الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 687
- بتاريخ: 02 - 09 - 1946
4 - من لغو الصيف
هؤلاء الأرستقراط. . .!
للأستاذ سيد قطب
قلت: اذهب إلى (بلاج سيدي بشر رقم 2، ورقم 3) أرى هؤلاء (الاستقراط) الذين خصتهم الدولة بشواطئ خاصة، لا تطؤها أقدام الشعب إلا لقاء جعل معلوم!
وأديت هذا الجعل، وحملت في يدي (تذكرة الدخول) بارزة، فأنا رجل من الشعب. وما آمن أن يعترضني شرطي أو حارس، وأنا أسير في الأرض المحرمة، التي لا يجوز أن تطأها أقدام الشعب إلا بترخيص!
وسرت بحذر واحتراس، أتوجس خيفة من كلُّ خطوة - على الرغم أني أحمل الترخيص بالمرور - فأنا هنا في وسط (الأرستقراط) وأنا رجل من الشعب. وتعليمات الدولة المسطرة على المداخل توقع الرعب في القلوب:(ممنوع دخول هذا البلاج لغير أصحاب الكابينات إلا. . . الخ)، وذكرني هذا بتعليمات أخرى في بعض الحدائق والأماكن:(ممنوع دخول الكلاب إلا. . . الخ).
ورأيت الدولة قد اختارت أجمل مناظر الشاطئ على الإطلاق لتخص بها هؤلاء السادة المحظوظين. فبلاجا سيدي بشر رقم 2 ورقم 3 يلخصان جميع مناظر (الكورنيش). مناظر الشواطئ الصخرية، والشواطئ الرملية، والشواطئ الصناعية، والموج الصاخب، والموج الهادئ، والموج العميق.
وهل أقل من أن تجمع الدولة لهؤلاء السادة أجمل المناظر وأبهجها ملخصة في الشاطئ المحرم، الذي لا يجوز أن تطأه أقدام الشعب إلا بترخيص؟!
وسرت ترمقني أنظار السادة كما ترمق العبيد. . . من هذا الدخيل الواغل؟ إنه رجل من الشعب. يا لهذا الشعب الطفبلي الذي لا يني يعكر صفو السادة بهذا التطفل الغريب. . . ولكني أحمل الترخيص!!!
وانتبهت بعد هنيهة، واستعدت رباطة جأشي، وتقويت بهذا الترخيص الذي تحمله يدي، فدسسته في جيب قميصي، وحرصت - مع هذا - على إبقائه ظاهراً؟!
لا بد أن يكون هؤلاء السادة يستحقون هذا التدليل لا بد أنهم يترفعون بمستواهم وأخلاقهم
عن العامة. لا بد أنهم (أستقراط) في نفوسهم، قبل أن يكونوا أرستقراطاً بجيوبهم، وإلا فهل تقدم الدولة على عزلهم هكذا عن الشعب - في نفس الوقت الذي تحارب فيه انعزال الطبقات - إلا لسبب معلوم!
ولكنني لا ألمح هنا امتيازاً خلقياً ولا نفسياً. إنهم - والشهادة لله - أوقح وأجرأ وأشد تبذلاً من عامة الشعب في (بلاجات الشعب، التي يمرح فيها بلا جعل ولا ترخيص!
شيء واحد يفرق هؤلاء السادة عن الشعب. . . أنهم لا يتكلمون لغة هذا الشعب. اللغة العربية أو المصرية هنا غريبة. . . ولقد سمعت الفرنسية والتركية والرومية. . . ولكني لم أسمع العربية والمصرية إلا من الخدم وحراس الشاطئ. . . والمصريون هنا غرباء. عرفت منهم علي ماهر، ومكرم عبيد، وإبراهيم عبد الهادي، وعبد المنصف محمود. . . وحفنة قليلة ممن تحمل وجوههم الطابع المصري. . . أما الأغلبية فمن ذوى الوجوه الحمر أو الوجوه البيض. . .
مستعمرون!!! وليس الإنجليز وحدهم هم المستعمرين!!!
هؤلاء هم قادوا الشعب إلى الهاوية. . . انحلت أخلاقهم، لأنهم لا رصيد لهم من خلق ولا دين. ولا رصيد لهم كذلك من عراقة ولا تقاليد.
وكلمة (أرستقراط) التي تطلق عليهم لا تحمل من معناها العالمي شيئاً. ليس في مصر طبقة أستقراط كطبقة اللوردات المحافظين في إنجلترا مثلاً. . . فأعرق أسرة من هؤلاء لا يزيد تاريخها في الغنى على مائة عام. . .
جاء محمد على الكبير والشعب المصري فقير. والأثرياء هم المماليك ومن يلوذون بالمماليك. . . وجعل محمد على زمام الأطيان كلها في يده، فلم يبق ثري لا في الشعب ولا في المماليك. . . ثم أخذت الثروات تتسرب إلى أيدي طبقات خاصة على مدى السنين في هذا الحيز القصير.
وفاز بنصيب الأسد على توالي الأجيال: أبناء الجواري، والمعاتيق، والذين خدموا الاحتلال - والذين عرفوا كيف يدورون مع الريح. والقلة القليلة في العصور المتأخرة هي التي كسبت ثروتها بالجهد وعرق الجبين.
تلك هي قصة الثراء في مصر مختصرة. كلهم محدثو نعمة، لم تتأصل فيهم تقاليد
(الأرستقراط) المعروفة في بلاد العالم. ومن هنا لم يكن لهم رصيد من العراقة. . . ووجدوا في أيدهم النقود.
هؤلاء هم الذين يقودون الشعب اجتماعياً - مع الأسف الشديد. . . هؤلاء هم الذين انحلوا فانحل معهم الشعب. ومن هنا جاءت كارثة الجيل. . .
تفاهة. . .
هذه الكلمة المفردة تلخص طابع الجيل. . .
لا يعيب الفتاة العصرية شئ كما يعيبها الجهل بماركات السيارات وأسماء الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات وعناوين الأفلام والروايات، وشيء آخر أهم: ألعاب القمار، الكونكان والبوكر والباكاراه. . . لا يعيبها أن تجهل الجمال في الطبيعة، والجمال في الفن، والخبرة بالأسرة والعالم. . .
والفتىكالفتاة. . . أحاديثه أحادثيها. وطراوته طراوتها. وهي أنثى وهو يتأنث. لأن (أولاد الذوات) هكذا أطرياء لُدْنً مخانيث! لقد شهدتهم هنا وفي كلُّ مكان. الحركة الطرية، والملابس الطرية، والإيماءة الطرية. إنهم لا يكادون يتماسكون. ونفوسهم من الداخل كأجسامهم لا تماسك فيها ولا قوام لها كالهلاميات التي لم تتماسك بعد في عالم التكوين. . .
وهؤلاء هم الذين يقلدهم الشعب المسكين!!
وجيل تافه. . .
ليس هناك عالم نفسي يعيش فيه بعض الوقت. فلا شئ إلا هذه الظواهر، ولا شئ في هذا العالم الظاهر إلا أتفه ما فيه. . .
(شيكوكو) المنولوجست معبود الجمهور و (أنور وجدي) ممثله المرموق. . . ومن في مستواهما من المطربين والمطربات. . . هذا وحده يكفي لليأس من ذوق هذا الجيل، ومن نفيسته وشخصيته
لا إذن تحسن السماع، ولا ذوق بفطن للفنون. . . (كله عندهم صابون) والمهم أن يكون أكثر ميوعة، وأشد رقاعة وكل جديد هو خير من القديم!
حضر (أنور وجدي) و (ليلى مراد) إلى (البلاج) فتزاحمت عليهما الجماهير، حتى ضاقت أنفاسها بالجماهير. ويبلغني إن (عبد الوهاب) يضيق بالحفلات الخاصة بالبنات اللواتي
يترامين عليه في مجون رقيع. . . ذباب. . . ذباب وصراصير!. . .
وجيل حائر. . .
شهدت شابا وشابة زوجين، يخرجان من البحر بلباس البحر ويجلسان على الكازينو كذلك يتناولان الشاي والمرطبات ويدور الحديث بينهما وبين معارف لهما. فتذكر الشابة إن زوجها لا يلبس خاتم الزواج لأنه من الذهب، والتختم بالذهب حرام في الدين!
أي والله، هكذا. . . حرام! حرام أن يتخم بالذهب أما العرى القذر هكذا على الكازينو، فذلك متاع بالبحر لا شئ فيه.
ذلك مظهر من مظاهر التفكك النفسي، كالجهاز المفك، كلُّ جزء فيه يشتغل على هواه، بلا ضابط، ولا اتصال.
وعرفت سيدة تصلي وتصوم. . . ثم. . . تخرج من البحر بالمايوه، وتجلس على الرمال بالمايوه حيث تتدسس النظريات المريضة إلى كلُّ موضع في هذا الجسد المكشوف. فأما حين تقف للصلاة فتفيض عليها من الجلباب والخمار. . . إنها تتحجب هنا فقط، تتحجب على الله!!!
وذكرني هذا بتلك المرأة التي عادت من الحج، لتحي حفلة راقصة تدور فيها الكؤوس ويكون بعدها ما يكون، احتفالاً بهذا الحج المبرور. . .
إنها من أولئك (الأرستقراط) اللواتي يقلدهن الجبل! والمجلات الداعرة. . . إنها تنشر صور هؤلاء الأرستقراط في مباذلهم، وتقول عن نسائهم المبذلات إنهن شرفن مصر! وتقلدهن بنات الشعب المسكين.
وهنا في (بلاج الشعب) في سيدي بشر رقم 1 شاهدت مصوراً لإحدى هذه المجلات الداعرة، يلتقط صورة لفتاة من بنات الشعب (بالمايوه). وكلفهاأن تضطجع ضجعة خاصة فأطاعت. ويبدو أن شيئاً من حياء الأنوثة، وأحياء الإنسانية كان لا يزال يراودها فضمت فخذيها. . . ولم يعجبه المنظر فقرب منها وقرب، ولمس بيده ركبتيها لتفتح ما ضمت. فلما ترددت قليلا. . . قال:(الله! إنت فلاحة وإلا إيه)؟
وانحلت العقدة: فمن هي التي تريد أن تكون فلاحة؛ وهل تستحي إلا الفلاحة؟ والفلاحون ليسوا (أرستقراط) بشهادة الجميع!!!
و (تانت) و (أنكل) و (دادى). . .
ميوعة أولاد الذوات ورقاعتهم المهينة، المهينة لأنها لا تعتز بقومية ولا لغة، المهينة لأنها تحتقر نفسها حين تلجأ إلى اصطلاحات الآخرين. . . هذه الميوعة مع الأسف أخذت طريقها إلى الشعب.
والمسألة أعمق من أنها مجرد ألفاظ. المسألة هي الشعور بالنفس أو عدم الشعور. المسألة أن لي كرامة في نفسي ولغتي وبلدي أم ليست لي هذه الكرامة. وأولاد الذوات لا كرامة لهم لأنهم لا نفوس لهم ولا وطن ولا عراقة. . . فما بال الشعب ينزلق إلى التميع المهين؟
يا بحر. إنك لتغضب. وإنك لتزمجر. وإنك لتجرف في ساعات غضبك وزمجرتك كلُّ خبث في جوفك، فتقذف به إلى الشاطئ. . . اعكس مرة أيها البحر، فاجرف إلى جوفك قذر الشاطئ بكل ما فيه!
سيد قطب
الدفاع عن الفضيلة.
. .
كلمة صريحة لله وللوطن:
(تأييداً لمقالات الأستاذ سيد قطب)
(لأحد الكتاب)
هال بعث المصلحين منذ سنتين ما رأوا من فشو التبرج والاختلاط في دمشق البلد العربي المسلم، فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة ويريدّون الرذيلة الغالبة، وأنقاد إليهم الناس، لأن الكثرة الكاثرة من أهل دمشق لا تزال متمسكة بدينها، ولا تزال نساؤها ي الحجاب الساتر، ومشت الأمور في طريقها، وكادت تصل إلى غايتها، ودعاة الفجور ينظرون ويتحرقون. . . لولا أن رفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية والسلائق العربية بعض العامة إلى الدخول على النساء في السينما وإخراجهن منها وترويعهنّ، وإلى التجوال في البلد ونصح كلُّ متبرّجة ووعظها وزجرها. . . وقد أنكر العلماء وعقلاء البلد ذلك عليهم فكفوا عنه وأقلعوا، ولكن دعاة الفجور لم يرضهم أن تنتصر دمشق للفضيلة وأن تهدم عليهم عملهم على رفع الحجاب وإباحة الاختلاط، فاستغلوا عمل هؤلاء العوام وأعلنوا إنكاره وكبّروه وبالغوا في روايته، وذهبوا يقيمون الدنيا ويُبرقون البرقيات ويُرعدون بالخطب، وما أهون الإبراق والإرعاد، وما أسهل إثارة الشبان الفاسقين على الستر والحجاب، باسم (الحرية الشخصية) التي تمتع عيونهم بما وراء الحجاب من جمال، وتُنيلهم ما بعد حدود الفضيلة من لذائذ. .!
أيخرجون النساء من السينما؟ أيعرضون بالنصح للمتبرجات الكاشفات؟ يا للَحدث الأكبر، يا للَعدوان على الحرية الشخصية التي ضمنها الدستور! أليست المرأة حرة ولو خرجت عارية؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا؟ أليس كلُّ امرئ حراً ولو نقب مكانه في السفينة فأدخل إليها الماء فأغرقها وأهلها؟!
