باختصار كما يلي:
1 -
تخدر الأعصاب، لذا كان لها تفوق كبير في تسكين الآلام الناشئة من الأمراض. كذلك من خواصها التنويم، ولكنه نوع خاص من النوم يمتاز بانحلال عام وتراخ في العضلات
تتخلله أحلام هنيئة ومتنوعة. أما من الوجهة النفسية فهي تساعد على حضور البديهية وسرعة الخاطر، ويلي ذلك شيء من التهيج واضطراب الأفكار يطرأ تدريجياً وحسب كمية المخدر. أما أثره على الجزء الخاص بالتحرك من الجهاز العصبي فهو اقل بكثير من أثره على الجزء الموكل بالحس والشعور.
2 -
تنقص جميع الإفرازات الخاصة بالجهاز الهضمي فيعيق الهضم ويعطله كما يقل من حدة الشهية، ويساعد على الإمساك. كذلك له مفعول سيئ على الكبد الذي يعد أهم عضو لمكافحة السموم الطارئة على الجسم من الداخل ومن الخارج.
3 -
تساعد المخدرات على التنفس لذلك تستعمل في بعض أمراض الصدر والقلب التي تسبب حصراً وضيقاً في التنفس مثل الربو والنزلات الشعبية والأزمات القلبية والرئوية.
4 -
تنقص المخدرات من كمية البول لأنها - كما أسلفنا تقل من جميع الإفرازات ما عدا الإفراز العرقي فهي على النقيض تكثره وتنشطه. أما الجهاز التناسلي فقد تسبب تهيجاً جنسياً، ولكن إلى حين وفي بادئ الأمر فقط، ولكن هذا التهيج وتلك الإثارة يعقبها خمول وضعف في الرغبة الجنسية.
هذه نبذة موجزة عن بعض المخدرات عالجت موضوعها باختصار من الوجهة التاريخية والأدبية والعلمية.
فضل أبو بكر
القوة في نظر العلم
للأستاذ محمد عاطف البرقوقي
العلماء والقوة:
نشأ الإنسان في الحياة ووجد إنه في كل شئونه يحتاج إلى القوة، ففي إعداد طعامه كان يخرج إلى الصحارى والغابات ليصطاد فريسته، فكان مضطرا إلى حملها بنفسه ليعود بها إلى داره، وفي هذا لا تنجح إلا القوة العضلية، وفي البناء كان قدماء المصريين يشيدون الأهرام والمعابد والقبور، وكانوا يستخدمون الإنسان في حمل أثقل الأحجار ونقل التماثيل من مكان إلى آخر، ومن ذلك انهم استخدموا عشرة آلاف رجل لتشييد الهرم الأكبر، يستبدلون كل ثلاثة ولمدة عشرية عاما، وذلك رغم استخدام الروافع والعربات والسفن.
وإذا ما تلفت الإنسان حوله وجد مظاهر القوة بادية، فقوة الريح تعصف بالأشجار فتكسرها، والماء الجاري يجرف المباني فيهدمها، والأجسام تسقط نحو الأرض بفعل قوة، وهي قوة الجاذبية الأرضية، والمد والجزر أثران من أثار القوة، والكواكب السيارة تدور وتتحرك نتيجة قوة، فلفت ذلك نظر العلماء، فاهتموا بدراسة القوة وآثارها، منهم العالم الإيطالي غاليليو الذي اهتم بدراسة حركة الأجسام الساقطة تحت تأثير جاذبية الأرض وتبعه العالم الإنجليزي سير اسحق نيوتن (1642 - 1727) الذي وضع القوانين التي تربط بين القوة والحركة والقوة والكتلة، ودرس حركة الكواكب السيارة فهو يعتبر بحق واضع أساس علم الميكانيكا وعلم الفلك، وتبعه علماء كثيرون درسوا القوى الناتجة من الهواء والماء والبخار والكهرباء.
القوة والحركة:
ومهما اختلف مصدر القوة فإن هناك علاقة كبيرة بين القوة والحركة، فأينما وجهت النظر إلى قوة من القوى وجدتها يصحبها حركة من الحركات، فالسيارة تبقى ساكنة ما لم تستخدم القوة الناتجة من احتراق بخار البنزين، والقاطرة لا تتحرك إلا بقوة البخار، وكلما زادت القوة زادت الحركة، وعندما توقف القوة فعندئذ تقل الحركة إلى أن تنعدم، وانعدام الحركة في الواقع ناتج من قوة هي قوة الاحتكاك بين العجلات والأرض، فالقوة تحرك الجسم
الساكن أو تعدم حركة الجسم المتحرك. وقد وضع العالم الإنجليزي نيوتن ثلاثة قوانين في علم (الميكانيكا) تسمى قوانين نيوتن في الحركة، أولها:(إن الجسم يبقى ساكناً أو متحركاً بسرعة منتظمة في خط مستقيم ما لم تؤثر عليه قوة)، فالجسم الساكن لا يتحرك إلا بتأثير قوة، فإذا قربت مغناطيساً من ابره من الصلب أو الحديد ساكنة تحركت بتأثير القوة المغنطيسية. وإذا شاهدنا جسماً متحركاً بغير سرعة منتظمة حكمنا على أن هناك قوة تحركه، وهكذا استنبط العلماء قوة جاذبية الأرض بملاحظة سقوط الأجسام نحو مركزها
قوة الاحتكاك:
ونلاحظ إنه إذا رمينا كرة من الزجاج ناعمة على أرضية ملساء فإنها تستمر بسرعتها المنتظمة في خط مستقيم، وحسب قانون نيوتن إذا لم تؤثر عليها قوة فإنها يجب أن تستمر إلى مالا نهاية كما يقول العلماء، ولكن من الناحية العملية تقل سرعتها تدريجياً حتى تصل في النهاية إلى السكون، وذلك لأنه توجد قوة تغير من حالتها هذه إلى السكون، وهذه القوة هي التي نسميها قوة الاحتكاك بين أي جسمين، وهي صغيرة بين جسمين ناعمي الملمس وتزداد كلما زادت خشونة الجسمين وكتلة الجسم المتحرك، فإذا رميت كرة ثقيلة من الحديد على أرضية خشنة وقفت حركتها بسرعة قوة الاحتكاك بينها وبين الأرض. وفي الواقع أن قوة الاحتكاك هذه تسبب ضياع نسبة لا يستهان بها من الطاقة للتغلب عليها سواء أكانت في حركة القطارات أم السيارات أم في إدارة الآلات
