الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 684
- بتاريخ: 12 - 08 - 1946
النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه
- 3 -
أما الأسباب التي دفعتهم إلى سلوك هذا النهج في نقد الشعر، فمن السهل تلخيصها في خمسة أمور لا يصعب عليك استنتاجها مما تقدم:
الأمر الأول ما ذكرناه من أن علماء اللغة والنحو لم يروا الفضل في الشعر إلا فيما يمكن الاحتجاج به، وحسبهم من ذلك البيت والبيتان.
الأمر الثاني - وهو من قبيل الأول - أن علماء البيان والبديع، ومنهم أكثر النقاد، كانوا يكتفون بالشطر أو البيت أو البيتين شاهداً على صورة البيان، أو نوع من أنواع البديع.
الأمر الثالث أن القصيدة العربية بطبيعتها مجموعة من مقطوعات تتفق في الوزن والقافية، وتختلف في المعنى والغرض. فإذا أخرجت مقطوعة ما من قصيدة وأدخلتها في أخرى تكون من بحرها ورويها لا تحس نقصاً في الأولى ولا كمالاً في الأخرى.
الأمر الرابع أن الشعراء ألزموا أنفسهم أن يكون كل بيت من أبيات القصيدة مستقلاً بمعناه عن غيره، وجعلوا من عيوب الشعر (التضمين) وهو أن تتعلق قافية البيت بما بعده على وجه لا يستقل بالإفادة. وربما مدحوا الاستقلال بين شطري البيت؛ فقد روى الجاحظ في البيان عن عمرو بن العلاء أن ثلاثة من الرواة اجتمعوا فقال لهم قائل: أي نصف بيت شعر أحكم وأوجز؟ فقال أحدهم: قول حميد بين ثور: وحسبك داء أن تصح وتسلما. وقال الثاني: بل قول أبي خراش الهذلي:
توكل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي.
وقال الثالث: بل قول أبي ذؤيب: وإذا تُرَد إلى قليل تقنع. فقالوا إنه لا يستغني بنفسه، لأن السامع لا يفهم معناه حتى يسمع النصف الاول، والصواب أن يقال قوله:
والدهر ليس بمتعب من يجزع
وكان من اثر استقلال البيت بمعناه أن كثر التقديم والتأخير في أبيات القصيدة حتى لا تجد قصيدة جاهلية يتفق راويان على ترتيب أبياتها.
والأمر الخامس أن الغلبة كانت للرأي القائل بأن الشعر إنما يكون أثره وبلاغه بما فيه من تغير الأوضاع وصور المجاز وأنواع البديع، حتى أن ابن رشد الحفيد المتوفى سنة 595
هـ قال في تلخيص كتاب الشعر لأرسططاليس ما نصه: (والقول (الشعري) إنما يكون مختلفاً أي مغيَّراً عن القول الحقيقي من حيث توضع فيه الأسماء متوافقة في الموازنة والمقدار، وبالأسماء الغريبة، وبغير ذلك من أنواع التغيير. وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغير أنه إذا غير القول الحقيقي سمى شعراً أو قولاً شعرياً ووجد له فعل الشعر. مثال ذلك قول القائل:
ولما قضينا من مِني كل حاجة
…
ومسّح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح
إنما صار شعراً لأنه استعمل: أخذنا بأطراف الأحاديث الخ. بدل قوله تحدثنا ومشينا.
وكذلك قوله: بعيدة مهْوى القُرط، إنما صار شعراً لأنه استعمل هذا القول بدل قوله: طويلة العنق. وكذلك قول الآخر:
يا دار أين ظباؤك اللُّعس
…
قد كان لي في إنسها أُنس
إنما صار شعراً لأنه أقام الدار مقام الناطق بمخاطبتها، وأبدل لفظ النساء بالظباء، وأتى بموافقة الإنس والأنس في اللفظ. وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال. وما عدا هذه التغيرات فليس فيه من معنى الشعرية إلا الوزن فقط، والتغيرات تكون بالموازنة والموافقة والإبدال والتشبيه وبالجملة بإخراج القول غير مخرج العادة، مثل القلب والحذف والزيادة والنقصان والتقديم والتأخير وتغيير القول من الإيجاب إلى السلب، ومن السلب إلى الإيجاب، وبالجملة من المقابل إلى المقابل).
وما دام الشعر مبنياً على هذه الصور والأشكال، فلا يكون النظر فيه إلا من جهة البيان والبديع، وذلك يقتضي النظر في بعض الأبيات وفي بعض أنواع الكلام.
لهذه الأمور الخمسة انحصر النقد البياني عند العرب في جزء واحد من النقد بمعناه العام عند الفرنج، وضاقت علوم البلاغة عندهم هذا الضيق الفاحش، فلم تعالج غير أبيات وفِقَر من الكلام المنظوم والنثر المسجوع، وأغفلت القصيدة باعتبارها وحدة لا تتفرق، والكتاب باعتباره كلاً لا يتجزأ، ولم نحفل ما ألّف بالنثر المرسل من الكتب والقصص. وجر ذلك إلى أن الشعراء والكتاب أوغلوا في البديع وتفننوا في الزخرف، وأهملوا فن القصص فتركوه لأدباء الشعب، ولم يعنوا منه إلا بالمقامات لأنها مظهر الصنعة ومحك القدرة،
فحرموا بذلك الأدب العربي فناً كانوا هم بسليقتهم أقدر الناس على التوفر له والافتتان فيه.
ومن ذلك يتضح أن فهم الأقدمين الخاطئ لحقيقة الفن الشعري والكتابي جر إلى حصر النقد البياني في الصور والأشكال، وهذا الحصر نفسه قد وجه الشعراء والكتاب إلى الاحتفال باللفظ دون المعنى، وبالصورة قبل الفكرة، ففات أكثرهم أن روعة الكلام لا تكون بالرونق والأناقة والصنعة وحدها، وإنما تكون مع ذلك بقوة التعبير عما تكنه الضمائر وتحسه المشاعر، وبدقة التصوير لمختلف الطبائع والعواطف والأخلاق والشهوات والصفات حتى نرى صور أصحابها الحقيقيين أو المتخيلين تتحرك وتفعل وتقول على مقتضى الغرائز الثابتة والفطر الأصيلة؛ وبكشف الغطاء عن طبيعة الشخص بكلمة تجري على لسانه، أو حركة تحدث عن يده، فتكون تلك الكلمة أو الحركة كومضة البرق في الظلام تنير الأفق بغتة؛ وببراعة الوصف لمناظر الطبيعة وظواهر الكون حتى نحس فيها الحياة والحركة وندرك ما بينها وبين النفس وانفعالاتها من اتصال وعلاقة؛ وبشدة التأثير في الأفئدة حتى تستيقظ فيها رواقد الأهواء والعواطف، فتطرب النفس أو تغضب، وتفرح أو تحزن، وترضى أو تسخط، وتحب أو تبغض.
لو إن نوابغ الكتاب والشعراء فطنوا أو نبهوا إلى ذلك لكان من همّ الناقد أن ينظر فوق ما ينظر في الألفاظ والصور إلى تنسيق المعاني وترتيب الأفكار في جملة القصيدة أو الخطبة أو المقالة أو القصة، أو الكلام على العموم سواء أكان شعراً أم كان نثراً؛ لأن سلامة الجزء المنفصل، أو بلاغة البيت المنفرد، لا تدل حتماً على سلامة الكل أو على بلاغة القصيدة.
كذلك كان ينبغي للناقد أن ينظر في الموضوع الذي عالجه الفنان ليرى ابلغ القصد فيما صور، وأصاب الشاكلة فيما رأى، وقارب الحقيقة فيما تخيل. وهل استطاع أن يبعث الحياة الطبيعية الحقيقية في الأشخاص الذين توهمهم ورسمهم. وهل قدر على أن يحرك في قلوبنا أهواء ساكنة، وينشئ في نفوسنا عواطف جديدة، بما أوحاه أو استدعاه أو رواه من الأماني والذكريات والحوادث؟
كذلك كان من عمل الناقد البياني أن يحلل ما ينشأ في نفس القارئ لروائع الكتاب والشعراء من العواطف، وان يبين كيف يستطيع الكاتب أو الشاعر أن ينشئ هذه العواطف أو يوحيها. ومن ثم كانت المقالات النقدية عند الفرنج عملاً فنياً قائماً بذاته يبوئ أصحابه
مقاعد النبوغ والخلود.
وإذا تدبرت وظيفة الناقد من بعض ما ذكرته تبينت لك العلاقة بين النقد وعلم النفس، فأن موضوعه تحليل الأحاسيس والعواطف، والبحث عن طبيعة الجمال وما يصدر عنه من الانفعالات والأهواء، ولذلك لم يصبح النقد عند الفرنج فناً مستقلاً له قواعده ومذاهبه إلا في القرن التاسع عشر بعد أن ارتقى علم النفس وانتشر وازدهر. ومنذ ذلك الحين تابع رقيه حتى بلغ أوجه وأدرك تمامه، فأثر في فنون الأدب ابلغ التأثير، وعدل في بعض أنواعها كل التعديل
فإذا أضفت إلى الأمور الخمسة التي تقدمت، هذا الأمر السادس وهو جهل القدماء بعلم النفس كما كان يجهله غيرهم، اجتمعت لديك الأسباب التي أدت إلى ضعف النقد عند العرب، والنتائج التي أحدثت هذا النقص البادي في تاريخ الأدب.
أحمد حسن الزيات
عود إلى حديث الإنسانية!
(إلى أخي الأستاذ علي الطنطاوي)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كل ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية الفاسدة الشديدة الفساد الآن تحمل كثيرين على عدم الثقة بالإنسان وسوء الاعتقاد فيه، فليست قصتك التي أهديتها ألي في العدد الماضي يا أخي شيئاً مذكوراً بجوار القصص التي تمثلها الجرائم السياسية الكبرى التي يعرضها شيوخ السياسة على مسرح الأرض، ولا بجوار المخزاة الدامية المجرمة التي تمثلها الصهيونية، وتنصرها الولايات المتحدة الأمريكية! - تلك التي كانت أمل العالم فطواها الشيطان في جناحه الأسود فيما طوى من آمال السلام والخير - وتغضي عنها الإمبراطورية البريطانية إغضاء الذليل الضعيف، وهي التي خرجت منصورة من حرب كادت تودي بها، أعلنتها، وكان من أسباب إعلانها لها الانتصار لليهودية المضطهدة على يد النازية!
أجل، ليست المسألة في الحكم على الإنسانية بأنها للخير أو للبوار مسألة قسوة فرد أو جريمة شخص، فأن فساد الأفراد وبخاصة في عصور الانحطاط، يكون من الكثرة بحيث لا يحصيه العادّ ولكن هل معنى ذلك أن نستسلم للواقع السيئ ونحطم عقائدنا في الخير والصلاح ونلقي سلاح كفاحنا لهما؟
وقد كانت صيحتي (أومن بالإنسان) في إبان الحرب الأخيرة رداً لهجوم عنيف على قلبي من موجات التشاؤم والسخط والتبرم من ذلك المجتمع الإنساني الذي اشتعل بالحقد والقسوة والكفر بالقيم العليا للحياة الإنسانية فدمر كل شيء وكفر بكل شيء لأنه فارغ الفؤاد من العقائد السامية في الإنسان وفي الله خالق هذا الإنسان ومكرمه!
وكانت الفكرة التي تسلسل الحديث بها في هذا الموضوع إنما هي فرار بنفسي وعقائدها السامية في حياتي الشخصية وحياة النوع الذي انتسب إليه.
وعندما يطم طوفان الفساد لا تجد النفس عاصما منه إلا باللجوء إلى صخرة الإيمان بتلك القيم العليا التي تعمر الوجود، ولا تطمئن النفس إلى الحياة إلا إذا ظلت لهذه القيم قداستها وهيبتها. فإذا رأيت المدن والمعابد والشيوخ والأطفال والعجزة والمعاهد، وكل ما قامت عليه الحضارة الإنسانية من القداسات والحرمات تدكه يد الحرب المجنونة الفاجرة، فعلى
العذر أن ألتمس لنفسي ولمن أشاء مكن الناس أفقاً أرى فيه تأويل هذه الظواهر الفاسدة والجرائم المنكرة كي أوفق بين عقائدي الدينية في إرادة الله بالناس الخير مهما بدا هذا الخير ملفوفاً بالشر، وبين سير الحياة بالأحياء. . . وإلا فقد عرضت نفسي لما تعرض له بعض من كتب إلى منذ حين يقول إن الحياة الإنسانية لغير غاية، وإن الله - تعالى - قد فاتت عليه الغاية من خلق هذا النوع فقد خلقهم لعبادته، فلم يعبده منهم إلا الأقل!
على إن كل ما ضاعف في الناس فعل الشر وسلبهم الاعتقاد في الخير هو ذلك اليأس من الخير، وذلك الاعتقاد بأن الشر هو الغالب على الطبع البشري، وذيوع هذا الاعتقاد في هؤلاء المحاربين المصريين، هو الذي جعلهم يحاربون بروح التدمير وعدم الإبقاء على شيء، وما دامت الحياة للشر فليخبطوا فيه خبط عشواء على نحو بيت المعري:
وبصير الأقوام مثل أعمى
…
فهلموا في حِندسِ نتصادمْ!
أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن نؤمن بأن هذا النوع الإنساني يمكن الإقلال من شره، وإقامة حياته على مثل الدولة الإسلامية الأولى، أو على مثل دول سكان الشمال من أوربا الحالية، وعندئذ نجد في أنفسنا العزائم على الجهاد والصبر والكفاح في هذا السبيل حتى نصل أو نقارب بحسب الطاقة وبحسب قوانين الدنيا. . . وعندئذ يستمر سير الحضارة والإصلاح مطرداً ويظل الخير له دولة في الحياة كما أن للشر دولة، ولا ضير على العقائد أن يبقى من الشر بقايا ما دام الخير هو القانون الحبيب للنفس تلوذ به وتعتصم بعواصمه عند المواقف الفاصلة. . . وإما أن نكفر بهذا النوع ونهدر قيمه الخلقية، ونفقد آمالنا في انه مخلوق لغايات كريمة، ولا نستمع لوصايا الأديان القويمة بالبر وحسن الخلق والدعوة للخير والغضب على الشر، وعندئذ فلنخلع قناع المدنية عن وجوهنا وجوه الذئاب والخنازير والنمور، ولنفضح كل مواضعات النفاق الاجتماعي، ولنعلن بصراحة أن وصايا الأديان أخاديع أو أغلوطات عظيمة من عبقريات التاريخ الكاذب المدلس، وان الإنسانية يجب أن تتخذ لها فلسفات فردية لكل فرد في الامة، ولكل أمة في الأمم يرعى فيها الفرد مصلحته الخاصة، والأمة مصلحتها الذاتية، وتسعى كل أمة أن تكون أربى من غيرها، لأنه لا رحم ولا نسب بينها وبين غيرها، وإنما هي قطعان وحيوانات بشرية تسعى (لتعيش) في أضيق حيز، وهو حيز (الذاتية).
وأ ليست هذه الحياة التي وصفنا على هذا الفرض هي الحياة التي تحياها الأمم وتشقى بها كل أمة وتدمر كل حضارة؟! فإذا أردنا أن نفر منها، فلماذا لا نؤمن بفلسفة تناقضها وتحاربها؟! وهل هذه الفلسفة إلا أن 0نؤمن بالإنسانية الواحدة). وأنها مخلوقة لغايات عليا ليست هذا النزاع على الذهب الأصفر والذهب الأسود والفحم الأسود والفحم الأبيض) وإنما هي البحث عن كلمات الله في الطبيعة بحث طالب (العلم) لا طالب (الفائدة) المادية وحدها؟.
وأ ليست هذه الغاية لو تحققت جديرة بأن تشعر الناس جميعاً انهم نوع واحد غريب الوضع في هذا الكون! لأنه وحده يفتح أبواب الطبيعة باباً فبابا، ويتدرج في تسخير قواها درجة درجة حتى وضع يده في منابعها، وحطم أسوار (الذرة) التي هي وحدة بناء الكون المادي.
ذلك هو (الوضع الأصيل) للإنسانية الذي يجب أن يرصدها منه الراصدون ليعلموا أي كائن هذا الإنسان الذي يحملونه في أجسادهم ويبادلونه ما صح وما فسد من شأنه وشئونهم!
آما أن يرصده راصد في (ولد عاق)، أو (وحش الإسكندرية) أو سفاح باريس (الأخير أو غير أولئك من الثمرات الإنسانية المعطوبة الملوثة التي سقطت وتلوثت لضعف روابطها بفروع الشجرة الإنسانية، ثم يحكم عليه كله لذلك، فتلك نظرة جزئية لا تليق بمن يجعل عقله ميزان حكم على الكون ومرآة رصد لأعاجيبه التي لا تنفد في حرب الخير والشر، وعراك الصلاح والفساد، وصراع الموت والحياة، وقذف الحق على الباطل!
وأني اسأل أخي الطنطاوي: لماذا يفقد ثقته وإيمانه بالإنسانية لأجل مثل من العقوق يقابله أمثال من البر بالآباء؟ هل جميع الأبناء مثل هذا الابن العاق؟ ولماذا تألم قلبك من هذا المثل الشرير؟ أليس لأن قلبك ينكره؟ إذاً ففي قلوب الناس نوع خير ينكر الشر ويضربه مثلاً، وبكتبه قصة يشنع بها ويسمع بصاحبها، ويجد في قلوب الناس صدى لألم قلبه، لأن (البر لا يبلى). وما دام في الإنسانية خير وشر فلم نيأس منها ونزرى بقضيتها؟ لماذا نحرق الحقل كله لنتخلص من الزوان؟!
