المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 689 - بتاريخ: 16 - 09 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٨٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 689

- بتاريخ: 16 - 09 - 1946

ص: -1

‌5 - بقية من لغو الصيف:

مفارقات. . .!

للأستاذ سيد قطب

أيها القارئ. . .

في (سوق الرقيق) على البلاج، وبين هذا الحشد من العرايا، وفي غمار هذا اللحم الرخيص الذي يعرض في سوق الرقيق، فيعبث به العابثون، وتتجسس إلية النظرات المريضة، دون أن يقدم على شرائه أحد إلا بثمن اللحم الرخيص!

وفي هذا المكان. . . على البلاج، يقوم البوليس بجولات للمحافظة على الآداب!

أي والله! لا تضحك، ولا تدهش، فعين الدولة ساهرة على الآداب! ويد الدولة باطشة بمن يخدش الآداب، وبما يخدش الآداب!

وإليك البيان:

(مايوهات) الرجال ثلاثة أنواع:

نوع بحمالة على العاتق، ونوع بحزام، ونوع برباط من المطاط. . . وقد استفتيت الآداب فقالت: إنها ترتضي النوعين الأول والثاني. . . أما النوع الثالث فلا. . . وليس مرد هذا كله إلى فرق في حجم هذه الأنواع الثلاثة ولا شكلها، ولا في أن واحداً منها ساتر أو كاشف. . . لا. . . لا فتلك شكليات لا تعني الآداب! إنما السر كله في الحمالة أو الحزام أو الرباط!

ويمر الشرطي بالشاطئ، فأما من كان لباسه بحمالة أو حزام فذاك، وأما كان لباسه برباط، فيسوقه إلى (النقطة) ما لم يتوسط في الأمر الوسطاء!

ذلك كل ما يعني الدولة هناك من حفظ الآداب، وإن عين الدولة لساهرة، وإن يدها لباطشة. . . فحذار - أيها القارئ - أن تظن أن عين الدولة هناك غافلة عن رعاية الآداب!!!

ورعاية أخرى للآداب من تلك الرعايات في سوق العرايا على البلاج هذه الأجساد الرخيصة المكشوفة، المتلاحمة في البحر وعلى الرمال، المرمية في أوضاع حيوانية مريضة على مشهد من الأنظار. . . هذا اللحم المكدس المختلط من نساء ورجال في كل

ص: 1

مكان، حيث لا يثير في أي حسن سليم إلا التقزز والاشمئزاز، حتى في نفوس طلاب الجسد من ذوي الغرائز القوية السليمة!.

هذا اللحم تفرق الدولة بينه في مكان واحد على البلاج: في الرشاش (الدش) فهو يتلاحم في البحر كما يشاء، ويتكدس على الرمال كما يشاء، ويخلج ذهابا وإيابا على الشاطئ، كما يشاء. ويرى الجميع الجميع في كل وضع وفي كل مكان. . . إلا حيث يذهب هؤلاء وهؤلاء إلى الرشاش. فهناك يكون الفصل والحجاب!

وهان ذلك لو أن كل رشاش منفصل مستور له باب - كما في (بلاج الأرستقراط) - فهناك مظنة أن يخلع المستحم أو المستحمة لباس البحر؛ تلك البقية الضئيلة من الستر، ولكن رشاشات الرجال والنساء في معظم (بلاجات الشعب) مكشوفة كرشاشات السجون التي يشكو بعضهم من خدشها للآداب هناك! والفاصل بين هذه وتلك حائط في الوسط، وهذه وتلك مكشوفة من الجانب الآخر ينظر الرائحون والغادون فيرون من فيها تحت الرشاش!

وإن الأمر ليبدو (مسخرة) من المساخر. فما قيمة هذا الفصل بين الجنسين في لحظة الرشاش؟

وتسأل: ولمَ لا تكون هناك حمامات خاصة للسيدات، وحمامات خاصة للرجال؟ ولم لا يحرم لباس البحر على (البلاج) ولا يباح إلا في الماء وفي الحمامات الخاصة لهؤلاء وهؤلاء؟

تسأل إن واتتك الجرأة على السؤال. فهنالك مخنثون رقعاء في الصحف الداعرة وفي كل مكان. . . هناك أولاد لا أعراض لهم في بيوتهم، يصيحون في وجهك كما يصيح الكلاب: هذا تأخر! هذه رجعية! هذا جمود!

ويقولون لك: في أوربا وفي أمريكا، وفي بلاد العالم المتحضر تختلط اللحوم وتتعرى الأجساد!

وفي الغابة كذلك - يا أولاد - تختلط اللحوم وتتعرى الأجساد.

ولكن الغابة أشرف وأسلم، لأن الفطرة هنالك أصدق وأنظف؛ فأنثى كثير من الحيوان والوحوش هناك لذكر واحد. وهي بذلك أعف وأشرف من تسعة وتسعين في المائة ممن تنشرون صورهن عارية على البلاج، أو شبه عارية في الحفلات الداعرة في أوساط

ص: 2

(الأرستقراط). ونفوس الذكران من الحيوان هنالك أرقى وأقوى من نفوس تسعة وتسعين في المائة من نفوس الرقعاء من مخنثين الصحافة والإذاعة والسينما والطرب وفي هذه الأيام!

ويقولون لك: الشعب هو الذي يقبل على المجلات الداعرة، وعلى الأفلام الفاجرة، وعلى الأغنيات المخنثة، وعلى كل ما يثير الغريزة في كل وضع من الأوضاع.

وينسون جريمتهم في انحلال الشعب، هم والذين يسمونهم كذباً (أرستقراط) ينسون أنهم هم الذين هتفوا لكل أنثى داعرة مريضة الغريزة شاذة التكوين خرجت إلى سوق الرقيق باسم (المودرن)! والمرأة خاصة يغريها الثناء وتغرها (المودة) ويغويها الإغراء. والرجال المخنثون الذين يشرفون على هذه المرأة لم يجدوا في عروقهم دماء الرجال!

وينسون أن في كل نفس بشرية غريزة، وأن ليس من وظيفة الصحافة والفنون أن تملق هذه الغريزة وتستثيرها، وتلج في استثارتها، فهي لابد أن تستجيب!

وأن في كل نفس بشرية كذلك ميلا إلى الترفع من قيود الضرورة، وأنها من هنا كذلك يمكن أن تقاد.

في كل نفس بشرية خيط للصعود وخيط للهبوط؛ ومن أي الخيطين يمكن أن تجذب فتستجيب. فإذا كان الرواج هو الذي يغري هؤلاء الهابطين بتملق الغريزة، فليجربوا الخيط الآخر فقد يؤدي كذلك إلى الرواج.

صحفيون ناجحون، ومطربون ناجحون، وممثلون ناجحون، لماذا؟ لأنهم يحترفون الدعارة والقوادة. لأنهم دعاة مواخير. . . ولم يتعقب بوليس الآداب إذن مديري المواخير؟. . . إنهم صحفيون ناجحون، أو مطربون ناجحون، أو ممثلون ناجحون. . . كلها (فركه كعب) بين هؤلاء وهؤلاء!

ما الفرق بين ذلك الصحفي الذي ينشر في صحيفته تلك الصور الداعرة على البلاج أو في حفلات (الأرستقراط) ليقودك إلى شراء صحيفته، وبين ذلك (القواد) الذي يعرض عليك الصور العارية خلسة على المقهى أو البار ليقودك إلى الماخور؟!

فرق ضئيل.

ولكن عين الدولة مع ذلك ساهرة، ويدها مع ذلك باطشة. وإذا شئت أن تتأكد، فلتذهب إلى

ص: 3

البلاج، لترى كيف تفرق بين الجنسين في الرشاش!

سأل ولد رقيع من أولئك الذين يسمونهم صحفيين ناجحين، راقصة عدة أسئلة قذرة، فأجابته بما شاء، ليروج صحيفته بصورة من الحياة الداخلية لواحدة من أولئك اللواتي لسن عذارى ولسن أمهات!

وكان في آخر أسئلته سؤال: ما رأيك في (بنات الذوات):

وكان الجواب: هن اللواتي يعشن مثل حياتنا، ثم يقال عنا: بنات الهوى، ويقال عنهن: بنات الذوات!

رد بارع، كدت والله أحترمها من أجله!

وهؤلاء هن اللواتي تستلهمهن الصحف الناجحة، وتسميهن الطبقة الراقية، وتقول: إنهن شرفن مصر في المجتمعات.

ونشرت إحدى هذه الصحف مرة صورة نسوان من هؤلاء، يركبن الخيل في لباس الفرسان. وقالت: لقد آن لمصر أن تستقل وهؤلاء نساؤها يزاولن جميع الرياضات، حتى رياضة الفروسية!

كأن لم يكن ينقص مصر لتستقل إلا بضع نسوان فارغات لاهيات من أولئك اللواتي يعشن حياة الراقصات، فيقال عن هؤلاء: إنهن بنات الهوى. ويقال عن أولئك: إنهن بنات الذوات!

ومالي وهؤلاء (الأرستقراط)؟ الأرستقراط المزيفين الذين ليس لهم من سمات الأرستقراطية إلا الثراء. الثراء الذي دفع بعضهم فيه - على توالي الأجيال المحدودة أعراضاً - ودفع بعضهم فيه خدمات لا يرضها الشرفاء، للاحتلال ولغير الاحتلال؟

مالي ولهؤلاء؟ انهم لا يستحقون هذه الكلمات.

ولكن مشهداً في (بلاج الأرستقراط) لا أنساه:

هبط إلى حرمهم المقدس - وان لم تكن لهم حرمات - متسول عاجز. . . لا أدري كيف تسلل من عيون الشرط والحراس إلى تلك الأرض المحرمة التي لا تطئوها أقدام الشعب إلا بترخيص! هبط إلى حيث أقامت الدولة سياجاً حول هؤلاء المقدسين، فراراً بهم من الشعب الملعون!

ص: 4

هبط هذا المتسول العاجز القذر، يسأل من هناك قوتاً وطعاما. . . لله!. . . المسكين يعرف أن الله في كل مكان!!!

وإن هي إلا لحظة حتى توجهت إليه النظرات الشرر، مصحوبة بالتأفف والتقزز والاشمئزاز. وسرعان ما تداولته أيدي الشرطة والحراس، في حنق وغيظ: كيف جاز لهذا المنبوذ أن يطأ الأرض المحرمة التي لا تطئوها أقدام الشعب إلا بترخيص؟!

وبعد وساطة بعض الطيبين من حراس الشاطئ هناك رضى الشرطي أن يقذف به على (الكورنيش) ولا يقوده إلى (النقطة) وحسبه ما لقي من صفعات. . .

وفي وسط هذه المظاهرة تبرز في خفية وفي تلصص فتاة. . . فتاة خادم رقيقة الحال، تبرز لتندسس خفية إلى الرجل المسكين وتدس في يده شيئا وهي مذعورة. ثم تهمس في حذر:(أدي قرش ساغ يا عمي. بس إدي لي منه تعريفه. أحسن والنبي عايزاه وما عندي غير القرش ده)!

وبحث الرجل في جيوبه فوجد نصف القرش المطلوب. فكررت له الفتاة معذرتها في طلب نصف القرش، وأنا أسمع وأرى. ثم سارت تسرع الخطى، هابطة إلى الأرض المحرمة. فهي من هناك!

