المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 686 - بتاريخ: 26 - 08 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٨٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 686

- بتاريخ: 26 - 08 - 1946

ص: -1

‌مما زيد على كتابنا (في أصول الأدب):

الجاذبية في القصص

الجاذبية هي الشوق الذي يبعث اللذة ويثير الاهتمام ويحرك الانتباه ويربط السامع أو القارئ بموضوع القصة أو الرواية. ومبعث هذا الشوق اختيار الموضوع المفيد أو الطريف، واصطناع الأسلوب الخالب والصور البراقة والنوادر الممتعة والحوار القصير السديد. وأثر هذه الجاذبية إما أن ينال الذهن أو المخيلة أو الوجدان.

فجاذبية الذهن أن يكون القصص مبعثاً للنور ومصدراً للمعرفة وداعياً إلى التفكير، كالجاذبية التي تحسها وأنت تقرأ تاسيت أو ابن خلدون. ومثل هذه الجاذبية تكفي في القصص التاريخي دون القصص الشعري، لأن الأول أساسه التعليم والإقناع، والثاني أساسه التأثير والإمتاع.

وجاذبية المخيلة تكون بتصوير مناظر الطبيعة للنفس وجلاء ألوانها للعيون، بالوصف الصادق والأسلوب القوي؛ ولكن هذه الجاذبية إذا لم تقترن بأخرى لا تلبث أن تبوخ وتضعف، فإن النفس لا تعلق إلا بما ينيرها أو يثيرها، فإذا لم تهتز للقصص فلا أقل من أن نستفيد منه

أما جاذبية الوجدان، فأن يحرك القصص في نفسك عوامل الألم أو اللذة، ويثير في حسك عواطف الحنان والقلق والدهش والهول والعزاء، ويذيقك لذة الشعور بأنك حساس؛ وهذه أمتع اللذائذ جمعاء. لذلك جاذبية الوجدان أقوى من أختيها، فهي تغني عنهما وهما لا تغنيان عنها. ولو تأملت في هذه الأحاديث (الحواديت) التي سايرت الإنسانية من جيل إلى جيل، وتذكرت فعلها الساحر في قلبك وأنت صغير، وجمال ذكراها في نفسك أنت كبير، لعلمت أن سر حياتها وقوتها ولذتها هو أن جاذبيتها من هذا النوع.

وأحسن القصص وأجوده ما أشتمل على أنواع الجاذبية الثلاثة. وشرط الجاذبية أن تتدرج في أجزاء الموضوع فتبدأ ضعيفة ثم تنمو كلما نما العمل وتعقد الحادث حتى تنتهي مع الحل وقد استراح السامع ونقع نفسه. ومن ثم كان حقاً على الكاتب ألا يبوح في البداية بما سيحدث في النهاية، وإلا أخطئه التوفيق وفاته التشويق وأعوزته الجاذبية. وإذا عرفت أن قوام الجاذبية في القصص هو حسن تدرجها فيه ودقة توزعها في مناحيه ناسب أن نعرض

ص: 1

هنا إلى عناصره فنقول:

عناصر القصص الأساسية ثلاثة: العرض، والتعقيد، والحل: فالعرض يقوم بإعداد ذهن القارئ أو السامع إلى موضوع القصة أو الرواية أو الملحمة، فيصف مكان الحادث وزمان، ويُعرّف الأشخاص وأخلاقهم، ويذكر الحوادث التي سبقت القصة إذا كان هناك داع إلى ذلك. وقد يطول أو يقصر على حسب الموضوع، ولكن أخص صفاته أن يكون سريعاً إلى الغرض بريئاً من المقدمات، واضح المنهج، سالماً من الحشو والتكلف، داخلاً في الموضوع، خارجاً منه خروج الزهرة من الساق كما قال شيشرون. أما طريقته فتختلف باختلاف الحادث والظروف: فطوراً يلقي الكاتب بالقارئ في الموضوع دفعة واحدة، ثم يسوق الحوادث الأولى ببراعة ودقة؛ وطوراً يبتدئ منفجراً بعاطفة مكظومة منذ طويل؛ وقد يبتدئ بحكمة بليغة، أو مثل سائر، أو رسم طبوغرافي مشوق، أو وصف تاريخي ممتع. والعبقرية الخالقة لا تُرسم لها الطرق ولا توضع لها القيود.

والتعقيد هو جسم القصة، أو الموضع الذي تشتد عنده الجاذبية، وتشتبك الحادثة، وتمتزج الوقائع والأشخاص والظروف، حتى يُشكل على القارئ الأمر ويعمى عليه الخبر فلا يعرف منه مخرجاً ولا يدري له نتيجة. فخاصته كما رأيت تقوية الجاذبية وتنميتها؛ ولا يتسنى ذلك للكتاب إلا إذا أسدل على النهاية حجاباً شفافاً، ووقف القارئ بين الرجاء والخوف، وجانب التطويل الذي يعوق سير العمل، واحتفظ للنهاية بسرور المفاجأة أو دهشة الفجيعة

والحل هو الجزء الأخير الذي يبرد فيه الشوق وتحل العقدة وتظهر النتيجة. ولا بد أن يكون كل ما سبقه مهيّئاً له وصائراً إليه، دون أن يعلنه أو يدل عليه. فإن القارئ إذا حزره قل شوقه إليه وأنقطع اهتمامه به. والشرط الأساسي لإجادة الحل ألا تزيد عليه، لأن السامع إذا علم ما كان يجهله، وأدرك ما كان يشغله، قرت نفسه وخمد نشاطه، فلا يريد أن يعلم شيئاً

ومن أحسن المُثل على دقة التعقيد وبراعة الحل قطعة من كتاب (الشهداء) لشاتوبريان سيد كتاب فرنسا يصف بها مقتل الشهيد (أودور)، وقد حمل نفسه على أن يتجرع الغصة الأخيرة من عذابه الأليم دون أن يرتد عن دينه، ولا أن يتزحزح عن يقينه، حتى نمى إليه

ص: 2

أن امرأته (سيمودوسيه) على وشك أن يحكم عليها القضاء بالعيش في مواخير الفجور إذا هو لم يقدم القربان إلى الآلهة. كان حبه لزوجه فوق حبه لحياته، فهل يكون حبه لربه فوق حبه لزوجه؟ ذلك ما لا ندريه

(أغمى على أودور. وأسرع الناس إليه، والتف الجند من حوله، واستولوا على الكتاب، وطلب الشعب أن يقرأ عليهم. فقرأه أحد النواب بصوت جهير. وظل الأساقفة سكوتاً والهين، والمجلس يعج بالضجيج والحركة. عاد أودور إلى رشده، فرأى الجند بين يديه يصيحون به: (هلم يا رفيقنا، قرب القربان، وهذه أعلامنا تقوم مقام الهيكل)، ثم قدموا إليه قدحاً مملوءاً بالنبيذ ليريقه. فثارت في قلب أودور عواصف الفتنة، وتجاذبت رأيه عوامل الوساوس: كيف تصير (سيمودوسيه) إلى مواخير الفسق؟ وكيف تصبح بين ذراعي (هيبروقليس)؟ نفج الشهيد صدره، وأنكسرت آلة عذابه، فسال دمه غزيراً، فضج الشعب وجثا إشفاقاً عليه ورحمة له، وأخذ يهيب به مع الجنود:(قرب القربان! قرب القربان!) هنالك قال أودور بصوت خافت متهافت: أين الأعلام؟ فقرع الجنود تروسهم علامة الفلج والظفر، وبادروا إلى أعلامهم فحملوها إليه. فنهض أودور يسنده حارس، وتقدم حتى وقف أمام البنود؛ وقد خشعت الأصوات وشمل السكون، ثم تناول القدح فستر الأساقفة رءوسهم بفضل مسوحهم، وصاح القساوسة صيحة الجزع. ولكن أودور رمى بالقدح، وألقي بالأعلام، والتفت إلى الشهداء وقال: أشهد أني مسيحي!!)

فأنت ترى أن جاذبية قوية استولت عليك وأنت تقرأ هذه القطعة؛ لأن عزم أودور ظل مجهولاً حتى نهاية الأمر. فلما طلب الأعلام بصوت خافت وقع في نفسك بعض ما وقع في نفوس الشهداء والقسيسين من الضيق والحزن. حتى إذا أهاب به القساوسة إلى الواجب وألقى بالقدح وقال: (أشهد أني مسيحي) تفرَّجتَ من الهم وتنفَّستَ تنفس الراحة!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌أنا والإذاعة.

. .

للأستاذ علي الطنطاوي

(أذيعت من محطة إذاعة دمشق يوم الأربعاء 15 - 8 -

1946)

أيها السادة:

إني أشكو إليكم القائمين على هذه المحطة، فقد ظلموني وظلموكم معي. جاءوا بي لأحدثكم، فحسبت أني سأدخل نادياً فيه ناس أراهم، فأخاطبهم على قدر عقولهم، فإن كانوا علماء كلمتهم كلام العلماء، وإن كانوا من العامة خاطبتهم خطاب العامة، فإذا هم يصعدون بي درجاً بعد درج حتى إذا كلَّت رجلاي من الصعود، وهممتُ بالرجوع، قالوا: قد وصلنا، فنظرت فإذا نحن في أعلى طبقة من (عمارة البرق والبريد)، فتلفتُّ أنظر أين النادي الذي سأخطب فيه؟ فما عهدت نادياً يبني على رأس مئذنة! وأين الناس؟

وإذا هم يدخلونني من دهليز إلى دهليز، حتى انتهيت إلى زاوية مظلمة، فأشاروا إلى باب، وقالوا:(هُسْ)، إياك أن تتكلم، أو تعطس، أو تسعل، أو تخبط برجلك، أو تدق بيدك، أو تُخَشْخِشْ بأوراقك. .!

فقلت: فكيف إذن أتحدث؟ أتريدون أن يكون حديثي إيماء وإشارة من غير كلام على لغة الخرسان؟

قالوا: لا، ولكن إذا جاء دورك تكلمت

وفتح الباب، ودخلنا إلى غرفة صغيرة كأنها الصندوق المغلق، لا شباك ولا باب ولا نافذة ولا كوّة ولا شقّ لدخول الهواء، ورأيت فيها مكتباً ما عليه إلا علبة قائمة على عمود من الحديد ووراءها مرآة، وقد وقف أمامها شاب يصوّت أصواتاً بعضها يخرج من حلقه وبعضها من صدره وبعضها من بطنه، ويتخلَّع ويتلوّى مع النغمات، وقد يأتي بكلمات يلقيها إلقاء بلا نغم، ووراءه رفاق له يضربون بأعوادهم ويزّمرون، فأجهدت ذهني خمس دقائق كاملات لأعرف ماذا يصنع هذا الرجل: أيغني أو يخطب، أم هو مصروع معتوه يخلِّط، أن يتكلم بلسان أهل مالطة، فلم أهتد إلى حقيقته، ثم سكت، وتقدم من العلبة أحد

ص: 4

موظفي المحطة فقال: لقد انتهت الحفلة الموسيقية. . .

فقلت: إذن هي حفلة موسيقية؟!

سبحان القادر على كل شيء!

وأقبل الموظف عليّ، فأشار بيده إلى حيث كان يقف الشاب صاحب الأصوات المخنثة، فقلت: ماذا؟ أأعمل أنا أيضاً حفلة موسيقية؟

قالوا: هسْ! هسْ!

وأدار مفتاحاً كمفتاح الكهرباء، وجعل يكلمني بلسانه بعد أن كان يتكلم بيديه. وقال: تفضل يا أستاذ، أقعد وتكلم!

قلت: أتكلم مع من؟ أين الناس؟ أين المستمعون؟!

قال: تكلم هنا. . . وأشار إلى العلبة

قلت في نفسي: أعوذ بالله من شر هذه الغرفة! لقد حسبتها سجناً مغلقاً، فإذا هي مارستان! أأكلم علبة؟ أمجنون أنا؟ ونظرت في المرآة فوجدت صورتي متغيرة. . . أهذا أنا؟ وأنعمت النظر، فإذا الذي حسبته مرآةً لوحٌ زجاج بيننا وبين الغرفة الأخرى، فنحن نرى من فيها، ولكن لا نسمع أصواتهم، فاجتمعت عليّ هذه الليلة المتناقضات: هنا أشخاص أراهم ولا أسمع أصواتهم، وهنالك صندوق تخرج منه أصوات أسمعها ولا أرى أهلها، وبحثت عن مهرب فلم أجد، وفتشت عن نصير فلم أَلقَهْ، وما حولي إلا شباب جدد، وموسيقيون معهم أعوادهم، وأنا الشيخ. . . الوحيد. . . في هذه العصبة، بعمامتي و. . . وكدت أقول، ولحيتي، ثم ذكرت أني تركت اللحية عند الحلاق. . .!

فاستسلمت للمقادير، وقعدت، والعرق يسيل على عنقي ووجهي، وشرعت أكلم العلبة كالمجانين، خوفاً من أن يحل بي هذه الليلة ما هو أعظم!

نعم. لقد ظلمت، أيها السادة، وظلمتم معي، لأن أكثركم يؤثر (عتاباً) بلدية، أو (قرّادية) نقدية، أو أغنية شاكية باكية، ميتة مميتة، لا شرقية ولا غربية. من أغاني عبد الوهاب على كلُّ ما في الدنيا من محاضرات، ولكنكم تستطيعون أن تديروا مفتاح الرادّ، فتتخلصوا مني ومن محاضرتي، وتبعثوا إليَّ بما يوحيه إليكم نبلكم وكرمكم من الشتائم واللعنات التي لا أسمع منها شيئاً، ولكن المصيبة عليّ أنا، لقد حُبست في مارستان، لا أخرج منه حتى

ص: 5

أكلم علبة من حديد ربع ساعة لا تنقص ثانية ولا تزيد!

فلنستعن بالله، ولنتحدث. . .

ولكن خبروني أولاً: هل تسمعون كلامي حقيقة؟!

أما أنا فلا أصدق أنكم تسمعون مني، وكيف يسمع من هو في المهاجرين وحمص وحلب والقاهرة وطهران ما لا يسمعه هذا الأخ الجالس أمامي وراء الزجاج، والذي يبدو عليه أنه لا يدري ماذا أقول، فلا يبتسم، ولا يعبس، ولا يفتح عينيه، ولا يرفع حاجبيه، ولا يصنع شيئاً يدل على أنه سامع، وهذا من نعم الله على، فلو سمعني أتكلم عنه لما نجوت منه بسلام!

فإذا كنتم تسمعون (يا سادة) كلامي، فأشيروا إلي، أو صفقوا، أو قربوا أفواهكم من (الرادّ) وصيحوا - إني انتظرت فلم أسمع صيحتكم، فلم يبق إلا أن أصنع كما صنع زميلنا المحترم (جحا)، حين أذن ونزول من المنارة يعدو، قالوا: إلى أين يا جحا؟ قال: أريد أن الحق صوتي فأنظر إلى أين وصل؟

ولنفرض أنكم سامعون، فعم أحدثكم؟ ومن لي بالحديث الذي يرضيكم جميعاً: العالم منكم وغير العالم، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، وأي معلم يستطيع أن يلقي درساً واحداً يفهمه تلميذ المدرسة الأولية وطالب الجامعة ومن بينهما ويرضون عنه ويعجبون به.

لقد فكرت طويلاٌ، وحشدت قوى نفسي كلها، وما تعلمت من علم وما حفظت من مسائل، لآتيكم بحديث يدهشكم حتى تقولوا: ما شاء الله كان! ما هذه المحاضرة؟ شيء عظيم جداً، ولكني لم أستقر على موضوع. . .