إن الأولى بنا أن نعتقد إن الإنسانية كحقل من النبات، الأصل فيه إن ينبت أكثره نباتا حسناً، ويؤتى أكله وثمره إذا تعهدناه بالسقي والرعاية والحراسة من الآفات والحشرات التي
تعطيه وتفسده وتجعل أكثره ينبت نباتا سيئاً. ولا بد أن يكون فيه المعوج بالطبيعة ولكنه لا يكون الأكثر في العادة.
ولن يفقد الزارع أمله من الزرع إذا ما خانه حظه في موسم من المواسم فييأس ويقول: إن هذا النوع من الزرع ملعون! ولن ازرعه، إلا إذا كان أحمق.
ونحن الذين نعلم أن كل مولود يولد على الفطرة ثم تلحقه عوامل التربية والبيئة فيتكيف بها ينبغي لنا أن نتربص ونتوجه بكل جهود الإصلاح إلى قلوب الطفولة منطقة النمو الإنساني، ونجتهد أن تنبت نبتاً طيباً وعلى الله الباقي!
ذلك حديث اذكر به صديقي بقضية الإنسانية والإيمان بها، وآثار ذلك وضده من النواحي العملية والاجتماعية.
غير أن للقضية وضعاً آخر من الناحية الفلسفية قد لخصته في تلك العبارة التي لاشك رآها الصديق في كتابي عن القضية وهي:
(أومن بالإنسان لأومن بالكون ورب الكون؟ فلن يؤمن الفرد الإنساني بهما إن لم يؤمن بنوعه؛ لأن عقل الإنسان هو المنظار الذي ندركهما به، فإن أهدرنا قيمة الإنسان أهدرنا عقله، فلا يبقى ما ندرك به كوننا وربنا!! ويعيش أكثرنا كما يعيشون الان، تضطرب بهم مجهولات الكون ومعلوماته كغرقى طافين على أكف الأمواج، لا يعقلون شيئاً ولا يؤمنون بالكون والنفس ولا بربهما، وإنما يعيشون في ذهول وبلبلة وشك، ثم يمضون إلى ظلمات القبور).
تلك هي القضية وهي أشبه (بمعادلة رياضية) وهي عندي القضية الفكرية الأولى في الدين والعلم والفلسفة.
فهل تراني أخطأت؟
عبد المنعم خلاف
تاريخ جحا.
. .
جحا التركي
للأستاذ كامل كيلاني
- 3 -
الأستاذ نصر الدين
ولد الأستاذ نصر الدين - كما أسلفنا - في (سيوري حصار) إحدى بلاد الأناضول، ومات في (آق شهر)(البلد الأبيض) ونشأ فلاحاً ذكياً يؤثر أن يحطب بيده ويعيش من كد يمينه.
وكان سخي اليد كريم النفس لا يقصر في واجب ضيف ولا يرد عائدا إلى داره من الغرباء والفقراء.
فإذا حذفنا أسماء البلدان فما ندري: أي الجحوين به ذلكم الوصف أكثر التصاقاً، وعلى أيهما كان أكثر انطباقاً، ولكن من يدري؟ فإن قدرة الله تخلق من الشبيه أربعين، كما تخلق من الشخوص الجحوية أربعين.
كان الأستاذ نصر الدين - فيما يقول مؤرخوه - أمة وحده: كان فيما يتمثله بعض مؤرخي الأتراك فيلسوفاً حكيماً يمزج الفكاهة بالجد، ويعرف كيف يخاطب الناس على قدر عقولهم، وكان آية من آيات الذكاء وخفة الروح.
وكثيراً ما تخللت نصائحه طرائف عالية من الدعابات الحلوة والنكات المستعذبة واللطائف المستملحة، ولم يكن كما يتخيله العامة مهرجاً ولا مبتذلاً ولا أبله ولا مخبولاً، ولا - كما توهموه - عاجزاً عن التفريق بين الخير والشر.
وكيف يكون ذلك وقد شهد علماء الأناضول: انه كان لهم في العلم إماما يقتدى به ويهتدى، وعالماً ثبتاً، وقطباً من أقطاب الحكمة والفلسفة.
قالوا:
ولا أدل على ذلك من ذيوع ترجمته وانتشار أخباره وطرائفه المبدعة في بلاد الدنيا كلها، عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل حتى وصلت إلى أيدينا متجددة الروعة دون أن تبلى جدتها، أو تخلق ديباجتها.
وكان يحلو له السياحة والتجوال مشياً على قدميه. ولم يعرف عنه ميل إلى التزلف، ولا نزوع إلى الخبث، ولم تؤثر دعابته ونكاته في مكانته الرفيعة بين معاصريه، ولم تقلل من احترام الأهلين له، ومحبتهم إياه.
إلى هنا ينتهي الوصف الذي يصدق على الجحوين: الشيخ أبي الغصين دجين بن ثابت، والأستاذ نصر الدين أفندي. ثم ينفرد ثانيهما بما يأتي:
كان تاريخه الحربي والسياسي - فيما يقولون - حافلاً بجلائل الأعمال. وقد ختم بسفارة رسمية سياسية في بلاد الكرد (كردستان) فنجح فيها أيما نجاح.
ويدل ما بقى في أيدينا من آثاره على انه لقي من ضروب الامتحان، وتعرض لأزمات كثيرة لقيها بثبات وثقة خليقين بأمثاله من كبار النفوس.
وما زال يعلوا في المناصب ويسفل، ويلقى من أسباب السخط والرضى - تبعاً لتقلب الأهواء ما يلقاه أمثاله من الأحرار الصابرين.
وقد ولى القضاء في آق شهر (البلد الأبيض) وملحقاتها. وكان يخطب في (سيوري حصار). وقد عرف عنه انه كان جريئاً لا يتهيب أن يدعوا الأمراء والولاة والحكام إلى طاعة الله والتمسك بأهداب الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وكان يؤم الناس في ولايات (أنقرة) و (بورصة) و (قونية) وما إليها من البلدان وأقرأ ابن السلطان كتاب الهداية ووقفه على دقائقه وجلا له غوامضه.
ولن يؤخذ هذا الرجل الصالح بما فرط منه من زلات في جن نشاطه ومستهل فتوته. فقد اقلع عنها وتم له النسك بعد اكتمال عقله ورجولته وقد ختم حياته بالوعظ وتدريس علوم الدين.
وقد أهلته شجاعته وحكمته ودعابته، وما تحلى به من مواهب وميزات باهرة، وما حاباه الله به من قدرة على اكتناه دقائق الفن والنفاذ إلى مغالق العلم، وما ذاع بين معاصريه من شهرة مستفيضة بين علماء زمنه وحكماء عصره، إلى الظفر بأسمى المناصب، وأتاحت له المثول في حضرة (تيمورلنك) والاتصال به. ومكنت له تلك الأسباب مجتمعة من النجاح فيما هدف له من تلطيف جوره وكف أذاه عن الناس وتخليصهم من كثير من مظالمه.
قالوا: وساعدته على ذلك بديهة حاضرة وكياسة نادرة، ونكتة مستعذبة ودعابة محببة.
وإن مرتاد الأناضول ليدهشه ما يراه من اعتقاد الناس فيه؛ فهو عند الأهلين: من أولياء الله المقربين. وهم يؤمنون بأن زيارة قبره تجلب البركة والخير العميم على زائريه. فإذا شك إنسان في شيء من هذا أصابه أذى أو مكروه جزاء جحوده ونكرانه.
وللأهلين في ذلكم الباب طرائف كثيرة، منها:
(أن مركبة مرت أمام قبره، وعليها هودج معمد (اعني ذا أعمدة). وكان يستقل الهودج أسرة فيها شاب لا يدين بالخرافات. فلم يشأ أن يجري على عادة الأهلين الذين تفرض عليهم التقاليد أن يترجلوا قبل أن يبلغوا قبره، وأن يقرءوا الفاتحة أمامه باسمين وإلا عرضوا أنفسهم لمساءة وشيكة، وربما حلت بهم كارثة عاجلة لا قبل لهم بها، ولا حيلة لهم في دفعها.
قالوا: وأصر الشاب على أن يستهين بهذا التقليد الصالح الذي جرت به العادة هناك. فماذا حدث؟
لم يكد الهودج يسير خطوات قليلة حتى اصطدم فيما يزعمون بفرع شجرة ممدود، فجفلت الخيل وقذفت بأفراد الأسرة على الارض، وتمزقت سجوف الهودج ورفافه.
فلا غرو إذا ثبت اعتقاد الأهلين في بركة الشيخ وقال قائلهم مباهياً:
منذا الذي يجرؤ على احتقار شيخنا، أو الاستخفاف به، بعد اليوم؟
وقد علق على هذه القصة بعض أفاضل الباحثين من الترك، فقال:
(ولا ضير من أمثال هذا الاعتقاد، فإن الاستنجاد بروحانية الأخيار افضل وأجدى مما يرتكبه المنكرون الجاحدون من شرور وحماقات.
قالوا أن عالماً متفقهاً في دينه، سأل زوجته: لماذا لم تكنس البيت؟ فقالت له (ذهبت إلى أمي اليوم، ولم اعد إلا ساعة الغروب) فقال: (لقد مرت ساعتان على ذلك فما بالك لم تكنسيه؟) فصاحت فيه متعجبة: كيف تقول هذا؟ إلا تعلم أن الكنس يحرم متى جن الليل؟) فضرب الرجل كفاً على كف وقال من أين لك هذا العلم أيتها البلهاء؟ أتحبين أن تعلميني ما ادرسه للناس كل يوم في المسجد من شؤون الحرام والحلال؟) فقالت له: (لا شأن لي بعلمك، فكذلك أخبرتني أمي وجدتي، وعمتي وخالتي، وأختي وجارتي، وعلى ذلك الرأي اجمع كل من عرفت)
فلما اشتدت اللجاجة بينهما قالت له الزوجة متبرمة: (اكنس أنت إذا شيءت ما دمت لا ترى في ذلك حرجاً)
فأمسك الشيخ بالمكنسة وراح يكنس هازئاً برأي صاحبته متحدياً إياها بين لحظة وأخرى. ولم يكد ينتهي من ذلكم حتى لدغته عقرب فصاح مغوثاً يقول:
(لعله علم وترك)
لعلنا نتعلم من هذه القصة ما يجب على كل رجل من الإذعان لرأي المرأة - ولو كان باطلاً وطاعته طاعة عمياء.
ومن عادة الأهلين السذج في (آق شهر) أن ينظموا الأشعار في أعراسهم بعد أن يذهبوا إلى قبر الأستاذ نصر الدين، ثم يوجهوا الدعوة اليه، وهذا نصها:
(أحضر شيوخك، واحضر من تحب من أصفيائك العلماء).
وليس يجرؤ أحد منهم على مخالفة هذا التقليد: وعندهم:
أن الحياة الزوجية لن تزدهر بين العروسين، ولن يباركها الله إذا غفلوا عن تنفيذ هذا التقليد.
ولا يقتصر المحتفلون على ذلكم، بل يدعون حارس قبره ليكسب حفلتهم بهجة وحبوراً بما يقصه عليهم من ملحه وطرائفه.
حفيد نصر الدين
ومن طريف ما يروى إن بعض حفدته قدم إلى الأستانة مع أسرته، في عهد السلطان مراد الثالث، في القرن العاشر الهجري (982 إلى 1003هـ)، ملتمساً من وزارة الأوقاف أن تقرر له إعانة شهرية يسيرة من المال تمكنه من شراء ما يتبلغ به من القوت. ولم يجد حفيد نصر الدين شيئاً يربط إليه دابته. ثم لم يلبث أن لمحت عيناه طبلاً كبيراً أمام باب الوزارة، يستخدمونه لتنظيم المواعيد، وتوقيت الحضور والانصراف، وما إلى ذلك مما تستخدم فيه الأجراس عادة. فشد صاحبنا دابته إلى ذلكم الطبل بعد أن ضاقت به الحيل في الاهتداء إلى غيره.
وكان في ساحة الوزارة - جمهرة من البغال التي تعدها الدولة - كل عام - للذهاب بما تحمله من مال ورجال إلى الحج. ولم تكد الدابة تستقر حتى ركلت الطبل برجلها - تعمدا
أو اتفاقا - فأحدثت ضجة وضوضاء فأجفلت البغال وهربت من الذعر. وشاع الهرج والمرج. وانزعج ولاة الأمر، وبحثوا عن مصدر الصخب ثم ما لبثوا أن اهتدوا إلى أن حفيد نصر الدين هو مصدر الضجة كلها.
وقد كانت تلكم الحادثة وحدها كافية للتعريف بنفسه، فأغنتهم عن التثبت من بنوته، بعد أن رأوا في تصرفه ما يدل على أصالته، وصحة نسبه.
تحقيقات
1 -
قبر نصر الدين:
ولا بأس من وقفة قصيرة نستعرض فيها ما انتهى إليه بعض الباحثين في تاريخ الأستاذ نصر الدين إذ يقول:
(ونحن بما انتهت إليه تحقيقاتنا العلمية في بلاد الأناضول وقمنا على كتاب: (السياحة إلى قونية) الذي أهداه ألينا أحد الأفاضل إخواننا (ضيا بك).
وبإطلاعنا على هذه السياحة وجدنا أن للمرحوم قبراً في مقبرة (آق شهر) مكتوباً على شاهدته هذه الجملة:
هذه التربة. المرحوم المغفور له المحتاج إلى رحمة ربه الغفور نصر الدين أفندي روحنا (إلى روحه) فاتحة 386.
2 -
تاريخ وفاته:
ثم يقول:
وقد استثار هذا التاريخ دهشتنا لأن نصر الدين لم يمت في ذلك التاريخ، واستدللنا على انه محرف، وان الأرقام قد كتبت معكوسة، وصحتها 83. وقد تبينت صحة ذلك التاريخ من التحقيق المحلى الذي قمت به لأن المرحوم من رجال السلطان اورخان. وقد حكمنا من الشواهد والملابسات إن ما وصلنا إليه من نتيجة هو الصواب لا ذلك الذي كتبوه على شاهدة قبره خطأ. وقد تبين لنا من ذلك الخطأ في التاريخ المثبت على القبر ومن كتابة أرقامه إنها مقلوبة.
ومن عجائب الاتفاق وغرائب الأستاذ أن يقلب تاريخ وفاته على قبره أيضا، وكأنما تعمد
كاتبه أن يقلبه ليدل على أن النكتة لا تفارق صاحبنا حيا وميتا.
إلى أن يقول:
(وقد انتهت تحقيقاتنا إلى انه كان رحمه الله قد ظهر تقريبا في عهد السلطان (ييلديرم بايزيد) أي (الصاعقة بايزيد).
ومعنى هذا انه عاش في أوائل القرن السابع. وانه عاش ستين عاماً أو يزيد، إلى أن توفى سنة 683 هـ كما يدل على ذلك لوح القبر الذي دفن فيه).
وقد قبست جريدة صدى الأجراس (جينفر اقلي تاتار) الكلمة التالية من كتاب تاريخ النكات (لطائف نويس) وقد ألفه في جزءين عن لطائف نصر الدين، قالت:
كان الأستاذ من رجال المرحوم السلطان ييلدرم بايزيد.
3 -
صحبة تيمورلنك:
فإذا عن لنا أن نترفق في مناقشة أقوال هذا المحقق، ونتفهم ما انتهت إليه تحقيقاته العلمية، تعذر علينا أن نجاريه فيما انتهى إليه.
فإذا افترضنا أن التاريخ مقلوب_كما ذهب إلى ذلك صاحبنا وتابعه في رأيه كل من أضفرنا الحظ بقراءة بحوثهم، فكيف نعلل ما حدثنا به ذلكم الباحث نفسه وما حدثنا به جمهور المؤرخين من صحبته للباطش السفاح الطاغية تيمورلنك.
كيف نعلل ذلكم، وقد ولد (تيمورلنك) بمدينة (كيش) - فيما تعلمون في القرن الثامن، إذا صح أن (نصر الدين) مات في القرن السابع.
إذا صح أن تيمورلنك ولد عام 737 هـ فيما يقول التاريخ وان نصر الدين مات عام 683 هـ فكيف التقيا؟ وكيف ونصر الدين لم يدرك مولد الطاغية، بله انتصاره على بايزيد الصاعقة الذي تم له فيما تعلمون واعلم عام 805هـ 1402 م بل كيف لقي (اورخان) وهو لم يل الإمارة فلا عام 726 هـ، أي بعد وفاة (نصر الدين) بثلاثة وأربعين عاما.
لقد مات (اورخان) عام 761هـ، ثم خلفه ابنه مراد الأول (من 761_792 هـ) ثم خلفه بايزيد الأول (792_802 هـ) وانتهى أمره في عام 805 هـ.
كيف نعلل ذلك كله وأخباره مستفيضة مع بايزيد وتيمورلنك!
قالوا: إن جحا بطل محاضراتنا، سمع فقيها يتلو الآية هكذا (فخر عليهم السقف من تحتهم)
فانتفض جحا غاضبا، وصرخ فيه متعجبا. (إذا فاتك النص يا هذا فلا يفوتنك الذوق! كيف استقام في ذهنك أن يسقط عليهم السقف من تحت؟ قل من فوقهم لا أبا لك؟
إحدى اثنتين أيها السادة:
أما أن نأخذ بالتاريخ المقلوب، كما أخذ ذلكم المحقق، فننكر صلة نصر الدين ببايزيد بله تيمورلنك!