كذلك فهم الحرية هؤلاء الجاهلون. . . أو كذلك أراد لهم هواهم، وشاءت لهم رغباتهم الجنسية وميولهم النفسية أن يفهموها، ودفعوا الصحفيين فلبثوا أياماً طوالاً لا كلامهم لهم إلا في الدفاع عن (الحرية. . .)، وهاجوا بعض النواب، فجرب كلُّ واحد منهم أن يتعلم
الخطابة في تقديسها، ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حاموا عن الفضيلة، فساقوهم إلى المحاكم سوق المجرمين، وأدخلوهم السجون، وجرعوهم كؤوس المهانة، حتى صار من يذكر السفور بسوء، أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى، وصار النساء إذا رأين شيخاً في الطريق شتَمْنَه وسخرن منه، وتوارى أنصار الفضيلة من وجه هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء، وهم جمهرة أهل الشام وعلماؤهم وأفاضلهم وعقلاؤهم، وحسب أولئك أن الظفر قد تم لهم، وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تجبر، فكشفوا القناع وانطلقوا يسرحون وحدهم في الساحة ويمرحون. . . وكانت النتيجة أن تحطم السدّ فطغى سيل الرذيلة وعم، وامتد في هاتين السنتين أضعاف ما أيام حكم الفرنسيين الذين هم أفسق الناس، وهذه حقيقة نثبتها بأسف وخجل. . . وكانت النتيجة أن ازدادت جرائم التعدي على العفاف واستفحلت حتى رأت المحاكم من يعتدي على عفاف بنته وأخته، ومن يفجر بطفل رضيع، وما يصنع هذا الوحش الذي أثارت (الحرية الشخصية) غرائزه فلم يجد إلا البنت والأخت أو الطفل الرضيع؟ وكانت النتيجة أن دمشق التي تستر بالملاءة البنت من سنتها العاشرة شهدت يوم الجلاء، بنات في السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن، ترتج نهودهن في صدورهن، تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة. . . وشهدت بنتاً جميلة زينت بأبهى الحلل، وألبست لباس عروس، وركبت السيارة وسط الشباب - قالوا: إنها رمز الوحدة العربية. . . ولم يدر الذين رمزوا هذا الرمز إن العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها، ومشى الموكب أمام الناس وفيهم والد هذه البنت لا يستحي ولا يخجل، وأخرى قالوا أنها رمز سورية الأسيرة قد فكت قيودها. . . وأمثال هذا الهذيان الذي لا معنى له إلا استغلال العيد الوطني في هدم أركان الفضيلة وتمزيق حجابها. . . وأخذت صور هذا كله فنشرت في الجرائد وعرضت في السينمات، ثم ازدادت جرأة الناس على نقض عرى الأخلاق حتى رأينا صور ممثلينا السياسيين مع نسائهم على (بلاج) الإسكندرية منشورة في إحدى مجلات مصر التي لا تدع فرصة فيها تشير بنا وفضح لنقائصنا إلا استغلها، ثم ازدادت الجرأة حتى صارت مجلات دمشق تنشر صور العرايا فيشتريها الشباب لهذه الصور، لأنه ليس فيها ما تُشترى له، ثم امتد الشر حتى رأينا وزارة المعارف تعمل من الطالبات كشافات يمشين في الطرق بمثل لباس
المجندات في الجيش الأميركي بعد أن كانت دمشق لا تحتمل أن ترى الكشافين الشباب بلباس يرتفع عن الركبتين، وحتى رأيناها تقيم معرضاً لأدوات تحضير الدروس التي صنعها المعلمون، فترك مدارس البنين كلها، ومنها الثانوية المركزية ببنائها الضخم وأبهائها، وهي أصلح مكان للمعارض، وهي التي أقيم فيها معرض دمشق الكبير سنة 1936، وتختار مدرسة بنات في طريق الصالحية، ثم يفتتح المعرض مدير معارف دمشق. . . بدعوة الرجال لمشاهدة فرقة من الكشافات يغنين على المسرح ويأتين بحركات رياضية تبدي للأعين الفاسقة المفتحة أكثر ما يخفي عادة أجساد فتيات نواهد. . . قد انتقين عمداً أو مصادفة من جميلات الطالبات، ثم امتد الشر حتى رأينا محافظ دمشق يفتح نادياً يكون من قانونه أن العضو يجيء مع زوجته أو ابنته (غير المتزوجة. . .)، وحتى شهدنا النفر الشيوعيين العزاب المستهترين الساكنين في القهاوي الخبيثة والخمارات، أصحاب (تلك) البرقية الوقحة المعروفة يسلمون أمر المعارف، ويسلطون على الشبان والشابات والشابات، فيبتدعون لهم نظام المرشدات (وإنه لنظام الضالات المظلات) والاختلاط في الحفلات، فبعد أن كانت مدارس البنات لا يدخلها معلم ولا فراش إلا أن كان شيخاً كبيراً، صار معلموها من الشباب العذاب المتأنقين الحاسرين أصحاب الشعور المرجّلة والوجوه المحفوظة، وصارت تقيم حفلات للرجال يمثل فيها البنات ويرقصن بالثياب القصيرة (الرقص الرياضي. . .)، ويدبكن الدبكة الوطنية، ثم يخترعون شرّ اختراع، وهو هذه الرحلات المدرسية التي يشترك فيها الجنسان، وها هو ذا إعلان قرأته في جريدة دمشقية تصدرها جمعية إسلامية عن الرحلة إلى استنبول يشترك فيها الطلاب والطالبات والمعلمون والمعلمات إلى استنبول - يا أيها الناس - لا إلى بيروت. . . وكان من البلاء أن هذه الجريدة نشرته ونسيت أن تعلق عليه، وتبين حكم الله في هذه الرحلات، وحكم العقل والأخلاق. . . ثم ينقلون دار المعلمات من مكانها القديم المستور إلى (فيلا) جديدة في شارع محدث في ظاهر البلد، مكشوفة من كلُّ جهاتها، لها طنف وشرفات دائرة بها، وسررُ الطالبات تظهر من طريق، فإذا نهض من النوم رآهن (من تحت) من يمشي في الشارع بثياب المنام، ثم يدفعون خريجات دور المعلمات فيعملن حفلة خيرية، فلا يجدن لها مكاناً في دمشق إلا مرقص العباسية، ويطبعن في البطاقة أنه سيغني فيها (فلان) من فسقة
المغنين، وترقص (فلانة) الراقصة المحترفة رقصاً بلدياً!
ثم. . . ثم ماذا؟ الله وحده الذي يعلم ماذا يكون أيضاً، وإلى أين يبلغ بنا المسير. . .
وقد نزلت هذه الضربات على وجه الفضيلة متلاحقة متتابعة لا تصحو من واحدة حتى تحس بالأخرى، وهم يريدون منا مع ذلك أن نسكت وألا نقول شيئاً، لئلا نشوّه (زعموا) جمال العهد الوطني.
كلا. إن العهد الوطني هو الذي تنتصر فيه الفضيلة ويسود الحق ويحفظ العفاف. . . كلا، ولا كرامة، إنها أعراض بناتنا وأخواتنا، ولو غير الأعراض لهاوَدْناكم عليها، ولكن لا هوادة في العِرْض!
إنها حياة هذه الأمة: لا تحيا أمة بلا أخلاق، أفئن قامت فئة من العامة بما لا نرضي عنه، وانتهكت حرمة هذا الحرم الأقدس: السينما، وتجاوزت على حريات الفاضلات المطهرات: النساء المتبرجات نسكت كلنا عن نصرة الفضيلة إلى يوم القيامة؟
إن من الأمور ما يتفق عليه أبناء الملل كلها، وما يلتقي فيه أتباع الأديان جميعاً كما يلتقي سالكو شوارع مختلفة في ساحة من الساحات، ومن ذلك الدعوة إلى العفاف، إنها دعوة لا بد منها، فإذا لم تريدوها عن المعية الغراء والمشايخ، فلتكن عن طريق البطْرك أو الحاخام أو الوثني الملحد، المهم أن يجهر بها جاهر ونحن معه مؤيدون له ومحاربون لمن يحاربه، ونحن نريد الجوهر لا المظهر.
ثم ما هذه الحرية التي طبّلتم لها وزمرتم، وهوّلتم وعظمتهم، وجعلتم الاعتداء عليها كفراً بدين الحضارة والديمقراطية، أهي حرية المرأة أن تكشف ما تريد من جسمها متى أرادت وأين شاءت؟ أهي حرية ناظر المدرسة في أن يحوّل مدرسته إلى مرقص؟ أهي حرية الفسوق والعصيان؟
أهذه هي الحرية المقدسة؟
إنكم - أيُها السادة - بين أمرين: إما أنكم تقولون ما لا تفهمون، وإما أنكم تسترون بهذه الأسماء الحلوة أغراض نفوسكم ورغبات أجسامكم؟ وإلا فخبروني أي أمة في الدنيا تصنع الصنيع:
العرب؟ إن العرب أغير على الأعراض، وإن كلمة العرض في لسانهم لا يقابلها كلمة في
ألسنة الأمم تترجم بها!
المسلمون؟ إن الإسلام أمر بغض البصر وستر العورة، ولعن الناظر إليها والمنظور!
الفرنسيون؟ إن الفرنسيين يكشفون أفخاذ السباب في الملعب فعلام تكشفونها أنتم في سوق الحميدية وهو للبيع والشراء، فيه الرجال والنساء وهو كالموسكي في مصر والشورجة في بغداد، ما كان قط ملعباً ولا ميدان كرة، وإن الفرنسيين ينشئون بيوتاً للهو واللذة وبيوتاً للعلم، وانتم جعلتم بيوت العلم بيوت لذة ولهو، وإن الفرنسيين كانوا يسترون سيقان الجند، فلما أستلمّ أنتم الجيش كشفتم عن أفخاذهم. . .
الروس؟ إن الروس فصلوا بين الجنسين في المدارس لما رأوا بالتجربة أن الاختلاط لا يأتي بخير، وانتم تسعون الآن بكل طريق لجمع الجنسين في المدارس.
العفاريت؟ الجن؟ فمن إذن؟ أنكون نحن بدعاً في الأمم نأخذ من كلُّ واحدة شر ما عندها، ونريد أن نبدأ حياتنا الاستقلالية بهذا الخليط من الشرور مركباً تركيباً مزجياً كحضرموت. . . إنه والله طريق الموت الحاضر لا طريق الحياة!
لا. لم أرد أن أنحو في هذا الحديث نحو الخطابيات، ولم أنشئه لأخاطب به العواطف وحدها، ولكن نحوت فيه نحو التدليل والتعليل، وقررت حقائق بادلتها، وأنا أدعو إلى مناظرتي فيه كلُّ مخالف في رأسه عقل، وفي يده قلم، وفي فيه لسان. . .
ولم أوجه للمسلم وحده، بل لكل من قال أنا عربي، لا أخص مسلماً ولا مسيحياً، لأن من صفات العربي التي تقوم عليها عروبته الشهامة والغيرة على الأغراض، ومن ادعى العربية ولم تكن له على العرض غيره، ولم يغضب لحرمه فهو كذاب دعي ليس بعربي.
وسيقول ناس من القراء: هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له أنه يريد بنا إلى الوراء، ونحن نريد أن نتقدم
وهذا كلام لا يناقش ولا يرد عليه، إنما يناقش كلام مؤيد بحجة، إنما يدفع اعتراض قائم على منطق، إنما يقرع الدليل بالدليل، فهل في هذا الكلام حجة أو منطق أو دليل؟
إنهم حفظوا كلمات فهم يرددنها لا يحاولون فهم معناها، يقولون: رجعية. . . وما الرجعية؟ هي الرجوع إلى الماضي، أي إلى أخلاقه وعادته، فما يمكن أن يرجع إلى زمان مضى، فهل الرجوع إلى مثل أخلاق المسلمين الأولين نفع أو ضرر؟ وهل يكون الداعي إلى تلك
الأخلاق مصلحاً أو مفسداً؟
هذه هي الرجعية!
هي رجوع إلى الدين، أفترجع فرنسا إلى دينها، أي إلى كاثوليكيتها، ويظفر الحزب الديني فيها بأكثر مقاعد المجلس النيابي، فلا ينكر عليها أحد، ولا يتهمها بالتأخر، ولا يصمها بالجود، ونطلب نحن إلى ديننا الحق، فيقول السفهاء: إنا متأخرون جامدون؟!
لا. هذا كثير! هذا كفر بالمنطق، وتعطيل للفكر، وإلحاد في المدينة. . . هذا شيء نستحي من الأمم أن يكون فينا من يقوله!
ونحن إذ ننتقد شيئاً نبين أضراره، فبينوا أنتم منافعه، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به، ولو حملنا معه شيئاً من الضرر، ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شر محض، وإن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، فلذلك حرما.
فتعالوا نتناظر!
إنه لا بد في كلُّ مناظرة من مبادئ يتفق عليها الطرفان ليعودا إليها، وما المنطق إلا رد الفروع إلى هذه الأصول، فإذا كان المتناظران مختلفين في كلُّ شئ، يرى هذا أن العفاف نافع فيقول الآخر بل هو ضار، ويدعي هذا أن اتباع الدين واجب فينكر الآخر هذه الدعوى، ويرى هذا العمل على منع الفجور، ويرى ذاك العمل على نشره. . . فلا يمكن أن يكون بينهما كلام!
فلنتفق أولاً على الأصول:
هل العفاف وقصر الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم شر؟
هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها وإخلاصها لزوجها وبيتها خير أم شر؟
هل مراقبة الله وخوفه وتمسك كلُّ امرئ بفضائل دينه خير أم شر؟
هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها.
وأنه ليكون غرورا ًمني وازدراء للخصوم والقراء، إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شراً، وحاولت إقامة البراهين على أنها خير وأتبعت نفسي والقراء في إثبات هذا الأمر الذي أظنه ثابتاً عند العقلاء جميعاً، وأني أؤجل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه وأبني
المناظرة على هذه الأسس الثلاثة:
فتفضلوا قولوا، هل هذا الذي نحن فيه يحفظ علينا عفافنا أم هو يضيعه علينا؟ هل يعمر بيوتنا أم يقوضها على رؤوسنا؟ هل يرضى ربنا أم يسخطه علينا؟ هل يجعلنا أمه قوية أم هو يذهب بقوتنا؟
وإذا سلمنا جدلاً بأن من الخير مشاركة الطالبات الطلاب في أفراح الجلاء، فهل يشترط في هذه المشاركة أن يكشفن سيقانهن وأفخاذهن، وأن ينتخب لها الجميلات منهن لا النابغات ولا المجدات ولو كن قبيحات. وإذا لبسن الجواريب الساترة والثياب الطويلة أيبطل رواء العيد وتذهب بهجته؟ أم أنتم تريدون النظر إلى أفخاذهن بحجة المشاركة في أعياد الجلاء؟
وإذا حسن أن نقوي بالرياضة أجساد الطالبات، فهل يشترط في هذه التقوية أن يختلطن بالرجال؟ وإذا لزم نقل دار المعلمات إلى دار صحية فهل يشترط أن يكون مكشوفة من جهاتها الأربع، وأن تكون (المجلات العمومية) أستر منها؟
لا والله، أحلفها يميناً غموساً وأضعها في عنقي. . . إنكم لا تريدون الصحة ولا الرياضة ولا المشاركة بالعيد إنما تريدون التلذذ بمرأى بناتنا باسم العيد والرياضة والصحة، إنكم لصوص أعراض. . ولكن ليس الحق عليكم، الحق علينا نحن آباء الطالبات والطلاب، فنحن عميان لا نبصر خرسان لا ننطق، حمير لا نغار وإذا استمرت هذه الحال فليس أمامنا إلا اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل، على لسان داود وعيسى بن مريم.
اللهم لقد بلغت، اللهم لقد أنكرت المنكر.
اللهم لا تنزل علينا لعنتك، ولا تحلل بنا غضبك.
(دمشق)
أحد الكتاب
-
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
يحلو لبعض المعاصرين أن يسموا أنفسهم مجددين، كلُّ فيما يزاول من علم أو فن، ولعل هذا الادعاء عارض نفسي يعرض لكثيرين في كلُّ عصر ولاسيما من يغرمون بالشهرة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
وتجديد هؤلاء من العجب، فما هو إلا أن تِعنّ فكرة في رأس أحدهم حتى يطير بها، ويكاد يجن فرحاً وغروراً، ولو عرف قدر نفسه وتأنى قليلا لأدرك إنما خيل له، وليس هو التجديد، ولكنه قصور الفهم، وضلال العقل، وعمل الغرور، وربما اكتفى أحدهم بدرس كتاب أو كتابين في المادة التي يريد أن يجدد فيها. ثم بعد ذلك يشهد العالم على أن العلماء قصروا، وأنهم لم يفهموا، ولو أمعن الفهم، ولو وسَّع دائرة اطلاعه لقد كان وجد في كتب القوم ما يرد نزغته، ويطفئ شهوته.
وقد منيت علوم البلاغة في العصر بدعاة التجديد، وهي في شديد الحاجة إلى من يجد أخلاقها، ولكنها لا تظفر إلا بالدعاوي العريضة الكاذبة، ونستطيع أن نقول إن التجدد فيها وقف بعد الإمام الجليل الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وإن ما بذل بعد ذلك ليس إلا محاولات بسيطة إن لمست بعض النواحي في هذا الفن فأنها لم تخلص إلى اللباب، وإن في (دفاع عن البلاغة) للأستاذ الزيات، وفي (مذكرات في علوم البلاغة) لفضيلة الشيخ سليمان نوار، وفي (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد قطب أقول إن في هذه الكتب لوثبات تبشر بخير، وهي بعد جديرة بالتقدير.
ويمكن أن ننظر في محصول هذا العصر البلاغي، فنجد بعض العلماء قنع بأن يجمع الأشتات، ويؤلف المتفرقات، ثم يدعي أنه في البلاغة ألف، وبعضهم يعمد إلى الورق الصقيل، والطبع الأنيق، ليقول إنه في البلاغة جدد، ولعل شر الثلاثة هؤلاء الذين يفترون على العلم ويكذبون على القدامى، ويكثرون من ثلبهم وتنقصهم ليقال إنهم وحدهم الذين عرفوا وقد جهل الناس، ووصلوا وقد تخاذل العلماء.