القوة الطاردة أو القوة والدوران:
الجسم المتحرك يميل إلى الحركة في خط مستقيم، فكثيراً ما نلاحظ أن السيارة المتحركة بسرعة كبيرة إذا ما فوجئ سائقها بجزء منحن من الطريق فإنه على الرغم من عمل مجهود كبير لإدارة عجلة قيادة السيارة فإنها تعصى سائقها وتسير في خط مستقيم، فيؤدي ذلك إلى ملاقاة حتفها. . . إما بالغرق إن كان الطريق بجوار ترعة وإما الاصطدام وإما بالخروج عن الطريق على أية حال، وكل ذلك لميلها للسير في خط مستقيم، وإذا ربط ثقل في طرف خيط وحرك الخيط باليد ليدور الثقل في مسار دائري حول اليد، فإن الثقل لا يسقط نحو الأرض بتأثير جاذبية الأرض له بل يدور بفعل قوة مركزية، وإذا قطع الخيط
فإن الثقل عندئذ يتحرك في خط مستقيم من حيث أوقف تأثير هذه القوة المركزية
وإذا كان الثقل عبارة عن (كوز) به ماء وأدير الكوز بالماء فإن الماء لا يسقط وذلك لأنه توجد مركزية طاردة أي تحاول أن تطرد الماء نحو الخارج فيعوق قاع الإناء، ذلك وفي الصناعات يستخدمون هذه القوة في نواح شتى، ففي محال غسيل الملابس، يضعون الملابس المبللة بالماء في إناء كبير يدور، فبدورانه فيه قوة طاردة تطرد الماء من ثقوبه إلى الخارج فتعصر الملابس بطريقة سريعة، وفي محال الألبان الكبيرة يستخرجون القشدة من اللبن وهو طازج بأن يضعوا اللبن الحليب في إناء ويدار بسرعة فتنفصل القشدة عن اللبن بتأثير القوة الطاردة.
وراكب الدراجة عند دورانه يجب عليه أن يميل بجسمه إلى داخل الدوران حتى لا تدفعه القوة الطاردة إلى الخارج فيقع، ويخشى اثر هذه القوة في القاطرات والطائرات، فالقطارات عند دورانها يجب أن يكون القضيب الخارجي أعلى من القضيب الداخلي حتى تميل القاطرة عند دورانها إلى الداخل، وهناك قانون يبين مقدار زيادة ارتفاع القضيب الخارجي عن الداخلي، ويصل هذا إلى نحو عشرة سنتمترات.
وفي الطيران كثيراً ما يصاب السائق بدوخة إذا اضطر إلى ادارة طائرة بسرعة كبيرة تصل الآن إلى نحو 400 ميل في الساعة، وتزول الدوخة بعد أن تعود الطائرة إلى سيرها في خط مستقيم، وذلك لان دمه يسير في جسمه بقوة ضربات قلبه، فعند الدوران يميل دمه إلى السير في نفس الخط المستقيم الاصلي، فبذلك ينحرف دمه إلى جانب من جسمه ورأسه فيشعر بالدوخة.
القوة المعنوية:
هذا من ناحية القوة المادية، أو القوة التي لها أثر مادي من حركة أو سكون، واستكمال للبحث نشير أيضاً إلى القوة المعنوية، ورأى أن القوة على العموم - سواء أكانت مادية أم معنوية - يصحبها دائماً حركة، فكما أن القوة المادية تغير من سكون الجسم أو حركته المنتظمة، فكذلك القوة المعنوية تكسب الإنسان اعتزازا بنفسه عند الإقدام، وتهب له الثقة التامة عند العمل، وذلك بقدر اعتزاز الشخص القوى العضلات بجسمه، وثقته في النجاح بقوة إلا أن القوة المادية تظهرها قوة الجسد، والقوة المعنوية كامنة في الروح والنفس، وكما
أن القوة المادية تنمي وتزاد سواء أكانت للفرد ام للجماعة، فكذلك القوة المعنوية فإنه يمكن أن تعزز وتقوي للفرد أو للامة ايضاً، فالطفل إذا شجع عند الإتقان، وأغضى عنه عند هفوته، علت نفسه، وقويت عزيمته، والرجل ما هو الا طفل كبير، ومن ناحية على الأقل. . .، والأمة ما هي إلا مجموعة أفراد تربطهم روابط خاصة، ولذلك يلجئون في الحروب إلى الرقابة على الصحافة والإذاعة، وذلك للعمل على رفع القوة المعنوية للامة وجيشها. ولابد لمن يهمهم رفع القوة المعنوية لفرد أو أمة من استخدام علم النفس الفردي والاجتماعي، وعندئذ تجد الأمة ذات القوة المعنوية العالية لا تزعزع منها الثقة، ولا تضعف منها العزيمة، بل تسير قدماً فيما أرادت، واثقة من فوزها في النهاية، متأكدة من الوصول إلى هدفها وإدراك الغاية والثقة - وهي وليدة القوة المعنوية - لها نصف العمل، والنصف الآخر للقوة المادية، وهب لنا الله من لدنه القوة المادية والقوة المعنوية، وهدانا إلى سواء السبيل.
محمد عاطف البرقوقي
ناظر المدرسة التوفيقية
من عيون الأدب الغربي:
حديقة أبيقور لأناتول فرانس
بقلم الأستاذ بولس سلامة
تمهيد:
كان اناتول فرانس كاتباً شديد الشك، شديد السخرية، متشائماً هداماً. ولا غرابة فقد أنجبته فرنسا التي أنجبت من قبله فولتير إمام الشاكين في زمانه وفي كل زمان.