وأما أن نأخذ برواية من يثبتون لنا مؤكدين انه صحب بايزيد كما صحب تيمورلنك من بعده، فننكر صحة التاريخ المكتوب على القبر طردا وعكسا، ونسقط رأي أولئكم المحققين إثباتا كانوا أم غير إثبات.
فأن كان لا بد من التشبث بالأرقام الثلاثة التي يتألف منها التاريخ المثبت على جدثه وهي 368، فليس لنا مندوحة عن نقل رقم الثمانية من الطرف الأيمن إلى الطرف الأيسر، أعنى: من رقم الآحاد إلى رقم المئات فتصبح حينئذ 836 هـ. وهذا التاريخ
- على أي حال - في حدود الممكنات، إذا استحال علينا الأخذ بالتاريخيين السالفين طردا وعكسا. فإذا أبينا إلا الاسترسال في تحوير الأرقام وتقليبها على كل وجوهها لم يبق أمامنا إلا تحوير واحد، هو آخر ما يتبقى لمن يحلو له أن يتشبث بها، لم يبق إلا تاريخ 863 هـ، وهو كما ترون: أبعد احتمالا من سابقه، وان لم يكن ممعنا في الاستحالة إمعان التاريخ المثبت على القبر مثبتا ومقلوبا، هذا إذا تسمحنا في عمره بأنه لم يعش إلا ستين عاما أو قريبا كما يقول القائلون.
فلو انه عاش مائة عام مثلا لما استحال على الباحث أن يأخذ بهذا التاريخ. على أن خير الأمور الوسط، والاعتدال، كما يقولون، هو: الحسنة بين السيئتين.
من بدائع ما يروى من الطرف في هذا الباب أن متحدثا ممن وهبهم الله_إلى نعمة الغباء والغفلة_عجمة اللسان، قال:(حسن وحسين بنات معاوية بن عفان).
فصاح فيه أحد السامعين متعجبا:
قل لي بأي خطأ في هذه الجملة القصيرة أبدأ تصويبه:
فأول الأشياء هما: (حسن) و (حسين) وليسا (حسنا) ولا (حسينا):
والثاني انهما ليسا من النساء بل من الرجال.
والثالث انهما ليسا جمعا بل مثنى.
والرابع انهما ولدان لا بنتان ولا بنات.
والخامس أن أباهما علي بن أبى طالب لا معاوية.
والسادس أن معاوية بن أبي سفيان لا عفان.
والسابع أن ابن عفان هو عثمان لا معاوية)
وما أكثر ما يتمثل الباحث في تاريخ جحا، هذه الطرفة الرائعة كلما عرض لمناقشة الكثير من أقوال من تصدروا للحديث عنه، في أكثر المناسبات، على اختلاف اللغات.
كامل كيلاني
من وحي الصوم:
رمضان عند الأدباء. .
للأستاذ محمد رجب البيومي
يتمتع شهر رمضان المبارك بمنزلة طيبة في نفوس الكثرة الغالبة من المسلمين، فأنت تراه ضيفا محبوبا يستقبل حين قدومه بشتى مظاهر المحبة والابتهاج، ويودع حين رحيله بدموع الحسرة والالتياع. وإذا كنا نسمع في أخبار الماضين من رجال السلف الصالح رضي الله عنهم انهم كانوا يعزون أنفسهم في الليالي الأخيرة من رمضان، فأننا لا نزال نرى بأعيننا الفسقة والعصاة من المؤمنين يجترحون السيئات ويقترفون الموبقات، حتى إذا وجدوا أنفسهم في حرم رمضان ضجت ألسنتهم بالتهليل والتكبير، وارتعدت فرائضهم من خشية الله، ولزموا حلقات الدروس في المسجد يستنشقون روائح الجنة من نسمات هذا الشهر المبارك!
ولكن فريقا من الأدباء - عفا الله عنهم - قد أخذوا يغازلون شهر الصيام مغازلة شكا منها إلى ربه، ثم تحولت المغازلة على ممر الأيام إلى عداء مستحكم، فبعد أن كان الشاعر لا يزيد على قوله:
نُبئتُ أن فتاة جئت أخطبها
…
عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
أو قوله:
أتأمرني بالصوم لا درّ درها
…
وفي القبر صوم يا أميم طويل
بعد أن كان لا يزيد على ذلك وجدنا الأمر قد استحال فجأة إلى هجو لاذع، وسب مبرح، لا نظن إلا أن الله عز وجل سينتقم للظالم فيه من المظلوم يوم يقوم الناس لرب العالمين
وأول من أعلن هذه الحرب الظالمة - فيما نعلم - هو هذا الأعرابي الفدم الذي يروى ابن قتيبة في عيون الأخبار قصته فيقول:
(قدم أعرابي على ابن عم له بالحضر، فأدركه شهر رمضان، فقيل له: يا أبا عمرو، لقد أتاك شهر رمضان! قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام! قال: أبا لليل أم بالنهار؟ قالوا: بل بالنهار؛ قال: أفيرضون بدلا من الشهر؟ قالوا: لا؛ قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تضرب وتحبس. . . فصام أياما فلم يصبر، فارتحل عنهم إلى غيرهم
وجعل ينشد:
يقول بنو عمي وقد زرتُ مصرهم
…
تهيأ أبا عمروٍ لشهر صيام
فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي
…
سلام عليكم فاذهبوا بسلام
فبادرت أرضا ليس فيها مسيطرٌ
…
عليَّ ولا منّاع أكل طعام)
كانت هذه القصة بذرة سيئة تولدت منها تلك الحملة الطائشة التي شنها الأدباء على رمضان. ومهما يكن من شيء، فقد حركت ما سكن في النفوس، وأطلقت ما حبس في الصدور، فخرج الأدب بصفقة رابحة كان ضحيتها رمضان المسكين! ولعل عزاءه في ذلك قول الله عز وجل:(والشعراء يتبعهم الغاوون)!
على أن كثيرا من الأدباء كانوا أقدر على ضبط ألسنتهم من إخوانهم الذين تورطوا في معاداة هذا الشهر العظيم، فنحن نقرأ في تاريخ البحتري مثلا أنه كان ضائق الصدر برمضان، متبرم النفس بطوله، ونلتمس ذلك في شعره، فلا نجد إلا متفرقات يسيرة لا تطفئ أو أما، ولا تبل غليلا، كأن يقول:
فتروّ من شعبان إن وراءه
…
شهراً سيمنعك الرحيق السلسلا
ثم يكرر هذا المعنى مرة ثانية وثالثة، فإذا هاج صبره بعد مرور سبعة وعشرين من عمر رمضان لم يزد على أن يطلب من الله عز وجل أن يجعل الشهر كله ليلا حتى لا يجد النهار الذي يصوم فيه عن الطعام والشراب، وفي ذلك يقول:
قد مضت سبعة وعشر وعشر
…
ما نذوق اللذات إلا لماما
ما على الليل لو أقام علينا
…
أو يرانا من الصيام صياما
أما أبن الرومي، فقد أطلق العنان لقريحته الوقادة، وأنهال على رمضان بسياطه المحرقة حتى مزق جلده، وشوه أديمه، وتعليل ذلك واضح يسير، فالبختري على رغم ما له من جاه عريض لدى الخلفاء والرؤساء كان نكساً رعديدا يقول الهجاء، فيقبض بيده على قلبه ويرسل وراء شعره العيون والأرصاد يتجسسون لدى المهجوّ، ويخبرونه بموقع هجائه من نفسه، فإن لم يلق له بالا حمد الله على السلامة. وإن كانت الأخرى أخذ يتزلف ويتوسل ويحبّر النابغيات الطويلة في الاعتذار، وحسبك أن تعلم أنه قال في قصيدة القافية
ولم أر كالدنيا حليلة صاحب
…
محب متى تحسن يعينيه تطلق
تراها عيانا وهي صنعة واحد
…
فتحسبها صنعي حكيم وأخرق
حين قال ذلك شنع عليه أحد العامة بأنه ثنوي، فخاف على نفسه وقال لابنه أبي الغوث: قم بنا نخرج من بغداد خروجا نأمن على أنفسنا فيه، ثم خرج ولم يعد، فشخص نفسيته ضعيفة خائرة كالبحتري لا يجد الشجاعة الكافية التي يذم بها رمضان على رءوس الأشهاد. ولا كذلك ابن الرومي، فقد كان جسور القلب حاد اللسان يسوق الهجاء في الوزراء وذوي الشأن في الدولة، ثم يتزايد ويتسع فيه دون مبالاة أو اكتراث مما أدى إلى حتفه في النهاية، فمات ولم يستمتع بخاطره، ولم ينزح ركية فكره - كما قال الصولي - فإذا كان هذا شأنه، فغير كثير عليه أن يسلط لسانه على رمضان معبرا عما يختلج في نفسه أصدق تعبير. والحق أن هذه ميزة أبن الرومي يصدر عن طبعه وينقل عن خاطره مهما جلب عليه ذلك من الشرور والويلات، والجنون فنون
بدأ أبن الرومي حملته بتأدب ملموس، فلم يشأ أن يهجم بادئ ذي بدء بما هجم به أخيرا من الذم والقدح، بل اكتفى بإعلان تبرمه بطوله الممتد، وود لو مر كالسحاب، وكان جميعه كيوم أو بعض يوم، وقصارى حيلته أن يدعو عليه، وأن يرحب بأيام الفطر اللذيذة فيقول:
إذا برّكت في صوم لقوم
…
دعوت لهم بتطويل العذاب
وما التبريك في شهر طويل
…
يطاول يومه يوم الحساب
فليت الشهر فيه كان يوماً
…
ومر نهاره مر السحاب
فلا أهلا بمانع كل خير
…
وأهلا بالطعام وبالشراب
ويظهر أن ابن الرومي قد وجد أبياته صادفت رواجا محمودا لدى من يشاركونه عواطفه وميوله - وكثير ما هم - فهجم على شهر الصيام مرة أخرى ولكن بلسان أحد، ولهجة أعنف، وقسوة أشد، فود بجدع الأنف لو انتهى قبل أن يبدأ، وأعلن أن بركة هذا الشهر في طوله لا في خيره، وزاد بل تنازل عن الأجر الذي أعده الله له جزاء صومه؛ فهو يقول:
شهر الصيام مبارك لكما
…
جعلت لنا بركاته في طوله
من كان يألفه فليت خروجه
…
مني - بجدع الأنف - قبل دخوله
إني ليعجبني تمام هلاله
…
وأسر بعد تمامه بنحو له
لا أستثيب على قبول صيامه
…
حسبي تصرمه ثواب قبوله
وجائز جدا أن يكون ابن الرومي قد عانى صوم رمضان في أوقات تلفحها حرارة الصيف كما نعانيه في أوقاتنا هذه، فهو لا يكتفي بما قدمنا بل يعيد الهجوم ثالثة ورابعة، غير تارك بعده مجالا لقائل، وليت شعري ماذا ننتظر منه بعد أن يقول:
شهر الصيام وإن عظّمتُ حرمته
…
شهر طويل ثقيل الظل والحركة
أذمه غير وقت فيه أحمده
…
منذ العشاء إلى أن تصدح الديكة
وكيف أحمد أوقاتا مذممة
…
بين الدءوب وبين الجوع مشتركة
يا صدق من قال أيام مباركة
…
إن كان يعني عن اسم الطول بالبركة
شهر كأن وقوعي فيه من قلقي
…
وسوء حالي وقوع الحوت في الشبكة
لو كان مولىً وكنا كالعبيد له
…
لكان مولى بخيلاً سيئ الملكه
قد كاد لولا دفاع الله يسلمنا
…
إلى الردى ويؤدينا إلى الهلكه
على أن من التناقض الظاهر أن نرى أبن الرومي في موضع آخر من ديوانه يهنيء أحد الرءوساء بشهر الصيام فينحى باللائمة على المستهزئين به، وما درى انه بشعره هذا قد فتح الباب لمن جاء بعده، ومهما يكن من شيء فقد ظهرت خفة روحه ظهورا أكسبه ملاحة وظرفا عند من يقدرون الأدب لذاته فهو على نقيض أبي العتاهية المسكين، فقد أوقعه حبه رمضان وتعظيمه إياه في مأزق مضحك، قال ابن رشيق في الجزء الثاني من العمدة (لما مات المهدي قام أبو العتاهية يرثيه على ملأ من الناس فقال (مات الخليفة أيها الثقلان)
فرفع الحاضرون رءوسهم، وفتحوا أعينهم وقالوا: نعاه إلى الإنس والجن ثم أدركه اللين والفترة فقال: (فكأنني أفطرت في رمضان).
يريد أني بمهاجرتي بهذا القول كأنما جاهرت بالإفطار نهارا في رمضان وهذا معنى جيد غريب في لفظ رديء غير معرب عما في النفس) ونحن نخالف صاحب العمدة فيما ذهب إليه من جودة هذا المعنى ولو كان كما قال ما قابله الجمهور بالسخرية والاستهزاء
وإذا كانت كتب الأدب تروى عن أبي نواس أنه قد حج حجا غير مبرور حين جد في طلب (جنان) فلم يظفر بطائل، ثم علم أخيرا أنها ذهبت إلى مكة فسار وراءها متظاهرا بالخشوع والنسك وفي ذلك يقول:
ولما أن عييت وضاق صدري
…
بمطلبها ومطلبها عسير
حججت وقلت قد حجت جنان
…
فيجمعني وإياها المسير
إذا كانت كتب الأدب تروى ذلك، فإنها تروي عن أبن الراوندي أنه قد صام صوما غير مبرور - لو صح هذا التعبير - وذلك انه كان سمينا بطينا، فقالت له إحدى صواحبه: إن وراءك شهرا ثقيلا فصمه ليذهب عنك هذا السمن فأطاعها تلبية لرغبتها لا امتثالا لأمر ربه، وهو يعلن هذا على العامة والخاصة فيقول في تبجح وعناد.
وقائلة وقد جلست جواري
…
سمنت وكنت قبلئذ نحيفا
وراءك في غد شهر ثقيل
…
فصمه لكي تكون فتى نحيفا
لوجهك لا لوجه الله صومي
…
ولو أني لقيت به الحتوفا
وغير غريب من ابن الراوندي أن يقول ذلك فقد كان خبيث العقيدة سيئ الطوية، يعترض على كل شيء حتى على ربه فيعجب من مجرى الرزق في أسلوب وقح، ويهاجم الأديان في تمرد سافل فكيف تستكثر عليه ما قاله في رمضان؟ إننا نستكثر ذلك على رئيس فاضل كابن العميد مثلا فقد كان جليل الخطر في عصره، مطاع الكلمة في دولته، ثاقب العقل، وضيء التفكير، ومع ذلك فقد تورط فيما تورط فيه غيره حين هاجم هذا الشهر مهاجمة نكتفي بأن ننقل منها هذه الفقرات (اسأل الله أن يقرب على الفلك دوره، ويقصر سيوه، ويخفف حركته، ويزيل بركة الطول عن ساعاته، ويرد على غرة شوال، فهي أسنى الغرر عندي، واقرها لعيني، ويطلع بدره، ويسمعني النعي لشهر رمضان، ويعرض على هلاله أخفى من السحر، واظلم من الكفر، وانحف من مجنون بني عامر) إلى آخر ما جاء في الجزء الثاني من زهر الآداب.
وكيفما كان الحال فقد فتح ابن العميد بذلك على رمضان ثغرة واسعة، جعلته يستمع هجاءه شعرا ونثرا بعد أن كان يأمن على نفسه من ناحية النثر ويجيء بديع الزمان الهمذاني بعد ابن العميد وهو كما نعلم مولع بتقليده، مقتف اثره، فلا يفوته أن يهجو رمضان، فيكتب إلى أحد رؤسائه قائلا (خصك الله بتقصير أيامه، فهو وأن عظمت بركته، ثقيلة حركته، وأن جل قدره، بعيد قعره، فأن حسن وجهه فسوف يقبح قفاه، وما أحسنه في القذال وأشبه أدباره بالإقبال، جعل الله قدومه سبب ترحاله، وبدره فداء هلاله، وأمد فلكه تحريكا، بتقضي مدته وشيكا، واظهر هلاله نحيفا، لنزف إلى اللذات زفيفا) ونحن لا نستنكر ذلك من الهمذاني كما
استنكرناه من ابن العميد، فقد كان بديع الزمان طويل اللسان، حاد القذف، متطاولا على غيره جاحدا حقوق أولي العلم والفضل، فكيف يعترف بشهر رمضان وقد فتح له ابن العميد الباب على مصراعيه فقال ما قال!