يهدمون ولا يبنون، ولو أنهم هدموا متبصرين فاهمين لكان فيهم أمل، ولكنهم يضربون معاولهم وهم مغمضو الجفون.
بين يدي الآن مذكرات في علم البلاغة المعاني أملاها الأستاذ الشيخ (أمين الخولي) علىطلبته أن يناقش، ولكني رأيت أن يشركني القارئ في هذا الأسلوب الذي يدرس به هؤلاء الأعلام!!.
وإنما يعنيني هذا الأمر لأن البلاغة فن من الفنون قبل أن تكون علما من العلوم، وما دامت فنا فهي تتطلب ما تتطلبه الفنون من حسن العرض وجمال التنسيق الذوق الأدبي في المتعلمين، ولهذا كانت حاجتها إلى الإكثار من النماذج العربية الصحيحة الفصيحة. ومن العرض المتأنق الجميل الحاجة القصوى، ولكن ماذا نقول حين أستاذ البلاغة في الجامعة المصرية يعرض هذا الفن، كما يعرض واعظ العامة موعظته في أسلوب عامي ركيك، ولنقتصر الآن على عرضه لثلاث آيات من كتاب الله الكريم:
1 -
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) بشرحها الأستاذ هكذا (وبعبارة أخرى يريد الله أن يقول: هو محمد ده يطلع إيه؟ محمد هذا والرسل من قبله مجرد (سعاة بوسته) هو مرسال زيّ المراسيل اللي قبله. . . بيجي ويروح ويموت وينقتل. . . الخ فإذا حصل شيء من هذا يبقى خلاص انقطع ما بينكم وبين الله؟ هو يعنفهم لا على نكوصهم عن محمد، بل لنكوصهم من أجل موت محمد ولذا يقول: أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. . . الخانتهى بنصه وفصه!!
صدقني - أيها القارئ - إن هذه عبارته. فهل هذا التجدد؟ هذا كلام يمكن. أن نتصور صدوره من وأعظ يلقى عظته على جماعة من (البرابرة) فيضطر إلى أن ينحدر هذا الانحدار، على أني واثق من أن مثل هذا الواعظ يعف لسانه وذوقه عن هذا الهذيان!
ولكن ما الحيلة والرجل من كبار المجددين في علوم البلاغة، أليس التجدد هو مخالفة الأقدمين؟ أليس التجدد هو بساطة والحذلقة، وما المانع من أن يلقى على طلبة الجامعة أن محمداً وعيسى وموسى وإبراهيم وجميع الرسل ليسو إلا (سعاة بوسته)؟ وهل في ألسنة البلاغيين أصدق وأبسط وأحسن من هذا التعبير الجميل الظريف الخفيف؟!
2 -
قال الله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا بنذير). وقال الشيخ نفعنا الله به وبعلمه آمين (أنت مش حتسمع اللي في القبور. والحقيقة أنه هو مش قدام أموات، وإنما قدام ناس ألواح وبهايم، والقرآن بيقول له: إنك حريص قوي على هدايتهم، والأحسن
إنك ما تحرصش كثير على هذه الهدية. قال له ذلك لأنه شاف إنه كاد لفرط عنايته بأن يهتدي هؤلاء القوم أن يخرج عن فينسى أن مهمته هي مجرد التبليغ. هو عمال يحرق في دمه الناس دول، ووفاؤه لمهمته هو الذي يحمله على الإسراف في الإلحاح ويهز في هذه الألواح، ويحاول أن يبعث فيهم نفحة من الهداية بأي ثمن. فقال له الله: يا أخي أنت حارق نفسك ليه. . . أنت مانتش حاجة أبداً إلا نذير تنذر من ينذر، وتخوف من يخاف، وتعلم من يتعلم، وتنبه من يتنبه، ودول أموات. . . فالأحسن لك أنك تريح نفسك).
والله ما أدري ماذا أقول؟ وأني لخائف أن أقابل هذا الكلام بما هو به جدير فيستثقل القراء وستبردون كلماتي. ولو أن في الجامعة قوماً يحاسبون المدرس لا تهموا هذا الأستاذ بتهم أقلها إفساد ذوق التلاميذ.
على أن شرحه بعد ركاكته وتهافته - ليس موافقاً كلُّ الموافقة لما تنطق به الآية، وإدراك ذلك سهل ميسور.
3 -
وقال عز وجل (وإذا قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله). ويقول الشيخ: (الحوار في هذه الآيات بين عيسى وبين الله حوار خيالي محض صور وقوعه بعد أن انتقل عيسى من هذا العالم الذي نحن فيه بدليل (فلما توفيتني) وكأن الله يقول لهم (أنتم بتقولوا عيسى ده إله، وإنه هو الذي أمركم أنكم تعبدوه. . . نجيبه؟ نسحبه ونسأله؟ ثم صور بعد ذلك أنه لو قام وبعث إلى الحياة لدار بينه وبين الله هذا الحوار: الناس الباردين دول. . . هل أنت قلت لهم يا عيسى إنك إله؟ قول لهم يا أخي)!
بمثل هذه الأساليب البارعة الفاتنة يلقى مدرس البلاغة في جامعة فؤاد الأول، وسيد المجددين كما يدعى. . . يلقى دروسه!
ومن الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ الفاضل أدرك أخيراً ما في هذه الأساليب من ضعف وسخافة، فأشار على تلاميذه أن يمروا بالقلم على بعضها، ولكنه بعد قلم خفيف إن مر على دفاترهم، فلن يمر على أفكارهم وأذهانهم. . .
علي العماري
مدرس البلاغة بمعهد القاهرة
في التربية الحديثة
التاريخ والقومية. . .
للأستاذ إبراهيم علي طرخان
في الواقع يصعب تحديد معنى الكلمة (تاريخ)، بل فهمها على الوجه الصحيح، فليس هناك تعريف نهائي مطلق، لسبب واحد فقط: وهو أن مجرد إدراك التاريخ على حقيقته جزء من التاريخ؛ لذا كان التعريف خاضعاً لقانون التطور، ومن هنا كان لكل عصر، بل لكل أمة تعريف خاص، أطلق على ضوء فلسفة العصر وأهداف الأمة ومثلها العليا.
وليست مهمة المدرس في ابتداع تعريف جديد، أو حتى التسليم بتعاريف أخرى - إن كان للتعاريف أهمية في المراحل الأولى من التعليم - ما لم يحللها ويتفهمها ويقتنع بما فيما بينه وبين نفسه أولاً؛ غير أن الأجدر به أن يوجه همته ونشاطه نحو تفسير ما غمض في حياتنا المعاصرة، وذلك على ضوء التاريخ، فالاتجاه الحديث في تعليم التاريخ يقتضي هذا النهج لأمرين:
1 -
إن الحاضر هو منبع الأسئلة ومثير الاستفهامات ومحك التفكير، بل هو مغر كلُّ الأغراء للأطفال فضلاً عن الكبار، وهو معقد كلُّ القعيد.
2 -
هنالك ماض لا يزال حياً في حاضرنا ما يؤثر فيه ولم تنقطع صلته به، كمظاهر الحضارة والتقاليد وغيرها، ويعتبر الحاضر امتداداً له.
لهذا كان الحاضر متشعب النواحي مختلف الاتجاهات، وهي سنة كلُّ مجتمع في بنائه وقيامه على الاختلاف لا على التشابه، ولفهمه على أصوله لابد من التاريخ، ولدي الأطفال استعداد فطري تاريخي. هذا يوضح أن من الممكن فهم التاريخ على حقيقته؛ يقول الدكتور (قد يجعلنا التاريخ متفرجين على الحاضر وما هذا الوجود المعاصر إلا حلقة من حلقات ماضينا التاريخي، فالتاريخ إذن هو إدراك النفس الشاعرة لكنهها في مظهرها الحديث)؛ وما الإنسان المعاصر نفسه إلا إحدى مظاهر أو نتيجة ذلك الماضي البعيد: وحينما يستطيع الإنسان تفسير حياته بالتاريخ، أمكننا أن نقول: إن الإحساس التاريخي قد تكون لديه ونما فيه.
وإذا نحن تصورنا التاريخ على أنه مادة أو كتلة من المعلومات كنا مخطئين، فما هذا
الاعتبار، بمعنى آخر، ما تقسيم المعرفة الإنسانية إلى موارد إلا تقسيماً مصطنعاً لا مقابل له في عالم الحقيقة والواقع، إذن علينا التحلل من هذا الاعتبار إلى حد كبير، بل من دكتاتورية الكتاب المقرر، فليس هو الفيصل في معرفة التاريخ أو آخر معروفة له؛ وربما - إن كان صالحاً - اعتبر مجرد مقدمة وتمهيد لدراسة التاريخ على حقيقة.
قد يميل إلى اعتبار التاريخ رواية تمثيلية، منقطعة كلُّ الانقطاع عن حياتنا الحاضرة، بدعوى أنه يمت إلى عالم آخر غير عالمنا. هو عالم الأموات، وقد مات بموتهم، فلا أهمية حقيقية في النبش عن أحوالهم، ولا بأس من إيراد دعوى من هذاالقبيل قال بها أحد علماء العصور الوسطى بصدد حديثه عن المؤرخين:(وهم على شفا جرف هار، لأنهم يتسلطون على أعراض الناس) ويشترط بعد ذلك شروطاً في المؤرخ لا محل لها هنا، والزعم بأنه قد مات بموتهم والحديث فيهم أو عنهم إنما من باب القصص ليس لا يتمشى مع المنطق ولا الحقيقة، تلك الحقيقة التي تطالعنا كلُّ يوم في كلُّ من مظاهر حياتنا المعاصرة: في المباني، في الزي، في المواصلات، في التقدم، في القنبلة الذرية في غيرها. . .؛ كلُّ هذا إنتاج تسلسل طويل، وكل مرحلة لا بد له من بداية، وما دامت الحياة كائنة، فلم تدن النهاية بعد؛ هذا يوضح لنا ارتباط الماضي بالحاضر ووجوده فيه وامتداد هذا كله إلى المستقبل. وربما أراد البعض بالتاريخ في هذا المعنى الروائي أو الدرامي، أننا متفرجون، وهذا خطأ إن وقف المعلم والتلميذ موقف المتفرج، فالمهمة الحقيقية للعلم: إلى أي حد يشعر التلميذ أنه ممثل وليس متفرجاً؟! كثير من الشخصيات تبدو في مخيلته، قد لا تختلف عنه إلا في الشكل أو العرض لا الجوهر؛ فأي نصيب أو سهم يكون له فيما يقومون به؟ فيم يختلفون عنه كما قال قيصر أو الثورة الفرنسية؟؟ إنه يترك مسرح درس التاريخ، وتغرب شخصيات الرواية عن خاطره، ومن ثم يتجه في طريق، بينما اتجهت الدراما الإنسانية العامة إلى نحو آخر.
وقد غالى دعاة هذه الناحية إلى حد تفضيل بعض الروايات المشهورة على التاريخ ودراسته من حيث الأثر وما تتركه في النفس ومثلوا بروايات (شكسبير) نحو: والرد واضح، فإذا اعتقد المشاهد أو الدارس، أن ما يرى أو ما يقرأ أو يسمع قد وقع فعلاً وشمل أناساً مثله لا يختلفون عنه كثيراً ربما كان هذا أبعد في تأثيره وأعمق في إيحائه ويسوي في هذا الكبار
والصغار إلى حد ما، والواقع ليس التلميذ الصغير مستعداً لإدراك حقيقة التاريخ كشيء يشمله مباشرة، كمجرى أو أسلوب عام للحياة، هو نفسه عليه أن يأخذ بنصيب في هذا الأسلوب: إن إعلاء أو استمراراً أو تعديلا، لأنه يبدأ حياته حيث انتهى أسلافه؛ وإذا حاولنا النقص والهدم لاحتجنا إلى القرون الطويلة التي قضاها أسلافنا في التطور في مختلف فروع الحياة، حتى وصلوا إلى المرحلة التي نحن عليها، والتراث الذي خلفوه لنا. . .
على هذا كان تدريس التاريخ بل فهمه على وجه الصحيح غير ممكن إلا للراشدين. ففهمه يحتاج إلى الخبرة، وخبرة الطفل لا تزال قاصرة، والخبرة أساس في تكوين (فلسفة الشخص) أو نظرته إلى الحياة، وهذه الفلسفة أشعر حقيقة أنها تنقصنا نحن الكبار، فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمعظم الراشدين فكيف تكون بالنسبة للطفل!؟
ومع كلُّ هذا لا بد من تدريس معلومات للطفل في مراحله الأولى تحت عنوان (تاريخ) ما هي هذه المعلومات؟ وكيف تدرس! مبحث آخر.
المهم الآن، هو أن التسليم بهذه الحقيقة يزيل من أمامنا الكثير من فوضى العهد القديم والطرق التقليدية التي من أبرز خصائصها في رأي فيلسوف التربية الحديثة (ديوي) ثلاث:
1 -
الإلقاء المطلق أو الإيجابية المطلقة من جانب المدرس.
2 -
الاستماع المطلق أو السلبية المطلقة من جانب التلميذ وعدم احترام فاعليته وذاتيته.
3 -
صب المعلومات دون نظر إلى قيمتها في نظر التلميذ
فيحفظ شيئاً من الأحداث والألفاظ، لا دلالة لها في نفسه بالمرة، ثم نعتقد بعد هذا خطأ أننا نعرف تاريخاً أو نعلم تاريخاً، لا لشيء إلا لأننا قرأنا وحفظنا الكتاب المقرر، وأساس هذه الفوضى وهذا الإفلاس في النتائج من (حيث تكوين المصري المثقف المتعلم) المستفيد من التاريخ الحقيقي، هو الخلط بين التاريخ وكتاب التاريخ، وهذا خلط طبيعي في مثل هذا الموضوع، ومما يزيد في صعوبة تدريس التاريخ الحقيقي للطفل عدم إمكان تطبيق الطريقة العلمية أو التجريبية في التدريس التاريخ ولا أسمي استخلاص الحقائق من الوثائق طريقة علمية لتدريس التاريخ، فهذا عمل المؤرخ المختص ووفق شروط كثيرة جداً ودقيق لا تتأتى للمتعلم الناشئ - إن أردنا إخراج مؤرخين - ويمكن تلخيص هذه الشروط فيما
يندرج تحت هذين الأساسين:
1 -
معيار الصدق والحيدة العلمية التي يجب أن نتأكد منها مقدماً بالنسبة لمؤلف الوثيقة.
2 -
الدقة والوضوح الذي يجب توفره في الوثيقة.
هل يمكن أن ألخص ما سبق في أن التاريخ هو طريقة للحياة، هو مجرى الحياة المتدفق، هو مدى شعور المعاصر الدارس بنصيبه في هذا المجرى. وما ينبغي عليه كمصري يعيش في القرن العشرين؟ بمعنى آخر: إن إجابة السؤال الأول تعطينا فلسفة التاريخ.)
ما الذي نعنيه من تدريس التاريخ؟ هذا مبحث المقال القادم إن شاء الله.
إبراهيم علي طرخان
من عيون الأدب الغربي:
رحلات تشيلد هارولد لبيرون
للأستاذ بولس سلامة
- 2 -
تمهيد:
استيقظ بيرون ذات صباح فإذا هو شاعر مشهور. كان ذلك غداة نشره المتطوعتين الأوليين من ديوانه (رحلات تشيلد هارولد) وفي هذه الأشعار وصف بيرون رحلته الأولى في أوربا حيث طاف بأسبانيا وروما واليونان فوصف المدائن البالية ورثى المدنيات الخالية وحنَّ وأن وبكى واستبكى، ولم يكن في كلُّ ما كتب إلا واصفاً وناعياً نفسه المحطمة المنكوبة التي لم تحب الناس ولم يحبها الناس. نبذهم ونبذوه فراح يلتمس في وحدة البحر وحطام المدنيات البائدة عزاء لنفسه المحطمة الوحيدة. وفي المقطوعات التالية ترى وتسمع بيرون يودع بلاده ويرثي مجد اليونان ويصف البحر الواسع العميق.
