المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 685 - بتاريخ: 19 - 08 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٨٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 685

- بتاريخ: 19 - 08 - 1946

ص: -1

‌معجزة تولد وتموت.

. .!

للأستاذ عباس محمود العقاد

تسامع الناس في العالم العربي بقصة (الإنسان الغزالي) الذي وجه الصيادون في بادية الشام منذ أسابيع.

ولا نعيد القصة، ولكننا نسجل الأعاجيب التي انطوت عليها لو صحت روايتها الأولى:

وهي أن ذلك الإنسان الغزالي - وهو طفل في الثانية عشرة - كان يسبق السيارات ويعدو مع الغزلان بسرعة ثمانين ألف متر في الساعة، ونزل بعضهم بهذه السرعة إلى خمسين ألفاً وهي ليست بالشيء القليل؛ لأنها خمسة أضعاف السرعة التي يستطيعها العداء الرياضي بعد المرانة العلمية والاجتهاد الطويل.

والأعجوبة الأخرى أن هذا الطفل قد تبنته ظبية في البادية وتعهدته بالرضاع والحضانة حتى نما وكبر وأصبح يهيم معها في البادية كما يتبع الخشف أمه في أسراب الفلاة.

وتمت الأعجوبة بوصف شفتي الطفل ووصف قدميه. فإن بعضهم أبى إلا أن يجعلها (حيوانية) في كل شيء. فالشفتان مشقوقتان لا تتكلمان ولكن تبغمان. . . والقدمان ظلفان أو أشبه الأقدام بالأظلاف.

وأسرع الناس إلى التصديق، وأسرع المعقبون إلى الإضافة والتعليق، وأوشكت أسطورة الأسبوع أو الأسبوعين أن تفوق في الغرابة أساطير المئات والألوف من السنين.

ولا عجب فيما قيل من أن الطفل كان يأكل الحشائش والأعشاب ويستطيبها، وأنه ظل في المستشفى الذي نقل إليه معرضاً عن الطعام الذي يأكله الآدميون. فإن الآدميين يأكلون ألواناً من العشب والخضر في الحاضرة ويكتفون بها عند الضرورة وقد يستطيبونها ويكتفون بها لغير الضرورة.

ولكن العجب كل العجب في تلك السرعة المزعومة، وفي تبني الحيوان للطفل الإنساني بغير إرشاد وتدريب. فقد يحدث هذا برياضة الحيوان عليه زمناً يطول أو يقصر، ولكنه لا يحدث في البادية من حيوان بين قطيع يظل وحده متكفلا بالرضاع بين سائر اخوته. فأما إذا كان القطيع كله مشتركا في الرضاعة على التناوب فذلك أعجب ما يروى من ضروب الكفالة الحيوانية بالإجماع.

ص: 1

وتساءل المعنيون بالرياضة عندنا عن السر في تلك السرعة وهم بين مصدق ومكذب، فقال بعضهم: لعلها غريزة الجماعة الحيوانية تسري بعدوى الملازمة من الحيوان إلى الإنسان!

وقال غيره: لعل السر في الحشائش والأعشاب التي قصر عليها الغلام غذاءه. فهي على ما يظهر أصلح لمرونة المفاصل والعضلات من اللحوم والأغذية المطبوخة التي يأكلها الرياضيون!

والواقع أن اللحوم لا تعوق آكلها عن العدو لأن كلب الصيد من أسبق الأحياء عدواً وأصبرها على الجري الطويل، ولأن العرب كان فيهم عداءون لم يأكلوا شيئاً غير اللحوم والألبان، وإن أكلوا الحبوب والخضر ففي الندرة بين الحين والحين.

ونعرف في أعلى السودان قبائل قد اشتهر أبناؤها بعبور الصحراء، أو - العتمور - كما اشتهروا بالجلد على الجري والركوب وهم يأكلون اللحوم ويعافون كل (ملاح) أو كل خضر مطبوخ معالج بالملح على الطريقة السودانية. ومن كلام شاعرهم يفتخر:

(ولا نشرب المدام نسكر

ولا بنا كل الملاح لا خضر)

وفيما بيننا أمثلة غير قليلة على السباقين من آكلي اللحوم أو الذين لا يصومون عنها على الأقل لغرض من هذه الأغراض.

فليس في الظنون والأوهام - فضلا عن الحقائق والمعلومات - تفسير صالح لتلك الأعجوبة المزعومة أو تلك المعجزة التي شاء الله أن تصاب (بالسرعة) في الزوال، وهي سرعة لا تؤذن بالجدال

فبينما الناس في هذا التساؤل إذا بمندوب المصور في بيروت يزور الصبي في مستشفى (ابن سينا) الذي نزل فيه بدمشق فلا يلاحظ عليه شيئاً من الشذوذ، وقد ابتسم الصبي له وأظهر له قدميه فلم تكن بهما خشونة مستغربة؛ بل كانت لها نعومة كنعومة أقدام الأطفال. وعلم المندوب من الطبيب (أن الصبي مر بالدور العادي في طفولته، وأن أمه أرضعته حتى فطمته، وأن قصة رضاع الغزالة وهم وخرافة).

وقد فسر مدير الصحة العامة بدمشق هذه الحادثة بأن الصبي قد تاه في الصحراء، وربما تعلق بسيارة وصلت به إلى الموضع الذي وجد فيه، أو ربما خرج في صحبة بعض البدو ثم ضل الطريق، ولا يستدل منه على حقيقة الأمر لأن المسكين مصاب ببكم قديم. . .

ص: 2

ولعله ينطق بعد العلاج.

وهكذا ماتت الخرافة في سرعة جديرة بموضوعها لائقة بشأنها، فتلقى الناس موتها بالأسف والخيبة لأنه حرمهم أعجوبة طريفة، وهم لا يشبعون من الأعاجيب حتى في عصر الأعاجيب، وأخصها السرعة التي يصح فيها قول أبي العلاء:

ولما لم يسابقهن شيء

من الحيوان سابقن الظلالا

فهم يودون لو تنقلب الدنيا كلها أعاجيب على شريطة أن تحفظ فيها (معجباتها)، ولا تصبح كعجائب المتنبي التي كثرت حتى لا عجائب فيها. وليتهم يجربون هذا الانقلاب أسبوعاً واحداً ليعلموا أن الوقائع والمألوفات لها (قيمة) حقيقية بالعرفان فلا يتبطروا عليها!

والظريف حقاً في قصة هذا الصبي أننا رأينا له صورتين. فإذا هو أشبه إنسان بملامح غزال؛ سواء في دقة الجوارح أو في تركيب الجمجمة أو النظرة المجفلة والوجه المسنون. فلو ظهرت خرافته في عصر من العصور الوسطى لكانت هذه الصورة مصدقا لكل إشاعة من إشاعات الخرافة المختلفة، فيقول من شاء إن لبن الرضاع ينقل الشبه من الحيوان إلى الإنسان، ويقول من شاء أن مولود غزالة بخارقة من الخوارق، ويكون حظه من التصديق والإعجاب أتم وأعظم من حظ القائل بانتقال الملامح مع الرضاع، بل يحق له حينئذ أن يشهر سيف التكفير على من ينكر هذه الخارقة ويشك في إمكانها، لأنه يستكثر تلك الخوارق على قدرة الله.

ومن خصائص هذه الحالة في عصرنا أن تقع في أيدي الأطباء الذين يعرفونها ويفسرونها وقد يوفقون لعلاجها، ولكنها لو تقدمت في الزمن لكان أكبر الظن أن تقع في أيدي المشعوذين الذين يستغلونها ويبالغون فيها ويجدون من إشاعات الناس التي يتطوعون بها ما يزيدها ويساعد على ترويجها. . . فهذا الطفل إذن قديس مبارك قد أعده الله للولاية في البرية وحرمه النطق ليكتم أسرار الغيب ولا يبوح بها إلا بترجمان على حسب الوحي والتقدير، وهذا البغام هو اللغة التي يفسرها الحواريون المحيطون به ولا يقدر غيرهم على تفسيرها، وهذه الظبية - ويحضرونها يومئذ في صحبته! - هي أم القديس التي خصت من بين الحيوان بهذا الشرف العظيم، ويباع شعرها بل بعرها للبركة (كأنه حب فلفل. . .) أو يزيد.

ص: 3

وينقضي عمر الطفل وتنطوي بعده الأيام، فإذا هو صاحب ضريح، وإذا بالحواريين يتوارثون الأسرار ويترجمون عنه من وراء الصفائح والأحجار، وربما بيعت ذرية الظبية بعدها - إن سمح لها مقامها القدسي بالزواج - فغالى الناس في أثمانها وتفاخروا باقتنائها في المدائن والأمصار.

ومما لا ريب فيه أن ذلك الضريح الذي حيل بينه وبين الظهور لن يقل في قداسته ولا في استحقاقه للزيارة والتبرك وقضاء الحاجات عن ألف ضريح تمتلئ بها الآن مدائن مصر والشام والعراق وسائر بلاد الإسلام، بل لن يقل عن ألوف الأضرحة التي يتجر بها الدجالون على اختلاف الأديان.

فالحمد لله! لقد نجا الشرق الإسلامي من معجزة بغير معجزة، وسلمت بلادنا العامرة بالقديسين من قديس جديد.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌بعد عشرين سنة.

. .

للأستاذ علي الطنطاوي

قلنا: قف لحظة بنا يا قطب. لقد هلكنا من التعب

قال القطب: امشوا. .

وضغط على (الميم) ومد (الشين) مدة ساخر بنا، وأوسع خطاه فصمتنا وتبعناه مرغمين

وعدنا نمشي في هذه البرية الواسعة، وقد أنتصف الليل وغاب القمر، واحتوانا الظلام بسكونه الموحش وسواده المطبق. . . وثقل علينا هذا الصمت، فقال القطب: غنوا. . .

وحاولنا أن نغني كما كنا نغني في أول الليل، ولكن التعب والوحشة والنعس، كل أولئك كان يحبس أصواتنا ويمسك ألسنتنا، فخرج الصوت ضعيفاً متقطعاً ثم هبط حتى إختفى، ورجعنا إلى الصمت. . .

وتجسمت وحشتنا، حتى كانت الجبال البعيدة تظهر لنا في ظلام الليل كأنها أشباح الرعب، والأشجار أمثال العفاريت الشواخص، والسواقي التي كنا نمر عليها كان ماؤها يبدو لنا أسود يملأ خريره القلوب رهبة. . . وكذلك أحال الظلام كل ما هو جميل في الوجود بشعاً مرعباً. . .

ولاح لنا من بعيد ضوء يتراقص على حاشية الأفق، فقال القطب:

- هذه هي (التكية)!

فسرى عنا، وتجددت قوانا، وعلمنا أنا قد بلغنا آخر المرحلة، ودنا المنزل

وكان ذلك عام 1925. وكانت إحدى رحلاتنا مع (القطب)

وكنا نقوم بهذه الرحلات قبل أن يعرف فينا نظام الكشفية وقبل أن يدخل بلدنا، نقطع فيها ما لا تقطعه كشافة على وجه الأرض، نسير خمسين كيلا في اليوم نصعد في الجبال أو نتسلق الصخر، نخوض ظلام الليل وحر الهاجرة، نحمل أثقالنا على ظهورنا، نتعرض للوحوش واللصوص والمخاطر، حتى لم تبق بقعة حول دمشق قريبة أو بعيدة إلا بلغناها، ولا قرية إلا دخلناها، ولا عين إلا وردناها، وكان قائدنا (القطب)، وليس (القطب) اسمه، ولكنه لقب لقبناه به أخذاً من الخرافة الصوفية المشهورة. . . واسمه الشيخ حسين، وهو خطاط وإمام مسجد ومعلم صبيان متقشف زاهد يقبل من الدنيا كل ما جاءته به، فيأكل

ص: 5

راضياً ما يجد، ويلبس ما يلقى، ويعرف ربع أهل دمشق ويعرفه نصفهم. ومن مزاياه أنه أقدر الناس على السير، حتى إنه ليستطيع أن يقطع عمره كله بالمشي. . .

. . . وكان قد خرج بنا فجر هذا اليوم من دمشق إلى الربوة فدمر، فالهامة، فالجديدة، فبسيمة، فالفيجة - أسماء رياض من عرفها من قراء الرسالة علم أن الله لم يخلق في الأرض أجمل منها، ومن لم يعرفها فيحفظها في ذاكرته، فلعل الله يكتب له السعادة يوماً بزيارة دمشق فيسأل عنها حتى يراها

فلما بلغنا الفيجة وهي على عشرين كيلا من دمشق، وفيها العين العظيمة التي تسقي دمشق ماء عذباً صفاه الله ونقاه، فلم تصفه آلة ولا مصفاة، أقمنا فيها إلى المساء، فلما أذن المغرب صليناه وسرنا على اسم الله، فمررنا على دير قانون وسوق وادي بردى وتلك القرى، نسلك قرارة الوادي العميق تارة، ونركب الجبل تارة أخرى، وكنا أقوياء في أول الطريق، نسير بجد ونشاط، وكان القمر الوليد يضوئ لنا الطريق، فلما مضت ثلاث ساعات من الليل غاب القمر، وعم الظلام، ونال منا التعب، فما قاربنا التكية حتى كدنا نسقط إعياء. . .

وشد قرب التكية أعصابنا، فغنينا أغنية وطنية معروفة، فلم نسمع إلا صوت المتراليوز

فقال القطب: خاف منا الكلاب، غنوا يا أولاد!

وكانت الثورة السورية قائمة، وهؤلاء (الكلاب. . .) إنما هم الفرنسيون ولهم مركز قوي في التكية لحماية معامل شركة الكهرباء والترام، وكانوا يقتلون في تلك الأيام البريء وهو في داره، فكيف بمن يقدم عليهم وسط الليل منشداً الأناشيد الوطنية؟

واستمر صوت الرشاشات ونحن مستمرون في إنشادنا وسيرنا فرحين بهذه التسلية الجديدة التي أنقذتنا من ملال الطريق. وأشهد أن الفرنسيين مجانين، ولكنهم عقلوا هذه المرة، لأنهم وجدوا من هو أكثر جنوناً منهم، وهو نحن. . فوقفوا الضرب، وأقبل علينا واحد منهم، فأنار مصباحه ونظر إلينا. . .

وكان ركبنا مؤلفا من القطب، والشيخ شريف. . . وهو مدير مدرسة أهلية، وسلطان الشاي الأخضر في دمشق، ومؤلف أناشيد، وهو أسرع الناس غضباً وأسرعهم رضا، يشتعل كالبنزين وينطفئ كالبرق، والشيخ طه. . . وهو معلم ولكنه كان ضابطاً في الجيش قبل أن يكون معلماً، وأنا، وسبعة من تلاميذ الشيخ شريف. . .

ص: 6

لقد كنا ك (ركب النميري)!

فلما رآنا ورأى هذه الهيئات العجيبة، وهذه الأحمال التي كنا نحملها والتي يعجز عن حملها ثلاثة بغال. . رأى قوماً ليسوا من الثوار ولا من أهل القتال، فماذا يكون هؤلاء، وماذا يدفعهم إلى السير في هذه البرية نصف الليل؟

وسألنا - وكنا نعرف من الفرنسية كلمات - فتكلمنا بها، وكنا نكرر كلمة (بروموناد) أي نزهة. . . فلم يشك الرجل أننا مجانين، وأدخلنا المخفر وجاء بترجمان فكلمنا، فلما عرف قصتنا كاد يقضى عجباً، وسمح لنا بالمسير. . .

قال القطب: إلى أين نسير؟ إننا نريد أن ننام هنا!

قال الضابط: هذه منطقة عسكرية. ممنوع!

قال: إذن أعطونا طعاماً، وقطرة لعيني فإن بها رمداً، وعلبة كبريت. فأعطوه ما يريد

فلما خرجنا، قال القطب:

- أرأيتم كيف غزوناهم وأخذنا طعامهم؟ آه. لو كان معنا سلاح لذبحنا الكلاب. . . والآن. لم يبق إلا أن نمشي إلى (بلودان)

وكانت بلودان في رأس جبل لا نستطيع تسلقه في أقل من ساعتين، وبيننا وبين الجبل مسيرة ساعة، والإعياء والنعس بالغان منا، ولكن لابد مما ليس منه بد. . .