وإذا كنا نستثقل لآن صوم رمضان في وقدة القيظ وحرارة الصيف فقد وجدنا ابن عون الكاتب يستثقله في فصل الربيع إذ يرى أنه زمان البهجة، واوان المتعة واللذاذة، فلا ينبغي أن يكدر بالصوم وفي ذلك يقول
جاءنا الصوم في الربيع فهلا اخ
…
تار ربعاً من سائر الأرباع
وكأن الربيع في الصوم عقد
…
فوق نحر غطاه فضل قناع
وإذن فالصوم عنده في الربيع قناع أسدل على نحر مضيء فمنع إشراقه وحجب التمتع برؤيته
أما القاضي الفاضل - وهو من المولعين أيضا بمحاكاة ابن العميد - فقد نظم قصيدة خمرية طويلة جرى فيها مع اللذات إلى أبعد شوط وقد حرص على أن يهاجم في مبدئها شهر رمضان - تقليدا أستاذه - فقال
قضى نحبه الشهر بعد المطال
…
وأطلق من قيده فتر الهلال
وروض كاتب جنبي اليمين
…
واتعب كاتب جنبي الشمال
فدع ضيقه مثل شد الإسار
…
إلى فرجه مثل حل العقال
وهو بذلك قد وجه نظر أمير الشعراء رحمه الله إلى هذا المعنى بذاته فقال ولكن في أسلوب أروع ونسج أحكم
رمضان ولى هاتها يا ساقي
…
مشتاقة تسعى إلى مشتاق
ما كان أكثره على ألافها
…
وأقله في طاعة الخلاق
بالأمس قد كنا سجيني طاعة
…
واليوم من العيد بالإطلاق
ولا أدري كيف وقع شوقي بهذا وهو الذي باهي بنسكه وتبتله حين قال
وأشهد ما آذيت نفساً ولم أضر
…
ولم أبلغ في جهري وفي خطراتي
ولابت إلا كابن مريم مشفقاً
…
على حسدي مستغفراً لعداتي
وعلى كل فإن هذه الحملة الظالمة التي قام بها الأدباء على رمضان لم تستطع أن تزحزح
مكانته - ولو قليلا - في النفوس، بل زادتها رسوخا وثباتا، وخرج المجانين من المعركة يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، وكل امرئ بما كسب رهين
وبعد فما أردت بهذا العرض الموجز أن أتزيد على رمضان، فيعلم الله أني أول الناس تفانيا في محبته وإجلاله، ولكني قصدت الترفيه عن القراء في وقت اندلعت فيه السنة الهجير فأحرقت الأفئدة والهبت الجلود، ومن يدري لعل هؤلاء الأدباء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فرب متظاهر بالصوم والعبادة وبين جنبيه قلب مدنس بالمعاصي مثقل بالآثام، ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها
خليلي، قُطَّاع الفيافي إلى الحمى
…
كثير وان الواصلين قليل
محمد رجب البيومي
صور من العصر العباسي:
الخلفاء العباسيون والهدايا
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 2 -
أما هدايا الفصد، فلا تخرج عما ذكرت من قبل، فكانوا يهدون الجواري والصواني والأقداح والجامات البلور والشمامات والعنبر والمسك.
فقد فصد الرشيد فأهدى إليه اليزيدي جام بلور، وشمامات غالية، وكتب إليه:(يا أمير المؤمنين، تفاءلت بالشرب بالجام بجمام النفس ودوام الأنس، والغالية للغلو في السرور والازدياد من الحبور).
واقتصد المأمون مرة فأهدى إليه إبراهيم بن المهدي جارية معها عود، ورقعة فيها:
عفوت وكان العفو منك سجية
…
كما كان معقوداً بمفرقك الملك
وفي مرة ثانية، أهدت إليه (رباح) أترجة عنبر، مكتوب عليها بماء الذهب بيتين من الشعر أعجب بهما، فكافأهما بمال كثير.
وافتصد المعتصم فأهدت إليه (شمائل) صينية عقيق عليها قدح، أسبل عليهما منديل مطيب، مكتوب عليه بالعنبر، أبيات شعر رقيق، فلما قرأه أمر بإحضار اسحق بن إبراهيم، وأمره أن يجعل له لحنا، وأمر مسرورا بإخراجها من وراء الستارة، ثم لم يزل يردد هذه الأبيات حتى أحكمتها شمائل وغنت فكأن سقط الدر يتناثر من فيها وأمر لإسحاق بمال وللجارية بخمس وصائف وخمسة آلاف دينار.
وافتصد إبراهيم بن المهدي، فأهدى إليه اسحق بن إبراهيم الموصلي صوتا من غنائه، وأرسل غلامه فغناه به.
وربما طلب الخليفة من خاصته أن يهدوه، كما فعل المتوكل. فقد افتصد، فقال لخاصته وندمائه اهدوا إلي يوم فصدي. فاحتفل كل واحد منهم في هديته.
وأهدى إليه الفتح بن خاقان جارية لم ير الراءون مثلها حسنا وظرفا وكمالا. فدخلت ومعها جام ذهب في نهاية الحسن، ودن بلور لم ير مثله فيه شراب يتجاوز الصفات، ورقعة فيها
تهنئة بالشفاء فاستظرف المتوكل ذلك واستحسنه.
ولعل ألطف هدية أهديت في يوم فصد، هي هدية أبي دلف فقد افتصد عبد الله بن طاهر، فجمع أبو دلف ما أصاب في السوق من الورد وأرسله هدية له، وقد أوردت هذا الخبر لظرفه، رغم أن ابن طاهر ليس من الخلفاء.
أما هدايا العمال والولاة والملوك فكثيرة. فكان كل وال يتفنن بإرسال الهدايا للخليفة ابتغاء مرضاته. فقد وجد يعقوب ابن الليث صاحب خراسان إلى المعتمد هدية من جملتها عشر بزاة منها باز أبلق لم ير مثله، ومائة مهر، وعشرون صندوقا على عشرة بغال، فيها طرائف من الصين وغرائبه، ومائة عود من مسك، ومائة من عود هندي، وأربعة آلاف درهم.
ولما قدم ابن الجصاص من مصر على المعتضد، مرسلا من خمارويه، كان معه هدايا من العين عشرين حملا على بغال. وعشرة من الخدم، وصندوقان فيهما طرائف. وعشرون رجلا على عشرين نجيبا بالسروج المحلاة، ومعهم جرار فضة، وعليهم أقبية ديباج وسبع عشرة دابة بسروج ولجم، منها خمسة بذهب والباقي بفضة، وزرافة
وقد يرسل إلى الخليفة كل غريب. ففي سنة 299وردت من مصر هدايا منها كما ذكر الصولي تيس له ضرع يحلب اللبن.
ووردت رسل أحمد بن إسماعيل بهدايا منها مذبة مرصعة بفاخر الجوهر، وتاج من ذهب مرصع بجوهر له قيمة كبيرة. ومناطق ذهب مرصعة، وربعة ذهب مرصعة.
ووردت هدايا ابن أبي الساج أربعمائة دابة، وثمانون ألف دينار، وفرش أرمني لم ير مثله في بساط طوله سبعون ذراعا في عرض ستين ذراعا، عمل في عشر سنين.
وفي سنة 305، زمن المقتدر، ورد على السلطان هدايا جليلة من أحمد بن هلال صاحب عمان. وفيها أنواع الطيب، ورماح، وطرائف من طرائف البحر، وطائر أسود يتكلم بالفارسية والهندية أفصح من الببغاء، وظباء سود.
وفي سنة 310هـ وصلت هدية ابن المادرائي الحسين بن أحمد من مصر، وهي بغلة ومعها فلو، وغلام طويل اللسان يلحق طرف لسانه أنفه.
وكان ملوك الروم والفرنجة يهدون إلى الخلفاء العباسيين الهدايا العظام توددا وتحببا. فقد
أهدى ملك الروم إلى المأمون مائتي رطل مسك، ومائتي جلد سمور. فقال المأمون: ضاعفوها ليعلم عز الإسلام.
وأهدت ملكة الفرنجة إلى المكتفي بالله سنة 293هـ خمسين سيفا، وخمسين رمحا، وخمسين فرسا، وعشرين ثوبا منسوجا بالذهب، وعشرين خادما صقليا حسنا، وعشرة كلاب كبار لا تطيقها السباع، وستة بازات وسبعة صقور، ومضرب حرير.
وفي سنة 226هـ ورد كتاب من ملك الروم إلى الراضي. وكانت الكتابة بالرومية بالذهب، والترجمة بالعربية بالفضة، بطلب الهدنة. وفيه:(لما بلغنا ما رزقته أيها الأخ الشريف الجليل من وفور العقل وتمام الأدب، واجتماع الفضائل أكثر ممن تقدمك من الخلفاء، حمدنا الله تعالى. . . وقد وجهنا شيئا من الألطاف، وهي أقداح وجرار من فضة وذهب وجوهر، وقضبان فضة، وستور، وثياب سقلاطون، ونسيج ومناديل وأشياء كثيرة فاخرة).
فكتب إليهم الجواب بقبول الهدية، والإذن في الفداء، وهدنة سنة.
فهذه ألوان من الهدايا، وتبيان لهذه العادة الاجتماعية التي كان لها شأن في العصر العباسي، الحافل بالعجائب والغرائب.
صلاح الدين المنجد
هل من جديد في الأزهر؟
للأستاذ الأب قنواتي
إن المؤرخ الذي يحاول أن يتبع مراحل التطور الفكري في مصر في أيامنا هذه يضطر - بلا جدال - إلى الإقرار بأن حياتنا العقلية تتمخض تمخضا عنيفا، وأن روح التقدم الحقيقي الذي يأبى أن يضرب عرض الحائط بما في تراثنا الثقافي من قيم خالدة - أخذ يتسرب رويدا رويدا إلى مختلف أوساطنا العلمية ولطالما كانت تخامرني هذه الفكرة أثناء إقامتي في الخارج، ولطالما تحدثت عنها - في باريس، وفي فاس، وفي تونس - مع الذين يهتمون بمستقبل الثقافة العليا في البلاد العربية؛ فكنا نتساءل - مع شيء من اللهف - عن مدى انتشار هذه الثقافة، وقوة تغلغلها في الأذهان: هل تظل شيئا سطحيا شكليا، أم تخوض في صميم التعليم فتكيف العقلية؟ ولئن كان هذا التطور يبدو بكل وضوح فيما يخص الجامعة المصرية، لما هي علية - منذ نشأتها - من انسجام مع الروح الحديث؛ فالأمر كان لا يخلو من الغموض فيما يتعلق بالأزهر، وهو المعهد العتيق الذي تركزت فيه منذ قرون برامج كادت - بموجب موضوعها - تتنزه عما يتطور ويفنى. .
ولذا كنت مشغوفا كل الشغف عندما رجعت إلى الديار المصرية - وأنا منكب على دراسة فلسفة القرون الوسطى مسيحية كانت أو إسلامية - أن اتصل بمن يوفقني على تطور التعليم في المعاهد الدينية في هذه المادة؛ وخصوصا في الأزهر الحالي وموقفه من الأبحاث المقارنة التي تسنى لي أن أتبين خطورتها أثناء دراستي في المعاهد الدينية في أوربا، ولذا لبيت - بكل ترحاب - دعوه أحد أصدقائي الأزهريين إلى حضور المناقشة العلمية لنيل شهادة العالمية من درجة أستاذ في التوحيد والفلسفة التي كانت إقامتها مزمعة يوم الأحد 26 مايو سنة 1946 في مدرج كلية أصول الدين في القاهرة، ولقد شكرت صديقي أيما شكر لهذه الفرصة التي هيأها لي، فسمح أي أن أجد بطريقة علمية إيجابية جوابا لما أوجهه لنفسي من سؤال، وهذا ليس فقط من جهة الموضوع الذي نوقش فيه (تخريج كتاب الملل والنحل للشهرستاني)؛ بل أيضا من جهة الجو الروحي الذي ساد هذه المناقشة، ومن جهة انسجام العناصر المختلفة التي توفرت فيه: فهناك سعادة الدكتور منصور فهمي باشا - مدير جامعة فاروق الأول سابقا، وكاتم سر مجمع فؤاد الأول للغة العربية - يرأس اللجنة
وهو ممن طالما ناشدوا روح التعاون الثقافي والتآزر العلمي، وهناك الدكتور محمود الخضيري أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقا، ووكيل البحوث والثقافة الإسلامية للأستاذ الأكبر شيخ الأزهر وفرنسا، وهناك الدكتور محمود حسب الله خريج الأزهر وإنكلترا، وهنك الدكتور محمد البهي خريج الأزهر وألمانيا - وثلاثتهم من أساتذة الفلسفة بالجامعة الأزهرية - أليس تكوين هذه اللجنة هو وحده رمزا لما ينشده الأزهر، ورمزا لرغبته الأكيدة في الأخذ من المناهج الحديثة بما يلائم رسالته العلمية؟. . ومما زاد هذا الرمز بلاغة تنوع النظارة الذين تسارعوا إلى حضور المناقشة.
نعم، إنه كان من الطبيعي أن نرى هناك أساتذة من الأزهر وطلبة أزهريين، فالبيت بيتهم، والمناقش من إخوانهم، ولكن أليس من الغريب السار أن نجد بينهم أربعة قساوسة رهبان من يسوعيين ودومينكيين، احدهم مستشرق أمريكي والآخرون شرقيون، بل مصريون ممن يعرفون الأستاذ المناقش جد المعرفة؟ ووأ ليس أعجب من هذا أن نشاهد بين الحاضرين آنسات في المكان الخاص الذي خصص لهن في أعلى المدرج؟
وما وافت الساعة الخامسة حتى افتتح سعادة الرئيس الجلسة بكلمة استغرقت نصف ساعة، وهو يتكلم بحماسة رزينة هادئة واعتقاد عميق يعطي أحيانا لعباراته نبرة قوية تجعلها تنفذ نفوذا إلى الأذهان والقلوب: بدأ بالثناء على فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق، الذي عاقه عن الحضور انعقاد المجلس الأعلى للأزهر، وعلى فضيلة الأستاذ الكبير وكيل الأزهر، وعلى فضيلة شيخ الكلية، وكرر الشكر لكل من ساهم في العمل على اتساع دائرة الاتصال العلمي بين الأزهر والعلماء المدنيين والجامعيين، خصوصا فضيلة الأستاذ الأكبر الذي تخصص في الفلسفة بجانب تعمقه في النواحي الدينية المختلفة، والذي أفادت منه الجامعة المصرية حينا من الدهر، ثم أبدى سعادة الرئيس أمله في أن الأزهر سينال اهتمام فضيلة الأستاذ الأكبر من الناحية الفلسفية، وأن نوابغ الأزهريين سيكونون - مع أستاذهم الأكبر - جوا سانحا للدراسات الفلسفية بحيث يستطيع الأزهر أن يؤثر - حتى من الجهة الفلسفية نفسها - على الجامعات الأخرى، مادام الأزهر يطبق الأنماط العلمية في المناقشة والمثابرة في طلب الحق الذي هو ضالة المؤمنين. . .
ثم وجه سعادة الرئيس كلمة لطلاب البحث العلمي والحقيقة العلمية، ناصحا إليهم بالجد
والاجتهاد واتساع الآفاق والصبر والأمانة العلمية، حتى يصلوا إلى ذلك الموقف الذي وقف فيه زميلهم - صاحب الرسالة - ذلك الموقف الذي يدل على حب البحث العلمي والتفاني فيه، والذي يفتح الأبواب أمام منهومي العلم الذين لا يشبعون. وتمنى سعادته للأزهريين مستقبلا باهرا ماداموا يوسعون ميادين بحوثهم وآفاق ثقافاتهم، بحيث يتلقى بهم ويتبادل الفائدة معهم من يسعدهم الحظ، ومن لم تتح لهم الظروف أن يتثقفوا بثقافة الأزهر.
ثم قرر سعادته: (أننا في عصر تعاون وتفاهم وتقارب بين الفلسفات، بل وبين الأديان نفسها، وأن هذا التواصل والتعاون هما اللذان يسيران بالإنسانية إلى وحدتها المنشودة وغايتها المرجوة، وآية ذلك مشاهد الليلة من جو مشبع بروح التسامح والنهوض الفكري). وأشار سعادة الرئيس إلى أن هذه أول مرة يرى أو يسمع فيها أن في الأزهر غربيين وقساوسة ورهبانا: (وهذا يذكرنا بروح التسامح الذي كان متسما به، والذي كان صدر الأزهر دائما منفسحا له). وأن هذه أول مرة أيضا سمع فيها سعادته أو رأى آنسات يحضرن مجالس في الأزهر وتخصص لهن أماكن فيه.) وهذا يدل على درجة عالية في النضوج الفكري والمستوى العلمي المفروض طلبة على كل مسلم ومسلمة، ويبين في وضوح أن الأزهر أخذ يقدر ما هو مطلوب منه بازاء المسلمات بجانب ما هو مطلوب منه بازاء المسلمين، وأن هذا كله جو مبشر يدعو إلى التفاؤل بمستقبل الأزهر، الذي كان قد انعزل مدة طويلة حتى عن العلماء المدنيين).
ثم قال سعادته: (أما وقد لبى الأزهر حاجة العصر، وساير روح الزمن، فساهم في الوحدة العالمية، واتصل بالعلوم التي تكونت في ميادين أخرى بروح التسامح الديني، والتآزر الفلسفي، والتآخي العلمي، فإنه سيصل - قريبا - قديمه بحديثه، ويصبح منبع ثروة كبيرة في التوجهات الفكرية والعلمية والدينية للعالم كله، وهذا مأمول، وهو في رعاية شيخ درس الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية وأفاد مما فيهما من خير مذكور. ونصيحتي العامة لكل شخص: أن يعمل للخير الذي وضعه الله في فطرة الإنسان السلمية، تلك الفطرة التي تتمثل في الأديان جميعا: خيرا، ومحبة، وإخاء، وعدلا. . . حتى يكون هناك التفاهم الفكري والتفاهم الروحي، وحتى تسير الإنسانية إلى خير ما خلقت له.)