قلت: الدنيا الآن في رمضان، وخير الأحاديث حديث الدين، وما أسهل الكلام في الدين هذه الأيام وما أيسر أن يجعل المرء نفسه مجتهداً، وأن يرى الرأي المخالف لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والليث بن سعد والأوزاعي، وكل مجتهدي الأرض فيتمسك به ويخطئ المخالفين له: من كان منهم ومن سيكون إلى يوم القيامة. ولم لا؟ إنه رجل وهم رجال، والساعاتي والنجار والموسيقي رجال أيضاً، فلماذا لا يكونون أئمة مجتهدين، ما دام العلم بالعربية نحوها وصرفها وبلاغتها، والفقه أصوله وفروعه، والتفسير والحديث ليس شرطاً في الاجتهاد؟

ص: 6

وما دامت الحكومة تمنع غير الطبيب أن يكتب صفة دواء، وغير المهندس أن يرسم مصور بناء، وتدع من يشاء يتكلم في الدين والأدب بما شاء؟ وما دام كلُّ ما يحتاجه الرجل في هذه الأيام ليكون واعظاً مرشداً يقتدي به ويستمع لقوله، وتقبل يده ويتمسح بذيله، أن يعّرض لحيته، ويكور عمته، يوسع جبته، ويطول سبحته، ويتكلم كلاماً تقبله العامة، ولو خرف وخلط وضلل، وأكلُّ الدنيا بالدين، وأستغل غفلة الغافلين، لا يسأله سائل عما يفعل أو يقول!

لا. . . لن أتكلم في الدين، فالكلام فيه شديد الخطر، فأنا أخشى أن أقول الحق فأغضب الناس، أو أقول الباطل فأسخط الله. ثم إني طلبت الليلة مرضاة السامعين، وأكثر السامعين لجهلهم بالدين، ولطول ما رأوا من أدعياء العلم فيه، منصرفون عنه زاهدون في حديثه، حتى الأتقياء الصالحون منهم، الذين يتمسكون في رمضان بدينهم، فيقضون نصف النهار في (الأموي) نائمين يشخرون وينخرون أو متحلقين حلقاً يمزحون في الجامع ويضحكون ويكذبون ويغتابون!

فلنتكلم في الأدب، فالأدب أسلم عاقبةً، وأوسع حريةً، وهو هيّن عليّ وعلى غيري، وقد صار الأدب الآن كوصل ليلى كلُّ يدعيه، وكل من يستطيع أن يكتب كلاماً في ورقة، ويجد صفافاً يصَّف له حروفه، وصاحب جريدة ينشره، فهو كاتب بليغ، وكل من يأتي بلفظ موزون أو شبه موزون فهو شاعر مفلق، وكل من يحفظ خبراً عن أبي تمام والمتنبي، أو هوغو ولامارتين، أو شكسبير وملتون، فهو أديب أريب، وكل من عاب كاتباً كبيراً بحق أو بباطل فهو ناقد محقق، ومن عجز عن أن يفكر كما يفكر أبناء آدم عليه السلام، ويتكلم كما يتكلمون، ففكر تفكير غير آدمي، وتكلم كلاماً ليس بإنساني، فهو شاعر رمزي، وإن في الرمزية متسعاً لجميع الأغبياء والأدعياء. وإذا شكا القراء انهم لا يفهمون هذا الأدب الرمزي، فالقراء جاهلون رجعيون جامدون!

لا - يا سادة - إن الأدب امتُهن وابُتذل، فلن أتكلم في الأدب!

أفأتكلم في السياسة؟ إن السياسة في بلدنا أن ينتقد الرجل قوانين الحكومة، ويتكلم في رجالها، ويتهم كلُّ أمين يكرهه بالسرقة، ويصف كلُّ سارق يحبه بالأمانة، ويكون له رأي في الملك عبد الله، وابن سعود، واتلي، ومولوتوف، وترومان، ويرسم أحسن الخطط

ص: 7

لمحاربة الغلاء، وتنظيم ملاكات الموظفين، وحل مشكلة فلسطين، وإدارة ألمانيا المحتلة، ويقترح وجوه الإصلاح للجامعة العربية، وهيئة الأمم المتحدة، ولو كان تاجراً أمياً، أو سائق ترام، أو شيخ ضيعة، يضع بصمة إبهامه مكان التوقيع على دفاتر الانتخابات!

لا. . . لن أتكلم في السياسة، أفأتحدث إليكم في الفلسفة؟ لقد اشتغلت بها حيناً، وأنا أستطيع أن أتفلسف متى أردت، ولا يكلفني ذلك إلا أن أقول ما لا أفهمه أنا ولا القراء، وأن أنظر كلُّ ما تواضع عليه الناس من أفكار وعادات، فأقيم لهم أدلة غامضة لا تدرك، على أنه خطأ وأن الصواب هو عكسه!

وبعد - يا أيها سادة - فاعلموا أن وقت حديثي قد انتهى، وأني قد خدعت القائمين على المحطة، فأطعتهم وكلمت العلبة ربع ساعة، وقبضت الأجرة، ولم أقل شيئاً. وكذلك يكون الرجل الناجح في هذه الأيام، يأخذ الأجرة من غير عمل، ولنا في ساداتنا العلماء الأعلام مدرسي دائرة الفتوى قدوة غير حسنة. . .

هذا، وأنا لا أدري هل يدفعون لي أجرة، أم أنهم سيكتفون بشكري الجزيل. . . فإذا أعطوني شيئاً ربحنا، وإلا فحسبنا أننا لم نعطهم شيئاً نندم عليه!

ولا تعجبوا - يا سادة - فكل الناس تاجر يعرض بضاعته، ونحن معشر الأدباء بضاعتنا الكلام، وكل كلام له ثمن، فهاتوا كثيراً تسمعوا جيداً، وإلا فالبضاعة كلها من هذا النوع!

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 8

‌صور من العصر العباسي:

الخلفاء العباسيون والتجسس

للأستاذ صلاح الدين المنجد

- 2 -

وثمة خليفة آخر أولع ببث العيون، وتسقط الأخبار، حتى على وزرائه وخاصته، وهو المعتضد. وقد أورد التنوخي قصة تدل على مبلغ شغف هذا الخليفة بالتجسس، ومهارة المتجسسين في ذلك العصر. فقد كان القاسم وزيره يحب الشرب واللعب، ويخاف أن يتصل بالخليفة خبره فيستنقصه وينسبه إلى الصبوة والتهتك والتشاغل في اللذات عن الأعمال. وكان لا يشرب إلا على أخفى وأستر ما يكون. فخلا يوماً مع جوار مغنيات، والبسن من ثيابهن المصبغات، وأحضر فواكه كثيرة وشرب ولعب من نصف النهار إلى نصف الليلة الأخرى، ونام بقية الليلة، وبكر إلى المعتضد للخدمة على رسمه، فما أنكر شيئاً. وبكر في اليوم الثاني، فحين وقعت عين المعتضد عليه قال له: يا قاسم، ما كان عليك لو دعوتنا إلى خلوتك وألبستنا معك من ثيابك المصبغات؟ فقبّل الأرض وروى عن الصدق، وأظهر الشكر على هذا التبسط، وخرج وقد كاد يتلف غماً لوقوف المعتضد على هذا القدر من أمره، وكيف لا تخفي عليه مواقفه. فجاء إلى داره كئيباً، وكان له في داره صاحب خبر يُقال له خالد يرفع له أمورها، فأحضره وعرّفه بما جرى بينه وبين المعتضد، وقال له: إن بحثتَ لي عمن أخرج هذا الخبر زرتُ في رزقك وأجزتك كذا، وإن لم تعرفه نفيتُك إلى عُمان، وحلف له على الأمرين. فخرج صاحب خبره من حضرته متحيراً كئيباً لا يدري ما يعمل، وأخذ يفكر ويحتال ويجتهد. قال صاحب الخبر: فلما كان من الغد بكرتُ إلى دار القاسم زيادة تبكير على ما جرى به رسمي لفرط سهري وقلقي تلك الليلة ومحبتي للبحث، فجئتُ ولمُ يُفتح ولم يفتح باب دار القاسم بعد. فجلست. فإذا برجل يزحف في ثياب المكدين ومعه مخلاة كما يكون مع المكدين. فلما جاء إلى الباب جلس حتى فُتح، فسابقني إلى الدخول، فأولع به البوابون وقالوا: أي شيء خبرك يا فلان؟ وصفعوه فمازحهم وطايبهم وشتمهم وشتموه، وجلس في الدهليز فقال: الوزير يركب اليوم؟ قالوا: نعم. . . الساعة

ص: 9

يركب. قال: وأي وقت نام البارحة؟ قالوا: وقتَ كذا. فلما رأيتُه يسأل عن هذا خّمدتُ أنه صاحب خبر، فأصغيتُ إليه، ولم أرهم يحفلون بأمره. وهو لم يدع بواباً ممن وصل إلى الوزير وممن لم يصل إلا سأله عنه، وكان يبدأه بأحاديث أخر على سبيل الفضول، ثم زحف فدخل إلى جنب أصحاب الستور، فأخذ معهم في مثل ذلك، وأخذوا معه في مثله. ثم زحف فدخل إلى دار العامة. فقلتُ لأصحاب الستور: من هذا؟ قالوا: رجل زمنٌ فقير أبله طيب النفس، يدخل الدار، ويتطايب، فيَهب له الغلمان والمتصرفون. فتبعته إلى أن دخل المطبخ فسأل عما أكل الوزير، ومنْ كان معه على المائدة، وفي أي شيء أفاضوا، والطباخ وغلمان صاحب المائدة كلُّ واحد يخبره بشيء، ثم خرج يزحف حتى دخل حجره الشراب، فلم يزل يبحث عن كلُّ شيء، ثم خرج إلى خزانة الكسوة، فكانت حالته وصورته هذه. ثم جاء إلى مجلس الكتاب في الديوان، فأقبل يسمع ما يجري، ويسأل الصبي بعد الصبي، والحدث بعد الحدث. عن الشيء بعد الشيء، ويخلط الجد بالمزاح والتطايب بكلامه والأخبار تنجر إليه، وتتساقط عليه، والقطع تجيئه وهو يملأ تلك المخلاة، فلما فرغ من هذا أقبل راجعاً. فلما بلغ الباب تبعتُه، فرجع حتى جاء إلى موضع من الخلد فدخل إليه، فوقفت أنتظره، فإذا هو بعد ساعة قد خرج بثياب حِسانٍ ماشياً. . . فتبعتُه حتى جاء إلى دارٍ قرب دار الخادم الموكل بحفظ دار ابن طاهر فدخلها، فسألت عنها، فقالوا: هذه دار فلان الهاشمي، رجل متجمل. فرصدته إلى وقت المغرب، فجاء خادم من دار أبن طاهر فدق الباب، فكلمه من خوخة له، فصاح به، ورمى إليه برقعة لطيفة، فأخذها الخادم وانصرف. فبكرت من سحر إلى الدار التي في الخلد، ومعي غلمان، فإذا أنا بالرجل قد جاء بزيه الذي دخل به داره، فكبسته في الموضع، فإذا هو قد نزع تلك الثياب ولبس ثياب المكدين التي رأيتها عليه أولاً، فحملته وغطيت وجهه وكتمتُ أمره حتى أدخله دار القاسم ودخلت إليه وقصصت عليه الخبر. فاستدعاه وقال: لتصدقني عن أمرك أو لا ترى ضوء الدنيا ولا تخرج من هذه الحجرة. قال: تؤمنني؟ قال: أنت آمن. فنهض وقال:

(أنا فلان بن فلان الهاشمي، رجل متجمل، وأنا أتخبر عليك للمعتضد منذ كذا. . . ويجري علّى المعتضد خمسين ديناراً في الشهر، أخرج كلُّ يوم بالزي الذي لا ينكر جيراني، فأدخل داراً في الخلد بيدي منها بيت بأجرة، فيظن أهلها أني منهم، ولا ينكرونني لزيي، فأخرج

ص: 10

هناك بهذه الثياب وأتزامن من الموضع، وألبس لحية فوق لحيتي مخالف للوني، حتى لا يعرفني من يلقاني في الطريق، وأمشي زحفاً إلى دارك، فأعمل جميع ما عرفت، وأقتفي أخبارك من غلمانك، وهم لا يعرفون غرضي، وُيخرجون لي بالاسترسال ما لو بذل لهم فيه من الأموال الكثير لم يُظهروه، ثم أخرج إلى موضع من الخلد فأغير ثيابي، وأعطى ما اجتمع معي في المخلاة للمكدين، وألبس ثيابي الحسان، وأعود إلى منزلي، فإذا كان المساء جاءني خادم من خدم ابن طاهر مندوب لهذا، فأرمي إليه برقعة فيه خبر ذلك اليوم ولا أفتح له باباً، فإذا كان آخر الشهر جاءني فأعطيته الرقعة ويعطيني الجائزة. . .!)

قال صاحب الخبر: فحبسه القاسم أياماً فحسبه أهله أنه مات، فأقاموا عليه المآتم، فدخل القاسم على المعتضد فقال له: إبراهيم الهاشمي التزامي، بحياتي أطلْقه وأحسن إليه. . وأنت آمن من بعدها من أن أنصب عليك صاحب خبر

فتركه القاسم، وانقطعت أخباره عن المعتضد

فهذه قصة رائعة طريفة تدلك على مبلغ حب المعتضد تسقط الأخبار، ومبلغ مهارة أهل ذلك العصر في الحيلة والبراعة في التجسس، وهي قصة لا تحتاج إلى تعليق، فما قرأت في بابها في كتبنا القديمة أشوق منها ولا أحلى

ومن هذه القصة، ومن الأخبار التي سردتها لك في العدد الماضي - من قبل - ترى ما كان للتجسس من شأن عند الخلفاء العباسيين. أما عناية الوزراء بالتجسس وتحسس الأخبار، فسأبينه في مقال آت.

جديتا (لبنان)

صلاح الدين المنجد

ص: 11

‌إلى المجمع اللغوي:

الأسماك في الشواطئ الحضرمية

للأستاذ علي عبود العلوي

تمهيد:

لاشك أن وجود الأسماك بكثرة في الشواطئ الحضرمية هو الحافز الأعظم لبعض مفكري الحضارمة في السعي وراء تأسيس شركة تجارية بمهجر الحضارمة (جاوة) من غايتها استغلال الثروة الوطنية وتنميتها بإنشاء مصنع لحفظ الأسماك في العلب وتصديرها فيما بعد إلى الخارج.

ولا غرو أن يهتم بالسفر إلى ميناء حضرموت (المكلا) رئيس الشركة السيد علي بن شهاب لدرس ما يقتضيه المشروع ورفع تقرير لأعضاء الشركة. غير أن المشروع أخفق في مسعاه ولا أعرف بالضبط ما هي الأسباب الموجبة لذلك.

وتاريخ هذه الخطوة التفكيرية الأولى يرجع إلى أثناء الحرب الماضية حرب (1914م) على ما أذكر.

ولئن أخفق هذا المشروع فإنه لم يقضِ على الفكرة أصلاً. وغاية ما في الأمر أنها تنبعث مرة وتخفت أخرى. حتى دبَّ إلى النفوس خير انعقاد مؤتمر الإصلاح الحضرمي المنعقد بسنغافورة في سنة 1346 - 1927 فانبعثت الفكرة مرة أخرى، ولكن في صورة واسعة النطاق. إذ وافق المؤتمر على تأسيس شركة تجارية حضرمية برأس مال كبير من غايتها استغلال الثروة الوطنية، ورشح لهذا القرار لجنة تتألف من أغنياء الحضارمة وسراتهم برئاسة المثري الشهير السيد عبد الرحمن بن شيخ الكاف. غير أن مقررات المؤتمر قضى عليها بجرة قلم ولم تكن هي من نصيب بحثناً لنوليها مزيداً من البحث والتعليل والتدليل.

ودليل آخر أضيفه إلى ما سبق أن أشرت إليه فقد حدثت بعد

عودتي إلى الوطن من الكنانة في 1181942 من رحلتي التي

استنفذت من العمر زهاء خمس عشرة سنة أن عظمة السلطان

ص: 12

صالح بن غالب القعيطي معتزم إنشاء حوض كبير لتربية

الأسماك والاستفادة منها علمياً.

فمتى يتحف عظمة السلطان شعبه الحضرمي بهذه المكرمة الجليلة التي لم تكن هي إحدى مكارمه؟ فعسى أن يكون ذلك قريباً.

