الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 688
- بتاريخ: 09 - 09 - 1946
(لا) أؤمن بالإنسان!
للأستاذ علي الطنطاوي
(ويدْعُ الإنسانُ بالشرَّ دعاءَه بالخير وكان الإنسانُ عجولا، - وكان الإنسانُ كَفورا - وكان الإنسانُ قَتورا - وكان الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جدَلاً - وخُلِق الإنسانُ ضعيفاً - قُتل الإنسانُ ما أكفره - يا أيها الإنسانُ ما غَرَّك بِّربك الكريم - وإذا أنعمنا على الإنسان أعرضَ ونأى بجانبه - وإذا مسَّ الإنسانَ الضرُّ دعانا لجَنْبه أو قاعداً أو قائماً، فلما كشفْنَا عنه ضُرَّه مَرَّ كأنْ لم يَدْعُنا إلى ضُرٍ مَسَّه - وإنا إذا أذقْنا الإنسانَ منا رحمةَ فرح بها وإن تُصِبْهم سيئةٌ بما قدمتْ أيديهم فإنّ الإنسانَ كفور - إن الإنسان لكفور مبُين - إن الإنسانَ خُلق هَلوعا، إذا مسِّه الشرُّ جَزوعا، وإذا مسّه الخيرُ منَوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون. - إن الإنسان لكنود - كلا. إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى).
كلام من هذا يا أخي يا عبد المنعم؟ أفبعد قول الله مقال لقائل؟ وإذا كان الله الذي خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكرمه وعلمه البيان يقول إنه ضعيف هلوع جزوع من الشر منوع للخير، منكر للنعمة، كفور قتور كنود عجول جدل، يطغى إذا استغنى، وان هذا كله في طبيعته وتركيبه. تريد أن أؤمن به؟ وبم أؤمن؟ إن هاهنا محذوفا لابد من تقديره، فالأيمان هو التصديق، ونحن إذ نؤمن بالله نصدق بوجوده وكماله واتصافه بكلأ صفة خير، وننزهه عن كل صفة شر، فبماذا تريدني أن اصدق حين أؤمن بالإنسان؟ أبكماله النسبي وسموه وانه مخلوق خير؟
إذا كان هذا هو المراد فأنا أؤمن. . . ولكن بالإنسان الذي أصلح إنسانيته بالإيمان والعمل الصالح. فإذا لم يفعل عادت هذه الإنسانية خسرا لصاحبها ووبالا عليه، وكانت (حمارية) الحمار و (كلبية) الكلب، خيرا من هذه (الإنسانية) في الدنيا، وأنجي منها من العذاب في الآخرة. ولست أنا الذي يقول هذا الكلام، وليس هذا رأيا أراه، ولكنه قول ربك الذي اقسم عليه ورب الإنسان: والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
فإذا كنت تؤمن بالإنسان الذي أدرك ما خلق له فسعى إليه، وعرف الله فأطاعه، فأنا معك، وإذا كنت تؤمن بالإنسان من حيث كان أنسانا، فلا يا أخي. آني لم أجد دواعي هذا الأيمان.
وهذا تاريخ الإنسانية كله، نح منه الأنبياء ومن ساروا على هديهم، واصلحوا فساد إنسانيتهم بشرائهم، ثم انظر ماذا بقى، وقل لي أين الإنسان الذي تؤمن به؟ الإنسان الذي قتل أخاه وتركه في العراء حتى علمه غراب كيف يواري سوءة أخيه؟ أم الإنسان الذي ارتقى حتى صار يقتل بالقنبلة النووية الآلاف من النساء والولدان لا يجدون حيلة، ولا يهتدون سبيلا ولم يذنبوا ذنبا ولا أعلنوا حربا؟ أم الإنسان الذي استغل هذه الحرب، وهي مأتم الانسانية، فاخذ اللقمة من فم المرأة التي سيق زوجها إلى القتال، والولد الذي اخذ أبوه إلى الحرب، حتى إذا ماتوا من الجوع لبس الحرير ودان بالفجور، ورقص على جثثهم في هذا المأتم الباكي؟ أم الإنسان الذي يخون عهده وينسى الخبز والملح على تفي الكلاب؟ أم الذي يجزع ويضيق صدره ويبيد صبره إلى تصبر الحمير؟ أم الذي يشقى غيره ليسعد نفسه؟ على حين يتعاون النمل والنحل على ما فيه خير الجميع؟
الإنسان الذي انفرد دون سائر الأحياء من الملائكة وحيوانات بالكفر بالله، لا يشاركه في هذا (الشرف. . .) إلا الشياطين وهم كفار الجن، على حين يسبح بحمد الله كل شيء؟ أهذا الذي تؤمن به؟ وأين دواعي الأيمان حتى أؤمن مثلك؟ دلني عليها يا أخي أني لا أراها. آني لأتلفت حولي فلا أرى إلا آكلا الدنيا باسم الدين، أو شارباً دم الوطن باسم الوطنية، أو سارقاً أموال الناس باسم التجارة، أو حافراً بئراً لأخيه وهو يبسم له بسمة الأخاء، أو متعالياً على الناس باسم الوظيفة وهو أجيره، أو أستاذاً يستغل منصب التعليم وهو من عمل الأنبياء ليعتلي على عفاف تلميذته، أو طبيبا يسطو على عرض مريضته أو ممرضته، أو محاميا يأخذ أجرة الوكالة من (جمال) موكلته، وامرأة تخون زوجها، وزوجا يخالف إلى غير آمراته، وكل يكذب بقوله وعمله ويظهر غير حقيقته، والكبير يأكل الصغير كما تاكل الحيتان السمك، ويتربص به ليلدغه كما تلدغ الحية، فأين الإنسان الذي تؤمن به يا أخ؟ آني لا قوم على الطريق فانظر فلا أرى إلا ذئبا يلبس الثياب ثم يسطو كما تسطو الذئاب، أو ثعلبا يحتال مثل الثعالب، أو ثعبانا ناعم الملمس ناقع السم، أو ضفدعا لها صوت الثور ولكن لا تجر المحراث، أو ضبعاً تأكل أجساد الموتى، أو جرثومة فتاكة تفسد في الخفاء، فاقول سامح الله عبد المنعم! أهؤلاء هم البشر الذين يؤمن بهم؟!
وأنقل البصر إلى ديار المتمدنين فلا أرى مدنيتهم ألا أظافر من حديد ومخالب من فولاذ
كأظافر الوحش ومخالبه. ولكن الوحش يفترس ليعيش هو، وهؤلاء يحاربون لئلا يعيش غيرهم؛ ووجدتهم استخدموا قوى الطبيعة ولكن للشر، واستعملوا عقولهم ولكن في الضلال. وهذه طبيعة الانسان، فلا تقل ان كل مولود يولد على الفطرة يهودانه أو يمجسانه، فان هذا حجة لي، لان أبوي المولود من البشر، فإذا كانا يفسدان الفطرة فلان الإفساد من عمل الإنسان، ما عرفنا حيوانا يفسد فطرة الله في وليده لا سبعا ولا قطا ولا دودة ولا طائرا، أو ليست نفس الإنسان يا أستاذ أمارة بالسوء؟ أليست أخت الشيطان: تصفد الشياطين بالأغلال في رمضان فتخلفها نفوس بني أدم فتعمل عملها وتفسد فسادها، وتوسوس وسواسها (فوسوس أليه الشيطان)، (ونعلم ما توسوس به نفسه)(إن النفس لأمارة بالسوء)، وما نفس الإنسان؟ أنها طبيعته التي طبعه الله عليها.
ومادام كلانا (والحمد لله) مسلما، فعلام نختلف في حكم من أحكام الإسلام، وهو أن هذه الحياة الدنيا طريق له غاية خلق الله الناس لها، (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون)، وان من يحرص على راحته في سفره، ويتخير لذلك الزاد والمركب ولا يكون له مقصد من السفر لا المنفعة ولا المتعة ولا السياحة فهو أحمق، وإن كل عمل يعمله من لا يؤمن بالله، وكل اختراع يخترعه سراب بقيعة، لا يزيده من الله إلا بعدا، ولا يكون في الإسلام إلا دليلا على جهله وضلاله وخسارة. . .
أيستطيع مسلم يا أستاذنا عبد المنعم أن ينازع في هذا؟ فما النتيجة؟ هي أن الإنسان شر الدواب في الدنيا، وأخزى المخلوقات يوم القيامة ما لم يطهر نفسه بالأيمان، ويصلح فساد طبيعته بالاتصال بالله.
وهل أدل على ندرة الحق والخير والجمال في عالم الإنسان من كونه جعلها مثلا اعلى، ومطمحا من المطامح البعيدة، وأملا من الآمال النائية؟ ولو كانت خلائق راسخة فيه، وكانت طبيعة ملازمة له، ما جعلها كذلك. فلو كان صادقا ما كان يمدح الصادق بصدقه، ويعجب منه أن لازمه وأقام عليه. ولو كان وفيا ما كان ثالث المستحيلات عنده. . . الخل الوفي، وإنما يطمح المرء إلى ما لا يملك، وأن مائة الدينار من الذهب هي (مثل أعلى) للفقير المفلس، ولكنها عند الغني حقيقة تافهة. . .
إلا أنى أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقضاء خيره وشره، ولكني لا
أؤمن بانسانك هذا؟ فهل علي من الله من شيء؟
إذن فليقل الناس عني ما شاءوا!
علي الطنطاوي
الترجمة والمترجمون
للأستاذ د. جونسون دافيز
الحرب بطبيعتها أداة تخريب ودمار، ولكن لها فوائد يجب ان توضع في الكفة الأخرى من الميزان. فهي ترغم الناس على ان يشمروا عن سواعد الجد وينبذوا التكاسل والتراخي في نواح كثيرة. وبلادنا (بريطانيا) قد جنت من هذه الحرب فائدة جليلة: هي أنها صارت اقل انعزالا وانكماشا في حدود جزيرتها مما كانت من قبل. ذلك أن كثيرا من الأجانب قد لاذوا بسواحلها ووجدوا فيها معقلا يحميهم من الاضطهاد والعدوان. والإنكليزي العادي، والإنكليزية العادية، باختلاطهما بهؤلاء الأجانب ازداد فهمهما للأمم الأخرى وعطفهما على غير ملتهما من الملل. ومن الدلائل على هذا ذلك العدد الضخم من الكتب التي صدرت خلال الحرب عن الدول والأمم الأجنبية. كما ازداد الاهتمام بالترجمة من اللغات الأجنبية، الالمانية، والبولندية، والفرنسية، والتشيكية، ثم الروسية طبعا. واغلب هذه الكتب بطبيعة الحال قد الفت قبل الحرب، لأنه لم يصل من أوربا التي احتلها الألمان إلا العدد الضئيل من الكتب. ومن هذه كتاب جدير بالذكر هو (صمت البحر آلفه فركور وقد طبع هذا الكتاب لاول مرة في مطابع النشر السرية في فرنسا، بالرغم من فداحة الخطر، ثم هربت منه نسخة إلى الخارج. وقد ظهرت له ترجمة إنجليزية بعنوان (اطفئ النور هذا الكتاب الصغير - فهو في الحق لا يزيد عن قصة قصيرة - يصف موقفا لابد انه تكرر في مئات الألوف من البيوت في جميع أنحاء فرنسا المحتلة، فهو يصف أسرة فرنسية صغيرة، مكونة من رجل هرم وابنة أخيه، ترغم على إيواء ضابط ألماني. وهو موقف يسهل جدا اتخاذه فرصة للدعاية الرخيصة، ولكن ليس من هذا اتفه قدر في هذا الكتاب، فهو كتاب فن، كتاب فن خالص. فالألماني لا يوصم بأنه مجرم أثيم، والفرنسي ليس بطلا. بل الألماني رجل مثقف، طيب بطبيعته، ومأساته موصوفة بعطف بديع، وقد ترك إلى القارئ أن يستنتج ما يريد من النتائج. فهذا الكتاب، على الرغم من ضآلة حجمه من المؤلفات القليلة عن الصراع الحاضر التي يمكن أن تعد أدبا رفيعا.
هذه المسألة، مسألة الترجمة من اللغات الأجنبية، هي في اعتقادي ذات أهمية بالغة في بناء أدب الأمة. فهي هامة في المحل الأول لأننا إذا أردنا أن نعرف شيئا عن أمة ما فخير ما
نعمله هو أن نقرأ كتاب هذه الأمة. ولكن أهميتها ترجع في أغلبها إلى هذه الحقيقة: انه كما ان الأفراد مختلفو الطبائع، كذلك الأمم، على نطاق أوسع، مختلفة الخصائص؛ فالامم، لاختلاف أقطارها ودرجات تعليمها وأنواع ثقافتها وتربيتها، لها وجهات نظر في المشكلات اليومية، ومشكلات الحياة والموت، تختلف إحداها عن الأخرى بعض الشيء. وهكذا تجلب الترجمة دما جديدا إلى أدب الأمة، وكثيرا ما تكون مصدر الهام ذي أثار عميقة.
واليوم انبعث من جديد الاهتمام بالروائيين الروس الأعاظم حتى لم يعد ممكنا العثور على نسخة من روايتي تولستوي العظيمتين (أنا كرنينا) و (الحرب والسلم). وإذا أسعد الحظ امرءا باقتناء نسخة ظل أصحابه يستعيرونها منه بلا انقطاع. ومن حسن الطالع حقا العثور على كتب دستوفسكي أو تشيخوف أو تور جنييف أو غيرهم من كتاب الروس القدماء برغم إن كتبهم يتكرر طبعها.
قرأت مرة في أحد كتب النقد الأدبي أن العمل الأدبي ذا الأثر الأعظم في إنكلترا في هذا القرن هو ترجمة كنستانس كارنت للروائيين الروس الأعاظم. هذا تقرير خطير، وهو يدل على مقدار ديننا لهذه المرأة الملهمة التي وقفت حياتها على ترجمة مؤلفات الآخرين حتى يقراها ويقدرها أبناء وطنها. وقلما ينال المترجم مثل هذا الثناء. ومن الثابت انه لا يكاد يوجد اليوم روائي لم يتأثر تأثرا عميقا بكتابات عظماء الروس. فكم من هؤلاء الذين تأثروا هذا التأثر ودانو للمؤلفين الروس هذا الدين الجليل كانوا يجدون الفراغ والعزيمة والصبر الكافية لتعلم اللغة الروسية الصعبة حتى يستمدوا هذا الإلهام بأنفسهم. كم منهم كان يفعل ذلك لو أن كارنت لم تقم بما قامت به؟ إن فرجينيا وولف هذه الروائية والناقدة البعيدة الصيت قالت في احدى مقالات كتابها النقدي كل دراسة للرواية الإنكليزية الحديثة مهما كانت عامة موجزة يجب ان تذكر التأثير الروسي، فإذا ما ذكر الروس لم يكد المرء يتمالك نفسه من الإفاضة في التحدث عنهم، لأنه من إضاعة الوقت ان يتحدث عن رواية غير روايتهم.) فهل بعد هذا ثناء على الرواية الروسية؟ والمرء حين يقرا الأدب الروسي الحديث تأخذه الدهشة والاستياء إذ يراه مقفرا كل الإقفار من هذه العظمة، من هذا الفهم الشاسع البعيد الذي فهم به الروائيون القدماء الدنيا وأبناء جلدتهم من البشر. ويظهر أن الروس المعاصرين، مع تفوقهم وامتيازهم في فن الرقص التمثيلي والسينما والمسرح،
قد أجدبت عقولهم في فن الكتابة. حقا ان روسيا السوفيتية لها كتابها، وكثير منهم قد ترجموا إلى الإنكليزية، ولكن أحدا منهم ليس في عظمة تولستوي أو دستيوفسكي، بل لايقرب من هذه العظمة أقل قرب. من الصعب تعليل هذا، ولكن العلة في نظري قد ذكرتها فرجينيا وولف في مقالة أخرى في نفس الكتاب حين قالت إن الخاصية المميزة للأدب الروسي هي انحصارهم الكاتب الروسي بروح الإنسان. فديتيوفسكي مثلا لا يهتم كثيرا بوصف حجرة أو منزل، بل لا يهتم بالصفات الجسدية لشخصياته، فهو مهتم بأرواحهم، ويوجه كل همه إلى وصف روح كل شخصية وكيف تقلبها واضطرابها. فلعل الأمر أذن هو أن الروح الروسية القلقة قد وجدت في نواح كثيرة ملجأ للراحة والاطمئنان في النظام الجديد، النظام الشيوعي. وبذلك قل اضطرابها وخفقانها عن ذي قبل. أضف إلى هذا أن التقلقل السياسي الذي عانته روسيا في السنين الخمس والعشرين الماضية لابد إنه كان له أثر سيئ على الأدب. لقد قرأت مجلدات عديدة من الأقاصيص القصيرة الروسية الحديثة ولم أجد بها إلا القليل مما يعد ممتازا، وكثير منها دعاية لا أدب.