وأناتول فرانس كفولتير يتخذ السخرية طريقاً لإصلاح المجتمع والمعتقدات والناس. ويشترك معه في هذه الصفة الكاتب الإنكليزي (شو) إلا أن (شو) يكتب بأسلوب العلماء وأناتول فرانس يكتب بقلم أسلست له اللغة وطاوعه البيان فجاءت كتاباته آية من آيات الأدب الرفيع. وفي حديقة أبيقور يتجلى شك أناتول فرانس وتهكمه وتشاؤمه ويتجلى فنه الرائع وأسلوبه الشيق البديع وقد اقتطفنا لك من هذه الحديقة باقة صغيرة إن أعجبك رواؤها وشذاها فادخل الحديقة وشاهد وتأمل. . .
الهناء والشفاء:
كنت أقرا كتاباً لشاعر فيلسوف تخيل فيه جيلاً من الناس خلت قلوبهم من الهم والسرور والعناء.
ورجعت من هذه الحياة المثلى التي تخيلها الشاعر الفيلسوف إلى عالمنا هذا حيث يكافح الإنسان ويشقى ويتألم ويحلم فعجبت كيف يضطرب قلب الإنسان حنيناً إلى مشاركة هؤلاء في كفاحهم وشقائهم وآلامهم وأحلامهم. ففي هذه الحالة - وفيها وحدها - يجد الإنسان نبعاً من الغبطة لا ينضب
ولقد قنعت بعد قراءته بنصيبي المتواضع في هذه الأرض ورضيت عن نفسي وإخواني الذين يشاركونني هذا النصيب المتواضع الصغير. بل اقتنعت بأننا في شقائنا أنبل من هاته الخلائق التي يرسمها هؤلاء الفلاسفة الحالمون بلا ألم ولا شقاء.
إننا إذا اقتطعنا الألم والعواطف والأهواء من حياة الناس اقتطعنا معها الشعر والفن وكل شيء جميل. وكيف يشعر الشعراء في عالم لا ألم فيه ولا حرمان ولا شقاء؟ انهم يغمضون
عيونهم ويصمون آذانهم عن أعاجيب الفن والشعر التي تجعل من هذه الأرض المتواضعة سماء لا تطاولها سماء.
إن بيتاً واحداً من الشعر الرفيع ليفعل في النفس ما لا تفعله هذه المخترعات الحديثة وهذا العلم الحديث.
وأي عالم نتخيله وقد امتلأ بالمهندسين والعلماء بلا شعر ولا حب ولا أهواء. وكيف يشعر ويحب ويغني القانع الراضي القرير؟ إنما الحب نبت لا يزكو إلا بالدموع والبكاء
إنه لمن الخير أن ننسى الألم وان نرضى بنصيبنا من هذا العيش الذي يتداول فيه الخير والشر والعسر واليسر كما يتداول الليل والنهار.
الغباء:
الغباء شرط لازم - لا أقول للسعادة - بل للحياة. فلو عرفنا كل شيء لما استطعنا أن نعيش ساعة واحدة.
إن هذه الأشياء التي يحلو بها العيش أو يطاق إنما تقوم في الواقع على الوهم والغباء.
الشيوخ:
عندما يشيخ المرء يزداد تمسكاً بآرائه؛ ولذلك يعمد سكان جزيرة فيجي إلى قتل الشيوخ، وبهذا ييسرون تقدم الإنسانية ونحن نفعل النقيض بتأسيس الأكاديمية.
الكتب:
قالت لي فتاة صغيرة - وفي قولها حكمة غابت عن كثير من الحكماء - إننا نجد في الكتب ما لا نجده في عالم الواقع من أشياء مضت وانطوت فلا تعود، أو أشياء متوقعة نتخيلها ولا ندركها على التحديد. فهي صورة قاتمة واهمة. وإني أرى أن من الخير إلا يقرأ الكتب الصغار. ففي الحياة أشياء كثيرة أحق باهتمامهم: البحيرات والأشجار والأنهار والحدائق والبحار والسفين في الماء والنجوم في السماء. وإني لأشاركها هذا الرأي فإننا نملك ساعة من العمر لنحياها، فلماذا نقضيها في البحث عن أشياء كثيرة لا يضيرنا أن نجهلها ما دمنا لا نعرف عنها كل شيء. إنا نعيش كثيراً في عالم الكتب وقليلاً في عالم الطبيعة، ونحن في ذلك أشبه بذلك الكاتب الذي ظل يدرس كاتباً يونانياً قديماً بينما كان بركان فيزوف
يقذف النار ويحرق خمس مدن عامرات.
(الخرطوم سودن)
بولس سلامة
حكم المفكرين الغربيين علي (محمد)
للأستاذ عبد المنعم ماجد
لاح محمد كنجم شارق في دياجي العصور الوسطى فاختط طريقاً جديداً لعالم جديد ودين جديد، يعمل على فك قيود العقل من عبودية التقاليد والوهم ومن التعصب الديني والجنسي. على أن شمس الفكر وان كانت قد سطعت في أحضان الشرق فقد ظلت محجوبة بحلكة هذه العصور في الغرب فلم يستطع مفكروا العصور الوسطى في أوربا أن يخرجوا من هذا النطاق المضطرم بنزعات التعصب الديني ليلتمسوا نور الحقائق المجردة عن الهوى ولينطلقوا بالأفكار حرة غير مقيدة، ولذا لم يكن مستغرباً أن يلاقي محمد الطعن السافر في ذلك الزمن، وألا يرتفع صوت واحد بعيداً عن التشويش والتعصب، فطعن في شخصيته واتهم بالتلفيق والشعوذة، واستهجنت رسالته ووصمت بالكفر والانتحال. فنرى دانتي كأحد المفكرين البارزين الذين هيأ لهم القدر أن تكون حركة النقلة إلى عصر النهضة على أيديهم يقسو في حكمه على محمد فيضعه في الطبقة الثامنة في الجحيم مع المشعوذين الذين كتب عليهم الخلود أبداً في نار جهنم، وجريمته في رأيه إنه مدع دعا إلى تخليص العقيدة من كل شرك - ولم تكن المسيحية آنذاك يمكن أن تتصوره بأية حال. والواقع أن أرى دانتي في محمد معبر من خلال العصر الذي عاش فيه - فهو نفسه أي دانتي عاش في أواخر العصور الوسطى حيث كانت روح التعصب ما زالت تسود العقول، وحتى الآن مازال محمد خصماً في نظر بعض الأوساط الأوربية المفكرة ينظر إليه على إنه النبي الكاذب الذي ادعى بهتاناً إنه نبي الله.