معجم للأسماك:

واغتنمت فرصة وجودي في (المُكلاَّ) للتعرف إلى أبناء الثغر الحضرمي، وقد لقيت منهم تأهيلاً كبيراً، وممن تحدثت معه عن وضع معجم للأسماك الأستاذ عبد الله الناخبي فهش للفكرة - وقال: إن نفس هذه الفكرة قد سبق أن أوحى بها إليه عظمة السلطان صالح القعيطي، ومن أجل ذلك فإنه دائب في البحث، وأنه كتب مذكرة عن الأسماك تضم زهاء مائتين وخمسين اسماً.

ولا أزال أرجو من الأستاذ الناخبي أن يجد في البحث لكي يتحف العالم العربي بثمرات أبحاثه.

غير أني أخشى أن تقعد بالأستاذ الناخبي أعماله المدرسية وشواغله اليومية. فقد اتضح لي أنه طيلة المدة التي قضيتها في حضر موت وهي سنة وثلاثة أشهر لم يقدر له أن يواصل البحث الذي سبق أن حدثني عنه بشيء يذكر.

وقبل أن نتجه الغاية المقصودة يجدر بنا الإشارة إلى أن للسيد الشاعر عبد الرحمن محمد بن شهاب الدين العلوي المتوفى في حدود سنة1270 هـ قصيدة طويلة ضمنها أسماء الأسماك الموجودة بالشط الحضري، ولم تقع هذه القصيدة تحت نظري وإنما حدثت عنها وهي مشهورة بحضر موت وموجودة منها نسخ في مهجر الحضارمة. جاوة، ولن تخلو منها مكاتب حضرموت، ولا شك أنها من محفوظات خزانة حفيده السيد الجليل عبد الرحمن عبد الله بن شهاب في (الغناء ترم).

فهل يتحف بها (الرسالة) الغراء أحد أدباء القطر الحضرمي؟

ومما وقع تحت نظري له وأنا في سن المراهقة قصيدة المشهورة التي وصف فيها المرأة وخصها بالمفاضلة ما بين البيض والسمر والخضر والسود.

ص: 13

فيا هل ترى وصف لنا الصهب والزرق إلى غير ذلك؟ لا أدري فذلك عهد طال به العهد ولم يبق عالقاً ببالي منه شيء.

ومن قصائده المشهورة في المفاضلة قصيدة التي خصها بالنخيل ويقال إنه ذكر فيها زهاء مائتين وخمسين اسماً من أسماء النخيل الموجودة بحضرموت.

ومما علق بذاكرتي منها قوله يصف نوعا من النخل يسمى باليتيمة:

وعَادْ تمر اليتيْمة، يُعجبَك خُزْعُهْ وصَيْمهْ تقدوم لأهْلِ التّفخَّار. التخميس (ما شيء كما التمرْ في الدار).

(الألفاظ: عادْ. بمعنى بقى. والخزْعُ من التمر ما أخرج نواه. الصِّيْم: هو ما أخرج نواه أيضاً، وهُرسَ بالأرجل كما هو معروف في حضرموت. أهل التّفخارْ: هم الضيوف الذين يفدون على بيوت الكرم ممن يفخر بهم).

وأكثر أشعار هذا السيد (حُمَيْنِيَّةْ) أي أنه لم يلتزم فيها قواعد الإعراب ولها عروضها الخاصة لأنها تتابع الأنغام.

وهذا السيد هو والد الشاعر الكبير شيخ النهضة الحضرمية أبو بكر بن شهاب (راجع (الرسالة) الغراء عدد423 صفحة 1007) ومؤلفنا عنه (الشهاب العلوي).

وأخيراً أتاحت لي الفرص التعرف على أسماء جانب من الأسماك، وذلك بفضل الرحلة الشاقة التي دفعت ثمنها بالمخاطرة الروحية.

إذ أقلتني من ميناء حضرموت (المكلاَّ) إلى (جدة) ساعية شراعية. حقاً إن هذه الرحلة شاقة مضنية ولكنها تذكرنا بآثار آبائنا الصِّيد الذين كانوا يخترقون البحار بمراكبهم الشراعية، وكانت لهم السيادة البحرية إذ ذاك.

وكانت بواخرهم تقلع من موانئ حضرموت إلى أقاصي الشرق الأقصى، ولهم في الميدان تاريخ عظيم القدر مشهور بمكانته العظيمة، ولهم مع البرتغال مواقف مشهورة ليس هذا موضع الحديث عنها.

وكان علماؤهم لا يدعون الأوقات تمر عليهم سدىً فكانوا يحصلون العلم وهم في أثناء سفرهم الذي يمتد بهم إلى أكثر من ستة أشهر إلى أن يصلوا إلى الموانئ الشرقية بجزر الملايو وجاوة.

ص: 14

وفوق هذا فقد كانوا يقضون على السآمة التي تعقب مثل هذه الرحلات الشاقة بما يتفرغون له من دروس علمية أثناء سيرهم واستنساخ بعض الكتب العلمية التي هم في حاجة إليها.

وعسى أن تتاح لي الفرصة فأوافي (الرسالة) الغراء ببحث خاص ذا صلة بالموضوع، ومن كان متعجلاً فليراجع ما ورد بهامش مقال لنا نشر في عدد 234 من مجلة الرابطة العربية تحت عنوان: خصائص الشعر في عصر ابن شهاب أو يبل غلته بمراجعة تاريخ دخول الإسلام إلى (الفليبين) وهو من تأليف الدكتور نجيب صليب اللبناني المتوفى سنة 1935، وهو مطبوع في اللغة الإنجليزية طبع (مينلا) سنة 1905م

لقد كانت المدة التي قضيتها في البحر من حين أبحرنا من

(المكلا) بعد ظهر يوم الأحد في 7111943 إلى أن أرست بنا

السفينة في ميناء (جدة) في 25111943 هي الكفيلة بأن تتيح

لي ما لم يكن في الحسبان.

وكانت الدواعي التي تجعلني أهتم بالبحث في التعرف على أنباء اليم كثيرة، ولو لم يكن منها إلا المتعة الغذائية التي يتحفنا بها اليم في صباح كلُّ يوم ومسائه لكانت هي وحدها كافية فضلا عن الناحية العلمية التي يجدر بنا أن نشارك فبها بحسب المستطاع.

لفتت نظري هذه الأحياء العظيمة التي نشاهدها في البحر في كلُّ آن، وهي تمشي زرافات ووحدانا، والتي منها ما يتحدى سفينتنا في مجراها. فكاشفت ربان السفينة الحضرمية والبحارة وزملاؤهم أن لي شغفاً بالتعرف على هذه الأسماك مما شاهدنا وما لم نشاهد. فما كان منهم إلا أن أمدوني بهذه المعلومات التي أدونها (للرسالة) الغراء، ولهم علي فضل التنويه والشكر.

ولم يحجم أبناء البحر - أستغفر الله - بل أخدانه عن الحديث إلا ريثما أدون ما يفوه به المتصدي للحديث، وكنت أدقق في ضبط الألفاظ غاية التدقيق حتى إذا ما أشكل عليَّ لفظ استعدته مرة أخرى. هذا ما كان من جانبي؛ أما ما كان من جانبهم فانهم كانوا مرهفين أسماعهم لمحدثي. فإذا ما قدم أو أخر نبهوه إلى غلطة في الحال.

فكانت لدى متعة روحية طيلة الساعتين التي قضيتهما في العوم مع الأسماك.

ص: 15

(يتبع)

علي عبود العلوي

ص: 16

‌وردة اليازجي

للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني

- 1 -

نحن جديرون بأن نعنى بمآثر الشاعرات العربيات من بنات قومنا في القديم والحديث. فبهذه العناية نؤدي بعض ما لهن من الحق علينا في مضمار الشعر واللغة، وضربهن بسهم وافر في إظهار شعورهن نحو لغتهن وبنات أمتهن، ومنهن الحديثات ممن تتبعن خطط سابقاتهن فنسجن نسيجاً يليق بنا أن نطلع القراء ما يتيسر إيراده في هذه العجالة فنحفظ لهن ذكراً باقياً حافزاً لغيرهن من النساء أن يسلكن هذا المسلك الظريف فيكن أوتاراً موسيقية لأبناء الجبل وبناته. وهذه الشاعرة وردة بنت الشيخ ناصيف اليازجي من شاعرات أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كان أكثر شعرها رثاء وذلك للنكبات التي حلت بهذه الشاعرة المسكينة فانهالت عليها كالسهام لأنها نكبت بكل اخوتها وأختها وأبيها وابنتها وزوجها. فبكتهم الخنساء على اخوتها وأولادها، وحذت حذوها في نسق الرثاء وذكرتها مراراً في قصائدها المملوءة من النواح، وهذا ديوانها (حديقة الورد) طافحاً بالمراثي والمآتم والدموع المسكوبة على من فقدتهن من أفراد أسرتها الأعلام، وغيرهم من الأفاضل الكرام.

أما سيرتها: فقد ولدت في كفر شيحا في لبنان في العشرين من شهر يناير من سنة 1838م (1253هـ) ثم انتقل والدها إلى بيروت وأدخلها مدرسة البنات للمرسلين الأمريكيين. ولما بلغت الثانية عشرة لقنها والدها أصول الصرف والنحو والبيان والعروض فنبغت فيها، ورآها والدها مطبوعة على الشعر فرشحها له فنظمت عدة قصائد وهي لم تناهز الرابعة عشرة، ثم أخذت تكثر من النظم والرثاء والمديح وغيرهما، وقد أجادت في الرثاء كما قلنا لما منيت به أسرتها من المصائب الفاجعة. وقد اقترنت بفرنسيس شمعون سنة 1866م وصرفت أكبر قسم من حياتنا في مصر في مدينة الإسكندرية، وتوفيت فيها في الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 1924م (1342هـ)، وتعرف بأنها أول امرأة نبعت في الأدب العربي في القرن التاسع عشر، وتظهر كتاباتها مقدرة عظيمة في طريقة التركيب على نمط والدها، ومحتويات أشعارها قصائد تنطق بظروف ذات علاقة متينة بتاريخ عائلة

ص: 17

اليازجي. ولها مع أديبات عصرها في سوريا ومصر وبغداد مساجلات ومراسلات تنم عن لطف وبراعة في التعبير، ونشرت عدة من المقالات بعضها في مجلة الضياء تناولت فيها قضية المرأة الشرقية وغيرها، وغلب على نظمها مسحة الشعر اليازجي في السهولة والرقة، وقد عمرت طويلاً. وممن كتب عنها من الغربيين المستشرق بروكلمن 11495) وأما الشرقيون فكثيرون نخص بالذكر منهم الأب لويس شيخو اليسوعي (الملاحظات شيخو: التأريخ ص 415 - 16 ونفس الفهرست ص 213 العدد 829) ومحاضرات الآنسة مي (مريم زيادة وقد خصصتها بها وقد طبعت في القاهرة في مطبعة البلاغ المحتوية على اثنين وستين صفحة مع الرسم). أما ديوانها (حديقة الورد) فقد طبع مرتين في بيروت سنة 1867م، سنة 1881م وفي القاهرة للمرة الثالثة سنة 1913م (1232هـ) وزيد على طبعته الأخيرة كثير من القصائد النادرة لها. وأما شعرها فينقسم قسمين: الرثاء والمديح، ولنبدأ الآن بالمديح. فمن ذلك أن قالت في جواب أبيات وردت عليها من وردة بنت المعلم نيقولا الترك الشاعر في مطلع ديوانها.

يا وردة الترك أني وردة العرب

فبيننا قد وجدنا أقرب النسب

أعطاك والدك الفن الذي اشتهرت

ألطافه بين أهل العلم والأدب

وقالت في جواب رسالة إلى الست كاتبة بنت موسى بسترس وفي هذا تورية لطيفة لأن اليازجي بالتركية يعني الكاتب:

بيني وبينك في الأسامي نسبة

لا في المعاني أنت فوق مراتبي

سميت كاتبة بكل لياقة

وأنا كما تبغين بنت الكاتب

وقالت وقد عادت صديقة لها من سفر:

زار الحبيب فزار أجفاني الكرى

ودنا سرور كان عن قلبي سرى

لا تنكروني إن غاب عني مرة

شيم الكواكب أن تغيب فتظهرا

ثم تقول:

أهلا بمن أخذ القلوب وديعة

وأعادها معه تخوض الأبحرا

وقالت في رسالة إلى صديقة لها وقد كانت في سفر:

مني السلام على الذي هجر الحمى

فجرت دموعي كالسحائب عندما

ص: 18

الشوق زاد من البعاد تحسراً

والنوم صار على العيون محرما

ثم هي تقول فيها:

يا راحلا أضحى فؤادي عنده

وبقيت من وجدي أراعي الأنجما

وكذلك قالت:

مني السلام إلى من سار في السحر

وبدّل العين بعد النوم بالسَهر

وقالت وقد بعثت بها إلى إحدى صواحبها وقد كانت في سفر:

رحل الحبيب وحسن صبري قد رحل

فمتى يعود إلى منازله الأوَل

وتضئ أرض أظلمت من بعده

وتقر عيني باللقا قبل الأجل

ثم تقول:

قد قل صبري للبعاد تحسراً

والجسم من أجل الفراق قد انتحل

يا غائباً والقلب سار بإثره

شوقي مقيم في فؤادي كالجبل

يا بدر غبت اليوم عنا راحلا

والبدر ليس يغيب شهراً إن أفل

وقالت في الأميرة تاج الشهابية:

تحية من مشوق زائد الغُلل

تهدى إلى تاج مجد من ذوي الدول

ثم تقول:

إلى التي صار قلبي مسكنها

كأن الشمس حلت منزل الحمل

جميلة الخلق تحكي البدر طلعتها

جليلة الخلق في قول وفي عمل

وكذلك تقول:

يا من بها زهت الأيام قائلة:

لا تحسبوا أن كلُّ الفضل للرجل

وقالت تمدح ميخائيل المدوّر:

نخل اليمامة يفدي نخلة ظهرت

في أرض بيروت منها الظل والثمر

ثم قالت وقد زائر أباها الأمير أمين أرسلان:

تدفق في منازلنا السرور

مذ حين شرفها الأمير

أضاءت بهجة كالصبح لما

تجلى فوقها القمر المنير

فكادت ترقص الأكباد تيها

بمقالته أو كادت تطير

ص: 19

وكذلك قالت جواباً لصديق أبيها محمد عاقل أفندي الساكن في الإسكندرية:

زارت بجنح الدجى والليل معتكر

فقالت الدرها قد أشرق السحر

خود تميس بقدٍّ كالقناة بدا

إذ رأته غصون البان تنكسر

قدٌّ يقدُّ قلوب العاشقين إذا

ما عنِ يوما ثرى الأكباد تنفطر

خطت لأهل الهوى سطراً بوجنتها

إياكم النار لا يؤذيكم الشرر

ثم هي تقول:

أهدى إلى بيوتاً كل قافية

منهن تخجل منها الأنجم الزهر

وهي تقول أيضاً:

سحبان مصر ويا ركن البلاغة من

به القوافي غدت تزهو وتفتخر

وقالت تجيب أحد الفضلاء عن أبيات بعث بها إليها من بغداد:

منّ الكريم بها عليّ رسالة

تفسق بكل وصيفة ووصيف

وفيها تقول:

أهديتني مدحاً به أغرقتني

في بحر فضل لم يكن بخفيف

وكذلك قالت جواباً لأحد الأفاضل عن أبيات أرسلها لوالدها من بغداد:

خود من العرب وافت تنجلي تيهاً

كالشمس تشرق فينا من أعاليها

إلى أن تقول:

اللوذعي الذي الزوراء مسكنه

وصيته سار في أقصى ضواحيها

حيا الحيا أربع الزورا وأهليها

وجادها الغيث هتاناً يواليها

في أرضها منبع العلم الذي غمرت

مياهه وارتوت من أهاليها

أهدي إلى بيوتاً كلُّ قافية

منهن تسكر لا بالخمر قاريها

ولها في لبنان ذكريات ولوعات حيث تقول فيه:

يا ربي لبنان حياك الحيا

وسقى تربك هتان الغمام

يا ربوع الأنس يا دار الصفا

يا جنان الخلد يا أهنا مقام

ثم أنظرها تقول:

وخرير الماء في تلك الربى

كحنين من محب مستهام

ص: 20

بسط الزهر على أرجائه

بين ورد وبهار وخزام

وترى الأطيار في تلك الربى

بين شحرور وباز ويمام

وفي تهنئتها للأميرة نازلي هانم بعودتها من أوربا تقول:

أهلا بذات العلي والمجد والحسب

سليلة العلوي الماجد النجب

شمس بدت من سماء الغرب مشرقة

فغار ما في سماء الشرق من شهب

فرع كريم أتى من دوحة سقيت

أعراقها بمياه الفضل لا السحب

وقالت تتذكر أيام الصبا:

يا زمان الصبا عليك السلام

يا ربيعاً تزهو به الأيام

فيك تحلو الحياة يا زهرة ال

عمر وتنمو العقول والأجسام

لهف نفسي على أويقات أنس

قد تقضت كأنها أحلام

حيث كان الزمان طلق المحيا

وعيون الأكدار عنا نيام

وقالت تمدح شكري الخوري والسوريين في أميركا الذين اشتركوا في إقامة تمثال لأخيها إبراهيم.