ولكن لنعد إلى الروائيين الروس القدماء. كم من الناس الذين قرءوا تولستوي ودستوفسكي والآخرين يتذكرون اسم المترجم الذي مكنهم من قراءة هذه الروايات؟ الترجمة فن أبعد ما يكون عن العمل الآلي: هي تتطلب اكثر من مجرد معرفة اللغتين. هي عمل خالق بلا شك، والمترجم يستحق في الأوساط الأدبية من الشهرة أكثر مما يناله اليوم. المترجم لا ينال إلا نصيبا تافها من الجزاء المالي، ولا يكاد ينال شيئا من الثناء أو الذكر، مع أن عمله في الدرجة القصوى من الأهمية، وحتى أعاظم الكتاب لم يعدوا عارا عليهم أن يزاولوا هذا الفن - فما من شك أن الترجمة فن. فالشاعر الإنكليزي المشهور بوب ترجم أوديسة هومير من اللغة اليونانية، وإن كان لابد من الاعتراف أن بوب لم يكن المثل الأعلى للمترجم، إذ أن ترجمته وان كانت في حد ذاتها عملا أدبيا فائقا، فهي تحتوي من بوب على قدر أكبر مما تحتويه من هومير. حتى أن أحد معاصريه هنأه على عمله قائلا:(قصيدة بديعة يا بوب، ولكن ينبغي إلا تسميها هومير) والشاعر الفرنسي بودلير ترجم المؤلفات النثرية للكاتب الأمريكي إدجار ألان بو إلى الفرنسية، وترجماته تعد دررا من النثر الفرنسي بل أن شعره لم ينل في حياته إلا القليل من النجاح، حتى إنه كان يصف نفسه مفتخرا بأنه
(مترجم بو). والروائي الفرنسي العظيم ماريل بروست بدأ حياته الأدبية بترجمة بعض مؤلفات رسكن من الإنكليزية. وكلا بودلير وبروست يقدم مثالا رفيعا لأدباء استمدوا إلهاما عظيما من كتابات مؤلفين قاموا بترجمتهم ولورنس بلاد العرب قام بترجمة نثرية للأوديسة، بينما قام الروائي د. هـ. لورنس الذي قد يعد اعظم روائيي إنكلترا في القرن العشرين بترجمة روايات إيطالية عديدة، وإحدى هذه وهي رواية - لمؤلفها جوفاني فيرجا، تستحق من الشهرة أكثر مما لقيت ولورنس نفسه قد وصفها بأنها:(كتاب عظيم مخلد، إحدى أعظم روايات أوربا،). وهناك رجل أخر أسدى إلى الأدب يدا بيضاء بترجمته، وهو سكوت مونكريف الذي ترجم رواية بروست الضخمة إلى الإنكليزية، ولترجمة الإنكليزية في اثني عشر مجلدا، قام هو بترجمة جميعها إلى المجلدين الأخيرين، إذ حال الموت بينه وبين إتمام هذا العمل العظيم. ويقال أنه في زمن ما كانت عادة اغلب الناس في باريس أن يقرءوا رواية بروست لا في الفرنسية الأصلية، بل في الترجمة الإنكليزية. فهل يطمع مترجم في ثناء ابلغ من هذا الثناء؟
إن ترجمة الكتب الأجنبية كان لها على أدبنا الإنكليزي أثار عظيمة بالغة، وأبرز مثل لهذا هو الكتاب المقدس، فللكتاب المقدس في الإنكليزية ما للقرآن الشريف في العربية، هو ليس أساس التفكير الديني فحسب، بل هو قد صار قسما من الأدب، ومثالا للكتابة النثرية الفائقة.
بل إن التأثيرات العظيمة التي تأثر بها الأدب الإنكليزي في مختلف العصور كانت كلها راجعة إلى الترجمة. إليك مثلا الترجمات المختلفة للقران، أول ترجمة للقرآن إلى لغة أجنبية كانت ترجمة لاتينية قام بها في سنة 1141 بطرس رئيس دير كلوني، وعاونه ثلاثة متعلمين مسيحيين وعربي، وظهرت أول ترجمة إنكليزية في سنة 1649، ومن يومها طبعت ترجمات عديدة أخرى اشهرها ترجمات سيلورودويل وبالمر ومرمديوك بكثال، وهذا الأخير هو إنكليزي مسلم، آلف عددا من الروايات والقصص عن الشرق
ولكن الكتاب العربي الذي كان له أبلغ الأثر على أوربا هو آلف ليلة وليلة. وقد ظهرت له ترجمتان إنكليزيتان جيدتان قام بهما إدوارد لين وسير ريتشارد بيرتون، وإن لم تكن هاتان أول ترجمة للكتاب. والمستشرق البريطاني هـ. ا. ر. جب يقول عن أثر هذه الترجمات
الأولى لألف ليلة وليلة: (ليس من شطط القول أن نقول إن هذه الترجمة أمدت الكتاب الشعبيين بالهدف الذي طالما نشدوه، وإنه لولا آلف ليلة وليلة لما وجد روبنصن كروزو، بل ربما لم توجد رحلات جلليفر). بل قد قال بعضهم إن دانييل ديفو استمد الهام روبنصن كروزو من قصة حي بن يقظان التي آلفها ابن الطفيل، وكان قد ترجمها إلى اللاتينية المستشرق الإنكليزي القديم بو كوك. ويجب أن نذكر في هذا الصدد أيضا ترجمة فتزجرالد لرباعيات عمر الخيام، وهي إن كانت ترجمة شديدة التصرف فقد كان ملهمها الشاعر والمنجم الفارسي. كما قد زعم البعض إن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري كان لها تأثير كبير على دانتي في كتابه (الكوميديا الإلهية). ومهما يكن من شيء فمن المحتمل إن عناصر إسلامية كثيرة توجد في هذا العمل العظيم لدانتي. وعن هذا يقول الأستاذ جب:(إن الاهتمام الذي كانت تتبع به الدراسات العربية في إيطاليا في زمن دانتي لا تجعل هذه النظرية أمرا مستحيل التصديق، وإن لم يكن من المستطاع بعد إثبات هذا إثباتا جازما إلا في الجزئيات. ولكن هذه النظرية نظرية جذابة، وأقل ما يجعلها ذات جاذبية أنها لو صحت لازدادت عبقرية دانتي سموا، إذ تكون قد الفت في وحدة منسجمة رائعة بين التراث المسيحي والصوفي القديم العظيم، وتجارب الإسلام الدينية ذات الغنى الروحي الزاخر.)
أما عن ترجمة المؤلفات الأجنبية إلى اللغة العربية، فنقول إن العرب قاموا بترجمات من اللغة اليونانية تعد من خير الأمثلة التاريخية على الفضل العظيم الذي يسديه المترجم إلى الجنس البشري قاطبة. كثير من المؤلفات الطبية والعلمية الأصيلة التي آلفها عظماء مؤلفي اليونان قد ضاعت، ولكن كثيرا من هذه المؤلفات المفقودة لا تزال موجودة في ترجمتها العربية، وهذا من حسن حظ العالم بأجمعه. ويمكننا أن نذكر من كبار مترجمي العرب أبا يحيى ابن البطريق، وهو من أول من ترجموا من اليونانية، وثابت بن قرة، ولكن أشهرهم جميعا هو بلا شك حنين بن اسحق، الذي كان يلقب بشيخ المترجمين. ومما يدل على علو مكانة الترجمة في العصر العباسي الأول إن حنينا كان يعطى له راتب شهري سخي، وإسن الخليفة المأمون كان يعطيه زنة كتبه المترجمة ذهبا. ومن الترجمات التي أنقذت من الفناء نصا مفقودا كتاب ابن المقفع (كليلة ودمنة)، الذي كان اصله باللغة السنسكريتية، والكتاب العربي مترجم من ترجمة فارسية للكتا السنسكريتي، وكلا الكتابين السنسكريتي
والفارسي قد ضاعا، حتى صارت الترجمة العربية أصل جميع الترجمات الموجودة ألان للكتاب في كل لغات الدنيا. ومما يدل على الأثر العظيم الذي كان لهذا الكتاب انه كان أحد المصادر التي استمد منها الشاعر الفرنسي لافونتين قصصه الخرافية عن الحيوان.
ولقد كان للترجمة اثر عظيم في النهضة الحديثة للأدب العربي، ومحمد علي نفسه قد أدرك ضرورة القيام بترجمة الكتب العلمية الفنية من اللغات الأوربية فأسس مدرسة للترجمة وجعل مديرها الكاتب القدير رفاعة الطهطاوي، وقد عرفت فيما بعد بمدرسة الألسن. وقد قام رفاعة نفسه بترجمة عدد كبير من الكتب الجدية من اللغة الفرنسية في التاريخ والجغرافية والفلك والقانون وغيرها من الموضوعات. وكان محمد علي هو الذي بدا إرسال البعوث إلى أوربا، ويقال انه عند رجوع الطلبة إلى مصر كان كل منهم يعطى كتابا في الموضوع الذي درسه ويحبس في القلعة ثلاثة اشهر حتى يترجم الكتاب إلى اللغة التركية. ثم تطبع هذه الكتب وتستعمل في المدارس. فإذا جئنا إلى الأجيال الأخيرة تسارعت إلى أذهاننا أسماء رجال كثيرين خدموا الأدب العربي اجل خدمة بترجماتهم. فمما لاشك فيه إن من اعظم الآثار على الأدب العربي الحديث الأثر الذي تركه المنفلوطي، والجزء الأكبر من مؤلفاته ترجمة أو كتابة ألهمها الأدب الغربي. ولقد بلغ من شعوره بحاجة الأدب العربي إلى دم جديد انه على الرغم من عدم معرفته باللغات الأوربية تكبد مشقة العثور على رجال يعرفونها وطلب إليهم أن يترجموا له الكتب الأوربية ثم يقوم هو بصوغها في قالب عربي حر. حقا أن الكتاب المعاصرين قد أمطروا المنفلوطي بسهام نقدهم المر، وهو نقد لاشك في عدله، وبخاصة مقالة العقاد عن المنفلوطي، فكتابات المنفلوطي بها عيوب ونقائص كثيرة، ولكن على الرغم من هذا كله فإن أياديه على الأدب العربي الحديث يجب ألا يستهان بها. ومن المترجمين المعاصرين يمكننا أن نذكر أحمد حسن الزيات. مترجم (آلام فرتر)، والدكتور محمد عوض محمد، مترجم (فاوست) لجوته، ومحمد السباعي، الذي ترجم إلى العربية كثيرا من روايات ديكنز كما نظم بالعربية رباعيات الخيام، وحافظ إبراهيم الذي ترجم (البؤساء) لهيجو. ويلزمنا أن نذكر أيضا ترجمات احمد الصاوي في (مجلتي) والعمل الذي تقوم به اليوم لجنة التأليف والترجمة. إلا انه لا يزال أمام المترجم العربي كنوز زاخرة، وبخاصة إن القارئ العربي والكاتب العربي
في يومنا هذا قد اخذ يزيد اهتمامهما بالقوالب الأدبية الرائجة الآن في الغرب كالرواية والقصة القصيرة.
هذا واحب أن أكرر أن الترجمة ليست عملا آليا بحال، وأنها ليست مجرد وضع كلمة محل كلمة؛ بل هي فن، وهو فن، لا يزال في المهد صبيا. ولقد ظهر حديثا في بلادنا عدة كتب تدور على فن الترجمة. وسأقتبس من أحد هذه الكتب القطعة الآتية التي تبين أهمية هذا الفن:(لاشيء يتحرك بدون ترجمة؛ فالتجربة الإنسانية تتضمنها عبارات ثلاث: العواطف، وطرق التأدية، والفكر. فالعواطف (مثل الخوف الخ. .) لا تتغير طبيعتها، أما الفكر وطرق التأدية فتتغير. فإذا حدث تغيير في الفكر أو طرق التأدية فلن يقدر له الشيوع والانتقال بغير الترجمة، لأنه لكي يشيع يجب أن ينتقل من أمة إلى أمة، أي من لغة إلى لغة.)
إن العالم الحديث يدرك الآن إن الأمم، كالأفراد، يجب إن تتعاون إذا أرادت الظفر بالسعادة والسلام والرخاء. كذلك شأن الأدب. الأدب كالتجارة، يجب أن يكون في حركة مستمرة، يجب أن يكون فيه على الدوام دخل وخرج، أخذ بين الأمم المختلفة. فالذي يقوم بوظيفة المتاجر في هذه المعاملات الحيوية هو المترجم.
(عن مجلة الأدب والفن الإنكليزية)
د. جونسون دافيز
من عجائب التصحيف
للأستاذ محمود عزت عرفة
(مهداة إلى الأستاذ علي الطنطاوي، رجاء ألا ينفذ وعيده من
هجر الكتابة وكسر القلم، احتجاجا على ما تمنى به مقالاته
البارعة من مشوهات التصحيف والتحريف).
لو يعلم الأستاذ الجليل علي الطنطاوي أنى لا أكاد أقع على تصحيف واحد في مقالاته، إلا أن ينبه هو عليه بتصحيحه في ذيل مقالة تالية لأخذ منه العجب مآخذه. ذلك آني اقرأ عباراته على صحتها، وأتناولها في الأغلب على وجهها؛ فيسبق لساني إلى كلمة (المضري) مثلا، وهي أمام عيني محرفة إلى كلمة (المصري)، ولا أكاد أتنبه إلى أن (يطير به) تصحفت إلى (يطر به) الخ. وما اشك في إن كثيرا من قراء (الرسالة) يفعلون ذلك دون تكلف أو عناء.
ولست اعرف الأستاذ بمجهول لديه حين أقول إن التصحيف والتحريف والتبديل والتطبيع، هي ضرائر في لغتنا لا مخلص لنا منها، مرجعها إلى تشابه في بعض الحروف لا يجدي معه شكل أو إعجام. وأين نقع نحن من أسلافنا - أرباب الفصاحة وفرسان البيان - وهم قد أتوا من فنون هذا التصحيف بما اضحك منهم الثكالى وجفف دموع الباكيات؟ بل أين من سلم في القدماء والمحدثين من هذه الآفة، أو تهدى إلى وجه الخلاص منها، إلا إن يكون - على حد قول العسكري صاحب كتاب (التصحيف والتحريف) - (ممن افتن في العلوم، ولقي العلماء والرواة والمتقدمين في صناعتهم، المتقنين لما حفظوه، واخذ من أفواه الرجال، ولم يعول على الكتب الصحفية، ولم يؤثر شدة الراحة والتقليد على تعب البحث والتنقيب. . .)؟
هذا كتاب الله الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. . . لم يسلم ممن يعرض له بالتصحيف والتحريف، وهو ما هو سريانا على السنة المسلمين، والتقاطا بقلوبهم، وتمكنا من صدورهم، لولا أن صدق الله في وعده:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).
فقد ذكروا إن حماد بن الزبرقان، المقرئ الراوية، كان يصحف ألفاظا في القران لو قرئ بها لكان صوابا، لأنه حفظ القران من مصحف ولم يقراه على شيخ، فكان مما يغلط فيه:(وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه) يريد (إياه). وكان يقرا: (بل الذين كفروا في غرة وشقاق) والصواب (عزة). ويقرا: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يَعنيه) بدل (يُغنيه).