ولعمري! لم أكن لأنتظر في هذه القاعة هذا الوضوح في رسم الهدف، وهذه العزيمة في
السعي وراء تحقيقها، فها هي الروح الجديدة التي كنت أتساءل عما إذا كانت وصلت إلى الأزهر، وها هو الزرع المبارك الذي بدأ ينبت بإذن ربه، فالمناقشة التي تلت هذه الكلمة جاءت بمثابة تطبيق للمبادئ التي وضحها سعادة الرئيس، فالأستاذ صاحب الرسالة - وهو واقف رابط الجأش أمام المجلدات الأربعة لرسالته - أخذ يشرح موضوع رسالته، ثم يجيب بهدوء عن الأسئلة التي وجهها إليه بالتوالي أعضاء اللجنة؛ وهي أسئلة دقيقة تنفذ إلى لب الموضوع وتحاول تارة نقد منهج البحث، وتستفسر طورا بعض نتائج الرسالة؛ حوار بديع علمي رزين، أعاد إلى ذاكرتي تلك الرسالات التي تناقش في أوربا؛ ولكن هنا مع شيء من (الظّرف) المصري الذي لم يقلل شيئا من جد المناقشة؛ بل يكسبها روحا شرقية خاصة لم أجدها في الخارج.
وفي تمام الساعة الثامنة والنصف - عني بعد مناقشة استغرقت ساعتين - رفعت الجلسة، وخرجت اللجنة للمداولة، ولما رجعت إلى قاعة المناقشة نطق سعادة الرئيس بالحكم قائلا:(بعد أن تناقش أعضاء اللجنة فيما استبانوه من حسن الاستعداد الفلسفي، واتساع الأفاق، والمجهود القيم في التأليف، والمثابرة على العلم، ومراعاة الخلق العلمي، وتلقي النقد بصدر رحيب يدل على محبة الحق. . . قررت اللجنة فوز فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بن فتح الله بدران بشهادة العلمية مع لقب من درجة ممتاز في التوحيد والفلسفة). فدوت القاعة بالتصفيق والهتاف. . .
ورجعت إلى (الدير) والذهن مملوء بتفاصيل هذه الحفلة الثقافية العليا؛ فحدثتني نفسي أن أسطر هذه الأسطر؛ لعلها تساهم - لا من جهة الرأي الشخصي؛ بل من جهة الواقع المحسوس - أقول: لعلها تساهم في إيضاح مشكلة الأزهر التي عولجت مرارا على صفحات مجلة الرسالة الغراء.
الأب قنواني
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 22 -
البرسبيزينز والصدمة الثانية:
قلت قيمة المرأة في نظر ملتن، وانحط مستوى الطبيعة البشرية عما قدر لها من قبل في خياله وفكره، وساءه أن يعرض معاصروه عن آرائه في الطلاق، وما جاهد جهاده إلا لخيرهم؛ وآلمه وكدره أن يخاصمه بعض الناس وأن يناصبوه العداء؛ وجاءت مخالفة البرسبتيرينز إياه بعد ذلك، فكانت هي الطامة الكبرى.
قدر ملتن أن سوف ينظر إليه أهل عصره لما أذاع فيهم من رأي في الطلاق نظرتهم إلى مصلح عظيم، وكان يرى في تطلع ذلك العصر إلى الإصلاح وشد ميله إلى تغيير كل شيء وعلى الأخص في السياسة والدين حافزا يحفزه ويزيده استبشارا وأملا، كما كان يدفعه إلى الجد ويوحي إلى نفسه أنه يعمل عمل أفذاذ المصلحين، شدة ثقته في نفسه وكثرة الذهاب بها ويقينه من تمكنه وضلاعته واتساع أفقه، وما يرى من إكبار أصحابه اياه؛ ومن كان هذا شانه كان خليقا أن يستشعر مرارة الخيبة مضاعفة وان يبلغ من نفسه الألم مبلغا عظيما إذا لقيه الناس لا بمجافاته وأعراضهم عنه فحسب، بل بمدافعة آرائه كذلك ومجاهرته بالسوء من القول؛ وكان كذلك خليقا أن يغضب وأن يرد عمل أهل عصره إلى الغباء والجهل والجمود، وإنه ليوقن أن ما بينهم وبينه من فرق في الثقافة والمعرفة كمثل ما بين الظلمات والنور.
ولقد أفصح عن مبلغ ما كان يضطرم في نفسه من حنق على قومه، وعن مبلغ ازدرائه إياهم وسخره منهم في مقطوعتين نظمهما سنة 1645؛ ففي الأولى راح يتهكم ويسخر من
جهل خصومه قائلا أن كتابه أسمه (تتراكوردون) أذيع في الناس من وقت قريب فبلغ من جهل بعضهم أنهم نظروا حيارى إلى عنوانه قائلين ما هذه الكلمة التي اتخذت له عنوانا، وقرأ بعضهم فأخطأ النطق وعجز عن الهجاء؛ ثم يعجب الشاعر من هؤلاء ويستعرض بعض أسماء ألفوها ويتساءل قائلا: لم يكون عنوان كتابه أعسر منها في أفواه هؤلاء السادة، وقد الفت أفواههم العسير الجافي من الكلم، ثم يذكر أول أستاذ للغة الإغريقية في كمبردك في القرن السادس عشر، ومعلم الملك إدوارد السادس وهو سيرجون تشيك، فيناجي روحه قائلا:(إيه يا روح سيرجون تشيك! أن عصرك لم ينفر من المعرفة إذ كنت تعلم كمبردك وتعلم الملك الإغريقية كما ينفر من العلم عصرنا الذي نعيش فيه).
وفي المقطوعة الثانية كان ملتن اشد حنقا وأوجع هجوا منه في سابقتها وحسبك منه قوله: (إنما جهدت أن أحمل أهل هذا العصر على أن يتخلصوا من قيودهم، وذلك بالرجوع إلى قواعد الحرية القديمة المعروفة، وبينما اعمل عملي إذ أحاطت بي جوقة من البوم والحمير والقردة والكلاب، ففعلوا بي كما فعل أولئك القرويون الذين أحيلوا إلى ضفادع جزاء بما أجرموا إذ هوشوا على نسل لأتونا التوأمين اللذين صار لهما بعد ذلك ملك الشمس والقمر؛ وذلك الذي نالني إنما هو كل ما يناله الرجل من جزاء إذ يلقى باللآلئ إلى فصائل من العجماوات تجهد في غبائها المجرد من كل حس في طلب الحرية، حتى إذا جاءها الحق الذي يكسبها الحرية ثارت ضده وتألبت عليه؛ وهؤلاء إنما يعنون الفوضى إذ يهتفون بالحرية؛ فأن من يعشق الحرية ينبغي أولا أن يكون خيرا عاقلا؛ وأنا نستطيع أن نرى إلى أي مدى يبعد هؤلاء عن الهدف على الرغم مما ينفق من مال وما يبذل من دم.
ولئن بلغ الحنق هذا المبلغ على أهل عصره بوجه عام، فقد كان حذقه على البرسبتيرينز أشد من ذلك درجات، وكان أسفه لما كان من موقفهم حياله اعظم وأقوى، فمن أوهى الأمور وأقبحها أن تأتي الخيبة من حيث يلتمس الرجاء، وان تقع البلوى على يد عند من يطلب عنده العزاء. . .
آلم ملتن وزاده غما على غم أن يعلم أن البرسبتيرينز على منصاتهم وفي كتاباتهم يصفونه بالطيش، ويقررون انه يذيع مبادئ إباحية، وانه بما نشر يمثل الإلحاد والفسوق عن أمر الله أتم تمثيل؛ ولكن روحه القوية لم تهن وان أصابها الحزن، ونفسه الأبية لم تذل وان
اجتمعت عليه المحن، وأقبل يهاجم البسبتيرينز كما هاجم القساوسة من قبل، يأبى ألا أن يدافع أبدا عن الحرية في أي صورة من صورها، والمجال اليوم مجال حرية الرأي فما أجراه أن يناصر حرية الرأي.
اعتزم ملتن أن يعيد النظر فيما كان يرى من رأي في الإصلاح الديني، وأحس في نفسه الميل إلى مقاومة تشدد البيوريتانز وتزمتهم فيما يتصل بالدين وحياة المجتمع، ذلك التزمت الذي بلغ منتهاه عند جماعة البرسبتيرينز، والذي جعل ملتن يؤمن اليوم أن هؤلاء ليسوا أقل تعصبا ولا جمودا من القساوسة، وليسوا أوسع منهم أفقا ولا أخف حمقا.
ولم يكن غضب البرسبتيرينز على ملتن بسبب ما جاء به من آراء حول الطلاق فحسب، وإنما أغضبهم كذلك جرأته في الدعوة إلى الاعتماد على العقل في تفسير الإنجيل، وعدم التقيد بأقوال من سبق من رجال الكنيسة في تفسيره وتأويله ما لم يتمش ذلك مع المعقول ويوافق طبائع الأشياء
فالمعركة اليوم إذا معركة الرأي وحريته، والعقل وكرامته، وشخصية الفرد وكيانها، وحسب ملتن من الفخر أن يكون في ذلك طلعة بين أهل عصره كما كان طلعة في حربه على القساوسة وفي آرائه حول الطلاق. . .
وحدث بين جماعات البيوريتانز خلاف سنة 1643 جعل لخروج ملتن على البرسبتيرينز صدى أشد وأبعد مما كان يقدر له لو لم يقع هذا الخلاف، وبيان ذلك أن مجمعا من البيوريتانز انعقد في وستنمستر في تلك السنة للنظر في النظام الذي تخضع له الكنيسة في انجلترة، أي طريقة أدارتها، وقد قضى هذا المجمع بإحلال البرسبتيرية محل الأسقفية نهائيا، وتغيير كتاب الصلاة المتبع، ووافق البرلمان على ذلك، وكانت أغلبية أعضاءه يومئذ من البيوريتانز المؤيدين للبرسبتيرية، ولكن جماعة من المستقلين خالفوا أعضاء مجلس وستمنستر في بعض الأمور إذ أحسوا فيها تزمتا وشدة وطالبوا بشيء من الاعتدال، ونشر خمسة منهم كتابا يحتكمون فيه لا إلى البرلمان وحده بل الرأي العام في المملكة كلها؛ فلما خرج ملتن على البرسبتيرينز سنة 1644، وأخذ يطعن فيهم وهو الذي عرف بانتصاره للحرية أيد ذلك قضية المستقلين، وأحاط البرسبتيرينز بشبهة التعصب ومجافاة حرية الرأي.
وقد بدأ الخلاف بين ملتن والبرسبتيرينز كما قدمنا في أواخر سنة 1644 وذلك بعد أن ذاع كتيبه (قانون الطلاق ونظامه) وبعد أن نشر مقاله الذي جعل عنوانه (رأي مارتن بوسر في الطلاق)، فقد طالبوا بمصادرة كتيبه لأنه طبعه بغير تصريح مخالفنا بذلك قانون الطبع الذي هو من صنع أيديهم والذي أرادوا به حماية نظامهم الكنيسي، فرأى ملتن إذ ذاك أن أصدقاءه يعملون على خنق الحرية كما يعمل الأساقفة، ومن ثم دب بينه وبينهم الخلاف؛ وهل يظل صامتا حيال صيحتهم؟ ذلك مالا تطيقه نفسه وما لا تتطامن له كبرياؤه؛ وذلك ما لا يتفق مع حبه للحرية حبا درج معه منذ نشأته، وإذا فلا بد من رد ولا بد من صيحة يكربها عليهم ويدفع بها عن الحرية؛ ولكن البحث في الطلاق يملك عليه وقته وفكره فليدعه إلى حين، وليجعل همه إلى كتيب يناصر به حرية الرأي، ويهاجم فيه الرقابة على هذه الحرية هجوما عنيفا.
ويفرغ ملتن من كتيبه هذا وينشره في نوفمبر سنة 1644 أي قبل نشر كتيبه (تراكوردون) بنحو أربعة أشهر ويعرف هذا الكتيب باسم (ايروباجيتيكا)، وفيه يحتكم إلى البرلمان والى كل ذي رأي حر.
وبلغ من جرأة ملتن وكبرياء نفسه وتحمسه للحرية أنه نشر هذا الكتيب كذلك بغير أذن، فكان عمله هذا تحديا للبرسبتيرينز من ناحيتين، فهو يهمل قانون الطبع الذي وضعوه وقرروه، وهو في الوقت نفسه ينكر بكتيبه هذا الرقابة على الكتب كما تتمثل في ذلك القانون ويراها قيدا بغيضا لحرية الرأي فعنده أنه يحب القضاء على هذه الرقابة (حتى لا يكون الحكم على ما يجوز طبعه وما لا يجوز لفئة قليلة أكثرهم لا يعدون في العلماء إذ أن كفايتهم عادية شائعة).
وكان الكتيب في صورة خطبة مكتوبة موجهة إلى البرلمان وقد جعل ملتن شعاره عبارة مقتبسة من كلام يوربيد أثبتها بنصها الأغريقي؛ وهو بعد خطبة فليسر فيه درس وفق منهج معين أو تمحيص لما يعرض له من آراء، أو تقص للأفكار التي يؤيد بها رأيا أو يخالف رأيا؛ ولكنه على الرغم من ذلك لعله بسبب ذلك كان من أحسن ما نشر ملتن من هاتيك الكتيبات، فهو فيض نفس نبيلة حرة، تفهق صفحاته بكلام من خير ما كتب في الحرية فحاجة لفظ وبلاغة عبارة ورقة شعور ونبل حس وشجاعة رأي وحرية قول. . .
وكان الأمل والحماسة ملء كتيبه هذا، فلئن خاب أمله في البرسبتيرينز فليسوا هم كل شيء، بل أنهم وقد نصبوا أنفسهم أعداء للحرية لم يعد لهم من الأمر شيء، وان انجلترة لتتجه نحو أمل جديد تراه في شخص كرومول وهو زعيم المستقلين ولجنده الظفر كما تنبئ حوادث الحرب، وان المستقلين جميعا وطلاب الحرية ليلتفون حوله، فهو في غده أمل إنجلترا ونصير الحرية وبطلها؛ ذلك ما كان يتحدث به ملتن إلى نفسه وذلك ما بث في كتيبه الرجاء.
وزاد الأمل تمكنا من نفسه انه وقد استعدى عليه الرقباء في البرلمان لم يمسسه شيء مما أرادوا به من سوء، إذ لم يرض مجلس اللوردات أن يشايع البرسبتيرينز فيما يذهبون إليه من رغبة في التضييق على حرية النشر؛ واغتبط ملتن أيما اغتباط وأرتاح أيما ارتياح إلى هذه المعاملة التي زادته ثقة في نفسه، ويقينا من علو مكانته في قومه.
ويحس المرء لذة قوية إذ يقرا هذا الكتيب، فليس فيه مثل ما في كتيباته التي أرسلها على القساوسة من غل الخصومة وعنف الهجاء، وإنما يسوده الهدوء وحسن السياق؛ وهو فضلا عن ذلك قريب إلى العقليات الحديثة بما حواه من أفكار حول حرية الرأي وحرية النشر، وحسبك منه بعض ما كتبه ملتن عن قيمة الكتب مثل قوله:(إن من يقتل كتابا طيبا كمن يقتل رجلا؛ بل إن من يقتل رجلا إنما يقتل مخلوقا عاقلا، في حين أن من يقضي على كتاب قيم فقد قتل العقل نفسه؛ وان كثير من الناس يعيشون عالة على هذه الأرض، أما الكتاب الجيد فهو دم الحياة الغالي، دم كاتبه، ذلك الروح العبقري، وقد حنط ذلك الدم واختزن ككنز ثمين ليبقى ذخر الحياة بعد حياة).
ويقع المرء فيه على كثير من العبارات المتينة الجميلة جمعت بين الإيجاز والشمول كقوله: (يظل الأحمق أحمق أوتي كتابا جيدا أو لم يؤت كتابا قط). وكقوله: (يجد المطهرون كل شيء مطهر، وليس ذلك في طعامهم وشرابهم فحسب، ولكن في كل صنوف المعرفة الطيب منها والخبيث فلا يمكن أن تفسد المعرفة كما لا يمكن تبعا لذلك أن يفسد الكتب ما دامت الإرادة والضمير لا يتطرق أليهما الفساد).
ويأتي ملتن بطائفة من الآراء تنم عما كان يجول في خاطره بعد القطيعة بينه وبين البرسبتيرينز، فهو ينكر اليوم عقيدة القدر المحتوم التي اعتنقها البيوريتانز عن كلفن ويأخذ
بعقيدة الإرادة الحرة التي نادى بها أرمينيتس ويصف هذا الأخير بقوله (أرمينيسي الواضح البين) وينر ملتن من تزمت البيوريتانز وتشددهم في كل شيء، وبعد أن كان من قبل وهو الشاعر الذي يعشق الجمال ويحسن الحياة إحساسا قويا في حيرة بين ما تقتضيه الطبيعة وما تقوم به الروح، نراه اليوم يعلن أنه في وسع المرء أن يجمع بين الاثنين في غير حرج، وقد كان ما تقوم به الروح عنده قبل ذلك في المحل الأول، تجد ذلك واضحا في قوله (لماذا خلق الله العواطف وبثها فينا، ولماذا خلق مسرات الحياة وأحاطنا بها، وليس معنى ذلك انه يبيح الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده في غير قيد، ولكنه يريد ألا يتشدد فيرى في كل زينة وفي كل متعة ما يوبق الروح كما يفعل الغالبون من البرسبتيرينز، ولقد باتوا عنه كالقساوسة حماقة وضيق عقل وسوء تعصب كما يتضح في قوله إذ يشير إلى خنقهم حرية الرأي (إنما تخرج أفانين القساوسة براعمها من جديد).