وفجأة وجدت نفسي تضطرب، فتسرع نحوها خطاي. وأمد يدي إليها بقرش قائلاً: خذي يا بنية قرشك الذي أعطيته للشحاذ!

ونظرت إلى برهة ثم قالت: (لا يا عم. إدية للراجل الغلبان. أنا موش عايزاه. أنا عايزه الثواب من الله!).

الله! لقد صدق الرجل في حدسه! فالله موجود في كل مكان حتى هنا في (بلاج الأرستقراط)!!!

سيد قطب

ص: 5

‌مقالات في كلمات

للأستاذ علي الطنطاوي

يؤمنون بالحمار!

وليس هؤلاء الذين يؤمنون بالحمار من بقايا المشركين الأولين الذي يكفرون من جهلهم بالله رب العلمين، ويؤمنون بالِجبتِ والطاغوت، ولا الفراعنة الأقدمين عباد العجل، ولا من أخوان البوذيين الذين يؤمنون بالبقرة، ولكنهم قوم من المسلمين، ومن كبار الأدباء الشاميين، انظروا فرأوا للحمار مزايا وفضائل ليست لهذا الإنسان الذي يؤمن به أخي وصديقي الأستاذ عبد المنعم، فهو لا يكفر بالله، ولا يجحد بلسانه الإله الذي خلق له هذا اللسان كما يفعل الإنسان، ولا ينافق ويتخذ له وجهين، ولا يثير الحروب على إخوانه في الحماريّة، ولا يعرف جريمة القتل، ولا رذيلة الانتحار، ولا تشغله شهوته عن واجبه الحماري كما تشغل بني آدم، ولا يفكر في الأتان إلا مرّة واحدة في السنة ليقوم بقسطه من فضيلة العمل على بقاء النوع. . . ولا ينحرف بغريزته عن طريقها ف (يقترب. . .) من حمار مثله ويدع جميلات الأُتُن ذوات الخد الأسيل والذنب الطويل والساق النحيل. . . كما تنحرف غرائز بعض بني آدم. . ولا تتبرج إناثه التبرج المغري، ولا تعرف البغاء الرسمي في (المحلات العمومية) ولا البغاء الطليق على (البلاج)، ولا البغاء الفني في السينما والمجلات المصورة. . .

ولم يشاهدوا أتاناً ترقص رقصاً خليعاً، أو تدخل فرقة (مرشدات) ولم يسمعوا حماراً يغني غناء مخنثاً، أو ينظم شعراً رمزياً، مع سهولته عليه، وإنه لا يكلفه إلا أن ينهق نهيقاً من بحر جديدي مبتكر؛ ورأوه مع ذلك صابراً على ما قدر عليه، راضياً بما قسم له، لم يستغل هذه الحرب ليسرق شعير إخوانه. . . لا يغش ولا يرتشي ولا يخون ولا يعرف المكر ولا الحسد، ولا يتظاهر بالدين ليصل إلى الدنيا، ولا يتخذ العمل في الجمعيات الإسلامية سلما إلى المناصب؛ وهو يطيل التأمل ولكنه لا يؤذي أبناء جنسه بتدوين فلسفته، ويأتي حين يصوت بسجحات وصيحات لها في موسيقى الحمير جمال، ولكنه لا يكذب فيدعى أنه من كبار الملحنين؛ ويجئ بالبلاغة الحمارية المحدثة، ولكنه لا يزعم أنه مجدد في البلاغة كما يزعم بعض مشايخ بني آدم، لئلا يقال له: اخرس، فما تجديدك هذا إلا نهيق!

ص: 6

رأوا ذلك فآمنوا بالحمار إيمان تقدير وتفضيل، لا إيمان دين وعبادة، فألفوا منذ ربع قرن (جمعية الحمير)، وجعلوها سّرية لأن الناس لم يستعدوا بعد لفهم هذه الأخلاق الحمارية، وتقدير أهلها، وكيف ولا يزال الواحد منهم إذا شتم آخر قال له من غروره وحماقته: يا حمار!

وقد خرج من هذه الجمعية رئيس وزارة ووزيران وخمسة من أعضاء المجمع العلمي العربي، وكان يعطف عليها ملك عربي عظيم ويصغي مستمتعاً إلى حديثها. والانتساب إليها صعب، لابد فيه من ترشيح ثلاثة من الأعضاء، وتقديم أطروحة في شرح مزية للحمار لم تعرف، وبعد مناقشتها (علناً) يقبل الطالب ويسلم إلى أحد الأعضاء لتطبيعه على طبائع الحمير، ثم يثبت عضواً أو يردّ. ولأن يصير المرء وزيراً أو أستاذا في الجامعة (بقانون خاص) أهون من أن يصير عضواً فيها

ولهم إشارة يتعارفون بها، هي التي سرقها منهم تشر شل فعمت الأرض، وهي الإشارة بالسبابة والوسطى إلى أذني الحمار، لا إلى أل (فاء) من (فكتوار)! ولهم اصطلاحات في كلامهم خاصة بهم، منها أنه إذا دعاهم كبير جاهل ممن يحب أن يجمل بالأدباء مجالسه، قالوا: هلم نذهب إلى المعلف. . .

وإذا وصفوا غناء عبد الوهاب (مثلا) قالوا: ما أجمل هذا النهيق، وإذا رأوا على غنّي من أغنياء الحرب ثوباً جميلاً، قالوا: ما أحلى هذه البرذَعة. . . وإذا شاهدوا داره، قالوا: ما أفخم هذا الإسطبل. وللجمعية درجات رفعوا بعضها فوق بعض، فأعلاها اليعافرة نسبة إلى يعفور حمار النبي صلى الله عليه وسلم، فالسيارون نسبة إلى حمار أبي سيارة الذي أجاز عليه الحجاج من المزدلفة إلى منى أربعين سنة، وكان يشق الناس ويقول:

خلوا الطريق لأبي سيارة

وعن مواليه بنى فزاره

حتى يجيز سالما حماره

مستقبل القبلة يدعو جاره

فقد أجار الله من أجاره

ولهم علم وأدب، وهم يفضلون بشاراً على الشعراء لأنه توصل بحدة ذهنه، وشدة ذكائه إلى

ص: 7

التغزل بأتان على لسان حمار، ويقدمون خالد بن صفوان والفضل بن عيسى الرقاشي لأنهما كانا يختاران ركوب الحمير على ركوب البراذين ويدافعان عنها، ويئنون على من ألف (خواطر حمار) ومن ترجمه. . .

وحديثهم طويل، فماذا يقول فيه الأستاذ عبد المنعم؟

أيقول إنهم (حمير. . .)؟!

أزمة القلوب في مصر:

أنا أحبكم والله يا أهل مصر، فخذوها مني كلمة محب متألم لا كلمة عدو ناقم، وإن مصر بلدي ومنها أصلي، وفيها قلبي؛ منحته أهلها ولم آخذ منهم شيئاً، لأنهم لم تبق لهم قلوب يحبون بها، قد ذهبت بها صبوات النفس، ونزوات الصبا، لقد أماتتها هذه المجلات الداعرة، وهذه الأفلام الخليعة، فأين الحب يحييها؟ أين الحب في البلد الذي لا تمنع فيه ثمرات الجمال؟ وهل يزكو الحب إلا على المنع؟ وهل يعيش إلا على الأمل؟ وهل يتغذى إلا بالألم؟

وهل الحب إلا تطلع إلى المجهول، وتشوق إلى ما وراء (الحجاب)؟ وهل أنطق الشعراء بآيات الغزل إلا ذاك؟ وهل هذه الآلاف من السيقان الباديات على سيف الإسكندرية تبلغ كلها من نفس الشاعر كما تبلغ ومضة من بياض ساق ليلى، لو بدت للمجنون وللعاقلين. . . ساق ليلى؟ فإذا لم تبالوا يا أهل البلاج. . . بهذا الشيء الأثري الذي يسمونه الدين فاحرصوا على الفن. حافظوا على الحب، فالحياة الحب والحب الحياة. . . فماذا تكون حياتنا بغير عاطفة ولا حب؟ وأين الشعراء يدافعون، لا عن الفضيلة، بل عن الحب الذي يحتضر على رمل الإسكندرية، على حين ترقص عند سريره الشهوات المعربدة وتصيح.

لقد كنا نقرأ (روفائيل) و (الأجنحة المكسرة) فترفعنا إلى عالم في السماء، عالم مسحور كله عاطفة وفتنة وطهر، فنتخيل فتاته في أحلامنا تطير في جوّ من العفاف ملفوفة بالنور، لا بل هو شيء فوق ذلك فما يبلغ قلمي الآن وصفه، فماذا يرى من يقرؤها اليوم من الشباب، انهم لا يتخيلون إلا فتاة الترام أو غادة البلاج، أو صبية السينما، فيسرعون إليها، فما تكون إلا دقيقة واحدة، حتى ينصرم الحلم، وتمحى الرؤيا، فتهبط من السماء إلى أعماق الفراش الدنس. . .

ص: 8

أعظم العظماء في تاريخنا:

أعظم العظماء في تاريخنا السياسي خمسة، لست أنكر عظمة من عداهم، ولا أبخسه حقه، ولا أنزل به عن مكانته. وإني لأعلم إن في تاريخنا لعشرة آلاف بطل، ما تملك أمة مائة من أمثالهم، ولكن هؤلاء الخمسة معدن آخر، ما صنع الله منه بشراً غير نبيّ إلا هؤلاء الخمسة، فكانوا تحقيق المثل الأعلى الذي ينتهي إليه خيال الأديب، وتأمل الفيلسوف، وتصورّ الإنسان حينما يتصور الملك الكامل، والزعيم والحاكم، خمسة أوتوا من الذكاء أحدَّه، ومن الرأي أسدّه، ومن الإخلاص اشدّه، فأن وزنت عظمتهم بسعة نفوسهم، وجلال مواهبهم، وقيمة أشخاصهم، وجدتهم قد رجحوا في الميزان على كل عظيم من غير الأنبياء، وان قستها بآثارهم الباقية، وما صنعوا لهذه الأمة من مجد، وما خلفوا فيها من تراث عقلي أو وطني أو خلقي، ألفيتهم السابقين المبّرزين، وان رأيت ما أفادوا من خدماتهم، وما انتفعوا به من سلطانهم، وما كان لنفوسهم من حظ من ملكهم، وجدتهم عاشوا جميعاً مثلما يعيش رجل من غمار الناس، ما استأثروا بطيب من الطعام ولا لين من اللباس، ولا أورثوا فضة ولا ذهباً، ولا استفاد أبناؤهم منهم مالاً ولا نشباً وان عرضت بعد ذلك سيرهم عرض ناقد متعقب، أو نظرت إليها نظر عدوّ شانئ، لم تستطع أن تجد فيها عيباً؛ فلا أخطئوا في سياسة، ولا تعمدوا مظلمة، ولا حجزوا حرية الرأي، ولا أساءوا لمسلم ولا ذمي، ولا حنثوا مع محارب بقسم، ولا نقضوا عهداً، وكانوا مظفرين في الخارج في الحروب، مظفرين في الداخل بالسياسة. . .

أولئك هم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين.

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 9

‌في ركب الوحدة العربية:

الأدب في فلسطين. . .