وقرأ عثمان بن آبي شيبة على أصحابه التفسير: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)، يعنى قالها كأول البقرة (ألف، لام، ميم). وحدث عنه إسماعيل بن محمد البسري قال: سمعت عثمان بن آبي شيبة يقرأ: (وجعل السقاية في رِجل أخيه) فقلت له: ما هذا؟ قال: تحت الجيم واحد وكان يقرأ: (وما عملتم من (الخوارج) مكلبين)!
وينسب أصحاب حمزة الزيات أليه إنه كان يتعلم القرآن من المصحف، وانه قرا يوما وأبوه يسمع:(ألم، ذلك الكتاب لا زيت فيه)، فزجره أبوه وقال: دع المصحف وتلقن من أفواه الرجال!
وكان محمد بن الحسن العطار المقرئ - المعروف بابن مقسم - يتلو قوله تعالى: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجبَاء. . .) بالباء والهمزة في آخره. ويقرا بحروف أخرى تخالف الإجماع ويتمحل لها وجوها بعيدة من اللغة والمعنى. قال احمد الفرضي: رأيت في المنام كأني في المسجد الجامع أصلي مع الناس، وكأن ابن مقسم قد ولى ظهره للقبلة وهو يصلي مستدبرها، فأولت ذلك مخالفته الأئمة فيما اختاره لنفسه من القراءات
هذا طرف مما أثر عن تصحيفات القراء. . . أما (المحدثون) فلهم في ذلك ما يستخرج العجب. قال أبو علي الرازي: كان عندنا شيخ يروي الحديث - من المغفلين - فروى يوما إن النبي صلى الله عليه وسلم أحتجم وأعطى الحجام آجرة! يعني أجره
وحدث ابن شهاب قال: أخبرني عبد الله بن ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح وجهه (من القبح) - قال أحمد أبن حنبل: أخطأ وصحف، إنما هو (زمن الفتح).
وفي الحديث: إن الكافر ليجر لسانه فرسخين يوم القيامة يتوطؤه الناس. حرفه بعظهم فقال: ليجر لسانه في سجين. . . والأول هو الصحيح
وأغرب من هذا ما حكاه القاضي أحمد بن كامل قال. حضرت بعض مشايخ الحديث من
المغفلين فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله، عن رجل قال: فنظرت فقلت: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟ فإذا هو قد صحفه، وحقه عز وجل
وصحف رجل قول النبي صلى الله عليه وسلم: عم الرجل صنو أبيه فقال: غم الرجل ضيق أبيه.
وصحفوا: لا يرث حميل إلا ببينة (والحميل الدعي في نسبه) فقالوا: لا يرث جميل إلا بثينة!
ومن الأحاديث المصحفة قوله عليه الصلوات: أتحبون أن تكونوا كالحمر الضالة؟ قالوا: هي (الصالة) بالصاد المهملة - يقال للحمار الوحشي الحاد الصوت، صال وصلصال، كأنه يريد الصحيحة الأجساد الشديدة الأصوات لقوتها ونشاطها.
وللأدباء والنحاة وعلماء اللغة تصحيفات كثيرة تتبع بعضهم بعضا فاكثروا التتبع حتى افتضحوا جميعا. ولا تكاد تخلو مجموعة لغوية من فصل يعقد لهذا النوع المتعنت من النقد. ونحن نبدأ في هذا المقام بذكر السقطة التي أخذوها على الجاحظ (يرحمه الله)، لأنه كان ممن لا ينفك يتتبع سقطات الرجال، بل ليتزيد عليهم من القول بما يدعهم مضغة الأفواه وأضحوكة المحافل. . . قال العسكري في كتابه: سمعت من يحكي عن ابن دريد - ولم أسمع هذه الحكاية منه - إنه قال: وجدت للجاحظ في كتاب البيان والتبيين تصحيفا شنيعا في الموضع الذي يقول فيه: حدثني محمد بن سلام قال: سمعت يونس يقول: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: وإنما هو عن البتي (بضم الباء وكسر التاء مشددة) أي عن عثمان البتي وكان فصيحا؛ فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك عند المسلم والذمي انه كان افصح الناس. فهذا تصحيف آبي عثمان الجاحظ!
وجلس اللحياني (أبو الحسن علي بن المبارك) يملي نوادره يوما فقال: مثقل استعان بذقنه. فقام أليه يعقوب بن السكيت وهو حدث فقال: يا أبا الحسن، إنما العرب تقول: مثقل استعان بدفيه، يريدون الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه. فقطع اللحياني الإملاء، فلما كان في المجلس الثاني أملى فقال: تقول العرب: هو جاري مكاشري (بشين معجمة)، فقام يعقوب
فقال: أعزك الله، ما معنى مكاشري؟ إنما هو مكاسري، كسر بيتي إلى كسر بيته. فقطع اللحياني الإملاء بعد ذلك. . .
وحدث أبو العيناء قال: كتبت إلى صديق لي: جعلت فداك من السوء كله! فلقيني بعد ذلك فقال لي: إنما استفيد أبدا منك - لأعدمت ذاك - وقد كتبت إلى: جعلت فداك من الشوكلة. فما الشوكلة؟ قال: فعجبت وضحكت ثم قلت: نلتقي بعد هذا وتقع الفائدة!
وحدث عون بن محمد عن أبيه قال: حضرت الأحمر وهو يملي بابا في النحو ويقول: تقول العرب أوصيتك أباك، يريدون بابيك، وأوصيتك بابيك، وأوصيتك جارك، يريدون بجارك، وأنشد:
عجبتُ من (دهماء) إذ تشكونا
…
ومن آبي (دهماء) إذ يوصينا
جيرانَنا. . . كأننا جافونا!
فقال له رجل: أنت تقيس الباب على باطل، إنما هو: خيرا بها كأننا جافونا. قال: فغضب وقام!
وقرأ رجل يوما على عبد الله بن المفجع:
ولما نزلنا منزلا طلَّه الندى
…
أنيقاً وبستاناً من النور (خالياً)
بالخاء المعجمة - فحرك المفجع رأسه وقال: يا سيد أمه، فعلى أي شيء كنتم تشربون؟؟ على الخسف؟!
ولأجل هذه الشناعة في التصحيف كانوا يتحاشونه، ويتداعون إلى ذمه في أشعارهم. قال ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق:
وإنك لن ترى للعلم شيئاً
…
يحققه كأفواه الرجال
فلا تأخذه من صحف فترمَى
…
من التصحيف بالداء العضالِ
ولم يهج شاعر أبا حاتم السجستاني بأشد مما قال فيه:
إذا أسند القومُ أخبارهم
…
فإسنادْه الصّحف والهاجس
ومن طرائف أبي نؤاس قوله في أبان اللاحقي:
صحَّفتْ أمك إذ سمَّ
…
تك في المهد (أبانا)
قد علمنا ما أرادتْ!
…
لم تُرِد إلا (أتانا)
وتهكم بأحد المبخلين فقال:
رأى (الصيف) مكتوباً فظن بأنه
…
لتصحيفه (ضيف) فقام يواثبه
وهجا سيف الدين بن المشد عوادا فقال:
عوادُنا قد طُمست عينُه
…
فصار التصحيف (قوَّادا)
ما عاد إلا لقياداته
…
لأجل ذا سُمِّي (عوادا)!
قال صاحب مطالع البدور: قلت: وان كان حصل له عمى فأحسن!!
(البقية في العدد القادم)
محمود عزت عرفة
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين
للأستاذ محمد سليم الرشدان
بين يدي ضروب النثر:
وقفت (في عدد مضى) عند فئة من السلف القريب، الذين كانوا في مقدمة المنشئين للنهضة الأدبية (في فلسطين)، والذين نعتبرهم الطليعة المغامرة في هذا الميدان. وفي (ما بين يدي) أتابع ما تقدم بان أقول:
ويأتي بعد أولئك الأعلام الذين ذكرت، جماعة قفوا على أثارهم، وساروا على غرارهم، فكانوا أساتذة الأدب المبدعين. أنتجوا فيه خير انتاج، فكثر مقلدوهم بين شبابنا المتأدبين. وما يزالون إلى اليوم خير أسوة يؤتسى بها. ولو ذهبت أتحدث عنهم مفصلا لضاق بي المجال، مهما رحب، فهم (بحمد الله) في غير قلة، وآثارهم اكثر من أن يشملها صعيد محدود. ولكنهم (من حيث الاختصاص) يكادون يسلكون مسلكا عجبا! فالأديب منهم لا يبعد أن يكتب في شؤون التربية أو التاريخ، والشاعر لا يبالي أن يكتب في العلوم أو السياسة، والمؤرخ لا يتورع أن يكتب في علم اللغة وآدابها. . . ومن هنا تشابه الأمر علي واختلط، ورأيتني ملزما على أن أتجوز في معنى الادب، فأسلك في عداد الأدباء كل من ساهم في ناحية من النواحي الثقافية، التي قامت عليها النهضة الأدبية الحاضرة وأعتبر هؤلاء الأدباء (على اختلاف مواضيع إنتاجهم) في فئتين، فريق في (أهل النثر) وفريق في (أهل النظم).
وسوف أتجنب (التفصيل والتطويل) في تراجم من أقدم بعض آثارهم علما مني أن ذلك لا يعدو كونه مهادا يستقر خلف المنحى الذي أهدف إليه، وتكاد - إلى حد ما - لا تربطنا به علاقة مباشرة.
ثم إنني سأقتصر على ذكر من تركوا آثارا أدبية - مخطوطة كانت أم مطبوعة - ممن تعرفت إليهم أو (وصلتني) آثارهم. فأبدأ بأعلام الفريق الأول وهم (الناثرون) فأذكر منهم:
الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي (المقدسي) وهو شيخ الادباء، (وأديب العربية الأكبر) من
غير منازع. وله إنتاج أدبي غزير، فهو ما يفتأ أن يطالعنا بتأليفه القيمة، وأبحاثه التي لا ينقطع لها مدد. وبفضل نشاطه الذي لا يفتر أصبح علما بارزا في الأقطار العربية جميعها. ومن مؤلفاته المطبوعة (وهي كثيرة):
الإسلام الصحيح: وهو سفر عظيم الفائدة كبير الحجم فيه نقد وتحليل، وفيه توضيح لكثير من الحقائق الغامضة، ودحض لأشتات من الأباطيل التي سار عليها الناس أمدا طويلا، وهم يحسبونها في أصول الدين وما هي منه في شئ. وكل ما في هذا الكتاب رائع، إلا إن أروع مافية تعليقه على كلمة (آل محمد (ص) ومبلغها في ثنايا الحقيقة والتاريخ.
ومن كتبه الأخرى: (كلمة في اللغة العربية) و (البطل الخالد والشاعر الخالد) و (الثورة السورية) ثم (الثورة العراقية). ومن كتبه التي لم تطبع - بعد - وما تزال قيد بحثه وعنايته: (أبو العلاء المعري) و (آمالي النشاشيبي) و (نقل الأديب).
ولهذا الأستاذ أسلوب يكاد يكون وقفا عليه. وهو ينم على سعة اطلاعه، وكثرة ما استوعب في ذاكرته من مفردات هذه اللغة الكريمة. ومن ذاك قوله في (اللغة العربية):
(اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة. وضعف الأولي مقرون بضعف الثانية. . . واللغة ميراث أورثه الأباء الأبناء، وأحزم الوراث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع.
وإنا (أمم اللسان الضادي) لعرب، وان لغتنا هي العربية، وهي الإرث الذي ورثناه. وأنا لحقيقون - والآباء هم الآباء، واللغة هي تلك اللغة - بأن نقي عربية الجنس وعربية اللغة. . . ولو كان المورثون صغارا، ولو كان الميراث حقيرا لوجب علينا إكبارهم وإعظامه. فكيف والتاريخ يقول: إن الأباء كانوا مراما، وأن الأباء كانوا عظاماً. . . والزمان يقول أن العربية خير ما صنعت يداي (وان الدهر لصنع)، وأنها لخير طرفة أطرفها الناس. والزمان بالخير (وإن جاد) شحيح.
فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية الدرة اليتيمة أو كنز الزمان (ضن به كل الضن ثم
سخا). . .)
والأستاذ أحمد سامح الخالدي (المقدسي): وهو أبو التربية في فلسطين. فلقد انفق شطرا غير قصير من عمره في مزاولة التوحيد الصحيح والتربية المجدية بين ناسئة الجيل
عندنا، بل بين نخبة من هذه الناشئة، في (الكلية العربية) التي يتولى عمادتها.
وله اليوم طلاب عديدون في طول البلاد وعرضها، نهلوا من علمه الغزير، وساروا على النهج الذي رسم لهم خطته، حتى اصبح فيهم من يشاطره حمل هذا العبء الذي تفرغ لحمله، ويزامله في الميدان الذي يعمل فيه.
ولم يكتفي الأستاذ (الخالدي) بالتوجيه العملي. ولذا فقد فزع إلى التوجيه النظري، فألف فيه كتبا عدة. ليأخذ بنصوصها هؤلاء الذين حرموا نعمة التخرج على يديه. واذكر منها الكتب التالية:(أركان التدريس) و (إدارة الصفوف) و (أنظمة التعليم) و (طرق التدريس المثلى) ثم (رسالة اختبار الذكاء). وهي الأولى من نوعها في العربية.
ولم يقف الأستاذ عند هذا المدى، بل تخطاه لما عداه. فشرح واخرج كثيرا من المخطوطات القيمة، التي لها علاقة مباشرة ببلاد الشام - وفلسطين قسمها الجنوبي - ومنها:(رسالة ترغيب الأنام في سكنى الشام، لعز الدين السلمي. و (فضائل بيت المقدس) للواسطي، و (مثير الغرام بفضل القدس والشام) لأبي محمود المقدسي. و (الأعلام بفضائل الشام) للمنيني. والكتاب الأخير منها صدر منذ أيام، وهو ألان في متناول الأيدي. وفضلا عن المقدمة القيمة التي أوضح فيها الأستاذ أمورا مبهمة، فضعف بذلك قيمة الكتاب التاريخية. ثم الموجز التاريخي (الذي اتبعه بها) في سرد تاريخ سورية (الطبيعية) في القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد. فانه أضاف أليه ملحقا في تراجم الصحابة والتابعين (الذين نسبوا إلى الشام أو نزلوا أو استشهدوا أو ماتوا فيها). فجعله بذلك مرجعا قيما للباحثين في هذا السبيل.
وله (فيما عدا ذلك) كتب أخرى في العلوم العقلية والأدبية وفي أبحاث شتى. ومنها: (الحياة العقلية) و (أقنعة الحب) و (خفايا النفوس) و (رحلات في الديار الشامية).
كما أن له سفرا قيما - ما يزال بين كتبه المخطوطة - وهو (تاريخ المعاهد الإسلامية). وقد أولاه (ويوليه) الكثير من عنايته. ويقع في ثمانية مجلدات ضخمة، يتناول فيها تطور الثقافة عند المسلمين والعرب في سائر معاهدهم التي أنشأوها في الشرق والغرب (ما خلا الأندلس). ثم كيف كانت هذه الثقافة توجه لأغراض شريفة وأهداف سامية.
وهو ألان يكاد يفرغ من كتاب جديد - لعله أول كتاب في بابه - وعنوانه: (الأردن في
التاريخ الإسلامي).
وأسلوب الأستاذ في سائر مؤلفاته سلس بين، خال من التعقيد والتصنع. فأسمعه حين يصف التعليم فيقول:
(التعليم فن، والمعلم فنان، وكما ينحت المثال من الحجر الأصم تمثالا بالشكل الذي يريده، فيصوغ منه ما يشاء من رموز الحياة ومعانيها، حتى ليخيل إليك إن الحياة تنبض فيه، كذلك يفعل المعلم!
غير إن المواد التي يعالجها المعلم مواد حية، حساسة شاعرة متأثرة. تدفعها ميول وغرائز، وبواعث شديدة التأثر والانفعال: مواد هي أرقى ما صاغته يد الخالق، قابلة للتكيف، تابعة لسنة التطوير، نامية فيها حياة وقوة.