يا من يقصر عن شكري له قلمي

لما أتى من جميل الفضل والكرم

الفاضل الشهم شكر الله من لهجت

بشكره ألسن الأيام والهمم

ذكرت قومي إلى ما ترتإيه لهم

صنعاً جميلاً وبرهاناً لودهم

لهم علينا اليد البيضاء ما بقيت

فينا حياة توالي ذكر فضلهم

يا سادة جمعتهم نسبة الوطن ال

محبوب جمع الثريا غير منفصم

جددتم شخص من نهفو لرؤيته

كأنما هب مبعوثاً من الرحم

فلو تمكن من نطق لصافح لكم

شكراً ودبجه بالدرّ والحكم

وما مديحي لكم حبر على ورق

بل خط في لوح صدري شكركم بدمي

إلى هنا نكتفي من قولها نظماً في المديح، وأما الرثاء فقد أبدعت فيه كلُّ الإبداع وأجادت فيه كلُّ الإجادة. فهي التي بكت في رثائها وأبكت من سمعها أو قرأها في هذه القصائد المحزنة التي نأتي ههنا بالميسور إيراده فقالت ترثي البطريرك مكسيموس مظلوم حين توفي بالإسكندرية سنة 1855:

ص: 21

يا حاسباً دنياك دار قرار

أقصر عناك فتلك أخبث دار

لا تستقر بها النفوس ولا ترى

قلباً بلا غم ولا أكدار

دنيا غرور كلما طال المدى

طال الغرور بمكرها الغرار

ثم هي تقول:

لله يومك في الأنام فإنه

أبقى لنا حرنا مدى الأدهار

وقالت ترثى المرحوم مارون نقاش المتوفى سنة 1855م:

الموت للناس كالجزار للغنم

فليس يترك من طفل ولا هرم

كأس يدور علينا ساقياً أبداً

وليس يترك إنسانا من الأمم

ثم تقول:

ذابت لفرقته الأكباد والتهبت

أجفاننا من دموع ضرجت بدم

وقالت أيضاً ترثى المرحوم غالي سميث الأمريكي:

قد سرت عن وادي الدموع مودعاً

هل يرتجي بعد الوداع سلام

(يتبع)

يوسف يعقوب مسكوني

ص: 22

‌الأدب في سير أعلامه:

ملْتُن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 23 -

البرسبيترينز والصدمة الثانية:

يضرب ملتن لقومه مثلا لما يقع من الضر إذا اختنقت حرية الرأي فيستعيد ذكرياته عن رحلته في إيطاليا ويذكر كيف عدة المثقفون هناك سعيداً بمولده في إنجلترا موطن الفلسفة الحرة إذ كانوا يظهرونه على تألمهم وحسرتهم لما تعاني المعرفة عندهم من تعسف وإعنات وقيد؛ ويقول ملتن إن ما يعانيه طلاب المعرفة هناك من قيود هو سبب ما أكتنف مجد أولي الذكاء من الإيطاليين من ضباب، وإلى تلك القيود يعزى مَلَقُ الإيطاليين وادعاءاتهم وهما خلتان بارزتان في أكثر ما يكتبون. . .

ويشير ملتن في فقرة قوية بالغة الأثر في النفوس إلى ضحية من ضحايا الحرية وذلك هو جليليو الذي جاهد طويلاً ليكشف عن الأبصار ما حجب عنها النور من غشاوة، ويزيح عن القلوب ما طمس عليها من خرافة وجهل، فكان جزاءه السجن والمهانة وقد تحطم هيكله الذي آده العبء كما آدته السنون وذهب بصره فأحاطت به الظلمة وهو الذي طالما صبر على أذى قومه وصابرهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

ولن يزالا ملتن عظيم الثقة في انجلترة، يقدرها حق قدرها ويراها خير أمة منذ قام العالم، فهي أمة ذكية بصيرة حازمة، ذات روح وثابة سريعة إلى ما تريد، لن تتخاذل عن أقصى ما تصل إليه المقدرة البشرية، عريقة في المعرفة على اختلاف فروعها حتى ليمكن القول إن مدرسة فيثاغورس والحكمة الفارسية القديمة إنما استمدتا بدايتهما من انجلترة؛ ولها في الدين وما هو من بابه من المعرفة، باع طويلة وقدم راسخة، فلولا ما كان من مقاومة

ص: 23

بعض القساوسة لو كليف ونظرتهم إليه كصاحب بدعة وداعية شقاق لما سمع أحد عن لوثر أو كلفن نفسيهما، ولن تزال انجلترة مبعث كلُّ دعوة إلى الإصلاح ومنار كلُّ نهضة تقوم في القارة، وسيبقى لها فخر إصلاح جيرانها غير منتقص ذلك الفخر أبداً. . . وقد تأذن الله لكنيستها بعصر جديد عظيم سوف تصلح فيه الإصلاح نفسه، وكان أن تجلى الله لعباده وبدأ كما هو شأنه بالإنجليز منهم. . .

ولئن عظم أمله في انجلترة وما يرجى فيها من خير، فإنه يوجس خيفة من التنكر للحرية كما فعل البرسبتيرينز، ولذلك فإنه يراهم شراً أي شر، فما يحجب نور هذا الأمل عن البلاد إلا عنادهم واجتراؤهم على فعل ما كرهوه من قبل مما فعل القساوسة.

ويغلط ملتن لهم القول ويعنف عليهم كما صنع بالقساوسة فيرميهم بالنفاق والجشع، فما يتأتى الإخلاص لقوم يكرهون الحرية ويعترضون لها وما عبادته إلا حرفة احترفوها وتجارة يخشون كسادها ثم يتنبأ في آخر كتيبه بأن سوف يلقي الباطشون من يبطش بهم، ولعله بذلك يستخرج من مجرى الحوادث السياسية أن المستعلين سوف يعملون على سحق سلطة البرسبتيرينز بعد أن يفرغوا من محاربة الملك ولقد جاءت الحوادث بعد ذلك محققة ما لمح به.

وكرهت رجعة البرسبتيرينز كما يزعم إليه كلُّ القائمين على شؤون الدين، ولا عبرة بالمذهب، وقر في نفسه أن حرية الفكر والرأي مستحيلة ما دام هؤلاء قوامون على الناس، وعنده أن تعصب القساوسة إنما يظهر في صور وأشكال جديدة؛ وما دام الأمر كذلك فلا إصلاح يرتجي؛ إذ كيف يتحقق الإصلاح بغير الوصول إلى الحق، ولا سبيل إلى الحق إلا الحرية ويريد بها تحرير العقل من الجهالات والضلالات ليفكر طليقاً ويتدبر فيما جاء به المسيح غير مقيد بقيد مهما كان نوعه أو كان مبلغه من الشدة أو العنف؛ وإذاً فالفكر الحر والرأي هما سبيلا الإصلاح الحق ولا سبيل غيرهما.

لقد جاء المسيح بالهدى والحق إلى هذه الدنيا، وذلك مبين في الإنجيل، ولكن الناس بعيدون عما بين لهم من الهدى لأنهم أخذوا أخطاء المفسرين على أنها الحق المقدس وفي ذلك أبلغ الضرر؛ ولا مخرج لهم إلا أن يناقشوا المسائل التي يحيط بها الشك مناقشة لا قيد فيها حتى يهتدوا إلى الصواب، ولن يستطيعوا أن يفعلوا ذلك إلا أن تتاح لهم الحرية، فكأن الذين

ص: 24

يخنقون الحرية إنما يحولون بين الناس وبين ما آتاهم المسيح من الهدى وأي إثم هو أكبر من هذا الإثم؛ وكيف يطمع المصلحون في الإصلاح إلا أن يكفوا أيدي هؤلاء البرسبتيرينز الذين يصدونهم عن سبيله ويزعمون أنهم هم المصلحون. . .

بهذا المنطق القوي أزعج ملتن البرسبتيرينز، فمثل هذا الكلام يكون أشد وقعاً وأعظم أثراً من الهجاء مهما أقذع، ولذلك كانت هذه الحرب أقوى من حربه على القساوسة وإن بدت أقل منها ضجيجاً لأن سلاحه فيها كان أمضى ولأنه يقاتل في سبيل مبدأ تميل إليه بطبعها النفوس. . .

تلك هي خلاصة الأيروباجيتيكا؛ ويزعم بعض النقاد وأحسبهم على حق فيما يزعمون أنه لو لم يكن ملتن صاحب الفردوس المفقود وصاحب كومس والفردوس المستعاد وغيرها من الشعر لذهبت كتاباته النثرية مع الزمن إلا هذا الكتيب الذي جعله للدفاع عن مبدأ من أجل المبادئ في حياة بني الدنيا منذ أقدم عصورها ألا وهو حرية العقل لا في تفكيره فحسب فإن ذلك طوع كلُّ فرد ذكي بل في إعلان ما يرى من رأي.

ويحبب هذا الكتيب إلى النفوس فضلاً عما يدافع عنه من مبدأ فيه، ما ساقه ملتن من أمثلة وما لجأ إليه من الإشارات والتلميحات كما يفعل في شعره، وكان التاريخ هنا هو الكنز الذي استخراج منه أصدافه ولآلئه، وحسبك أن يلمح إلى سقراط واستشهاده وإلى جليليو وما لاقى من كوارث وإلى أفلاطون وبيكون وإرزس وسبنسر الذي وصفه بقوله (شاعرنا الحكيم الوقور)، وأضربهم ممن اهتدوا بنور العقل في ظلمات الجهل فكانوا على طريق الإنسانية مصابيح تنطوي القرون ونورهم أبلج وكلما اشتدت الظلمة ازدادوا ظهوراً ككواكب السماء ونوراً. . . وحسبك أن يشير إلى أثينا وأن يمتدح فيها النشاط العقلي وأن يشيد بما كان يعلم آباء المسيحة الأولون من علوم الأقدمين؛ إلى كثير من أمثال ذلك مما يسوقه براهين على فضل العقل، ففي العقل وحده الخلاص من نير الجهل مع شرف القصد والإخلاص في استجلاء الحق لا في الخضوع لكل منقول والتسليم به في غير تدبر فيه. . .

وهو فيما يسوقه من هذه الأمثلة إنما يعرض بالبرسبتيرينز الذين أنكروا منه ما اهتدى إليه بعقله في أمر الطلاق والذين هالهم منه تأويل ما أول من عبارات الإنجيل لتتمشى مع ما

ص: 25

ذهب إليه من رأى أو الذين رموه بالفسوق لأنه طلب تحكيم الضمير والاستعانة بالعقل فيما يلتبس فيه الأمر من أحكام الإنجيل ولا يتفق في ظاهره مع طبائع الأشياء.

والحق ملتن خليق بأن يثير إعجاب الناس به جيلاً بعد جيل، فقد كان لشخصه من الجلال ولروحه من القوة ولنفسه من العزة ما لا يتوفر مثله إلا للأفذاذ القليلين على فترات من الزمن؛ ولا نجد فيما تحث عنه المؤرخون خيراً من حديث مكولي عن خلقه فلنأت به على سرده. قال مكولي (وبقي بعد ذلك أن نتحدث عن المعين الذي استمد منه خلق ملتن العام عظمته وروعته الخاصة به، فلئن كان قد أتعب نفسه ليقضي على ملك حانث أو سلطة كهنوتية ظالمة، فإنما فعل ذلك مشتركاً مع غيره من الناس.

ولكن مجد لمعركة التي خاض غمارها من أجل ذلك الضرب من الحرية الذي هو أعظم ضروبها قيمة، وإن كان أقلها حظاً يومئذ من إدراك الناس، وأعني به حرية العقل البشري كان بأجمعه مجده وحده. . .

لقد رفع الألوف من معاصريه وعشرات الألوف منهم أصواتهم ساخطين على ضرائب السفن وعلى محكمة غرفة النجم، ولكن لم يفطن إلا قليل منهم إلى ما يعد شره أعظم من ذلك هولاً ألا وهو الرق العقلي والخلقي، ولا إلى ما عسى أن يعود من خير على الإنسانية من وراء حرية النشر، ومن وراء الحكم الشخصي على الأشياء يجري به الرأي غير مقيد بقيد؛ هذه هي الأغراض التي رأى ملتن أنها بحق أعظم الأغراض خطراً، وكان تواقاً إلى أن يرى الناس يفكرون لأنفسهم كما أنهم يشرعون الضرائب لأنفسهم، وأن يتحرروا من سلطان الهوى، كما قد تحرروا من سلطان (شارل)، وكان يعلم أن الذين اعتلوا صنوف الإصلاح هذه ونفوسهم تنطوي على أحسن المقاصد، وقنعوا بإسقاط الملك وإلقاء الملكيين الطاغيين في السجن، إنما سلكوا مسلك الأخوين الغافلين في قصيدته اللذين ألهاهما فرط حرصهما على تفريق الساحر وقبيله فأهملا وسائل تحرير أسيره، لقد فكروا في هزيمته فقط في حين كان ينبغي أن يفكرا في حل ما عقد من طلاسم السحر: (لقد أخطأتما، فإنه كان ينبغي أن تختطفا عصاه وتشدا وثاقه، وذلك أننا وقد فاتنا أن نقلب العصا رأساً إلى عقب ونقرأ في اتجاه عكسي كلمات الساحر ذات القوة التي تفكك الأوصال، لن نستطيع أن نطلق سراح هذه السيدة التي تجلس هنا مغلولة بأغلال شديدة، فهي في مكانها ثابتة لا

ص: 26

تتحرك).

وكان العمل على أن تقلب العصا، وأن تقرأ كلمات السحر في عكس اتجاهها، وأن تفكك القيود التي تشد الشعب الأبله إلى مقعد السحر، كل أولئك كان ما يسعى إليه ملتن من غرض نبيل، وإلى هذا الغرض وجه مسلكه فيما يتصل بالناس كله، فمن أجله انضم إلى البرسبتيرينز ومن أجله اعتزلهم، ولقد خاض معركتهم المحفوفة بالمخاطر، ولكنه نأى بجانبه عنهم مشمئزاً ساعة انتصارهم الوقح، ورأى أنهم كانوا كمن هزموهم لحرية الرأي أعداء، ومن ثم فقد انضم إلى المستقلين ودعا كرمول أن يحطم ما نسب إلى الدين من عل وأن يخلص الضمير الحر من مخلبي الذئب البرسبتيري؛ وهاجم ملتن وهذا الغرض النبيل نصب عينيه قانون الطبع والرقابة في مقال رفيع الطراز يجدر بكل سياسي أن يلبسه كشعار فوق يده وكذؤابة بين عينيه؛ وكانت لا توجه هجماته بوجه عام إلى المساوئ الخاصة بقدر ما كانت توجه إلى تلك الأخطاء المتأصلة التي تكاد تبني على أسسها جميع الأخطاء ألا وهي العبارة الخانعة لذوي المكانة من الناس، والخوف الذي هو ليس من العقل في شيء من كلُّ تجديد.