الوداع:
وداعاً وداعاً يا شط المتواري وراء خضاره. بين ولولة الرياح وعجيج الأمواج. وأنت أيتها الشمس المائلة للغروب لك كما للوطن أقول وداعاً.
ولكن سوف يتنفس الفجر، وتشرق الشمس من جديد على التلال والوهاد إلا أرض بلادي؛ فقد غيبت فلا تعود. قصرى أقفرت عرصاته، وموقدي خبت فيه النار، واعشوشب المكان من حوله. أما كلبي فظل وحيداً عند الباب.
والآن غدوت وحيداً في العالم؛ فوق هذا الخضم الواسع العميق، ولكن فيم حنيني إلى الناس، وليس في الناس من حان علي، حتى كلبي سوف يطعمه الغريب فإذا ما عدت نبحني كالغريب.
أيتها السفين الأمين: شقي طريقك في اليم كما تشائين، وألق مرساتك في أي أرض فلست أبالي وقد هجرت وطني أي أرض تقصدين، وأنت أيتها الأمواج المتلاطمة مرحى مرحى فإن غبت عن ناظري. فلتتبعن الصحاري والوهاد. وداعاً وداعاً يا أرض المهاد.
البحر:
أيُها العباب الواسع العميق. تشق آلاف الأساطيل مياهك بلا نهاية، والإنسان الذي يملأ الأرض ضجيجاً وذعراً يقف على شطك حاسراً ذليلاً. فإن تجاوز الشط ابتلعته أمواجك، وغاب في قرارك بلا قبر ولا أكفان ولا مشيعين واحتواه نسيان عميق.
على سواحلك قامت الإمبراطوريات ثم عفت، وازدهرت المدنيات ثم اختلفت. أين أشور ويونان وروما. داعبت أمواجك شطآنها وهي حرة تحكم. ولا تزال تداعبها وهي مستعبدة تُحكَم. والزمن الذي يغير كلُّ شيء لم يغيرك، ولم تعلُ جبينك الغضون. فأنت الآن كما كنت في فجر الخليقة فتي القلب غض الإهاب.
بلاد اليونان:
يا بلاد يونان الجميلة: أيُها الأثر الباقي لمجدٍ خلا. نبيلة أنت في شقائك. خالدة أنت في فنائك؛ من يقود أبناءك المشردين؛ الذين طال مكوثهم في الأغلال. أين أولئك الأمجاد الذين وقفوا والموت في مضيق ترمبوليه. وقفوا كالسد أمام القاهر العادي. ليتهم يعودون إليك الآن. فينفخون فيك من بطولتهم الخالدة، وينقلون أبناءك للحياة. أيُها الراسفون في الأغلال: ليتكم تعلمون، إن الذين يتطلعون إلى الحرب عليهم أن يحطموا أغلالهم بأيديهم، وأن يعتمدوا في كسبها على سواعدهم لا على سواعد الآخرين فرنسيساً كانوا أو مسكوف. دعوا عنكم هذه الأوهام. فقد يعاونكم هؤلاء على توهين خصمكم، ولكن حريتكم في يدكم. يا أشباح الذل كافحوا عدوكم وانتصروا. أي بلاد يونان تغيرت السادة وبقيت شقية، وزالت عنك السيادة ولم تزل في كأس الذل بقية.
(الخرطوم - السودان)
بولس سلامة
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 24 -
أربع سنوات بغير حرب:
نشر ملتن كما أسلفنا كتيبه الأخيرين في دفاعه عن حق إباحة الطلاق بعد كتيبه الذي ناضل فيه حرية الرأي، ثم سكت منذ شهر مارس سنة 1645، فلم يكتب مجادلاً أو مخاصماً إلا ما ندر من الشعر حتى سنة 1649، فكانت هذه السنوات الأربع فترة سكون أعقبها وثبه قوية في ميدان آخر هو ميدان السياسة
وقبل أن ننظر فيما كان من أمره في هذه السنوات الأربع نشير إلى مقال أثبت فيه رأيه في التعليم، وقد نشره قبل ذلك ببضعة أشهر، أي في صيف سنة 1644
كتب ملتن هذا المقال الذي لا يزيد عن ثمان صفحات بإيحاء صديق له يدعى (صمويل هارتلب)، وهو ينتمي في أصله إلى دنزج، وقد أقام في لندن منذ سنة1628، وكان مهتماً بفلسفة التعليم وتجديد أسلوبه على نحو قريب مما دعا إليه بيكون في انجلترة وكومنيس في أوربا من قبل. . .
وينصب رأي ملتن على التلاميذ من سن الثانية عشرة إلى الحادية والعشرين، وتلمح في المقال على صغره خصائص أسلوبه ونوازع وجدانه، ففيه مثلما يحسه المرء في كتيباته من السمو بالغرض في كلُّ ما ينهض له، وفيه النظرات الحرة التي لا تتقيد بقيد، والتي تنفر من كلُّ متواضع متعارف، وفيه كذلك الاعتزاز بالرأي والتحمس له والاستناد إلى مصادره هو وإنكار ما عداها!
وعنده أن التلاميذ في هذه السن يجب أن يفرغوا في وقت قصير من القواعد اللاتينية
والإغريقية، وأن يطالعوا بعد ذلك بعض الكتب الإغريقية السهلة؛ ويجب أن يتخلل هذه الفترة من دراستهم محاضرات تذكى في أنفسهم حب العلم والفضيلة، ومتى اكتمل شعورهم بأداء الواجب (صعدوا في سفح المعرفة غير معجلين ولا وانين)؛ وعليهم أن يتقنوا دراسة الكتب الإغريقية واللاتينية في كلُّ فروع العلم، ولتخصص ساعة للسان العبري، ولكيلا يسأموا ينبغي أن يعلموا المصارعة والملاكمة وإضرابهما من فنون الرياضة، وأن يقلدوا بعض المعارك ليفهموا أساليب القتال، وأن يسمعوا الموسيقى لتنعشهم وتهذب نفوسهم. . .
وواضح من منهاجه هذا أنه يقيس على نفسه فيقترح هذا العبء الثقيل للتلاميذ، لأنه نهض بما هو أثقل منه في غير عناء، وكأنما تأبى عليه شدة ذهابه بنفسه إلا أن يجعل من كلُّ ما يعمل وما يرى من رأى مثالا ينبغي أن يحتذيه الغير. . . وهو في منهاجه كذلك يخرج على البيوريتانز، إذ يوجب تعلم الإغريقية واللاتينية وشتى فنون المعرفة. . .
وألقى ملتن قلمه منذ أوائل سنة 1645، وظل يترقب في هدوء أبناء الحرب الأهلية التي مالت معركة نسبي بكفتها نحو أعداء الملك في يونيو من تلك السنة، وكانت آثار الجهد بادية عليه لفرط ما جادل وناضل منذ أن ألقى بقيثارته على رغمه وشرع قلمه في سنة1641 ليبدأ حربه على قساوسة، ولكنه استشعر بعض الغراء في عودة زوجته إليه بعد معركة نسبي بقليل. . .
وكان منزله الجديد في حي باربيكان الذي استأجره بعد عودة زوجته يكاد على سعته يضيق بمن فيه، لذلك كانت المعيشة فيه ينقصها الراحة والهدوء، الأمر الذي ضاق به صدره أحياناً، ففيه لا يزال يتلقى العلم على ملتن عدد من أبناء أصحابه لا تخفت أصواتهم في أكثر ساعات النهار، وفيه يقيم ابنا أخته، ويقيم معه كذلك في منزله أبوه وهو اليوم شيخ كبير، كما حضر ليقيم معه مستر بوول وزوجته ونفر من أسرتهما سنة1646 بعد أن سقطت اكسفورد وفورست هل في يد أنصار البرلمان. وجاء ليعيش أخوه كرستوفر على مقربة منه، وكان لا ينفك يضايق ملتن بعسره وبمشكلاته القضائية التي جائت في وقت واحد مع مثيلاتها من مشكلات آل بوول. . .
ولم يعدم الأدب نصيراً في تلك السنين العاصفة، وكان هذا النصير هو ناشر يدعى موزلي على جانب ملحوظ من الثقافة، وكان مما نشره موزلي في خريف سنة 1645 كتاب كتب
على غلافه: (قصائد مستر جون ملتن الإنجليزية واللاتينية، نظمها في أوقات متفرقة).
وكان هذا الكتاب ينتظم شعر ملتن كله من أول عهده بالقريض حتى ذلك اليوم؛ وفي الصفحة الأولى أثبت ملتن عبارة مقتبسة من فرجيل مؤداها أن للشعر هواه ومتجهة لا للكتيبات، وأنه لا يحب أن يعرف بشيء إلا بالشعر، وأثبت كذلك في تصدير ديوانه ما تسني لشعره من تقريظ الأجانب إياه وثنائهم على صاحبه!
ولا ريب أن خصومه من المتزمتين قد وقعوا كما صورت لهم عقولهم ونوازعهم على أكثر من غميزة في هذا الشعر الذي يزخر بصور الجمال والفتنة وخرافات الإغريق والرومان، وفي تلك الأغنيات التي لحنها على أوتاره الملحن (لو) الذي ينتمي إلى حزب الملك، وأنهم لذلك تغامزوا فيما بينهم ونعتوا باللاتينية أو ما يقرب منها ذلك الشاعر، وسخروا من ذلك الذي طالت بإباحة الطلاق، وثار على الرقابة وخاصم البرسبتبريز، فما يطلب في رأيهم إلا الإباحية وإن زعم أنه يدافع عن الحرية. . .
ولكن كثيراً من المثقفين تقبلوه بقبول حسن، وأشربوا في قلوبهم محبته، ومن هؤلاء صديق له مرموق المكانة في الأدب والثقافة هو الدكتور روس الذي كتب إليه يسأله نسخة ثانية من كتابه، فأرسلها إليه الشاعر مشفوعة بمقطوعة يثني فيها على هذا الصديق ويتواضع على غير عادته إذ يشير إلى مبلغه من الشعر في صدر شبابه، ويحن إلى تلك الأيام التي أقبل فيها على النظم أول ما أقبل حين كان حدثاً لا تكاد تبلغ الأرض قدماه إذ يكتب، ويأسف إذ يرى اليوم ربات الشعر تروعها الحرب القائمة وتطيرها. . .
والحق أن للمرء عذره بادئ إذ أحس التناقض بين أن يكون ملتن بيوريتانياً، وأن ينطق لسانه بهذا الشعر، ويفيض قلبه بهذا الإحساس الغامر بالحياة ومسراتها ولذاذاتها وكل جميل فيها، ولكنه لا يكاد يتذكر مولده بين ربيع الأليزا ببيثين وصيف البيوريتانز حتى يدرك ما ذكرناه عنه من قبل أنه كالطائر المتخلف الذي يغني في هجير الصيف ألحان الربيع.
ولقد أشار مكولي إلى هذه الناحية من حياة ملتن فجاء بوصف بديع يحملنا لفرط قوته على أن نثبته هنا غير منقوص. قال بعد أن تحدث عن الملكيين والبيوريتانز (لم يكُ ملتن منتمياً بمعنى الانتماء الحق إلى طائفة مما ذكرنا، فلم يكُ بيوريتانيا ولا من ذوى التفكير المطلق من قيود الدين ولا ملكياً، فقد اجتمعت في أخلاقه وائتلفت من صفات كلُّ طائفة أكثرها
نبلا، فمن البرلمان والبلاط، ومن مجتمع المنشقين على الكنيسة والغناء القوطي للكتدرائية، ومن حلقات البيوريتانز الكئيبة الموحشة كالقبور ومباهج عيد الميلاد عند ذوي الجود من الفرسان، من كلُّ أولئك انتقت طبيعته واجتذبت لنفسها كل ما كان عظيماً صالحاً بينما نبذت كلُّ ما من شأنه أن يشوه تلك العناصر الخلقية من الخلال السافلة البغيضة. . . فعاش كالبيوريتاز عيشة من يمسي أبداً أنه تحت عين البارئ الأعلى، وكان مثلهم لا ينقطع تفكيره في المهيمن العدل؛ وفي الجزاء السرمدي؛ ومن ثم فقد أخذ عنهم احتقارهم للعليل الظاهرية، وقوة بأسهم وطمأنينتهم وعزمهم الذي لا يلين؛ ولكن أعظم الناس شكاً في الدين وأكثرهم استهزاء به لم يكن أكثر منه انطلاقاً من عدوى أوهامهم الجامحة، ومن عاداتهم الوحشية ورطانتهم المضحكة، وازدرائهم العلوم ومعاداتهم متع الحياة؛ ولئن كان يكره الطغيان أشد الكره فإنه كان على الرغم من ذلك يتصف بتلك الصفات الغالية القمة التي يتحلى بها من يكتسبها، والتي كادت تكون وقفاً على أنصار الطاغية فلم يك في الناس من هو أكثر منه إحساساً بقيمة الأدب، ولا أرق منه استساغة لكل متعة مهذبة، ولا أكثر منه شبهاً بسجايا الفروسية فيما يتصل بالشرف والحب، ولو أنه كان ديموقراطياً في آرائه إلا أن أذواقه وصلاته أكثر كانت مشاكله للملكية والأرستقراطية؛ ولقد كانت تحيط به كافة المؤثرات التي أضلت ذوي الأناقة والشجاعة من الفرسان، ولكنه لو يك عبداً لتلك المؤثرات بل كان سيدها المسيطر فكان كبطل هوميروس الذي استمتع بلذاذات السحر جميعاً ولكنه لم يعتقله السحر، فقد أصغى إلى أنشودة (السبرينز) ولكنه اتخذ سبيله في البحر بقربهن فلم تمسه منهن غواية تجنح به إلى شاطئهن المخوف. وشرب من كأس ميرسْ ولكنه كان يستحوذ على ترياق أكيد يبطل أثر حلاوتها الساحرة، وكذلك كان ملتن، فلم يك ما تملك خياله من الأوهام ليوهن من قوة حكمه على الأشياء فكان له من رجل السياسة في شخصه دريئة تدرأ عنه ما يسحر الشاعر فيه من أسباب الروعة والجلال والخيال؛ ويدرك ما نعنيه بقولنا هذا كلُّ من يتبين مبلغ ما هنالك من تضاد بين ما أفصح عنه من عواطفه فيما كتبه من مقالات عن القساوسة وبين تلك الأبيات الرصينة الجميلة عن العمارة الكنيسة والموسيقى الكنيسية في قصيدته البسبروزو التي نشرت حوالي ذلك الوقت الذي نشرت فيه المقالات، وتلك من المتناقضات التي تسمو بأخلاقه في نظرنا أكثر
من كلُّ شيء غيرها لأنها ترينا كم ضحى ملتن من أذواقه واحساساته الخاصة لينجز ما يعتقد أنه واجبه نحو الإنسانية؛ وإن كفاحه لهو بعينه كفاح عطيل النبيل، ذلك الذي يرق قلبه ولكن يده ثابتة، والذي لم يأت عملا قط عن كراهة يل فعل ما فعله كله بدافع الشرف فهو يقبل خادعته الحسناء قبل أن يهلكها).