هذه المواد، وهذه الوديعة الثمينة - التي يعهد بها إلى المعلم، وتترك إلى عنايته - هي الطفل. . .).
ثم الدكتور اسحق موسى الحسيني (المقدسي): وهذا العالم الدؤوب - بالرغم من إنه يتخطى حضارة العقد الرابع من سنيه - ما يزال يفاجئنا بين الفينة والفينة بسفر قيم، أو مشروع يرمي إلى أحياء الأدب أو تنشيط النهضة الثقافية.
ولقد صدر له إلى اليوم مؤلفات يخطئها الحصر وهي - إلى جانب ذلك - لطيفة الحجوم، إلا أنها (رغم ذينك) غزيرة الفائدة، يحدثك كل وجه فيها عما اقتضاه أعداده من تحر وتدقيق، واستقراء وتحليل. ومن هذه الكتب:
(مذكرات دجاجة) وقد صدر في سلسلة (اقرأ). ونال الجائزة الأولى لاتفاق القراء على تفضيله، و (عودة السفينة): وهو مجموعة مقالات ترمي إلى هدف واحد، هو العودة بهذه الأمة إلى ماضي عهدها المجيد، وأيامها اللامعة المشرقة.
كما أن له كتبا مخطوطة، ما يزال في سبيل أعدادها. منها كتاب جامع عن (ابن قتيبة) وفيه دراسات وافية لآثاره، وسفر كبير عن (الجامعات الإسلامية) يتناول فيها تاريخ نشوئها والأسباب التي كانت تدعو إلى ذلك. والدكتور في أسلوبه يميل إلى البساطة واليسر، وملاحقة المعنى دون المبنى. واليك نمطا من ذلك قوله في كتابه (عودة السفينة):
(إن العالم باقي وإن اختلفت مذاهب الناس فيه، وإن التهمت الحروب كل عام ملايين من
سكانه. بل ما دام فيه إنسان واحد.
وهذا الإنسان لن يفنى. إنه سيعيد سيرة جده آدم، وسيبدأ العالم من جديد. . .
ولهذا يجب إن نؤمن أيمانا لا يتزعزع بوجودنا وبعودتنا، وعلى الذين يغمرهم الجزع في الحاضر أن يلتفتوا مرة إلى الماضي ومرتين إلى المستقبل. . .
إننا لن نلقي على الماضي إلا نظرة واحدة، إما المستقبل فله منا نظرتان وأننا لنعلم أن الوقت لا ينتظرنا حتى نبدأ من حيث انتهى آباؤنا، ومن حيث ابتدأت الأمم الراقية. سنبدأ من حيث انتهت، وسنأخذ من كل جديد نهايته، وسنغرف من الحضارة الأوربية ما يطلق مواهبنا إلى غاياتها، وما يبعث تراثنا من جديد. . .
أجل: إننا سنعود إلى القمة حيث كنا، وستعود السفينة إلى شاطئ السلامة باسم الله مجراها ومرساها. . .).
(له تكملة)
محمد سليم الرشدان
(ماجستير في الآداب واللغات السامية)
تطور الآراء عن أصل الكائنات الحية
للدكتور فضل أبو بكر
لقد أصبح ألان في حكم البدهيات معرفة إن كل كائن حي إنما يولد من كائن حي آخر سالف من نفس النوع، وهذه العقيدة التي ندين بها ألان والتي يرتكز عليها علم الحياة (البيولوجي) وعلم الطب والصحة كانت موضع اخذ ورد وجدال عنيف بين العلماء ولم يسلموا بها إلا بعد مئات من السنين.
اعتقد العلماء حينا من الدهر فيما سموه بال أي (الجيل التلقائي الذاتي) بمعنى أن الأحياء الضعيفة من حشرات وديدان وهوام وميكروبات إنما تولد من تلقاء نفسها من غير حاجة إلى أسلاف وآباء من الأحياء بل تنشأ من البيئة الجمادية التي خرجت منها.
فارسططاليس الذي عاش من سنة 384 إلى 322 قبل الميلاد والذي كان اكبر عالم في البيولوجي في زمانه كان يعتقد في هذا الجيل التلقائي وظن أن كل جسم في وسعه إن يلد كائنات حية إذا ما بللته قطرات الماء وأروت عطاشه. . . فتلك الحشرة إنما خلقت من الزهرة أو من الطين والوحل، وتلك الديدان التي تعيش متطفلة في أمعاء الإنسان خلقت من المواد البرازية.
كذلك الفيلسوف ابن سينا (980 إلى 1037 م) لم يشذ عما سبقه وعاصره من العلماء والفلاسفة وأكد أن كثيرا من الأحياء تتولد من جيف الجثث التي تلفظها الأنهار وقت الفيضان.
أما الفيلسوف الإنجليزي (فرنسيس بيكن)(1561 إلى 1626) فقد خطا خطوة إلى الأمام واثبت نظريا بان قليلا من الأحياء يكون توالدها نتيجة لانقسامات أو تلقيح لأحياء أخرى، ولكن الأغلبية إنما تتناسل من الجمادات والمواد المنحلة التي تعيش عليها، ومن هذه الأخيرة يذكر الضفادع والذباب والقمل والبق والبرقوت والجراد والديدان والعنكبوت.
أما العالم الهولندي (فان هلمنت)(1577 إلى 1644) فكان يعتقد أن بعض الضفادع والقواقع تنشأ قرب المياه الراكدة مثل البرك والمستنقعات حيث النسيم الذي يهب من ناحية تلك المياه والروائح المتصاعدة منها تنفخ الروح في تلك الحيوانات وتخلقها، وكان يقوم ببعض تجارب غاية في الغرابة مثال ذلك تجربته آلاتية: -
(خذ قطعة من الطوب واثقبها ثم ضع حزمة من نبات الريحان على الثقب ثم غطي قطعة الطوب بقطعة أخرى وعرضها لحرارة الشمس عدة أيام تجد قد تكونت عدة عقارب صغيرة وما نبات الريحان إلا بمثابة الخميرة التي ساعدت على تكوين العقارب) ولكي تخلق بعض الفيران فالمسالة في غاية البساطة كما ترى في التجربة الآتية (ضع قميص امرأة - والأفضل أن يكون متسخا في أناء مملوء بحب القمح واترك الإناء بمحتوياته لمدة 21 يوم وبعدها تجد أن بعض حبات القمح قد تحولت إلى فيران بعضها ذكور والبعض الأخر إناث وذلك بفعل (الخميرة) التي توجد في قميص (المرآة).
إلى أن جاء العالم والفيلسوف الطلياني (فرنسسكو ريدي) وقد كان أول عالم فند فكرة الجيل التلقائي وهزئ من أراء الأقدمين واثبت بطلانها علميا. أجرى تجربة بكل دقة وذلك إنه أخذ قطعة من لحم طازج وشطرها شطرين ثم وضع كل جزء في أناء غطى أحدهما وترك الأخر مفتوحا وتركهما عدة أيام ثم فحصهما بعد ذلك فلم يجد أثرا للدود في الإناء المغطى بينما كان الإناء المكشوف يعج بالدود عجيجا، ثم اخذ الإناء الأول أي المغطى تغطية محكمة وغطاه بمنسوج من سلك رفيع يسمح بدخول الهواء في الإناء وتركه عدة أيام ثم فحصه فلم يجد آثرا للديدان فاستنتج من هذه التجربة بأنه ليس عدم الهواء هو المانع لتكوين الدود في المواد المتعفنة، وإنما الذي يحول عن تكوينها هو الحيلولة بينها وبين بعض الحشرات مثل الذباب الذي يضع بويضاته على تلك المواد وتفقس تلك البويضات وتكون الدود، وهذه التجربة على ما بها من سهولة وبساطة أدت خدمة كبيرة.
وفي سنة 1674 جاء العالم البكتريولوجي الهولندي (ليونهوك) وأعاد تجارب العالم ريدي وأمن بها ولكنه زعم أن التجربة لا يمكن تطبيقها على كل الأحياء.
وفي سنة 1765 علا نجم العالم الفسيولوجي الطلياني (اسبالانزاني) الذي اهتم كثيرا بمسالة الجيل الذاتي التلقائي وقام ببعض التجارب، منها إنه وضع في بعض أنابيب الاختبار قليلا من الحساء المكون من مرق اللحم والخضار وقفل بعض الأنابيب قفلا محكما بإذابة زجاج أحد طرفيها ووضعها في أناء يحوي ماء يغلي لمدة نصف ساعة. كما ترك البعض الأخر من الأنابيب مفتوحا فوجد أن الأنابيب الأولى لا تحوي إحياء بينما الثانية مملوءة بالاحياء، واستنتج من كل ذلك انه لكي تعيش هذه الأحياء لابد لها من عاملين:
عامل الهواء والحرارة المناسبة فإذا ارتفعت الحرارة لدرجة لا تناسبها أبادتها وقضت عليها.
أما العالم المكروبيولوجي (نيدهام)(1613 إلى 1781) فلم يعتقد في صحة أراء (اسبالانزاني) وكان شديد التعصب لفكرة الجيل التلقائي.
وهنالك بعض الفلاسفة مثل (شوبنهور) و (ليبنز وفلتير هاجموا فكرة الجيل التلقائي إذ أنها غير منطقية ولا معقولة، سيما فلتير فقد أعجب كثيرا من نظرية العالم الإيطالي اسبالانزاني وانتقد بأسلوبه التهكمي اللاذع العالم الهولندي (نيدهام) وسخر من ارائه، والف كتابا سماه شواذ الطبيعة
هذا وقد انقسم العلماء إلى فريقين: فريق - وقد اصبحوا أقلية - يعتقد في تكوين المكروبات والأحياء الدنيا من الجماد والمواد العضوية المتعفنة. وفريق - وهم الأغلبية - قد اعتقدوا في حقيقة الجرثومة وان الأحياء لا تنشأ إلا من جرثومة حية. إلى أن جاء العالم الفرنسي الأكبر (لوي باستير) الذي يعتبر بحق اكبر رجل خدم الإنسانية باكتشافاته العديدة والتي غيرت مجرى الطب والجراحة بل وكل علم الأحياء مما كان له الفضل في إنقاذ البشرية، ولا يتسع المجال في مثل هذه العجالة للخوض في اكتشافات باستير فقد وصفت عدة مجلدات، ونذكر منها ما يهمنا فيما نحن بصدده. ولد باستير سنة 1822 وتوفي في عام 1895 بدأ حياته العلمية كعالم كيميائي، وله في هذا العلم اكتشافات قيمة، ولكنه منذ عام 1857 م بدأ يهتم بعلم المكروبيولوجي فدرس عملية التخمير الكحولي واللبني واثبت أن عملية التخمير لا تأتي عرضا أو عن طريق المصادفة وإنما تسببها كائنات حية تسمى ال الخميرة، وقد اثبت ذلك بتجارب علمية غاية في الإتقان، وقد تصدى له كثير من العلماء المعاصرين في ذلك الوقت ودارت بينه وبينهم مناقشات تاريخية عنيفة عدة اشهر اضطرتهم أخيرا إلى التسليم. وقد اثبت كذلك بان ظاهرة الانحلال والتعفن التي نشاهدها إنما هي نتيجة لفعل المكروبات وليست المكروبات محلوله من تلك المواد العضوية المنحلة وهذه المكروبات توجد في الهواء وفي الماء وعلى الأرض، وأنها تتجمع على تلك المواد العضوية لتقتات منها وتستمد منها قوتها كما تتخذها مهدا لذريتها، وهذه المكروبات تتوالد بسرعة مدهشة وبكميات وفيرة، وذلك لضعفها وفتك عوادي الطبيعة بها
من حر لفح وبرد قارس، فلكي تحفظ نسلها ونوعها كان لزاما عليها أن تتوالد بكثرة على حد قول الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخاً
…
وأم الصقر مقلاة لزور
وقد يرى القارئ مما تقدم ذكره بأن علم البيولوجي ولاسيما ما يختص منه بعالم المكروبات كان بطيء التطور والتقدم، ومازال كذلك بالنسبة لعلوم الطبيعة الأخرى مثل الكيمياء والطبيعة وعلم الفلك والمكنيكا التي نهض بها العلماء منذ أجيال بعيدة وبلغت ألان من الإتقان شأوا بعيدا، ولا نكون مبالغين إن قلنا بان حضارتنا الحالية إنما نشأت من تقدم هذه العلوم وتطبيقها.
أما علم البيولوجي فأظن إن من أهم أسباب تأخره هي صعوبة الموضوع فهو حقا شائك. خذ الخلية الحيوانية أو الإنسانية خاصة وما تحويه من المواد البروتوبلازمية المعقدة التركيب ولاسيما نواة الخلية وكيف أن هذه النواة تتكون من أجسام كروموسومية، وإن هذه الأخيرة تتكون من أجسام اخرى، وهي التي تكيف الإنسان وتكون طبائعه بل وشخصيته، كذلك خلايا الجهاز العصبي وأليافه من حيث فسيولوجيتها وتفاعلاتها الحسية والنفسية كل ذلك غاية في الدقة ومازال بعضها سرا غامضا إلى ألان.
فضل أبو بكر
إلى المجمع اللغوي:
الأسماك في الشواطئ الحضرمية
للأستاذ علي عبود العلوي
- 2 -
ومن حديثهم إن الأسماك تنقسم إلى ستة فصائل.
1 -
الفصيلة الأولى:
وهي ما يسمونه بسلطان البحر واسمه في عرفهم شوحط ومن فصيلته: صيون، حاش، قفه.
ويلي هذه الأسماء خمسة أسماء أخرى لأنواع هذه الفصيلة، وقد غربت عن أذهانهم أو لم يعرفوا أسماءها أصلا.
وبهذه الفصيلة يوجد العنبر وبالأخص فهو كثير الوجود في الشوحطه، وفي ثلاثة اسماك أخرى من الخمسة التي لم يحفظوا أسماءها.
2 -
الفصيلة الثانية:
هي فصيلة اللخم (بكلاه)، وهذا ما أملوه علينا منها: حيم، أبو سيف، فنطه، شرت، قرين، شغصه، هلكه.
هذه الأنواع السبعة من احسن الفصيلة طعما وهي حسب ترتيبها:
عوره، حغي، زفي، نمراني، شوط، كلبه، نغل، دجل، حبوروقي، دوغه، مكح، شيخه، عور وبر، غفر، بويبل، قطقطه، خنيث، بريير، قصقوص، ييبر، صعمور، قطف علي، قطف حمره.
3 -
الفصيلة الثالثة:
هي الصيد الأسود وهذه أنواعها:
ثمده، زينوب، شروى، ضريس، باعكيمه، تبلم، حقيبه.
ومن الستة الأنواع المذكورة يصنع (الحنيد) المعروف بهذا الاسم في حضرموت.
4 -
الفصيلة الرابعة:
هي ما يسمى بالصيد الأبيض وهذه أنواعها:
ترناك، غودي. (والنوعان من أطيب الأسماك).
صنك، خمخمه، شرام، رغي، زرب، رحثه، قزه، طمكري، سهاي، زعفنه، صليل، قفاط، خرخار، عنفلوص، صعباري، شتمه، حراب، بكسه، غلس، ظرهد، طويله، فرس، عنبريه، تكيه.
5 -
الفصيلة الخامسة:
وتسمى بصيد تشار، وهذه أنواعها:
صرعه. (وهي احسن أنواع هذه الفصيلة):
زوكي، حدرة، ويقد، عيظول، رغف، رعن، خودره، عندق، بوعدل، غريض، بطاح، قربيبه، نسار، قرحيق، أبو قشار، قلوان، حنيوبر، حموره، طيم، بهاره، نثر، ذرذيره، دنقره، حمران، صمرار، كتب، نكز، صراده، زريه، بريه، وقاص، ناقم، ضرير، محلول، مشعا، قفاد، غمد، قشار، مريتع، صبو، بوحنيط، حيثول، ملمامي، عنوب، شماط، قطميم، بوليفه، طرعين، دقنه، مغاسم، جزك، أبو صندوق، شيغر.
6 -
الفصيلة السادسة:
وهي التي تصاد بالشبكة.