أما في القرن الثامن عشر، وهو الذي أطلق عليه الباحثون القرن المضيء - فقد كان عصر تطور فكري واجتماعي عميق فبدأ فلاسفة هذا القرن ينظرون بنية خالصة إلى أصحاب الحركات الدينية الغير مسيحية، ويقدرون خلالهم الطيبة محاولين جادين أن يهدهدوا نعرة التعصب التي كانت تشل حرية التفكير فضلا عن انهم لم يجدوا باساً في تلمس الحقائق التي لا ضرر في الكشف عنها على سلامة المسيحية، وكانت هذه المرونة في التفكير مفيدة للإسلام فرأينا من يكتب عن محمد ورسالة محمد بنزاهة وإنصاف وإن وجدنا في نفس هذا القرن المضيء أولى العلات وأصحاب المآرب الذين لم يتورعوا عن
قرع الحقيقة والطعن بقسوة على نبي الإسلام بطريقة اعتبرها بعض المفكرين الغربيين أنفسهم خطرة على سيادة العقل وحرية الفكر. فسالي وبولينفي وساقاري أمثلة لبعض البحاث الذين عملوا على إظهار بعض الحقائق في أثناء دراستهم لشخصية الرسول. فالأول يترجم القرآن في سنة 1734، ويبرز لنا محمد كرجل مثالي ظهر في الإنسانية العليا. وقبله بولينفي يؤلف كتاباً عن محمد يحاول فيه أن يبرهن بقوة على أفضلية الدين الإسلامي على غيره من الأديان، ويبرز لنا شخصيته كمشروع حصيف مستنير جاء بدين صحيح جعله هداية للعالمين، ليحل محل المسيحية واليهودية وهما الديانتان اللتان كانتا قد تقوضت مبادئهما وملأتهما الريبة. أما ساري فيترجم القرآن في سنة 1782، ويضع محمداً بين الرجال القلائل الذين ظهروا على سطح الأرض ونفحتهم الطبيعية قدرة خارقة ليغيروا أحوال الناس والعصر ليقودوهم إلى النعماء والرخاء. فسيرة محمد في راية تذهل الباحث وتدفعه إلى الإيمان بكمال الإيمان بكل العقيدة التي توصل إليها والتي ساعدته الظروف فيها. ففي أثناء رحلاته شاهد ببصيرة يقظة انقسام المسيحية وعجرفة اليهودية؛ فأراد أن يكون دينه للجميع، وان يكون فيه يسر وانسجام مع الفطرة والعقل. وبالرغم من إنه ولد وثنياً فقد دعا إلى تخليص العقيدة من كل شك، وتجريد الله من كل مادة. وعبادة اله واحد له الأمر من قبل ومن بعد. ولكي يستميل إليه القلوب ويقنع الناس بصحة مبادئه ويضمن لها التأييد، أحاط نفسه بالحماية الإلهية، وادعى إنه رسول الله. فعلى المفكرين المستنيرين أن ينصفوا محمداً لا كرسول بل كأحد هؤلاء الرجال النوادر الذين آثروا في الحياة تأثيراً ظاهراً لا زال باقياً حتى الآن.
هذا الحكم الرفيق على محمد المقدر لعبقريته قوبل بتيار آخر عنيف ساد بين المفكرين في نفس هذا القرن المضيء ووصل إلى حد التشويه والمثالب. فنرى فولتير يغضب على محمد في مأساته التي نشرها في سنة 1742؛ ففي المقدمة يهاجم مباشرة آراء سالي ونولينفي وهما اللذان دافعا عنه، وعلى اية حال فإن حكم فلتير على الرسول خففه في مقالته التي كتبها عن الأخلاق ' فاعترف فيها ببعض مواهبه وان رأى إنه لم يأت بشيء جديد سوى ادعائه النبوة. وقد راج رأى فولتير وقتاً فنرى ديدرو يستفيض في طعنه على محمد بينما نرى كارلايل في محاضرته عن الأبطال في 8 مارس سنة 1840 يحمل
على الذين يشنعون على نبي الإسلام فيرمونه بالكذب والانتحال، ويرى أن مثل هذا التفكير البعيد جداً عن جادة الصواب خطر على سيادة العقل بل مخجل للمسيحيين أنفسهم. - فنهاك مائة وثمانون مليوناً من الأنفس يدينون بالإسلام ويؤمنون بمحمد كرسول من عند الله، ويتخذون سنته مرشداً لهم في الحياة - ويتساءل قائلاً: هل من المعقول أن هؤلاء جميعاً ينساقون وراء مشعوذ دجال؟ وهل بلغت الشعوذة من القوة والسيطرة ما يجعل لها هذا السلطان على هذه العقول؟ الواقع أن هذا التخبط راجع إلى اضطراب العصر - ثم - هو يرى أن محمداً كان مخلصاً بحق لدعوته فقد نظر إلى العالم نظرة كلها حياة ففني في حب الاله، وربط ما بين الأبدية وما بين عالمنا، فلو كان محمد نبياً أو شاعراً فهو في كلتا الحالتين رجل غير عادي.