ولما بلغنا بلودان كان السحر قد أقترب، ولم يكن يحسن أن نقرع باب أحد من الفلاحين في تلك الساعة، فقصدنا المسجد وجرب القطب مفاتيحه في الباب فانفتح لنا، فاستلقينا من التعب على الأرض، ووضع كل رجليه تلقاء رجلي الآخر، والتففنا ببسط الجامع ونمنا. . .

ولما جاء المؤذن لأذان الفجر، فتح الباب ودخل يتعوذ، وأوقد عود الكبريت، ونظر فرأى ما هاله، وما قف له شعره، رأى جنا نائمين كل جني طوله خمسة أمتار وله رأسان رأس من هنا ورأس من هناك، ووقف المسكين مكانه وقد ألصقه الرعب به فما يملك أن يريم، وجاء بعد قليل رجل آخر فقال له:

- ما لك لا تؤذن يا أبى عبده؟

قال: أ. . . أ. . . أ. . .

ص: 7

وأشار إلينا وعقد الخوف لسانه، فنظر الآخر فشده. .

وأحسسنا نحن فقمنا، وعرف القوم القطب، فأقبلوا عليه يعاتبونه على ما صنع بهم. . .

ونهضنا كما ينهض الجمل نشط من عقال، وقد وجدنا لهذه النومة القصيرة على الحصير القاسي بعد التعب الشديد ما لا نجده لنوم ليلة كاملة في البلد على السرير، ووقفنا للصلاة، وكان قد اجتمع فيها أهل البلد كلهم لا يتخلف عن الصلاة أحد، وما أهل البلد؟ إنهم بشيوخهم وكهولهم وشبابهم لا يعدون الأربعين. . .

فلما سلمنا أخذوا يتسابقون إلى دعوتنا، فقال القطب:

- القاعدة!

وكانت القاعدة أنه لا يستضيف أحداً ولا يدخل داراً، ولا يرزأ أحداً شيئاً، وإنما يقصد المنازِهَ والعيون، وكانوا يعرفون هذه القاعدة فتركوه، فذهب بنا إلى (عين أبي زاد). . .

ومررنا على القرية فإذا هي قرية صغيرة خاملة فقيرة، أهلوها على الفطرة النقية، لا يعرفون الحسد ولا الغش ولا السرقة، ولم يسمعوا بالقمار ولا الخمر، وليس فيهم من يقرب الزنا أو يفكر فيه. والقرية تطل على منظر من أعجب مناظر الدنيا، فهي على رأس جبل تقوم في أسفله (الزبداني)، وهي القصبة، وفيها دار الحكومة والقائمقام والقاضي وقائد الدرك، وأمامها سهل الزبداني كله إلى منبع (بردى)، وعن يمنها وادي (سرغايا)، وعن شمالها بقين ومضايا، ومن أمامها مدخل وادي بردى. . . وفيها المياه العذبة، والعيون الصافية، وفيها العنب والتين والتفاح الذي لا نظير له، ولكنها منقطعة عن الدنيا لا يكاد يصعد إليها أحد، لعلوها وضيق الطريق وصعوبته، وقلة الدواب، وكان وجه القرية الشيخ سليمان الرنكوسي وهو رجل ذو مزايا ومناقب، فمن مناقبه أنه إمام المسجد، وخطيب الجمعة، ومعلم الأولاد، وكاتب الرسائل والعرائض، وبائع القماش، ومصلح بوابير الكاز، ومقسم المواريث، ومسجل عقود البيع، وقاضي البلد. . . فكأن أهل القرية أسرة واحدة تقية فاضلة، والشيخ سليمان هو ربها!

وبلغنا العين، ونصبنا الخيمة التي كنا نحمل أجزائها مفككة، وأوقدنا النار ونصبنا القدر، وفتحنا الحقائب فأخرجنا اللحم والخضر، فطبخنا وأكلنا وشربنا الشاي الأخضر، ثم جلسنا أمام العين جلسة لو تعبنا أضعاف ذلك التعب لكانت مستحقة له، معوضة عنه. . .

ص: 8

ورأيت الفلاحين يتوافدون على القطب: هذا يأتيه بعشر تفاحات، وهذا يهدي إليه قبضة من التين اليابس أو الزبيب، وهذا يحمل إليه كأساً من اللبن، فكان يقبل منهم ويثيبهم عليه، سكا كر ملونة، أو قضامةً على السكر، أو لوح صابون، ورأيت من يأتيه بشيء يأخذ عوضه ثم يعقد لا يذهب، فلما تكامل عددهم أخرج الشيخ كتاباً من خرجه، وجعل يقرأ عليهم ويعظهم، فتسيل دموعهم من خشية الله. . .

ومرت السنون على هذه الرحلة حتى نيفت على العشرين، وقطعتني الحياة وهمومها، وأسفاري وعملي في غير ديار الشام، عن هذه الرحلات، وباعدت ما بيني وبين (بلودان) فلم أراها بعد تلك الزورة. . .

. . . حتى إذا كان هذا الربيع المنصرم، لقيت (القطب)، فقال لي: أتذكر تلك الرحلة؟

قلت: نعم، أذكرها ولا أنساها

قال: هل لك في مثلها؟

قلت: قد تغيرت الدنيا يا قطب، ولم أستطيع أن أمشي، إن الناس يعرفوني. . .

قال: أمشي. . .

وشد (الميم) ومد (الشين) فأذكرني ليلة التكية، فشاقتني الذكرى فقبلت ما عرض علي. . .

. . . ولبسنا مثل ثيابنا تلك، وجمعنا من بقي من أصحابنا، ومشينا، فإذا الطرق التي كانت كأنها من جمالها معابر الفردوس ومسالك الجنان، والتي كنا نسير فيها فلا نلقى إلا الفلاحين يكرموننا ويحترموننا، صارت شوارع واسعة لا تنقطع السيارات فيها ساعة، وكلما مرت بنا سيارة أبطأت في سيرها ونظر من فيها إلينا، كما ينظرون إلى (عجائب المخلوقات)، ثم ولت عنا، ونحن نسمع منها ضحكات النساء الخليعات علينا، وضحكات شباب هم مثل النساء، وقذفت في وجوهنا غبارها ودخانها، وما ذنبنا إلا أننا نمشي على أقدامنا في حر الشمس. . . حتى أن الكشافين كانوا يمرون بنا في سياراتهم ويضحكون هم أيضاً علينا

ورأينا مرة فرقة كشفية تسير بجانب سيارتها الفارغة مشية عسكرية موزونة كمشية حرس هتلر الخاص تماما: شمال - يمين. واحد - أثنين. وهم ينشدون:

لا نهاب الزمن

إن سقانا المحن

في سبيل الوطن

. . . . . . . . . . . .

ص: 9

فداست السيارة على مسمار، فانفجرت عجلتها، وكان لها مثل صوت البارود، فقطع إخواننا النشيد، وطاروا على وجوههم فلم تمر ثوان معدودات، حتى صار أشدهم حماسة على بعد خمسين متراً من (مكان الخطر)، هؤلاء الذين كانوا يمشون كمشية حرس هتلر الخاص ولا يهابون الزمان. . .

فقلت: يا قطب، أتذكر ليلتنا تلك والرشاشات؟. . . ألم أقل لك: لقد تغيرت الدنيا؟!

ووجدنا الأماكن التي كنا نسترح فيها، والتي كانت من طهرها كأنها معابد الجمال في الأرض، صارت قهوات وخمارات ما فيها لأمثالنا مكان، فكنا نبيت على الصخر، وعلى ظهور الجبال، حتى بلغنا (بلودان)، فمسحنا أعيننا وحسبنا أننا في حلم. . . أهذه بلودان؟ هذه المدينة العامرة، ذات الشوارع والقصور؟ أهؤلاء الشباب الذين يمشون متبخترين بأكمامهم القصيرة، وشعرهم المرجل المدهن المعطر، ووجوههم المصقولة، أهؤلاء هم رجال بلودان؟ وهؤلاء النساء الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، أهن نساء بلودان؟!

وصارت ثيابنا وهيئتنا شهرة لنا، وصرنا ضحكت القوم، ولم نجد مكاننا نحط فيه، فسألنا فدلونا على الفندق

وجئنا الفندق الذي شادته الحكومة بأموال هذه الأمة المسلمة، لننزل فيه بالأجرة لا صدقة ولا إحساناً، وكان الفندق الضخم كأنه شعلة واحدة من النور، وكان في تلك الليلة فرقة راقصة بولونية. . . ولعلها يهودية. . . وقد فتحت قاعات القمار لكل داخل، وصفت كؤوس الخمر لكل شارب، وأزينت الغانيات لكل طالب، وانتشر اللصوص والنشالون وهم في ثمين الحلل وغالي الثياب، وعبث الوزراء في السهرة عبث الصبيان، ورقص القضاة مع المجرمين، وعكف المعلمون على موائد القمار، وأسلم كل زوجته لمن يراقصها ليضم أخرى بين ذراعيه، وتربع إبليس على المسرح يضحك فرحاً. . .!

ولما جئنا ندخل الفندق بثيابنا الوطنية، ثياب الأمة التي بنى بأموالها هذا الفندق، منعونا وأخرجونا!

فوقفنا، وجعلنا نفتش كأنما أضعنا شيئاً نفيساً. . . وهل شئ أنفس مما أضعنا؟

لقد أضعنا المسجد والصلاة والأمانة والطهر والقوة حين أضعنا تلك القرية الحقيرة. . . لقد كانت جاهلة ولكنها كانت فاضلة، وكانت فقيرة ولكنها كانت شريفة، وكانت بعيدة عن

ص: 10

الحضارة ولكنها كانت بعيدة أيضاً عن رذائلها!!

وأحسست بدمعة سقطت على خدي، فأخذت بيد (القطب) وصعدنا في الجبل، نريد أن نهرب من هذه الدنيا، التي ليست دنيانا. . . لقد كانت لنا من عشرين سنة دنيا، وكان لنا فيها أصدقاء، فماتت وماتوا. . .!

أنا والمصحح:

إذا أنا تركت الكتابة يوماً، وكسرت هذا القلم، فيطلب القراء ثأره عند مصححي المجلات، فهم قاتلوه، بما يدخلون على آثاره من تصحيفات وتحريفات وتبديلات، وبما يقولون صاحبه أشياء لم يقلها، وقد رأيت العجب من المصححين، ولكن أمر مصحح الرسالة أعجب، فهو يصلح حتى أقول لا يفسد أبداً، ويفسد حتى أقل لا يصلح أبداً، فكأنه ملك الحيرة في يومي بؤسه ونعيمه، وهذا يوم بؤس له، ملأ العددين الأخيرين من الرسالة تطبيعات، وأعجب من هذا أنه يدخل الغلط على مقالاتي فأعبث بالتصويب فلا ينشر.

هذا، وستمر هذه الكلمة على المصحح الكريم، فليتكرم بإبقائها على ما هي عليه، فإذا أبقاها وقرأها القراء فليعلموا أنه رجل أمين منصف، وإني أشكره على أمانته وإنصافه. وأرجو أن لا يدرك أن هذا المدح رشوة له لينشر هذه الكلمة.

تصويب:

في مقالة (قضية سمرقند) في العدد 681

أخطاءفي العمودمن الصفحةسطرصوابها

يطربه17997 يطير به

المصري 2799 8المضري

وأن180013وإن

دخل 1 800 20 ودخل

للحرب 2 801 31 الحرب

أرعاد 2 8024 إرعاد

وفي مقالة (قصة أب) في العدد 682

ص: 11

الخطأ عامود سطر صفحهالصواب

يضق 212823يضيق

فيه 2 17 823فيها

ابتلح 123824 انبلح

وصاحت: 2 21824 وصاحت.

الله 2 32 825 إلى الله

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 12

‌3 - من لغو الصيف

سوق الرقيق

للأستاذ سيد قطب

هذا الحشد من العرايا فوق (البلاج) إنه يذكرني بسوق الرقيق. لم أر هذه السوق، ولكنني قرأت عنها، ورسمت لها في نفسي صورة إنها لو تجسمت ما كانت إلا هذا الحشد من العرايا فوق (البلاج)!

إنني أسمع هنا صلصلة القيود ووسوسة الأغلال وسوط النخاس! لا ألمح هنا طلاقة الروح، ولا حتى فراهة الجسد! لا ألمح الحرية التي ترفرف بلا سدود ولا قيود!.

يخيل إلى في أحيان كثيرة أن هناك (نخاساً) هو الذي يعرض هذه الأجساد للشراء. أكاد ألمحه مختبأ خلف هذه أجساد الرخيصة التي تتحرك وفيها ثقلة القيد، وتترنح فتوسوس الأغلال!

ويحي!

مالي لا ألمح الفرح في هذه الوجوه الضاحكة، ولا أحس السعادة في هذه الملامح المرحة؟

ليس هنا فرح ولا سعادة، فالفرح نورانية وإشراق، والسعادة شفافية واطمئنان. . . هنا عربدة تخفي وراءها ضجراً، ومرح يستر في الجوانح الضيق!

هؤلاء قوم ضاق عالمهم (الباطن)، فانطلقوا يذرعون الأرض بحثاً عن عالم (الظاهر)، ومن فقد نفسه فهيهات يجد في (الخارج) شيئاً يطمئن إليه، ويستشعر به السعادة والهدوء!

مساكين!!!

ولكن أهذه محنة رواد (البلاج) وحدهم في هذه الأيام؟

كلا! إنما هي محنة هذه الإنسانية التي غلفت عن نفسها لتسمع صوت الآلات، محنة هذه الحضارة المادية الواردة من أوربا، والتي فتنت الناس عن أنفسهم بما أبدعته من وهج وبريق وضجيج!

كم أمقت هذه الحضارة الأوربية وأحتقرها، وأرثي للإنسانية التي خدعت بها، فأوردتها التهلكة. . . بريق وضجيج، ومتاع حسي غليظ. وفي هذه الضجة تختنق الروح، ويخفت الضمير، وتنطلق الغرائز والحواس، سكرانة معربدة تهيجها الأنوار الحمراء، كالديكة

ص: 13

والثيران في بلاد الأسبان!

حينما كان للإنسانية (باطن) تستجليه، وتستشرف فيه النور المشرق الشفيف، وتستروح فيه الأشواق الخالدة، والآفاق البعيدة. . . كانت هادئة مطمئنة مستقرة، لأنها في الأعماق هناك غنية بما تجد، مستغرقة في ذلك العالم الفسيح. . .

فلما طفت على السطح بفضل هذه الحضارة المادية البائسة، ظلت تقفز وتقفز، فلا تستقر أبدا وظلت في قلق دائم، وهياج مستمر. تبحث في كل يوم عن جديد، وتزهد بعد يوم في هذا الجديد.

إنها اللعنة التي يعدها (معجزة) بعض المفتونين بالبريق.

ما قيمة آلات واختراعات وكشوف لا تحقق للنفس سعادتها، ولا تهب للضمير اطمئنانه، ولا تستمتع فيها الإنسانية حتى بالراحة من الضجر والقلق والعربدة والضيق؟

ولقيني بائع الكتب في أحد مقاهي المدينة. . . فشكا إلي كساد سوق الكتب في هذه الأيام! وقلت أعزيه عن خسارته أو أسليه:

- أو تحسب الناس هنا جاءوا ليقرءوا كتبا؟ إنهم يستروحون ويستجمون ويستعيدون نشاطهم المفقود!

فما كان أسرعه بالجواب. . إنه فيلسوف:

- وهل هذه السهرات الحمراء الصاخبة التي يغرقون فيها مما يريح الأعصاب يا سيدي الأستاذ؟!

وحرت كيف أجيبه. وجمجمت بالكلمات المخنوقة، في الوقت الذي كان هو يتابع حديثه بعد هذا الاستفهام:

- الكتب يا سيدي الأستاذ تباع الآن في الحي الحسيني. هناك تجد الإقبال على جميع أنواع الكتب القيمة حتى في هذا الصيف الشديد. . .

إذن ما يزال في هذه الأمة خير. هذا الخير هناك في الحي الحسيني حيث يعيش الفقراء من الناس، وحيث يعيش الأزهريون. هنالك حيث يخفت صوت الحضارة المادية الجوفاء، وحيث يحيا جزء من الماضي.