عيد، زمار، طبوب، بلعد، شغره، عرعره، عيد بعيدون، شيظي، منتوى، حظيرة، كرمون، باغة، حابس
ملاحظة:
تطيب بعض الأسماك في وقت، ولا تستحسن في الوقت الأخر. مثاله (الترناك) فانه يلذ طعمه في فصل الخريف بحسب التوقيت العالمي كما يوافق فصل الشتاء بحسب التوقيت الحضرمي ولهم في هذا دليل كما يقول المقريزي.
أما (الفود) ففي كل وقت فهي لذيذة الطعم.
وفي العيد - يعنى صغار السمك - يقول بعض أدباء الحضارمة في المهجر هازلا:
من لي بوطء ثرى تلك البقاع إذا
…
ما جئت مستقبلا عودي إلى وطني
هناك انشد مسرورا ومفتخرا
…
(العيد والصيد والأسماك تعرفني)
(يتبع)
علي عبود العلوي
الحركة التربوية في مصر
للدكتور ستانلي جاكسون
ترجمة الأستاذ حسن حبشي
(دكتور ستانلي جاكسون - صاحب هذه المقالات - من رجال التربية والتعليم، خبرهما في مصر وفي إنجلترا من قبل، وتتلمذ على يده كثيرون من مدرسي اليوم، وهو ممن يؤمنون أيمانا عميقا بتطور الحركة التربوية في مصر وبأن للتعليم رسالة اكبر من التلقين هي الخلق والتكوين، وهذه المقالات التي نترجمها على صفحات الرسالة قد انطوت على كثير من الآراء والنظرات الصائبة فيما يتعلق بالتعليم في حاضر هو مستقبله).
حينما اقلب الطرف في عناية دقيقة مستوعبا الحالة التعليمية، ألاحظ آمرين جوهريين في التعليم المصري هما علة ضعفه الكبرى، أولاهما تلك الهوة الشاغرة بين المدارس والمعاهد ذات النظام الشرقي وبين زميلاتها الآخذات بالنمط الغربي، فالرابطة بين هذين الضربين من المعاهد ضئيلة، أو تكاد تكون معدومة، فلقد جرى القائمون بشؤونها - عمدا أو صدفة - على اتباع سياسة الفصل والتفرقة بينهما؛ إما مصدر الضعف الثاني فهو إن نوع التعليم المتبع في كلتا المجموعتين أميل لأن يكون تعليما نقليا صرفا، وفي حين أخر يعتمد على استيعاب الكتب، فهو كان ولا يزال في معظم نواحيه تعليما جافا، لا يرتكز على أسس إنسانية، بل إنه ليعتمد على التلقين والإصغاء، وقلما يأبه بالتفكير والإبداع، أو بعبارة أخرى نستطيع القول بأنه يعنى بتكوين نماذج، وفي كثير من بقاع العالم يتخلون عنه إيثارا لتعليم اكثر حرية وأمس بالإنسان رحما، وهو تعليم يرى أن أهمية العناية بتنشئة الجسم والعواطف والخلق تكافئ العناية بتربية الذهن، ولما للظاهرة اللغوية في التربية من الأهمية فهي جديرة بأن تلقى من العناية العظمى ما أوقن معه إنها صادفته في مدارس هذا البلد.
من المسائل التي تشغل مكانة عظمى في تفكيرنا في الوقت الحاضر مسألة التربية وتأثيراتها على الخلق وفي الأمور الاجتماعية، وسأشير في هذا المقال إلى ناحية واحدة فحسب، هي أن حاجة مصر ستزداد في أيامها المقبلة إلى القادة، لاسيما وهي في طريقها إلى النهوض وفي طموحها لان تكون لها حياة قومية مستمدة من ذاتيتها، ولست اعني (بالقادة) أولئك الرجال العظام رمز الأهمية القومية، بل اقصد نوعا من القادة دون هؤلاء
يتركز عملهم في حمل المسؤولية، وفي إخراجهم إلى حيز الوجود خطط الإصلاح الملقاة على عاتقهم، وان جميع حركات الإصلاح العظمى - وهي الخطوات الرفيعة في سبيل رفاهية الإنسانية - لتتوقف كثيرا على زعامة هذه الجماعات الصغيرة، كما يقع الجانب العملي من هذه الزعامة إلى حد بعيد لا كليا على أكتاف مدرسي الآمة، وقد ظهر أن الأمم التي تفشل في أيجاد عدد كافي من المدرسين والمدرسات الذين تتوفر فيهم الشخصية الأصيلة القوية، والثقة والجرأة، إنما هي أمم ترجع القهقري؛ وسواء اظهر هؤلاء القادة في مصر أم لم يظهروا بعد، إلا إن وجودهم يتوقف كثيرا على ماهية التربية في البيت وفي المدرسة وفي الكلية، فلو إن التعليم كان تعليما إنسانيا من جميع نواحيه، فسيح الآفاق، لألفينا كثيرين من هذا الطراز، ومع أن هذا الفريق من القادة لا يدعي الزعامة لنفسه، إلا أنها تتوقف عليه. زد على ذلك انه هيهات أن يظهر رجال من هذا الضرب إذا ظل التعليم تلقينيا محضا، لا يبعث على الاستزادة، وكان محصورا في دائرة ضيقة من الأفكار.
ليس من شك في توفر المادة اللازمة لتكوين الزعماء في مصر، لكن هل ترانا هيأنا ذلك النوع من التربية يعبد السبيل لظهورهم؟ وهل اعددنا هؤلاء أعدادا تاما لما سيلقى على أكتافهم؟ أن للتربية الشرقية فوائدها الذاتية، لكن يظهر أنها غير كفيلة تماما بإنماء الشخصية، ذلك أن أثارها سلبية اكثر منها إيجابية وعلى الرغم من أنها تبرز الغربية في نواحي التأمل، إلا إنها أميل لإيثار التكرار والتقليد على الخل والتجديد، وسواء كان هذا الفهم صوابا أم خطأ إلا انه يلقى كثيرا من التأييد وليس معنى ذلك أن البلدان الشرقية تعوزها الشخصيات البارزة العظيمة، إذ الواقع أن الطبيعة تحافظ على أن تتغلب على ضيق تعليمنا المدرسي ومن ثم إنها تمدنا - بين حين وأخر - برجال أكفاء شديدي المراس، بيد أن قوتهم هذه قد ترتبط ارتباطا تاما بالنظرة العامة وبضيقها، فلا يتسع المجال أمامهم، ولا يكون لهم ثمة اثر عظيم، ولما كانت تعوزهم الاحساسات الإنسانية الواسعة فانهم يفشلون في الزعامة الحقيقية، ويكون فشلهم على الأخص في اكتساب احترام الجيل الناشئ، ذلك الاحترام الذي يتطلب على الدوام اتساع أفق التفكير عند رجال ذلك الجيل العظام، كما يتطلب قياسا خاصا من الكفاءة في معالجة المشكلات العامة، ومن ثم انه إذا شئنا أيجاد زعماء كبار أو صغار احتجنا إلى نمط من التعليم الحر المرن، واعني به ذلك
الذي يبرز القوى المستترة والعبقريات الدفينة في كل فرد على حدة اكثر مما اعني به ذلك التعليم الذي يطبع الرجال جميعا على غرار واحد، ويهبط بمستوى الشخصية عند الفرد منهم، وقد أثبتت المقارنة بين النمط التلقيني الصرف من التربية وبين النوع الرم على أن الضرب الأول يتمركز آثره قطعا في النتائج كما هو الحال في الصين مثلا وليس الأمر مقصورا على عون قوى العقل المبدعة من التقدم أو تمجيد الذاكرة أو إغفال التربية الجثمانية فحسب، بل هناك ما يؤدي إلى هذه الناحية الخطرة إلا وهو انعدام التربية الاجتماعية التي سأشير إليها فيما بعد، إذ أن التربية اجل من أن تكون تلقينا بحتا، كما أن التعليم الحر يشمل كثيرا من نواحي النشاط داخل المدرسة وخارجها، وحيثما يرى الشخص نفسه صالحة للحياة العامة والاندماج فيها، فهو يتعلم كيف يعامل الناس وكيف (يأخذ ويعطي)، وكيف يكيف نفسه بما يتفق وحاجات الجماعة، ويدرك أين يتحتم عليه تناسي أهوائه الشخصية وهيهات أن يسلس قياد الإدارة للزعماء ما لم يعرف الاتباع كيف يتبعون، ومن ثم فإن مهارة روح الجماعة أو بعبارة أخرى القدرة على اتباع قائد لا تقل أهمية عن قوة القيادة نفسها، بيد أنها لا تكتسب في يوم، ولا نستطيع القول بأنها لقيت في نظم التعليم الشرقية ما تستأهله من العناية وما يجدر بها من الأهمية.
إذا أرشدنا إلى هذه العيوب في تعليمنا، فينبغي أن لا نتناسى إن بعضها موجود في المدارس الغربية، فالمتحذلقون يعوقون المربين في كل مكان، كما أن ضيق أفق الذهن لهو خطيئة المدرسين الكبرى في جميع بقاع العالم، فالمتطرف من المصلحين هو في الغالب رجل ضيق الذهن ولكنه مع ذلك رجل من نوع جديد، ولقد ألف الشرق التحمس للآراء الغربية، ومن ثم غدا أسير الجدة حتى لقد نبذ كل شيء شرقي وراءه ظهريا، فعلى الرغم من أن الرجل ولد شرقيا إلا انه اصبح يزدري أساليب التفكير الشرقية ولربما لج في تطرفه فثار ثورة شديدة على عواطف شعبه، وقد يسرف فيناصب أسرته العداء، ومن حسن الحظ أن من على هذا المنوال قلة ضئيلة، لكن الشيء الواضح هو تفكك هذه الأصول، ذلك التفكك الذي يقوض الروابط القوية، ويحطم اتساق الحياة وهذا يوضح لنا التأثير السيئ لتيارين من الثقافة ليست ثمة وشيجة من الصلة توحد بينهما. مما أدى إلى انجراف الشخصيات الضعيفة في هذين التيارين اللذين تقاسماها، وسارت في طريق يؤدي
بها إلى النهاية لان تكون شيئا جديدا وغريبا، فتزعزعت الروابط القديمة، واجتثت من الحضارة التي كانت تنتمي إليها في الأصل، وفقدت ثقتها في القديم، ولم تجد عوضا عنها في الجديد فكانت عاقبة ذلك خواء لا خير فيه ولا جدوى منه، أما مصر فتقف في ملتقى الحياة الشرقية والغربية، ووصلت إلى مرحلة يستحيل فيها - لو أرادت - أن تقلب أوضاع التاريخ وتفصل التيارين بعضهما عن بعض، وكل ما يبتغى هو أن لا يتصارع التياران سواء في الذهن الإنساني أم في دنيا الواقع، وعسى أن يشقا طريقيهما متآخيين بما يعود على كليهما باليمن، فإذا اتحدا أصاب حياة اعظم رخاء وأكثر عمقا وأوفر طمأنينة، لكن ليس معنى هذا أن يبتلع أحدهما الأخر أو أن يفقد كلاهما خواصه الذاتية، بل الواجب أن تكون هناك تعديلات طفيفة إذا شئنا أن تظل الحياة كما هي، أما تطرف كليهما إلى الحد الذي رأيناه فشر لا فائدة فيه، كما أن إثارة العداء الشديد بينهما ستؤدي حتما إلى انهيارهما معا، وتكون التطورات التي تنجم عن ذلك أبعد مدى مما نتصور، اعني أنها تكون ثورية إن لم تكن هدامة، هذا بينما يؤدي اتباع سياسة التغير المعتدلة - التي تتناسب ومجريات العالم الحديث - إلى اقتباس كل ما في الماضي من خير، وتتسم دنيانا اليوم بأنها دنيا تطور سريع جدا، وان لم يتبادل هذا التطور الأمور الأساسية بل يتلخص في إنه نظرة سطحية ترى إن جميع التغيرات تسير في سلم التقدم، مع أن (التوقف عن التغير هو التوقف عن الحياة نفسها) كما قال فرويد، وسواء أكنا نؤيد هذا الرأي أم ننكره إلا إن الواقع أن الحياة تجرفنا جميعا إلى غد وليد جديد، كما أن سير الحوادث يرغم الناس على أن يفكروا بأساليب جديدة كما هو الحال الآن حينما تجد اصغر القرى نفسها مرغمة على التفكير في آمرو المجتمع الإنساني بأكمله، وفي مثل أزمنة التغيرات القوية هذه يكون من الضروري لنا إلا نشعر بان شيئا من القيم الحقيقية قد أمحى، وأن ندرك أننا نجني خيرات التقدم ونستغلها في حياتنا اليومية، وعلى الرغم مما يبدو على هذا القول من الغموض، إلا انه ينبغي أن يكون الحجر الأساسي الذي ترتكز عليه الحياة التربوية.
إن ما أحدثته الأفكار الغربية من انقلاب في علوم الطب والصحة والنفس وما شاكلها لينبغي أن يستغل لخير الحياة في هذا القطر ويجب إدخاله في تربيتنا، وان نمزج بينه وبين الحياة والثقافة المصريتين، ولا سبيل لهذا التطعيم عن غير طريق المدارس والمعاهد
فهي طريقه الطبيعي الكامل، وكذلك بواسطة مجهودات الأشخاص ونشاط الصحافة والإذاعة، ففي مكنة هذه كلها أحداث شيء من التغير لا سيما في الأمور الظاهرية، وليس معنى ذلك أن تصبح مصر أمة غربية، فتصبغ فنها ودينها وأدبها وموسيقاها وكل شيء في حياتها بهذه الصبغة، وإلا كان ذلك طعنا للامة في صميمها، وحتم علينا إلى أن نشير إلى انه قد تهيأ وجود أداة تراقب تأثير الغرب على الشرق وتنظمه في حينه ردى ذلك إلى التفاهم وإلى استبقاء كل ما هو جليل الخطر في الشرق، واشعر أن هناك بعض نواحي خاصة في الأسلوب الغربي لم يكن ثمة رغبة فيها أو حاجة أليها، ثم أزيلت - هذه النواحي الخاصة - بخير الطرق، وهذا وحده يبين لنا الحاجة القصوى إلى الرقابة، كما انه لو اتبعت الحكمة في إدخال بعض النواحي الأخرى من المعرفة الحديثة لكان لذلك اعظم قيمة، فجل الهندسة الحديثة غربي الأصل على الرغم من أننا لو رجعنا إلى الوراء لوجدناها تدين كثيرا إلى الحساب العربي؛ كما أن مستشفياتنا ومدارسنا الطبية ليست سوى تعبير صريح للعلوم الطبية الغربية التي تدين بعض الشيء إلى الفكر الشرقي القديم، أما نسبة الوفيات بين الأطفال (وهي نسبة مرتفعة جدا في مصر) فقليلة جدا في البلدان التي آخذت بدراسة الحضانة دراسة علمية وعنيت بها، وليس ثمة حاجة للبرهنة على أن قرانا ومدننا في مسيس الحاجة إلى أمثال تلك المؤسسات العلمية، كما نجد أن روح البحث والتنقيب العلمي القائمة على قواعد غربية لمستعملة في محيط الفن بقصد كشف كنوز مصر القديمة، وحفظها من العبث، هذا في الوقت الذي أدى فيه الباحثون الغربيون كثيرا من الخدمات في سبيل تفسير المخطوطات المتعلقة بالمسائل والدراسات الإسلامية، وفي جمعهم مواضيع الفن العربي وترتيبها، كذلك كان للغرب اثر غير منكور في ميدان الرياضة، ويكفي أن يشاهد المرء ثلة من الأولاد المصريين وهم يلعبون كرة القدم أو كرة السلة ليشعر تماما مقدار النقص العظيم في كل نظام تربوي يهمل أمثال هذه النواحي من النشاط، كما أن ممارسة الطفل لهذه الألعاب لا تخرجه عن مصريته، كما انه لا يمكن أن نطعن في مقدرة مدرس لأنه تربى في إنجلترا أو فرنسا، وكل هذه الأمثلة تشير إلى ذلك الاتجاه الجديد، وتوضح ضرورة تشجيع هذين النوعين من الثقافة، ولا يقصد من وراء ذلك أن يحل أحدهما محل الآخر، بل المقصود أن يتعاونا معا في سبيل انتظام الحياة والانتعاش والتقدم
الطبيعي، وذلك خير لكليهما.