هذه اللفتة الطيبة في معالجة شخصية محمد وتلك الروية والرغبة في الوصول إلى حقائق مجردة عن التعصب ازدهرت في عصرنا الحاضر فأعتبره الكثيرون في مقدمة المصلحين الذين بذروا بذرة صالحة في حقل الحضارة والمدنية، ولكنهم أي هؤلاء العلماء اختلفوا في الحكم عليه بل لم يستطع بعضهم الوصول إلى رأي ثابت. ولعل أوضح هؤلاء المستشرقين الذين دافعوا عن محمد واهتموا بدراسة سيرته تور اندراي الألماني الذي يعتقد في نبوة محمد ويستفيض بحماس في تقدير رسالته التي تعتمد في أصولها على البساطة والفطرة، وهو يتساءل في اخر كتابه عن محمد قائلاً: هل يمكننا مع هذا أن نتوصل بحق إلى تفهم شخصية محمد على وجهها الصحيح. . .
الواقع أن علماء الغرب مازالوا متحيرين في حكمهم النهائي على محمد.
عبد المنعم ماجد
عضو بعثة التاريخ الإسلامي لجامعة فؤاد
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
816 -
الرضى عن الله والغنى عن الناس
الكامل للمبرد:
كان عبد الله بن يزيد أبو خالد من عقلاء الرجال. قال له عبد الملك يوماً: ما مالك؟
فقال: شيئان لا عيلة على معهما: الرضى عن الله، والغنى عن الناس. فلما نهض من بين يديه قيل له: هلا خبرت بمقدار مالك.
فقال: لم يعد أن يكون قليلاً فيحقروني أو كثيراً فيحسدني.
817 -
ولو علي الحجارة
قال زياد في رجل ولي تحصيب جامع البصرة: أثر الإمارة ولو على الحجارة.
818 -
مظلوم
لم يخلق الله مسجوناً تسائله
…
ما بال سجنك إلا قال: مظلوم
819 -
وأحمد فيه معرفة ووزن
حكي إنه كان بالعراق رجلان أحدهما اسمه عمرو والآخر اسمه أحمد فعزل عمرو عن عمله وولى أحمد مكانه بسبب مال وزنه فقال بعض الشعراء في ذلك:
أيا عمر، استعد لغير هذا
…
فأحمد في الولاية مطمئن
وكل منكما كفء كريم
…
ومنع الصرف فيه كما يظن
فيصدق فيك معرفة وعدل
…
وأحمد فيه معرفة ووزن
820 -
يعوقني أبوك عنه. . .
تاريخ ابن عساكر.
لما ولى مروان بن الحكم في عمله الأول دخل عليه حويطب فتحدث عنده. فقال له مروان: ماسنك؟ فاخبره. فقال له كبرت ايها الشيخ وتأخر إسلامك حتى سبقك الأحداث.
فقال له: الله المستعان، لقد هممت بالإسلام غير مرة، كل ذلك يعوقني أبوك عنه وينهاني
ويقول: تضيع شرفك ودين آبائك لدين محدث وتصير تابعاً.
فأسكت (والله) مروان وندم على ما كان قال له:
821 -
وكل بصاحبه يسخر
ألم تراني أزور الوزير
…
فأمدحه ثم أستغفر
فأثنى عليه ويثني عليَّ
…
وكل بصاحبه يسخر
822 -
المتنبي وكافور
حكي عن المتنبي إنه قال: كنت إذا دخلت على كافور وأنشدته يضحك إلي ويبش في وجهي إلي أن أنشدته:
ولما صار ود الناس خبا
…
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن اصطفيه
…
لعلمي أنه بعض الأنام
فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا؛ فعجبت من فطنته وذكائه.
823 -
قد كدت تسبين فؤاد الحاكم
قدم رجل امرأة حسنة النقيبة إلى القاضي فقال: يعمد أحدكم إلى المرأة الكريمة فيتزوجها ثم يسيء إليها. ففطن الرجل بحال القاضي. فعمد إلى نقابها فأسفره، فرأى القاضي وجهاً وحشاً فحكم القاضي عليها وقال قومي لعنك الله! كلام مظلوم ووجه ظالم
فقال زوجها:
قومي إلى رحلك أم حاتم
قد كدت تسبين فؤاد الحاكم
بنطق مظلوم ووجه ظالم
824 -
وليس لي عباءة. . .
لقي رجل صاحباً له فقال له: إني احبك. فقال: كذبت لو كنت صادقاً ما كان لفرسك برقع وليس لي عباءة.
825 -
ولكن لترى
نظر بعضهم إلى جارية حسناء خرجت يوم عيد في النظارة فقال: هذه لم تخرج لترى ولكن لترى.
826 -
كما أطرق على حسن الغناء
في ديوان المعاني:
روى عن محمد الأمين إنه قال: إني لأطرب على حسن الشعر كما أطرب على حسن الغناء.
827 -
لماذا أكلت طعام السفن
قال ابن فارس: أنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني وهو اليوم حي يرزق، وقد عاب بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
وقيت الردى وصروف العلل
…
ولا عرفت قدماك الزلل
شكي المرض المجد لما مرضت
…
فلما نهضت سليما ابل
لك الذنب لا عتب إلا عليك
…
لماذا أكلت طعام السفل
828 -
بيت المتنبي العظيم
أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني:
لا يسلم الشرف من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
معنى معقول لم يزل العقلاء يقضون بصحته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذ بسنته، وبه جاءت أوامر الله سبحانه، وعليه جرت الأحكام الشرعية والسنن النبوية، وبه استقام لأهل الدين دينهم، وانتفى عنهم أذى من يفتنهم ويضرهم إذ كان موضوع الجبلة على أن لا تخلو الدنيا من الطغاة الماردين، والغواة المعاندين الذين لا يعوزهم الحكمة فتردعهم، ولا يتصورون الرشد فيكفهم النصح ويمنعهم، ولا يحسون بنقائص الغي والضلال، وما في الجور والظلم من الضعة والخبال، فيجدوا لذلك مس ألم يحبسهم على الامر، ويقف بهم عند الزجر، بل كانوا كالبهائم والسباع لا يوجعهم إلا ما يخرق الأبشار من حد الحديد وسطو البأس الشديد. فلو لم تطبع لأمثالهم السيوف، ولم تطلق فيهم الحتوف لما استقام دين ولا دنيا، ولا نال أهل الشرف ما نالوه من الرتب العليا. فلا يطيب الشرب من منهل لم تعف
عنه الاقذاء، ولا تقر الروح في بدن لم تدفع عنه الأدواء.