ولكي يزلزل أسس هذه النوازع المذلة زلزالاً أشد وأوفى بالغرض، كان يختار ملتن نفسه دائماً مما يبذل من الخدمات الأدبية ادعاها إلى الشجاعة والجرأة ولم يكن يأتي قط في المؤخرة بعد أن تنقص الأيدي من الجهود الخارجية وتنفذ الجنود من الثغرة، وإنما كان يدفع بنفسه المقدمة إلى ما تتخاذل دونه الآمال.

ففي بداية ما حدث من أوجه التغير، أخذ يكتب بكل ما في وسعه من نشاط وفصاحة لا يجاريه أحد فيهما منددا بالقساوسة، فلما بدا له أن آراءه قد تم لها الغلبة تجاوزها موضوعات أخرى، وترك القساوسة إلى طائفة كبيرة العدد من الكتاب أسرعت بعده إلى التهجم على تلك الفئة التي تهوى. . .

وليس ثمة من عمل أشد خطراً من الاضطلاع بحمل مشعل الحقيقة إلى المجاهل الموبوءة التي لم يضئ فيها نور قط ولكن ملتن كان يختار لنفسه دائماً أن يقتحم ذلك الضباب الصاخب، وكان يسره ذلك الاختيار كما كان يسره أن يركب الأخطار في ذلك الاكتشاف الذي يبعث الرعب؛ ويجب على أشد الناس إنكاراً لآرائه أن يحيطوا بالتوقير ما لاقاه في

ص: 27

سبيل استمساكه بها من عنت وشدة، ولقد ترك لغيره في الجملة العمل على شرح الجوانب المقبولة من عقيدته الدينية والسياسية والدفاع عنها؛ أما هو فقد جعل من نصيبه أن يؤيد العقائد التي سخروا منها لأنهم زعموا أنها متناقضة، فقد ذاد عن حق إباحة الطلاق وأيد إعدام الملك وهاجم نظام التعليم السائد في أيامه وإن عمل الخير الذي يشع النور ليشبه في آلهة الخرافة عمل إله الضوء والخصب)

والحق أن الدفاع عن الحرية كان هدفه في معظم ما كتب، فقد دافع عن الحرية الدينية بحربه على القساوسة وعن حرية النشر بحملته على الرقابة، وعن حرية الضمير بالطعن على البرسبتيرينز وعن حرية الأسرة بإنكار ما ينطوي عليه قانون الزواج من استبداد أو عن الحرية المدنية كما سنفصله في حينه بإعلانه السخط على طغيان التاج. . .

ولكن بعض النقاد يردون ذلك إلى دوافع شخصية محاولين بذلك أن يبخسوه أعماله، فيقولون إنه هاجم القساوسة لأنهم أبعدوه عن الكنيسة، ويدافع عن حق إباحة الطلاق لما صادف في زواجه من خيبة، ويغضب على البرسبتيرينز وينعتهم بضيق العقل لأنهم لم يقروه على ما ذهب إليه في أمر الطلاق ويدعو إلى حرية النشر لأنهم أرادوا أن يخنقوا كتبه. . .

وليس في وسعنا أن ننكر تلك الدوافع الشخصية التي يشير إليها هؤلاء النقاد، فإن شدة شعور ملتن بذاته من أبرز مقومات شخصيته منذ نشأته وأكثر تصرفاته إنما تتم بدافع من ذلك الشعور، ما في ذلك ريب، ولكنا لا نفهم كيف ينتقص ذلك من قدره وكيف يعد عليه ولا يعد له؟

هذا رجل يرى حياته وحياة غيره بالضرورة محفوفة بقيود من القانون والعرف، فيأبى على القيد ويثور لا يريد أن يهدأ حتى يقضي على ما استرق الناس من عباداتهم ومما جرى به العرف بينهم ومما وضعت القوانين من الأغلال في أعناقهم، فماذا يدل عليه ذلك إن لم يدل على شخصية قوية ونفس أبية وضمير حر؟

وهل جاهد ما جاهد في غير عدو؟ ألم يكن على حق فيما أنكر من عيوب عصره؟ إن كانت تلك العيوب قائمة حقاً فلا يمكن أن يقال إن أهواءه ومطالب نفسه هي التي سيطرت على فكره؛ فلا يبقى إلا أن دوافع شخصية حركته وهذا إنما يدل على أنه أحس قبل أن

ص: 28

يحس غيره بضرورة الإصلاح، وأن الوضع الاجتماعي في كماله المنشود إنما يقاس مبلغ كماله بمقدار ما فيه مما يشاكل كمال نفسه وتلك تتخاذل دونها الغايات.

وهل كان يستطيع أن يغمض العين غير مساوئ عصره لو لم تحركه دوافع شخصية إلى استنكارها؟ ذلك ما لا يستطيع أحد أن يقوله، ولا هو مما يجوز في عقل عاقل إلا على أوزاع الناس والهمج منهم، ولقد كان ذلك الشاعر القوي الروح العظيم الثقافة مطبوعا على حب الحرية وعلى الجهر بما يؤمن أنه الحق، ومن أجل ذلك كانت نفسه ثورة متصلة الحلقات منذ أن عصى أباه وهو صغير إذ أراد يسلكه في سلك الدين بإلحاقه بالكنيسة وأبى إلا أن يهب للشعر نفسه، ومنذ أن كان يتأبى على قيود عرفية في الجامعة وينكر على الجامدين فيها جمودهم، إلى أن جاهر الإيطاليين بمخالفته إياهم في فطرتهم الدينية على الرغم مما حذِّر به وليسوا قومه، إلى أن أذن القساوسة في وطنه بحرب منه، كلُّ أولئك لأن نفسه تأبى إقرار الباطل ولا ترضى بغير الحق. . .

ولا يسع كلُّ منصف إلا القول بأن ما يشير إليه بعض الناس من دوافع شخصية إنما هو دليل على سلامة عنصره ونبل نفسه وسمو روحه.

(يتبع)

الخفيف

ص: 29

‌ديوان الطرائف:

سبط ابن التعاويذي

للأستاذ أحمد عثمان عبد المجيد

هو أبو الفتح محمد بن عبيد الله، وينسب إلى ابن التعاويذي جده لأمه لأنه نشأ في كنفه وحياطته، وكان جده هذا زاهداً تقياً ومحدثاً صالحاً.

وقد ورث أبو الفتح عن جده الرغبة في الدرس والتعلق بأسباب الثقافة، فأقبل على النظر في كتب اللغة والأدب، يسعده طبع أصيل، وتمده ملكة مرهفة، حتى بالبراعة في الكتابة والحسابة، وجلى في ميدان الشعر، فجمع فيه بين جزالة اللفظ وعذوبته، ورقة المعنى ودقته. وفية يقول ابن خلكان: إنه لم يكن قبله بمأتي سنة من يضاهيه. وكأنما خاف أن يتهم بالمبالغة والتزيد فأردف حكمة بقولة: ولا يؤاخذني من يقف على هذا الفصل، فإن ذلك يختلف بميل الطباع، ولله در القائل: وللناس فيما يعشقون مذاهب.

وقد تأثر أبو الفتح في نثر طريقة ابن العميد القائمة على العناية بالتصنيع والتزيين، وصرف الجهد إلى تكلف وجوه البديع.

ولقد فتن كتاب الدواوين جميعاً بهذه الطريقة منذ أنهجها لهم أستاذهم ابن العميد، وأغرقوا من بعده في تصيد المحسنات، فجنوا على المعنى، وتحيفوا الفكرة رغبة في تجويد الصورة وتجميلها فخرجوا على الناس حينا بنثر مرقش ليس وراءه كبير معنى ولا جليل غرض؛ وحينا بنثر كز منقبض لا يفصح عن مراد ولا يهدي إلى قصد، إذ جنى البديع عليه فأغمضه وأزال وضوحه وأوقع قارئه في عملية. وحسبك أن ترسل طرفك في كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي للعماد الأصفهاني صديق سبط ابن التعاويذي لترى الغرابة والاستبهام والكزازة.

وقد أورد العماد في كتابه جريدة القصر وجريدة العصر طائفة من الرسائل التي تلقاها من ابن التعاويذي، وفيها يتحرى الطريقة البديعية، ويلتزم نهجها

ولقد ولى الكتابة بديوان الإقطاع ببغداد لبراعته في الحسابة والإنشاء، وأنقطع إلى آل الرفيل وكان ولاؤه فيهم، يمدحهم ويستمنحهم، وكانوا سادة ذوي نفوذ وسلطان، وقد ولي الوزارة منهم عضد الدين أبو الفرج للخليفة المستضيئ. وفيه يقول الفخري: كان من

ص: 30

أفاضل الناس وأعيانهم، نهض بأعباء الوزارة نهوضاً مرضياً، وتلطف بالأمور تلطفاً لم يكن في حساب الناس وبيته بيت مشهور بالرياسة.

ويبدو أن ابن التعاويذي قد أنفق جل عمره مع آل الرفيل يحمد لهم إقبالهم على بره وإنعاشه. فإن أحس منهم إغفالا له واطراحا لما ألزمهم من حقه جاهر بلومهم والإنكار عليهم. وفيهم يقول:

قضيت شطر العمر في مدحكم

ظنا بكم أنكم أهله

وعدت أفنيه هجاء لكم

فضاع فيكم عُمُري كله

وهذا قول قاس، يدل على أن شعراء المدح والاستمناح ما كان يردعهم عن التدلي إلى المجاهرة بالهجاء سالف معروف، ولا سابق مبرة. وأنهم إن أعطوا منهم رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون.

ولعل نهم ابن التعاويذي بالمال كان يدفعه إلى مدح غيرهم، ولعلهم نقموا منه ذلك وأنكروه عليه لأنه إن دل على شيء فإنما يدل على أن صنائعهم إليه لا تنهض بحاجاته، ولا تفي برغائبه. فقال يعتذر مسجلاً في صراحة أنه كخماص الطير تجتذبه الجدوى كما يقنصها الحب، وهو بهذا يستفيد من قول المتقدم:

يسقط الطير حيث ينتثر الحب

وتغشى منازل الكرماء

قال:

وما زلت في آل الرفيل بمعزل

عن الجور مبذولاً لي الخصب

فإن أقترف ذنباً بمدح سواهم

فإن خماص الطير يقنصها الحب

وإن عاد لي عطف الوزير محمد

فقد أكثب النائي، ولان لي الصعب

وزير إذا اعتل الزمان فرأيه

هناء به تطلي خلائقه الجرب

ولقد دفعته صلته بآل الرفيل إلى أن يناصب الوزير ابن البلدي العداء، وأن يهجوه حين عزل أرباب الدواوين واشتد عليهم بالمصادرة والعقاب. وكان بين عضد الدين الرفيلي وابن البلدي جفاء ما فتئ يتفاقم حتى حمل عضد الدين على أن يدبر لقتل الوزير وتم له ذلك، ووثب من بعده على الوزارة. وفي ابن البلدي يقول ابن التعاويذي:

يا قاصداً بغداد، حد عن بلدة

للجور فيها زخرة وعباب

ص: 31

إن كنت طالب حاجة فارجع فقد

سدت على الراجي بها الأبواب

بادت وأهلوها معا، فبيوتهم

ببقاء مولانا الوزير خراب

وفيه يقول أيضاً: -

يا رب أشكو إليك ضراً

أنت على كشفه قدير

أليس صرنا إلى زمان

فيه أبو جعفر وزير؟

وما زال ابن التعاويذي قائماً بالعمل في ديوان الإقطاع حتى ذهب بصره، فأعتزله وله في عماه أشعار كثيرة يرثي بها عينيه ويندب الشباب ورونقه، فيستدر بها الإشفاق ويستدعي أبلغ العطف وأعمقه. ومنها:

لقد رمتني - رميت بالأذى -

بنكبة قاصمة الظهر

وأوترت في مقلة، قلما

علمتها باتت على وتر

جوهرة كنت ضنينا بها

نفيسة القيمة والقدر

إن أنا لم أبكِ عليها دما

فضلا عن الدمع، فما عذري؟

مالي لا أبكي على فقدها

بكاء خنساء على صخر؟

وأنت تتمثل في هذه الأبيات حر اللوعة، ولذع الفاجعة في الاعتراض بقوله رميت بالأذى، وفي الكناية عما كرثه بقوله قاصمة الظهر، وفي مغالاته بمقلته فلم تكن لتنام على وتر، وفي إنكاره أن يكون له عذر إن يبكها دما، ومنها:

فها أنا كالمقبور في كسر منزلي

سواء صباحي عنده ومسائي

يرق ويبكي حاسدي لي رحمة

وبعداً لها من رقة وبكاء

وقد جاء في عبارة ابن خلكان نعته إياه بالعمق في معانيه. وإليك أمثلة من براعته في التوليد: قال في الشيخوخة:

من شبه العمر بالكأس يرسو

قذاه، ويرسب في أسفله

فإني رأيت القذى طافيا

على صفحة الكأس من أوله

وقال فيها أيضاً:

وعلو السن قد كسر

بالشيب نشاطي

كيف سموه علوا

وهو أخذ في انحطاط؟

ص: 32

ولم أكره بياض الشيب إلا

لأن العيب يظهر في النهار

ولما عمى التمس أن يقيد ماله من راتب بالديوان بأسماء أولاده ثقة منه بأن يجد في ذراهم براً به ما امتدت له الحياة، وتعجيلاً لسوق النفع إليهم، ورفعا لأسباب التباغض من بينهم فلما تم النقل والتقييد كتب قصيدة ورفعها إلى الخليفة الناصر يلتمس فيها تجديد راتب له مدة حياته لما جر به من عقوق أولاده. وقد أبدع فيها تصوير عقوقهم، واحتجانهم الراتب من دونه، وإهمالهم أمره، وكان الناصر من أفاضل الخلفاء، بصيراً بليغاً، متوقد الذكاء والفطنة، غير مدافع عن فضيلة علم، ولا نادرة فهم، يفاوض العلماء مفاوضة خبير، فلما وقف عليها ملكت نفسه لعذوبتها ورقتها، وما يثيره موضوعها من إشفاق ومرحمة، وما افتتحها به من مدح جميل، فأنعم عليه براتب جديد ومطلعها:

خليفة الله أنت بالدين والدنيا،

وأمر الإسلام مضطلع

ومضى يمدح الخليفة بانتهاجه نهج أعلام الهدى، وما أفاضه على الناس من عدل وخير، وما أزاله من أسباب الخلاف والبدع، ثم قال:

أرضى قد أجذبت، وليس لمن

أجذب يوماً سواك منتجع

ولي عيال، ودر درهم

قد أكلوا دهرهم، وما شبعوا

إذا رأوني ذا ثروة جلسوا

حولي، ومالوا إلى واجتمعوا

ولي عيال، لا در درهم

قد أكلوا دهرهم، وما شبعوا

إذا رأوني ذا ثروة جلسوا

حولي، ومالوا إلي واجتمعوا

وطالما قطعوا حبالي إع

راضا إذا لم تكن معي قطع

يمشون حولي شتى كأنهم

عقارب، كلما سعوا لسعوا

ثم قال:

لهم حلوق تفضي إلى معد

تحمل في الأكل فوق ما تسع

من كلُّ رحب المعاء، أجوف نا

ري الحشا لا يمسه شبع

لا يحسن المضغ فهو يطرح في

فيه بلا كلفة ويبتلع

ولي حديث يلهي ويعجب من

يوسع لي خلقه فيستمع

نقلت رسمي جهلاً إلى ولد

لست بهم ما حييت أنتفع

ص: 33

نظرت في نفعهم وما أنا في اج

تلاب نفع الأولاد مبتدع

وقلت هذا بعدي يكون لكم

فما أطاعوا أمري ولا سمعوا

واختلسوه مني، فما تركوا

عيني عليه، ولا يدي تقع

ثم قال:

فاستأنفوا لي رسما أعود على

ضنك معاشي به فيتسع

وإن زعمتم أني أتيت بها

خديعة فالكريم ينخدع

ولا تطيعوا معي، فلست ولو

دفعتموني بالراح أندفع

وحلفوني ألا تعود يدي

ترفع في نقله ولا تضع

يقول ابن خلكان: فما ألطف ما توصل به إلى بلوغ مقصودة بهذه الأبيات التي لو مرت بالجماد لاستمالته وعطفته.