حسن حبشي
وردة اليازجي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
وقالت في رثاء ولدها أمين:
بأي فؤاد أبتغي بعدك السلوى
…
وأنت فؤادي في التراب له مأوى
وهي تقول:
ألح عليِّ الحزن من كل جانب
…
فشن على صبر الحشا غارة شعوا
فلو أن ما بي بالجبال لأوشكت
…
تميد لما تلقاه من مضض البلوى
أرى نار قلبي كل يوم وليلة
…
تزيد لهيباً كلم زدت في الشكوى
لفقد أميني بل حبيبي ومهجتي
…
وريحان زوجي من غدوت له نشوى
لقد كان في عيني أبهى من الدجى
…
وأعذب في قلبي من المنّ والسلوى
كصدر القنا كالنصل كالغصن في النقا
…
كزهر الربى كالبدر كالرشأ الاحوى
أيا قبره هذا العزيز فلا تدع
…
هوام البلى تهوي عليه كما تهوى
وحافظ على تلك العظام فأنها
…
لكنز ثمين ليت قلبي لها مثوى
ورثت ابنتها أسماء بقولها:
يا قرة العين مالي عنك مصطبر
…
كيف السلو ونار القلب تستعر
وكيف أسلو وعني اليوم قد رحلت
…
أسما وأبقت دموع العين تنهمر
فيا عيوني جودي بالدموع عسى
…
تخففي بعض ما في القلب يستتر
وساعدي مهجة المحزون عِّلك أن
…
تطفي لهيب فؤاد كاد ينفطر
يا جمرة الحزن هلا تتركي كبدي
…
يوماً بغير قروح فيه تنفجر
أسما شريكة قلبي آه وا أسفا
…
هلا يعود زمان قد مضى نضر
ربيت تسعة أعوام معي واتى
…
من ليس يمنعه كبر ولا صغر
ما كان أقصر ذاك العمر وا أسفي
…
كزهرة في انبثاق الصبح تنتثر
يا لهف نفسي لأيام مضت عجلا
…
كالحلم ولى فلا عين ولا أثر
أوّاه من طول ليل بت أسهره
…
كأنما ماله صبح ولا سحر
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
…
واليوم هان عليّ الدمع والبصر
وقالت ترثي أخاها عبد الله:
أعيناي جودي بالدموع السواكب
…
وفيضي دماء بعد فقد الحبائب
ومنها:
طوى الدهر ما بيني وبين أحبتي
…
وجّمع ما بيني وبين المصائب
تتابعت الأرزاء من كل جانب
…
عليّ كما ينهل غث السحائب
ثم تقول:
ويا كوكباً قد غاب عني في الثرى
…
وما هكذا عهدي غياب الكواكب
وتختم الرثاء قائلة:
سأبكيك دهري ما حييت وإن أمت
…
ستبكي عظامي تحت طي الترائب
وقالت راثية إحدى السيدات عن لسان شقيقة لها:
قفا نبكي كي أودعها قليلا
…
قبيل لبين إذ أمسى طويلا
رويداً حيث اطلب أن أراها
…
فلا ألقى لرؤيتها سبيلا
وهيهات الوداع وقد أتاها
…
رسول البين يخطفها عجولا
ثم تقول:
إذا ناحت وأعولت البواكي
…
أكون أحق من أبدى العويلا
وإن تك فارقت في مصر نيلا
…
ففي القليا أجتلت نيلا ونيلا
هناك تمتعت بنعيم عيش
…
به تنسى المنازل والنزيلا
وأبقتنا بأحزان لديها
…
نعد الصبر أمراً مستحيلا
وقالت ترثي قرينها:
أترى ما اكتفت صروف العوادي
…
بسهام أصمت صميم فؤادي
كلما كاد يضمد الجرح ترمي
…
ني بسهم مفتت الأكباد
وأبى الدهر أن يمن بنظم
…
غير نظم الرثاء والتعداد
سلبتني المنون إنسان عيني
…
ورفيقي وعمدتي وعمادي
يا أليفي في شدتي ورخائي
…
ونصيري في النائبات الشداد
إلى أن تقول:
قد بكت فقدك المنابر حزنا
…
وتردت عليك ثوب الحداد
وبكتك العلوم من كل فن
…
كنت فيه من أوحد الأفراد
شتت الدهر شملنا وافترقنا
…
وكذا الدهر مولع بالعناد
فسأبكيك ما حييت إلى أن
…
نلتقي في جوار رب العباد
وتختم الرثاء برثاء شقيقها إبراهيم العالم اللغوي المشهور:
لم يبق للحزن صبر ولا جلد
…
ولا دموع تفي لي حق من فقدوا
وضاق صدري مما قد تراكم من
…
حزني ولم يبق لي للاحتمال يد
بينا يضمد لي جرح لفقد أخ
…
يجدد البين جرحاً ليس ينضمد
أخنى الزمان علينا مثل عادته
…
واغتال من هو ركن البيت والسند
مضى الشقيق فشق القلب مصرعه
…
وخلف النار في الأحشاء تتقد
ثم تقول:
يا قائل القول ما زالت به كلم
…
وصاحب الرأي حقاً ليس ينتقد
منشى الفصول التي ما خطها قلم
…
رب البيان الذي لم يحوه أحد
ومنها:
وكوكب الشرق ما تخبو له لمع
…
وإن خبت فالضيا في أثرها مدد
بما نشرت لسان العرب معتصم
…
وما نظمت لسان العرب معتضد
فضل سيبقى بقاء الدهر متصلا
…
عليك لا ينقضي أو ينقضي الأبد
ثم تختم بهذه الأبيات:
يا صخر بنت الشريد اليوم منتشر
…
لها عليك قواف في الورى شرد
هيهات ما فقدت صخري ولا نظمت
…
دمعي ولا وجدت خنساء ما أجد
بكت وحيداً وأبكي ستة ذهبوا
…
لكل محمدة بين الورى ولدوا
يا رحمة الله حلي في مضاجعهم
…
ويا غمائم جودي حيثما رقدوا
وقد رثته ثانية حيث أنشدت على ضريح العائلة في بيروت أي بعد نقل رفاته من مصر:
يا قبر أهنأ بما أوتيت من ظفر
…
فقد حويت كرام البدو والحضر
حويت من هزّ ركن العلم مصرعهم
…
من بعد ما ألبسوه أفخر الحبر
حويت كنزاً ثميناً لو عرفت له
…
قدراً لفاخرت فيه أثمن الدرر
ثم تقول:
يا قبر قد عاد إبراهيم وا أسفي
…
يضوي إلى أسرة من اتعس الأسر
فأي عين لهذا الخطب ما نزفت
…
دماً وأي فؤاد غير منفطر
ويلاه من نكد الأيام كم فتكت
…
بنا ولم تبق لي صبرا ولم تذر
يا قبر أكرم نزيلا حل فيك ولا
…
تمتعنَّ البلى من جسمه النضر
وتختم بقولها:
يا من مضى وجميل الصبر يتبعه
…
هل من سبيل إلى لقياك منتظر
قد كنت مني مكان الروح من جسدي ال
…
مضنى وكنت مكان النور من بصري
ومن سور الرثاء أيضا ما قالته في الذكرى:
جز يا نسيم على وادي النقا سحرا
…
وسل عن الصحب هل تلقى لهم خبرا؟
واشرح لهم سوء حالي بعد فرقتهم
…
لعلهم يعطفوا أو يلفتوا النظرا
كنا وكانوا وكان ألامس يجمعنا
…
فصير الدهر ذاك الجمع منتثرا
من لي برؤيتهم يوماً ويسعفني
…
حظي وتبلغ عيني منهم الوطرا
مضى زمان الصفا ما كان أقصره
…
وعوض الدهر عن ذاك الصفا كدرا
أحبابنا ما أمر العيش بعدكم
…
وهل يطيب لقلب بات منفطرا؟
هذه مقتطفات من طويل الرثاء في اخوتها وأهلها الذين فقدوا في حياتها بكتهم بعيون تسيل دما لا دمعا. ولم يقتصر الرثاء فقط على من ذكرنا وإنما رثت جماعة كبيرة عن لسانها ولسان صديقاتها الكثيرات كما أوردنا البعض منها هنا بإيجاز.
ومن الشعراء طائفة ممن قرظوا ديوانها (حديقة الورد) فقالوا في ذلك أبياتا نورد قسما هنا، منهم قول الشيخ الحموي أحد أدباء يافا مادحا ديوانها:
الجهل شاع بهذا العصر وا أسفي
…
وقد رأيت بيومي اعجب العجب
بديع نظم سما من وردة عبقت
…
فاحت روائحها في العلم والأدب
فلله در لآلي درة نظمت
…
كريمة اليازجي حسّانة العرب
وقال الحاج حسين أفندي بيهم:
حديقة الورد طابت لجانيها
…
ورق بالطبع قاصيها ودانيها
فالقاطف ثمار المعاني من لطائفها
…
وارشفت شهي الحميا من قنانيها
يا حسن فكرة من أبدت لنا درراً
…
ونظمت خير عقد من دراريها
فإنها فرع ناصيف الذي اشتهرت
…
لطفا مقاماته وارتاح حاكيها
حكت أباها بآداب فما ظلمت
…
جاءت على أصلها الباهي قوافيها
دامت تطرز أثواب القريض لنا
…
ما قام يطرب الأشعار راويها
ثم قال إسكندر أغا أبكاريوس:
أهدت لنا نفحات الورد في الكلم
…
كريمة من بنات الجود والكرم
فريدة قد سمت في الناس واشتهرت
…
ألطافها بين عرب الأرض والعجم
أكرم بها درة قد طاب عنصرها
…
بالفضل أشهر من نار على علم
فاقت على سائر الأمثال قاطبة
…
للنظم والنثر والآداب والشيم
صاغت لنا من نفيس الشعر أحسنه
…
نظما وأجوده في المدح والحكم
أبدت لنا السحر في نظم البيان وقد
…
زهت وباهت نساء العصر بالهمم
لا زال طالها بالسعد مقترنا
…
ما ضاء بدر الدجى في حندس الظلم
وقال خليل أفندي الخوري:
لا يفخر الغرب بالغادات لابسة
…
تاج البلاغة تجلو راية الأدب
فان في الشرق روض رائق نضر
…
تهدي شذا الشعر فيه وردة العرب
كريمة للكريم اليازجي بدت
…
تجلو الفخار بمجد العلم والأدب
وقال المعلم أسعد الشدودي:
ألا يا وردة العرب التي قد
…
زها نظم لها كعقود در
لقد أنشأت ديواناً بديعاً
…
به أنسيتنا خنساء صخر
معانيه الدقيقة ذات ظرف
…
لها رقصت معاني كل شعر
فلا عجب إذا فاقت سواها
…
فنشر الورد أطيب كل نشر
ثم قال يوسف أفندي السيوفي:
نزه لحاظك في جمال حديقة
…
أبداً يفوح الطيب من أزهارها
لا بدع أن فاقت بحسن بهائها
…
وتقاصر الأقران عن أقدارها
فالورد من أغراسها والطيب من
…
أنفاسها واللطف من أسرارها
ثم قال سليم أفندي الخوري:
في روضة الورد قامت وردة العرب
…
تبدي لنا نفحات العلم والأدب
كريمة الفرد ناصف التي أخذت
…
عنه النظام فكانت بنت خير أب
أبدت من رقيق الشعر أعذب ما
…
يحلو ويغلو كما يخلو من الريب
وقال المعلم إبراهيم سركيس:
فريدة العصر قد صاغت لنا درراً
…
تدوم ريانة حيناً إلى حين
أحلى الحدائق ما كانت مكللة
…
بالورد والورد سلطان الرياحين
ومما قاله أخوها الشيخ إبراهيم اليازجي:
هذه حديقة ورد عز جانبها
…
وحبذا روض ورد يفرج الكربا
من طافها ير فيها الدر منتظما
…
والطيب منتشراً والسكر مختلبا
هذه صورة مصورة من حياة الشاعر الكبيرة وردة اليازجي أقتطفتها من ديوانها (حديقة الورد) آملاً بعملي هذا تقديم باقة من زهر هذه الحديقة الغناء يشمها القارئ فيتعطر بشذاها ويتعبق برائحتها خدمة للأدب والتاريخ.
(بغداد)
يوسف يعقوب مسكوني
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للأستاذ خليل جمعة الطوال
- 2 -
عندما فتح العرب جنوب أوربا واستولوا على جزرها المشهورة وعلى ربوع الأندلس، انتشرت لغتهم في جميع هذه الأقطار، وخاصة في شبه جزيرة أسبانيا ومنورقة، وميورقة وجزائر الباليار وصقلية، واقريطش وما إليها.
وبلغ من شان العربية في أسبانيا أن اضطر أباء الكنيسة إلى نقل صلواتهم وأدعيتهم أليها ليحسن فهمها المصلون الذين كانوا قد زهدوا في اللغة اللاتينية ومالوا عنها إلى اللغة العامة وهي العربية، يتدارسون بيانها وقواعدها، ويحفظون أشعارها وطرائفها، وظلت العربية هي اللغة الرسمية في تلك الربوع حتى جلاء العرب عنها عام 1016 هـ. وقد وجد المنقبون نحو آلفي صك كتبها سكان تلك البلاد الأصليين باللغة العربية. وفي مكتبة الأسكوريال في أسبانيا حتى يومنا هذا معاجم يونانية عربية، ولاتينية عربية وعربية أسبانية تدل أوضح دلالة على ذلك العصر العربي الزاهر.
وفي اللغة الأسبانية الحاضرة كلمات عديدة تبدأ بال التعريف العربية، وفي ذلك ابلغ شهادة على تأثر اللغة الأسبانية باللغة العربية. إذ أمدتها بآلاف المفردات التي لا غنى لها عنها في التعبير، ولم يقف نفوذ اللغة العربية عند هذا الحد بل تعداه إلى بقية اللغات السكسونية والجرمانية الحية، ولهذا فأننا نجد حتى اليوم ألفاظا عربية بليغة في كل من اللغات الإنجليزية والغالية القديمة والألمانية، والهولندية والاسكندنافية، والروسية والبولندية، واللغات الصقلية الأخرى.
ومما تدل عليه الإحصاءات الدقيقة أن ثلاثة آلاف كلمة عربية قد دخلت اللغة البرتغالية، وان ربع الأسبانية الحديثة مأخوذة من العربية، وان تسعمائة كلمة من اللغة العربية أيضا قد أدخلها الفرنسيون في لغتهم وتضم الإنكليزية كذلك مثل هذا العدد من الألفاظ العربية.
ومن الغريب حقا أن نجد أمما غير عربية ما زالت حتى عصرنا الحاضر أما تتكلم اللغة العربية وتكتبها في جميع معاملاتها، أو أنها تكتب لغتها بالحرف العربي، وما زالت العربية حتى يومنا هذا شائعة ومحكية في معظم أطراف السينغال، والسودان الفرنسي، والنيجر،
وليبيريا، والحبشة، وجيبوتي، وقازان، والقريم، وكرجستان، وطاغستان، وتركستان وسيام، والفلبين، والهند، وإيران، والصين، وجاوه، وبلاد المغرب، ومالطه، وكردوفان.
نقف عند هذا الحد قليلا لنسأل سرفيه وأمثاله، أكان في استطاعة العرب أن يفرضوا لغتهم على جميع الشعوب التي حكموها، لو لم يكونوا أمة موهوبة جميل المزايا وروائع العبقريات؟ أم كان هؤلاء الأقوام يقبلون على تعلم العربية بمثل ما رأيت من الشوق والرغبة، لو لم تكن العربية لغة حضارة سامية ومدنية زاهرة؟. . . وأننا لنجد أمما كثيرة، بربرية وهمجية، قد فرضت سلطانها على العالم قرونا طويلة، ولما لم تكن ذات حضارة عالية بادت وتلاشي سلطانها دون أن تترك وراءها أثرا يذكر.