للأستاذ محمد سليم الرشدان

النثر في شتى ألوانه:

في فصل مضى (من هذا البحث)، وقفت عند ثلاثة من الأدباء، كل منهم يثبت عند حد رسالته ولا يبرحه حتى يعود إليه. وهم يجمعون في هذه الرسالات بين الأدب والتربية والتوجيه. وكلها حين تجتمع وتتسامت مع غيرها (من الألوان)، تتألف منها صورة صادقة من صور الأدب الصحيح.

وفي هذا الفصل أتناول ثلاثة آخرين يختلفون من مناحي رسالاتهم (أيضاً). ولكن هذا الاختلاف (في رأيي) لا يعدو كونه من المتممات التي يشتمل عليها الأدب في شتى ألوانه كما أسلفت. وهؤلاء هم: (باحث سياسي خطيب) و (مؤرخ يصور دقائق المجتمع الذي يعيش فيه) و (عالم يبسط العلم في ثوب الأدب).

فأما الباحث الخطيب - والخطباء ذوو الآثار عندنا قليل - فهو الأستاذ عجاج نويهض ولعلى لا أغالي إذا قلت: إنه (سحبان) هذا الجيل. فقد عرفه الناس خطيباً مدرهاً، ولسناً مفوهاً. وهو إذا صعد منبراً تدفق الأتيِّ (مرتجلاً مبتدعاً)، وحلق إلى رفيع الأجواء مجتذباً معه القلوب والأسماع. فهو - من غير ما جدال - فارس هذه الحلبة وابن بجدتها، ومجلي هذا الميدان وصاحب قصبه.

وهو - إلى جانب ذلك - أديب مطبوع وكاتب سياسي لامع. وقد زامل النهضة العربية منذ شبابها، وكانت تربطه أواصر مودة مع كثيرين من أقطابها. فطالع الناس بمجلته (العرب) أدبية سياسية، رغبة منه في أن يساهم في بناء هذه النهضة مساهمة فعلية بقلمه وتوجيهه. فكانت - على قصر حياتها - منبر دعاة الحركة الفكرية الاستقلالية في العالمين العربي والإسلامي. واستمر ذلك من عام 1932 حتى عام 1934، حين تعرمّ (المستعمر) فكم الأفواه، وأخرس الألسن، وبدأ - من بعد - يصنع الأعاجيب!!

وكان الأستاذ - قبل ذلك - لا يبرح هذا الميدان في مجلات مصر وصحف الشام، ولعله

ص: 10

كان أبرزها يوم ذاك (فتى العرب) في دمشق، و (كوكب الشرق) و (مجلة الفتح) المصريتين، وللأستاذ فيها من بديع الآثار ما ينتظم هالة جهاد وفخار.

وقد جمع له الأستاذ (محب الدين الخطيب) في كتابة (المنتقى) بعض محاضراته القيمة. وانك لتشهد أنها (قيمة) - لو قرأت أو سمعت - وليس الخبر كالعيان. . . وللأستاذ - عدا محاضراته وأبحاثه - كتب غزيرة النفع جليلة الأثر، بين مترجم وموضوع، أذكر منها:(حاضر العالم الإسلامي) وهو كتاب وضعه أحد العلماء الأمريكان بعد الحرب الأولى وصف فيه نهضة العالم الإسلامي (السياسية والاجتماعية)، وقد عربه الأستاذ (نويهض) لما رأى من أهميته، وعلق عليه الأمير (شكيب أرسلان) تعليقات مستفيضة جامعة. وقد صدرت طبعته الثانية في أربعة أجزاء وهو إلى أن يكون موسوعة إسلامية، أقرب منه إلى أن يكون كتاباً مقصور الأبواب.

ثم كتاب (النظام السياسي): وهو كتاب يبحث تطورات الأنظمة السياسية في المجتمع منذ أقدم عصورها إلى اليوم.

وله أيضاً (سيرة الأمير جمال الدين - عبد الله التنوخي) أحد أعلام لبنان في القرن التاسع عشر.

وأما أسلوبه: فهو يتحرر من كل قيد ويسترسل وراء المعاني، ويراعي فيه أن يتحسس مواطن التأثير في نفس القارئ أو السامع فيستدرجها إلى اليقظة، ثم يدفعها بعد ذلك حيث يشاء. واليك ما يقوله في كلمة عنوانها (الاستقلال العربي):

(الاستقلال: شق طريقه الشهداء الأبرار، فسكنت أجسامهم الأرضين، وأرواحهم الطاهرة أعلى عليين. عُلِّقوا على الأعواد، وجالدوا المستعمر أبسل جلاد. فاستشهدوا بين شمال الحجاز وبطاح العراق، وتطيّب ثرى ميسلون وارض فلسطين وسهول حوران بطيب أجلادهم وعظامهم.

نعم: الاستقلال العربي! الذي لذكره تهتاج النفوس العربية في كل مكان، وتهفوا قلوبهم إليه، وتحنوا ضلوعهم عليه. الأمة العربية قد استيقظت، فليشهد العالم! ولن ينكص العرب عن هذا السبيل حتى يستردوا حقهم المغصوب، ويستعيدوا ملكهم المسلوب. ويمتلكوا بيدهم زمام أمرهم وبلادهم خالصة لهم.

ص: 11

وأمم كثيرة قبلنا كانت متفرقة مقهورة، فكتب الله لها أن تجتمع حزمتها ثانية، وان تعز بعد ذل، وتعلو بعد هبوط. ولكن كانت (التضحية) هي القائد، وكان (الفدى) هو الدليل.)

وأما المؤرخ (الذي يصور دقائق مجتمعه الذي يعيش فيه) فهو الأستاذ عارف العارف - وقد بدأ حياته الأدبية، يوم كان أسيرا في (سيبريا) أثناء الحرب الكونية الأولى. إذ أصدر هناك جريدة اسماها (ناقة الله) كان يحررها بنفسه. وقد اطلعت على بعض أعدادها التي مازال يحتفظ بها فألفيتها غاية في الطرافة.

ثم ألف كتاباً عنوانه (رؤياي) أثناء عودته (فاراً) من منفاه، عن طريق الصين فالهند، استجابة لداعي الثورة العربية الكبرى، بعد أن أضرم نارها يوم ذاك المجاهد الأكبر (الحسين ابن علي)، الذي قضى شهيد تلك الدعوة المباركة، ليرقد بعيدا عن مسقط رأسه عند مهوى الأفئدة، ومؤتم القلوب والأبصار، عند المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. وكذلك قضى (الأخيار المصطفون) من أبنائه (علّى وفيصل وغازي)، وإنك - كائناً من كنت لتعلم من (أولئك)!!

ولقد ضمن الأستاذ (العارف) كتابه (رؤياي) ما كان يساور خاطره الفتى - إذ ذاك - من أحلام ذهبية مشرقة، وآمال باسمات عذاب. وحسبك من ذلك تعلم نبوءته ب (الجامعة العربية). ولم تكن هنالك للعرب دولة. بل لم تكن قامت لهم - بعد - قائمة. فأبصرها - فيما أبصر - ينتظم عقدها من كافة أقطار العروبة، بما في ذلك: عمان والبحرين وحضرموت وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش. كما أبصر لهذه الجامعة هيئة تنفيذية أسماها (اللجنة العربية العليا)، وهي تقوم على إمضاء ما تقره تلك الجامعة مما فيه صالح العرب قاطبة، يعززها جيش لجب مدرب، وأساطيل كثيفة، تمخر عباب الماء وتغمر عنان السماء. . .

ويمضى في (رؤياه) على هذه الوتيرة، يعدد ما يشاهده من مفاخر هذه الأمة، ويستعرض ما تكون قد وصلت إليه في ميادين التقدم والرفعة والمجد. فنرجو الله أن يحقق تلك الرؤيا كاملة غير منقوصة، بعد أن تحقق جانب منها. وما ذلك على الله بعزيز.

وللأستاذ (العارف) كتاب (القضاء بين البدو) وهو أول كتاب من نوعه، ترجم إلى عدة لغات، وفيه تصوير بارع لحياة البادية وتقاليدها وعاداتها ونظمها، وما يتقيد به البدوي في

ص: 12

أفراحه وأتراحه وسلمه وحربه: ثم يشرح بعد ذلك الكثير مكن أقوالهم وحكمهم وشعرهم، وما يسير بينهم مسير الأمثال.

وله أيضاً (تاريخ بئر السبع) و (تاريخ غزة) و (تاريخ عسقلان) وجميعها مطبوع. ثم (تاريخ بيت المقدس) وهو تاريخ ضخم ما يزال إلى اليوم مخطوطاً. وفي سائر هذه الكتب يؤرخ لتلك المدن منذ أقدم الأزمنة إلى يوم الناس هذا، تاريخاً جامعاً شاملاً، لا تفوته فيه سانحة ولا بارحة.

واليك مثلا مما يكتبه، وهو جزء من كلمة يقدم بها كتابه (تاريخ غزة) فيقول:

(الوحدة العربية: تلك هي أمنيتي التي أحملها بين أضلعي، وسرت على هداها في أعمالي، منذ تعلمت وعرفت معنى (حب الوطن). وإنه ليسرني أن أرى هذه الأمنية التي كانت تعد في يوم من الأيام ضرباً من الخيال، أو حلما من الأحلام، أخذت في هذه الأيام تطل من وراء سحاب.

(وإني لا أشك قط في أنها ستصبح عما قليل حقيقة واقعة لا ريب فيها. وإن غداً لناظره قريب. . . وإنا إذا سرنا بقدم ثابتة إلى الأمام، اهتدينا إلى ضالتنا المنشودة في أقصر ما يكون من الوقت، وإلا فإن دون الوصول إليها خرط القتاد. . .).

وأما العالم الذي (يبسط العلم في ثوب الأدب) فهو الأستاذ قدري حافظ طوقان، عالم فلسطين الرياضي، وليس عندما من يضارعه في هذا الميدان. وبالرغم من عمله الذي يستنزف معظم فراغه (في إدارة كلية النجاح بنابلس)، فإنه أكثر من عندنا تأليفاً، وأوفرهم إنتاجا. فبينما تراه يتفرغ لتأليف كتاب من كتبه، تسمعه (أو تقرأ عنه) يحاضر في مختلف أنحاء فلسطين، وفي مواضيع علمية وأدبية وفلسفية وسياسية (أحياناً). وانك لو تتبعته في جولاته الكثيرة بين يافا وعكا والناصرة وحيفا وغزة بل وبئر السبع، لحسبته من (أهل الخطوة) الذين يتحدث عنهم جماعة (الصوفية)، وهو لهم - أي للصوفية - صديق وفي. ويشهد لي بذلك من سمعه في (نادى الناصرة)، وهو يجادلني جدالا عنيفاً في إحدى مشاكلهم المعقدة.

وكتبه بين مطبوع ومخطوط ورهن الترتيب والإعداد كثيرة. أذكر منها الكتب التالية: (الكون العجيب) وهو العدد الحادي عشر من سلسلة (أقرأ). ثم كتابه (نواح مجيدة من

ص: 13

الثقافة الإسلامية) أصدره المقتطف عام 1936 وقد اشترك في إعداده مؤلفون آخرون ليكون هدية لقرائه. ثم كتابه (تراث العرب العلمي) وقد أصدره المقتطف أيضاً عام 1941 هدية إلى قرائه كذلك. ثم كتابه الجديد (بين العلم والأدب) وهو مجموعة مقالات ومحاضرات وإذاعات علمية وأدبية. ومن كتبه المخطوطة (الأسلوب العلمي عند العرب) وقد ألقى جانب منه في سلسلة محاضرات (ابن الهيثم) التذكارية في الجامعة المصرية. ثم كتابه (العقل في الإسلام) وفيه تحليل ومحاكمة واستقراء لكثير مما وصلت إليه الأبحاث الفلسفية في ظلال الدولة العربية الإسلامية على أيدي فلاسفة المسلمين.