829 -
إجازة كلا إجازة
الكشاف للزمخشري:
(إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) وهو الفاجر الكثير الآثام. وعن أبى الدرداء إنه كان يقرئ رجلا فكان يقول: طعام اليتيم، فقال: قل: طعام الفاجر يا هذا. وبهذا يستدل على إن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها، ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة وهي أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها حرفا، قالوا: وهذه الشريطة تشهد إنها إجازة كلا إجازة لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض مالا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها. وما كان أبو حنيفة (رحمة الله) يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر. وروي على بن الجمد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية.
830 -
الغنيمة الباردة
الفائق للزمخشري: الغنيمة الباردة هي التي تجئ عفواً من غير أن يصطلى دونها بنار الحرب ويباشر حر القتال. وقيل: الثابتة الحاصلة، من برد لي عليه حق. وقيل الهنيئة الطيبة من العيش البارد. والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب والهناءة أن الهواء والماء لما كان طيبهما ببردهما خصوصاً في بلاد تهامة والحجاز قيل: هواء بارد وماء بارد على سبيل الاستطالة، ثم كثر حتى قيل: عيش بارد وغنيمة باردة، وبرد أمرنا.
831 -
فانظر إلى من يقودها
إذا شئت أن تقتاس أمر قبيلة
…
وأحلامها فانظر إلى من يقودها
832 -
. . . إلى أن تستوفي أجرتك
الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدي:
حدثنا ابن سيف الرواية قال: رأيت جحظة (البرمكي) قد دعا بناء ليبني له حائطا، فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك إن الرجل طلب عشرين درهما، فقال
جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهما! قال: أنت لا تدري أني قد بنيت لك حائطا ليبقى مائة سنة. فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط، فقال جحظة: هذا عملك الحسن؟ قال: فأردت أن يبقى ألف سنة؟ قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. . .
833 -
الكمثري:
المعرب لموهوب الجواليقي: قال الأصمعي: من الفارسي المعرب (الكمثري) يقال: كمثراة وكمثري منون مشدد، ولم يعرف التخفيف. قال ابو حاتم: وقد يزعمون إنه لا يجوز غير التخفيف، فأنكر ذلك الأصمعي وأنشد:
أكمثرِّي يزيد الحلق ضيقا
…
احب إليك أم تين نضيج
قال: الأصمعي: حدثني عقيلي قال: قيل لابن ميادة الكمثري) فلم يعرفه لأنه أعرابي، ثم فكر وقال: مالهم - قاتلهم الله - يقولون ألا كم أثري.
ليست - والله - بأثري ولا كرامة. وإلا كم المرتفعات من الأرض.
834 -
يا يزيد بن مزيد
ابن خلكان: رأيت في بعض المجاميع حكاية عن بعضهم إنه قال: كنت مع يزيد مزيد فإذا صائح في الليل (يا يزيد ابن مزيد) فقال: علي بهذا الصائح، فلما جئ به، قال: ما حملك على أن ناديت بهذا الاسم؟ فقال: نفقت دابتي، ونفدت نفقتي وسمعت قول الشاعر:
إذا قيل من للمجد والجود والندى
…
فناد بصوت يا يزيد بن مزيد
فلما سمع يزيد مقالته هش له، وقال له: أتعرف يزيد بن مزيد؟ قال: لا والله، قال: أنا هو، وأمر له بفرس ابلق كان معجبا به وبمائة دينار.
عينان.
. .
للدكتور إبراهيم ناجي
طوى السنين وشقَّ الغيب والظلما
…
برق تألق في عينيك وابتسما
يا ساري البرق من نجمين يومض لي
…
ماذا تخبئ لي الأقدارُ خلفهما
أجئت بي عتبات الخلد؟ أم شركا
…
مددت لي من خداع الوهم أم حلما
كأنني ناظرٌ بحرا وعاصفةً
…
وزورقا بالغد المجهول مرتطما
حملْتني لسماء قد سريتُ لها
…
بالروح والفكر لم أنقل لها قدما
شفت سديما ورقّت في غلائلها
…
فكدت أبصر فيها اللوح والقلما
رأيت قلبين خط الغيب حبهما
…
وكاتباً ببنان النور قد رسما
وسحر عينيك إني مقسم بها
…
لا تسألي القلب عن إخلاصه قسما
واهاً لعينيك كالنبع الجميل صفا
…
وسال مؤتلق الأمواج منسجما
ما أنتما؟ أنتما كأس وإن عذبت
…
فيها الحمام ولا عذر لمن سلما
لّما رمى الحب قلبينا إلى قَدَر
…
لهُ المشيئةُ لم نسأل لمنْ ولِما
في ساعة تجمع الآباد، وحاضرها
…
وما يجئ، وما قد مر منصرما
قد أودعت في فؤاد اثنين كل هوى
…
في الأرض سارت به أخبارها قدما
كلاهما ناظر في عين صاحبه
…
موجا من الحب والأشواق ملتطما
وساحة بتعلات الهوى احتربت
…
فيها صراع وفيها للعناق ظما
يا للغديرين في عينيك إذ لمعا
…
بالشوق يومض خلف الماء مضطرما
وللنقيضين في كأسين قد جمعا
…
فالراويان هما والظامئان هما
بأي قوس، وسهم صائب ويد
…
هواك يا أيها الطاغي الجميل رمى
يرمي ويبرئ في آن وأعجبه
…
أن الذي في يديه البرء ما علما
وكيف يبرئني من لست أسأله
…
برءا وأوثر فيه السهد والسقما
لو أن في الموت أسبابا تقربني
…
إلى رضاك لهان الموت مقتحما
إن الليالي التي في العمر منك خلت
…
مرّت ببابا وكانت كلها عقما
تلفت القلب مكروباً لها حسرا
…
وعض من أسف إبهامه ندما
البريد الأدبي
حول (كتب وشخصيات):
لم يسمع الأستاذ أحمد فؤاد الأهواني نصيحتي، فيؤجل قراءة كتابي
الجديد حتى يعود من مصيفه، وهو المسئول إذن عن إضاعة وقت
المصيف في القراءة. فكتاب البحر الخالد وصفحاته المتجددة خير بلا
شك من جميع (الكتب) ومن جميع (الشخصيات)!