ويخيل إلينا أنه وقد رأى شعره في كتاب يلقاه منشوراً يتداوله الناس قد عاود نفسه الحنين إلى النظم، وتمنى لو ترك ضجيج الحرب وأنبائها وعاد إلى محراب الفن، ومن ثم كانت مقطوعته عن الساحرة التي نظمها سنة1645 والتي جعل عنوانها (إلى صديقي هنري لو)؛ وكان لو هو الذي لحن له بعض أغاني أركادس وكومسي كما أسلفنا ومثل دور الروح الحارس في الغنائية الثانية وبين الشاعر والملحن من صدر شبابهما محبة ومودة توثقت عراها ولو أن لو كان ملكياً، ولكن فنه كان أعز على صاحبه من أن يتجافاه بسبب الاختلاف المذهبي بينهما مهما اشتد كما أنه كان لشخصه عند ملتن مكانة لا تدانيها لأحد غيره مكانة. وفي هذه المقطوعة يرفع ملتن قدر لو ويعزو إليه فضل تهذيب الموسيقى في قومه. ذلك الفضل الذي لن تنساه العصور المقبلة، كما أنها لن تنسى عظيم صيته، ويقول لصاحبه في ختامها (لقد مجدت الشعر، وعلى الشعر أن يحلق كيما يمجدك. . . ولسوف يأذن دانتي للصيت أن يرفعك مكانا أعلى من مكان مغنيه كازلاً الذي لاطفة كيما يني له إذ لقيه في المطهر في غبش الجحيم)
ولكن الشاعر لا يكاد يلمس بكفه هذه الأوتار الهادئة الساحرة التي طال به عهد هجرانه إياها وعاوده الحنين إليها حتى يدعها إلى أوتار صاخبة ترن رنيناً مزعجاً مثل ضوضاء المعركة، فقد مس أذنيه طنين هو بقية سخط البرسبتيرينز على آرائه في الطلاق، فنظم سنة 1646 مقطوعة عاوده فيها عنفه وصرامة هجائه ونشرها تحت هذا العنوان (إلى مستكرهي الضمائر الجدد في عهد البرلمان الطويل) وفيها يرمي البرسبتيرينز بتهم قاسية. فيقول إنهم ذلك إلا ليكرهوهم بمبادئهم ضمائر الناس التي حررها المسيح، وأنهم لم يكونوا خيراً من القساوسة الذين قوضوا سلطانهم لا بدافع النقمة على آثامهم بل بدافع حسدهم إياهم على تلك الآثام، ثم يتوعدهم الشاعر بكشف الستار عن ألاعبهم ومكرهم ويستعدى عليهم البرلمان، ويذكر أسماء بعض رجالهم فيسخر منهم ويتجاهلهم، ويختتم مقطوعته
بتلاعب لفظي يفهم منه أن البرسبيتر ما هو إلا قسيس كتب اسمه غير مختصر.
وبعد هذه المقطوعة آثر ملتن أن ينفض يديه من الخصومات ولعله سئم طول القتال، أو لعل ذلك لأنه في الواقع لم يجد ما يثيره ويسخطه، أو لعله يئس من بني قومه جميعاً ورآهم لا يستحقون منه ما يلقي من أجلهم من عنت الخصومات وغل الحزازات.
ولكنه وقد ركن إلى الراحة لم يظفر بها في بيته فقد ازدادت في البيت دواعي متاعبه وضيقه، فأضيف إلى ما فيه من جلبة صراخ بنتين ولدا له تباعا في سنتي 1646 وما بعدها، وما زال جيرانه وأنسباؤه يضايقونه بمشكلاتهم وأحاديثهم التافهة التي يتجرعها ولا يسيغها، لقد شكا من هؤلاء الناس فيما كتبه إلى صديق له بإيطاليا سنة 1647 يصف حاله فقال:(هؤلاء الذين لا يربطني بهم إلا مجرد الجوار يحرضون لمجالستي كلُّ يوم فيضجروني بل يكادون من فرط ما أحس به من ثقلهم يدفعون بي إلى الموت).
وفي سنة 1647 مات حموه مستر بوول، ولم يمض غير قليل حتى مات أبوه فحزن الشاعر عليه حزناً عميقاً، فقد كان يجله ويذكر دائماً ما له عليه من فضل، وترك له أبوه مالا تحسنت به حاله، فصرف تلاميذه لأنه استغنى عما كان يناله منهم من أجر نظير تعليمهم، ولأنه كانت تغمز على قلبه الرغبة في أن يعود إلى قيثارته، واستأجر ملتن منزلا جديداً أكثر سعة وأحسن موقعاً، وأمل أن يجد فيه ما ينشده من هدوء
ولكن شيئاً جديداً يقلقه ويخيفه وتتكدر له جوانب نفسه، وذلك أنه يوقن من تضائل بصره، ولقد بدأ ذلك الإحساس في نفسه منذ مستهل سنة1645، فظنه يومئذ وهماً من الوهم، ولكنه اليوم تلقاء حقيقة راهنة، فإنه إذا قرأ في صباح تألمت عيناه وأحس بظلمة تغشى الجانب الأيسر من عيناه، حتى لتحجب عنه ما يكون في هذا الجانب من أشياء. . . فإذا أضيفت هذه الظلمة إلى ما يكتنفه من ظلمة اليأس مما ابتغى من إصلاح أمكننا أن نتبين مبلغ ما كان يعانيه يومئذ من عذاب. . .
فكر ملتن أن يعود إلى الشعر، ولكن الفجر الذي بشر به في نهاية كتيبه الأول سنة1641، والذي لمح إلى طائره الصداح لم ينبثق نوره بعد، بل لقد ازدادت حلكة الغسق من جزاء هذا الاختلاف الشديد في الدين والسياسة الذي فرق الناس شيعاً وأحزاباً وطوائف متباغية، ومن جزاء هذه الحرب المستعرة التي تزلزل الملكة، وهيهات أن يتغنى شاعر في ليل كهذا
الليل. . .
واتجه ملتن إلى التاريخ، فأخذ يكتب كتاباً في تاريخ قومه، وتبين المرء من مقارنته بين الأقدمين منهم الأنجاد الأذكياء وبين المحدثين الأدعياء الأغبياء مبلغ ما كان في نفسه يومئذ من سخط وازدراء لأهل عصره، ومبلغ ما ساوره من هم وسأم من هؤلاء الذين طالما امتدحهم فأطنب في مدحهم وتوقع على أيديهم كثيراً من الخير!
(يتبع)
الخفيف
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للأستاذ خليل جمعة الطوال
- 1 -
لقد امتدت عداوة المناوئين للإسلام إلى حد النيل من حضارته والطعن في مدنيته وانتقاض أمره وكل ما من شأنه أن يتصل به؛ وليس أهون على المتحامل من أن يطعن وينال بغير رويه ولا تدبر، ذلك لأن سبيلهما جد ميسورة، ومؤنة امتهانهما أيسر، ومن المؤسف حقاً أن تبلغ العداوة للإسلام بالأوربيين حد الإجحاف بالحق، والجناية على العلم والتاريخ؛ ولئن جاز لرجال السياسية أن ينساقوا لتيار أهوائهم وأن يبنوا أحكامهم على قاعدة أغراضهم ومصالح قومياتهم، فما أحسب هذه السبيل مشروعة في كتابة البحوث العلمية؛ ذلك لأن العلم لا يدخل البتة في حساب الأهواء والقوميات، بل هو أمر مقدس فوق جميع هذه الاعتبارات يزكو بالنزاهة، ويزهو بالأمانة له، وهو فوق ذلك ملك مشاع بين جميع الأمم؛ لا فضل لهذه على تلك فيه إلا بمقدار ما أسدت له من الخدمات، وأودعت في كنوزه من الاكتشافات والاختراعات.
وإنه لمن الجناية الكبرى على العلم، أن تقوم في طبقة العلماء فئة لم تحرر بعد من قيود المنازع، وأغلال الأهواء؛ ولا عرفت قط قيمة النزاهة العلمية والأمانة التاريخية؛ فتحاول جهدها باسم العلم أن تبخس الإسلام فضله على المدنية، وأن تطمس من سجل الحضارة صفحة مشرقة تشهد بجلالها وروعتها جميع تواريخهم وأدوات حضارتهم؛ فمن هذه الأحكام الجائرة التي يبرأ منها الإنصاف ويمجها العلم وتلفظها الحقيقة، ما جاء عن (أندريه سرفي) إذ يقول: (لم يكن الإسلام شعلة، بل مطفأة نشأ من قلب متوحش، لأمة متوحشة، فكان ولا يزال عاجزا عن أن يساير الزمن ويجاري التمدن، ولقد أثبت في كلُّ بقعة ارتفعت فيها أعلامه أنه وقف صخرة ناشزة في سبيل التقدم، وأنه خنق نشوء المجتمع، وفي كتب المغرضين الشيء الكثير من هذه الحملات الطائشة والأحكام الغثة الجائرة التي لا يدعمها دليل ولا تدمغها حجة.
لم يقف (سرفيه) عند هذا الحد من التحامل بل راح يقول أيضاً (وإن المدنية الإسلامية أقل من أن يعتن بدراستها إذ هي تقليد مشوه لمدينتي اليونان والرومان سقط العرب على مادتها
في الكتب السريانية فاقتبسوها دون أن يعترضها لها بما يستحق الذكر من النقد، لأن العرب قد اثبت أن لا قابلية له على استقصاء البحث بصورة جدية، وأن لا قدرة له البتة على إبداع شيء من عنده، ولم يتقن العرب من العلوم إلا التي لا تحتاج إلى عناء في التفكير، أو مشقة في البحث، وكانت سبيلها جد سهلة وميسورة كالتاريخ والجغرافيا وما إليهما الخ. . .) وأمثال (سرفيه) في التشيع والتعرض كثيرون، وتكاد رفوف المكاتب تنوء بتحمل مثل هذه البحوث السخيفة والحملات الطائشة، ومن المؤلم حقاً أن نسكت عنها، وننام عليها كأنها حقائق واقعة لا غبار عليها.
على أن تهاوننا في دراسة حضارتنا ونشر فضائلها وعرض روائعها للعيان، لأشد إجحافاً بحقها، وضررا لها من حملات الأعداء عليها وطعنهم بها، فاللص لا يقتحم غير البيت المهجور ومن واجب صاحب البيت أن يعمل على صيانة بيته، وأن يقيه شر العدو. وإننا سنتقدم في هذا البحث الموجز بإماطة اللثام عن مواطن العبقرية في حضارتنا، ثم نأخذ بتفنيد مطاعن الطاعنين فيها بالطريق الهادئة التي رسمناها لأنفسنا منذ أن اضطلعنا بعبء دحض مفتريات الخصوم وحملات المتحاملين.
انحلال الحضارة الغربية قبيل الإسلام:
تسرب الضعف والوهن إلى قلب الإمبراطورية الرومانية العظيمة رويداً رويداً، وما كاد يتم القرن الخامس للميلاد حتى لفظت هذه الإمبراطورية الواسعة أنفاسها، وأصبحت رقعتها نهباً مباحاً للقبائل البربرية التي كانت تحيط بها، وتناجزها القتال، وتشن الغارة عليها بين الفينة والأخرى، وهكذا أصبحت قبائل القوط والوندال. والكلت والهون، والمغول، والسكسونيين تتصرف بشؤون أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ، وكانت هذه القبائل في الدرك الأسفل من الثقافة، لاحظ لها قط من أسباب المدينة والعمران، فقوضت بهمجيتها سرادق تلك الحضارة الرومانية العريقة، وأصبحت معالمها نسياً منسياً، واجتازت أوربا هبة من الزمن كانت تتخبط فيها في دياجير الانحطاط على غير هدى، فساد الجهل، وانتشرت الفوضى ومنيت العقول بالعقم والجدب، وشل التفكير شلا مريعاً، ولئن كانت المسيحية إذ ذاك في عهد انتشارها وازدهارها، وفي شباب قوتها بحيث استطاعت أن تصمد أمام هذه القبائل المتبربرة المتوحشة، إلا أن نكبة المدنية بها لم تكن أهون من نكبتها
بتلك الشراذم المنحطة، ذلك لأنها كانت تخشى على عقائدها وتعاليمها من أن تتسرب إليها مشارط الحرية الفكرية فتفسدها، ولذلك بادرت إلى تقييد الأفكار، وحجر العقول، حتى لا تكاد تبض بقطرة من العلم، وكانت تعاقب على كلُّ نظرية جديدة تصدر عن رجال الدين، ويعلن هؤلاء استنكارهم لها آناً بالموت حرقاً وشنقاً، وحيناً بالتنكيل سجناً وجلداً. . .
وكان من نتيجة هذا الحجر على الأفكار وهذا الجهل المطبق أن عم البلاء، وانتشرت الأوباء، وأخذ الطاعون يحصد النفوس حصداً ذريعاً.
قال أرديكوس فيتالس أحد مؤرخي القساوسة: (عم بلاء المرضى فمضى بأهل بيوت كثيرة، كما أن الجوع قد أفنى المرضى؛ فلما أن خربت النيران الأرض، خرج إلا كثيرون هائمين على وجوهمم، فلما رأوا أن الأبرشيات قد طمست معالمها ودرست آثارها، فروا من الكنائس الخاوية هرباً إلى حيث لا يعلمون. . .
وقيل: (وقد بلغ من سوء الحالة إذ أن كان الناس يتكالبون على أكل الميتة وإن أنتنت، ينبشونها، من تحت التراب، ويطلبونها من على المز ابل. . . لا يسألون عما تسببه من الأذى وتحمله من الموت، وكانوا يستشفون من أمراضهم ببول البهائم والتعاويذ والتعزيم). . .
وقيل أيضاً: (وكان الطباشير يطلب من الأرض ويمزج بالدقيق، ليصنع خبزاً، لقد اصفرت وجوههم وانحطت قواهم حتى لقد عجزوا عن أن يجروا أنفسهم من فوق الأرض جراً وهيئت حفراً ليسحب إليها المحتقرون ويلقون في جوفها. وكانت هذه المصائب تلابسها مصاعب أكبر، وكوارث أعظم. فإن الذئاب وقد أنسوا على جوانب الطرق كثيراً من الجثث ملكتها الشجاعة وأغواهم ضعف الناس فراحوا بها جمون الأحياء، أما مواد الطعام فقد خص بها الأقوياء ليظلوا قادرين على العمل لعل الحقول تزرع ولا تبور. . .
وظلت أوربا تائهة في الظلال الجهالة: إلى ما بعد القرن العاشر، تغص بالغابات المخيفة التي تقطنها جماعات الوحوش، وأسراب الطيور الكاسرة (وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة. تحتاج الناس وتحصدهم، وكانت البيوت في باريس ولندن تبني من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب، ولم يكن فيها منافذ ولا غرف مونقة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش ينشرونه على الأرض، ولم يكونوا
يعرفون النظافة، ويطرحون أحشاء الحيوانات وخفي البهائم وأقذار المطابخ في ساحت بيوتهم فتتصاعد منها روائح مؤذية، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وبعض الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش فوقه كيس من الصوف القذرة يقوم مقام الوسادة، ولم يكن للشوارع مجاور ولا بلاط مصابيح، قال داير: وكان من أثر ذلك أن عمت الجهالة بين الناس، وساورتهم الأوهام، فأنحصر التداوي في زيارة الأماكن المقدسة، ومات الطب، وانتشرت أحابيل الدجالين، وكلما دهم البلاد مرض هرع رجال الدين إلى الصلاة، وأغلقوا أمر النظافة كرها لها، وكانت الأوبئة تفتك بهم فتكاً ذريعاً.
وإلى جانب هذا الفقر والانحطاط فقد انتشرت الفوضى، واضطرب جبل الأمن، وسادت اللصوص، وكثيراً ما كان يخطف السائر وينهب وهو ذاهب إلى بيته أو عمله ولو كان في رائعة النهار.
تلكم هي مدينة أوربا قبل العصر الحاضر، وتلكم هي حالة الشعوب الغربية يوم كان الإسلام هو المدرسة الوحيدة التي تهذب فيها الفكر الإنساني، وانبثقت منها أنوار الحضارة والمدينة.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم، والغرب لا يرى النور إلا من سم الخياط، وأما الجزيرة العربية فلم تكن بأحسن منه حالاً إذ كانت جاهلية جهلاء، يفترس القوى فيها الضعيف، ويعيد الناس مظاهر الطبيعة، ويقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويئدون بناتهم بلا رحمة، وما إن أظهر الله دينه على سائر الأديان حتى اخذ ينشر في الناس روح العلم والمدينة (تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة: ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة، وبعد أن لم يكن في الجزيرة سوى بضعة عشر رجلاً يحسنون القراءة والكتابة، فقد أصبحت فيما بعد مثابة العلم وموئل المدينة، ومورد الحضارة.