ويعد ملتن في الواقع بعد اختلافه مع البرسبتيرينز من المستقلين، بل لقد كان أكثر من مستقل، فسوف لا يؤيد بعد اليوم نظاما كنسيا ما أو يأخذ برأي من الآراء لا يتحول عنه أو لا يقلب النظر فيه؛ أو يغشى كنيسة من الكنائس غشيانا رتيبا، وإنما تسيطر عليه روح دينية توحي إليه تقواه وطهره. وإن كان مستقل الرأي لا يقبل شيئا لا يطمئن إليه عقله ولا يتقيد بمذهب لا ينسى كراهته للقساوسة من أشياع روما والكاثوليكية بوجه عام، كما لا ينسى غضبه على البرسبتيرينز ولا اتهامه إياهم بأنهم أعداء الحرية، وانهم لذلك كالقساوسة عقبة في سبيل الإصلاح الحق، وأنهم يبالغون في تزمتهم وتشددهم مبالغة تفضي حتما إلى النفور من مذهبهم.
(يتبع)
الخفيف
حول الاتباعية والإبتداعية
توطئة لدراسة الأقصوصة والقصة والرواية
للأستاذ فخري قسطندي
هذا مبحث جديد قديم، بكر مطروق، كثر فيه القول، وطال حوله الجدل، وبرغم ذلك لم تنل منه الأيام، فلم تعصف بطلاوته ولم تذهب بطرافته. كان بالأمس ولا يزال إلى اليوم مثار لخصومة عنيفة، ومدار لأخذ ورد شديدين بين دعاة الكلاسيكية وأنصار الرومانتيكية، دون الوصول إلى رأي جازم أو قرار حاسم أو نتيجة قاطعة. ومن طريف ما يروى أن نقطة الرومانتيكية كانت مبعث خيبة مريرة، وذهول عميق لقارئين من قراء إحدى المجلات الأدبية التي تصدر في باريس.
ذلك أن الفريد دي موسيه طلع عليهما في 1836 بكتابه: الذي فصل فيه القول عن الرومانتيكية تفصيلا، وأفاض فيه إفاضة؛ وألمع إلى معان لم تدر لهما بخلد أو تختلج لهما في عقل. فما كانت الرومانتيكية عندهما حتى ذلك العهد سوى نزعة أدبية تطبق على المسرحية ولا تطبق على غيرها من سائر ألوان الأدب. فشكسبير على سبيل المثال رومانتيكي، لأنه خرج في مسرحياته على الوحدات الثلاث التي أستنها رجال الأدب الأقدمون من نقاد الإغريق واللاتين، وهي وحدات العمل والمكان والزمان فلم يتقيد بها أو يأبه لها. فشخوصه تطوف أبدا في الأقطار، ما يقر لها قرار، تحل بروما ثم تلم بلندرة ثم تكر راجعة من حيث أتت، وذلك كله في ظرف وجيز، ووقت قليل لا يتعدى ربع الساعة أو يتخطاها بحال من الأحوال.
وما كان لهما أن يتلقيا الصدمة الشديدة الوطأة بثبات روع أو هدوء بال، وقد تبينا لأول مرة أن هناك حكايات وقصائد ومقطوعات شعرية رومانتيكية، كما أن هناك حكايات وقصائد ومقطوعات شعرية كلاسيكية. وكان مما قالاه في هذا الصدد (لم يكن في مقدورنا حين تلقينا هذا النبأ أن نغمض العين طوال الليل
هذا طرف مما وقع لبعض القراء من الخلط والاضطراب في أمر هاتين اللفظتين، وهو ليس بنادر الوقوع أو بعيد التصديق. فهاتان اللفظتان تضيقان بلا مراء بالمعاني المحددة
والمفهومات المعروفة. وفي إمكاننا أن نسوق الدليل بعد الدليل نؤيد به ما ذهبنا إليه؛ فالأدلة كثيرة والشواهد متنوعة. ومن قبيل ذلك ما يؤثر عل العلامة ج. ج. روبرتسن أحد نقاد الأدب الإنجليزي المعاصرين. ففي 1923 اصدر سفرا قيما يتسم بسعة العلم وغزارة المادة أطلق عليه دراسات في أصول النظرية الرومانتيكية في القرن الثامن عشر في إنجلترا انتهى فيه إلى القول بان الرومانتيكية في إنجلترا في القرن الثامن عشر لم تكن من نتاج الأدباء الإنجليز أو ابتكارهم بل هي مستمدة منقولة بجميع خصائصها وكافة سماتها عن لفيف صغير من النقاد الإيطاليين مغموري الاسم. وفي السنة ذاتها ظهر كتاب في بولونيا، للناقد الكبير جيسب كوفانن: نادى فيه بان نفس هذا اللفيف من النقاد الإيطاليين قد توارث الروح الكلاسيكية السائدة في عصر النهضة في إيطاليا.
ولم يكن النزاع بين الكلاسيكية والرومانتيكية في مبدأ الأمر سوى نزاع بين من ينتصرون للقديم، وبين من يتعصبون للجديد في الأدب، ثم ما لبث أن أستفحل الشقاق وأتسع الخلاف وأتسم بطابع الغلو والإسراف. فلم يرض أنصار الكلاسيكية بالقديم على قدمه، لأن بالقديم شيئا من شذوذ، وليس من سبيل إلى كلاسيكية قويمة، يحل فيها الشذوذ والاضطراب، محل الانسجام والائتلاف.
ولفظة رومانتيكي ابتداع لغوي حديث، ولكن ما توحي به في الذهن من معان معروف مشهور، حتى قبل أن تخرج هذه اللفظة إلى حيز الوجود بعهد طويل. والنعت (رومانتيكي) أبعد في القدم من الاسم رومانتيكية). وقد استعمل أول ما استعمل في إنجلترا بعد الفتح النورماندي في العصور الوسطى التي اشتهرت بانتشار القصص الشعبية الفرنسية وحظ الخيال المفرط والتأليف الخصيب في هذه القصص أرفع شأنا من حظ الوقائع المعقولة والحقائق المجردة. ذلك لأن هذه القصص تروي ضروبا من البطولة خارقة، وتحكي صنوفا من المغامرات فذة، وتتغنى بأشكال من البسالة والأقدام نادرة المثال؛ ومن ثم اشتقت لفظة رومانتيكي دلالتها من كل ما هو خارق فذ بعيد عن حياة الواقع. واستعملها الكتاب في هذا المعنى أو فما يمت لهذا المعنى بصلة قريبة وثيقة. ولنضرب مثلا في ما جاء في سنة 1654 في مفكرة ايفلين أحد رجال البلاط الإنكليزي المغرمين بمراقبة التطورات التاريخية وتسجيل الأحداث الشاذة المعاصرة لعهده (يوجد بالجانب الآخر من جبل الألب
المهول هذا قصر رومانتيكي للغاية). كذلك كتب سامو يل بيبيس أحد الثقاة في تاريخ إنجلترا في القرن السابع عشر وصفا موجزا في 11 من مارس سنة 1667 للدسائس السياسية التي كان يحيك أطرافها ملك فرنسا وقال في الختام (هذه الأمور رومانتيكية قلبا وقالبا على وجه التقريب، غير إنها حقيقية فقد أفضى إلى سيره. تشو ملي الملك نفسه رواها له بالأمس).
وإن دل هذا على شيء فلا يدل إلا على ثبات لفظة رومانتيكي على المعنى الذي أسلفنا فيه القول، واتصافها بكل ما هو ناء قصي عن العرف والتقاليد أو ثائر عصى على المألوف والمعقول. وقد استعمل توماس سبرات هذه اللفظة في كتابه:(تاريخ جمعية الأبحاث العلمية الملكية)، للمقابلة بين منهج البحث العلمي البحت، وبين منحنى التخيلات وما يشوبها من إغراق لا غناء فيه، قال: وسوف يكون هذا المنهج يرد لأذهاننا من التضخيم الرومانتيكي لأنه يكشف لها عن الأشياء في صورها المألوفة. وفي مثل جرمها تماما (وفي موضع آخر يقرر سبرات أن ما أصاب العلم من الغمز واللمز كان على يدي خصومه من المتحذلقين والمتفلسفين اللذين يرون أن العلم يصبغ الناس بصبغة رومانتيكية، ويدفعهم إلى تصور الأشياء على صورة أكثر كمالا مما تحتمله الأشياء ذاتها.)
ثم أقبل القرن الثامن عشر وبسطت عليه فلسفتها هوبز ولوك ظلالهما الوارفة، ووجد العلم التجريبي مرتعا خصيبا وأحرز نصرا مبينا، فأزداد الرأي القاتل، بأنه في الإمكان تفسير العالم على ضوء العقل دون اللجوء إلى ما هو خارق أو الولوج إلى ما هو غامض، قوة ويقينا. ومصداق هذا الرأي ما جاء على لسان هرد (أن نور العقل قد أشرق منذ عهد قريب، وهو يوشك أن يسيطر على أطياف الخيال الجسيمة.) هذه الأطياف التي كانت تنزل في القلوب منزل اليقين بمالها من قوة اقتناع وشدة تأثير، ثم ما لبثت أن أودت بها عجلة الزمان ويد الحدثان هي التي أجمع النقاد على نعتها بالرومانتيكية.
وقد سبق إلى أن ألمعنا إلى ما للرومانتيكية من صلة بالعصور الوسطى، ولآن يحق لنا أن نتساءل لماذا لم يرض هيني عن هذه الصلة من حيث هي صلة لا أكثر ولا أقل، حيث يزعم أن لفظتي رومانتيكي وميديفال مترادفتان متكافئتان في المعنى والجواب على ذلك هو ما جاء على لسانه (ما هي المدرسة الرومانتيكية في ألمانيا؟ إنها لم تكن ثمة شيء آخر
غير بعث شعر العصور الوسطى من مرقده، ذلك الشعر الذي تجلى في المقطوعات الشعرية والرسوم الزيتية والتماثيل، وفي ألوان الفن وصور الحياة السائدة في تلك الأوقات) ومثل هذا القول لا يطابق الأدب الإنجليزي مطابقة تامة، فالأدب الإنجليزي أوسع من أن تحده مثل هذه الحدود والقيود. والذي يجدر ذكره هنا في صدد التعقيب على هيني هو إن القصة وسائر فنون الأدب في العصور الوسطى مدينة لذلك الخيال المفرط الخصيب الذي اشتهرت به العصور الوسطى، والذي ينبئ عن عقلية وليدة رضيعة من اظهر مظاهرها وأخص خصائصها بناء عوالم من الأحلام والأوهام. ولما كانت العصور الوسطى في إنجلترا مقرونة بتدمير الأديرة وتخريبها بعد تولي أسرة تيورد مقاليد الحكم، فمن البديهي أن ينصرف اهتمام الأدباء في القرن الثامن عشر الذي بعثت فيه العصور الوسطى من جديد إلى الأنقاض والإطلال.
(للبحث بقية)
فخري قسطندي
مدرس بالمدارس الثانوية
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
طلب ألي أن أتحدث في فلسطين عن مصر، وان لفلسطين لعزيزة على كل نفس، حبيبة إلى كل قلب، جديرة أن تذكر لدى كل بادرة، ويستهل بها عند كل حديث.
ألست إذا ذكرت ذلك البلد الطيب - أينما كنت في بلاد الله، في أوطان العروبة والإسلام - تحولت إليك الوجوه وتطاولت نحوك الأعناق، وتطلعت لما تبديه القلوب والأبصار؟!
فيا لله ما أعجب إن في ذلك الاسم لسرا من الأسرار، بل إن فيه لسحرا من السحر!!
أجل. أن فلسطين لتلك، وان الحديث عنها لذو شجون. إنها البلد القدس، إنها بلد الوحي والنبوة، إنها القبلة الأولى في الإسلام. فلا عجب أن تتشوق أليها كل نفس، ويهفو لدى ذكرها كل فؤاد. . . وان مسالك الحديث عن فلسطين لكثيرة، بل إنها الأوفر من أن يحيط بها حصر، أو يطيف بها إلمام. فعلي أن أسلك سبيلا ينتهي بي إلى غاية، فأتحدث عن حياة الأدب هناك.
وحياة الأدب في فلسطين حديثة العهد قريبة الأمد. فلو ذهبنا مع التاريخ غير بعيد، لألفيناها خلوا من الأدب جملة، عدا نتف من هنا وهناك، كانت تبدو على أقلام الفقهاء، ورجال الدواوين؛ لا يصح أن تسمى ادبا، كما لا يصح أن تعتبر مظهرا من مظاهر الأدب على أية حال.
وحين نتوغل في تاريخها. نجد أنها لم تنجب - على تطاول العصور - غير آحاد من الأفذاذ الذين كانوا يلتمعون بين حين وآخر، وفيهم الكاتب والشاعر والمؤرخ. ومن هؤلاء: عبد الرحيم البساني (القاضي الفاضل)، وصلاح الدين الصفدي (صاحب التأليف الكثيرة)، ومجير الدين الحنبلي (صاحب الأنس الجليل في أعيان القدس والخليل). وآخرون غيرهم ندر أن تعاصر منهم اثنان، فتركا أثرا بارزا من آثار الأدب الخالد، وذلك إذا اعتبرنا فلسطين في حدودها التي تنحصر خلالها اليوم.
ولعل السبب أنها بلد مقدس، فيه المسجد الأقصى حيث الصخرة المشرفة، وفيه الحرم الإبراهيمي والأنبياء من أبنائه. ولذا كان هّم من أعرض عن الدنيا وزخرفها، أن يشّد إليها
الرحال، ليقيم فيها منصرفا إلى الله وطلب رضوانه، مقبلا على تفهم كتابه وسنن نبيه.
ومن هنا نبغ في فلسطين من أئمة الفقه ورجال السنة، من بقيت آثارهم وفتاواهم - إلى اليوم - شاهدة على مبلغهم من هذا العلم، وتبحرهم فيه. ومن هؤلاء: شيخ السلام خير الدين الرملي (صاحب الفتاوي الخيرية) والشيخ محمد الخليلي (صاحب الفتاوي الخليلية)، والشيخ سعد الدين الديري الخالدي (صاحب السهام الخارقة في الرد على الزنادقة)، والشيخ منيب هاشم الجعفري النابلسي (صاحب الفتاوي الشهيرة). وحسب فلسطين فخرا أن تنجب على رأس هؤلاء: الإمام الجليل (أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الغزي) الذي طبق ذكره الخافقين، وأنتشر مذهبه في بعيد الآفاق.
(أضف إلى ذلك افتقارها إلى مفاتن الطبيعة وجمالها الفطري، وخلوها من أتساع الحضارة وارتقاء العمران. فلا أنهار تسلكها قوارب المتنزهين وطلاب المتعة، وتنتشر على ضفافها الحدائق والمتنزهات ومواطن اللهو، ولا مدن كبيرة واسعة الرجاء، مزدهرة الحضارة، كثيرة الأرباض ملتفة الرياض والغياض. كما هو الحال في القاهرة ودمشق وبغداد والمدينة وغرناطة وسواها).
ومن هنا نتبين أن فلسطين حديثة عهد بنهضتها الأدبية، حتى أنه ما يزال معظم هؤلاء المؤسسين لها أحياء يرزقون. ونرجو الله أن يمد في آجالهم حتى يؤدوا رسالاتهم على أتم الوجوه وأكملها.
ولعل الكثيرين من إخواننا في مصر (وغير مصر) يجهلون أن في فلسطين نهضة ثقافية وحياة أدبية، ولا عجب فأننا نكاد نعيش في معزل عن العالم العربي، لقلة وسائل النشر عندنا. فلا مجلات شهرية تضاهي (المقتطف) و (الهلال)، ولا مجلات أسبوعية تماثل (الرسالة) أو (الثقافة). اللهم إلا مجلة واحدة، كان يصدرها قلم المطبوعات (شهرية)، إبان الحرب الأخيرة، وأسمها (المنتدى). وكان معظم ما ينشر فيها بأقلام مشاهير الكتاب من مصريين وسوريين، وبعض الفلسطينيين، ولذا لا تعتبر صورة صادقة عن الأدب الفلسطيني الخالص.
كما أنه ليست هنالك دار للنشر تضاهي (دار الكتب) أو دار الهلال)، خلا دار حديثة ناشئة، قام على تأسيسها جماعة في (يافا)، وهي تصدر سلسلة شهرية من كتيب صغير، على
غرار سلسلة (أقرأ) في مصر إلا أن هذا الكتيب ينقص كثيرا في حجمه عن كتيب (أقرأ)، بالرغم من أنه يساويه بالثمن، وقد صدر من هذه السلسلة إلى الآن خمسة أعداد على ما أذكر.
إذن ماذا يصنع الأديب الفلسطيني ليعرفه الناس ويعرفوا آثاره الأدبية؟ إن أمامه واحدا من السبل التالية، وليس له عنه منتدح:
فأما أن يطبع كتابه أو ديوان شعره من خالص ماله، ويعرضه في الأسواق (مجازفة) ويرتقب حظه، ولا يقدم على هذا في الغالب إلا الموسرون من الأدباء. وهؤلاء كثيرا ما يصادفهم النجاح.
وإما أن يهتبل فرصة ملائمة، تسوقها مناسبة من المناسبات. ويبادر فيحتجن إلى نفسه هذا المجال المحدود الذي تعده الصحف اليومية لذلك، (وعندنا منها صحيفتان هما الدفاع وفلسطين)، فيملاء ذلك المجال بشعره أو بنثره الذي أعده لتلك المناسبة.
وإما أن يترقب ميقاته في (محطة الإذاعة الفلسطينية)، ليحاضر الناس من وراء المذياع بشيء من أدبه. وهذه المحطة تعد في برامجها أحاديث أدبية، يقدمها في الغالب أديب فلسطيني أو أديبة فلسطينية.