هل أشكره لأنه كلف نفسه ذلك العناء، وضيع على نفسه ما هو خير؟ أم أشكر للروح الطيبة التي تناول بها كتابي!
فلأبق ذلك كله الآن، لأنبه إلى فقرة جاءت في ثنايا كلماته الودود:
(ليس في (قنديل أم هاشم) ذلك التحليل العميق للنفس البشرية، حتى إذا نقلت القصة إلى لغة أجنبية نالت الإعجاب. ويبدو أن صداقة الأستاذ سيد قطب للمؤلف هي التي دفعته إلى تشجيعه. ومن آيات هذه الصداقة إنه يقول: أوه! يحيى حقي! أين كانت كل هذه الغيبة الطويلة؟ فيما هذا الاختفاء العجيب)
بيننا اختلاف لا شك فيه على تقدير أقصوصة (قنديل أم هاشم) ولكن الأستاذ يذكر إنه قرأها منذ أمد بعيد. وأنا قد قرأتها وقرأتها وقرأتها. فلعله يرجع إذن مرة أخرى إليها فقد يعدل رأيه.
وهناك حقيقة يجب أن اذكرها هنا. إنني لا أعرف يحيى حقي. لم القه مرة واحدة في حياتي، وأنا أود أن أراه لأعنفه أقسى التعنيف على سكوته. إنني صديق لقنديل أم هاشم لا ليحيى حقي!
ولست اقرر هذه الحقيقة لأهرب من تبعة ثنائي عليه. فلو كان صديقي ما تغير حكمي. وفي من كتبت عنهم أصدقاء ومعارف، وآخرون لا اعرفهم، ولم ألقهم في حياتي. وكلهم كتبت عنهم بروح واحدة، لأن النقد الفني يجب أن يكون موكلا بالعمل النفي.
وحتى العقاد نفسه وصلتي بشخصه معروفة، وصلتي بأدبه أوثق مرات من صلتي بشخصه - ولو فهم الكثيرون غير هذا - كتبت عنه في كل مرة بالعقيدة الفنية التي اعتقدها. وقد
يبدو فيما كتبته أخيراً عن (العقاد الشاعر) في (كتب وشخصيات) إنني اختلف معه في بعض الاحيان، على تعريف الشعر وتذوقه، وعلى النظر إلى العاطفة وأطوارها.
ولكنه اختلاف الرأي والاحساس، الذي لابد أن يقع بين شخصية وشخصية، متى تبلورت الشخصيتان، وظهرت معلمها كاملة، ولو كانتا شخصيتي التلميذ والأستاذ.
أقرر هذه الحقيقة لأنها تنفعنا في عالم النقد، كما تنفعنا في عالم الأخلاق. وللأستاذ الأهواني شكري مرة أخرى، إن أتاح لي فرصة هذه الكلمات.
سيد قطب
الكتب
فقه القران والسنة
القصاص
لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت
للأستاذ محمد محمد العزازي
من فترة بعيدة في تاريخ المسلمين، وكل ما يؤلف في الفقه الإسلامي لا يعدو أن يكون شرحاً أو جمعاً أو تلخيصاً لا تبدو عليه مسحة من الاجتهاد، أو حتى من الفهم المستقل، وكان لهذا أثره السيئ من رمي المسلمين بالجمود، ومن قصور التشريعات الحديثة، ومن خفاء محاسن الشريعة الإسلامية على المسلمين أنفسهم. قال الشيخ شلتوت متحدثاً عن (جفوة المسلمين للفقه في العصر الأخير):
(ولقد مضى هذا الزمن، وصار الفقه الإسلامي صناعة علمية مجردة عن المعاني النفسية والقلبية، بل صار الفقه في كثير من نواحي الحياة العملية صفحات تاريخية لا تمت إلى الواقع بأدنى سبب، وانحاز الناس جميعاً في تعاملهم وأحكامهم إلى أحكام أخرى يسيرون عليها في حياتهم، ويضبطون بها شؤونهم غير ذاكرين ما عندهم من فقه ساير أرقى الحضارات التي مرت بالعالم الإسلامي)
وقد نحا أستاذنا الكبير في كتابه هذا منحى جديداً ينعش - بحق - آمال المسلمين في الرجوع إلى فقههم وفي تفهم مقاصده واتجاهاته. وقد كتب كتابه هذا بعقلية المجتهد، وأقر كثيراً من الموضوعات بما أوتيه من استعداد خاص في هذه الناحية لم يستيسر لغيره من علماء المسلمين من زمن بعيد
وللشيخ شلتوت مدرسة خاصة تكونت من تلاميذه في الأزهر، ومن تلاميذه في كلية الحقوق. وإنا لنرجو أن يكون لهذه المدرسة شأنها في العصر الحديث في إنهاض الفقه الإسلامي وعرضه على الناس عرضاً صحيحاً سائغاً مقبولاً. . . وكتاب الشيخ موضوعه (القصاص)، وقد مهد لموضوعه بفصول ممتعة في هذه المفردات:(الفقه، القرآن، السنة) مبيناً معاني هذه الكلمات، وما طرأ عليها على ضوء تاريخ التشريع في العصور
الإسلامية، وقد دفع الشيخ دفعاً قوياً رائعاً شبهة القائلين:(ان الشريعة الإسلامية جاءت عن طريق الشرائع القديمة، ولم يكن للعرب قانون معروف، حتى تكون تعديلاً له وتنظيماً لأحكامه). وبيّن أن القرآن جاء وللعرب عادات ومعاملات وعرف، وأنه (أقر كثيراً مما درجوا عليه في هذه الشئون، وهذب فيها وعدل وألغى وبدل، وليس ذلك مما يضير القرآن في تشريعه واستقلاله، فما كان الإسلام إلا ديناً يراد به تدبير مصالح العباد وتحقيق العدالة وحفظ الحقوق، ولم يأت ليهدم كل ما كان عليه الناس ليؤسس على أنقاضه بناء جديداً لا صلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع). وقد تتبع الشيخ في هذا الفصل كثيراً مما كان عند العرب وكثيراً من التشريع القرآني في دقة الإبداع. وقال في نهايته: (وهذا البحث جدير بالاستيعاب والتتبع، إذ به يتبين مقدار الصلة بين التشريع الإسلامي، وبين ما كان معروفاً عند العرب وقت نزول القران) وللشيخ قدرة على التتبع تظهر للقارئ في كل فصول الكتاب.