ولكن إلى كم يا ترى يعيش هذا الخير قبل أن يخنق؟ ليخيل إلى أن الأزهر في السنوات

ص: 14

(يتجدد) على طريقة (الغراب). فهلا اتقى الله فيه أولئك (المجددون) فحفظوا له قديمه في عهد الاجتهاد، وصانوه عن ذلك (التجديد) أو ذلك (التقليد)؟!

الكتب. .

وهل يصبر هذا الجيل الضجر القلق المعربد الصاخب. . . على الكتاب؟ ولماذا يقرأ الكتاب الجاد، ولديه تلكالمجلات الرخيصة والأفلام الداعرة تملق غرائزه، وتنادي أحقر ما فيه؛ وتنشر له صور العرايا على البلاج، وتحدثه بالدعارة عن القلب الإنساني وما فيه؟

أقول القلب الإنساني! وهل تعرف هذه الصحف والأفلام القذرة ومحرروها وممثلوها الرقعاء، شيئاً عن القلب الإنساني؟ ولكنهم يسودون صفحات كل أسبوع وينشرون أفلاماً في كل شهر عن هذا القلب الذي يزعمون!

آه. لو سوط الجلاد!

هنالك في (نجد) يجلدون الشعراء الذين يقولون الغزل. وهنا في مصر يصفقون لمن يدلون الفتيات والفتيان على طرق الدعارة ويدربونهم على المجون الرقيع. . .

شئ من التسامح هناك. وشئ من الحزم هنا. . . يرحمك الله يا محمد بن عبد الوهاب، ويرعاك الله يا عبد العزيز آل سعود! يوم وليلة فقط من هذا في مصر، ليجلد أولئك الرقعاء في محطة الإذاعة وفي (ستود يهات السينما) وفي جميع المجلات المصرية، الإعداد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، يشرف عليه بعض الشرفاء ذوي الأعراض وهم قليلون!!

ولكنهم مساكين.

لقمة العيش وشهوة الجسد. . . هذا كل عالمهم في الوجود!

هم وقراؤهم ومستمعوهم ومشاهدوهم من ذلك الطراز. . . ليس هناك أفق مجهول، ولا هدف مكنون.

ليس هنالك عالم في الضمير يعيشون فيه بعض الوقت، ثم يخرجون منه ليروا هذا العالم الظاهر بعين المستطلع، وحس المتذوق، وشعور الغني بالرصيد المذخور!

نهم بالمتاع وسعار، المتاع الحسي الغليظ، المتاع المتاح في هذا العالم المادي. . . لو كان لهم روح تستشرف آفاقا وأنوارا أخرى لاقتصدوا في هذا المتاع الحسي الغليظ!

ولولا جريمتهم في نشر الدعارة بين الشعب كله، لاستحقوا الرثاء ولكنهم ينشرون في

ص: 15

صفحاتهم وأفلامهم وأغانيهم ما يعاقب بوليس الآداب على بعضه في المواخير، ويسمون بعد ذلك كله صحفيين أو مطربين ناجحين!

ويحي! لماذا استطردت هذا الاستطراد؟ إنما أتحدث عن (سوق الرقيق)!

والملطعة؟

هذا هو الاسم الذي اختاره بعضهم بحق للقسم من (الكورنيش) بين (بلاج سيدي بشر رقم 1) و (بلاج سيدي بشر رقم 2)

فحينما ينقضي النهار، ويخرج رواد (البلاج) منه، ويصطف بعضهم في المساء على سور (الكورنيش) بينما يجول بعضهم ذهابا وإيابا.

يستعرض هؤلاء أولئك، ويستعرض أولئك هؤلاء!

هؤلاء هن جواري سوق الرقيق. . . هؤلاء هن معروضات تجول فيهن الأنظار، وتحملق فيهن العيون، وتتدسس الخطرات المريضة إلى أجسادهن الرخيصة في رقاعة وفضول.

هذه هي الضحكات الرخوة المائعة؛ وهذه هي الحركات الرقيعة الماجنة. . . ضحكات الجواري، لا تدل على فرح عميق ولا حتى على مرح أصيل. إنما هي ضحكات الرقيق لاجتذاب (الزبون)! ضحكات يحاسب عليها النخاس أو يثيب!

من ذا ينقذكن أيتها الجواري المسكينات من سوق الرقيق؟

من ذا يردكن إلى البيوت الكريمة المصونة، ويرد إليكن كرامتكن المهدرة، التي سلبت منكن باسم (المودرنزم) في هذه الأيام السود؟

كان الرجال يشتهون نظرة من بعيد، ويتشوقون إلى زواج كريم نظيف. فصرتن اليوم سلعة معروضة على الأنظار، سلعة في سوق الرقيق!

ونسيت أن أقول: إن تسعة أعشار هذا الهوان، إنما تبعثه الرغبة في أن تجد هذه الجواري أزواجا!

أزواج في الطريق. . . وفي (البلاج)!

لن تجدن هنا يا آنساتي أزواجا. إنما تجار أعراض وشراة أجساد. . .

ولن تكون إلا النخاسة يا عزيزاتي الأوانس: في هذه السوق. . . سوق الرقيق!

سيد قطب

ص: 16

‌الشريعة الإسلامية ومبادئ التشريع الحديث

للأستاذ حسن أحمد الخطيب

إن كل قانون في العصر الحاضر يدعى واضعوه كفالته للعدالة، وتحقيقه لسعادة الأفراد والأمم، وأنه جاء وفق ما تقضي به عوامل التقدم والارتقاء - لا يمكن أن يعدو في أغراضه المقاصد الآتية:

1 -

تحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد والجماعات.

2 -

جلب المصالح ودرء الفساد.

3 -

قيامه بمطالب الأمة وحاجاتها، ومواءمته لميولها وفطرتها والعصر الذي يطبق فيه.

4 -

مرونته ويسره وسهولة تطبيقه.

وأنت إذا نظرت بعين التدبر والحكمة - بعد تقصي قواعد الشريعة الإسلامية وأصولها، والبحث فيما خلفه المجتهدون الإسلاميون من أحكام الفروع الملائمة لعصورهم - لم ترتب أقل ارتياب في تحقيق الشريعة الإسلامية هذه المقاصد، وإنها وصلت في سموها وعدالتها وسماحتها إلى أبعد غاية.

وما ظهر نقصه من أحكام بعض الفروع في المعاملات وغيرها ليس بعيب راجع إلى شريعة الإسلام، وإنما هو راجع إلى المسلمين الذين لم يقم علمائهم بما يجب عليهم من الاجتهاد في كل عصر حتى تجئ أحكام الفروع والوقائع الاجتهادية ملائمة للأمة، ولما جد من الأحداث والشئون.

كذلك ما قيل: إن الحدود في الشريعة قاسية لا تتفق مع روح التشريع الحديث قد فندناه ودحضناه بالبرهان وبما دلت عليه التجربة والوقائع والمشاهدات، وذلك فيما كتبناه بالعددين 681، 682 من الرسالة في مقال (شريعة الكمال والخلود).

أما الشرائع الحديثة فهي - وإن اشتملت على مبادئ نقر بسمو كثير منها، ونعترف بدقة وضعها، وعلى أحكام يراد بها تحقيق العدالة، وإجراءات نظامية دقيقة - لم تستطع أن تقضي على كثير من الشرور والآثام التي تنخر عظام الأمم، وتنشر فيها كثيراً من الأمراض الاجتماعية والخلقية:

فقد أحلت الربا في أكثر حالاته، وهو الذي يوغر صدور بعض طبقات الأمة على بعض،

ص: 18

وينتزع الشفقة والرحمة من القلوب، ويدع طوائف الأمة متحاربة ومتباغضة.

وأباحت شرب المسكرات، وهي جناية على المال والعقل والأهل والذرية.

وليس فيها ما يقي الأعراض من الجناية عليها: فامتهنت الكرامات وكثر اللقطاء، وشاع في الأرض الفساد كذلك خلت من الزواجر التي تحول بين المجتمع وبين مفاسد الميسر والقمار.

وقد يحتجون لإباحة بعض هذه المنكرات باحترام الحرية الشخصية، وما دروا أن هذه الحرية قررها الإسلام على ألا يساء استعمالها، وألا يكون فيها ضرر على الأفراد أو المجتمع (وهذا هو شأن الحرية الصحيحة الجديرة بالرعاية والتقدير).

ومما لا شك فيه أن هذه الجرائم التي أشرنا إليها مفاسدها لا تقتصر على مقترفيها، بل تشملهم ورهطهم، وقد تتعداهم إلى المجتمع والأمة.

من أجل هذا حظرت شريعة الإسلام تلك ألمنا كير، وأعدت كل أمة تأخذ بأحكامها لحياة اجتماعية يسودها التقدم والنهوض، وتنتفي فيها ذرائع الفساد وأسبابه، وتتوافر فيها العزة والكرامة والمنعة، وتلك الحياة الخليقة بخير أمة أخرجت للناس.

حسن أحمد الخطيب

ص: 19

‌صور من العصر العباسي:

الخلفاء العباسيون والتجسس

للأستاذ صلاح الدين المنجد

- 1 -

شغف الخلفاء العباسيون بالتجسس ومالوا إليه. وقد كان لابد لهم من تسقط الأخبار والفحول بها لئلا ينسبوا إلى الضعف والغفلة أو يتجرأ عليهم الأعداء والأخصام. فإن من أخلاق الملك اليقظ السعيد على قول الجاحظ: البحث عن سرائر خاصته وعامته، وإذكاء العيون عليهم، والبحث عن كل خفي دفين.

وبغداد، وما كان فيها من أخلاط المخلوقات وأنماط الناس، وما انتشر فيها من أراء سياسية وعصبية، وما ظهر فيها من ميول شعوبية وعلوية وهاشمية كل هذا دفع الخلفاء إلى التجسس ولم الأخبار ليحفظوا ملكهم ويكونوا على بينة مما يجري.

وقد ذكروا أن الرسول عليه السلام، كان، كان ليقظته يرسل الجواسيس والعيون يتحسسون أخبار أعدائه المشركين. ولم يكن عصر النبي عليه الصلوات، كالعصر العباسي، ولا كان المجتمع إذ ذاك، كالمجتمع يومئذ. فليس من الغريب أن يشغف العباسيون بالتجسس، فهو ضرورة من ضرورات الملك.

كان التجسس يجري على طريقتين: ظاهرة وخفية. أما التجسس علانية فكان يقوم به أصحاب الأخبار والبريد. وكانوا منتشرين في كل مكان، وكان عليهم أن يعرفوا حال عمال الخراج والضياع، وأن يتتبعوا ذلك تتبعاً شافياً، ويستشفوه استشفافاً بليغاً، وأن ينهوه على حقه وصدقه. وأن يعرفوا حال عمارة البلاد، وما هي عليه من الكمال والاختلال، وما يجري في أمور الرعية فيما يعاملون به من الإنصاف والجور، والرفق والعسف، فيكتبوا به مشروحاً. وأن يعرفوا ما عليه الحكام في حكمهم وسيرهم وسائر مذاهبهم وطرائقهم، وأن يعرفوا حال دار الضرب وما يضرب فيها من العين والورق، وما يلزمه الموردون من الكلف والمؤن. وفي كل ما ينهونه. ينبغي أن يكونوا صادقين واثقين مما ينهون. فإذا ورد كل ذلك على الحضرة سلم إلى صاحب ديوان الإنشاء ليحمله إلى حيث يطلع عليه الخليفة

ص: 20

ويأمر بما يرى، ثم يكتب للآفاق بما ينبغي.

فهؤلاء كانوا جواسيس رسميين، أما الجواسيس الذين لا يظهرون أنفسهم، ولا يعرفهم أحد، فكانوا أنواعاً منوعة، تفنن الخلفاء في استخدامهم. وكان فيهم الطفل (الطفل والمرأة والمحتاج والزمن وابن السبيل. . .)

وأول من عنى بالتجسس الخفي من الخلفاء: أبو جعفر المنصور (فقد كان يشتري رقيقاً من الرقيق، ثم يعطي الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، فيهيمون، أو يردون الماء كالمارين وكالضالين فيتجسسون. . .).

ويحدثنا الطبري أن أبا جعفر أتى مرة بأحد جنده فقال له: (أخف شخصك واستر أمرك وائتني في يوم كذا في وقت كذا. فأتاه، فقال له أن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيداً لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطاف بلادهم. فاخرج بكسى وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكراً بكتاب عن أهل هذه القرية، ثم تسبر ناحيتهم. فإن كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب. وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر. فاشخص حتى تلقى عبد الله بن حسين متقشفاً متخشعاً، فإن جهلك وهو فاعل، فاصبر وعاوده. فإن عاد فاصبر حتى يأنس بك، وتلين له ناحيته، فإن ظهر لك ما في قلبه فاعجل علي. . .) فشخص الرجل حتى قدم على عبد الله فلقيه بالكتاب فأنكره، ونهره. وقال ما أعرف هؤلاء القوم. فلم يزل ينصرف ويعود حتى قبل كتابه وألطافه، وأنس به. فسأله الجواب. فقال: أما الكتاب فإني لا أكتب لأحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام، وأخبرهم أن ابني خارجان لوقت كذا وكذا فعاد الجاسوس إلى أبي جعفر وأخبره.

وحدث صاحب عذاب أبي جعفر قال: دعاني أبو جعفر ذات يوم، وإذا بين يديه جارية صفراء، وقد دعا لها بأنواع العذاب، وهو يقول لها: ويلك أصدقيني، فوالله ما أريد إلا الألفة، ولئن صدقتني لأصلن الرحم، ولأتابعن البر إليه. وإذا هو يسألها عن محمد بن عبد الله، وهي تقول: ما أعرف مكانه. ودعا بالدهق وأمر به فوضع عليها. فلما كادت نفسها أن تتلف قال: أمسكوا عنها، وكره ما رأى. وقال لأصحاب العذاب: ما دواء مثلها إذا صار إلى مثل حالها؟ قالوا: الطيب تشمه، والماء البارد يصب على وجهها، وتسقى السويق. فأمر

ص: 21

لها بذلك، وعالج بعضه بيده، حتى أفاقت، وأعاد عليها المسألة، فأبت إلا الجحود. فقال لها: أتعرفين فلانة الحجامة؟ فاسود وجهها وتغيرت. فقالت نعم يا أمير المؤمنين، تلك في بني سليم. قال: صدقت، هي والله أمتي، ابتعتها بمالي، ورزقي يجري عليها في كل شهر أمرتها أن تدخل منازلكم، وتحجمكم، وتعرف أخباركم. أو تعرفين فلانا البقال؟ قالت نعم، هو في بني فلان. قال هو والله مضاربي بخمسة دنانير أمرته أن يبتاع بها كل ما يحتاج إليه من البيوع. فأخبرني أن أمة لكم في يوم كذا من شهر كذا، صلاة المغرب؛ جاءت تسأله حناء وورقاً، فقال لها: ما تصنعين بها؟ فقالت: كان محمد بن عبد الله في بعض ضياعه بناحية البقيع، وهو يدخل الليلة، فأردنا هذا لتتخذ منه النساء ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المغيب.

(قال: فأسقط في يدها، وأذعنت بكل ما أراد.

وهذه القصة والتي قبلها تبينان لنا كيف سخر أبو جعفر أحد جنده، وأمته، وبقالا مضارباً له، للتجسس وجمع الأخبار

ولعلك تعلم حبه تتبع الأسرار مما سأقصه عليك. قالوا: إن أبا جعفر قال ذات يوم لأصحابه: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون أعف منهم، وهم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم. أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية. ثم عرض المنصور على إصبعه السبابة ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة: آه، آه! قيل وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.

وكان الرشيد من أشد الملوك بحثاً عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمراً. وكان يتسقط أخبار الهادي قبل أن يصبح هو خليفة؛ فقد كان مسرور الكبير في خدمة المهدي، وكان الرشيد حفياً به محسناً إليه. فلما انتقل أمر الخلافة إلى الهادي قال له الرشيد: أخي قوي الشراسة، وأنا أخاف إيقاعه بي، وجمع الناس على بيعة ابنه بعده. وأنا على غاية الثقة بك فاعدل إليه، وكن له عيناً عليه) فتقدم مسرور عند الهادي حتى تولى ستر بيت خلوته فكان ينهي إلى الرشيد كل كلمة من كلماته، وفعلٍ. . .