ولم نذهب بعيدا في الاستدلال، وهذه الأمة العربية ذاتها قد تعاقبت عليها مختلف الحضارات، وخضعت لشتى السلطات إلا أنها مع ضعفها السياسي قد حافظت على مزاياها وتقاليدها ولغتها وحضارتها، ولئن استطاعت هذه الدول أن تفرض عليها سلطانها ونظمها السياسية، إلا إنها عجزت عجزا تاما عن تجردها من ثقافتها، لتفرض عليها ثقافاتها الخاصة.
العرب في ميدان العلم وطور الاستعداد:
وقبل أن نبين مواطن الابتكار والعبقرية في ثروة الإسلام العلمية يحسن بنا أن نرجع ولو قليلا إلى الوراء لنبحث العوامل الرئيسية التي عملت في تكوين الحضارة الإسلامية، ولنرى بعد ذلك المراحل الأولية التي تخطتها هذه الحضارة العريقة في سيرها وتقدمها، قبل أن تصبح حضارة العالم بأجمعه بلا منازع فليس من شك في أن العرب وان كانوا أرباب ملاحظة في سائر العلوم، وأمة موهوبة أعلى درجات النبوغ والذكاء، إلا انهم شادو حضارتهم - شأن بقية الأمم المتمدنة - على أنقاض حضارات سابقة قديمة، ليس من شك أيضا في أن الحضارة العربية لم تبلغ حد كمالها فجأة، إذ أن ذلك أمر بعيد التصديق، ولكنها بلغته تدريجيا ولكن بخطى سريعة متزنة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
لقد كانت أوربا في العصر الذي بدت تظهر فيه طلائع النهضة العربية تغط في سبات الجهالة، وتتمرغ في هاوية الانحلال، وكانت المسيحية إذ ذاك قد بدأت بمطاردة الحرية الفكرية في أقطارها، وأخذت تنشط في إحراق العلوم الوثنية وتعقب العلماء والفلاسفة.
واستئصال شأفتهم من كل بقعة. يخشى أن يكون لهم فيها صوت مسموع، أو علم مرفوع، حاسبة إنها في بذلك تبيد من حقلها الأعشاب القريبة التي قد تحول في المستقبل دون نماء عقيدتها، وإذ كان النور يشع إذ ذاك من ناحية الجزيرة العربية فقد آخذت هذه الفئات الممتازة الراقية تؤمها آحادا وإرسالا حاملة إليها نتاج عبقريات الأمم اليونانية والرومانية الدارسة، وكانت هذه الجماعات حيثما نزلت تعيش في جو من التسامح الفكري لم تعهد له فيما مضى مثيلا.
أما في بلاد الشرق فقد أدت الحرب العوان التي دارت قبل الإسلام رحاها بين مملكتي الروم وفارس إلى ضعف كلتا المملكتين فقد غزا هرقل مملكة الفرس، فتركها أطلالا خاوية، ثم غزا الفرس مصر والشام فثأروا لبلادهم من مملكة قيصر، وقابلوا الضربة بضربة مثلها وأخذت المناوشات تتري بين المملكتين مدة طويلة، وكان من نتيجتها أن ضعف قيصر وذل كسرى؛ اما قيصر، فقد استنفدت هذه الحرب الضروس جميع اقتصاديات بلاده حتى لقد عجزعن أن يحفظ حدود مملكته، وعن دفع الإتاوة للقبائل العربية التي كانت تقوم بحراسة أطراف هذه الإمبراطورية الواسعة، وزاد في الطين بلة احتدام الجدل بين الملكيتين واليعاقبة والنساطرة حول طبيعتي المسيح الإلهية والإنسانية؛ وتدخل الإمبراطور إذ ذاك في هذه المجادلات، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد اليعاقبة والنساطرة، والى اتساع شقة الخلاف. وكان هرقل إذ ذاك قد طعن في السن، وأوهت قواه الشيخوخة، فسقط لذلك ألعوبة بأيدي رهبان إيليا الذين ما زالوا به حتى أوغروا صدره على يهود بيت المقدس، بدعوى انهم ساعدوا الفرس حين زحفهم على إمبراطوريته، وضربهم إياها تلك الضربة القاضية، التي صدعت فيها بنيان النظام والطمأنينة والأمن، فقتل منهم لذلك خلقا كثيرا، وجلدا وافرا، وعددا لا يعد؛ وهكذا فقد كان كل من النساطرة واليهود عونا لكل خارج على قيصر أو طامع في ملكه وإذا استهواهما قبس الحرية الذي كان يشع من ناحية الجزيرة فقد ساروا إليها يحملون معهم في سيرهم ما انتهى إليهم من نتاج المدنيات السابقة، وما جادت به قرائحهم المتوقدة؛ فتفسح النسطوريون في أرض الحجاز، وقطن اليهود بلاد اليمن؛ وكان أمرا طبيعيا أن تنشر تعاليمها في سائر أقطار الجزيرة، وان تتأثر هذه بها.
ولم تكن الحالة في بلاد فارس بأحسن منها في بلاد الروم، فقد كان الملك فيها - قبيل
الإسلام - في قبضة طفل صغير لا يجاوز الخامسة عشرة سنة، ثم في قبضة امرأة مستضعفة، وهي بوران بنت كسرى؛ ولما بلغ النبي أمرها قال (لن يفلح قوم اسندوا أمرهم إلى امرأة) وهكذا كان عرش فارس ألعوبة بأيدي أطفال صغار، ونساء جاهلات؛ ولم تكن حالة الزرادتشيين في فارس بالتي تدعهم يخلدون إلى السكينة والاطمئنان ولذلك فقد أصبحت الجزيرة - قبيل الإسلام - مثابة صالحة للمضطهدين والمغلوبين على أمرهم من أحرار فارس والروم.
(يتبع)
خليل جمعة الطوال
البريد الأدبي
إلى علماء العربية وأعلامها:
كنت أحقق منذ عهد بعيد شعر أبى نؤاس، وأبحث عنه في مضانه المخطوطة والمطبوعة، فدفعني ذلك إلى دراسة الأديرة والحانات وما يدور فيها، وأماكن اللهو والتنزه، ومواضع القصف والنزف وما يتعلق بذلك ودراسة الشعراء المجان وتاريخ الخمرة في الأدب العربي، وحياة الجواري والقيان وأثرهن، إلى غير ذلك مما يتصل بموضعي. . فعثرت على شاعر ماجن خليع داعر اسماه أصحاب التصانيف والتآليف (أبا شاس)، ووصفوه بأنه صاحب دعابة ومجون، وفسق وتهتك، وتطرح بالحانات، وملازمة للديارات.
ذكر هذا الشاعر ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) عند الكلام على دير يونس في موضعين، وذكر له شعرا في صفة هذا الدير، وشعرا في صفة الخمرة، ولم يعلق العلامة احمد زكي باشا على ذلك بشيء، بينما علق على ابسط الأمور، وشرح مختلف الألفاظ.
ثم رأيت الأستاذ حبيب زيات يذكره في كتابه الموسوم (بالديارات النصرانية في الإسلام) ويضع له اسما في فهرس الشعراء الذين استشهد بشعرهم في كتابه ويسميه (أبو شاس منير)
ولما كان جميع من كتب في الديارات والحانات والأعمار وما شابه ذلك اعتمد على كتاب (الديارات) لآبي الحسن على بن محمد الشابشتي رأيت أن أرجع أليه في تحقيق اسم هذا الشاعر ونسبه وحياته.
ولكن الشابشتي لم يذكر عن هذا الشاعر ما يبل الغلة ويفي بالحاجة، بينما ترجم كل شاعر له علاقة بموضوعه ترجمة وافية مهما كان ذلك الشاعر مغمورا.
قال الشابشتي في الكلام على دير يونس بن متي بعد ما ذكره وعرف به: (ولأبى شاس فيه:
يا دير يونس جادت صوبك الديم
…
حتى ترى ناظرا بالنور تبتسم
لم يشف من ناجر حر على ظمأ
…
كما شفى حر قلبي ماؤك الشبم
ولم يحلك محزون به سقم
…
ألا تحلل عنه ذلك السقم
أستغفر الله من فتك بذي غنج
…
جرى عليّ به في ربعك القلم
ثم يقول بعد هذا: (وكان أبو شاس هذا من اطبع الناس، مليح الشعر، كثير الوصف للخمر، ملازما للديارات، متطرحا بها، مفتونا برهبانها ومن فيها.) ثم يقول ومن مليح شعره:
لا تعدلن عن إبنة الكرم
…
بابي ففيها صحة الجسم
وأعلم بأنك أن لهجت بغيرها
…
هطلت عليك سحائب الهم
وإذا شربت فكن مستيقظاً
…
حتى يتبين طيبة الطعم
لو لم يكن في شربها راحة
…
إلا التخلص من يد الهم
وهذه القصيدة موجودة في شعر أبي نؤاس وهي في ثمانية أبيات، ورأيت العمري في مسالكه ينسبها لأبى شاس ويذكر الأول منها والرابع فقط.
ويستمر الشابشتي في ذكر شعر أبى شاس هذا ويذكر له قصيدة مطلعها:
أعاذل ما على مثلي سبيل
…
عذلك في المدامة مستحيل
وبعد هذا البيت ثمانية أبيات، وهي موجودة أيضا في شعر آبي نؤاس بنصها وبعدد أبياتها، وينقلها العمري في المسالك ويذكر منها أربعة ابيات، وينسبها لآبي شاس:
هذا هو أبو شاس الشاعر الظريف الماجن الذي مر ذكره في هذه المصادر الثلاثة ولم اعثر على ذكر في أي مصدر أخر.
أقول أن أبا شاس هذا هو أبو نؤاس نفسه إذ أن العمري وحبيب الزيات نقلا عن الشابشتي وان الناسخ له صحف هذا الاسم 0أبا نؤاس) فصيره أبا شاس، وجاء العمري ونقل عنه، وأغفله العلامة احمد زكي باشا فلم يصحح هذا التصحيف، ثم جاء حبيب زيات ونقل عن العمري أو عن الشابشتي ووضع له اسما هو (منير).
أضع هذا الرأي بين أيدي علماء العربية وأعلامها لعل لهم فيه رأيا.
(بغداد)
شكري محمود احمد
بين المحمدية والموسوية:
من الشرعية الموسوية التي نسخها الشرع الإسلامي، ولكن القوم بها عاملون: قول موسى عليه السلام: (كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان من نهر الفرات
إلى البحر الغربي يكون تخمكم)
وفي الشرع الإسلامي أن الأرض لأهلها، يفرض فاتحوها عليها خراجا، وجزية على السكان لتمويل المحاربين في الجيش لقاء إقرار الأمن وإقامة العدل وحماية البلاد.
وفي الشريعة الموسوية: (حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها إلى الصلح فان أجابتك وفتحت لك أبوابها فكل الشعب المولود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب ألهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فهو غنيمتك تغتنمها لنفسك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب ألهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريما) ومعنى التحريم هنا القتل العام. وفيها أيضا: (تمحو اسمهم من تحت السماء لا يقف إنسان في وجهك حتى تفنيهم تدريجيا لئلا تكثر عليك وحوش البرية).
وفي الشرع الإسلامي إذا حاصر المسلمون مدينة أو حضنا دعوا أهلها إلى الإسلام فان أجابوا كفوا عن قتالهم، وان امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية فان بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فان أبوا لجأ المسلمون إلى القتال، على أن لا يخونوا ولا يغلوا ولا يغدروا ولا يمثلوا ولا يقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا يقطعوا شجرة ولا يذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله ولا يعرضوا للمبتعد في صومعته و. . .
وفي شريعة سيدنا موسى أن حفظ العهود ووجوب العمل بها محصور بما عقد منها بين بني إسرائيل فقط، ولا يجب على الإسرائيلي أن يحتفظ بعهده مع العدو المحارب أو غيره.
وفي الشرع الإسلامي يجب الوفاء بالعقود عامة لقوله تعالى (وأوفوا بالعقود).
وفي الشريعة الموسوية: (لا تقرض أخاك الإسرائيلي بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا).
وكذلك سائر القواعد الاجتماعية في المعاملات والعقوبات، فالحكم في الشريعة الموسوية يختلف باختلاف الأشخاص، والعقوبة تخف على اليهودي وتشتد على الأجنبي مع وحدة الجرم ويسقط عندهم الدين بمرور الزمن بعد سبع سنين عن العبراني وأما عن الأجنبي فلا يسقط أبدا ولا يمر عليه الزمان.
وفي الشرع الإسلامي أن لأهل الذمة ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وفي الحديث النبوي المحمدي (من آذى ذمياً كنت خصمه يوم القيامة). إلى غير هذا مما هو مبسوط في مظانه ومصادره.
فوزي محمد طراد
أثر العرب في الحضارة الأوربية:
هذا عنوان الكتاب الأخير الذي أصدره في هذا الصيف الأستاذ الكبير العقاد، ومن حسن حظ العرب والأدب أن هذا الكتاب جاء في وقته. ووقته الذي أعنيه هو هذه المعركة الحاسمة في نضال عنيف بين العرب وأوربا استمر منذ أحرق طارق سفنه في الشاطئ الغربي من المضيق إلى اليوم. وكان هذا النضال الطويل افظع صدام شهده التاريخ بين الحق والباطل والعلم والجهل والمدنية والبربرية، تسلح فيها سماسرة الدين وعلوج الملك بالضغينة والإفك والتمويه والتشويه، فوقفوا بالعصبية أمام العرب في الاندلس، وبالصليبية أمام الإسلام في فلسطين، وبالآرية أمام السامية في عهد هتلر، ثم بالغرب كله أمام الشرق كله في عصر تشرشل. ولقد ظل النصر لنا حليفا في مراحل هذا الصدام، حتى انطمست في نفوسنا معاني الآلام والعروبة، ففقدنا كل سلاح غير سلاح الحق. والحق وا أسفاه أعزل، فلا بد له من سيف كسيف خالد، وابكم فلا بد له من قلم كقلم العقاد. فالكتاب الذي يقراه الناس لكاتب العبقريات اليوم، إنما هو صولة من صولات الحق تفيد مصر وفلسطين وسائر بلاد الجامعة العربية في تعليم من يجهل وإقناع من ينكر أن العرب الذين مدنوا الشرق وهدوه، وعلموا الغرب وأمدوه، لا يزالون بفضل عقيدتهم وعقليتهم وجنسيتهم مشعلا من مشاعل الحضارة، وركنا من أركان السلام، وانهم أعطوا العلم اكثر مما اخذوا منه، واثروا بالغرب اكثر مما تأثروا به، وان من الكرامة الإنسانية أن لا يعاملوا بالقهر، وألا يؤاخذوا بالاستبداد، وألا يبنى الاتفاق معهم على الكره.
(موضوع هذا الكتاب الوجيز ينقسم إلى قسمين: أولهما اثر العرب في الحضارة الأوربية من اقدم أزمانها؛ والثاني اثر أوربا الحديثة في النهضة العربية العصرية) فعالج الأستاذ المؤلف اثر العرب في الأوربيين من جهة العقائد السماوية، وآداب الحياة والسلوك،
والتدوين، وصناعات السلم والحرب، والطب والعلوم والجغرافيا والفلك والرياضة والأدب والفن والفلسفة والدين، وأحوال الحضارة والدولة والنظام؛ ثم أجمل أثر أوربا الحديثة في النهضة العربية، فأشار إلى ذلك في الاجتماع والسياسة، والحكومة البرلمانية، والوطنية، والحركات الدينية، والأخلاق والعادات، والأدب والفن، والصحافة، وكل هذه المسائل معروضة بالعرض الذي يعرفه الناس للعقاد من قوة المنطق وصفاء الأسلوب وسعة الاطلاع. وهو بعد ذلك مطبوع في دار المعارف طبعا أنيقا على ورق صقيل في غلاف جميل.