وأما أسلوبه فهو لا يخرج عن حد قوله في كتابه الأخير حين يتحدث عن (الصفر) فيقول: قد يدهش القارئ إذا قلنا إن حساب التمام والتفاضل لا يستغني في بحوثه عن استعمال الصفر، بل إن الصفر عامل مهم جدا في تسهيل حل كثير من مسائلة العويصة. وعلى كل حال يمكن القول بأن (الصفر) ضروري ولازم في البحوث الرياضية الحديثة والعالمية. إذ جعل كثير من الأوضاع والمعادلات قابلة للحل غير ملتوية المسالك).

(له تكملة)

محمد سليم الرشدان

(ماجستير في الآداب اللغات السامية)

ص: 14

‌صورة:

الذي له صومعة. . .

للأستاذ راشد رستم

هذا هو صباح المعادي في الصيف: خضرة وسكون وطير. ولست أقصد إلى المقارنة، فالإسكندرية اليوم، رمل وبحر (وسمك). . . كلاهما جميل، وكلاهما وفقاً للمزاج يختلفان. وحبذا في هذه الحياة مزاج الوفاق وتوافق المزاج.

وإني إذ اجلس وحيداً في هذا الصباح الهادي اللطيف، أذكر صاحبي هناك والدنيا حوله تفور وتصخب، وهو كما أعهده قابعاً في صومعة مفكراً راضياً ساخراً. . .

وإنها للذة أن يقنع المرء نفسه بصومعة ينطوي عليها وتنطوي عليه، فهي في الحق نظرية عملية، إذا استطاعها امرؤ فبشره بالفوز العظيم في معترك الجهاد الأكبر، إذ هي وحقيقة الحياة تسيران جنباً إلى جنب، والمرء فيها كالقطرة في النهر، لها وحدتها، ولكنها تجري وماء النهر من المنبع إلى المصب. . .

وهذا الذي يرونه فيلسوفاً ساخراً، ما هو إلا روح هادئ قانع قابع، لا قانط ولا ساخط، قد عرف الأشياء وعرفته، وجرب الحوادث وجربته، وسار مع الأيام وسيرته، ثم ارتفع بروحه إلى سموات التأمل والتفكير، مصطحباً الحس والشعور، حتى لا يضيع بين الوهم والغرور، وقد طوف في تلك الأرجاء مع القديم من الأحياء والجديد من الآراء، ثم عاد وفي نفسه أن ينظر ويرى.

فماذا يرى؟ - يرى أن يحتفظ بذاته، منفرداً غير وحيد، مبتعداً غير بعيد، فتحول بينه وبين ما يريد (جاذبية) الأم الحنون - هذه الأرض التي خلق منها، ولا أقول خلق (فيها) فقد يخلق الشيء من شيء ويوضع في شيء، فلا يستطيع البقاء مع الشيء الذي وضع فيه، ويرتد إلى الشيء الذي خلق منه. وقد يكون المرء في هذا غير فاهم ما يحصل له، وهو إذن في جهل ونعيم. وقد يكون فاهما ما يحصل له، وهو إذن في علم وشقاء. . .

وهذا آدم أبو البشر بل رمز البشر، وقعت له الوقعتين، فجهل الأولى وعرف الثانية. عرف أنه من التراب وإلى التراب يعود. ومن ينبه الذي يدرك ما هو فيه، هو المعذب في الحياة، يقاسيها لأنه يعلم انه لا مفر له منها. ويعانيها لأنها تعنيه. . .

ص: 15

إذن ماذا يستطيع هذا أن يفعل غير أن ينفر ويسخر ثم يقنع ويقبع. يعيش مع نفسه وفي نفسه وان لم يكن لنفسه، يرجو أن يعيش وفق خطته وهواه، وان لا يزاحمه أحد في (دنياه)، وهو بعد ليس بالأناني، يحب نفسه ويكره سواه، ولكنه الإنسان يمنع الشر عن أي أحد، ويتمنى الخير لكل أحد، ويرجو ألا يصيبه الشر من أحد، حتى ولو لم ينله الخير من أحد. . . هذا تفكيره، فهل هكذا مصيره؟

يعيش هكذا في (دنياه)، معتزاً بروحه ورضاه، معتزلا غير منعزل، لا يهمل كما لا يحفل برأي الناس فيه، ولا يعني بما ليس يعنيه. . .

غير أن الأيام وقد أظن أنها كفلته وأمنته تأتي فتمرضه وتشفيه، فيعلم مداه من اليأس والبأس، فيأنس دون أن يبتئس أو ييئس.

ثم يعود فتفقده عزيزاً غالياً، فينتبه من تيه، ويرى شيئاً لم يكن يرتئيه، يحس بأن المصير، هو غير ما كان عليه التفكير،

ويأخذه الذهول، وكأنه يرضيه أو أنه قد يشفيه مما صار فيه، ولكنه يحس دبيب الأسى يوقظه، ويحركه ويدفعه، فيمشي يتلمس في الوجود، الموجود والمفقود، لا والد ولا مولود، يفتقد صاحبه فلا يجده، ويذكر هواه ولا ينساه، ويهفو ولا يلهو، فيراه الناس كئيباً حزيناً، ثم يراهم يحسبونه مثلهم - ساعة وكل شيء يزول. . .

ساعة وكل شيء يزول! فيعجب ثم يضطرب بل ينتفض ويرتعد ويبتعد قليلاً. . . ثم يعود، فلا يراه أحد كئيباً حزيناً، فقد خجل أن يكون مثلهم، وهو. . . هو الكئيب الحزين. . .

يدخل الصومعة ولكنه يسير بها في المعمعة. . .

راشد رستم

ص: 16

‌الشريعة الإسلامية وأعلام القانون في هذا العصر

للأستاذ حسن أحمد الخطيب

عنيت طائفة من علماء الغرب ومحبي البحث بآثار المشارقة وعلومهم وفنونهم، فكان منهم الباحث في اللغة العربية خاصة، واللغات الشرقية عامة: يبحث في أصولها ومشتقاتها وتطور ألفاظها وكلماتها، ومنهم المطلع على آدابها والمعنى بطبع أهم الكتب العربية والأدبية ونشرها بعد تصحيحها وضبطها وتعليق الحواشي بما يعين على الفهم ويفتح المستغلق.

ومنهم من تعدى ذلك، فبحث في العلوم الشرعية من علوم القرآن والتفسير والحديث. ومنهم من نظر في الفقه الإسلامي، فاطلع على دقائقه وغاص في بحره، وعلم أن فيه ثروة واسعة وكنوزا نفيسة، فنوه بشنه وشاد بذكره، ولفت أعلام القانون في وطنه إلى هذه الثروة القانونية فأعجبوا بها، وأقروا بقوتها ومبلغ أثرها في الحضارة والإصلاح.

وإلى هؤلاء، تجد عنقاً من أقطاب القانون في مصر وغيرها من الأقطار الشرقية - قد عرفوا إثراءها وخصبها والحياة القوية الكامنة فيها، فدعوا إلى النهل منها واتخاذها أساساً يرجع إليه في التشريع في مصر وغيرها من البلاد لعربية والشرقية.

وإنا لذاكرون هنا آراء بعض أئمة العلم والقانون - في الشريعة الإسلامية من أولئك المنصفين من غربيين وشرقيين لتعرف أن الحق لا يعدم نصيراً، وإنه يجب اتخاذ تلك الشريعة أساسا ومصدراً لتشريعنا في هذا العصر:

1 -

يرى الأستاذ لامبير الفرنسي: أن الكتب والمؤلفات الموضوعة في الشريعة الإسلامية كنز لا يفنى، ومنبع لا ينضب، وإنه خير ما يلجأ إليه المصريون في العصر الحاضر في البحوث العلمية حتى يعيدوا لمصر ولبلاد العرب هذا المجد العلمي الذي أخذ الزمن يطويه بحكم الإهمال وعدم العناية به.

وكان يظن أن للقانون الروماني أثرا كبيراً في الشريعة الإسلامية ولكن استبان له بعد أن عمق النظر فيها، وأوغل في دراستها، واتصل بعلمائها أنها شريعة مستقلة بذاتها.

2 -

وقال (ليفي أولمان) الأستاذ بكلية الحقوق بباريس في رسالة الدكتور محمد صادق فهمي التي ألفها في الإثبات باللغة الفرنسية، وعرض فيها لما قرره علماء الشريعة

ص: 17

الإسلامية وبخاصة ابن قيم الجوزية:

(إن كتاب الدكتور صادق جدير بان يلحق بالكتب المكونة للمجموعات العلمية القانونية الحاضرة كمجموعة سالي وغيره من رؤوس القانون في عصر النهضة القانونية الحاضرة، كل ذلك على اعتبار الشريعة الإسلامية في المعاملات مصدراً حياً للقانون العصري، ومناطاً للحق في أطواره المختلفة.

3 -

وقال الدكتور (أنريكو انساباتو): إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوربية، بل هي التي تعطي للعالم أرسخ الشرائع ثباتاً.

4 -

وقال بعض الفقهاء، الشريعة الإسلامية بحر لا ساحل له.

5 -

وقال فارس بك الخوري في حفل أقيم في دمشق لإحياء ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم:

إن محمداً أعظم عظماء العالم، ولم يجد الدهر بمثله. والدين الذي جاء به أوفى الأديان وأتمها وأكملها، وإن محمداً أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف مسألة علمية واجتماعية وتشريعية، ولم يستطع علماء القانون المنصفون إلا الاعتراف بفضل الذي دعا الناس إليها باسم الله، وبأنها متفقة مع العلم مطابقة لأرقى النظم والحقائق العلمية.

إن محمداً الذي تحتفلون به، وتكرمون ذكراه أعظم عظماء الأرض سابقهم ولاحقهم: فلقد استطاع توحيد العرب بعد شتاتهم وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت العلم المعروف يومئذ، وجاء لها بأعظم ديانة عنيت للناس حقوقهم وواجباتهم وأصول تعاملهم على أسس تعد من أرقى دساتير العالم وأكملها.

6 -

وقال العلامة سنتيلانا في بعض مؤلفاته:

(إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني إن لم نقل إن فيه ما يكفى الإنسانية كلها).

7 -

وقال الأستاذ سليم باز المسيحي اللبناني شارح مجلة الأحكام العدلية:

(إنني أعتقد بكل اطمئنان إن في الفقه الإسلامي كل حاجة البشر من عقود ومعاملات وأقضيه والتزامات، وليس الشاهد على ذلك ما هو مائل للأنظار في دار الكتب المصرية وخزائن الكتب في البلاد الإسلامية فحسب، بل فيما حوته خزائن دور الكتب الأوربية

ص: 18

أيضاً من ليدن في هولندا إلى روما وبرلين وباريس والمتحف البريطاني، بل إلى المكتبة البابوية في قصر الفاتيكان، فإن ما في هذه المكتبات من الكتب الفقهية الإسلامية إنما هو ثمرة جهود الألوف الكثير من فحول العلماء، وهي الشاهد الأكبر على أنه لا يوجد معنى من معاني الأحكام المنشود فيها العدل، ولا حاجة من حاجات البشر في التشريع تقدم لفقيه مسلم قول فيه.