وكتب الأدب والتاريخ مترعة بأخبار تتبعه أسرار رعيته حتى كان ذلك يدفعه إلى إخفاء

ص: 22

شخصه، والطواف مع جعفر ابن يحيى في الأسواق وبين الأحياء، ليتسقط الأخبار، ويعرف ما يدور بين الناس من الأحاديث ويستطلع ما لا يصل إليه خبره.

ولم يقنع بأسرار رعيته، بل وكل عيوناً على ولديه. فكان مسرور الخادم رقيب المأمون، وكان جبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين.

وعلى نحو هذا كان المأمون في أيامه. ذكر أبو الفرج أنه لما تولى الخلافة وأتى بغداد، كان يتجسس على إبراهيم بن المهدي فألزمه رجلا ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظه جداً أو هزلا.

ويسوق الجاحظ دليلا على تتبع المأمون أسرار رعيته رسالته إلى إسحق بن إبراهيم في الفقهاء وأصحاب الحديث وهو بالشام، التي خبر فيها عن عيب واحد واحد، وعن حالته وأموره التي خفيت، أو أكثرها، عن القريب والبعيد.

وقد ذكر صاحب محاضرات الأوائل أنه كان للمأمون ألف عجوز وسبعماية، يتفقد بهن أحوال الناس من الأشقياء ومن يحبه ويبغيه، ومن يفسد حرم المسلمين. وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه أخبارهن وأنه كان يدور ليلا ونهاراً مستتراً.

وقد يكون هذا الخبر صحيحاً فيما يتعلق بإرسال العجائز، أما عددهن وأنه كان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه أخبارهن ففيه مبالغة.

وكان المأمون يعنى بمعرفة أحوال عماله. فكان يفحص عنهم، وعن دفين أسرار حكامه فحصاً شافياً؛ فلا يخفى عليه ما يفيد كل امرئ وما ينفق، وكان من نأى عنه كمن دنا منه، في بحثه وتنقيره، وكان يتتبع أحوال القضاة والولاة والجند. فذكروا أنه سأل يوماً جماعة: من أنبل من تعلمون نبلا وأعفهم عفة؟ فذكر كل من يراه. فقال: لا، ذاك عبد الله بن طاهر دخل مصر كالعروس الكاملة: فيها خراجها، وبها أموالها جمة ثم خرج عنها، فلو شاء أن يخرج عنها بعشرة آلاف دينار لفعل؛ وقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إلي أنه عرضت عليه أموال لو عرضت علي لشرهت إليها نفسي، ولقد خرج عن ذلك البلد وهو بالصفة التي قدمه فيها، إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس.

وحدث بشر بن الوليد قال: كنت عند المأمون، فقال: ولينا رجلا قضاء الأبلة، وأجرينا عليه في الشهر ألف درهم، وما له صناعة ولا تجارة ولا مال قبل ولا بيتاً ابتناه، وولينا رجلا

ص: 23

آخر قضاء دمشق وأجرينا عليه ألف درهم أشار به علي محمد بن سماعة، فأقام بها أربعة عشر شهراً فوجهنا من يتتبع أمواله في السر والعلانية، ويتعرف حاله، فأخبر أنه وجد ما ظهر من ماله في هذا المقدار من دابة وغلام وجارية وفرش وأثاث قيمته ثلاثة آلاف دينار. وولينا رجلا أشار به فلان نهاوند فأقام بها أربعة وعشرين شهراً، فوجهنا من يتتبع أمواله، فأخبرنا أن في منزله خدماً وخصياناً بقيمة ألف وخمسمائة دينار سوى نتاج قد اتخذه.

وحدث إبراهيم بن السندي أنه جالس المأمون ومعه إبراهيم ابن المهدي فطفق المأمون يحدث عن أهل عسكره، حتى والله لو أن رجلا أقام في رحل كل رجل من الجند حولا، لما زاد على معرفته لشدة تنقيره وتتبعه أخبار الناس.

فهذه الحوادث التي سردناها، تدل على حبه التجسس، ودس الناس ليتسقطوا له الأخبار، ويطلعوه على ما يشاء.

(له بقية)

صلاح الدين المنجد

ص: 24

‌من وحي المأساة الفلسطينية:

نكبة العرب في الأندلس

للأستاذ محمود عزت عرفة

انقضى أربعمائة وأربع وخمسين سنة على حادث سقوط حصن غرناطة آخر معاقل العرب بالأندلس في أيدي الأسبانيين، وقد تم ذلك سنة 1492م؛ فكان خليقاً بنا ومأساة فلسطين تمثل أن نعالج بإيجاز أسباب تلك المأساة الفاجعة، ونتلمس عللها بين حوادث التاريخ، ونقف عندها وقفة نخرج منها بعبر وعظات نافعات، هي الغاية العليا من كل دراسة والمقصد الأسمى من كل تحقيق وتحميص.

ولسنا نبالغ إذا قلنا إن جحافل العرب حملت معها من أول يوم وطئت فيه أرض الأندلس جرثومة هذا الداء الذي أهلكنها واستصفى قوادها، وأدال دولتها بعد ثمانية قرون من الزمان. فقد اجتاح موسى بن نصير أرض الأندلس عام 711م حتى بلغ أطرافها الشمالية؛ وعهد إلى قائده طارق بفتح مدائن (جيليقية) في الشمال الغربي، بينما اجتاز هو جبال البرانس الشامخ وانحدر إلى سهول فرنسا، معتزماً أن يدلف إلى القسطنطينية من طريق الغرب!!

حلم كان حرياً أن يتحقق لو لم يستيقظ موسى من نشوته على دعوة الوليد بن عبد الملك الذي أهاب به أن يكف عن إيغاله في الغزو وينكفئ بعسكره معافى إلى أسبانيا. . . وما كان له إلا أن بسمع فيطيع. على أنه انصرف وقتذاك إلى المسيحيين المعتصمين بأقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة تحت إمرة زعيمهم (بلايو)؛ وكان بسبيل أن يقلم أظافرهم وبقى البلاد شر مكايدهم وفتنهم التي ذر قرنها بعد حين؛ لولا أن هتف به داعي الخليفة مرة أخرى أن يؤوب إليه وطارقا؛ فتركا زمام الأمور في يد عبد العزيز بن موسى وسارا إلى المشرق.

وقد نكب موسى بعد قليل على يد سليمان بن عبد الملك، واغتيل ابنه عبد العزيز في شوارع إشبيلية بتدبير منه، ولم يكن مصير طارق بأفضل من هذا. فقدت الأندلس بموت أولئك كل من كان يفكر في إتمام الفتح على خير وجوهه، وأتيحت لفلول المنهزمين فرصة الحياة بعد أن أشفوا على الدمار، وتهيأ لهم أن يجمعوا كيدهم وينتظمواً صفوفاً حتى أبح

ص: 25

موطنهم جيليقية مصدر القلاقل ومهب الرياح العاتية التي اجتاحت ملك العرب فيما بعد، ودكت بنيانهم من القواعد. . .

ولم يكن ولاة بني أمية في ضعفهم ليزيدوا الحالة إلا سوءا، فقد احتدمت الخصومة على عهدهم بين العرب والبربر، وبين العرب وأنفسهم من يمانيين ومضربين؛ وكان في تسلم عبد الرحمن الداخل زمام الحكم انتصار لفريق من هؤلاء دون فريق. وإذا كانت سطوة الحكم الأموي في الأندلس قد قضت على عوامل هذا الخذلان والتفرق، فإن ما وقر بسببه في النفوس من حزازات كان كفيلا بتهديد وحدة العرب وتآلفهم، مهيباً بكثير منهم إلى الثورات الجامحة والفتن المبيرة، مما ظهرت عواقبه الوخيمة في أخريات أيامهم.

بسط العرب ظلال السلام على الجزيرة، ورفعوا لواء العدل والمساواة في أرجائها؛ فارتضى سيرتهم كل من عاشرهم من الأسبانيين واتصلت أسبابه بأسبابهم. ولكن بقيت هذه الأطراف المستعصية تجيش قلوب أهلها بكراهيتهم والحقد عليهم وإعمال المكيدة لهم، حتى بين جدران قصورهم، وتحت قباب معابدهم!

فقد ذكر أنه وجد على جانب أحد أعمدة المسجد الجامع بقرطبة صورة تمثل المسيح مصلوباً، كان قد رسمها أحد المسيحيين ممن نافقوا بإظهار الإسلام وعاشوا بين ظهراني العرب يكيدون لهم ويمالئون عليهم. ولما دخل الأسبانيون قرطبة وكشفوا عن موضع هذه الصورة رسموا أمامها على الجدار المقابل لها وجهاً يمثل هذا المسيحي الذي خطها - فيما زعموا - بأظافر يده.

فكم يا ترى عدد من كانوا يعيشون بين المسلمين من أمثال هؤلاء؟ وما مبلغ بلائهم في تقريب هذه النهاية الفاجعة التي آل إليها أمر العرب بالأندلس؟. . .

لسنا نستطيع أن ننكر العلاقة بين هذه الحالة وبين سياسة التسامح الديني التي جرى عليها المسلمون في هذه البلاد بين قوم عيشت عيونهم عن أضواء حضارتهم، واسودت قلوبهم بظلام الحفيظة والاضطغان عليهم. . .

ونعني بهؤلاء القوم أولئك الذين اعتصبوا ضد العرب لغير ما سبب ظاهر؛ دون من تبطنوهم من المسيحيين وقاسموهم العيش في دعة وسلام، فارتشفوا رحيق آدابهم وجنوا ثمار علمهم وحضارتهم؛ وتبوءوا - إلى جانبهم - سني المناصب ورفيع الدرجات مما

ص: 26

هيأتهم له مواهبهم وعبقريتهم.

أساء قوم من المسلمين فهم هذا التسامح الديني الذي أمروا به وانتدبوا إليه، وأعمتهم بوارق الحياة ورغائب العيش عن تعرف حدوده، وتبين أغراضه ومراميه؛ وشوهت شهوات الدنيا لديهم من صورته الجميلة المشرقة؛ ونكبت به ضلالات النفوس عن طريق الحق ومناهجه المستقيم.

فلم يكن عجيباً بعد ذلك أن نرى عما للحكم بن هشام ينهض إلى عاصمة إكس لاشابل عاصمة شارلمان فيستجدي محالفته في خنوع، ويتلمس منه المعونة على إسقاط ابن أخيه القائم بالأمر، وكان ذلك علم 797م أي قبل مرور قرن واحد على دخول العرب الأندلس. ولم يكن عجيباً أيضاً أن نرى المستعين حفيد الناصر (1009م) يرسل إلى بلاط سانكو أمير قشتالة ليعينه ضد منافسه المهدي وهو من أحفاد الناصر أيضاً؛ فيجد رسل المهدي قد سبقوه إلى طلب هذه المعونة من الأمير. . . والأمير يمايل بين الرجلين ويعرضها على مرآة مطامعه؛ ثم ينتهي إلى رفض معونة المهدي والإقبال على نصرة المستعين. . . إلى أمثلة من مثل ذلك كثيرة نحيل فيها إلى مظانها من مصادر التاريخ.

ولقد أحسن ملوك أسبانيا هذه الفرص السوانح، فزادوا نار الفتن بين المسلمين استعاراً، وأذاقوا بعضهم بأس بعض؛ وراحوا يقتصون من أطراف بلادهم ويفرضون الجزية على المستضعفين منهم، استغراقاً لثروتهم، وغلا لأيديهم عن كل ما يمهد لهم سبيل القوة. وأخيراً أعلنوا ضد الجميع حرباً صليبية لا هوادة فيها. . . في وقت كان المسلمون فيه قد فقدوا صفاتهم الأولى من التخشن وسمو المبدأ، والتحمس للدفاع، وشدة الرغبة في الجهاد. فكان تخاذلهم عن صيانة ملكهم عظيما، وتهافت ملوكهم المتنابذين على استرضاء ملوك النصارى المتربصين بهم بالغاً غايته. حتى لقد كان من مخزيات ما حدث في أواخر القرن الحادي عشر أن اكتسح الملك الفونس السادس أقاليم الأندلس إلى أن بلغ جبل طارق ثم احتل طليطلة عام 1085م، فبادر ملوك الطوائف بتقديم فروض التهنئة إليه! وأسبغوا عليه أو قبلوا أن يسبغ على نفسه لقب (ملك المسيحيين والمسلمين)!!

وما نشك في أن هذا الفتور الذي أصاب نفسية العرب يرجع - فيها يرجع إليه من أسباب - إلى كثرة عناصر المولدين والهجناء في أوساطهم، منذ درجوا على خطة التزوج من

ص: 27

الأسبانيات أو التسري بهن. ولقد كانت هذه الخطة ظاهرة النفع في عصور الدولة الأولى، بما أجرت في عروق العرب من دماء جديدة، وبما نشأت من جيل متميز في مواهبه جامع لمحاسن العنصرين في أخلاقه وتفكيره وجميع مقوماته. ولكن استحال كل هذا إلى مضرات بالغة في العصور المتأخرة، إذ تقلصت روح العصبية التي اشتدت حاجة العرب إليها حين كانت جحافل الأسبانيين تزحزحهم عن بلادهم حصناً بعد حصن، وفشت روح الاستهانة بوازع الدين، ولم يعد ثمة أثر لطموح المسلمين الأوائل، وشدة تحمسهم لرفع لواء عقيدتهم، بل حلت الأثرة والأطماع الشخصية محل كل هذا، واتخذت أقبال العرب وشعوبها لسيطرة ملوك الأسبان الذين هيمنوا بقوة نفوذهم على شئون شبه الجزيرة من أطرافها.

ويكفي أن نذكر أن أبا عبد الله محمداً آخر ملوك بني الأحمر والذي تم على يده تسليم غرناطة وإسدال الستار الأخير على مأساة الإسلام في الأندلس، كان أبناً لأمير غرناطة السابق أبي الحسن علي بن سعد الأحمر من محظيته الأسبانية إيزابلا التي عرفت بين العرب باسم (ثريا) أو (الزهرة). وكان أبو عبد الله هذا أثيراً لدى أبيه بفضل حظوة أمه المسيحية؛ وبسبب ذلك انشق أخواه محمد ويوسف على أبيهما، وكان كلاهما ابناً له من (عائشة) زوجته الثانية العربية المسلمة.

ولقد كان اختصام أبي عبد الله فيما بعد مع عمه أبي عبد الله الزغل، السبب المباشر في سقوط غرناطة وانثلال عرش آخر حكومة إسلامية في البلاد. . .

لقد كانت النية التي عقدها ملوك الأسبان على طرد العرب صريحة، وكان مصير المسلمين أمام هذا الزحف الجارف واضحاً ومحتوماً؛ ولم تكن نجدات المرابطين والموحدين التي تحركت من أفريقية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر لتؤثر إلا في تعويق حلول المأساة التي كان الجميع يشهدونها بعين الخيال، ويرون أنفسهم مسوقين إليها دون أن يستطيعوا لها دفعا. حتى لقد كان لسان الدين بن الخطيب وزير الغني بالله محمد بن يوسف ابن الأحمر يوصي أولاده بعدم التوسع في شراء العقار بالأندلس؛ ويصرح لهم بأن هذه البلاد أصبحت للمسلمين دار غربة!

وأعجب من هذا في الدلالة على توقع المسلمين لمصيرهم المحتوم، ما قاله بعض شعرائهم إذ ذاك. . . وكأنما كان يوحي إليه:

ص: 28

حثوا رواحلكم يا أهل الأندلس

فما المقام بها إلا من الغلط

السلك ينثر من أطرافه وأرى

سلك الجزيرة منثوراً من الوسط

من جأور الشر لا يأمن عواقبه

كيف الحياة مع الحيات في سفط؟

غفر الله لهؤلاء الأجداد الكرام زلاتهم، وجعلنا ممن يتعظون بمحنتهم، وألهمنا حسن التذكر لتاريخهم وسيرتهم. (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).