فن إنشاد الشعر العربي:
كتاب يقع في 78 صفحة من القطع المتوسط مطبوع في مطبعة الآباء الفرنسيسيين في القدس، وضعه الأب أغسطس فيكي الفرنسيسي، ونقله إلى العربية الأب اسطفان سالم، والدكتور إسحاق موسى الحسيني، وقد صدر الكتاب بمقدمة نفيسة، في الشعر، والإنشاد، وفي أسباب ضعف الشعر في عصرنا الحاضر وقد نبه المترجمان الفاضلان على أن الأب أغسطس فيكي لم يكن هو أول من راد مفارزة هذا البحث، وان العالم استانسلاس جوبار قد سبق المؤلف إلى البحث في فن الإنشاد الشعري. كما أن المستشرق المشهور تشارلس كيل، كان قد سبق المؤلف إلى تبيان مواطن الضغط الصوتي في كتابه (الشعر العربي القديم)
والكتاب على ما فيه من نظريات لم يألفها أدباء العربية الناشئون، لا بد أن يكون له شأن في المستقبل، ونحن واثقون بأن أعراض أبنائنا عن الشعر العربي خاصة والأدب العربي عامة مرده إلى أننا لم نعلمهم إياه على الوجه المرغب، المشوق المطرب. وإلا لكان أساتذة الأدب العربي لا يعانون الأمرين وهم يبتكرون الأساليب، لإقناع طلابهم بضرورة الإقبال على أدب لغتهم القديم منظومة ومنثورة.
نحن لا ننكر أن الكتاب يصدم مطالعه العربي عند الوهلة الأولى لأنه يزيد رموزا جديدة، إلى زحافات وعلل الشعر العربي وهي رموز النطق، والانشاد، ومط الصوت، مما لا عهد لنا به ولكن كل ذلك يهون إذا علمنا أن كل فن لا بد له من ضوابط وقيود تعصمه من الفوضى.
قد يعترض البعض على هذا الكتاب بأنه يزيد في القواعد ونحن نحاول التخفيف منها وجوابنا على هذا الاعتراض أن الكمال يحتاج إلى المجهود.
وقد يرى البعض أن الكتاب غايته التنغيم، وليس هذا من طبيعة الاشياء، ولا هو من طبيعة الشعر العربي.
والواقع أن هذا الرأي في غير محله، لان التنغيم هو الأصل في الشعر العربي وهو الأمر الطبيعي فيه، لأن الشعر والغناء من اصل واحد عند الأمم كافة، وقد وضع الشعر العربي في أول أمره لينشد تكريما للإلهة. والملوك، فكان لابد من إظهار العاطفة فيه بالنغم، فاليونان، والرومان يقولون إلى ألان (غني شعرا) ولا يقولون نظم شعرا والذي نراه إن العرب لم يشذوا عن هذه القاعدة، لأنهم ليسوا بدعة من بدع الحياة والطبيعة. ونرى فوق ذلك فان العرب ينظموا الشعر من أجل تكريم آلهة العشق في أول أمرهم (العزى) بدليل أن كل قصيدة لا بد لهم من أن يبدأوها بالغزل. وكان شعراء العرب يغنون شعرهم كألاعشى قبل الإسلام والشاعر الذي لم يكن صوته جميلا رخيما كان يقتنى غلاما رخيم الصوت ينشد أشعاره ولو لم يكن الإنشاد أصلا في الشعر لما خص كل نوع من العواطف ببحر، فنرى أن البحر الطويل يوافق لنظم الشعر الحماسي والوافر للفخر، والرحل للحزن أو الفرح، والسريع لتمثيل العواطف.
إذا فالكتاب المبحوث عنه محاولة نفيسة لا يسعنا إلا إكبارها، وإكبار صاحبها ومترجميها. وسيكون مفتاحا من مفاتيح الموسيقى العربية الشديدة التفلت من القيود.
روكس العزيزي
معلم العربية وآدابها في كلية تراسانة بالقدس
القصص
مطاردة. . .!
للقصصي الإنجليزي سومرت موم
بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وحلت الخمر التي شربناها فيما بعد عقدة لسانه، فأخبرني بعد لأي سبب مجيئه إلى هذه البلاد. وقبل إن يسرد علي قصته الغريبة توقف عن الحديث برهة ليستعيد حوادثها وفصولها في ذهنه، فقد جاء - كما اخبرني - من سو مطرة، وقد أساء إلى أحد الصينيين إساءة بالغة فأقسم هذا أن يقتله شر قتلة، فلم يهتم الهولاندي بهذا القسم في مبدأ الأمر وظنه من قبيل التهديد ليس إلا، ولكن الصيني حاول أن يغتاله بعد ذلك مرتين ففشل فخشى الهولاندي على حياته وأعتقد حين إذ انه جاد في قسمه، ورأى من الصواب والحكمة أن يرحل عن هذه الجهات فترة من الوقت ثم يعود أليها بعد أن تسدل الستار على حادثة هذا الصيني اللعين، فسافر إلى بافاريا ليقضي فيها بضعة أيام يروح فيها عن نفسه ولكنه لاحظ الصيني بعد مضي أسبوع من سفره يتسلل خفية في مساء أحد الأيام بجانب حائط المنزل المجاور للفندق الذي حل به مما يدل على انه كان يراقبه مراقبة شديدة ويتحين الفرص الملائمة لقتله. وزاد خوف الهولاندي على حياته حينما تبين له أن هذا الصيني يتبعه أينما سار ويرقبه بنظراته التي كان يتطاير منها شرر الحقد والضغينة، فرحل في صباح اليوم التالي إلى سربيا. وبينما كان يتجول في أحد شوارعها الكبيرة المزدحمة بالمارة بعد ظهر أحد الأيام، التفت وراءه فجأة فرأى الصيني يمشى وراءه بخفة وحذر، وكان على قيد خطوات منه، فلما التقت عيناهما تسلل الصيني كالأفعى واختفى بسرعة بين الجماهير التي كانت تملا الشارع وذعر الهولاندي لهذه المباغة وتأكد تماما أن حياته قد أصبحت مهدة بالخطر، وعاد من فوره إلى الفندق الذي كان مقيما به وحزم أمتعته على عجل واخذ اقرب سفينة إلى سنغافورة ثم نزل بفندق بمدينة فانويك. وبينما كان يتناول طعام الإفطار في بهو الفندق في صباح اليوم التالي لوصوله إلى تلك المدينة لمح الرجل الصيني يرمقه بنظراته
النارية الملتهبة من خلال زجاج أحد نوافذ الفندق، وقد التقت إبصارهما للمرة الثانية، فأسرع الصيني بالانزواء خلف أحد الأبواب. وقد اخبرني الهولاندي انه كاد يصعق في مكانه عند رؤية الصيني للمرة الثالثة. وكان على ثقة وطيدة من انه ينتظر الوقت المناسب، ويترقب الفرصة الملائمة لاغتياله. وقد قرأ ذلك في نظرات عينيه التي كانت تدل على منتهى الغدروالخيانة، وينبعث منهما بريق الضغينة والحقد الكامنين في أعماق نفسه.
وهنا توقف مضيفي عن الحديث، فانتهزت هذه الفرصة السانحة وسألته قائلا:
ولم لم يذهب هذا الهولاندي إلى أحد مراكز الشرطة يحيط رجاله علما بأمر هذا الصيني الأثيم، فيقبضوا عليه، وينقذوه من شره وعدوانه؟
فأجابني محدثي على الفور:
لست أدري سببا لذلك إلا أن يكون قد ظن أن هذا الأمر من التفاهة بحيث لا يجدر برجال الشرطة أن يتدخلوا فيه، وربما يكون هناك سر خفي لا يجب أذاعته بين الناس!
وهنا خطر لي سؤال أخر فقلت:
- وما هي تلك الجريرة التي ارتكبها هذا الهولاندي حتى جعلت ذلك الصيني يصمم على قتله
مهما كلفه ذلك، واضطرته إلى تعقبه ومطاردته في كل مكان يذهب إليه!
فهز رفيقي رأسه متأسفا وقال:
- إنني لا أدري ذلك أيضا لأنه لم يشأ أن يخبرني به، وعندما ألقيت عليه هذا السؤال بدوري، امتقع وجهه ونظر آلي من طرف عينه نظرة غريبة شزراء والتزم الصمت! وقد تبينت من ملامح وجهه الشاحب وجبينه المقطب الكثير التجاعيد أن إساءته لهذا الصيني كانت تستحق القتل، وهنا قدم لي مضيفي علبة سجايره الفاخرة فتناولت منها واحدة وتناول هو الأخرى وأشعل كل منا سيجارته في وقت واحد. وظل رفيقي يدخن برهة وينظر إلى سحب الدخان التي كانت تتلاشى في فضاء الحجرة دون أن يفوه بكلمة واحدة وأخيرا تضايقت من سكوته فقلت:
- وماذا تم في أمر الهولاندي بعد ذلك؟
فاستجمع رفيقي شتات أفكاره واستطرد قائلا:
- كان ربان السفينة التي تسافر بين سنغافورة وكوتشنج ينزل في نفس الفندق الذي نزل فيه الهولاندي بمدينة فانويك في فترات الراحة بين كل رحلة وأخرى. فأنتهز الهولاندي هذه الفرصة الطيبة وترك أمتعته في الفندق ليظلل الصيني وذهب إلى ربان السفينة واتفق معه على أن يمكث في سفينته إلى أن يحين موعد سفرها فقبل الربان ذلك عن طيب خاطر بعد أن نفحه الهولاندي مبلغا كبيراً من المال. وهنالك هدأت اعصابه، وأطمأن خاطره بعض الشيء، وظن انه اصبح بمنجاة من خطر هذا الصيني الذي لم يكن يهتم بشيء قدر اهتمامه بالهرب منه، والفرار من وجهه، والذي اقلق باله، واقض مضجعه، وجعل حياته سلسلة من الألم المتواصل، والعذاب المستمر! وقد شعر بالاطمئنان عند ما وصل إلى كوتشنج، فنزل في فندق منعزل هناك. ولكنه اخبرني انه لم يكن يستطيع النوم بأي حال لان وجه هذا الصيني كان يتمثل له في أحلامه على الدوام، وكثيرا ما كان يراه في خلال نومه وقد امسك في يده خنجرا حادا يلمع نصله المميت في الفضاء، ويهوي به بشدة وعنف على عنقه، فيقوم من نومه فزعا مذعورا، وينتفض جسمه النحيل من شدة الرعب والهلع. وقد شعرت في الحقيقة بحزن عميق، وتأثر كبير نحو هذا الهولاندي التعس وهو يروي لي قصته بصوت أجش مبحوح، ولهجة مترددة متقطعة النبرات من تأثير هذا الرعب الذي استولى عليه. وقد أدركت حينئذ سبب ذلك الخوف الذي استولى عليه حينما دفع سكرتيري باب مكتبي فجأة، وفهمت سر تلك النظرات المتحيرة التي لاحظتها في عينيه، والتي لم يكن لها في الواقع من سبب سوى هذا الخوف وحده دون سواه.
وفي ذات يوم بينما كان يطل من نافذة أحد الأندية في كوتشنج إذ لمح الصيني يمشى في الشارع على مقربة منه! وقد التقت نظراتهما في هذه المرة أيضا! وكاد يغمى على الهولاندي من هول المفاجأة لولا أن تمالك أعصابه وامسك بحافة النافذة بكلتا يديه. وقد خطرت له حينئذ فكرة الهرب من ذلك المكان فغادره على الفور وجاء إلى هنا دون أن يأتي معه بشيء من أمتعته سوى تلك القيثارة التي ما زلت محتفظا بها عندي إلى الآن. وقد كان متأكدا في هذه المرة من أن الصيني لم يتبعه إلى هذا المكان البعيد.
وهنا قاطعت حديث مضيفي وألقيت عليه هذا السؤل:
- ولماذا اختار الهولاندي هذا المكان دون سواه؟ فأطرق رفيقي برأسه إلى الأرض مفكرا
ثم قال:
لأن المفروض في تلك السفينة أن ترسو على ما يقرب من الإثني عشر شاطئا، ولذلك كان من الصعب على الصيني - إذا كان بالفرض موجودا على سطحها - أن يعرف في أي الشواطئ سينزل الهولاندي لان الأخير كان متكتما ذلك بقدر الإمكان حتى أن الربان نفسه لم يكن يعرف وجهته بالذات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فانه كان قد تنكر بحيث يتعذر على الصيني أو أي شخص آخر معرفته.
- وهنا سكت رفيقي برهة ريثما يسترد أنفاسه ثم أردف قائلا:
- ولما وصل الهولاندي إلى هنا قال لي وهو ينظر حوله بارتياح (إنني هنا في أمان، وإذا
أمكنني أن أظل هادئا لبضعة أيام أخر، فأنني لا البث أن استعيد صحتي، واسترد أعصابي
المنهوكة المتعبة!) فابتسمت له حينئذ وقلت مشفقا (امكث كيفما شئت وستكون بأحسن حالاهنا إلى أن تأتي السفينة التالية في الشهر القادم، وإذا شئت أن أراقب الذين يفدون إلى هذا
المكان فأنني على أتم الاستعداد لذلك).
فشكرني بلطف على عنايتي به، واهتمامي بأمره وقال (أظن انه لا داعي إلى ذلك ما دمت هنا في أمان).
وقد قدته بعدئذ إلى غرفته. فلما صار بداخلها اخذ يفحصها بعناية واهتمام ثم اغلق النوافذ والأبواب بالرغم من أنني أقنعته بأنه ليس هناك ما يستوجب كل هذه الاحتياطات.
ولما تركته أغلق ورائي باب الغرفة إغلاقا منيعا محكما كما لو كان يتوقع أن يهاجمه أحد!
وفي صباح اليوم التالي سألت الخادم الذي احظر لي طعام الإفطار عما إذا كان الهولاندي قد استيقظ من نومه، فأخبرني بأنه سيذهب ليراه. وقد سمعته بعدئذ وهو يقرع باب غرفته مرات دون أن يفتح له. فلما لم يسمع أي إجابة من الداخل طرق الباب اكثر من ذي قبل ولكن بلا فائدة. وهنا ساورني بعض القلق لأجله فقفزت من مقعدي وهرعت بدوري إلى غرفته وطرقت الباب بكلتا يدي طرقا عنيفا متواصلا ولكن بدون جدوى. وأخيرا دفعت الباب بكل قوتي ودخلت الغرفة ثم اتجهت إلى الفراش وأزحت الكلة بيدي، فوجدت الهولاندي قد فارق الحياة. وكانت عيناه جاحظتين وفيهما أثر رعب هائل، وفزع مخيف.
ووقع نظري في تلك اللحظة على خنجر غائر النصل في عنقه الأبيض العاري. وقد فتشت الغرفة قطعة قطعة وجزءا جزءا علي اعثر على أحد. فلم أجد أثرا يدلني على المجرم. والشيء الذي أدهشني وحيرني اكثر من غيره هو الكيفية التي دخل بها المجرم إلى مسكني بالرغم من أنني اتخذت كل الاحتياطات اللازمة لمنع أي كائن غريب من الدخول أليه ونبهت على الخدم بمراقبة كل شخص يستريبون فيه أو يشكون في أمره. ولكنني ارجح أن المجرم قد دخل من النافذة إذ من الممكن فتحها من الخارج. ولما كانت غرفة الهولاندي في الطابق الأول، فمن هنا يسهل التسلق اليها، والدخول فيها دون أحداث أي جلبة أو صوت.
وأخيرا سكت محدثي ليشعرني بانتهاء قصته. فلما رآني غير مرتاح إلى هذه النهاية المحزنة نظر آلي متأسفا وقال:
أظنك غير مرتاح إلى نهاية هذه القصة؟
فنظرت أليه نظرة حالمة وقلت:
إنها لا بأس بها على أي حال، ولكني كنت افضل سماعها في صباح الغد عند تناول الإفطار.
فضحك صديقي ضحكة قصيرة خافتة وقال:
أرجو المعذرة لأنني لم أكن أظن أنها ستؤثر في نفسك إلى هذا الحد.
قال ذلك ثم حياني تحية المساء واغلق وراءه باب غرفتي وانصرف.
محمد عبد اللطيف حسن