لقد كان العلم أول ما فرضه لنبي على المؤمنين بعد نبذ الشرك، وقد حثهم على طلبه ولو في الصين، وأمر به الله في كتابه العزيز (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ومما يؤثر عن النبي في ذلك قوله (مداد العلماء أزكى من دم الشهداء) وبلغ من حبه للعلم
وحثه على طلبه أن قال (أنا مدينة العلم وعلي بابها).
مبدأ الحضارة الإسلامية:
لقد أعلن الله رسالته، فأقبل الناس يدينون بها أفواجاً أفواجاً، ثم مات النبي صلى الله عليه وسلام، وليس في الجزيرة بأسرها إلا توحيد فلج الشرك، وإيمان زعزع الأصنام، فتوجه خلفاؤه الصالحون من بعده برسالته صوب بقية أقطار العالم الأخرى، ينشرونها بين شعوبها المتفككة، فيتسابق الناس للاحتماء بها هرباً من عسف تلك الدولة الغاشمة التي كانت ترزح لسلطانها، وتئن تحت نيرها، وما هي إلا عشرات من السنين إلا وشريعة ذلك اليتيم المسكين هي الشريعة السائدة في الكون والسيطرة على العالم، إلا صوت التهليل والتكبير قد أخذ يدوي في أرجاء إسبانيا من على سطوح الكنائس التي كانت فيها مضى مركزاً للمرضى، وبؤرة للأوباء، وكان أول ما فرضه المسلمون على العالم إلى جانب ديانتهم هي لغتهم العربية، التي بها لا بغيرها نزلت رسالة الله على نبيه، فقد أملوها على جميع الأمم التي رضخت لسلطانهم وخضعت لدولتهم، وقد بلغ من سعة امتدادها، وسرعة انتشارها أن أصبحت بين العالم في مكان اللغة اللاتينية القديمة، أي لغة العلم الوحيدة ولسان المتعلمين، وبلغ من تفوقها أيضاً أن صارت هي الواسطة الوحيدة لكل من أراد أن يلم بنواحي الثقافتين اليونانية والرومانية، أو يطلع على أحدث العلوم والآراء العصرية.
العربية لغة عالمية:
جاء في تاريخ اللغات السامية لرينان: (ليس في تاريخ العالم ما هو أدعى إلى التعجب من سرعة انتشار اللغة العربية، فقد كانت في بدء أمرها لغة خاملة الذكر، فإذا بها تظهر فجأة على مسرح الحضارة والمدينة وارثة للغة اللاتينية القديمة، وإذا بها لغة في غاية السلاسة والغنى، كاملة بحيث لم تعرف منذ ذلك العهد أي تغيير أو تعديل. وقد ظهرت لأول مرة أمرها تامة مستحكمة، فليس لها طفولة: ولا هرم. ولست أعلم هل وقع مثل ذلك لأية لغة أخرى في العالم دون أن تجتاز قبل ذلك أدواراً مختلفة، فإن العربية ولا شك قد عمت أكبر أجزاء المعمورة، ولم ينازعها في مكانتها من حيث كونها لغة عامة عالية إلا لغتان: اللاتينية واليونانية. ومع ذلك فقد تطرقت إلى أقطار نائية ولم تصل إليها هاتان اللغتان
قط).
وجاء في خطط الشام لمحمد كرد على (بذت العربية في الإسلام اللغة الفارسية والسريانية في العراق وفارس، والرومية، والسريانية في الشام، والقبطية في مصر، واللاتينية في شمال أفريقيا، ولم يمض سبعون سنة حتى أصبحت العربية اللغة العامة في هذه الأقطار. . .
(يتبع)
خليل جمعة الطوال
في الأدب الإنجليزي
شكسبير والمعاصرون
للأستاذ جرجيس القسوس
كان ظهور شكسبير في عالم الشعر وائتلاق نجمه في الأوساط الأدبية وهو الرجل غير المثقف من المعجزات ذلك العصر بل كلُّ العصور بالحقيقة، فقد كان يتنازع الشهرة الأدبية بزعامة الشعر فريقان، الأول مكون من رجل واحد هو كرستوفر مارلو الشاعر النابغة الفحل، والثاني يتزعمه توماس ناش وأغلب أعضائه من الشخصيات العلمية الجامعية، فناش وصحبه تخرجوا في جامعة كمبردج وغيرها من كبريات الجامعات في إنجلترا.
وبالرغم من اشتداد التنافس والتناحر بين هذين الفرقين فقد كان من المسلم به أن مارلو هو الزعيم الأدبي والشاعر العبقري غير مدافع.
لكن الخطر كلُّ الخطر داهم هذه الشخصيات العلمية الجامعية بظهور ممثل من عامة الناس لم يكن له شأن من قبل أو خطر، أخذ في تأليف المسرحيات على شتى أنواعها، والتجديد فيها وإعدادها لفرقة تشمبرلن التمثيلية بمظهر ملائم ذوق الناس الأدبي.
وقد سبق أن نشر شكسبير من قبل قصيدتين مذيلتين باسمه الصريح، فلفت إليه الأنظار، وجعل الأدباء يرمقونه بروح الدهشة والقلق والإشفاق، كلُّ ذلك في 3 سبتمبر 1592 حين وافى الأجل الأديب المعروف روبرت جرين تاركاً مقالاً محفوظاً، فتولى هنري تشتل نشره في الثامن من ديسمبر من تلك السنة، وفيه تعريض بهذا الشاعر الطارئ الحديث الشأن كما سترى. بيد أن تشتل عاد فنشر اعتذاراً من شكسبير وثناءً عليه لدماثة خلقه وأمانته واستقامته، وكذلك لسمو فنه الأدبي، وفي ختام مقاله يخاطب جرين ثلاثة من المؤلفين المسرحيين هو مارلو وتوماس لودج وجورج بيل ناصحاً إياهم أن ينصرفوا إلى غير مسائل التأليف. وفيه ترد العبارة المشهورة التي تشير إلى ظهور شكسبير ((ذلك الغراب المحدث، المتزين بريشنا، الذي بمجرد قوله (قلب النمر المكتسي بجلد الممثل) يعتقد أنه يجيد نظم الشعر المرسل كأحسن الشعراء. هذا الشخص الذي (يحذق حرفاً عديدة)، وهو ظنه (الشيكسين) الأوحد في بلده).
ومن الجلي الواضح أن جرين بذكره (لقلب النمر المكتسي جلد الممثل) إنما يشير إلى
وصف شكسبير (لقلب النمر الملتف بجلد المرأة) الوارد في الجزء الثالث من مسرحية هنري السادس التي كانت تعرف قبلاً (بمأساة ريتشارد أوف يورك) ثم في لفظة (شيك سين) إشارة واضحة إلى أسم شكسبير، ذلك لما بين الكلمتين من تشابه لفظي ظاهر. أو قد يكون المقصود بذلك، ومعنى (شيك سين):(يحرك المنظر، أو يغير المشهد)، غمزُ الشاعر من طرف خفي ونقده بأسلوب رقيق هادئ لرجوعه إلى النسخة الأولى من (هنري السادس) وهي من تأليف جرين وصحبه، وإخراجه نسخة جديدة من تلك الأصلية القديمة.
ومن قول جرين هذا نخرج بثلاث حقائق راهنة: -
الأولى: إن شكسبير كان ممثلاً وكاتباً مسرحياً بعيد الصيت، فلا عجب أن ملأ نفوس الأدباء المعاصرين بالحسد والحقد والضغينة والمقت الشديد.
الثانية: ظهور مسرحية (هنري السادس) بأجزائها الثلاثة والتي ربما مسها شكسبير بقلمه كما تبين من نشرها في المجموعة الأولى لمسرحياته (1623).
والثالثة: إن شكسبير كان في بعض الأحيان بل أغلبها يسطو على بعض القصص في مسرحيات غيره من الأدباء وينهبها في وضح النهار نهباً. ويتضح هذا من قول جرين (النمر المكتسي بجلد الممثل)، ومن (الريش الذي استعاره منا الغراب الأسحم ليتزين به).
أما المسرحيات التي أثارت دهشة جرين وحسده وجزعه معاً فلا يبعد أن تكون (هنري السادس) التي راجعها الشاعر على كلُّ حال وترك فيها أثراً ظاهراً. فقد لفتت إليها نظر جرين وأقرانه لما فيها من ازدحام الحوادث المتنوعة بشكل لم يعهد من قبل؛ وكذلك (تيطس أندرونيكس) التي يعتقدون أن شكسبير لم ينفرد بتأليفها بل اشترك في مراجعتها وتصحيحها؛ وهي مأساة رائعة إذا قيست بمآسي مارلو وتوماس كد التي كانت تعد من أعظم وأنفس ما شاهده ذلك العصر. وبتأثير ليلي طرق شكسبير باباً جديداً في فن الدراما هو الملهاة المفعم بالمحسنات اللفظية والكناية والاستعارة، فقد كان يحبذ هذا اللون من أساليب الكتابة الناشئون في الأدب، وهو أبرز ما يتمثل في جهد (الحب الضائع)
هذه هي المسرحيات التي ألفها شكسبير قبل وفاة جرين، فاسترعت انتباهه، وحولت إليه أنظار الأدباء والناس جميعاً. وبعد وفاة جرين بسنة يأفل نجم مارلو في سماء الأدب، ثم يقضي كد نحبه سنة 1559، ويعرض لودج عن الأدب وينصرف إلى ممارسة الطب،
ويخرج ليلي من القصر، وينغمس بيل في اللذات وينقطع عن الإنتاج الأدبي، ويتحول ناش إلى أدب الهجاء والقصة وهذا لا خطر منه، حتى إذا ما جاء عام 1598 لم يشهد في حلبة الأدب المسرحي على الأخص من يناقش شكسبير أو يجاربه.
ومن المحال أن تذكر لأديب ما في ذلك العصر مأساة أو ملهاة كان لها ما لأدب شكسبير الدرامي من قيمة أو وزن. فلا عجب أن ترى أستاذاً جامعياً كبيراً كتوماس ميرز يضع شكسبير في مصاف المسرحيين العالميين الذين نبغوا في بابي الملهاة والمأساة. فقد وضع ميرز كتاباً أسمه (بلادس تاميا)(استعرض فيه المجهود الأدبي منذ تشوير) حتى عصر اليزابث، وتناول بالدرس والبحث نحو مئة وخمسة وعشرين أدبياً الإنجليز، مقارناً بين كلُّ واحد منهم وبين من يرى أنه يشبهه من أدباء العصر الاتباعي القديم، أو أدباء الطليان في عصر الرينسانس. وفي هذا الكتاب يشير إلى شكسبير مطرياً شاعريته الفذة، كما تجلت له قصيدتي (فينس وأودنيس)(ولوكريس) ويرى أن ليس دون أوفيد الشاعر الروماني العظيم مؤلف (المتامور فيسس) أوبلونس شاعر الملهاة عند الرومان، وسنيكا الفيلسوف الروماني تالذي برع في تأليف المأساة. فيقول ميرز إن شكسبير لا يقل عن هؤلاء جميعهم في مسرحياته (كوميديا الأخطاء، وجهد الحب الضائع وسيدا فيرونا، وحلم ليلة في منتصف الصيف، وتاجر البندقية، ورتشارد الثاني والثالث، وهنري الرابع، والملك جون، وروميو وجوليت، وتيطس أندرونيكس).
ولهذا القول ولتعداد هذه المسرحيات قيمة مزدوجة، الأولى وهي مجرد ذكرها وعزوها لشكسبير دون غيره، وفي هذا رد على الذين يعزون نظمها إلى غيره، وفيه دلالة على أنه ألفها قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، والثانية تألق نجم شكسبير في سماء الأدب وازدهار شهرته الأدبية في برهة وجيزة ازدهاراً لفت إليه الأبصار.
ولم يقف الأمر عند إشفاق الأدباء، وقلقهم وجزعهم، أو ثناء البعض الآخر عليه وإعجابهم به؛ فقد وردت إشارات عدة في الأدب المعاصر تشيد بذكر هذا الأديب (ذي اللسان المعسول)(والعرق الذي يفيض شهداً)(والخلق السمح والبال الرخي).
ولقد كان له في نفس بن جونسون صديقه الأدنى وثاني الشعراء والمؤلفين المسرحيين بعده منزلة وطيدة راسخة الأثر، برغم أنه كان يغمره أحياناً ويأخذ عليه ما يبدو في أدبه من
نقص في الثقافة والعلم. فإنك لا ريب ذا كر تلك القصيدة العصماء التي قد لا يعلو عابها عليها شيء في الرثاء، وقد نظمها بعد وفاة شكسبير، وصدر بها المجموعة الأولى من مسرحيات شكسبير، وفيها يؤمن الشاعر ويطنب في مدحه، فيصفه (بأوزة آفون الحلوة) بضعة فوق تشوسر وسبنسر وبيمونت بل يجعله وحده (تمثالا فريدا لا ضريح له).
ثم يصف كيف غشى نجم شكسبير بنوره المتألق الساطع وأخفى ضياء تلك الكواكب الزاهرة في عالم الأدب كما لو وكد وليلى وغيرهم من فطاحل الأدباء. وفي هذه القصيدة: نفثة من هاتيك النفثات الفريدة الصادقة التي يلفظها أحيانا العقل والقلب معاً فتقارب بقوتهاوسحرهاوروعتها أخلد النبوت. (فهو يرى لبرطانيا أن تسير وتغتبط إذ أنجبت هذا الإبن العظيم الذي سوف تبايعه وتطيعه وتخلص له جميع المسارح في أوروبا؛ وأن شكسبير لم يكن لعصر واحد، إنما للزمان بأكماله، ولا أظنك بحاجة لشرح وبسط ما حققت الأيام من هذه النبوة الرائعة، فقد أصبح شكسبير منها للأدب عذبا، ومنبعاً لا يغيض ماؤه وأضحى نجمه يشع في سماء الأدب إشعاعا، ويتلألأ بالنور الزاهر الدائم، فيهتدي به الشعراء في إنجلترا وفي معظم أقطار العالم أيضاً.