وبعد فإن في هذه القصيدة الطريفة ائتلافاً واضحاً، ورقة وانسجاماً، وتصويراً بارعاً للعقوق يهز النفس ألماً وحزناً، ويمزق القلب أسى وحسرة. وإن الدنيا لحافلة في تصرفها بالناس بأشباه هذا الحادث.

فإن قيل إن الشاعر قد نحل أبناءه هذا العقوق ليملك من نفس الخليفة، ويضمن انخداعه، والكريم ينخدع، فيرجع براتب آخر - قلت: لقد جلا عن قدرته على التمويه، وبرع مع تعود لاعتقاد عن مناصرته، وشعور الشاعر بأنه يترجم عن اعتقاد من أقوى أسباب إجادته وإتقانه.

وقد اذكرني موقف أبناء ابن التعاويذي منه بما قرأته عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان من أبر الناس بأمه فقد قيل له: إنك لشديد البر بأمك، فلم لا تأكل معها من صحفة واحدة؟ قال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. فأين هذا البر من ذاك العقوق؟

رحم الله آل البيت، فما كانوا في الناس إلا أقباساً ساطعة من نور النبي الأعظم.

وفي الشاعر يقول ياقوت: وكل شعره غرر، وديوانه كبير جمعه بنفسه قبل أن يضر، وما حدث من شعره بعد العمى سماه الزيادات. وولد سنة 519، وتوفي في بغداد سنة 583هـ وقد طبع الديوان بمصر في مفتتح هذا القرن بعناية الأستاذ مرجليوث، ولكنه اليوم عزيز

ص: 34

لا يكاد يكون في دكاكين الوراقين.

أحمد عثمان عبد المجيد

ص: 35

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

848 -

الفقير والغني

أبو بكر الخوارزمي

إن الفقير خفيف الظهر من كلُّ حق، منفك الرقبة من كلُّ رق، لا يلزمه أداء الزكاة، ولا تتوجه إليه غوائل النائبات، ولا يستبطئه إخوانه، ولا تطمع فيه جيرانه. ولا تنتظر في الفطر صدقته، ولا في النحر أضحيته، ولا في شهر رمضان مائدته، ولا في الربيع باكورته، ولا في الخريف فاكهته، ولا في وقت الجباية خراجه وعشره، فإنما هو مسجد يحمل إليه، ولا يحمل عليه، وعلوي يؤخذ بيديه، ولا يؤخذ من يديه، يتجنبه الشرطي بالنهار، ويتوقاه العسس بالليل وفي الأسحار، فهو إما غانم أو سالم. والغني إنما هو كالغنم غنيمة كلُّ يد سالبة، وصيد كلُّ نفس طالبة، وطبق موضوع على شارعه النوائب، ومنصوب على مدرجة المطالب، تطمع فيه الإخوان، ويأخذ منه السلطان، ويتطرق إليه الحدثان، ويتحيف ماله النقصان. . .

849 -

العقل

شرح (أدب الكتاب) لموهوب الجواليقي:

. . . عن محمد بن المزربان عن شيخ له قال: قال الأصمعي: كانت العرب تقول: من كانت فيه خصلة أحمد من عقله فبالحرى أن تكون سبب هلاكه.

فحفظت الحديث، فحدثت به المدائني، فقال: هذا حديث حسن، وعندي آخر يشبهه، كانت العرب تقول: من لم يكن عقله من أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه.

فحفظت الحديثين، فحدثت بهما أحمد بن يوسف فقال: هذان حديثان حسنان، وعندي آخر يشبههما: كانت العرب تقول: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان سريعاً إلى حتفه.

فحفظت الأحاديث، فحدثت بها أبا دلف فقال: هذه أحاديث حسان، وعندي حديث أحسن منها غير أنه لا يشبهها، كانت العرب تقول: كلُّ شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا

ص: 36

كثر غلا.

فحفظت الأحاديث فحدثت بها الحسين بن علي الكوكبي فقال: كان الحسن يقول: ما تم دين رجل حتى يتم عقله.

وبعد، فقد قال ابن السماك: من لم يتحرز من عقله بعقله هلك من قبل عقله.

850 -

العاقل يعلو على همه وحزنه

إرشاد الأريب: قال أبو حيان:

كان يختلف إلى مجلس أبي سعيد (السيرافي) على بن المستنير، وكان أبو سعيد يعرف له تقدمه على كثير من أصحابه، وكان يرجع إلى وطأة خلق، وحسن عشرة، وحلاوة كلام، وفقر مدقع ومعيشة ضيقة وكثرة عيال ومؤنه مع نشاط القلب، وثبات النفس، وطلاقة الوجه، وكثرة المرح. وقرأ يوما على أبي سعيد ديوان المرقش، وأخذ خطه بذلك، وعجل الانصراف من عنده، فقال أبو سعيد: أين عزمت؟ قال: أذهب لأصلح أمر العيال. فدعا له بالرزق والسعة. فلما انصرف قلنا له: هذا الرجل مع ما هو فيه لا يعرف الحزن في وجهه، ولا يشتد همه، ويقدر على دفعه. فالتفت بعضهم فقال: أيها الشيخ، وراءه حال يخفيها عنا، ويطويها منا.

قال (أبو سعيد):

ما أظن الأمر على ذلك، لكن الرجل عاقل، والعاقل يعلو على همه وحزنه فيقهرهما بعقله وعلمه، والجاهل يشتد همه وحزنه، ويرى ذلك في وجهه، ولا يقدر على دفعه لجهله.

فاستحسنا ذلك وأثبتناه.

851 -

أوادم

في (اللزوميات):

وما آدم في مذهب العقل واحدا

ولكنه عند القياس أوادم

جائز أن يكون آدم هذا

قبله آدمْ على إثر آدم

في (روح المعاني) تفسير الألوسي:

ذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر أن الله خلق قبل أبينا آدم

ص: 37

ثلاثين آدم، بين كلُّ آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق آدم.

وروى ابن بابوية في كتاب التوحيد عن الصادق: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم، أنتم في آخر أولئك الآدميين.

في (مفاتيح الغيب) تفسير الرازي:

نقل في كتب الشيعة عن محمد بن على الباقر عليه السلام أنه قال: قد انقضى آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر. في (الفتوحات المكية) لابن عربي:

لقد أراني فيما يرى النائم وأنا طائف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم، فأنشدني بيتين ثبت على البيت الواحد، ومضى عني الآخر، فكان الذي ثبت على من ذلك:

لقد طفنا كما طفتم سنينا

بهذا البيت طرا اجمعينا

فتعجبت من ذلك. فقال لي واحد منهم وتسمى لي باسم لا أعرف ذلك الاسم قال لي: أنا من أجدادك، قلت له كم لك مذ مت؟ قال: بضع وأربعون ألف سنة. فقلت له: فما لآدم هذا القدر من السنين. فقال لي: عن أي آدم تقول؟ عن هذا الأقرب إليك أو عن غيره. فتذكرت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق مئة ألف آدم. فقلت قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك.

802 -

الحوائج بين إمامين

في (المخصص) لابن سيدة:

قال محمد بن يزيد: (أما قولهم في حاجة حوائج فليس من كلام العرب على كثرته على ألسن المولدين، ولا قياس له) وهو في هذا القول متبع الأصمعي لأن لأصمعي قال: خرجت الحوائج عن القياس فردها، وقد غلطا معا، على أن الأصمعي رجع عن هذا القول فيما حكى عنه ابن أخيه والرياشي، وذكرا أنه قال: هي جمع حائجة. وقال أبو عمر: في نفسي منه حاجة وحائجة وحوجاء والجمع حاجات وحوائج وحاج وحوج وأنشد:

صديقي مدام ما يفرق بيننا

حوائج من إلفاج مال ولا بخل

وأنشد أبو عبيده للشماخ:

ص: 38

تقطع بيننا الحاجات إلا

حوائج يعتسفن مدى الجريِّ

وأنشد غيره في نحو منه:

يا رب رب القلص النواعج

مستعجلات بذوي الحوائج

ولو تشاغل أبو العباس بملح الأشعار ونتف الأخبار وما يعرفه من النحو كان خيراً له من القطع على كلام العرب، وأن يقول: ليس هذا من كلامهم. فلهذا رجال غيره، ويا ليتهم يسلمون أيضاً.

853 -

أن أمالت عليّ عطفاً وجيراً

الطغرائي:

خبروها أني مرضت فقالت

أضنى طارفاً شكاً أم تليداً

وأشاروا بأن تعود وسادي

فأبت - وهي تشتهي - أن تعودا

وأتتني في خيفة وهي تشكو

ألم الوجد والمزار البعيدا

ورأتني كذا فلم تتمالك

أن أمالت على عطفاً وجيدا

854 -

أعمى، ومفلوج، وأقطع

اجتمع على شراب في بعض الحانات أعمى ومفلوج وأقطع فقيل للأعمى: غن، فغنى:

إني رأيت عشية النّفْرِ

حورا نفين عزيمة الصبر

فقيل: ويلك كيف رأيت وأنت أعمى؟ وقيل للمفلوج: غن فقال:

إذا أشتد شوقي وهاج الألم

عدوت على بابكم في الظلم

فقيل: مفلوج يعدو! لا تكذب. وقيل للأقطع: هات غن، فقال:

شبكت كفي على رأسي وقلت له

يا راهب الدير هل مرت بك الإبل

فقالوا: أنت أكذبنا وأجودنا غناء. . .

855 -

وما يفيدني إذا حزنت؟

إرشاد الأريب: عبد الوهاب بن غالب عن الشريف أبي العلاء ابن التقي قال: قدم إلى واسط في بعض الأعوام عسكر الأعاجم، فنهبوا قطعة من البلد، ونهبوا دكان الشيخ أبي على بن مختار، ونزلوا بداره، قال الشريف فدخلت معه إليهم نستعطفهم أن يردوا عليه

ص: 39

بعض ما أخذوه منه، فلم نر لذلك وجهاً، وخرجنا وهو يقول:

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجر عوالينا ومجرى السوابق

ثم التفت إلى فقال: ما العامل في الظرف في هذا البيت؟ فقلت له: يا سيدي، ما شغلك ما أنت فيه عن النحو والنظر فيه؟ فقال: يا بني، وما يفيدني إذا حزنت؟. .

ص: 40

‌حول كتب الوفيات:

عود على بدء

للأستاذ أحمد الشرباصي

كنت قد نبهت أخي الأديب الأستاذ وديع فلسطين على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء إلى أن كتاب (وفيات الأعيان) ليس كما يظن ويقول - كتاباً مقصوراً على ذكر وفيات المشهورين من الرجال، بل هو كتاب تاريخ جامع، فيه أخبار وأشعار، وحوادث وقصص؛ ولما نشرت هذه الكلمة لقيني أخي الأستاذ علي محمد حسن المدرس بالأزهر الشريف فحادثني عن هذه الكلمة، ثم ذكر أنه سمع بأن هناك كتاباً أسمه (وفيات الأعيان) غير كتاب ابن خلكان، وقد اقتصر صاحبه على ذكر وفيات من عرف من الرجال، وأن هذا الكتاب موجود بدار الكتب المصرية بالقاهرة. . .!

شغلني هذا الموضوع، فعجلت بالذهاب إلى الدار، وأخذت أراجع فهارس كتبها المخطوطة والمطبوعة لأستنبئها عما فيها من كتب تسمى بالاسم المذكور أو تقاربه؛ فوجدت فيها كتاب (وفيات الأعيان) لابن خلكان، وهو أشهر من أن يعرف؛ ووجدت فيها كتاب (فوات الوفيات) لمحمد بن شاكر بن أحمد الكتبي المتوفى سنة 764هـ؛ وهو كتاب متوسط، يقع في مجادين مطبوع بالمطبعة لأميرية ببولاق، في عهد الخديوي إسماعيل باشا سنة 1283هـ؛ وأنتهز هذه الفرصة لأقول إن هذه الطبعة مملوءة بالتحريفات والتصحيفات والأخطاء المطبعية مما تقذى منه العين، ويضج له المطابع على الرغم من أن الطابع أحصى في أول كلُّ مجلد منهما جانباً كبيراً جداً من الأخطاء والغلطات المهمات، وترك الباقي لفطنه القارئ الأديب اللبيب كما يقول. . .!

وكتاب الوفيات للكتبي يعتبر كتذييل أو تتميم لوفيات ابن خلكان؛ وقد أوجز المؤلف عمله في كتابه، ومجهوده في مؤلفه في المقدمة الطويلة التي قال فيها بعد البسملة والحمدلة والصلاة على الرسول والآل:

(وبعد، فإن علم التاريخ مرآة الزمان لمن تدبر، ومشكاة أنور يطلع بها على تجارب الأمم من أمعن النظر وتفكر، وكنت ممن أكثر لكتبه المطالعة، واستجلى من فوائده المراجعة، فلما وقفت على كتاب (وفيات الأعيان) لقاضي القضاة ابن خلكان قدس الله روحة - روحه

ص: 41

وجدته من أحسنها وضعاً، لما اشتمل عليه من الفوائد الغزيرة، والمحاسن الكثيرة، غير أنه لم يذكر أحدا ًمن الخلفاء، ورأيته قد أخل بتراجم فضلاء زمانه، وجمع ممن تقدم على أوانه، ولم أعلم أذلك ذهول عنهم، أم لم يقع له ترجمة أحد منهم، فأحببت أن أجمع كتاباً يتضمن ذكر من لم يذكره من الأئمة الخلفاء والسادة الفضلاء، وأذيل من وفاته إلى الآن، فاستخرت الله تعالى، فانشرح لذلك صدري وتوكلت عليه وفوضت إليه أمري، وسميته بـ (فوات الوفيات)؛ والله تعلى المسئول أن يوفق في القول والعمل. وأن يتجاوز عن هفوات الخطأ والزلل).

ثم أخذت أقلب بين يدي صفحات (الفوات) فإذا أنا أقع في نهايته على نص مهم لمصححه الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، إذ أن هذا النص قد تحدث عن كثير من الكتب التي ألفت في الوفيات كتذييل لكتب سابقة أو تعليق على مؤلفات متقدمة، وقد كفاني هذا النص مئونة البحث والتنقيب عما تحدث عنه من كتب؛ قال:

(وأعلم أن الوفيات قد أشتمل على 846 ترجمة، وذيل عليه عبد الباقي المخزومي المكي المتوفى سنة 843؛ كما تقدم في هذا الكتاب؛ بنحو ثلاثين ترجمة؛ وكذا ذيل حسن بن أيبك المتوفى بالتاريخ المذكور؛ وذيل عليه عبد الباقي الشيخ زين الدين عبد الرحيم العراقي المتوفى 806؛ وأما هذا الفوات فإنه أشتمل على 572 ترجمة، منها نحو ست تراجم أو سبعة مذكورة في الوفيات فليست من الفوات كما يعرفه من استقصى فهارس الكتابين؟ وأما كتاب الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي الذي انتهى فيه إلى آخر سنة 760 قبل وفاته بأربع سنين فإني كنت أتوهم أنه ذيل آخر للوفيات غير موجود بمصر، حتى كتبت ذلك ببعض الهوامش بناء على هذا التوهم، إلى أن رأيت في كشف الظنون أنه كتاب حافل جمع فيه تراجم الأعيان ونجباء الزمان، ممن وقع عليه اختياره، فلم يغادر أحداً من أعيان الصحابة والتابعين والملوك والأمراء والقضاة والعمال والقراء والمحدثين والفقهاء والمشايخ والأولياء والصلحاء والنحاة والأدباء والشعراء والأطباء والحكماء وأصحاب الملل والنحل والبدع والآراء وأعيان كلُّ فن ممن اشهر أو أتقن إلا ذكره؛ إلى أن قال في (الكشف): فازداد النفع به للمحدث والأديب)!.