8 -

وقال كيهلر العالم القانوني الألماني - حينما اطلع على رسالة الدكتور محمود فتحي في مذهب الاعتساف في استعمال الحق عند فقهاء الإسلام:

(إن الألمان كانوا يتيهون عجباً على غيرهم في ابتكار نظرية الاعتساف والتشريع لها في القانون المدني الألماني الذي وضع سنة 1787م، أما وقد ظهر كتاب الدكتور فتحي وأفاض في شرح هذا المبدأ عند رجال التشريع الإسلامي، وأبان أن رجال الفقه الإسلامي تكلموا عنه طويلا ابتداء من القرن الثامن الميلادي - فإنه يجدر بالعلم القانوني الألماني أن يترك مجد العمل بهذا المبدأ لأهله الذين عرفوه قبل أن يعرفه الألمان بعشرة قرون، وأهله هم حملة الشريعة الإسلامية.

9 -

وقال العلامة الأستاذ شبرل عميد كلية الحقوق بجامعة فينا في مؤتمر الحقوقيين سنة 1927م:

(إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة).

10 -

وقال هوكنج الأمريكي أستاذ الفلسفة بجامعة هارفرد في كتابه (روح السياسة العالمية):

(إني أشعر بأني على حق حين اقدر أن الشريعة الإسلامية تحتوي على جميع المبادئ اللازمة للنهوض).

11 -

وقال الدكتور عبد الرزاق السنهوري عميد كلية الحقوق المصرية السابق من محاضرة له:

(علينا أن نأخذ في دراسة الشريعة الإسلامية طبقاً للأساليب الحديثة، وأن نقارن بينها وبين

ص: 19

شرائع الغرب، وإني زعيم لكم بأن تجدوا في ذخائر الشريعة الإسلامية من المبادئ والنظريات ما لا يقل في رقى الصياغة وفي أحكام الصنعة عن أحدث المبادئ والنظريات وأكثرها تقدما في الفقه الغربي).

12 -

وقال الدكتور عبد السلام ذهني المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة، وهو القانوني المتضلع، والرجل المنصف الذي عرف للشريعة الإسلامية قدرها، وبذل غاية وكده في إنصافها:(إن بحوث أهل الشريعة الإسلامية في المعاملات مستفيضة بكثرة لا حد لها، وفيها كنوز قيمة من البحوث العلمية والعملية في المعاملات؛ هي أكبر تراث تركه الآباء في البلاد الناطقة بالضاد).

وقال في موضع آخر:

(إن الشريعة الإسلامية مليئة فيما يتعلق بالمعاملات بأصول مدنية غاية في الدقة والمتانة. . . ولأحكامها في المعاملات من القدرة والقوة والتفوق ما يجعلها بحق في مستوى واحد مع القوانين المدنية العصرية من حيث الدعائم الأولى لعلم القانون، ولعلم القانون المقارن. . . إلى أن قال:

(وفي الأخذ بالشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية تمكين للنزعة القومية في مصر، وانتصار للكيان الشرقي العربي وكرامته، وفيه إحياء لمجد مدفون بغير حق، وبعث لحياة شرقية عربية جديدة بحق).

13 -

وقال الأستاذ علي بدوي المحامي وعميد كلية الحقوق السابق من مقال له عنوانه: (مكانة الشريعة الإسلامية في الفقه الحديث).

(ليست مظاهر استقلال الفقه الإسلامي وتفوقه محصورة في القواعد المدنية والأحوال الشخصية. . . ولكنها تبينت كذلك في عدة مواضع من التشريع الجنائي الإسلامي). . . ثم قال:

(إن الشريعة الإسلامية تشمل من مبادئ القومية ونظمها ما لا يقل في سعة النطاق وفي تهذيب الفكرة عن أحدث المبادئ والنظم الوضعية، ومنها ما لم يكن له مثيل في نظم العقوبات الرومانية، ومن هذه النظم نظام الحسبة في الشريعة الإسلامية، وهي وظيفة اجتماعية في العصر القديم تقابل وظيفة النيابة العمومية في العصر الحديث. ومنها كذلك

ص: 20

نظام العقاب بالتعزير، وهو أن يترك تحديد العقوبة - نوعاً ومقداراً - إلى تقدير القاضي بحكم بها تبعاً لما يتضح لديه من ظروف كل جريمة، ولحالة المجرم ونفسيته ودرجة ميله إلى الإجرام، وهو نظام تمتاز به الشريعة الإسلامية على الشرائع الأخرى، وينادي به كبار العلماء الجنائيين في العصر الحديث، حتى تكون العقوبات محققة للغاية من تشريعها).

14 -

ثم جاء قرار المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي انعقد بلاهاي في أوائل أغطس سنة 1937م - مظهراً فضل هذه الشريعة ورسوخ قدمها وعلو كعبها، وهو الذي جمع أقطاب القانون وأعلام الشرائع في العصر الحاضر - وخلاصته أن الشريعة الإسلامية حية صالحة للتطور ومسايرة المدنية الحديثة، وأنها لذلك جديرة بأن تشغل مكانة ممتازة بين مصادر القانون المقارن).

وبذلك أحرزت الشريعة الإسلامية قصب السبق، وفازت فوزاً عظيما، واعترف بمجدها الخالد الغربيون.

حسن أحمد الخطيب

ص: 21

‌مراكش بين الحاضر والمستقبل

للأستاذ عبد المجيد بن جلون

لم يكن الفرنسيون يقدرون تمام التقدير الحركة الوطنية في مراكش قبل الحرب الأخيرة. كانوا ينظرون إليها على أنها أحلام مزخرفة تتراءى لجماعة من الشبان بعيدة كل البعد عن الوقائع والمحسوسات؛ وكانوا يقولون إن هناك هوة سحيقة بين هذه الجماعة من الشبان وبين بقية الشعب، ولذلك ظلت الحركة الوطنية في جزر ومد إلى أن كانت سنة 1937 حينما اغتالت السلطة الفرنسية هذه الحركة وشردت زعماءها في المنافي والسجون.

ولكن الحركة الوطنية في مراكش كانت قد آتت ثمارها في نفوس الشعب قبل هذا التاريخ، ولذلك فإن مظهر الشلل الذي أصابها بعد ذلك لم يكن له أي اتصال بالجوهر والصميم. كان من العوارض التي تنزل بالأمم عندما تصاب بالنكبات القاصمة، فتذهلها فترة من الزمن عن أيمانها، ولكنها لا تخنق فيها نبض الحياة متى كان للحياة نبض في أعماقها. حتى إذا استأنس الشعب بالنكبة وألفها، بدأ إيمانه يستيقظ في شكل همس ثم في شكل صوت ثم في شكل جلجلة مدوية.

وهذا ما حدث في مراكش بالضبط: تظاهر ضدها الموت والجوع والحرب والاضطهاد، وبالرغم من ذلك استطاعت أن تواصل كفاحها السياسي، وأن تتقبل كل التهم التي وجهت إليها كما تتقبل العذراء البريئة تهم الإفك والبهتان. بل استطاعت في خلال الحرب ذاتها أن تخوض في صمت وجلد، وهي بعيدة كل البعد عن الضمير العالمي، معركة استقلالية دامية، وجه الفرنسيون خلالها نحو قلب هذه البلاد الباسلة كل ما يملكون من حديد ونار، دون أن يستطيعوا إخماد النبض فيه. وإذن فالمسألة ليست مسألة شبيبة حالمة، وإنما هي مسألة نظام بال تقادم عليه الدهور وتزعزع. إنها الأخطاء الفرنسية بدأت تؤتي ثمارها الكريهة المسمومة. إنه الشعور بالذات في أمة لم تصمم على الاستمساك بالحياة فحسب، بل صممت أيضاً على أن تعيش حياة حرة كريمة تختلف كل الاختلاف عن الحياة التي عرفتها منذ ثلث قرن مضى في ظل الحماية الفرنسية.

ظلت فرنسا طيلة مدة الحرب تقريباً مهددة في كيانها، فشككها ذلك في تلك السياسة العتيقة التي كانت تسير عليها في الشمال الأفريقي، وظهر لأول مرة في الأحزاب الفرنسية من

ص: 22

ينادي بما يسمى تارة إعطاء الحقوق أو عدم الاضطهاد أو المساواة بين سكان جميع الأراضي الخاضعة أو التابعة لفرنسا. وبدأت تظهر نتائج هذه الأفكار بالنسبة لمراكش، فأطلق سراح الزعماء الذين قلنا عنهم فيما مضى إن فرنسا اغتالت الحركة التي كانوا قائمين بها سنة 1937، وعلى رأسهم الأستاذ محمد علال الفاسي بطل حوادث تلك السنة. وظهرت كذلك في الوسط الحكومي أفكار نيرة كانت تعد إلحادا قبل الحرب الأخيرة، فبدأ الناس يقرؤون في البلاغات الرسمية ويسمعون في الدوائر الحكومية عن حقوق الشعب والرخاء العام، والعمل للمستقبل، ومحاربة لجهل والفقر والجوع. . . الخ. وهذا شيء جديد بالنسبة لما قبل الحرب في مراكش

وهكذا اعتقد الناس أن الطريق نحو المستقبل قد بدأ يلوح أمام هذه الأمة التي ضلت تلك الطريق منذ زمن ليس بالقصير. بيد انه يظهر إن الفرنسيون لم يستطيعوا أن يتخلصوا نهائياً من تلك الأفكار العتيقة التي كانوا يسوسون إمبراطوريتهم على ضوئها. وبالرغم من أنه لم تمر سوى بضعة شهور على هذا الاتجاه الجديد في السياسة الفرنسية فقد بدأ يظهر في افقها نوع من التردد الواضح، وما يدل على أن الفرنسيين لا يزالون بعيدين عن الأيمان العميق بتلك الأفكار الجديدة التي دفعتهم إليها الحرب الأخيرة.

ومصدر هذا التردد هو أن الفرنسيين اعتقدوا أن سياسة اللين أجدى على الإمبراطورية من سياسة العنف، أي أن هدف اللين اليوم هو نفس هدف العنف. بالأمس. ودليلنا على ذلك هو أن مشروع الوحدة الفرنسية الذي أشارت إليه المادة 41 من الدستور الذي خذله الفرنسيون في الانتخابات الأخيرة، لم يقم أي وزن لآراء هذه البلاد ولم يوص باستشارتها بل فرضها فرضاً؛ فهو مشروع فرنسي من فرنسا وإلى فرنسا.