شرق الأردن
جرجيس القسوس
وردة اليازجي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
- 2 -
وقالت ترثى الأمير أمين أرسلانالمتوفى سنة 1275هـ:
كأس المنية دائر بين الورى
…
يسقي الكبير ولا يفوت الأصغرا
ما هذه الدنيا بدار إقامة
…
إلا كطيف الحلم في سنة الكرى
كلُّ على هذا الطريق مسافر
…
لابد منه مقدماً ومؤخرا
وكذلك تقول:
هذا الذي بالأمس كان مكانه
…
شم القصور فكيف يرضى بالثرى
ثم أيضاً تقول بما فيه الجناس:
سار السرور عن السرير لفقده
…
وعن السرائر قد سرى
هذا هو السيف الصقيل أصابه
…
سيف من القدر الذي قد قدرتا
تبكي البلاغة واليراعة والحجى
…
والعزم في الخطب الشديد إذا اعترى
لو تعلم الشمس المنيرة فقده
…
كسفت أو البدر من المنير تحيرا
أو كان للحجر الأصم محاجر
…
أجرى عليه من المدامع أنهرا
وكذلك فهي تقول:
يا ركن لبنان العظيم عليك قد
…
كادت ربى لبنان أن تتفطرا
إلى أن قالت:
إن كنت غبت عن العيون فلم يزل
…
لك رسم شخص في القلوب مصورا
ثم تقول أيضاً:
لو كان يظهر حاب ضريحه
…
إلا على صفحاته لم يمطرا
وكذلك تقول خاتمة:
ناداه رب العرش من كرسيّه
…
ها نحن أ ' طينا الأمين الكوثرا
وقالت ترثي ولداً نبيهاً:
زوّد النعش قبل شد الرحال
…
إن هذي الحياة طيف خيال
وحياة الدنيا طريق يؤدي
…
نحو دار البقاء ذات الجلال
وتقول:
يا هلالاً قد احتوى نور بدر
…
كيف لو تم نورك المتلألئ
إن يكن قد خلا سريرك يوماً
…
منك فالقلب ليس منك بخال
وقالت ترثي الأمير سعيد الشهابي:
ترى من غاب عنا هل يعود
…
لعمرك إنه ليس أمل بعيد
فراق الحي محدود ولكن
…
فراق الميت ليس له حدود
ثم تقول:
شريف الأصل من أشراف دهر
…
تسلسل ولرواة له شهود
وكذلك فهي تقول:
فته عجباً أيا قبراً حواه
…
وقل أنا في الورى فلك جديد
فريداً كنت ما بين البرايا
…
وأنت اليوم في قبر فريد
لأعين أهله سهد طويل
…
ومن عبراتهم بحر مديد
ثم تقول:
لئن تك غبت عن دار ستفني
…
ففي الفردوس صار لك الخلود
وقالت ترثي كاتبة بنت موسى بسترس التي ذكرناها آنفاً وهي من صديقاتها اللواتي كانت تراسلن:
يا بنت موسى دعاك الله من
…
طور الجلال كما دعاه بما مضى
قد شق موسى بالعصا بحراً طغى
…
ونراك شققت القلوب بلا عصا
ثم تقول:
قد أنشبت فيك المنون سهامها
…
ظلماً ولم تشفق على ذاك الصبا
وكذلك تقول:
بكت المعارف واللغات تأسفاً
…
يوم الفراق على المعارف والتقى
ورثت سارة بنت المعلم بطرس البستاني بقولها:
يا بين ويحك هل أبقيت في البشر
…
عيناً بلا دمعة حرى ولا كدر
ومنها:
تبكي على فقدك الأتراب دمع دم
…
أغنت ثراك به عن مدمع المطر
قد كنت بين بنات العصر جوهرة
…
عظيمة الشأن تزري أفضل الدرر
ثم تقول:
يا نومة ما لها من يقظة أبداً
…
وغيبة ما لها في الدهر من حضر
إن لم تعد نحونا يوماً فنحن غداً
…
نسعى إليها ولو كنا على حذر
وفي رثاء أخيها حبيب تقول:
يا عين وردة في الأسحار والأصل
…
أبكي لفقد حبيب عنك مرتحل
ويا فؤادي تفتت بعد مصرعه
…
فإن سيف المنايا سابق العذل
ويا سلو ابتعد عن مهجتي أبداً
…
ويا دموع انزلي كالعارض الهطل
ثم تقول:
غاب الحبيب حبيب الروح عن حلل=باتت لفرقته في أسود الحلل
ويحيى من البين إن البين جارحنا
…
بأسهم لم نزل منها على وجل
وكذلك تقول:
رمى الحبيب بسهم قد أصيب به
…
فبات منطرحاً كالشارب الثمل
روحي فدى ذلك القد الذي قصفت
…
منه المنايا قواماً كان كالأسل
روحي فدى ذلك الوجه الذي كسفت
…
جماله حادثات الدهر والعلل
يا فارس اليوم أشرق قد أتاك على
…
قرب حبيب فلا تشكو من الملل
بدران أظلمت الآفاق بعدهما
…
في مقلتي وضاقت بالأسى سبلي
قد كدرت غير الأيام موردنا
…
وبدّل الدهر ما نرجوه من أمل
ثم تقول:
لا أخمد الله ناراً في الحشا اشتعلت
…
مني ولا نشفت عيني من البلل
ولا عرفت سلواً في الحياة إلى
…
أن ألتقي بك في مستقبل الأجل
ثم قالت ترث والدها وقد توفى سنة 1871م:
تكاثرت الأحزان في كبدي الحرى
…
وزادت دموع البين في عيني الشكرى
وجارت على ضعفي الليالي وأوقدت
…
بطي فؤادي من نوائبها حمرا
وقد آلمتني الحادثات بصرفها
…
كما ألمت خنساء إذ فقدت صخرا
ثم تقول:
فتباً ليوم فرق الدهر شملنا
…
وجّمع في قلبي مصائبه تترى
وهي تقول أيضاً:
أيا علم الشرق المبجل والذي
…
أقرت له بالفضل كلُّ الورى طرا
ويا معدن العلم الذي ضمه الثرى
…
وكم معدن كان التراب له سترا
ويا بحر فضل كان بالدرّ زاخراً
…
لفقدك كاد البحر أن يفقد الدرا
ويا من بمسراه تيتمت العلى
…
كما يتم التأليف والنظم والنثرا
ينوح عليك الشعر دهراً وطالما
…
بك اهتز فاستعلى على فلك الشعري
ثم تختم قائلة:
وقد غبت يا شمس العلوم وبدرها=فأصبح كلُّ يندب الشمس والبدرا
فيا قبره أكرم أعز وديعة
…
بطيك لم تبرح لأهل الورى ذخرا
أما مطلع قصيدتها في رثاء أخيها نصار وقد توفى في مدينة زحلة سنة 1874م فهو:
ويلاه ويلاه كم نشكو وننتحب
…
وكم علينا صروف الدهر تنقلب
وكم تجور الليالي في حوادثها
…
على فؤاد بنار الحزن يلتهب
ثم تقول:
يا أرض زحلة في حبها شغف
…
إذ في حماها شقيق الروح محتجب
يا راحلاً راح صفو العيش يتبعه
…
واستوطنت بعده الأحزان والكرب
ثم تقول أيضاً:
يا قلب صبراً على ما قد أصبت به
…
ولا ترعك البلايا وهي تعتقب
قد عودتك الليالي الحزن من صغر
…
حتى غدوت إلى الأحزان تنتسب
إلى أن قالت:
يا رحمة الله زوريه ميممة
…
ترباً له قد سقت أرجاءه السحب
وآنسى من ثراء مضجعاً بحمى
…
لبنان فيه حبيب القلب مغترب
مني عليه سلام الله ما غربت
…
شمس وما طلعت في أفقها الشهب
وفي رثاء أختها راحيل تقول:
متى تترك الأيام دمعي لا يجري
…
وقلبي المعنى لا يبيت على جمر
أبى الله أن أنسى وكيف وفي دمي
…
قد امتزجت أحزان خنساء على صخر
ثم تختم الرثاء بقولها:
وما لك قبر واحد فقلوبنا
…
قبور حوت أمثال شخصك في القبر
وقالت ترثي أخاها خليلاً:
رويدك يا من قد نعيت لنا بدرا
…
أتحمل نعياً ضمن طرسك أم جمرا
ألا أيها القلب الحزين إلى متى
…
تقاسي خطوب الدهر منقضة تترى
تراكمت الأرزاء من كلُّ جانب
…
عليك فلا يوم يمر بلا ذكرى
ثم قالت:
ويا طرف إن جفت دموعك فاتخذ
…
دم القلب دمعاً فوق تربتهُ يُذرى
وتقول أيضاً:
ولم أوف حق الحب إن أمت أسى
…
عليه فعيشي صرت أحسبه غدرا
وتختم الرثاء بقولها:
سلام على وجه الخليل وناره
…
بطي الحشا قد أفنت القلب والصدرا
له العفو والرضوان من فضل راحم
…
ولي مدمع الخنساء إذ فقدت صخرا
(يتبع)
يوسف يعقوب مسكوني
شاعر عربي في لندرة:
جنة الأوهام. . .!
للأستاذ عبد القادر القط
أسلمت للوهم أفكاري ووجداني
…
وذقت في خَدَر الأوهام سلواني
أمضى مع الناس لا عيني بشاهدة
…
ما يشهدون ولا صوت بآذاني
دنياي عالمُ أحلامٍ مهمومة
…
تهفو فتمسح آلامي وأشجاني
وأغتدى ورؤاى البيض تبسم لي
…
وفي خيالي تهويمات وسنان
هجرت ما كان من يأسي موجدتي
…
وصغت بعد مرير الصمت ألحاني
كم ظلت أضرب في دنياي محتقباً
…
في الفقر شوقي وآمالي وتحناني
يلوكهن فؤاد جائع بشِمٌ
…
من الأسى وضمير مُثقل عاني
نوازع من رغاب طال ما لقيت من سوط سجّاني
يعتاقها عن الرحب محبسهُا
…
وتلتظي لهباً من نار حرماني
خرساء منطقها وخز وشارتها
…
وقع المعاول في موهون بنياني
تململت فأصاب القلب حرقتها
…
وملَّ جذوتها صبري وإذعاني
نادبت من ألمي وهمي فأسعدني
…
بجنة من خيالي ذات أفناني
أطلقتهنَّ بما يمرحن في شغف
…
ونمت بعد سهادي ملء أجفاني
وعفت صحوة دنيا كنت أعشقها
…
وبتُّ أشرب من دَني ومن حاني
ساقي ألبقُ من دارت على يده
…
كأسٌ وأعرف آس عند أحزاني
إذا طلبت عزيز الراح بادني=وإن طابت رخيم اللحن غنّاني
في كلُّ دفقة كأس ينتشي أملٌ
…
وبُغيةٌ سئمت أعماقي نسياني
أرى بافقَي ما أخمدتُ شِرَّته
…
من الرَّغاب وسحباً ذات ألوان
بكل دانية منها يطالعني
…
مجدي وحبي وأوان وخلاّني
أروح للحبَّ حتى يكتفي نهمي
…
وأنهمل المجد حتى يرتوي شاني
نجوى في الليل أبكار معطرة
…
أبيت ليليَ أرعاها وترعاني
أصوغ من ألقِ فتنتها
…
وقلبها من وفاء عاطف حاني
غنيت بالوهم عن دنيا مخبَّلة
…
تلقي القياد لذي جاه وسلطان
يذوب لذة ما أولَتْهُ نعمته
…
بحسَّ أبله غافي القلب سأمان
تلقي القياد وتُلقي من مرارتها
…
إلى فم رحيق الشهد هيمان
يحسُّ كلُّ شهيٍ في قرارته
…
بمترف من سرِيِ الذوق فنان
مدلَّه بالنعيم الحلو يدركه
…
بالروح والجسم والباقي وبالفاني
دماؤه شهوة حمراء دافقة
…
والروح بالشهوة البيضاء في حان
أمضيت ريق شبابي في الحياة لقيٍ
…
أطفو على ثَ بَج بالهمَّ ملآن
أرعى بقية إيمان أعللها
…
ويطفر الشك من آن إلى آن
حتى تراءت لي الأوهام في شفق
…
ضافى الجمال على الآفاق فتان
خفقت ملء جناحي نحو ساحته
…
وضاع بين الرؤى شكى وإيماني
نهاية.
. .!
للأستاذ محي الدين صابر
لا حانتي، رجعت شدوى ولا الساقي
…
يا هذه!! أين أحلامي وأشواقي؟
ظمآن أخفق في الصحراء مغترباً
…
كأنني خطوة في ساق أفاق!!
أسر للرمل حناتي ومسكنتي
…
كما من هوى تحته كالنبع، ألاق
فكل ذرة رمل، قلب محترق
…
أوحسن غانية. أوفكر خلاق
ويسكت الرمل إشفاقاً وسخرية
…
فكم تولى بعشاق وعشاق!!
وأسأل الريح زفَّافا مواكبها
…
تدور في زمنِِ محلِِ وآفاق!
متى عبرت بواد كنت أعمره
…
في واحة طَلةِ الأحناء غيداق؟!
وتعصف الريح أنفاساً مشردة
…
ياطالما عصف عن قلب خفاق
والليل! يعرفني طوَّاف كعبته
…
يا ليل! فانشق عن فجرى وإشراقي
يا ليل! واردد صاباتي وأخيلتي
…
واملأ عروقي بوهم منك رقراق!
ورحمتا للمني أفنيت ريقها
…
في خادع من مراعي الوهم، برَّاق
وللهوى الضخم محموماً نوازعه
…
أمسى رماداً على روحي وأعماق!!
ظلمت يا غادة المحراب ما نسجت=شفاء مشتاقة ظمأى، ومشتاق
هلا ذكرت على القمات مسبحنا
…
على جناح بقلب الفجر صفّاق؟!
وأغنياتي في أذيتك من وتر
…
منغم الوحى با لإلهام طَّراق
نسيت في السفح أيامي معذبة
…
تبكي وتسأل عن عهدي وميثاقي
قد أنكر الدَّوح في الشُّطآن مُغتربي
…
فرداً؛ أُقيمُ على حزن وإشفاق
وقد يكون ولى نجوى ولى قبل
…
في ظله من هوًى في القلب وفاق!
يا وحشة، ملأتني جهشة وأسى
…
في ذكرياتك عندي شارد باقي!
تدور في دميَ الدنيا معطلة
…
كأنها أدمع جالت بأحداق!
هي الحياة زحمناها منىً وهوىً
…
ألوتْ بوان، ولم تسلس لسباق!
وقد قنعتُ! وردناها على ظمأ
…
فجعت الخمر دوني وانطوى الساقي
البريد الأدبي
1 -
قتيبة بن مسلم:
لمجلة (الرسالة) مكانة سامية في الأوساط العلمية في جميع البلاد
العربية، ولكتابها منزلة في النفوس لا تساميها منزلة غيرهم من
الكتاب. فإذا استعظم على أحدهم هفوة لسان طفيفة أو زلة قلم خفيفة؛
فذلك لما للقراء - على الرسالة الغراء وعلى كتابها - من الدالة، ولما
لتلك المجلة وأصحابها من الإجلال والإكبار في نفوس أولئك القراء.
ومن أولئك الكتاب الذين لكتاباتهم روعة قوية، وتأثير عميق في النفس: الأستاذ الجليل (على الطنطاوي) ولا أدل على ذلك من مقالة القيم المنشور في العددين 680 وتالية بعنوان: (من التاريخ الإسلامي - قضية سمرقند)، ولا ينقص من روعة ذلك المقال أن يفهم القارئ منه أن قتيبة بن مسلم الباهلي الفاتح العظيم؛ أدرك عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. خلاف ما يفهم من يفهم من مصادر التاريخ الصيحة التي تنص على أن قتيبة لم يدرك ذلك العهد، بل قتل في عهد سليمان بن عبد الملك.
(الرسالة): لقد سبق الأستاذ الطنطاوي فنبه إلى ذلك.
2 -
أتاريخ صحيح أم خرافة؟!:
وهذا المربيالأستاذ الكبير كامل كيلاني يقول في عدد (الرسالة) 682: (منذ خمسة عسر قرنا تنقص عشرات قليلة من السنين ولد خرافة القاص العربي المخضرم الذي عاش في العصرين الجاهلي والإسلامي. . . وقد عاصر جحوان الصحابي جد أبي الغصن عبد الله دجين بن ثابت الملقب بجحا. . . وكانت أم جحا أم سليم بنت ملحان والدة مالك بن أنس راوية الحديث المعروف. . . ثم مضى القرن الأول ومضى معه خرافة ومعاصره. ثم جاء القرن الثاني فكان من مولوديه أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت الملقب بجحا). ولكن قوله هذا لا يؤثر في منزلته باعتباره أحد الأفذاذ الذين أسدوا للجيل الجديد منه عظمى مجسمة في كتبة القيمة النافعة (مكتبة الأطفال)، وإن فهم من ذلك القول مخالفة الحقائق الآتية:
1 -
أم سليم بنت ملحان والدة أنس بن مالك الصحابي الجليل الذي خدم الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنين. لا مالك ابن أنس الإمام المحدث المشهور صاحب كتاب (الموطأ) المتوفى سنة 179 هـ.