وقد يتجنب الأديب هذه السبل جميعا فينظم أو يؤلف لنفسه، (وكثيرا ما يأتي بروائع مدهشة. فيبقى بعيدا عن الناس، لا يدري خبره إلا خاصة إخوانه وصفوة خلانه، وسأقدم بعض هؤلاء الأدباء، واستشهد ببعض أقوالهم مصدقة لما وصفت.
هذا ما يفعله الأديب في فلسطين ليتعرف إلى الناس ويقدم إليهم إنتاجه، وليس كل أديب عندنا يشأ إلى نشر أدبه في الأقطار المجاورة، بل قليل ما أولئك.
وهاأنذا أقدم بعض هؤلاء الأدباء الذين استطاعوا أن ينشئوا النهضة الأدبية في هذا القطر، وبالرغم من ضيق ذلك الأفق الذي يحوط بالأديب كما أسلفت، وأذكر في طليعتهم بعض من تقدم بهم الزمن. فظهروا في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر وتركوا آثارا قيمة بين مخطوط ومطبوع ومنهم:
الأستاذ يوسف باشا الخالدي: وقد عاش هذا الأديب حياته بين العلم والسياسة، فكان واليا ثم مبعوثا في البرلمان التركي، فرئيسا لبلدية القدس، كما كان مدرسا في فلسطين، ثم أستاذا
للعربية وآدابها في جامعة (فينا)، وهنالك ألف كتبا عدة، بعضها مخطوط وبعضها مطبوع. ومنها كتاب كان الأول من نوعه، استنبط فيه قواعد اللغة الكردية، وأسماه (التحفة الحميدة في اللغة الكردية)، ومنها كتاب آخر أسمه (أنا) وهو مجموعة مذكرات وآراء ومعالجات شتى. كما شرح ديوان لبيد وجمع متفرقه وطبعه في (فينا). وله عدا ذلك أبحاث شتى ومحاضرات عدة، وقد أقام في الآستانة سوقا أدبيا أسماه (عكاظ)، وآزره فيه بعض معاصريه من الأدباء.
والأستاذ بندلي صليبا الجوزي: وكان هذا الأديب المقدسي أستاذا للعربية واللغات السامية في جامعة (قازان) في روسيا. ثم في جامعة (باكو). وله مؤلفات عدة أهمها: (الحركات الفكرية في الإسلام) و (الأمومة عند العرب) و (أمراء غسان). وجميعها مطبوع. والكتاب الأخير منها يكاد يكون تاريخا للمسيحية العربية في بلاد الشام، ولعله أستهدف ذلك في تأليفه.
ومن أبرز ما يمتاز به هذا الأديب صبره البالغ حد العجب، وجلده المفرط على البحث الدقيق، والتحري في تحقيق ما أشكل وأنبهم.
والأستاذ روحي الخالدي: وقد تنقل هذا الأديب في دراسته الأولى بين الآستانة واوربة، وكانت له محاضرات في جامعة (السوربون) ثم أقيم محاضرا في (جمعية نشر اللغات الأجنبية) بباريس. وكان عضوا في مؤتمر المستشرقين، ثم قنصلا تركيا في (بوردو) بفرنسا.
ومن تصانيفه القيمة: (العالم الإسلامي) و (علم الأدب عند الإفرنج والعرب) و (الانقلاب العثماني) و (رحلة الأندلس) و (المسألة الشرقية). وجميعها مطبوع. ومن كتبه المخطوطة: (علم الألسنة) و (تاريخ الصهيونية) وهما في المكتبة الخالدية في القدس.
ثم الشيخ يوسف النبهاني: وهو أديب فقيه شاعر. نزح من قريته (اجزم) قرب حيفا إلى بيروت، وهنالك التمع واشتهر وكان راسخ العقيدة شديد التعصب في دينه، وتبدو آثار تعصبه هذه في معظم ما صاغه من شعر وأبدعه من نثر.
وله مدائح نبوية كثيرة، تكاد تكون معظم شعره. وكانت تربطه بالأمير شكيب أرسلان صداقة وثيقة العرى، تتجلى بما كانا يتبادلانه من شعر ونثر. كما كانت تربطه بالأستاذ
فارس الشدياق أواصر ألفة ومودة، حملته على أن يرثيه حين موته بقصيدة رائعة قان فيها:
كم من مشاكل أعيتني فأوضحها
…
وقال هاك فكاد الطفل يحكيها
وله قصائد (أيضا) غاية في متانة السبك واختيار الألفاظ، إلا أنها قيلت في هجاء الأئمة الثلاثة المصلحين، (جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبدة، ورشيد رضا) وهم أعلام الهدى والفضل كما تعلم!!
ويمدح الشيخ الصيادي بقصيدة يقول فيها:
ويممت دار الملك أحسب أنها
…
إلى اليوم لم تبرح إلى المجد سلما
فألفيت فيها أمة عربية
…
يرى الترك منها أمة الزنج أكرما
وللنبهاني كتب كثيرة، أذكر منها كتابة (الأنوار المحمدية).
(له تكملة)
محمد سليم الرشدان
(ماجستير في الآداب واللغات السامية)
ويلتا لو علموا.
. .!
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
من كتاب العمر، من سفر السنين
…
صفحات عند أخرى ينطوين
ما روى مرقومها غير الأسى
…
ما حوى مسطورها غير الأنين
عبراتي في حواشيها جرت
…
وجراحي قطرت فوق المتون
يا لعمر رنقت منهلَه
…
بَغَتاتَ الدهر والدهر خؤون
جزتها تسعاً وعشرين فهل
…
غير كأس الشجو عاطتني السنون
مرست لي الصاب في شهد الصبي
…
ومن الأفراح عاضتني شجون
ويقولون: تحدى واقعا
…
قيد الروح بأغلال العذاب
وانعمي بالعمر، ما العمر سوى
…
غفوة العين على حلمَ كذَاب
يتصدى تارة جهم الرؤى
…
وهو طوراً ذو خيالاتِ عذاب
هو ذا الوقع، حلم عابر
…
فاغنميه كلما لذ وطاب
وإذا يسرا وجيعاً راعباً
…
فتحديه بأفراح الشباب
وابسمي، فأزهر رفاف الندى
…
وانعمي فالغصن ريان الإهاب
ويقولون: اصدحي وانطلقي
…
من إسار الحزن، من قيد الذكَر
حسْب ألحانك ما أرسلته
…
من شجا فيها ودمع منهمر
إبكاءً والتياعاً وأسى
…
والصبي فرحة أيام العمُر
والصبي طير طروب روحه
…
غرد ما راح، شاد ما بكر
خاطف عما قليل ظله
…
إذ يوافيه الخريف المنتظر
حين لا النوار نمام الشذى
…
لا، ولا الورض أنيق مزدهر
ويلتا لو علموا كيف هوى
…
ذلك الطير دراكا من سماه
الدياجي طبقت آفاقه
…
والرياح الهوج طاحت بقواه
من رآه قلقا في وكره
…
لائباً، يوشك يرديه صداه
إن هفا يبغي انطلاقاً كسرت
…
من جناحيه أعاصير الحياة
أو شدا قام الشجا معترضاً
…
آخذاً منه بأوتار اللهاه
كيف يشدو؟ كيف يهفو وعلى
…
ريشه يجري نجيع من دماه
البريد الأدبي
حول (لا غير):
نشرت (الرسالة) الغراء في عددها 676 ردا ضافيا للأستاذ الجليل النشاشيبي انتقد فيه تعليقه الأستاذ المدني على (لا غير) الواردة في (عبث الوليد) ومما جاء في هذا الرد قوله: (وإن خيل انه جاء من أعمال (لا) عمل (ليس)، فالملحن نفسه يسطر) الخ. . .
وهنا مع تقديري للأستاذ الجليل وإعجابي بنقله وتحقيقه أرى أن في رده هذا ما يحتاج إلى التعليق فاستأذن حضرته في إبداء الملاحظة الآتية:
يرى لفيف من النحاة كالسيرافي وابن هشام أن كلمة (غير) لا تقطع عن الإضافة لفظا إلا إذا تقدمتها (ليس)، وفي غير هذه الحالة لا يرون القطع لعدم سماعه عن العرب ومن ثم لحنوا من يقول:(لا غير) لتجاوزه بالقطع مورد السماع قال السيرافي: الحذف إنما يستعمل إذا كانت (غير) بعد (ليس)، وإذا كان مكانها غيرها من ألفاظ الجحد لم يجز الحذف ولا يتجاوز بذلك مورد السماع).
وقال ابن هشام: (ولا يجوز حذف ما أضيفت إليه (غير) إلا بعد (ليس) فقط كما مثلنا وما يقع في عبارات العلماء من قولهم (لا غير) فلم تتكلم به العرب).
وقال الأشموني في تنبيهات الإضافة: (الثاني قالت طائفة كثيرة لا يجوز الحذف بعد غير (ليس) من ألفاظ الجحد فلا يقال قبضت عشرة (لا غير).
وبهذا يتضح جليا أن اللحن لم يجيء في نظر هؤلاء الملحنين من أعمال (لا) عمل (ليس) كما ظن الأستاذ الجليل حفظه الله وإنما أتى من مجاوزة مورد السماع في القطع كما مر آنفا ومن هنا كانت أطالت الأستاذ في الاستدلال على جواز أعمال (لا) عمل (ليس) جهاد في غير عدو، وكان على الأستاذ وقد جنح إلى تخطئة هؤلاء الملحنين كما جنح إليها كثير من المحققين أمثال أبن مالك وصاحب القاموس وغيرهما أن يقابل الدليل بالدليل، ويثبت سماع القطع مع (لا) عن العرب اللذين يستشهد بكلامهم في هذا الموضوع كما فعل أبن مالك في شرح التسهيل حيث أثبته في قول الشاعر:
جواباً به تنجو أعتمد فورينا
…
لعن عمل أسلفت لا غير تسأل
ولكن الأستاذ رعاه الله اغفل هذه الناحية واكتفى بعرض (جريدة) من استعمال المؤلفين
(ومنهم المعري موضع النزاع) وهو يعلم جيدا أنها ليست بالحجة القاطعة في محاججة المانعين، وأنها أن أقنعت أمثالي من المقلدين فلم تقنع أمثال السيرافي وابن هشام من زعماء النحو المجتهدين، فيا حبذا لو أن الأستاذ أعاد الكرة، واستظهر دواوين العرب ورسائلهم فربما يعثر فيها على شواهد أخرى تؤيد الشاهد أبن مالك الآنف الذكر الذي وصفه الدمامين بأنه شاهد غريب وما ذلك على همته العالية (وهو أبن بجدتها) بعزيز، والسلام عليه ورحمة الله.
(طرابلس الغرب)
عبد الرحمن الفلهود
1 -
بيان:
نقلت ست جرائد في مصر والعلم العربي، مقالتي الثالثة عن (يوم الجلاء) المنشورة في الرسالة، وعلق أكثرها عليها تعليقا لم أجد معه بدا من أن أبين (للحقيقة والتاريخ) أن الزعيم السوري إبراهيم بك هنانو قد توفى من عشر سنين.
2 -
ثناء بالحق:
أهدى ألي من القاهرة العددان الأخيران من مجلة (شباب محمد) فوجدت فيهما من صدق اللهجة، والصدع من الحق، وإصابة المحز، ووصف حقيقة الداء، ما جعلني أقول:
هذا ما أراده المصلحون فأخطأوه، وحاموا حوله فلم يبلغوه.
فللقائمين على هذه المجلة - وان كنت لا اعرف أحدا منهم - شكري وإكباري، وأسال الله أن تكون أفعالهم كأقوالهم، وأن يكثر في مصر من أمثالهم.
3 -
خطأ تأريخي:
في (قضية سمرقند) لعلي الطنطاوي (الرسالة 681) خطأ تاريخي، والصواب فيه أن قتيبة بن مسلم لم يدرك أيام عمر بن عبد العزيز، وأن العامل على سمرقند في تلك الأيام هو سليمان بن أبي السري.
نبهت على ذلك قبل أن ينبه عليه غيري.
علي الطنطاوي
الموسيقى والغناء الشعبي:
يظن بعظهم إن الغناء الشعبي نوع من الموسيقى السهلة يستطيع أن يدخل في مضمارها كل من أوتي حظا قليلا من المعلومات الفنية، وهم في هذا لا محالة خاطئون، فأن الموسيقي الشعبي مضطر إلى مراعاة أمور كثيرة في فنه قد لا يلتزم فيها غيره منها دراسة نفسية الشعب والتزام حدود الأخلاق فيما ينتج من فنه فوق ما يحتاج إليه من قدرة في التصوير وثقافة علمية وموهبة فنية، ثم هو يمتاز بعد ذلك بصفاء النفس وشعور خلق من التعقيد الذي يفسد سذاجة الطبيعة، وبهذا تتحقق الغاية من فنه، وهو الارتفاع بنفسية الشعب وترقية أخلاقه وتهذيب مشاعره. .
فالموسيقى أذن أداة من أدوات التهذيب لا تقل في أثرها عن فن الكاتب وأساليب المصلح، فهي أسهل مدخلا إلى النفس، إذ لا يبذل المستمع ما يبذله من جهد في الاستمتاع بسائر الفنون الأخرى التي تتطلب منه جهدا عقليا، بل هي تنفذ مباشرة إلى النفس دون وساطة العقل
من الفنانين الذين قد اجتمعت لهم تلك الخصائص الفنان العظيم المرحوم الشيخ سيد درويش، تلك العبقرية النادرة التي هي من أعظم مصادر فخرنا، والتي لا نفتأ نحس بالعظمة ونشعر بالعزة كلما ذكرناها. . .
ولكن كم يزداد أسفنا حينما ننظر الآن إلى موسيقانا الشعبية وما أصابها من إسفاف وتبذل، حيث أننا نطلق الآن عليها هذا الاسم من باب التجاوز لا من باب الحقيقة، فما هي إلا مظهر من مظاهر العبث والانحلال الخلقي يتمثل في فئة من الشباب قد عجزت عن تحصيل عيشها من طريق مشروع، فانطلقت تملأ الجو بما من الله به عليها من هذا (الفن) الذي نخشى أن يؤدي بنا يوما إلى العار المطلق والسقوط الشنيع. . .!
هذا، علاوة على ما شاع في الأغاني من عبارات لا يقصد منها إلا استفزاز الغريزة واستثارة الشهوات بأقبح أساليب التعبير وأحط ضروب الكلام!!
فهل يمكن أن نأمل لهذا الحال صلاحا؟ إننا نهيب بولاة الأمور أن لا يتركوا الأمور تجري
على هذا الحال المشين، وان يضعوا حدا لهذا الشر الشائع والفساد المنتشر. . . فلعله ذا صحت الموازين، واستقامت الأحكام أن تجني البلاد ثمار عباقرتها المغمورين وأفذاذها الخاملين!!
عبد الحليم أحمد عبد العال
معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية
القصص
قصة من الأدب الروسي الرفيع:
الملاك. . .
للكاتب الروسي الكبير لوي تولستوي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسى
(ولد تولستوي - فيلسوف روسيا العظيم - في 28 أغسطس سنة 1028 من عائلة عريقة (أرستقراطية) وكان شغوفا بالعلم، مكبا على الأدب محبا للحكمة. . . فلما رأى ذلك البؤس الذي يحيط بالفلاحين. . وشاهد تلك التعاسة التي تكتنف العمال. . . انبثق في فؤاده نور الحق، وتفجرت في قلبه عيون الرحمة والعطف، فعقد في نفسه ألا يهدئ باله حتى يقوم على إسعادهم، ولا يسكن في فؤاده حتى يعمل على خيرهم.
وظل - طيلة حياته - يكافح في سبيلهم، فعاش في أملاكه يزرعها ويقسم ما تغله على الفلاحين، ثم لم يلبث أن تخلى عنها ووزعها بينهم. . . واتهم - آخر أيامه - بالإلحاد. . فاختفي ردحا من الزمن.
وبعد (تولستوي) القطب الأول والكاتب الأكبر في روسيا. . . وتعد كتبه (الأناجيل الأولي) للثورة البلشفية، التي بذر بذورها. . . غير أنه لم ير الغرس وهو يستوي على ساقه، فيهز الروسيا ويهز العالم أجمع. . . فقد قضى في 21 نوفمبر سنة 1910.
وما زالت كتبه - وقد شاعت في أرجاء العالم - تظفر بكل إعجاب وإجلال. ومنها (البعث) و (القيامة) و (الحرب والسلام) و (أين المخرج). . .
وهذه القصة - التي نبسطها اليوم على صفحات (الرسالة) الغراء - من أروع الأمثلة على ما كان يفيض به تولستوي من الحس العميق والوصف الدقيق لحياة عائلة من تلك الطبقة التي كرس حياته لرفعتها ونصرتها. .
وقد دعتنا الضرورة إلى تحوير العنوان التي عرفت به هذه القصة وهو أي (بماذا يعيش الناس)؟)
(م. جميل)
كان الاسكاف (سيمون) يعيش مع زوجته، وأبنائه في شظف من العيش يسكنون كوخا صغيرا مغبرا، بأجر من المال يؤدونه لصاحبه الفلاح. . . وكان سيمون يكسب رزقه من عمله في جهد وجحد، وينفق كل ما تمسكه أنامله من دراهم على إطعام عائلته، وما أندر الخبر في ذلك الحين!
وكان للرجل وزوجته مدرعة من صوف يرتديها كل منهما حينا في الشتاء، حتى رثّت وبليت، وقد تقّضى عام وهو عازم على شراء مدرعة أخرى، فما أن أقبل الشتاء، حتى أمكنه أن يقتصد بعضا من المال: ثلاث (روبلات) وخمس (روبلات) وعشرين (كوبك) يدين بها بعضا من زبائنه!