أضف إلى ذك أن سفير فرنسا ومقيمها العام الجديد في مراكش، وهو الذي أرسلته حكومته لانتهاج خطة جديدة في هذه البلاد التي أنهكتها القلاقل - أعلن برنامجاً سياسيا اعتبره المراكشيون ضربة لآمالهم في الصميم، ووصفوه بأن تماد مع سبق الإصرار في فرض الحماية والإغراق في تنفيذها، هذه الحماية التي حاربوا طول مدة ثلث قرن في سبيل القضاء عليها. والبرنامج يتحدث عن السنين البعيدة المقبلة مقرونة بالحماية وما سوف تقوم به في المستقبل من أعمال، ولم يشر البرنامج أية إشارة إلى الإصلاح السياسي أو إعادة

ص: 23

النظر في المعاهدة، بل اكتفى بالإشارة إلى الإصلاحات المادية المختلفة ناسيا أن يذكر أن الحماية الفرنسية كانت مصدرا رئيسيا لكل هذه الويلات التي تعانيها مراكش، والتي يظهر أن الفرنسيين لا يفهموها، فإن من الواضح بعد هذه التجربة الطويلة أنه لا يمكن القيام بأي إصلاح في هذه البلاد ما دامت الحماية قائمة، بل يرجح القارئ أن واضع البرنامج لم يسمع شيئا عن مشروع الوحدة الفرنسية؛ فهو مهما يقل فيه اعتراف صريح بأن النظام القائم الآن لم يعد صالحاً وكأنه لم يسمع شيئاً أيضاً عن تاريخ مراكش خلال ثلث القرن الأخير.

وإذن فنحن لا نتردد في القول بأن مستقبل مراكش ما يزال محفوفا بالأخطار، وإن الابتسامة الحاضرة هي صرف للنظر أو تخدير للأعصاب. هي كسب للوقت بالنسبة لفرنسا وإضاعة للوقت بالنسبة لمراكش، ولكن الذي يسرنا أن نعلنه هنا هو أن حزب الاستقلال المراكشي، وهو الحزب الذي يعبر عن صوت الأمة القوى المجلجل، قد أعلن سخطه على بوادر السياسة الفرنسية ورفض أن يتعاون مع الحكومة أو أن يهادنها ما لم تعلن صراحة أن معاهدة الحماية ملغاة. وبعد ذلك تبدأ المفاوضات بين حكومة مراكشية شرعية وبين حكومة فرنسا لعقد معاهدة جديدة بين الطرفين.

لن يقبل المراكشيون غير هذا، والظاهر إلى الآن أن فرنسا غير مستعدة للنظر فيما يشبه هذا، وإذن فمراكش ما تزال مهددة بأن يكون لها مستقبل شبيه بذلك الماضي القريب، خصوصاً إذا لم يصل وفد حزب الاستقلال الذي يوجد الآن في باريس مع رجال فرنسا إلى نتيجة مرضية، ففي حاضر مراكش الآن هدوء ولكنه ربما كان الهدوء الذي يسبق العاصفة.

عبد المجيد بن جلوق

ص: 24

‌من عجائب التصحيف

للأستاذ محمود عزت عرفة

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

. . . ومن عجائب التصحيف أن أحدهم ربما يقع فيه فيخرج بما هو خير من الأصل، بتصحيح حسن للصحيح، فيقبل ذلك منه ويحتفظ عنه. . . كالذي يروى عن جابر بن هبة الله أنه قرأ على الحريري مقاماته - في سنة أربع عشر وخمسمائة. فلما بلغ قوله:

يأهلَ ذا المغنى وُقيتم شرا

ولا لقيتُم ما بقيتم ضُراً

قد دفع الليُل الذي اكفهرَّا

إلى ذراكم شَعِثاً مغْبرَّاً

قرأها (سغباً معترَّا). . . ففكر الحريري ساعة ثم قال: والله لقد أجدت التصحيف فإنه أجود، فرب شعثً غير محتاج، والسغب المعتر موضوع الحاجة. ولولا أني قد كتبت خطى إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قُرِأت علي، لغيرت الشعث بالسغب، والمغبر بالمعتر.

وربما كان يفضي التصحيف أحياناً إلى بركة ونفع، ويعود بخير على قارفه أو على من يتصل به. . . كالذي يروى أن تميم بن زيد القضاعي كان والياً على الهند، وكان في حبسه رجل يقال له خُنيس أو حُبَيْش؛ فلما طال حبسه أتت أمه قبر غالب بن صعصعة (أبو الفرزدق الشاعر)، فأقامت عنده حتى علم الفرزدق بمكانها فأتته وذكرت حبس ابنها، فكتب إلى تميم بن زيد:

فهب لي حبيشاً واتخذ فيه منَّة

لغصة أمٍ ما يسوغ شرابُها

أتتني فمادت يا تميم بغالبٍ

وبالحفرة السافي عليه ترابها

تميمَ بن زيد لا تكوننَّ حاجتي

بظهر، فلا يخفى عليك جوابُها

فلما أتاه الكتاب لم يدر أحبيش أم خنيس، وفي حبسه عدة حبيش وخنيس، فأطلقهم جميعاً. . .

وحكى أبو الحسن بن الكوفي عن محمد بن عبيد عن شيخ له أن رجلا كان يقرأ على الأصمعي شعر النابغة فقال: كليني لهًّمٍ يا أميمة باضتِ. . . يدل ناصبِ. فقال الأصمعي: أما علمت - ويلك - أن كل ناجمة الأذنين تحيض، وكل سكَّاء الأذنين تبيض! فصار تصحيف الرجل فائدة لنا. ثم قال ابن الكوفي: لا أعلم تصحيفاً جر فائدة إلا هذا الحرف!

ص: 25

على أن للتصحيف - على عكس ما ذكرنا - جنايات، قد تلحق غير أهله، وشؤما ربما أصاب من لم يتعلق منه بسبب. فمن الذين جنى عليهم التصحيف حبيش بن الحسن الأعسم أحد تلاميذ حنين بن اسحق الطيب. قال القفطي: (من جملة سعادة حنين صحبة حبيش له، فإن أكثر ما نقله حبيش نسب إلى حنين. وكثيراً ما ترى الجهال شيئاً من الكتب القديمة مترجماً بنقل حبيش، فيظن الغّر منهم أن الناسخ أخطأ في الاسم، ويغلب على ظنه أنه حنين وقد صُحِّف، فيكشطه ويجعله لحنين!

ولعل ابلغ جنايات التصحيف إنما وقعت على مخنَّثي المدينة الذين خصي ستة منهم أو سبعة بشؤم تصحيفه واحدة. وحديث ذلك أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى أبن حزم أمير المدينة أن أحص من قِبَلك من المخنثين. فصحَّف كتابه فقرأها: أخص من قبلك من المخنثين (بالخاء المنقوطة)، فدعا ابن حزم بهم فخصاهم. وكان ممن خصي بشؤم هذه النقطة: طويْس ودلال وبرد الفؤاد ونومة الضحى ونسيم السحر وضرة الشمس.

قال جعدبة: قلت لكاتب ابن حزم: يزعم المخنثون أنه كُتِب إليهم أن (أحصِهم). فقال يا ابن أخي! عليها نقطة إن شئت أريتكها. . . قال: وقال الأصمعي في روايته: عليها نقطة مثل سهيل، ولما وقعت الواقعة على طويس قال: هذا الختان الأكبر! وقال نسيم السخر: أف لكم، ما سلبتموني إلا ميزاب بولي!

هذا، وللمصحفين لجاج يدفعهم إليه ضعف مُنَّتهمَ عند الحاجة، وقد يفضي بهم ذلك إلى الإفراط في المهارة وإلى الكذب والدعوى والاختلاق، على حد قول القائل في أحدهم:

يكسر الشعر فإن عاتبته

في محال قال في هذا لغة!

حدّث المبرد قال: أنشدنا يوما أبو العلاء المنقري:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومرى

فقلت: باللام. فقال: كذا قلت باللام فحومرلي!

وقال محمد بن عمر الجرجاني: صحف ابن الإعرابي في شعر الكميت وأنا حاضر، فأنشد:

فبانوا من بني أسد عليهم

نجارٌ من خزيمةّ ذي القبولٍ

فقلت: إنما هو (باتوا) بالثاء. فلوى شدقه!

فقلت: إن بعد هذا البيت ذِكرُ البيت:

ص: 26

وقالوا بالأيامن منتماهم

فيا بعد المبيت من المقيل!

فقال: لا يُلتفت إلى هذا! ثم بلغني أنه ينشده كما قلت له!!

وحدث علي بن الحسن الإسكافي قال: لما خرج (بغاء) إلى منبج متقلداً أمرها كان معه كاتب، فقرأ عليه يوما كتاب عامله بسميسْاط، وأن فلاناً سقط عن (يرذونة) يعني (برذَونه). فقال بغاء: مايرذونة ويحك؟؟ فقال: جبل بين سميساط والروم، وهو الحد بينهما. قال فلم ندر من أي شيء نعجب، من تصحيفه، أم من أتحاجه بما احتج به!؟

وقد وضع اللغويون في التصحيف والتحريف كتباً كثيرة، ولكن لم يصل إلى أيدينا منها إلا القليل. ونحن نشير هنا إلى أهم هذه المصنفات وأسماء مؤلفيها:

1 -

كتاب تصحيف العلماء لأبى محمد بن قتيبة (توفى عام 270هـ).

2 -

المصَّحف لعي بن لحسن الهنائي (توفى بعد سنة 309هـ).

3 -

الكلام على ابن قتيبة في تصحيف العلماء لأبى محمد ابن درستويه (توفى عام 347هـ).

4 -

التصحيف والتحريف وشرح ما يقع فيه، للحسن ابن عبد الله بن سعيد العسكري (توفى عام 382هـ).

5 -

التصحيف للدارقطني - أبو الحسن علي بن عمر (توفى عام 385هـ).

6 -

الرد على حمزة في حدوث التصحيف لأسحق ابن أحمد الصفار (توفى بعد عام 405هـ).

7 -

التصحيف والتحريف لعثمان بن عيسى البلَطي (توفى عام 599هـ).

8 -

متنزه القلوب في التصحيف، لعلي بن الحسن الحلي (توفى عام 601هـ).

هذا ما عنًّ لنا أن نبسط القول فيه من موضوع التصحيف والتحريف؛ وقد أغفلنا ما كنا أزمعنا الإشارة إليه من طرائف التصحيفات التي وقعت لنا خاصة، أو لبعض معارفنا من أفاضل الأدباء على هذا العهد، فلذلك مجال آخر من الحديث، ولسنا نكره أن يسبقنا إليه بعض الأدباء ممن تتوفر لديهم بواعث الإفاضة فيه.

ومنا إلى الأستاذ الطنطاوي - الذي بعثنا على كتابة هذه الكلمة بين سغَب رمضان وحر الصعيد - أطيب تحية وأزكى سلام. . .

ص: 27

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 28

‌الأدب في سير أعلامه:

ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

ولخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

في ميدان السياسة:

نفض ملتن يديه من الخصومات، ولبث يترقب أنباء الحرب، وإن الحنين إلى الشعر ليزداد في نفسه يوما عن يوم، حتى ليكاد يجزم أنه عائد إليه عما قريب وجاعل همه كله إليه، كما كان أمره قيل أن ينصرف عنه سنة 1641 إلى الحرب التي أوقد نارها على القساوسة معتقداً أنها كانت مما يقضي به عليه الواجب نحو وطنه في ذلك الوقت.