وظاهرة من عبارة الشيخ نصر الهوريني أن هذه الكتب التي ذكرها ليست مقصورة على

ص: 42

ذكر (وفيات) فقط؛ أما فيما يتعلق بكتاب الصفدي فواضح بعد ما عرفناه من حديث كشف الظنون عنه؛ وأما فيما يتعلق بالكتب الباقية فلأنها تذييل لوفيات الأعيان، فتكون على طريقته: وقد عرفنا من قبل طريقة ابن خلكان في الترجمة والتاريخ.

فلنواصل البحث إذن في فهارس الدار، علنا نجد ذلك الكتاب الذي سمع به ذلك الزميل. . .! هاأنذا أجد أخيراً كتاباَ أسمه (الوفيات) لمن يسمى تقي الدين محمد بن هجرس بن رافع المولود سنة 704؛ فلعله الكتاب المنشود، ولعلى أفوز بعد طول العناء بالمقصود. . .

طلبت الكتاب للاطلاع عليه في قاعة المطالعة بالدار (وهو مخطوط) فلم أوفق لتحقيق ذلك، لأن المشرفين على دار الكتب في هذا الميدان لا يحسنون معاملة المطالعين، فتارة يقال لي: وضح الجزء المطلوب!. وتارة يقال لي: إن الكتاب لدى حضرات موظفي الدار!. وتارة يقال إن الكتاب في الخارج. . .! وأخيراً قيل لي بعد أن استعنت بموظف في الدار: إنه موجود في المغارة. . .!

فلم أجد أمامي إلا أعود إلى الفهرس المفصل المطبوع، علّي أجد فيه تلخيصاً لطريقة الكتاب؛ وفعلا وجدت هذا التلخيص، وقد جاء فيه، تحت عنوان:(الوفيات) برقم (126م) ما يلي:

(تأليف تقي الدين محمد بن هجرس بن رافع، المولود في شهر ذي القعدة سنة 704؛ المتوفى في اليوم الثاني عشر من شهر جمادى الأولى، وقيل في اليوم الرابع عشر من جمادى الآخرة من السنة المتقدمة (؟) بدمشق؛ وهو ذيل على تاريخ الحافظ أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف الملقب علم الدين البرزالي الشافعي الدمشقي المولود في شهر جمادى الأولى سنة 665؛ في العشر الأخيرة من ذي القعدة، أو في اليوم الرابع من شهر ذي الحجة سنة 739 حينما كان محرماً بالحج. . . انتهى البرزالي في تاريخه إلى آخر سنة 736 وابتدأ المؤلف ذيله من سنة 737 وانتهى فيه إلى سنة 773هـ، وفي آخره ترجمة الفيروزابادي وترجمة تمربغا، نقلاً عن المورد الصافي، لابن تغرى بردى؛ نسخة من مجلد، مخطوطة، بقلم معتاد، منقولة من خط الحافظ الشهير بابن ناصر الدين، وقولبت عليه). . .!

إذن ليس هذا الكتاب أيضاً مقصوراً على ذكر الوفيات، بل فيه تراجم وتواريخ؛ وقد وقفت

ص: 43

فهارس الدار التي بين يدي عند هذا الحد، فأين إذن ذلك الكتاب الذي سمع به ذلك الصديق، والذي يؤكد وجوده ويقول إنه لم يذكر فيه إلا وفيات الأعيان من الرجال؟. . . (وفوق كلُّ ذي علم عليم)؛ ولذلك وشك رأيت أن أكتب هذه الكلمة على صفحات الرسالة الغراء عله يوجد بين قرائها من يعرف شيئاً عن هذا الكتاب المنشود، فينبئنا بخيره، ويقص علينا طرفاً من أمره، والحقيقة بنت البحث.

أحمد الشرباصي

المدرس بالأزهر الشريف

ص: 44

‌صفحة مطوية من الأناشيد القومية:

اذكروا. . .

للأستاذ عبد الرحمن صدقي

يا بَني النيل وأحْفاد الأُولى

أطْلعوا الفجْرَ على الكوْن القديمْ

رفعوا الأهرام رمزاً للعُلا

والبرايا في كُهوفٍ وهشيم

اذكُروا أن ثَرَى هذا البلدْ

من تجاليد الجدودِ العُظَماءْ

لا َتَطْئها أرجل العادي الأَلْد

وبِكم أبناَءهم بعضُ الذَّماء

تُرْبُها التُبَرُ المُصفَّى المنتَقَد

لا الذي يَقنِي الشِّحاحُ الأدْنياء

فامنعوا كَنْزَكمُ أن يُبذلا

أو فَعيشوا عُمرَكم عيش عديم

لن تروا في الأرض عنه بدلا

ما لكم كنزٌ سوى هذا الأديم

اذكروا أنّ عليكم واجباً

لِبَنِينا في بطون العُصُرِ

فاحفظوا هذا التراث الواصبا

فهو حَقُّ الوارِثِ المنتَظَر

نتقاضى الإرْثَ عصراً ذاهباً

فلنصنْهُ للعصورِ الأُخر

سنؤديه إليهم أكملا

لم يغيّرْهُ زمانٌ أو خَصيم

فحِمى مِصرَ تَحاماهُ البِلى

وبنوها خيْرُ من يَحمى الحريم

اذكروا حاضركم كيف يُقام

ليس يُغْنينا تليدُ القدماء

ما التماثيل المهيبات الجِسَام

وأبو الهَول رهينُ الصَّحراء!

ما المسلاتُ على بابِ الرِّجام

والنَّواويسُ وفيها المومياء!

ما عظيمٌ في التواريخ خلا

في ثنايا حاضرٍ غيرِ عظيم

فاجعلوا عهد العلا مُتصَّلا

كاتساق الُدرِّ في العِقدِ النَّظيم

اذكروا مهما بلغتم سؤْددا

أنكم لم تبْلُغوا أَوْجَ الكمال

ابعِدوا فوقَ المنالِ المْقصِدا

فبنوا الشمسِ لهم أقصى المنال

كم عبدنا قُرْصَها المتَّقِدا

فاتقدنا في جهادٍ ونضال

نبْتني الهيكل يلتو الهيكلا

خالداً قي ساحة الرمل مقيم

وسيْبقَى موطن الشمس إلى

يومك لا يبقى لها قُرصٌ ضريم

ص: 45

اذكروا أن التفانِي والغِلابْ

في سبيل المثلِ الأعلى البعيد

نفَثا فيكم أن وانتم من تراب

شُعلةً غراء من معنى الخلود

شعلة تجلو عن الحق الحجاب

وتصَفَّي التنفسَ من رِجسِ الوجود

فاضرموا في النفس هذِي الشُّعلا

أضرِموها تكفُلوا الفوزَ العميم

ِمثْلَما أُضرِمت النارُ علَى

مَذبح الرَّبِ بمحراب كريم

اذكروا ذلك وامضوا قُدُما

لا تكن وُجَهتُنا غَير الأَمام

تَزْدجِينا دَقَّةُ القلبِ كما

يُقرَع الطبلُ لجرَّارٍ لُهام

َفُنسيغُ الموت صَوْتاً للحِمَى

ونُذيلُ العُمرَ سعياً واعتِزام

فبِحقٍ نحن أحْفادُ الآلي

أطْلَعوا الفجر على الكونِ القديم

رفعوا الأهرامَ رمزاً للعُلا

لا يُداني شأوَه غير النجوم

ص: 46

‌البريد الأدبي

وفاة الكاتب الإنجليزي هـ. ج ويلز:

توفي بعد ظهر اليوم الثالث عشر من أغسطس الكاتب الإنجليزي الألمعي هـ. ج ويلز عن 79 عاماً قضاها في خدمة الفكر البشري يفكر للقادة ويكتب للناس ويعمل للأدب، ويكشف لركب الخليقة مجاهل الطريق ومعامي المستقبل؛ حتى أضاف للثروة الأدبية العالمية محصولا من الإنتاج الممتاز في السياسة والتاريخ والقصص يتسم بالبحث العميق والنظر البعيد والألمعية الصادقة. نشأ ويلز نشأة متواضعة وكان بعد أن ترك المدرسة صبياً يتاجر أقمشة ثم مساعدة الصيدلي ثم وكيلاً لإحدى المدارس الأهلية. وكان من أفور كتاب عصره إنتاجاً وأذيعهم شهرة وأكثرهم قراء حتى بيع من كتابه (معالم التاريخ) مليون ونصف مليون نسخة. وقد انتابه في سنينه الأخيرة مرض الديابيطس واعتراه ضرب من الهم على مصير العالم ومستقبل السلام. وقد تنبأ بالقنبلة الذرية في كتابه الذي أصدره في عام 1914 بعنوان (العام صار حراً)، وقد عاش حتى رآها تخرب المدن وتهدد الحضارة. وفي بعض أعداد الرسالة من هذه السنة فصل عن أدبه يفيدك أن تراجع إليه.

معجم ألفاظ القرآن الكريم:

ألفت لجنة من بعض أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية لوضع معجم لألفاظ القرآن الكريم مفسرة تفسيراً يجمع بين الدقة والوضوح، واللجنة مؤلفة من فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر والدكتور حسين هيكل باشا وعلى الجارم بك والشيخ محمد الخضر حسين والشيخ إبراهيم حمروش. وقد اختار هؤلاء الأعضاء مساعدين لهم من بين المشتغلين باللغة والأدب من أساتذة الجامعة ودار العلوم والأزهر، ومحرري المجمع.

مطبوعات المجمع اللغوي:

وافقت الجهات المختصة على صرف كميات من الورق لمجمع فؤاد الأول للغة العربية، وسيشرع المجمع في طبع مجلته ومجموعات محاضره التي تطلعت عن الظهور منذ عام 1939.

ومما يذكر أن المجمع لم يصدر من مجلته إلا أربعة أجزاء ولم يصدر من محاضر

ص: 47

مؤتمراته إلا أربع دورات مع أنه أتم الآن اثنتي عشرة دورة.

وقد أعد المجمع فعلاً الجزء الخامس من المجلة وينتظر أن يصدر في أول السنة المقبلة.

علم الاجتماع الديني:

(قل ما شئت من خير في الأدب العربي الحديث، وسمه كيف شئت. فهو أدب عالمي، وهو أدب حي. وإنك لتجد فيه شعراً غزير المادة وخيالاً خصباً في عنفه ولطفه، وإنك لتجد فيه قصصاً جذابة صادقة الإحساس جميلة التصوير.

(ولك أن تطلق على ثقافتنا ما يروقك من النعوت. ولك أن تحلي جيدها بما يعجبك من جميل الألقاب. فإنك لتقرأ فيها من الانتقاد دقيقة وتصيب من الفن جليلة.

(لك ما تشاء، ولكن، ناشدتك المولى، لا تنعت أدبنا الفكريّ ولا ثقافتنا بالعلمية، لأنك لا تجد في أدبنا تفكيراً بحتاً ولا في ثقافتنا علماً صرفاً. ولست بهاضم لحقوقهما إذا قلت أن أضعف ما فيهما التفكير وأقوى ما فيهما الخيال).

بهذا التصوير قدَّم الأديب السوريّ الأستاذ يوسف باسيل شلحت كتابه (علم الاجتماع الديني) ويتحدث فيه عن أكثر الأديان بدائية عند الُجلْف المتخلفين من قُطَّان استراليا والقبائل المتأخرة في بقاع العالم. وهي مقدمة أحسب أن فيها تجنياً كبيراً على الأدب العربي وليس أدل على ذلك من أن المؤلف ذيّل كتابه بقائمة مراجع عربية للأستاذة الدكتور هيكل باشا ونقولا الحد دوجرجي زيدان والريحاني وسواهم ممن كتبوا كتباً علمية نفيسة، فضلا عن أنه في مستهل كتابه إلى مؤلَّفيْ الدكتور علي عبد الواحد وافي في علم الاجتماع وهما كتابان خيَران، وإلى باقي مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية.

وكتب الأستاذ شلحت توطئه عن علم الاجتماع انتقل إثرها إلى البحث عن تعريف (للديانة) فلم يضع لنا تعريفاً شاملاً، بل أشار إشارات عابرة إلى تعريفات وضعها بعض فلاسفة الفرنسيين والألمانيين ومعظمها سطحي. وهناك تعريف للديانة لم يشر إليه الأستاذ شلحت وقد أورده الأستاذ رايت في كتابه (فلسفة الأديان) وهو:(إن الدين محاولة لإحراز القيم الاجتماعية المعترف بها وصيانتها عن طريق أداء أفعال معينة يُقصد بها الاستعانة بوسيط معين يختلف عن الذات الشخصية للفرد، وعن جميع الكائنات البشرية، مع الشعور بالاعتماد على هذا الوسيط).

ص: 48

وأعتقد أن هذا التعريف أشمل ما وضُع، لأنه يستطيع أن يحتضن معظم الأديان المعروفة، فطرية وحضرية. ولا ريب في أن التواضع على تعريف معين أمر غير يسير، وقد أصاب الأستاذ سيلرز عندما قال:(إن معظم الأشياء الفائقة القيمة يصعب تعريفها على حدٍ سواء).

وكتاب (علم الاجتماع الديني) من الروّاد في هذا الباب، ويكاد يكون أشمل كتاب صادفني باللغة العربية في علم فلسفة الأديان. غير أن المؤلف لُم يشر إلى الديانات البدائية سوى إشارة خاطفة، وقصر معظم كلامه على الحديث عن (الطوتمية).

وكنا نود أن يفيض في البحث في الأديان الأخرى الممّيزة عن شؤون الحياة (كالتودا) و (الباجاندا) و (الفيدا) و (المانا) لأن الإشارة الخاطفة إلى بعضها لا تكفي في مثل هذا المبحث.

وختم الأستاذ شلحت كتابه بفضل رائع عن مستقبل الديانات قال فيه (إن الديانة لن تظل على ما كانت عليه في الأعصر الأولى تقيد حركة الأفراد وتمنع عنهم سبل التفكير الحّر. فإن التطور الدينيّ يحملنا على الاعتقاد أن العقول متجهة إلى التخفيف من نير رجال الدين عن رقاب العباد وإلى التقليل من هول الدين في أعين الناس). ولست أذهب إلى الاتفاق معه على هذا الرأي ولكني أرى أن الإنسان متى أقلع عن الإثم لأنه إثم لا لأن الدين يحضه على؛ وإذا فعل الخير لأنه يرى أنه خير لا لأن الدين يحضه على ذلك، أصبح الإنسان في حالة دينية سامية، لأنه بتصرفه ذاك يجعل الدين جزءاً من حياته اليومية، شائعاً في جنبات روحه حتى ليعصى الفصل بين روح المرء ودينه. أما التظاهر بالدين والتباهي بالقداسة وممارسة الفرائض الدينية بطرق آلية، فهذا امتهان للدين أكثر إكراماً له.

وديع فلسطين

تصويب:

جاء في مقال (شريعة الكمال والخلود) المنشور بالعددين 681، 682 من (الرسالة) بعض الأخطاء المطبعية نصححها فيما يلي:

الوذيلة=المرأة وصحتها: الوذيلة المرآة

ص: 49

توهموا وصحتها: توهمهم

ولا ريب وصحتها: لا ريب

ولدحض هذه الحجة وصحتها: ولإدحاض

ص: 50

‌القصص

قصة من الأدب الروسي الرفيع:

الملاك. . .