وتهيأ ذات يوم ليؤم القرية، فارتدى (مطرف) زوجته على قميصه، ثم لبس ثيابه الأخرى فوق ذلك، ووضع الثلاث (روبلات) في جيبه، واقتطع لنفسه عصا يتوكأ عليها، واتخذ سبيله إلى القرية بعد أن أفطر. . .
وفي طريقه راح يحدث نفسه: (سوف أحصل على الخمس (روبلات) وأضيفها إلى الثلاث (روبلات) فيصير ما معي كافيا لشراء مقدار من الصوف لمدرعة الشتاء!)
ولما بلغ القرية بعد لأي طرق باب أحد الفلاحين فلم يجده بالدار، ووعدته زوجة الفلاح أن النقود سوف تصله في الأسبوع القادم! وطرق (سيمون) باب فلاح آخر، فأقسم له هذا أن يديه صفر من المال، وسيدفع له كل ما معه (عشرين كوبك) قيمة إصلاح حذاء قام سيمون برتقه!
فحاول (سيمون) أن يشتري (صوف المدرعة) بما معه، وبقرض يؤديه بعد حين، فرفض البائع قائلا في صوت ساخر؛ (إيتني بالمال، وسوف يكون لك ما توده من الصوف، فإنا نعلم كيف يحصل المرء على دينه!)
فأحس سيمون بالخور يسري في جسده، والقنوط يتسرب إلى فؤاده، فقام إلى حانة حيث نهل كأسا من الخمر بعشرين (كوبك)، وقفل راجعا إلى داره!
كان للخمر أثرها في سيمون، فسرى الدفء في عروقه، وزادت من قوته ونشاطه. فراح يفكر: (إني أحس بجوانحي تختلج دفئا وحرارة، مع أني لست مرتديا مدرعة من الصوف، لقد تناولت قطرة من الخمر فكان لها أثر النار تسري حرارتها في عروقي، فلست بحاجة
لمدرعة من الصوف أقي بها زمهرير الشتاء!!)
ليت زوجتي ترتشف قليلا من الخمر. فتحس ما أحس!! صه. . . ويلك. . . أتود أيها الرجل أن تقضي عليك زوجتك إن خبرتها أنك تناولت بعضا من الخمر. . . إنها سوف تحطم الآنية على رأسك الفاضل. .! يا له من سائل عجيب يدفع النشوة إلى الروح والحرارة إلى الجسم!!. لست أبالي شيئا. . . ولكن زوجتي سوف تكتئب ويؤلمها أني عدت دون صوف المدرعة!. ليس علي من جناح!!. . . فقد طلبت حقي فأنكره واحد. وأعطاني الآخر عشرين (كوب). . . هه. . . وماذا أنا فاعل بها.؟! لست أدري غير أن أشرب بها. . . إن الواحد من هؤلاء يملك الأرض والدور والحيوان. . . ثم يبخل علي بحقي حقي الذي أعمل سحابة يومي وجنحا من ليلي كي أظفر به. . . فإذا ما انتهيت أنكروه علي يا للعار. إن الواحد منهم لينعم بالدقيق والطعام أما أنا فأنفق ثلاث (روبلات) كل أسبوع للخبز وحده. . . فإذا ما عدت إلى الدار وجدت الخبز قد أكل فأبيت على الطوى!. وهل أملك غير ذلك؟! ومن أين آتي بالنقود؟! أمن (هؤلاء) الناس الذين لا يقيمون عن الطعام إلا وقد أصيبوا باللظة.!!)
كانت تلك الأفكار والخواطر تضطرب بين جوانحه. حين أدرك - في سيره - الكنيسة في منعطف الطريق. فرأى جسدا كالثلج في نصاعته!. فراح ينعم النظر دون أن يتحققه أيكون ثورا!. لا ليس شبيها بالثور.! إن له رأسا يشبه رأس لإنسان! بيد أنه ناصع البياض!. . .)
واقترب منه حتى أمكنه أن يجتلي الأمر!. وكم كانت دهشته حين أدرك أنه إنسان عار. . . يجلس إزاء الكنيسة في سكون يدفع الرهبة إلى القلب. . . فطار فؤاده هلعا، وتلبسه الخوف فزعا:(لا بد أن أحدا قد قتله. . وخلفه هنا. . سوف أمسك عليّ فضولي أو أصاب بأذى. . .)
وأنطلق في سبيله ولكن التفت إلى ما وراءه فرأى الرجل الجالس ينظر إليه. . . فراع ذلك سيمون وزاد من جزعه. (أأعود إليه أم أنطلق؟! إن أنا عدت إليه فسوف يحدث مالا يرضيني. بل يجلب الضر إلى نفسي فما وجدت ثمت إلا لسوء. . . ولعله يثب علي ويخنقني. وحينئذ لا تنفعك رحمتك ولا تشفع لك شفقتك. . . وماذا أنا فاعل بإنسان عار؟!
لست بمستطيع أن أخلع عليه ما لا أملكه. دعه فللسماء شأن معه!) وأسرع سيمون في خطاه لا يلوي على شيء. بيد أن ضميره أخذ يؤنبه. فتوقفت خطاه. وأخذ يهس في حيرة ويهمهم في وجل: (ماذا أنت فاعل يا سيمون؟! هب أن الرجل يلفظ آخر نفسه!. ألا تتقي الله في فرارك منه ورغبتك عن عونه!! أأنت في وفر من المال حتى تخشى أن تسرق؟! يا للعار يا سيمون.!) فانقلب آيبا إلى الرجل ونفسه مضطربة وقلبه يخفق. . .
دنا سيمون من الرجل الغريب، وراح يجيل الطرف فيه. . فرآه شابا على جمال وحسن! وليس على جسده أثر لجرح أو شج وقد جلس ثم معتمدا ظهره إلى جدار الكنيسة لا يرفع طرفه إلى سيمون من الوهن والضعف. فلما أحس بسيمون رفع رأسه إليه، وألقى إليه بنظرة. كانت كافية لأن تستدر كل ما يختلج بين جوانح سيمون من عطف ورفق وحب. فخلع حذاءه. وألقى عن نفسه رداءه. وقال في صوت خفيض فيه حنان وفيه رأفة:(ليس ثمة مجال للحديث!!. هيا ارتد هذا الثوب.) وأمسك سيمون بمنكبي الرجل، وأعانه على النهوض. . .
فلما نظر إليه - حينما انتصبت قامته - ألفاه. . . مديد العود. . . جميل الوجه. . . فألقى على كتفيه رداءه وأعانه على لبسه وهم (سيمون) يخلع قبعته ليضعها على رأس الغريب. فأحس برأسه يقشعر من البرد فقال في نفسه: (أني أصلع!. أما هو فله غدائر معقوصة فلا خوف عليه!. بل يحسن أن ألبسه حذائي. . .) فأقر قبعته على (صلعته) وأجلس الرجل. وجعل حذائه في قدميه. . . وهو يقول في جرس طيب عطوف (هيا. أيها الصديق. استشعر الدفاء ودع باقي الأمور تجري وفق مرادها أفي قدرتك أن تسير؟!)
فنهض الرجل ونظر في امتنان إلى سيمون دون أن ينبس ببنت شفه فقال سيمون: (لماذا لا تتكلم؟! أن البرد لقارص فلا بد من العودة إلى المنزل توكأ على عصاي وإلا أحسست بوهن وخوار. فاعتمد على ساعدي. . .)
وخطا الرجل في تعب وجهد. وفي خلال السير رفع سيمون صوته قائلا:
(من أين أنت؟!.)
- لست من هذه البقاع!)
(كذلك حدست. فأني أعرف القوم هنا.! ولكن كيف قدر لك أن تصير هكذا جوار
الكنيسة!؟)
(لست أدري!)
- أساء أحد معاملتك؟!
- لم يتعرض لي أحد بسوء؟ لقد عاقبني الله. . .
دون ريب. . . هذا هو حكم الله. سوف تجد عيشا ومأوى أينما ذهبت! فأين تروم!)
- لست أدري!.)
فتولى سيمون الدهش. فما كان الرجل صاحب سوء أو خبث وتجلى من لهجته أنه خالص القلب. ولكنه لا يعلم عنه شيئا. (من يدري ما سوف يحدث!!) والتفت إلى صاحبه وقال: (حسنا!. تعال إلى داري على الرحب والسعة.!)
هبت الريح عاتية، فياضة بالصقيع. فسرت القشعريرة في جسد سيمون بعد أن أفاق من نشوة الخمر وذهبت عنه حرارته فأخذ يدثر نفسه برداء زوجته بعد أن خلع رداءه. . . وراح يتحدث إلى نفسه: -
(ولآن، وقد ذهبت الخمر، أعوزنا صوف المدرعة، لقد انطلقت اليوم كي أعود بالصوف، فما عدت بالصوف ولا بردائي أنا، وفوق ذلك أتيت معي برجل عار! سوف تستاء (مترونا) من ذلك!)
وحينما جالت بفكره (مترونا) زوجته أحس بالانقباض والألم يتغلغل في جوانحه، بيد أنه عندما ذكر صديقه الغريب ونظرته إليه في امتنان وحمد رقص قلبه بهجة ومراحا. . .
نهضت (مترونا) زوجة سيمون. . . ذلك اليوم بعبء واجبها المنزلي خير نهوض وانتهت من عملها مبكرة. . . قطعت الأخشاب. . . وحملت الماء. . . وأطعمت الصغار. . . وتناولت هي وجبتها. . . وجلست ترقب أوبة زوجها. . . وراحت تسال نفسها:
(أيكفي الخبز. . . أم عليها أن تعمل بعضا منه الآن. . . لو أن (سيمون) تناول طعامه في المدينة. . . ولم يكن في حاجة للخبز في العشاء. . . فسوف يمتد أجل الخبز يوما آخر. . . لست بقادرة اليوم على أن أصنع خبزا. . . وسوف أدبر كل شيء حتى يكفينا إلى يوم الجمعة القادم. . .). . ووضعت مترونا قطعة الخبز الباقية في مكان حريز. . . وجلست ترتق ثياب زوجها. . . وفي غضون ذلك راحت تفكر كيف يشتري زوجها صوف
المدرعة كي تقيهما برد الشتاء. . .
(آه. . . لو أن البائع لا يخدعه. . . أن زوجي لغرّ. . .! سهل على من يقوده. . . انه لا يخدع أحدا. . . ولكن الطفل يستطيع أن يعبث به. . . ثماني روبلات مقدار كاف لشراء أجود الأصواف وأمتنها. . .! كم كنا نرتعد بردا ونرتجف من الصقيع في الشتاء الماضي. . . وما كنت أستطيع أن أهبط النهر أو أذهب إلى مكان آخر ولكن لقد بكر سيمون في الذهاب!! وما عاد إلى الآن. . . آمل أنه لم يذهب إلى الحانة!!.
ما كادت (مترونا) تردد هذه الخواطر في ذهنها. . . حتى طرقت أذنها أصوات وأحست أن بعضهم دلف إلى الدار فقامت تجتلى الأمر. . . فأبصرت رجليه: سيمون زوجها، وشخصا آخرا. عاري الرأس ينتعل حذاء زوجها!! لم تره من قبل!.)
وحينما لاحظت أن زوجها تفوح منه رائحة الخمر. . . وليس عليه رداءه. . . ولا يمسك بيده حزمة من الصوف. . . أخذ مرجل غضبها يفور. . .
وأفسحت لهما حتى دلفا أمامها، ثم تبعتهما. . . ووقع بصرها على ذلك الرجل الغريب وقد لبس رداء زوجها. . . فلما دخلا الغرفة وقف الرجل الغريب لا يتحرك ولا يرفع بصره إليها. . . فقالت في نفسها (لعل السكر أخرسه وذهب بعقله. . .)
وعبست بوجهها وقطبت جبينها. . . ووقفت جوار (التنور) ترقب ما سوف يعملان. . .!
وخلع (سيمون) قبعته. . . وجلس على أحد المقاعد. . . وكأن الحال يجري على ما يرام.
- (هيا مترونا!! أن كان العشاء معدا؟! فأتبنا به.!) فزمجرت (مترونا) كاللبؤة الغاضبة. . . ولم تتحرك من مكانها جوار التنور - فرأى سيمون بوادر الشر تلوح في وجه زوجته. . . فأراد أن يهدئ من روعها ويظهر أنه لم ير شيئا. . . وقدم لصاحبه كرسيا وقال له في مرح (اجلس ودعنا نصيب شيئا من الطعام. . .! هيا (مترونا) أما أعددت لنا شيئا؟!)
كانت نفس مترونا تلتهب غضبا وتغلي حنقا فانفجرت قائلة:
- (بلى. . . لقد أعددت الطعام. . . ولكن ليس لكما. . .! يخيل لي أنك أنفقت نقودك في الشراب. . . لقد ذهبت كي تحضر صوف المدرعة. . . فما عدت إلا ومعك شريد عار عربيد. . . ليس لدي طعام للسكارى. . .!)
- (كفى مترونا. . . أمسكي عليك لسانك. . .! يحسن بك أن تسألي أي إنسان هذا؟)
- بل يحسن بك أن تخبرني ماذا فعلت بالنقود؟!)
فأخرج (سيمون) الثلاث (روبلات) من جيبه وقال: (ها هي ذي النقود. . لم يؤد (تريفنوف) ما عليه. .! ووعدت زوجته بأنه سوف يدفع. . .) فلم يهدئ هذا من غضب مترونا. . . فهو لم يحضر الصوف. . . بل أنه ألبس وأحدا عاريا ثوبه وأتى به إلى بيته. . . فاختطفت النقود من يده لتضعها في مكان أمين وقالت لزوجها. . . (ليس عندي طعام. . . وما بمقدورنا أن نطعم كل سكير عار في العالم. . .!)
- قلت كفى مترونا خير لك أن تسمعي أي إنسان هذا -!)
- (أمن الحكمة أن أنصت إلى سكير؟! لقد كنت اعرض عن الزواج بك لهذا. .!)
حاول سيمون أن يخبر زوجته أنه لم يشرب إلا بالعشرين (كوبك). . . وحاول أن يبصّرها بالحالة التي وجد عليها صاحبه الغريب. . . بيد أن مترونا كانت تنطق بسرعة هائلة. . . وتذكره بأشياء مضت منذ عشرين عاما. . . وراحت تتحدث وتتحدث، وأخيرا أمسكت بسيمون وراحت تصيح:
(أعطني ثوبي. . . إنه الوحيد الذي أملكه. . .! وقد أعرته لك كي تحضر صوف المدرعة. . . ناولنيه أيها الكلب الأجرب. . . وليعبث بك الشيطان!!.)
فأخذ سيمون يخلعه. . . ثم ناوله إياها. . . فألقته على رأسها عمت بالخروج إلا أنها توقفت. . .! وقد جال في نفسها أن تعرف سر ذلك الرجل الغريب فقالت لسيمون:
لو أنه رجل مهذب لما أعجزه أن يستر نفسه بثوب يشتريه! أيمكنك أن تخبرني أين عثرت (عليه)؟!)
- هذا ما كنت على وشك أن أخبرك إياه. . . حينما أدركت الكنيسة وأنا في طريق العودة - أبصرته جالسا عاريا يكاد أن يتجمد من البرد والصقيع، فقد بعثني الله إليه قبل أن يقضى عليه الجوع والعرى، فماذا كان علي أن أفعله سوى أن أخلع ثوبي وألبسه إياه وآتي به معي؟ فما كان له من مأوى!! ما الذي يدرينا كم كان يلاقي من العذاب الشديد؟ لا تغضبي يا مترونا، أن هذا ذنب غير مغتفر، واذكري أننا سوف نموت جميعا يوما ما!)
وارتفعت ألفاظ الغضب إلى شفتي (مترونا)، ولكنها ما لبثت أن ماتت قبل أن تلفظها، فقد نظرت إلى الرجل الغريب وهو جالس في سكون ووداعة على مقعده، يداه معقودتان على
فخذيه، ورأسه ساقط على صدره، وعيناه مغمضتان، وجبينه مقطب، كان الألم ينهش فؤاده فينعكس على صفحة وجهه!
فصمتت (مترونا) على مضض. . . وقالت سيمون في صوت شاع فيه الرجاء والأمل: ألا تحبين الله يا مترونا؟!.)
فما سمعت (مترونا) هذه الكلمات، وألقت طرفها ثانية إلى (الصاحب الغريب) حتى فاض قلبها إيمانا. . . وراحت الرحمة تدب في نفسها. . . وأخذ الحنان والعطف يهز فؤادها. . .!
فذهبت إلى (التنور) وأتت بالطعام. . . ووضعت قدحا على المائدة وصبت فيه بعض الشراب الساخن ثم أحضرت قطعة الخبز من مخبئها ومعها سكينان وملعقتان. . . وقالت في صوت يفيض عطفا. تفضل فتناول بعض الطعام. . .!
وأدنى سيمون المائدة من صاحبه. وفتت الخبز ووضعه في المرق وراحا يأكلان. . وجلست مترونا في جانب من المائدة! ترقب الضيف في نظرات فاحصة. فزاد عطفها عليه ورأفتها به.
وحينئذ أشرق وجه (الغريب) وأضاء. فكأنه البدر يرفل في هالة بالسماء. . ورفع عينيه النجلاوين إلى (مترونا) ونظر أليها نظرة وديعة. وافتر ثغره عن ابتسامة حلوة عذبة. . .
(يتبع)
مصطفى جميل مرسى