وقد ذكر الشيخ عن القران إنه لم يكن في أكثر أحكامه مفصلاً: (ولكنه يؤثر الإجمال ويكتفي في أغلب الشأن بالإشارة إلى مقاصد التشريع وقواعده الكلية، ثم يترك للمجتهدين فرصة الفهم والاستنباط)
وكان هذا شأن القران في الأمور التي تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وهذا هو سر الخلود في الشريعة الإسلامية وصلاحها لكل زمان ومكان، واتساعها لكل ما يجد من المقتضيات والأحوال. أما في الأمور التي لا تتغير، فإنه يفصلها سمواً بها عن مواطن الخلاف والجدل، ولأنه يريدها مستمرة على الوضع الذي حدده لابتنائها على أسباب لا تختلف. وقد تحدث الشيخ حديثاً رائعاً عن أسباب الاختلاف بين العلماء في الفقه الإسلامي. ومما أعجبني ما تحدث به عن إثبات نسب أسامة بن زيد بقبول القائف:(هذه الأقدام بعضها من بعض). وان العلماء قد اختلفوا في هذا فأستدل بعضهم باستبشار الرسول لما سمع هذا الكلام على إقراره، وانه دليل على ثبوت النسب، وقد رجح المؤلف رأي القائلين بذلك. والذي أعجبني في هذه المسألة قول المؤلف: (وقد كان هذا أصلاً عظيماً في الأخذ برأي الطب الشرعي في الحوادث التي يعتبر القانون نظرها لتبين جهة الحق فيها من اختصاصه، ويمكن أن نلج من هذا الباب إلى الاعتماد في القضاء والحكم على الوسائل
الجديدة التي لم يعرفها الفقهاء من قبل كتحليل الدم وكآثار الأيدي والأقدام، وغير ذلك مما يعرفه علماء التحقيقات الجنائية وأهل الخبرة) ثم تكلم عن الحكم بالقرائن، وضرب لذلك أمثلة ختمها بقوله:(بهذا يتبين أن الأخذ بالقرائن في الأحكام ليس من مبتكرات القوانين الحديثة، وإنما هو شريعة إسلامية جاء بها كتاب الله وقررته السنة ودرج عليه حكام المسلمين وقضاتهم في جميع العصور، وإن رمي الشريعة بالقصور أو الجمود في طرق الحكم ناشئ إما عن الجهل أو عن سوء النية) وإن كل ما أورده المحدثون من تقسيم للقرائن موجود بذاته في كتب الفقه الإسلامي. ثم انتقل الشيخ بعد ذلك إلى الحديث عن القصاص، وسبيله في هذا أن يشرح الآيات والأحاديث الواردة في هذا الموضوع مبيناً مقاصده ومفصلاً أحكامه.
ومما يروع القارئ في هذا الباب قدرة الشيخ على التطبيق واستقلاله في الفهم ووصله الفقه الإسلامي بالحياة الحديثة، وقد مهد لموضوعه بالكلام عن العقوبات في الشريعة، وقسم العقوبة إلى منصوص عليها، والى تفويضية يرجع تحديدها إلى الحاكم، وبين أن العقوبة التفويضية مجال واسع يتسع لكل ما يجد في الحياة، وبعد هذا البيان قال:(ولا يرتاب منصف بعد هذا في أن هذه العقوبة أساس قوي ومصدر عظيم لأدق قانون جنائي تبنى أحكامه على قيمة الجريمة وظروفها المتصلة بالجاني والمجني عليه ومكان الجريمة وزمانها في كل ما يراه الحاكم اعتداء على الحقوق الأفراد أو الجامعات، بل في كل ما يراه ضاراً بالمصلحة واستقرار النظام).
ومما أبدع الشيخ فيه وأمتع حديثه عن حق العفو، وان الشريعة الإسلامية قصرته على ولي الدم، ولم تجعله في يد الحاكم ليكون هذا أدعى إلى اطمئنان النفوس وطهارتها من الأحقاد والأضغان وأمن المحظور والفتنة.
وقد بلغ الشيخ التوفيق غاية التوفيق فيما كتبه عن الشروع في القتل، وعن معنى التحريم في قوله تعالى:(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). وعن آلة القتل وعن القصاص فيما دون النفس إلى غير ذلك من الموضوعات التي لا بد للقارئ من الرجوع اليها في الكتاب نفسه.
وإذا كان لي رجاء أتقدم به إلى أستاذنا الكبير، فهو أن يقدم لنا (المعاملات) في الفقه
الإسلامي على النمط الذي قدم لنا به موضوع (القصاص)، وأن يبين لنا موقف الشريعة الإسلامية من كل ما جد من المعاملات في العصر الحديث، لأن هذا موضوع يشغل بال كل مسلم.
هدانا الله وهداه لخير الإسلام والمسلمين
(أبو حماد)
محمد محمد العزازي
المدرس بالأزهر