محمود عزت عرفة

ص: 29

‌كيف هدي والد لولده؟

للأستاذ السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

كان لوزير هندي مسلم ابن يتعلم في جامعة كيمبردج في إنجلترا ولم يكن يلم بتعليم الدين الإسلامي إلماماً تاماً وإن كان أبوه متضلعاً في العلوم القديمة الإسلامية والحديثة الغربية والتصوف. فانتهز المبشرون الفرصة وأرادوا تنصيره ووجهوا إليه أسئلة كثيرة ضد الإسلام كما هو ديدنهم في مثل تلك الأحوال لينالوا من منزلة الإسلام في قلبه ويقربوه إلى النصرانية. فتجاذبته الظنون وتخالجت في صدره من دينه الشكوك فوقع في حيرة وارتباك فكتب إلى أبيه يسأله ويستشيره في الأمر فرد عليه أبوه رداً أنقذ به ابنه الشاب من كيد المبشرين ومكرهم وهو رد فصيح اللهجة، قوي الحجة، ملزم المحجة، يدل على عقل أصيل ولب رصين قال: أريد أن أشرح لك لماذا اعتبر الإسلام أحسن الأديان بأسرها؛ فلاحظ أنني لم أقل إن الأديان الأخرى رديئة بل إن الإسلام أحسنها؛ وذلك لأنها لا توافق الأفكار الحديثة العلمية كما يوافقها الإسلام. فإذا قلت في وصف دين من الأديان إنه (حسن) أو (الأحسن) فأريد به المدى الذي إليه يبلغ ذلك الدين في حث الإنسان بواسطة عقائده وتعاليمه على الجد في طلب الفلاح لنفسه. كذلك إذا ذكرت هنا كلمة (علم) فأريد به العلم المرتب للأشياء المعلومة أو القابلة للعلم.

إن العلم يحسر اللثام عن الأشياء التي هي ضرورية أو مطلوبة لفلاح الإنسان والفنون عموماً تدله على الطريق الذي به يحوز تلك الأشياء أو يصنعها والحكومات تجعل أو ينبغي لها أن تجعل له التحقيقات العلمية والتقدم في الفنون يسيره المتلمس دانية القطوف. وأما الدين فينبغي أن يحرك الإنسان ويحرضه على الاستفادة من العلوم والفنون العصرية استفادة تامة. وقد يحظر ببالك أنه ما دامت الحكومة قائمة بواجبها والعلوم تترعرع والفنون تتقدم فلا حاجة هناك للدين. فأقول إنك لو أخذت حصاناً إلى النهر فهو لا يشرب منه ما لم يكن ظمآن، فإنه إن عطش يشرب من تلقاء نفسه فإن لم يعطش فلا منظر الماء الصافي، ولا سهولة الوصول إليه، ولا ترغيبك إياه، ولا ضربك بالسوط يحمله على الشرب. كذلك العلم يقدر أن يريك الماء أو أي شئ آخر مفيد، والفنون تستطيع أن تدلك على طرق حيازته، والحكومة يمكن أن تكافئك بالجوائز أو تهددك بالعقاب؛ ولكنك لا تشرب ما دمت

ص: 30

لست بظمآن، أو بعبارة أخرى إنك لن تستفيد من الأشياء المقدمة إليك أو الموضوعة تحت تصرفك إذا لم يكن في داخل نفسك ما يدفعك لذلك. فهذا العطش، هذا الدافع الباطني الذي هو في الحقيقة قوة محركة للإنسان من ثمرة الدين وخليقته.

إن فائدة الدين العظمى هي الطموح الذي يوجده ويربيه في الإنسان أن يعيش سعيداً صالحاً. صحيح أن الداعي للسلوك الحسن لكثير من الناس هو خوف العقاب أو أمل الثواب سواء أكان عاجلا أم آجلا. وإن بعض الأديان ومنها الإسلام تقدم صورتين لامعتين للجنة وجهنم المعدتين للصالحين والطالحين بعد الموت. ولكن عند الطباع العالية ذوات القوى القوية لا قيمة لتلك الدواعي فإنها مثل صوت السوط أو إراءة العشب للحصان الذي لا يجري. فهي ليست مؤثرة أثراً ثابتاً مثل الداعي الروحاني العالي الذي يخلقه الدين الحق في الإنسان للحياة الصالحة. إنني لا أقدر أن اشرح لك هذه النقطة أكثر من ذلك بغير الخروج عن الموضوع والدخول في المباحث الفلسفية الدقيقة. لذلك يكفي أن أقول لك إن الداعي الديني الروحاني خير من جميع الدواعي الأخرى للسير الحسن والحياة الصالحة. فإنه يعترف بروحانية الإنسان ويساعدها للاستيلاء على حيوانيته. قال الشاعر الفارسي:

آدمي زاده طرفه معجوني أست

إز فرشته سرشته وإز حيوان

كر كندميل أين شودكم أزين

وركند قصد آن شود به آزان

وترجمته:

(إن الإنسان مركب غريب

قد ركب بالملكية الحيوانية

فإذا مال إلى الحيوانية اتضعت رتبته عنها

وإذا قصد الملكية ارتفعت منزلته عنها)

إنه الدين الحق الذي يمكن الإنسان من أن يفوق الملائكة في الصلاح والتقوى وهو ما بينه السر أوليفرلودج أيضاً في كتابه (جوهر الدين حليف العلم) فاقرأه.

ثم هناك فائدة أخرى للدين وهي أن كثيراً ما تتوخى القيام بأعمال جمة، ولكن لا تقدر أن

ص: 31

تقوم بجميعها وذلك إما أنك عدلت عن قصدك أو حلا أحد دون قيامك بها. فما يهم الاجتماع ونفسك من رغباتك الجمة التي تفوق أعمالك هو أن تكون حسنة مثل أعمالك. ولا تقدر القوانين ولا التقاليد الاجتماعية على ضبطها ضبطاً صحيحاً لأنهما يختصان بالمظاهر الخارجية أي للأعمال الصادرة عن رغباتك، وعواطفك، وميولك الباطنية. فما يقدر على ذلك إلا الدين الحق مثل الإسلام الذي يحاسب على الرغبات التي تتحول إلى الأعمال حساباً كبيراً، ويسعى في قتل الرغبات السيئة في مهدها أي قبل أن تتحول إلى الأعمال.

وعلى هذا فكل دين يقدر على أن يخلق في الإنسان أحسن الدواعي للسير الحسن، ويسعى في إبادة الرغبات السيئة بكيفية مؤثرة فعالة لا بد من أن يوافق الأفكار الحسنة المعترف بها في العصر عند العلم والفن. وذلك الدين عندي هو الإسلام.

وأما موافقة الإسلام للأفكار العصرية فيكفي أن أمثل لك مثالا واحداً فإن المجال والوقت لا يسمحان لأكثر من ذلك وهو أن الإسلام أدعى في أول آية من سورة الفاتحة التي تحفظها أن هناك عوالم أخرى غير هذا العالم بقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) ولا تزال هناك بعض الأديان تدعي أن لا وجود لعالم آخر غير عالمنا هذا، ولكن العلم في العصر الحاضر يدحض مثل تلك الدعاوى ويثبت وجود عوالم أخرى غير هذا العالم كما ذهب إليه الإسلام، ويقدم لنا الدلائل لليقين على أن كل نجمة تتلألأ فوق رؤوسنا في القبة الزرقاء حين يرخى الليل رواقه ويسبل ستره عالم معمور مثل عالمنا.

إن للدراية والخبرة عند الإسلام مصدرين: العلم والإلهام. فالأول يعبر عن جد الإنسان لمعرفة طرق الحق المستقيمة. والثاني يمثل نعمة الله بكشف سبله السوية للإنسان. فالفرق بين المصدرين فيما أرى الفرق بين التجربة والوجدان، أو بين الأفكار المكتسبة والأفكار الغزيرة. وهو ما يعتبره فلاسفة العصر الحاضر أيضاً مثل سبنسر وبرجسون أنه فرق في الكم لا في النوع. والله يلهم كل فرد في لحظة من حياته، بيد أنه يتوقف على الأكثر على الروحانية أو المقدرة الروحانية الناشئة عن مدى معرفته لله ولسبله السوية ، ٍوتلك المقدرة يرث الإنسان شيئاً منها عن آبائه وأجداده يكسب شيئاً آخر بالإيمان والإخلاص وبالأعمال الصالحة والسير الحسن.

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

ص: 32

(فلسطينيات):

الضحية. . .

للأستاذ نجاتي صدقي

رأيت مرة صديقاً يسير كئيبا حزينا، فسألته الخبر، فلم يجب بأكثر من كلمة.

- (وقعت). . . واختفى. . .

فلم أفقه ماهية النكبة التي حلت به، وعزوت ذلك لدين لم يتمكن من سداده، أو لخلاف وقع له مع زوجته، أو لمشكلة طرأت له في وظيفته. . .

ثم غاب عن ناظري أسبوعين كاملين، إلى أن رأيته يوما يجلس في مقهى من مقاهي (يافا) وأمارات البشر والحبور تبدو على قسمات وجهه.

- قلت له: لا بد أن يكون قد حدث لك حادث، تحاول إخفائه عني، مرة تسير كئيبا ثم تختفي أسبوعين ثم ظهرت ثانيا مسرورا، فما هي قصتك؟.

قال: أفقت مرة من نومي وأنا أحس بألم لا يطاق في ذراعي اليمنى، وكانت أعصاب يدي متوترة، وكنت أجد صعوبة شديدة في قبض أصابعي، فحاولت أن أنزع لباس النوم، فلم أستطع، وأمسكت فنجان القهوة فسقط على الأرض. . . ثم أردت أن اكتب شيئاً فلم تطعني أناملي، ثم جاءني ولدي وطلب مني أن أبري له قلمه، فلم يعمل السكين في القلم. . . فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم وهرعت إلى الطبيب.

فلما رويت له ما حدث لي، اهتم بالأمر وقال:

- المسألة في غاية التعقيد. . . وأود قبل فحص جسمك أن أفحصك بالأسئلة التي ستنير لي سر مرضك. . .

فسألني عن اسمي، وعن اسم أبي وأمي، وأين قضيت أيام طفولتي، وأين نشأت وترعرعت، وأي المدن سكنت، وهل سبق أن أصبت بأمراض، وما هي أنواعها. . . وهل أعرف شيئاً عن أمراض بارزة في عائلتنا. . . وهل قمت بأعمال جسدية يوما ما، ثم ما هي طبيعة عملي الآن، وهل أكثر من الكتابة أو المطالعة. . . وهل أميل إلى التفكير العميق أو السطحي، وأخيراً كيف أقضي ساعات الفراغ، أأقضيها في المداعبات. . . أم في التأملات. . .

ص: 34

ثم فحص جسمي، فجس نبضي وحملق في عيني، وأنعم النظر في حلقي، وقاس كتفي، واستمع إلى رئتي، ونقر على ظهري وبطني، وسألني أن أتأوه. . . ثم طرق ركبتي بعصا طرقاً خفيفاً فردتا عليه بحركات عنيفة. . . ثم قال:

- كفى الآن. . . اجلس.

فجلست أجمع ثيابي، وجلس وهو يضع تقريره الطبي، وبعد دقائق قال لي:

اسمع يا أبني. . . أنت مصاب بمرض عصبي عضال لم أر له مثيلا في حياتي. وأصارحك القول بأنني لن أنصحك باستعمال أي دواء قبل تصوير ذراعك بأشعة رنتجن.

- قلت ولكن كيف تشخص هذا المرض على وجه التقريب؟

- قال يغلب على ظني أنه (أوستيو ميليستوس) يتصل إما (بالبرامليجيوس) أو (بالهيمبليجيوس)!. . .

ثم أخذ لي صورة بأشعة رنتجن. . . وسألني أن أعود إليه في اليوم التالي. . . فخرجت من لدن الطبيب وقد أظلمت الدنيا في عيني، فكان الناس يعبرون بي وكأنهم أطياف. ومرت بالقرب مني سيارة مسرعة، فعن لي أن أحتك بها!. . . ثم اجتزت هضبة تطل على البحر، فرأيت أمواجه تقهقه وتتحداني!. . . لكنني تغلبت على مظاهر الضعف، ولم أقنط من رحمة الله.

ولما عدت إلى الطبيب مرة أخرى، أظهر لي الصورة، وراح يشرح لي تفاصيلها بالقرب من النافذة. . . فقال:

انظر. . . هذه جمجمتك. . . وهذه أسنانك. . . باستثناء المخلوع منها طبعاً. . . وهذه رقبتك. . . أنظر كيف يميل عمودك الفقري إلى اليمين قليلا. . أما هذه الريشة فموقفها غير طبيعي، وأظن أنها هي التي تضغط على مجموعة أعصاب كتفك الأيمن وتسبب لك الآلام. . . وعلى كل فهذا رأي الخاص. . . ولما كان الطبيب عادة لا يرتاح إلى رأي واحد في القضايا الطبية المعقدة، فأنني سأرسلك الآن إلى طبيب أخصائي في الأعصاب، ثم تجرى لك مشاورة طبية فوق العادة. . .

وتركت العيادة وأنا في حالة يرثى لها، وأسرعت إلى الأخصائي في أمراض الأعصاب الذي أرشدني إليه الطبيب، واسمه الدكتور رودولف روبنشتاين، خريج معهد فينا الطبي

ص: 35

فجلست له وكان يسألني سؤالا في الطب وعشرة أسئلة في السياسة الفلسطينية!. . . ثم بدأ الفحص بعد أن ظهرت أمامه كما خلقني ربي، ووخزني بإبرة في أطراف أصابعي. . . ثم مر بالإبرة أيضاً على ظهري، ثم ربط جهازاً على ذراعي وضغط عليه ثم قال لي:

- تمدد على ظهرك، وارفع يديك إلى العلاء، فابسط أصابعك. . . ثم أمسك بيدي وقال:

- دعنا نتجاذب بشدة. . .

ثم أخذ يطرق جسمي بمطرقة خشبية صغيرة، وكان ذلك خاتمة الفحص.

فقال لي وهو يقبض الجنيهات الخمسة:

أنت تشكو من انحطاط في مجموعة أعصابك. . . وأقترح أن تستريح شهراً كاملا في (كاليه) في منطقة البحر الميت.

وعدت إلى البيت، وأنا أفكر في هذه المصيبة التي حلت بي، فكنت أردد أقوال الطبيبين، وأنعم النظر في صورة رنتجن، وأطالع التقارير الطبية، وأحاول إدراك كنه محتوياته اللاتينية مستعينا بالقاموس الطبي. . . إلى أن أضحيت أسير هواجس، فانكمشت على نفسي واعتزلت الناس، وعولت على ألا أعود إلى طبيبي الأول، وألا أسافر إلى (كاليه). . . وفي إحدى الأمسيات خاطبت نفسي قائلا - لم لا تجرب حظك في الدواء البلدي؟. . . فنهضت للتو وقصدت جارتنا (أم حسين) وهي عجوز معروفة بوصفاتها البلدية وعرضت عليها ذراعي فأمسكت به وتفحصته وقالت: أنت تشكو من قرصة هواء!. . .

قلت: وكيف ذلك؟

قالت: لا تبحث بما لا يعنيك. . . وعليك أن تعمل حسب ما أوصيك به - خذ خمسة جرامات من المسحوق الفارسي، ومثلها من بذور البطم، وعشرة جرامات من الزنجبيل، ومثلها من الهند شعيرية، ومثلها من روح الزرنيخ، واسحقها كلها معا، ثم اطبخها بالزيت، واصنع منها لزقات. . .

قلت ومن أين آتي بهذه العقاقير؟

قالت - أطمئن فأنا أجلبها من البلاد البعيدة بواسطة الحجاج. . . ولك أن تثق بخبرتي ومهارتي. . . والآن هات جنيهاً على الحساب. . .

وبعد أن قضيت أسبوعين وأنا في هذه الرحلة الشاقة بين الطب والوصفات البلدية، ذهبت

ص: 36

إلى صديق صيدلي، ورويت له حكايتي في جميع أدوارها، فضحك وقال - لا تجزع. . . يبدو لي أن مناخ البحر لا يلائمك، وهذه رطوبة أحدثت في ذراعك التهاباً. . . إليك هذا المعجون وأدلك به ذراعك دلكا خفيفا ثم لفه بالصوف على ثلاث ليالي متواليات، وعلى الله الشفاء.

قلت - وما ثمنه؟

فأجاب في شئ من التردد والخجل معًا:

- (شلن) واحد فقط!. . .

نجاتي صدقي

ص: 37

‌الشعر كصورة للجمال

للأستاذ نظمي خليل

أظن أن كثيرا من الناس يقرءون الشعر يتساءلون ألا يوجد في الشعر شئ آخر غير الموسيقى والصور. ما هذا الجمال الذي نسعى وراءه؟ ما رسالة الشعراء للعالم؟ ما معنى القصيدة؟ وربما زاد بعضهم فقال: ماذا يعلمنا الشعر؟.