ولكن حديث السياسة يشغل باله ويستأثر بفكرة أحياناً على الرغم من حنينه إلى الشعر، حتى ليحسب أصحابها أنها هي اليوم كل همه، ولذلك يحاورون في أمره: أكان إلى الشعر يومئذ أم كان إلى السياسة ميله؟ ولقد نظم مقطوعة سنة 1648 يمجد بها القائد الظافر فيرفاكس، ومنها يتبين القارئ شدة اهتمامه في ذلك الوقت بالسياسة والحرب، وقوة تحمسه لقضية البرلمان. قال ملتن:(أي فيرفاكس، يا من يجلجل اسمك كجندي في أنحاء أوربا جميعاً، فيملا كل فم بالحقد أو بالثناء عليك، ويملا الملوك الحاقدين جميعاً عجباً منك، ويرسل الشائعات المدوية فتخفيف أقصى الملوك موطناً. إن بسالتك الوطيدة التي لا تتزعزع لن تزال تأتي لوطنك بالنصر، ولو أن ثائرين جددا يرفعون رؤوسهم الشبيهة برأس الهيدرا، والتمثال الخؤون يعلن ما نقض من عهد ليريش أجنحتهم الخاتلة، وان عملا أجل مما فعلت لا يزال يرجى على يديك حتى يتحرر الصدق والحق من ربقة العنف، ويتخلص الإيمان العام بالعدالة مما اتسمت به الحياة من سمة مخجلة هي التدليس العام، إلا أن الحمية لتنزف الدم عبثاً، بينما نرى الجشع والسطو يقتسمان الأرض).

الحق إنه لم يكن لملتن مندوحة على السياسة وأنبائها، حتى لو أنه حاول بكل ما في وسعه أن يتجنبها ما استطاع، ومهما يكن من شدة حنينه إلى الشعر وعظم رغبته في أن يعود

ص: 29

إليه، وقد حبس نفسه عليه سنين من عمره، وتوفر على دراسة وسائلة وأسباب النبوغ فيه؛ فما كان بقادر على أن يعتزل قضية الحرية، وهو نصيرها في كل وجه من وجوهها، وانه وقد استطاع أن ينتزع نفسه من الشعر انتزاعاً سنة 1641 ليوقد نار الحرب على القساوسة دفاعاً عن الحرية ليجد اليوم من اليسير عليه أن يرجئ العودة إليه، ولو إلى أجل قريب لينظر ماذا تكون عاقبة ذلك الصراع العظيم بين الملك والبرلمان، أو بين سلطة الفرد وسلطة الشعب.

وكان ذلك الصراع العنيف بين الملك والبرلمان صفحة مجيدة في تاريخ الحرية، أو فصلاً رائعاً من تاريخ الإنسانية في تمردها على الأغلال وأنفتها من الاستعباد، أو على حد تعبير مكولي في قوله:(لقد عاش ملتن في عصر من أبقى العصور ذكراً في تاريخ البشر، حيث كانت ساعة الفصل في ذلك النزال العظيم بين هورومازدو أهريمان بين الحرية والطغيان، بين العقل والهوى، ولم تكن هذه المعركة العظيمة من أجل جيل واحد ولا من أجل وطن واحد، وإنما ارتبطت مصائر الجنس البشري كله بما يكون من مصير الحرية لدى الشعب الإنجليزي، فها هنا أعلنت لأول مرة تلك المبادئ الغلابة التي اتخذت منذ ذلك الحين سبيلها إلى أعماق الغابات الأمريكية، والتي أثارت ثائرة اليونان على ما ضرب عليهم ألفى سنة من الذلّة والتدهور، والتي أوقدت في قلوب الشعوب المظلومة في أوربا من أحد طرفي القارة إلى طرفها الآخر ناراً لا تنطفئ جذوتها، وأرهكت مفاصل الطاغين بما لا قبل لهم به من خوف).

ونحسب بل تكاد في الحق نجزم أنه لولا ما كان فيه ملتن من شغل شاغل بمحاربة القساوسة، ثم بما مني به من خيبة في زواجه، وما جره ذلك عليه من خلاف شديد بينه وبين البرسبتيرينز وحرب منه أدارها عليهم، ما كان ليذر قضية البرلمان بضع سنين بغير دفاع منه في كتيبات كتلك التي نشرها سنة 1641، فإن رجلا له مثل روحه الحرة الوثابة، ومثل ثقافته الواسعة الممتازة، لخليق بأن يناضل بقلمه في تلك المعركة الدائرة في سبيل الحرية، وجدير إلا يكون نضاله بالقلم أقل بأساً من نضال الشاهرين سيوفهم الباذلين في سبيل النصر أرواحهم.

ونعتقد أن يأسه من الإصلاح وحنقه على بني قومه لعزوفهم عما دعاهم إليه لم يكن كما

ص: 30

حسب بعض الناس ليميل به عن السياسة يائساً منها كما يئس من غيرها، بل لقد كانت المعركة الدائرة هي أمله الباقي الذي ينبثق نوره فيما يكتنفه من الظلمات، ولذلك علق عليها من الرجاء مثلما يعلقه الغريق على آخر أمل له في النجاة!

ولملتن اهتمام بالسياسة من جهة أخرى، فهو خصيم البرسبتيرينز، ويود لو يذهب سلطانهم. وهو منذ حملتهم عليه أقرب إلى المستعلين مذهباً، بل وأكثر منهم استقلالاً، ولذلك فهو يتمنى نجاحهم ويتجه بقلبه إلى كرمول وجنوده، ويتضح موقفه من الفريقين في مقطوعتيه اللتين ندد أولاهما بالبرسبتيرينز مستكرهي الضمائر سنة 1646، وامتدح في الثانية فيرفاكس أحد قواد جيش البرلمان سنة 1648.

هكذا لبث ملتن يترقب ويجعل للسياسة همه، فلما تأكدت قوة كرمول والمستعلين بعد الحرب الأهلية الثانية، تبين أن الثورة توشك أن تصل إلى نهاية حاسمة، ورأى ملتن أن الملك وقد ظل على شديد استمساكه بالأسقفية، وأخذ يفاوض البرسبتيرينز والاسكتلنديين، إنما يتضح أمره يوما عن يوم أنه العقبة الكئود في سبيل التسوية، فلما أراد زعماء المستقلين أن يخطوا الخطوة التي يقضى بها الموقف، وهي طرد البرسبتيرينز من البرلمان ومحاكمة الملك، تبين ملتن أن الله استجاب دعاءه، وأن مصير وطنه ومصيره بسبيل أن تقررا، وعاودته حماسه إلى الكتابة، ومن ثم شرع قلمه.

وأخذ ملتن يعد كتيباً جديداً، وقد بدأه أن تبدأ محاكمة الملك، وفرغ منه قبل إعدامه بأيام، فكان صوته أول صوت ارتفع، والناس عالقة أنفاسهم دهشة ورهباً، ونشره في يناير سنة 1649 وجعل عنوانه (حق الملوك والحكام).

وقد ذاع اسمه في أوربا بهذا الكتيب الذي برر فيه إعدام الملك، حتى إن زائري إنجلترا يومئذ كانوا يتطلعون إلى رؤية رجلين أحدهما أليفر كرمول رجل السيف، والثاني جون ملتن رجل القلم. وشاءت الظروف أن يشهر اسم صاحب الفردوس المفقود أول ما اشتهر في القارة بصلته بحادث إعدام الملك وجرأته في الدفاع عن هذا الفعل قبل أن يشتهر بالشعر، فلم يكن قد بدأ قصيدته الكبرى بعد، أما شعره الذي نشره قبل ذلك، فلم يقدره حتى قدره في إنجلترا إلا خاصة المثقفين، ولم يعرفه في القارة إلا قليلون.

ويعد هذا الكتيب من أكثر كتيبات ملتن متعة وأعظمها شأناً، فقد بسط فيه طائفة من المبادئ

ص: 31

العامة فيما يتصل بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبعض هذه المبادئ قديم يرجع عهده إلى أول المفكرين من الإغريق بالآراء الديمقراطية، ولكن ملتن يعرضها عرضاَ جديداً، بينما يعينه على حسن بيانه إياها سعة ثقافته، وبعضها يظهر فيه ابتكاره أكثر مما يظهر اعتماده على ما خلف غيره من المفكرين.

والكتيب في جملته عليه طابع ملتن في سمو بلاغته وشدة حميته وروعة أدائه، وهو في روحه العامة صيحة على الطغاة، وتنديداً بالمستبدين ملوكاً وحكاما ورجال دين، وقد افتتحه ملتن بتبرير ما فعل الجيش جميعاً، وعدّ ما لحق الملك جزاء عادلا من الله على ما قدمت يداه، وجعل جانباً كبيراً منه لتأييد حق الناس في اختيار حكامهم وعزلهم، واختتمه بحملة نكراء على البرسبتيرينز والقساوسة إلا من كره منهم الاستبداد وحاد عن سبيله.

وكانت الفكرة التي بنى عليها ملتن تبريره إعدام الملك، هي أن الدولة إن هي إلا أداة لخير الناس وأمنهم، ولذلك فإن إعدام الملك يتمشى مع القانون القائل:(بأن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى سلامة المجموع إنما يعد عملاً قانونياً مشروعا).

ويتكئ ملتن على العقل والمنطق في الدفاع عن آرائه كما فعل في كتيباته عن الطلاق،، فأساس العلاقة بين الملك وشعبه الوئام والرضى، فإذا فقد ذلك فقد بطلت شروط تلك العلاقة، ومن ثم فلا علاقة بينهما، وللناس من الخروج عن طاعة حاكم يعمل لصالحه دونهم، (لأن سلطته في الواقع مستمدة من الشعب وفق قانون، وعن قسم أداه ليؤدي بها حق الشعب في الإصلاح والخير لا لأي شيء خلاف ذلك).

ويقول ملتن إن الإنسان حر بطبيعته، وأن الرجل العادل لا حاجة به إلى القانون، فهو يسير على نهج من طبعه، وما جعل الحكومة أمرا ضروريا إلا فساد الإنسان، والحكومة مصدرها الناس الذين وصفوا السلطة في أيدي الملوك أو الحكام على أساس شروط معنية. . . ويعرف ملتن الطاغية بناء على ذلك بأنه الرجل الذي يعتقد أن السلطة سلطته هو، وأنها ما خلقت إلا لنفعه وخيره. . .!

ويعتقد ملتن أن مرد الفساد والشر في السياسة كما في غيرها إنما هو سيطرة العاطفة على العقل، وعلى ذلك فمصدرها الشر في الملك عاطفة، وعواطف الشر في نفسه يوسوس بها الشيطان الذي هو أصل كل عاطفة شريرة، وان الواجب ليقضى بمقاومة مثل هذا الملك

ص: 32

الذي تتغلب في نفسه العاطفة على العقل!

ويضع ملتن القساوسة في موضع الشيطان، فانهم في رأيه أشد أعوان الملك على الطغيان، وأكبر سند له فيما يتمادى فيه من غي وظلم، ولا يعني بالقساوسة الكاثوليك منهم فحسب، وإنما يعني كل محب لنفسه شره تحركه الأطماع الدنيا، قيدين للطغيان، ويتخذ من الطاغية نصيراً، ويدافع عنه حتى ليكون حياله كعبدة الأصنام، ويعود فيوجه ملتن سهامه إلى البرسبتيررينز ويلقى على كواهلهم تبعة ما لاقته المملكة من شر على يد شارل، وينكر عليهم انتماءهم إلى الدين بأي وجه، أو صلتهم بالمسيح إلا ما يكون من مظهر لهم جرى به العرف، وهم فيما عدا ذلك ذئاب جائعة لا تشبع بطونهم مهما كان مبلغهم من الثروة، وكلما وصلت إلى الثراء العريض أيديهم الآثمة على حساب الفقراء والمساكين قالوا هل من مزيد، ولا وازع لهم من دين ولا من ضمير!