2 -
أم سليم صحابية أدركت عهد الرسالة، وحضرت وقعة (حنين) وجرى لها فيها طريفة، وتوفيت في أول القرن الهجري الأول. فكيف تكون أم جحا خادمة لها، ثم تدرك القرن الثاني ويولد لها ابنها جحا فيه؟!
3 -
كيف يعيش في القرن الأول الهجري ويعتبر مخضرما من ولد قبل ذلك القرن بمائة سنة أو أكثر؟!
(الطائف)
محمد الجاسر
حول صور سودانية:
قرأت أخيرا في (الرسالة) 680 للأستاذ حسان خضر مقالا عنوانه (صور سودانية) يقول فيه: (ليس التقاء النيل الأبيض بالأزرق عند الخرطوم كما يقول الجغرافيون وإنما هو أقرب إلى مدينة أم درمان وهو يبعد عن الخرطوم نحو (15كيلو)، ولو أنه كتب هذا ولم يتعرض للجغرافيين لقلنا إنه سهو.
إن المكان الذي يلتقى فيه النيلان والمسمى (بالمقرن) حيث الحدائق المشهورة يحد الخرطوم من شمالها الغربي وعنده تنتهي مدينة أم درمان في جنوبها الشرقي وليس هناك (كيلو) واحد يبعد (المقرن) من الخرطوم.
(كلا)
حسن أحمد البشير.
القصص
مطاردة. . .!
للقصصي الإنجليزي سومرست موم
بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن
عندما أرست بنا السفينة على ثلاثة أميال من الشاطئ الشمالي لجزيرة بورنيو، تقدم ربانها نجوى ومد يده إلى مصافحاً وتمنى لي حظاً سعيداً طيباً. فانتهزت بدوري هذه الفرصة التي بذلها نحوي في خلال تلك الرحلة الطويلة المتعبة، ثم أخذت طريقي هابطاً سلم السفينة التي كانت مزدحمة بالركب ذوي الأجناس المختلفة والنحل المتعددة. وكانت هذه السفينة من تلك السفن الشراعية الكبيرة ذات الأشرعة الواسعة الرحبة المصنوعة من خشب الخيزران المجدول. وتذكرت حينئذ أمتعتي فنظرت إلى المقر الذي كانت موضوعة فيه في أحد جوانب السفينة، فوجدتها قد أنزلت إلى القارب الذي سيقلنا إلى الساحل ووضعت في مكان ظاهر فيه
ولما اكتمل عددنا في القارب لوحت بيدي لربان السفينة الذي أخرج من جبيبه في تلك اللحظة منديلا أبيض وأخذ يلوح لي به مبتسما في الفضاء الواسع العريض، وقلدني باقي الركاب الذين كانوا معي في ذلك، فأخذوا يلوحون له وللركاب الذين تركوهم يستأنفون سفرهم على سطحها بأيديهم طوراً، وبمناديهم الصغيرة البيضاء طوراً آخر، ودموع الفرح والغبطة تترقرق في عيونهم التي كان يشع منها بريق السعادة والسرور وما زلنا على هذا الوداع المؤثر الحار حتى اختفت السفينة عن أبصارناً أختفاء تاماً، وأصبحت تتراءى لنا لبعد المسافة التي كانت تفصلنا عنها كأنها شبح من الأشباح القاتمة السواء.
ولما اقتربنا من الساحل تتراءى لي عن بعد أشجار جوز الهند المحملة بذلك الثمر الشهي الذي يكثر زرعه في تلك الأنحاء، ورأيت من خلالها سقوف الأكواخ الخشبية الرمادية اللون التي يقطنها أهالي هذه المنطقة الاستوائية الحارة. وأشار لي وقتئذ أحد الصينيين الذين كانوا أبيض كبير قائم على مقرية من الساحل وسألني بالإنجليزي التي كان يتكلمها بطلاقة وصدق كأحد أبنائها:
- أتعرف من يقيم في هذا الكوخ الأبيض المرتفع؟ فتظاهرت بأنني لا أعرفه وهززت رأسي متأسفاً وقلت: لا!
- إن الذي يقيم بهذا البناء هو حاكم هذا الإقليم، وهو إنجليزي الجنسية كما أعلم. . .
فشكرته على هذه المعلومات التي أدلى بها إلى ثم سكت! ولو كان هذا الصيني يعلم أنني سأقيم مع هذا الحاكم تحت سقف واحد لمدة من الزمن، لوفر على نفسه هذا التعريف الذي كنت على دراية به أكثر منه! وقد كان على حينئذ خطاب توصية إليه من ربان السفينة التي أقلتني إلى هذا المكان، لأنه لم يسبق لي مشاهدته أو التعرف إليه من قبل
وحين رسا القارب بنا وهبطنا إلى الساحل الرملي البديع، شعرت فجأة بتلك الوحشة التي يشعر بها كلُّ شخص تطأ قدماه أرضاً غريبة ليست له بها عهد من قبل، وقد وقفت برهة على الساحل أتامل البحر فتزيده بهاء وسناء وروعة. . .
ولم ألبث أن شعرت ببعض الخجل والارتباك وأنا أتقدم إلى كوخ الحاكم بخطوات وئيدة ثابتة، وقد حملت حقيبة أمتعتي في يدي اليمنى، وقبعتي العريضة البيضاء في يدي اليسرى، وأخذت أسائل نفسي أثناء سيرى قائلاً:(كيف أقدم نفسي إليه؟ بل كيف يخطر لي ببال - وأنا الغريب عن تلك المنطقة - أن أبيت وإياه في مسكن واحد، وأتناول ما يقدمه لي من طعام وشراب - وأنا لا أعرفه - حتى تأتي السفينة التي ستقلني إلى الجهة التي أزمعت الوصول إليها؟!)
ولكني لم ألبث - حينما وصلت إلى باب الكوخ - أن وفرت على نفسي مشقة هذه الأسئلة الغريبة المحرجة التي أخذت نتوارد على ذهني بسرعة هائلة، فأنزلت حقيبة أمتعتي إلى الأرض وأخرجت من جيبي خطاب التوصية الذي كنت أحمله معي وناديت أحد الخدم الواقفين بالباب وطلبت منه أن يسلمه إلى الحاكم يداً بيد. ولم يمض على دخول الخادم بضع دقائق حتى خرج إلى من داخل الكوخ رجل وسيم الطلعة، قوى البنية، ذو وجه باش أحمر يدل على إفراطه في الشراب، وعينين زرقاوين حادتي النظرات، وكان يبدو من هيئته أنه في العقد الرابع من عمره أو دون ذلك بقليل، وقد حياني تحية قلبية خالصة كما لو كان يعرفني من سنين، واستقبلني بحفاوة شديدة وسرور بالغ لم أكن أتوقعهما منه، وجذبني من يدي برفق، ثم نادى أحد الصبية وأمره بإحضار بعض المشروبات المنعشة،
ونادى الآخر وأمره بأن يحمل حقيبتي داخل الكوخ.
وأراد الحاكم أن ينسيني ما كنت أشعر به في تلك الآونة من الخجل والارتباك لوجودي في هذا المكان الغريب، فتلطف معي في الحديث وقال:
- إنك لا تعرف كم أنا مسرور برؤيتك، ولا سيما أن ربان السفينة الذي أرسلك إلى من أعز أصدقائي وأخلص رفقائي، ولذلك أرجو أن تعتبر نفسك هنا كأنك في بيتك
فابتسمت له وشكرته بإيماءة من رأسي على أدبه الجم وحسن استقباله إياي. . .
ولم يلبث مضيفي أن أستاذنني وذهب لينجز بعض أعماله الضرورية التي لا تحتمل التأجيل. فلما فرغ منها عاد إلى وتمدد بجانبي على مقعد طويل من القماش، وأخذ بجانبي أطراف الأحاديث، ويروي لي شيء الكثير من مغامراته ومخاطرته في تلك البلاد. . .
ولما هبطت درجة الحرارة قليلاً، خرجنا للنزهة، وطفنا ببعض الأجزاء الهامة في تلك المنطقة، ومتعنا أنظار بجمال الطبيعة الساحر، ثم عدنا قبيل الغروب وقد تصببت أجسامنا من العرق، ولم أجد في ذلك الوقت ما ينقذني من تلك الحرارة الشديدة سوى أن آخذ حماماً بارداً. ففعلت. . وقد شعرت من بعده بلذة عجيبة، ونشاط جسماني غريب، أنسياني ما كنت أعانيه منذ لحظات من ضيق بالغ، وعذاب أليم!
وبعد أن فرغنا من تناول العشاء استأذنت صاحبي أن أنام لأنني كنت منهوك القوى من وعثاء السفر. وبالرغم من أن رفيقي كان يرغب في التحدث إلى طول الليل، إلا أنني أستاذنته مرة أخرى ورجوته أن يرشدني إلى الحجرة التي سأقضي فيها ليلتي. فقال صديقي وهو يقودني من يدي إلى غرفتي:
- كما تشاء يا صاحبي. . . ولن أثقل عليك الليلة بسماع أحاديثي المملة، وأقاصيصي المتعبة!!
وكانت الغرفة التي أدخلني فيها كبيرة رحبة ذات شرفة واسعة من الجانبين، ومؤثثة برياش بسيط لا بأس به، وفي ركن من أركانها نصب سرير كبير مغطى بكلة رقيقة من الدانتلة البيضاء لتقي من يرقد فيه من لدغات البعوض التي كانت تعد من أخطر الحشرات وأشدها فتكاً بحياة بني الإنسان في تلك الجهات وضحك صديقي وقال لي وهو يشير بيده إلى السرير.
وإن هذا الفراش خشن بالنسبة إليك، ولكنه مع الأسف أحسن ما عندنا في هذه البلاد!
فابتسمت له ابتسامة رقيقة وقلت:
- إن هذا لا يهمني مطلقاً، ولن يؤثر ألبته في نومي ما دمت أشعر بحاجة ملحة إلى الراحة بعد هذه الرحلة المضنية:
ونظر رفيقي إلى الفراش مرة أخرى متمعناً وقال:
- لقد كان آخر من نام في هذا الفراش رجل هولاندي. ولهذا الرجل قصة عجيبة مؤلمة. ولا أجد عندي مانعاً من سردها عليك بشرط أن نسمح لي أولاً بذلك حتى لا يكون في هذا مضايقة لك.
وبالرغم من أنني كنت في حاجة شديدة إلى النوم كما قلت، إلا أن اللهجة التي مهد بها رفيقي لهذه القصة جعلتني أتشوق أسماعها منه، ولذلك لم ألبث أن قلت:
- لا بأس يا صاحبي. . . أسرد على قصتك وكلي آذان صاغية لك.
فجلس رفيقي على حافة الفراش وجلست قبالته ثم استجمع شتات أفكاره وقال ارتسمت على جبينه آيات التفكير العميق:
- لقد جاء هذا الرجل إلى هنا على نفس السفينة التي أتيت عليها، وقد حضر إلى مكتبي مباشرة وسألني عما إذا كنت أعرف فندقاً في تلك البلدة يمكنه أن يقضي فيه ليلته، فلما أخبرته بأنه لا توجد فنادق في تلك البلدة على الإطلاق هز رأسه متأسفاً وهم بالخروج من عندي بعد أن حياني تحية رقيقة مؤدبة. ولكني لم ألبث أن أشفقت عليه فناديته وعرضت عليه أن يبيت في مسكني، فقبل ذلك بعد تردد قليل. وكان هذا الرجل الهولاندي يحمل في يده قيثارة (كمنجة) صغيرة غالية الثمن، فلما رآني أحدق النظر فيها بإمعان ابتسم لي وقال (إن هذه القيثارة هي كلُّ ما أحضرته معي في تلك الرحلة، وهو تسليتي الوحيدة في أوقات فراغي الممل، ولذلك تراني أعزها وأفضل حملها معي في كلُّ مكان أذهب إليه.)
وكان هذا الرجل ذا وجه شاحب نحيل، ورأس مستدير يعلوه شعر أسود كث، وعينين رماديتين تدل نظراتهما القلقة المتحيرة على ما يعانيه صاحبهما من خوف واضطراب، أما جسمه فكان هزيلاً مفرطاً في الطول بدرجة غير عادية. وكان يلوح عليه أنه تجاوز الأربعين بقليل، وقد دلتني ملامح وجهه الجامدة على ما به من مرض نفساني غريب، إذ
كان يتلفت وراءه بسرعة زائدة لأقل صوت يسمعه. وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقه عجيبة، ولولا تلك اللكنة الأجنبية التي كانت تظهر في بعض كلماته لظننت أنه إنجليزي قح. وكان يحب الحديث، ويجيد الكلام إلى درجة تضطر سامعه إلى الإصغاء إليه، والانتباه لحديثه بلذة وشغف.
وكان لدى بعض الأعمال الضرورية التي يجب أن انتهى منها على عجل، فطلبت بلطف أن يسبقني إلى الغرفة المجاورة، وأخبرته أنني سأوافيه إليها بعد قليل. وبينا أنا أخاطبه إذا بسكرتيري الخاص يفتح الباب فجأة ويدخل بدون استئذان كما اعتاد أن يفعل ذلك في بعض الأحيان. فارتاع الهولاندي لهذه الأموات، وأخذ جسمه النحيل يرتعد بشدة وعنف من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، وأخرج بسرعة مسدسه من جيبه الخلفي، فذعرت لذلك ذعراً شديداً وصحت فيه بأعلى صوتي قائلاً (ماذا تفعل يا سيدي؟ ولم أخرجت مسدسك من جيبك؟)
ولما رأى الهولاندي سكرتيري ندم على فعلته ندماً شديداً وشعر ببعض الخجل والارتباك ثم أعاد مسدسه إلى جيبه وتهالك على أقرب مقعد منه وهو يلهث من فرط ما اعتراه في تلك اللحظة، ولما تمالك أعصابه وعاد إليه صوابه قال لي بخجل ظاهر، (أرجو معذرتي يا سيدي فإنني رجل محطم الأعصاب كما رأيت).
فأمنت على كلامه بهزة خفيفة من رأسي وقلت (هدئ روعك يا سيدي ولا تخف من شيء).
ولم يكن يلوح عليه أنه قد أفرط في الشراب حتى تصدر عنه تلك الفعلة المنكرة، وقد ظننت لأول وهلة أنه قد يكون أحد المجرمين الذين يتعقبهم رجال الشرطة، ولكني لم ألبث أن أبعدت هذه الفكرة عن رأسي لأنه ليس من المعقول أن يجازف بالدخول إلى مكتبي وهو يعلم أنني الحاكم العام لهذه المنطقة فيعرض بذلك نفسه لإلقاء القبض عليه في أقرب فرصة، وأسرع وقت:
ولم ألبث أن قلت له مشفقاً (يستحسن يا سيدي أن تستريح قليلاً في الغرفة المجاورة حتى تستعيد هدوئك وتسترد قواك، وسأوافيك إليها بعد قليل. . .)
فقام من مقعده متثاقلاً وذهب إلى الحجرة المجاورة لمكتبي ولما عدت إليه بعد أن أنجزت
عملي وجدته واقفاً في وسط الحجرة وهو يدور ببصره في كلُّ ركن من أركانها، وبالرغم من أنني رأيته قد استرد هدوءه، واستعاد ثباته عجبت لوقوفه وسألته قائلاً (لم تقف وسط الحجرة هكذا؟ إنك تكون أكثر راحة لو تمددت على أحد هذه الكراسي الطويلة. . .)
ولكنه ابتسم ابتسامة صفراء وأجاب باقتضاب (إنني أفضل الوقوف هكذا!)
فاستغربت جداً لهذه الإجابة المقتضبة وقلت بلهجة لا تخلو الاستياء (إن هذا عجيب منك حقاً، لأن من يراك في وقفتك هذه يظن أنك مراقب، وقد يداخله الشك في أمرك لأول وهلة!)
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد اللطيف حسن