فإذا اصطلح الناس على أن الصور الشعرية يجب أن تدرس من أجل لذة الاستيعاب نكون قد وصلنا إلى غايتنا ونترك هذه الأسئلة تجيب عن نفسها.

ولكن هذا القانون السقيم، قانون الاختبار الذي ظهر في القرن التاسع عشر وهو المنفعة قد انحرف بالمثل العليا في الشعر وألزمه أن يؤدي لنا نتائج خاصة وآثار ملموسة يمكن للمستوعب إدراكها وتفهمها.

في الشعر الجيد كثير من الجمال الذي نجده في سائر الفنون السامية، ولكنه جمال خفي غامض لا يمكن أن يعرض أو يشرح، فلا تكاد الألفاظ تأخذنا إلى ذلك الجو السحري البعيد حتى نشعر أن وراء النظم نوعا من ضوء الأحلام ليس موجوداً ولكنه سائر أبداً. يولد فينا احساسات بأشياء غامضة لا يمكن أن يصبر عنها بالكلمات نفسها بل قد لا يحسها الشاعر نفسه.

ولكننا وإن كنا لا نستطيع الإفصاح عنها لا نرتاب في وجودها. فهي حقيقة موجودة كالحياة عينها.

أما أولئك الذي يعجزون عن الإحساس بهذه الكآبة الغامضة أو السرور الخفي الذي ينبعث من الموسيقى اللطيفة فقد تكون مشاغل الحياة قد صرفتهم عن ذلك فلبد إحساسهم وبرد قلبهم، وصاروا يدلجون في الحياة وهم أبعد الناس عن الإحساس بها. فاليهودي أو رجل المال مثلا لا يشعر بها لأنها ليست شيئا يباع في الأسواق.

هذه الأشعار التي نحس ببهجتها الغامضة نعرفها بأنها شعر إلا أن النقد لا يستطيع أن يحللها أو يصورها في تعبيرات موسيقية أو صور. ولكن القلب يعرف أنها شعر لأنه شعر بها.

هذا هو الاختبار الأخير للشعر؛ وهذه هي وظيفة الفنان لا يعنيه أمر العقل في قليل أو كثير

ص: 38

لأنه لا يقدر موضوعات ولكن صورا تبعث فينا احساسات خاصة ولكنها لا تحمل معنى يمكن أن يعبر عنه أو يشرح حسب القوانين العقلية.

فإذا فكر القارئ في الموسيقى بدلا من الشعر لا يصعب عليه فهم هذا. ولكن من سوء الحظ أننا فصلنا الشعر من سائر الفنون وكدنا ننسى أن الموسيقى هي ابنة (أبولو) وليست ابنة (منيرفا).

فالسؤال الآن: ماذا يعلمنا الشعر لا يلقى إلا في مجتمع قد جعل الاختبار والعقل فوق كل شئ وغاية كل شئ.

الشعر لا يعلم ولكنه يلهم. فأولئك الذين يريدون أن يعلموا يجب أن يكون منطقهم واضحا وسليما؛ ولكن جوهر الشعر الأصيل هو ما لا يمكن أن يفهم أو يعبر عنه بحجج العقل والمنطق.

فالشاعر ليس مدرساً ولكنه رسول وكلامه غامض.

قال شيلي: (الشاعر كالبلبل الذي يجلس في الظلام ويصدح ليبدد وحشة وحدته بأنغامه الشجية، والمستمعون إليه كأولئك الذين سحروا بنغم موسيقار متوافق، فيحسون أنهم قد اهتزوا وطربوا ولكنهم لا يدركون متى ولماذا؟).

أما الخطأ الشائع وهو أن تعاليم القصيدة يمكن أن تأخذ شكل القوانين والأصول فراجع إلى تلك التجربة الأسيفة المحزنة وهي شرح الشعر بالنثر أي نثره، ولكن الشعر لا يمكن أن ينثر كما لا يمكن أن يترجم دون أن يفقد حياته.

أجل قد يأتي لنا المترجم بقصيدة جديدة لا تقل عن الأولى جمالا وروعة كما حدث في ترجمة بوب للإلياذة وفتز جرا لد لرباعيات الخيام، ولكن يجب أن نعترف أن هذه ليست شرحاً ولا ترجمة بل هي خلق جديد.

كل ما أخذ عن النقد الرديء هو أنه يعني بالموضوع بدلا من الشكل.

وقد عاب (ميتو أرنو لد)(دكتور جونسون) لحكمه الخاطئ على (ليسيداس)(مرثية ملتن لصديقه كنج)(إن أكبر غلطاته هو ظنه أنه ما من أحد يجد سروراً أو لذة في قراءة ليسيداس لأن معنى هذه القصيدة ليس حقيقياً وفكرتها قديمة) وقد وقع ميتو أرنو لد في نفس الخطأ عندما أعلن حربه على شيلي في قوله: (يعوزه شئ هام في الشعر لا يمكن أن يشفى

ص: 39

منه وهو المادة).

نريد أن نتحرر من هذا النوع من النقد ما دام الشعر كغيره من الفنون الرفيعة غرضه المتعة والسرور العام.

فالشعراء يريدون أن يخلقوا ليشعروا لا ليفكروا. والنقد وهو المساعد الوحيد للخلق يجب أن يقوم بحثه لا ليجعلهم يفهمون التعاليم والقواعد ولكن ليريهم الفن ويتركهم يتمتعون به ويقفون على ما فيه من فائدة لأرواحهم لا لعقولهم.

ولقد شرح الألمان شكسبير فحللوا آراءه الدينية ونزعاته الفلسفية وتعاليمه الدينية والأخلاقية ومبادئه السياسية، وجعلوا منه وحشاً مخيفاً فقالوا إن حلم (ليلة في منتصف الصيف حفلة حقيقية).

ومن المحتمل أيضاً أن أغانيه صدرت عن تجربة علمية فقد قال دكتور جونسون وهو قول خاطئ من أساسه (إن شكسبير كان يعنى بأن يسر أكثر من أن يعلم، وأنه كان يكتب بعيداً عن أي غرض أخلاقي) كذلك قال أمرسن (لقد أراد أن يعطينا صوراً وكان جديراً به أن يقدم لنا تعاليم).

لم يكن أحد من الإنجليز يفطن إلى هذا الاختبار حتى جاء به أرنو لد من الدنيا فقال (إن رسائل شيلي ستبقى بعد أشعاره الغنائية).

ونجد كثيرين يكرهون كيتس ولا سيما جمهور الطلبة لعجزهم عن فهم أو شرح معانيه. فالجمال أو الخير الذي ننشده في الشعر هو الخير الذي فهمه كيتس وعبر عنه بقوله (أوه. لا تتعب وراء المعرفة فليس لدي شئ؛ ومع ذلك فإن أغنيتي تأتي وطنية بحرارتها. لا تبحث وراء المعرفة فليس لدي شئ، ولكن المساء يصغي).

دعنا نحاول أن ننقذ الشعر من أيدي الممتحنين الذين يعرضون على تلاميذهم شرحه وتفهم معانيه حتى تكون لنا دراسة واحدة للسرور والجمال الخالص.

إن رسالة الفن سر شخصي ليست محدودة المعنى.

فالقصيدة أو الصورة لها معنى خاص لكل فرد. وكل الشروح ليست إلا ظلالا لحقيقة واحدة، فمعنى الخلق الفني جميل موجود في روحه مستقر في روح صناعه.

فإخبارك الطفل بما يريد شئ جميل، ولكن عدم إخبارك إياه قد يكون أجمل وأفضل؛ فقد

ص: 40

حدث أن كان طفل جالسا مع أمه يستمع فقال: (أمي. إني أظن أني أفهم إذا سكت هذا عن الشرح).

قد يكون هذا قانونا بلا استثناء. أي أن تبطل الشروح ما دامت لا تزيد في المتعة والسرور بالكشف عن الجمال الفني. فالطفل يستطيع أن يتبين الجمال في أغاني شوقي مثلا دون أن يعرف شيئاً عن شوقي؛ فإن أساس المتعة هو الموسيقى، فمن السخرية أن نحاول أن نلقي على الأطفال شروحاً عن حياة الشاعر قبل أن يتعلموا كيف يحبون الشاعر ويحبون شعره.

كيف يلذ للطفل أن يعرف أن حافظ إبراهيم ولد في القاهرة ثم تعلم الجندية ثم ذهب إلى السودان. . . قبل أن يقرأ أو يسمع أشعاره. أقول يسمع إذا ليس من الضروري أن يقرأ الطفل الشعر ليقف على جماله. فقد يسمع القصيدة وهو يجهل معانيها بل يجهل ألفاظها جهلا تاما. ومع ذلك تراه يطرب ويحزن تبعا لموسيقاه: ولقد قرأت مرة أن أحد الأساتذة الإنجليز جمع حوله بضعة أطفال ثم أخذ ينشد لهم شيئا من شعر هوميروس الحماسي باللغة الإغريقية فما لبث أن رأى الأطفال يهتزون ويطربون وينسجمون فسألهم عن معنى القصيدة فقالوا إنها وصف لمعركة؛ ثم قرأ عليهم قصيدة أخرى فظهر عليهم الوجوم والحزن فلما سألهم عما فهموا قالوا إنها رثاء لقتيل.

فإذا كان هذا مبلغ تأثير الموسيقى في الطفل الذي يجهل اللغة تماماً فأحرى بمدرسينا أن يتركوا أطفالهم يتمتعون بجمال الموسيقى وأن يفهموهم الشعر كصورة للمتعة والجمال.

نظمي خليل

ص: 41

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

835 -

لذاك إذا دعاه لا يجاب

أمالي القالي: سمع الأصمعي رجلا يدعو ربه ويقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال له الأصمعي: ما اسمك؟ قال: ليث. فقال الأصمعي:

يناجي ربه باللحن ليث

لذاك إذا دعاه لا يجاب

836 -

يشهد السمع أنها عوادة

رب ورقاء في الدياجي تنادي

إلفها في غصونها المياده

فتثير الهوى بلحن عجيب

يشهد السمع أنها عواده

كلما رجعت توجعت حزنا

فكأنا في وجدنا تتباده

837 -

إخوة فيه للشفار الكليلة

البحتري:

إن تجرب بنى الزمان تجدهم

إخوة فيه للشفار الكليله

والفتى كادح لفعلة دهر

يرتضيها أو عيشة مملوله

خائف آمل لصرف الليالي

والليالي مخوفة مأموله

راح أهل الآداب فيها قليلا

وحظوظ الأقسام فيها قليله

فعليك الرضى بما رضيته

لك هذى المطالب المجهوله

لن تنال المزوى عنك بتدبير

ولن تصعد السماء بحيله

838 -

كانت حمتي فقذفتها

في (الموشح) لأبي عبيد الله المرزباني:

دخل العجاج على الوليد بن عبد الملك فأنشده:

كم قد حسرنا من علاة عنس

فصار إلى قوله:

ص: 42

بين ابن مروان قريع الأنس

وابنة عباس قريع عبس

فقال له الوليد: ما صنعت شيئا، أنشدني غير هذا فأنشده:

أمسى الغواني معرضات صددا

وقد أراني للغواني مصيدا

ملاوة كأن فوقي جلدا

فقال: مصيدا وجلدا، لم تصنع شيئا، أفرغت مدحك في عمر بن عبيد الله بن معمر إذ قلت:

حول ابن غراء حصان، إن وتر

فات، وإن طالب بالوغم اقتدر

إذا الكرام ابتدروا الباع بدر

فقال: يا أمير المؤمنين، إن لكل شاعر حمة، وكانت هذه الأرجوزة حمتى فقذفتها.

قلت: يقصد العجاج بحمته ما يقال له في الفرنجي:

وقد قال بعض الفرنج: ' ' '

وأرجوزة العجاج هذه (459) بيتا، مطلعها:

(قد جبر الدين الإله فجبر)

839 -

أفضل نعيم أهل الجنة

في (ميزان الاعتدال) للذهبي:

. . . عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله يذكر الناس، فجاء أعرابي فقال: هل في الجنة سماع؟.

قال: يا أعرابي، إن في الجنة نهر جعل فيه الإبكار. . . يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها، وذلك أفضل نعيم أهل الجنة.

فسئل أبو الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله.

840 -

يرجى سواها فهو يهوى انتقالها

أحمد بن أبي بكر الكاتب:

ص: 43

إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ

نصيب ولا حظ تمنى زوالها

وما ذلك عن بغض لها غير أنه=يرجى سواها فهو يهوى انتقالها

841 -

التقليد

في (الحيوان) للجاحظ:

داء المنشأ والتقليد داء لا يحسن علاجه جالينوس ولا غيره من الأطباء. . . وتعظيم الكبراء وتقليد الأسلاف وألف دين الآباء والإنس بما لا يعرفون غيره يحتاج إلى علاج شديد، والكلام في هذا يطول.

إرشاد الريب لياقوت:

قال الشينيزي للماوردي: أيها الشيخ اتبع ولا تبتدع.

فقال: بل أجتهد ولا أقلد.

842 -

وسواس الرجل محدث وسواس الرجل

قال أبو الجوزاء: طلقت امرأتي في نفسي وأنا في المسجد ثم انصرفت إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: أأ أطلقتني يا أبا الجوزاء؟

قلت: من أين لك هذا؟

قالت: خبرتني جارتي الأنصارية.

قلت: ومن خبرها بذلك؟

قالت: ذكرت أن زوجها خبرها بذلك.

فغدوت إلى ابن عباس فقصصت عليه القصة فقال: علمت أن وسواس الرجل محدث وسواس الرجل، فمن هنا يفشو السر.

843 -

اغترب تتجدد

أبو تمام:

وطول مقام الرجل في الحي مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدد

844 -

كذلك الضربين الضرتين

ص: 44

أمالي القالي:

قيل لأعرابي: من لم يتزوج امرأتين لم يذق حلاوة العيش، فتزوج امرأتين ثم ندم فأنشأ يقول:

تزوجت اثنتين لفرط جهلي

بما يشقى به زوج اثنتين

فقلت أصير بينهما خروفا

أنعم بين أكرم نعجتين

فصرت كنعجة تضحي وتمسي

تداول بين أخبث ذئبتين

رضا هذى يهيج سخط هذى

فما أعرى من إحدى السخطتين

وألقي في المعيشة كل ضر

كذلك الضربين الضرتين

لهذى ليلة ولتلك أخرى

عتاب دائم في الليلتين!

845 -

عظيم

سد الطريق على الزما - ن وقام في وجه الخطوب

846 -

بطولة جحا

في (أساس البلاغة) للزمخشري:

قيل لجحا: على من فحالتك؟

قال: على أمي وأخياتي. . .

يضرب من قوته على الضعيف.

847 -

الجديد والقديم

محمد بن نصر الأوسي:

وإن كان عندي للجديد لذاذة

فلست بناس حرمة لقديم

ص: 45

-‌

‌ من الأدب الغربي:

مسلة تتحدث

للأستاذ محمد رجب البيومي

(في الأدب الفرنسي خاصة روائع خالدة عن مصر؛ وهذه قصيدة عصماء لتيو فيل جوتييه نظمها على لسان مسلة مصرية قائمة بميدان الكونكورد بباريس ونحن ننقلها بتصرف يقتضيه الذوق العربي).

تحت صوب الحيا وذوب الجليد

أقف الآن في التياع شديد

يزأر الجو فوق رأسي كطاغٍ

مستبد بكل من في الوجود

تصرخ الريح بين كفيه رعباً

وتصيح الرعود تلو الرعود

ويمر السحاب تحت حماه

كأسير مكبل بالقيود

تمس الجو! صار ثلجاً ببار

يس وقد كان جمرة في الصعيد

حيث كانت أختي ترفه عني

بحديث كخمرة العنقود

إذ يميس النخيل في سندس الع

شب كخود تجر وشى البرود

إذ يهب النسيم في كل فجر

ناشراً في الربوع عطر الورود

وذكاء الوضيئة الوجه تعطو

فوق هام الربا بخطو وئيد

يا لأوقاتها! تولت وكانت

مشعل النور في الليالي السود

كخيال سرى، وحلم توارى

كسرابٍ يلوح فوق البيد

إيه رمسيس قد تحطم صرح

أبدى أقمته للخلود. . .!