للفيلسوف الروسي الكبير لوي تولستوي

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

- 3 -

طفقت المرأة تحدثهم بقصة هاتين الطفلتين. . . وقد شاع الحزن في صوتها، وأرتسم الألم على جبينها فقالت:) إنها لقصة فاجعة. . .! لقد قضى أبوهما يوم الثلاثاء، ولحقت به أمهما يوم الجمعة بعد أن وضعهما. . . وكنت أنا وزوجي نعيش ككل الفلاحين في بساطة عيش ودقة حال، وكانت دارنا مجاورة لدارهم. لقد مات أبوهما وكان يقطع الأخشاب في الغاية تحت جذع شجرة هوت عليه من حالق، فسمعته وفاضت روحه قبل أن يبلغوا به الدار.

وبعد ثلاثة أيام. وضعت زوجته هذين التوأمتين - ولم يكن لها من ناصر أو معين فوضعتهما وحيدة. . . ولقيت منيتها وحيدة. . .! وفي اليوم التالي توجهت إليها، أنظر ما آلت إليه حالها. . . فما كدت أتخطى الكوخ، حتى وجدتها متيبسة الجسد وقد علت وجهها صفرة الموت. . . وتدحرج جسدها فوق هذه الطفلة، فأصاب ساقها العرج. . .!

وجاء القوم من القرية - وكلهم حزين، يأكل قلبه الألم - فكفنوها في خال وحملوها إلى المقبرة، ودفنوها جوار زوجها. . . لقد كانت الطيبة تملأ نفوسهم والعطف يفيض من قلوبهم. . .! ولكن هاتين الطفلتين أصبحتا ومالهما من ولي أو كفيل. . . وكنت حينئذ المرأة الوحيدة في القرية التي عندها طفل لم يتجاوز أسبوعه التاسع. . . فضممتها إلى صدري. . . وعدت بهما إلى كوخي. فلما اجتمع الفلاحون راحوا يفكرون ويطيلون التفكير في أمرهما، وأخيراً، قالوا لي: عليك العناية بهما الآن يا ماري. . . وسوف ندبر أمرهما فيما بعد. . .!)

فأخذت على عاتقي أن أرضع هذه الطفلة الصحيحة، وأدع العرجاء. . . فما كنت أحسب أنها ستعيش. ولكني تساءلت: بأي ذنب تعاني هذه الطفلة ألم الجوع؟! فما لبثت الرحمة أن

ص: 51

فاضت بين جوانحي. . . فرحت أرضهما مع طفلي. . . وقد كنت لبانة يتفجر اللبن من ثديي في فيض لا ينقطع، وكان الله يأتيني برزق هاتين الطفلتين. . . فترعرعتا على حين توفى الله طفلي الوحيد، قبل أن يبلغ السنتين. . . وقد أقبلت علينا الدنيا بعد انصرافها عنا. . . فزاد حبي لهما وحناني عليهما. . .

أفعلمتم الآن سبب ذلك الحب؟! إنهما سعادتي في هذه الحياة، وأملي في هذه الدنيا. . .!) وضمت (السيدة) الطفلة العرجاء إلى صدرها بإحدى يديها، بينما ارتفعت يدها الأخرى لتمسح دمعة حارة تحدرت على خدها فتنهدت (مترونا). . . وقالت في صوت عميق وجرس ندي:(صدق من قال) يعيش المرؤ بغير والديه! ولكن لا يعيش بغير الله. . .!)

وران الصمت عليهم. . .! وفجأة انبثق في الكوخ نور باهر كأنه وميض البرق في ظلمات الشتاء. . . وشع الضوء من ذلك الركن الذي يجلس فيه (ميشيل). . . فالتقت عنده أبصارهم. وهو على كرسيه يحدق في سماء الغرفة. وقد افتر ثغره من ابتسامة حلوة. . . أشرقت في وجهة وأضاءت على جبينه. . .

فلما تهيأت المرأة للذهاب. حيتهم. . . وأمسكت بطفلتيها. ومضت بهما. . . فنهض (ميشيل) من جلسته. . . ووضع ما كان بيده وخلع عنه مئزره. . . ثم انحنى لسيمون وزوجته (مترونا) وقال في صوت شكور (وداعاً. . . أيها السادة. . . لقد عفى الله عني. . .! وغفر لي ذنبي. . .)

وراح ميشيل يتألق في ضياء تنبعث من هالة حوله. . . فانحنى سيمون وقال في صوت ملؤه العجب (لقد حدست إنك لست ببشر يا ميشيل. . . ولن أثقل عليك بتساؤلي. . . ولكن آمل أن تخبرني: لماذا تألق وجهك حينما عثرت عليك في الطريق عريان جائعاً؟! ولماذا ابتسمت إلى زوجتي تلك الابتسامة الوضيئة حينما قدمت إليك الطعام؟! وحينما دخل ذلك (السيد الجليل) كوخنا، لنصنع له حذاء إفتر ثغرك عن بسمة مثيلة بها؟. وأخيراً حينما أتت هذه السيدة مع هاتين الطفلتين تألق وجهك بابتسامة ثالثة في جلال وبهاء. . .

نشدتك الله يا ميشيل أن تطلعني على سر ذلك الإشراق، وعلة هذه الابتسامات الثلاث؟!!). . .

قال ميشيل في صوت هادئ رخيم (لقد انبثق الضوء عني وأشرق النور مني لأن الله

ص: 52

يعاقبني. . . بيد أنه عز وجل غفر لي ذنبي أخيراً!. . . والسر في تلك الابتسامات الثلاث أن الله أرسلني كي أتعلم ثلاث حقائق. . . وقد تعلمتها. . .!

لقد تعلمت واحدة حينما فاضت الرحمة من قلب زوجتك. . . فكانت الابتسامة الأولى!!

وتعلمت الثانية حينما سمعت ذلك (السيد) يتحدث عن حذائه، فكانت الابتسامة الثانية!!

وتعلمت الثالثة عندما رأيت هاتين الطفلتين. . . فكانت الابتسامة الثالثة!)

فقال سيمون في دهش ورجاء (خبرني لماذا عاقبك الله يا ميشيل؟! وما هذه الحقائق الثلاث؟!

فأجاب ميشيل في صوته الهادئ الرخيم (لقد عاقبني الله لأني عصيت له أمراً. . . لقد كنت. . . ملاكا أسبح في ملكوته الأعظم. . . فأنزلني ذات يوم إلى الأرض لأقبض روح امرأة من خلقه. . . فأبصرها راقدة على سريرها وحيدة - وقد وضعت توأمين! - فلما أحست دنوي منها، أدركت أني رسول الله إلى روحها. . . فقالت وقد كادت أن تحبس صوتها الدموع: (أيها الملاك. . . لقد مات زوجي منذ أيام وما لي من أخت أو عمة أو ولية ترعى طفلتي. . . فلا تقبض روحي! ودعني أرضعهما وأرعاهما حتى تستويا على سوقهما قبل أن أموت!! إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم!.)

فأصغيت إلى حديثها الرقيق الرفيق. . . ووضعت إحدى الطفلتين على صدرها والأخرى على ذراعها. . . وانثنيت آيباً إلى الله تعالى في السماء. . . وقلت في خشوع (إني عاجز عن أن أقبض روح هذه الأم. . . لقد قتل زوجها تحت جذع شجرة منذ أيام. . . وولدت لها اليوم توأمتان. . . وتوسلت إلى ألا أسلّ روحها قائلة (دعني أرضعها وأرعاهما حتى تستويا على سوقهما قبل أن أموت! إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم.!)(فعدت ويدي عاطلة من روحها!.) فسمعت الصوت العلوي يردد الأمر الجليل (اذهب. . . فاقبضها ولا تكن عودتك إلى السماء قبل تتعلم حقائق ثلاث):

(ما الذي فطر عليه الإنسان؟!)

(ما الذي حرم منه الإنسان؟!)

(ما الذي يعيش به الإنسان؟!)

فعدت طائراً إلى الأرض - وأنا أرتعد فرقاً من غضب الله وأنتفض جزعاً من عقابه.

ص: 53

فقبضت الروح. . . وسقطت الطفلتان من على صدرها، ومال جسدها على جانبها، فحطم ساق إحدى الطفلتين فالتوت. . . وهممت بأن أصعد إلى السماء أحمل الروح إليها. ولكن الريح أثقلتني وأخذت أجنحتي تتضاءل وتنسل من ظهري. . . فصعدت (الروح) وحدها إلى الله. . . بينما سقطت أنا على الأرض في جانب من الطريق!.)

فغر سيمون فاه. . . ونظرت (مترونا) في بلاهة يشوبها الدهش. . . لقد أدركا الآن من كان يضمه دارهم ويعيش بينهم ويأكل من طعامهم. . . فترقرقت الدموع في عيونهما. . . وراحا يبكيان في نشيج ومزيج من الرهبة والمرح. والإجلال والفرح وانطلق الملاك يقول: (لم أكن أعرف حاجات البشر من جوع وعرى حتى صرت بشراً مثلهم. . . كنت وحيداً. . . يهرؤني القر، واتضور من الجوع. . . ولا أدري ما الذي أفعله في هذا العالم

وامتد طرفي. . . فلمحت كنيسة على مرماه. . فتوجهت إليها عساني أجد ثمت موئلا. . . بيد أنها كانت مغلقة. . . فتوجهت إلى ما وراءها. . . حيث قعدت أتوقى بها لريح الصرصر التي تسفح الوجه، وتصك الجسد. . .!

فلما غشى المساء عيون الكون. . . رأيت إنساناً يقبل وحيداً على. . . وبينه وبين نفسه حديث. . . ولأول مرة رأيت وجه الإنسان ذلك الوجه المخيف الميت فأشحت عنه برأسي. . . وطرق سمعي ذلك الحديث أو تلك الخواطر التي كانت تضطرب بينه وبين نفسه. . . وتنعكس على شفتيه فيرتفع بها صوته. . . كان يتساءل كيف أنه يقي جسده لفحة البرد وقشعريرة الشتاء، ويغذي زوجته وصغاره بماله اليسير. . .

فرمت أفكر (هذا إنسان يدبر ملبساً له في الشتاء. . . وطعاماً لعائلة. . . فكيف يقدم لي يد المساعدة؟!) فلما لمحني اضطرب فرقاً وجزعاً ومر بي في الجانب الآخر من الطريق. . . فتداركني اليأس، لولا أني أبصرته ينقلب راجعاً إلي. . . فرفعت إليه بصري فلم أعرفه. . . لقد كان يرتسم الموت على جبينه. . . أما الآن فسوف يعيش. . . لقد عرفت في شخصه وجود الله عز وجل.! ألبسني ثوباً عليه، وأخذني معه إلى داره حيث وجدت من هي أقسى قلباً وأشد كلاماً. . . لقد شاع في صوتها الموت، وأبصرت من حولها الهلاك. . . كانت تود لو ألقت بي إلى قارعة الطريق. . . ولو أنها فعلت ذلك لكان الموت من نصيبها.!

ص: 54

فلما بدأ الرجل يحدثها عن الله عز وجل، لان قلبها ومال إلى فؤادها. . . فأحضرت لي الطعام، ونظرت إلى وجهي في عطف وشفقة. . . فعرفت في شخصها وجود الله. . .

فتذكرت أولى الحقائق الثلاث التي أمرني الله بأن أعلمها (ما الذي فطر عليه الإنسان؟!.).

فأدركت أن الذي فطر عليه الإنسان هو (الحب)!! وقد تولتني البهجة حينما علمت أن الله أوحى إليَّ بالدرس الأول. . . فافتر ثغري عن الابتسامة الأولى. . . ولكن بقي على أن أتعلم الحقيقتين الأخرتين: (ما الذي حرم منه الإنسان؟!) و (ما الذي يعيش به الإنسان؟!).

(مضى عام وأنا أعيش بينكم. . فلما أتى ذلك السيد الجليل يأمرنا بصنع حذاء له على ألا يبلى أو يخلق قبل أن تنقضي سنة على ذلك. . . نظرت إليه. . . وعلى حين غرة لمحت فوق رأسه رفيقي (ملاك الموت) ولم يره أحد سواي. . . ولكني عرفته، وأدركت أن الشمس لن تغيب عن الأفق إلا وقد غابت روح ذلك الرجل عن جسده. . . فتعجبت. . . إن هذه الرجل يعد العدة لعام بأكمله. . . ولا يحسب أن قضاءه قد حم. . . وأن المساء لن يأتي عليه إلا وجثته مسجاة هامدة. . .).

فتذكرت الحقيقة الثانية، فكأن الله يوحي إلى أن تعلم (ما الذي حرم منه الإنسان؟) فابتسمت للمرة الثانية. . .

ومكثت أنتظر أن يوحي إلى الله بالحقيقة الثالثة (ما الذي يعيش به الإنسان؟!).

وفي العام السادس. جاءت امرأة ومعها توأمتان صغيرتان فعرفت الطفلتين وعرفت أن الله قد قيض لهما من كان أحن عليهما من أمهما. . . فعاشتا وترعرعتا.!

ولما سمعت ما قصته علينا من كفلتهما رحت أفكر مستغرقاً (لقد توسلت إلى أن أدعها حية حتى ترعى الطفلتين. . . الضعيفتين. . . واعتقدت أنها على حق حينما قالت (إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم. . .) بيد أن امرأة غريبة عنهما كفلتهما حتى نمتا وشبتا. . . وأدركت مبلغ ذلك الحب الذي يختلج بين جوانح بين تلك الظئر الحاضنة. . . فرأيت في شخصها وجود الله. . . وتعلمت الحقيقة الثالثة وهي (ما الذي يعيش به الإنسان؟!). . . إنه (الحب). . . وعلمت أن الله أوحى إلي بالدرس الأخير. . . وأنه عفى عما تقدم ذنبي ومن عصيان أمره على غير بصيره. . . فكانت الابتسامة الثالثة!!.)

أضحى (الملاك) وهوَ عار مما عليه. . . يشع من جسه نور قوي يبهر الأبصار. . .

ص: 55

وراح صوته يخفت وينخفض حتى صار، وكأنه لا يأتي من فيه. . . بل يأتي. . . من السماء. . .!

(لقد علمت أن البشر لا يعيشون بالحرص على حياتهم. . . بل بالحب المغروس في قلوبهم وهل نفع حرص الأم على بنيتها؟! لا بل كان حب الظئر لهما!!.

ولقد عشت - عندما كنت إنساناً - لا بالحرص على حياتي. . . بل بالحب يختلج بين جوانح عابر سبيل. . . وبالرحمة والعطف الذي انبثق في فؤاده هو وزوجته على. . .

إن الحب شيء فطر عليه الإنسان وغرس في قلبه. . . وعليه يعيش وبه يحيا في هذه الدنيا. . .! وكنت احسب أن الله وهب الحياة للبشر، ومنحه الأمل في أن يعيش. . . بيد أني الآن علمت أشياء أخرى. . .! علمت أن الله لم يخلفه كي يعيش وحيداً فريداً. بل خلقه ألوفاً ساعياً للارتباط بغيره. . . عرفت أن المرأ مع تخيله أنه يعيش بالحرص على حياته. . . فهو يعيش في الحقيقة بالحب. . . لأن من كان الحب يملأ قلبه. . . فهو يعيش في الحقيقة بالحب. . . لأن من كان الحب يملأ قلبه. . . ففيه نفحة من الله. . . فالله عز وجل هو الحب. . . والحب هو الله!!. . .)

ثم ارتفع صوت (الملاك) في جرس ندي يردد أنشودة ملائكية يحمد فيها الله ويثني على آلائه!! فكان الكوخ والأشجار والطيور تتراقص وتهتز وكأنها تسبح بآيات الله. . . وانحسر سقف الكوخ حيث ارتفع عمود من النور يربط السماء بالأرض. . . فخر (سيمون) وزوجته وأطفاله وقد ملكت نفوسهم الرهبة والخشوع، وملأت قلوبهم الخشية والإجلال!. ونبت (للملاك) جناحان على كتفيه. . . حيث راح يسبح بهما مصعداً إلى السماء. . .!

فلما أفاق (سيمون). . . وراح يقلب طرفه فيما حوله. . . رأى الكوخ وقد أصبح كما كان. . وليس فيه سوى زوجته (مترونا) وأطفاله الصغار. . .

مصطفى جميل مرسي

ص: 56