المسلات - يالخزيك - كانت

في ربوع الحمى كبرج مشيد

طالما قد حميتها بحصونٍ

من رماح وجحفل من أسود

فمشى الدهر نحوها وهو ليث

صنع الله قلبه من حديد

فإذا جيشك العظيم يولي

وجهه في استكانة الرعديد

كيف هذا؟ حقيقة أم خيال

يا سماء ارجفي! ويا أرض ميدي

قد تربعت فوق لحد رهيبٍ

كان للأبرياء شر اللحود

وقف العدل في نواحيه يبكي

بدموع تخز في الجلمود

ص: 46

كم قتيل بدون ذنب جناه

وشهيد مضى وراء شهيد

والمنايا تطيع أمر (لويس)

كل يوم تقول: هل من مزيد

وأخيراً أتت عليه فحزت

من قفاه العريض حبل الوريد

قتل الموت! كم أذل عزيزاً

كان ذو سطوة وبأسٍ عتيد

انظر (السين) حائر الموج يعلو

في اصطخاب كالهائج العربيد

يتهادى وفيم التهادي؟

وهو مر المذاق رنق الورود

ليس كالنيل حين تصقله الشم

س فيبدو كاللؤلؤ المنضود

ماس بين المروج مؤتلق الوج

هـ كتاج على الربا معقود

جعل الأرض روضةً يتغنى

فوقها كل صادحٍ غريد

من رسولي إليه في مصر يهد

يه تحيات قلبي المعمود

كل شئ له بريد ولكن

آه للنيل! ماله من بريد

كنت في مصر - واحنيني إليها -

ذات مجد يذيب قلب الحسود

يفد الناس خاشعين لمحرا - بي وكل يهم لي بالسجود

وأنا اليوم قطعة من صخور

وقفت في الطريق مثل العمود

الرعاع الطغام حولي سكارى

كقطيع مشرد في البيد

يفعلون الخنا بوجه من الصخر

وقاحٍ لا يستحي من وجودي

كم بغي تسير فوق زنيم

يشتري طهرها بحلو الوعود

يقطع الوقت في التذاذ أثيم

بين شهد اللمى وورد الخلود

(غاب بولنيا) مذبح شهوى

كم هوت فيه كل حسناء رودِ

أين منه مصر التي قد تعالى

كل صوت بطهرها المحمود

قد جعلتِ العفاف يا مصر تاجاً

يتجلى على رءوس الغيد

أين مني حمى رعٍ وأمونٍ

هل سيبدو لناظري من جديد

وعويل الكهان في غسق اللي

ل كثكلى على ضريح فقيد

والتماثيل في المعابد يجثو

عندها كل سيدٍ ومسود

والنواقيس صادحات كطير

ساحر اللحن بارع الترديد

ص: 47

والقبور الضخام كالهرم الع

الي سطور خطت بسفر الخلود

ما بباريس مثلها وهي كنز

ذهبي يظم كل فريد

أنتِ يا مصر منية المتمني

دمتِ في نعمةٍ وعيشٍ رغيد

ص: 48

‌القصص

قصة من الأدب الروسي الرفيع:

(الملاك. . .)

للفيلسوف الروسي الكبير لوي تولستوي

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

- 2 -

ولم يكادا يفرغان من الطعام، ويقومان عن المائدة. . . حتى أقبلت (مترونا) على (الضيف الغريب). . . تسائله:

- (من أي البلاد أنت؟!) فأجابها في صوت شاعت فيه الوداعة (لست من هذه البقاع!. . .)

فقالت دهشت (ولكن. ما الذي رمى بك إلى الطريق؟)

- (لست أدري.!.)

- (أتعرض أحد لك بسوء؟!.)

- (كلا!. . . لقد عاقبني الله تعالى!. . .)

- (أما كنت ملقى على قارعة الطريق؟!. . .)

- (بلى عرياناً ومثلجاً، وقد لمحني زوجك الكريم (سيمون) فأدركته الرحمة فخلع ما عليه، وألبسني إياه، وأحضرني هنا. . . فأطعمتني من جوع، وآويتني من برد. . . وأشفقت عليَ من التشريد والموت. . . فجزاك الله خيراً).

فنهضت (مترونا) وأحضرت له بعضاً من ثياب زوجها القديمة. . . وأعدت له مناماً على كثب من التنور يقضي فيه ليلته

باتت (مترونا) في مضجعها تتقلب فلم يزر جفنيها الكرى وما فتئت ذكرى (الغريب) تراود مخيلتها. . .

بدا لها كيف أتى على نصيبهم الأخير من الخبز. . . فلم يدع لهم شيئا إلى العند. . . فأحست بالحزن يساور نفسها. . . والألم يتغلغل في قلبها. . . بيد أن تلك البسمة التي

ص: 49

رفعها إليها (الضيف الغريب) جالت في صفحة فكرها وجلبت السكينة إلى نفسها وقالت تحدث زوجها في خفوت، وقد كادت أن تأخذه سنة من النوم: -

(سيمون!. . .) فأجابها في توجس وضيق: (ماذا؟!)

- (لقد أتيتما على آخر ما عندنا من الخبز. . . ولست أدري ما الذي نفعله غداً!! ليتني أستعير بعضاً من جارتنا (مارثا!. . .)

- (إذا امتد بنا الأجل إلى الغد. . . فسوف نرزق من حيث لا ندري!. . .)

فلبثت المرأة برهة لا تنبس. . . ثم قالت في رقة (يخيل إلي أنه رجل طيب كريم، ولكن ما الذي يحمله على الصمت فلا يكشف لنا جلية أمره؟!.)

- (أحسب أن لديه علة تمنعه!.)

- (سيمون!.)

- (نعم!.)

- (ما بالنا نعطي! وليس ثمت من يتفضل علينا بعطاء)

فحار سيمون جواباً. . . ثم لم يلبث أن قال لها: - (دعينا من هذا الحديث!. . .) وانقلب على جانبه. . . وراح يغري بعينيه النوم بعد أن جفاه.!

وفي الغداة. . . أفاق (سيمون) من نومه، وكانت الأطفال تعبث في البيت صياحاً ولهواً، وانطلقت زوجته لتسأل جارتها بعضاً من الخبز. . . أما الغريب فكان يجلس على مقعده - في ثياب سيمون الخلقة - يرمي طرفه إلى السماء - وفي عينيه توسل ورجاء، وقد عاد إلى وجهه بهاؤه وضياؤه عن البارحة. . .

فقال (سيمون) في طلاقة ومرح: (هه!. . . أيها الصديق. . . إن السغب يدعو الإنسان إلى السعي وراء القوت، والعرى يضطره إلى طلب الملبس. . . فعليه أن يعمل ويكد. . . فما الذي تعرفه من المهن؟!.)

- (لست أدري شيئاً!.)

فقال سيمون في صوت ملئ بالدهش.

- (إن كان للإنسان رغبة في التعلم فسيتعلم؟!)

- (وإن لفي نفسي رغبة إلى ذلك.!)

ص: 50

- (ماذا تدعى؟!. . .)

- (ميشيل. . .)

- (حسناً يا ميشيل. . . إن لم تكن في نفسك ترغبة إلى أن تحدثنا عن نفسك، فهذا من شئونك. . . غير أنه يجب أن تتكسب رزقك، فإن عملت بما سأشير عليك به.! فسوف تجد عندي طعاماً طيباً، ومأوى حسناً. . .)

- (جزيت خيراً. . . وإني لمطيع لما تقول!. . .)

- (إن ذلك غاية في البساطة. . . فانظر إلي.) ثم أمسك (سيمون) بخيط، ولفه حول إبهامه وراح يجدله في براعة. . . فراقبه (ميشيل) ثم أخذ قطعة من الخيط وثناها على إبهامه وانفك يجدلها كما فعل سيمون وفي براعته وإجادته، وعلمه سيمون كيف يشمع الخيط ويقطع الجلد ثم يخيطه. . . فبرع (ميشيل) في كل ذلك. . . حتى أصبح ماهر البنان كأنه مارس تلك الحرفة طيلة حياته. . .

كان لا يبرح يعمل ويعمل دون توقف، ولا يطعم غير القليل، حتى إذا ما انتهى من عمله، جلس صامتاً يحدق في سماء الغرفة وفي عينيه ذلك الرجاء وذلك التوسل. . . ولم يكن يخرج إلى الطريق، بل يظل حبيس الدار، رهين العمل، لا ينطق إلا بكلمات قلائل يضطر إليها. . . وما ضحك يوماً، وما ارتفع لسانه بفكاهة. . . ولم ترتسم على وجهه ابتسامة أبداً، إلا تلك التي أضاءت على جبينه يوم أن قدمت إليه (مترونا) العشاء. . .!

وتتابعت الأيام وتعاقبت الشهور. . . وميشيل يعيش ويعمل جهده مع (سيمون). . . وجرى اسمه على كل لسان، وطبقت شهرته في كل مكان. . . حتى طفق الناس يأتونه من كل صوب وفج يعاملونه. . . حتى ازدهر حاله. وزال عنه بؤس الحياة وعسرها.

كان (سيمون) وميشيل يعملان ذات يوم حينما جلجلت بباب دارهم الأجراس فأسرع كل منهما إلى النافذة، يستجلي الأمر. . . فأبصر بعربة (زلاقة على الثلج) يجرها ثلاثة من الجياد المطهمة الصافنة. . . تقف بباب الدار، وخف تابع إلى بابها ففتحه. . . فظهر منه سيد جليل مهيب - عليه جبة من الفرو الثمين - ووقف بباب الكوخ، فسارعت (مترونا) إليه تفتحه على مصراعيه، وترحب بمقدم الضيف الجليل فطأطأ الرجل رأسه عند ولوجه الباب. . . فلما انتصبت قامته الممشوقة كاد أن يمس رأسه سقف الغرفة فنهض سيمون

ص: 51

وانحنى إجلالاً للضيف وقد سرى إلى نفسه الدهش. . . فما رأى مثل هذا الرجل في عظمته ورفاهيته فقد كان سيمون هزيلا نحيفا، وميشيل صدعا رفيعاً. . . كما أن (مترونا) كانت ضاوية الجسد جافة العود. . .

أما هذا السيد، فيخيل لمن يراه أنه من عالم آخر وجنات مكتظة مليئة. . . ووجه مطهم شاعت فيه الحمرة الوردية، وجسد زهم كالفيل في هيئته وبدانته، وعنق أقمد كعنق الثور وما أن جلس على المقعد حتى قال (من منكم صاحب العمل؟!) فدنا منه سيمون وقال في صوت أصحل من الرهبة (أنا يا صاحب السعادة!!)

فصاح السيد بتابعه (هيا. . . أحضر الجلد. . . يا (فدكا) فلما أحضره، ووضعه على المائدة. . . قال السيد مشير إليه: - (أنظر أيها (الأسكاف) أترى هذا الجلد؟.)

- (أجل يا صاحب السعادة. . . إنه أثمن جلد رأيته في حياتي!.)

- (أبمقدورك أن تصنع لي حذاء منه؟!)

- (أجل يا صاحب السعادة!.

- (أتستطيع!؟ حسناً. . . فلا يغب عن بالك لمن سوف تصنع هذا الجلد الثمين. . . أستمع. . . ينبغي أن تجعل لي منه حذاء أحتذيه عاماً كاملا. . . لا يبلى ولا يخلق. أفهمت إن لم يكن بمقدورك هذا، فصارحني. . . فإني أود حذاء أحتذيه عاما بأكمله. . . وإني لأحذرك الآن وإلا فسوف يكون مستقرك السجن وإذا لم يبل في مدى عام. . . فسوف أمنحك عشر روبلات نظير ذلك. . .)

فارتعدت فرائص (سيمون) وعجز عن الكلام. . . والتفت إلى (ميشيل) ووكزه قائلاً في همس وحسيس (أنأخذ هذا العمل على عاتقنا؟!) فأومأ (ميشيل) برأسه موافقاً. . . فانفرجت أسارير (سيمون) وسرى عنه همه وجزعه. . . وراح يقيس قدم السيد. . . يتعرف عسيبها ويقدر أخمصها. . . ويسجل ذلك على وريقة تعنيه على صنع الحذاء. . . فلما انتهى من ذلك قال له السيد وهو يجول طرفه في أرجاء الكوخ.

- (لا تجعلها تضيق بقدمي!.). . . فلما وقع طرفه على (ميشيل) قال في تساؤل:

- (من هذا؟!)

- (إنه عامل عندي. . . وسوف يتشرف بخياطة حذاءك)

ص: 52

فتحدث السيد الجليل إلى ميشيل قائلا (أنت يا ذا. . . لا يغيب عن بالك أني أود حذاء مريحاً. . . يمكث عندي سنة. . . هه. . . سنة بأكملها!.)

نظر (سيمون) إلى (ميشيل). . . وكان هذا يحدق في ركن الغرفة فوق السيد. . . وقد شرد خياله عما هم فيه. . .

. وكان يحدق. . . ويحدق، وعلى غرة ارتسمت على ثغره تلك الابتسامة العذبة، وأشرق وجهه وأضاء. . . فزمجر السيد قائلا:

- (فيم تحملق أيها الأبله؟! خير لك أن تنظر إلى ما يدر عليك رزقك!.)

فقال سيمون (سيعد لك الحذاء يا صاحب السعادة. . . في الحال. . .) فنهض السيد وهم بالخروج والغضب يحمر في عينيه، واستقر في عربته فانطلقت تجلجل أجراسها. . . فلما اختفت في منعطف الطريق. . . قال سيمون - وما زال الدهش يسيطر على نفسه - (هذا مثال لإنسان جبار. . . لا يقتله المرؤ ولو بمطرقة. . . وأحسب الموت يتخوف من جبروته. . . فلا يمس له جسداً!.) ثم حدث ميشيل قائلاً:

(حسناً لقد أخذنا على عاتقنا أن نصنع حذاء له. . . ولكن ينبغي ألا يكون ذلك سبباً في متاعب جديدة. . إن الجلد لثمين وإن صاحبه لجاد في طبعه. . . فيجب ألا نخطئ معه هيا. . . يا ميشيل، إن عينيك أدق من عيني، ويديك أبرع من يدي، فهاك الجلد، فقطعه حسب المقياس. . . وسوف أخيطه أنا!.)

فبسط (ميشيل الجلد على المقطع ثم طواه طية واحدة. . . وراح يقطعه بالأزميل. . .

كانت (مترونا) ترقبه في عجب ودهش. . . فقد طالما كيف تحذي النعال وأدركت أن (ميشيل) لا يقطع الجلد على طريقة الأحذية. . . بل لشئ آخر لا تعرفه هي، فقالت في نفسها (لعلي لا أعرف شيئاً عن صناعة الأحذية للسادة والأشراف!. وأحسب أن ميشيل يعرف المزيد عنها. . . سوف لا أتطفل عليه!.)

فلما فرغ ميشيل من القطع. . . أمسك بخيط واحد وراح يخيط الجلد - كأنه من الخفاف - لا بخيطين كما تخيط الأحذية فعاد الدهش إلى (مترونا) من جديد. . . غير أنها أمسكت عن تدخلها. . .

ومكث ميشيل يعمل حتى وافت الظهيرة. . . وقام سيمون يلقي نظره إلى ما أتمه ميشيل. .

ص: 53

فلم يلبث أن راعه ذلك وقال في أحيح وعجب: (آه!. كيف تفعل هذا يا ميشيل؟! لقد لبثت معي سنة بأكملها - لم تأت أثناءها بخطأ قط فكيف تقع في هذه الغلطة التي ستوردنا مورد الهلاك!. لقد قال إلينا السيد أنه يود حذاءاً. وها أنت قد جعلت له من جلده الثمين خفاً. . . سوف يثير حنقه علينا. . . وما في قدرتنا أن نأتي بجلد مثله. . . لقد حطمت حياتي يا ميشيل!.)

فما وفيما هو يعلك ألفاظاً من التوبيخ والعتاب. . . حتى سمعوا طرقاً على الباب وأبصروا من النافذة رجلاً يترجل عن جواده ويربطه في حلقة الباب. . . ففتحت له (مترونا). . . وكان ذلك الرجل هو التابع الذي صحب (السيد الجليل) في الصباح. . . فقال لهم: (لقد بعثت بي سيدتي في أمر الحذاء!.) فقال سيمون في جذع:

- (ماذا عن الحذاء؟!)

(إن سيدي ليس في حاجة إليه!. فقد مات.!)

- (هه!. أحقاً هذا؟!)

- أجل. . . لقد دهمه الموت وهو في مركبته!. فلما بلغنا المنزل. . . جاء الخدم يعاونونه. . . فقد حرجت جثته على الأرض كالكيس الممتلئ. . . وقد بعثت بي سيدتي لأقول لكم إن السيد الذي أتاكم هذا الصباح ليس بحاجة إلى الحذاء. . . بل ينبغي أن تعجلوا بعمل خف لجثته. . . كي أحمله إليها الآن.)

فقام ميشيل. . . وضم بقايا الجلد إلى الخف بعد أن مسحه بمئزرته وسلمه إلى الخادم الذي انطلق به قائلا: (وداعاً أيها السادة!. . .)

كرت السنون. . . وها هو ذا ميشيل يعيش عامه السادس مع سيمون وعائلته لم يتحول عما درج عليه. . . ولم يتغير شئ من طبعه. . . لا يخرج أبداً من الدار. . . ولا يتحدث إلا بمقدار ولم يرتسم الابتسامة على شفتيه إلا مرتين لا تثلثهما أخرى. . .

واحدة حينما تفضلت عليه (مترونا) بالطعام. . . والثانية حينما كان يحدق في ركن من الغرفة فوق (السيد الجليل) وكان سيمون على وفاق مع عامله. ولم يسأله يوماً من أين أتى بل كان في خشية من أن يرحل ميشيل عنه. . .

وبينما هم جميعاً في الدار ذات يوم. . . وكانت (مترونا) تضع إناء على النار، والصغار

ص: 54

يمرحون في لهوٍ وعبث، وسيمون جالس يخيط حذاء في يده. . . أما ميشيل مستغرقاً في عمله على كثب من النافذة. . .

ووضع أحد الأطفال يده على كتف ميشيل. ونظر من النافذة وصاح قائلاً:

(أنظر. . . يا عم ميشيل، هناك سيدة معها بنتان صغيرتان يظهر أنها تريد دارنا إن واحدة من البنات تعرج في سيرها!) فألقى ميشيل بما معه وسارع ينظر من النافذة إلى الطريق. . . فتعجب سيمون، فما رأى (ميشيل) ينظر يوماً إلى الطريق في هذه اللهفة. . . فدعا ذلك سيمون إلى أن ينظر هو أيضاً كي يستبين ذلك الشيء الذي أثار ميشيل. فرأى سيدة حسنة الهندام تتجه حقاً إليهم وتقود طفلتين عليهما أردية من الصوف وشمائل من الفرو. . . يعجز المرء عن أن يميز إحداهما عن الأخرى إلا تلك التي يعتري ساقها اليسرى شئ من العرج.

وولجت السيدة بطفلتيها الغرفة. . . وقالت في صوت رقيق

- (سعدتم صباحاً. . . أيها القوم الطيبون؟!)

فقال (سيمون):

- (سعدتي صباحاً. . . سيدتي الفاضلة. . . ماذا في مقدورنا أن نعمله لك؟!)

فجلست السيدة على مقعد. . . وقد التصقت بها الطفلتان في خوف ممن في الكوخ.

- (أود. . . حذاءين من الجلد لهاتين الطفلتين، للربيع!. . .)

- (إننا لم نصنع من قبل مثل هذه الأحذية الصغيرة. . . غير أننا قادرون على ذلك. . . إن مساعدي (ميشيل) أستاذ صناع في هذا!.)

وألقى سيمون بنظره إلى ميشيل. . . ليرى أثر الإطراء والثناء عليه. . . فوجد هذا جالساً يحدق في الطفلتين الصغيرتين فانتاب سيمون العجب وتولاه الدهش. . . حقاً كانت الطفلتان جميلتين لهما وجنتان وردية وشعر معقوص وعيون نجل. . . ترتدي كلتاهما ثياباً فاخرة من الصوف والفراء. . . بيد أن سيمون لم يفطن إلى سر تحديق ميشيل إليهما كأنه يعرفهما من قبل!

كان في حيرة من أمره. . . فانطلق يحدث السيدة ويقدر الثمن معها. . وبعد مساومة وإقرار. . . هم أن يأخذ مقياسهما فقالت السيدة وهي ترفع قدماً للبنت العرجاء (إن هذه

ص: 55

القدم عرجاء فاعمل لها حذاء على حدة. . . أما القدم الأخرى وقدمي الطفلة الثانية. . . فهي صحيحة متشابهة وحجمها واحد. . . إنهما توأمتان. . .)

فسجل سيمون ما قاسه على وريقة صفراء. . . وقال يحدث السيدة: -

- (ما الذي حدث لها؟! فأصابها بهذا العرج. . . إنها تبدو جميلة. . . أو ولدت هكذا؟!)

- (كلا. . . فلقد حصرت أمها قدمها فالتوى. . .)

فتعجبت (مترونا) وتساءلت من تكون هذه السيدة؟! ومن تكون هاتان الطفلتان. . . فقالت في صوت شاع فيه ما يجول في نفسها من دهش.

- (الست أمها إذن؟!)

- (كلا. . . يا سيدتي الفاضلة. . . لست أمها، ولست إحدى قريباتهما. . . لقد تبنيتهما. . .)

فزاد عجب (مترونا) وهي تقول:

- (ليستا طفلتيك. . . وتحبينهما هذا الحب؟!)

- (ليس لي حيلة في ذلك؟! أطعمهما وأربيهما. . . ولقد رزقني الله ولداً ولكنني احتسبته. . . وما كنت أحسبه مثل حبي هاتين الطفلتين!.

وطفرت من عينها دمعة حارة. . . تألقت في مقلتها. . . ثم لم تلبث أن انحدرت على وجنها. . . فمسحتها في هدوء وحزن فقالت مترونا في أسف وتأثر: -

- (معذرة. . . ما كنت أحسب أن هذا يجلب إلى نفسك الحزن والألم. . . ولكن من هي أم هاتين الطفلتين؟.)

(البقية في العدد القادم)

مصطفى جميل مرسي

ص: 56

‌الكتب

كتب من مراكش:

موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية

للأستاذ عبد الكريم غلاب

عادت حركة التأليف إلى نشاطها بعد انتهاء الحرب، وقد حمل إلينا البريد أخيرا عدة كتب سنقدم بعضها إلى قراء الرسالة.

والكتاب الذي نقدمه اليوم إلى القراء هو (موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية) وقد جمعت هذا الكتاب وأصدرته جريدة (الوحدة المغربية) التي تصدر في تطوان. والكتاب مؤلف من عدة أبحاث نشر بعضها من قبل في جريدة الوحدة المغربية ومجلة (السلام) وقد اشترك في كتابة هذه الأبحاث الأستاذان: محمد المكي الناصري، ومحمد حسن الوزاني. كما يشتمل الكتاب على تقرير هام أرسله المارشال ليوطي حينما كان مقيما عاما في مراكش إلى حكومته سنة 1920 يشرح فيه وجهة نظره في نظام الحماية، وكيف يجب أن يطبق في مراكش.

وموضوع هذا الكتاب، كما يظهر من عنوانه تاريخي سياسي يصور فترة من تاريخ مراكش الحديث، وهي الفترة التي وقعت فيها هذه البلاد تحت الحماية الفرنسية. ويبدأ الكتاب بشرح المؤامرات الدولية التي كانت تحاك ضد مراكش قبل سنة 1912، ويعنى خاصة بالميثاق الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا سنة 1904، وبمقتضاه تنازلت إنجلترا لفرنسا عن (حقها) في مراكش في مقابل تنازل فرنسا لإنجلترا عن (حقها) في مصر. كما يشرح لنا الكتاب الظروف التي أملت المعاهدة التي عقدت بين فرنسا وألمانيا سنة 1911، وفيها صرحت ألمانيا بأنها لا تعرقل مساعي فرنسا في السيطرة على مراكش. وإلى جانب ذلك قامت فرنسا بمساع أخرى على حدود البلاد سمتها هي - بمنطقها - اضطرابات داخلية وبما أنها مسؤولة عن حفظ النظام في مراكش المستقلة، فالمصلحة تقتضي أن تزحف على مدينتي وجدة وفاس عاصمة مراكش لتحافظ فيهما على الأمن. كان ذلك سنة 1911، وما كادت تحل سنة 1912 حتى تردد في أنحاء العالم أن فرنسا تعد مشروع

ص: 57

معاهدة بينها وبين مراكش. ثم رددت جوانب القصر الملكي في فاس أن سفير فرنسا مسيو (رينو) يتردد على جلالة السلطان مولاي عبد الحفيظ، وأنه يعرض عليه مشروع معاهدة الحماية، وأن جلالته قد وقع تحت ضغط دبلوماسي وعسكري وتحت تهديدات السفير الفرنسي، ومع ذلك فهو يمانع بل يعلن للسفير أنه سيتنازل عن العرش إذا هو أجبره على إمضاء المعاهدة. ويشرق يوم 30 مارس فإذا بفرنسا تعلن أن جلالته قد وقع عقد الحماية، وأنه بمقتضاها قد أباح للجنود الفرنسيين أن يحتلوا مراكش كلها حتى يستطيعوا أن يؤدوا واجبهم كاملا في تنفيذ الإصلاحات التي نص عليها في المعاهدة. وتمر بضعة شهور فإذا بجلالة السلطان يعلن لأمته أنه لم يستطع أن يؤدي واجبه في المحافظة على استقلال البلاد التي أقسم اليمين عند توليته على المحافظة عليه، وأنه لذلك يتنازل عن العرش ويترك الأمر للأمة لتختار من يخلفه على عرش أجداده.

وهنا تنتهي مأساة فرض معاهدة الحماية لتبتدئ مأساة تنفيذ هذه المعاهدة. وتجند فرنسا جيشا من الموظفين الاستعماريين الفرنسيين وعلى رأسهم المارشال ليوطي ليقوموا بحكم مراكش حكما مباشرا، وليسلبوا الحكومة المراكشية كل ما أبقت لها المعاهدة من سلطة فيديروا شئون البلاد ويتركوا هيئة الحكومة في سبات عميق، بعد ما كانت هيئة حكومية منظمة تنظيما ديمقراطيا تشرف على إدارة مراكش وتسير بالبلاد نحو التقدم المادي والمعنوي تحت رياسة جلالة السلطان. ويبدأ الفرنسيون في تنظيم حركة استعمارية، فيكونون داخل مراكش مجالس استشارية للفرنسيين يرأسها المقيم العام. ويقوم هؤلاء الفرنسيون بوضع برامج الإدارة والإصلاح في مراكش وينفذونها هم بأنفسهم وبذلك يكون الفرنسيون مصدر السلطة التشريعية والتنفيذية. وهكذا يحكمون مراكش دون أن يشركوا أهل البلاد الشرعيين في أي عمل يتصل بالتشريع والإدارة وبذلك يكونون حكومة دكتاتورية باسم الحماية.

هذه السلطة التي اغتصبها الفرنسيون هي التي مكنتهم من حكم البلاد حكما استعماريا متطرفا يقوم على سلب الأراضي من الفلاحين المراكشيين بدعوى المصلحة العامة، وإعطائها الفرنسيين الذين يهاجرون من بلادهم ليضعوا لأمتهم نقطة ارتكاز في الأرض الجديدة (مراكش).

ص: 58

تلك صورة مختصرة لأبحاث الكتاب التي اشترك فيها كل من الأستاذين المكي والوزاني، وقد اعتمد الكاتبان في عرضهما لسياسة الحماية الفرنسية على كتب وتصريحات لكبار الفرنسيين الذين درسوا موضوع الحماية درسا قانونيا وواقعيا. وبذلك اشتمل الكتاب على نصوص كثيرة - تنشر لأول مرة في اللغة العربية - وتؤيد وجهة النظر المراكشية في اعتداء الحماية على وضعية البلاد التي اعترف بها في معاهدة الجزيرة سنة 1906 وهي الاستقلال التام. كما اعتمد الكاتبان على هذه النصوص في بيان أن معاهدة الحماية مخالفة للقانون الدولي، وللمعاهدات التي عقدت بين الدول المراكشية المستقلة والدول الأجنبية التي منها فرنسا. وقد بينا أيضاً - معتمدين على هذه النصوص - أن تطبيق معاهدة الحماية كان مخالفا لنصوص المعاهدة نفسها، بل للحماية كما يعرفها القانون الدولي. وفي الكتاب كذلك نصوص قيمة في تحليل معاهدة الحماية، وبيان ما تشتمل عليه من غموض وتناقض ومغالطات.

غير أن إعجابنا بالكتاب لا يمنعنا من أن نلاحظ عليه بعض الملاحظات نلخصها في النقط الآتية:

1 -

من الخلاصة التي عرضتها في هذه الكلمة نلاحظ أن العنوان لا يطابق موضوع الكتاب. فلن تجد فيه شرحا لمراحل الجهاد المراكشي ضد الحماية الفرنسية. وإذا استثنينا الصفحات القليلة التي كتبت عن موقف السلطان عبد الحفيظ من الحماية الفرنسية، فلا نجد ذكرا لموقف الأمة المراكشية من هذه الحماية.

2 -

في الكتاب نصوص كثيرة وخاصة في بحث الأستاذ الوزاني؛ ولكن الكتاب لم يستطع أن يستفيد من هذه النصوص القيمة، بل حشدها حشدا كان يكتفي به أحيانا عن التعليق أو الاستنتاج.

3 -

وفي الكتاب خلط غريب يذهب بقيمته العلمية، فالظاهرة العامة الواضحة في الكتاب هي عدم التنظيم، ووضع الكتاب في وضعه الحالي لم يكن مستندا إلى المنطق، ولا إلى ترتيب تاريخي. ولعل هذا هو ما جعل الموضوع الواحد يتكرر في الكتاب عدة مرات، وجعل الكتاب يتناول موضوعا واحدا في صفحات متفرقة تفصل بينها مباحث أخرى، كما نرى في (تحليل معاهدة الحماية) فقد تناوله الكاتب في الصفحات 69، 78، 84.

ص: 59

4 -

ويتصل بهذه الملاحظة عدم ذكر المراجع في كثير من أبحاث الكتاب وخاصة عند دراسة الموضوعات المهمة كنظم الدولة المراكشية قبل الحماية، وخلع السلطان عبد العزيز لتفريطه في حقوق الأمة، وتولية السلطان عبد الحفيظ بعد أن أقسم اليمين على احترام شروط البيعة. كما يتصل بذلك أيضاً كثرة العناوين التي هي أجدر بالتهريج الصحفي منها بكتاب علمي، وركاكة الأسلوب الذي ترجمت به النصوص الفرنسية.

5 -

ولعل أخطر ملاحظة هي أن الكتاب لم يتعرض لموقف إسبانيا مطلقا. مع أن المعروف أن مراكش تقع تحت النفوذين الفرنسي والأسباني. وأن إسبانيا شريكة لفرنسا بموافقتها على معاهدة الحماية، واحتلالها الجزء الشمالي من مراكش بمقتضى هذه المعاهدة نفسها. والذين يعرفون الموقف السياسي للأستاذ المكي يدركون سبب هذا النقص الخطير في الكتاب.

6 -

وفي الكتاب نزعة حزبية ظاهرة، فقد نشر سنة 1946، وفي يناير سنة 1944 وقعت أخطر حركة سياسية وطنية في مراكش ضد الحماية الفرنسية؛ فقد اتحدت جميع الأحزاب والهيئات الوطنية في منطقة النفوذ الفرنسي تحت اسم جديد هو (حزب الاستقلال) ووضع الحزب وثيقة طالب فيها باستقلال مراكش وإنهاء عهد الحماية. وبذلك وضعت مراكش أول حجر في صرح الاستقلال ومرت البلاد بأخطر تجربة في تاريخها الحديث. ومع ذلك لم يتحدث الكتاب عن هذا الدور من (موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية) إلا في سطر أو سطرين. وتلك ظاهرة غريبة تمليها حزبية عمياء كنت أرجو أن يبرأ منها كتاب ينشر عن القضية المراكشية.

عبد الكريم غلاب

ص: 60