وكان حرياً أن يثير هذا الكتيب اهتمام القائمين على أمر الدولة، وأن يسرهم هذا الدفاع عنهم وقد جاء في أبانه، ورأوا أن رجل كمؤلفه علما واسع الثقافة شجاعاً لا يخاف في الحق شيئاً، فصيحاً لا يعي لسانه أمر مهما عظم، هو خليق بأن يعول عليه كدعامة من دعائم الحكم الجديد، ولذلك لم يلبث ملتن أن قلد وظيفة ذات خطر، فقد جعل قيما على ديوان الرسائل الأجنبية في مجلس الدولة. . . والواقع أن هذه الوظيفة لم تكن إلا ستاراً، فقد كان ملتن رجل القلم والفكر، والمدافع عن الجمهورية الوليدة، وظل في منصبة هذا يدافع عن الدولة ويرد على كل نقد أو تهجم، ويكتب ما يوحي به كرمول مما يريد أن يلقيه من إنجلترا وعلى أوربا من ضروب القول وأوجه الرأي.

ويتساءل المؤرخون عما دفعه إلى قبول ذلك المنصب، أكان ذلك رغبة منه في مظاهرة هذه الحكومة ومناصرتها لما توسم فيها من نصرة الحرية، أم كان الحاجة إلى المال، أم كان عن رغبة منه في مراسلو ذوي المكانة من الأجانب، أم أن كبرياءه وذهابه بنفسه وإحساسه بما قدره لشخصه من سمو المنزلة، جعله يطيب نفساً بمثوبة الحكومة إياه، إذ يحس في عملها هذا نوعاً من الاعتراف بقدرة وخطره؟

ومهما يكن من أمر منصبه الذي ارتضاه، فما أبعده عن ذلك الخيال الجميل الذي منى نفسه به قبل ذلك بثمانية أعوام حين تنبأ بفجر بهيج يوشك أن يهل على إنجلترا نوره، وبشر

ص: 33

بشاعر إذ قال: (ولن يعدم ذلك الفجر طائره الصداح، فلسوف يتغنى من بين هؤلاء القديسين الذي ينافحون عن دين الله شاعر يأتي بلحن علوي جديد يشكر به أنعم الله، ويسجل نصر الله في مملكة تنعم بنعمة الحرية، وقد تخلصت من القساوسة ومجدت شاعرها المختار)!

وها هو ذا الفجر قد أهل نوره. . . فأين طائره الصداح؟ أين لشاعر وأين لحنه العلوي؟ كيف ارتضى لنفسه أن يكون عمله أن يكتب الرسائل اللاتينية، وأن ينقل ما يرد منها إلى الإنجليزية، وان يرد على الشانئين والحاقدين على الدولة فيعود إلى عنت الخصومة وشغب الخلاف. . .

أجل، كيف آثر الشاعر على الخميلة قاعة الحكومة؟

ذلك ما لا يسعنا إلا أن نحس حياله من العجب قدراً كبيراً

وكان ملتن يحس كما أسلفنا تضاؤل بصره، ويشعر أن عليه إزاء ذلك أن يقصد كل القصد في استعمال ناظريه، وكان ذلك وحده كافياً نرى لأن يرفض هذا المنصب الذي يتطلب طول النظر في الرسائل ما يكتب منها وما يترجم، وفي غيرها من الأوراق التي تحتاج فيها الحكومة إلى معونته ورأيه.

ولكنه كما رأينا قبل المنصب، ويرى بعض المؤرخين أن قبوله إياه على شدة حنينه إلى الشعر وكثرة ما يهجس في نفسه منه، وحاجة ناظريه إلى الراحة، هو ضرب جديد من التضحية أشبه بتضحية الأولى حين هجر الشعر على رغمه سنة 1641 استجابة منه لداعي الحرية، فقد كان يعتقد ملتن أن مساهمته ولو بقد صغير في بناء صرح الحكومة الجديد عمل ينطوي على معنى الوطنية، وبخاصة أنه كان يؤمن يومئذ أن الحكومة الجديدة وقد جاءت نتيجة لذهاب الطغيان لا بد أن تظل نصيرة للحرية، ولقد أشار إلى هذا المعنى بعد ذلك بقليل في أحد كتيباته قائلا: إنه تقدم عن طيب خاطر ليخدم بلاده، حينما طلب إليه ذلك القائمون على الأمر، وأنه لم يطلب على ذلك أجراً، وحسبه من الأجر ارتياح ضميره ورضاؤه عن نفسه، والحق أن المال لم يكن له دخل في قبوله ذلك المنصب، فإنه وإن كان ملتن فقيراً، فقد كان القليل من المال حسبه لما تتطلبه أكلاف عيشه وهي يومئذ قليلة، وكان لا يعوزه هذا المال القليل.

ص: 34

ونعتقد أن ملتن على حق فيما يعتل به من علة، وليس يمنع هذا من أن نضيف إليها علة أخرى لها كما لهذه في طبعه من الشواهد ما يكاد يؤكدها، وتلك هي رغبته التي لازمته منذ صغره في أن يكون عالي القدر ممتاز المكانة، واختياره لهذا المنصب يحقق له تلك الرغبة، فضلا عما فيه من معنى الاعتراف له بالفضل وعلو المكانة في مجال الأدب والمعرفة، وكانت تطرب نفس كنفسه بلا ريب لأن يكون ذا صلة بتلك الشخصيات الكبيرة التي قضت بجهادها المرير على الاستبداد الذي يمقته اشد المقت، لا عن ملق أو افتتان بذوي الجاه والمكانة كما يفعل صغار النفوس، ولكن عن طموح وكبرياء ورغبة في السمو، وعن محبة وإعجاب بتلك الشخصيات لما تنطوي عليه محبته إياهم من معان، كما يفعل الأباة من أولي الفضل. . .

وثمة رأي لآخر يضاف إلى تلك الآراء، وهو رأي (مارك باتيسون) أحد من أجادوا الكتابة عن ملتن، ومؤداه أنه لا يبعد أن يكون ملتن قد رأي في المنصب مجالا جديداً للازدياد من المعرفة والحكمة، وهي ما يتطلبه الشعر من زاد، فقد طالما رأيناه من قبل يعد بأن يتوفر على الشعر متى استكمل منه عدته، وتم له ما يتوق إليه من نضج وخبرة بالحياة، وعلى ذلك فلن تذهب تضحية بوقته وبصره هباء، فلسوف تجدي عليه وثيق المعرفة بأحوال الناس وأمور الحياة!

(يتبع)

الخفيف

ص: 35

‌حول الاتباعية والإبتداعية

للأستاذ فخري قسطندي

عرضنا في مقال سابق للونين من ألوان الأدب، وضربين من ضروب الخلق الفني هما الكلاسيكية والرومانتيكية، وأبنا كيف اضطرب القول فيهما وتضارب الرأي في مدلولاتهما ومعانيهما، ثم رجعنا بالذاكرة إلى القرن الثامن عشر، وألمعنا إلى اهتمام الأدباء الإنجليز بآثار الماضي التالدة، وإلى اشتغالهم بدراستها وتبيان محاسنها. تلمس ذلك في أحاديثهم، وتستشفه في كتاباتهم، وتطالعك به تواليفهم، حتى لقد يشتد بك العجب ويأخذ منك كل مأخذ، فأنت لا تقع على كاتب أو شاعر إلا وقد أغرق في وصف هذه الآثار والأطلال والرسوم، وأمعن في التعبير عن إعجابه بها، فهو مفتون بروعتها، مأخوذ بسحرها وجاذبيتها.

ولا عجب، فهذه أشياء كلها ذات طابع ابتداعي يزينها ويجملها تنفرد به ويختص بها، غير أنها ليست ذات طابع رومانتيكي فحسب، بل هي تتسم أيضاً بطابع قوطي، له ما للطابع الرومانتيكي من خصائص ومميزات، وبينه وبين الكلاسيكية من بون شاسع واختلاف كبير كالاختلاف بيم الرومانتيكية ولكلاسيكية. فهناك مقطوعات رومانتيكية أو قوطية، كما أن هناك مقطوعات كلاسيكية. وتكون المقابلة بين رومانتيكية هذه المقطوعة وبين كلاسيكية تلك. ولا أدل على ذلك أو أبلغ من قول هرد في (رسائله عن الفروسية والرومانس أن منظومة الملكة الجنية للشاعرة الإنجليزية الكبيرة إدمند سبنسر منظومة قوطية، وليست كلاسيكية كما يزعم البعض.

ومن ثم فأنت ترى إن الطابع القوطي ينبئ عن عصور غابرة أزال الله من دولتها، فانطمس رسمها ودرس منها، هي العصور الوسطى، وأنت ترى أن مثله في ذلك مثل الطابع الرومانتيكي تماما. فهو يترامى مثله إلى ابعد غايات الشذوذ والاضطراب بدلا من التجانس والاتساق، وهو يمتاز بخيال مقرب يتنكب الطريق المطرق، فيجد عن المألوف ويخرج على المعروف.

وما كان الأدب إلا شكلاً من أشكال الفن يقومّ بما يقوم به الفن من معايير، ويقاس بما يقاس به، وبصدق على الفن ما يصدق عليه. والأدب شعر ونثر وما يتصل بالشعر والنشر من

ص: 36

مبحث وموضوع، وأنماط قوالب، وصيغ وتراكيب، وعبارات وألفاظ، وعرض وسياق، وحس وشعور. وهو إما أدب رومانتيكي قوطي يتصف بما تتصف به آثار العصور الوسطى، ويضرب شعره ونثره وما يتصل بهما بسهم وافر في الشذوذ والاضطراب والإغراب في الخيال. وهو إما أدب غير رومانتيكي قوطي، خلو من جميع الخصائص والصفات التي سبق ذكرها.

هذا ما كان من شأن الأدب، وهذا ما كان من شأن الرومانتيكية في إنجلترا في القرن الثامن عشر. غير أن الدهر غير، فما هي إلا دورة من دورات الفلك حتى درست القوطية، واندثرت، واختفت من معاجم الأدب. وحان الحين للرومانتيكية أن تتربع وحدها على عرشها، وأن تصبح ذات الكلمة الناقدة والسلطة الأولى واليد الطولي في الكم على تواليف الأدباء. على أن الرومانتيكية لم تستقر طويلاً في إنجلترا، فما لبث أن ذاع صيتها واشهر أمرها وترمى خبرها إلى فرنسا. فاستعملها روسو في كتاباته، وكان استعماله لها بشيراً بازدياد صيرورتها واتساع انتشارها. فما هي إلا فترة أو بضع فترة حتى تلقفها الكتاب الألمان، وعكفوا على درسها وشرحها، فاستوعبوها وفلسفوها وبينوا معالمها واختطوا لها الأصول والقواعد.

ويعزو جيته إلى نفسه فضل إدخال هذه الكلمة إلى ألمانيا، ونحن نشك في هذا الفضل فقد يعزى إليه أو قد يعزى إلى غيره، ولكن هذا لا يعنينا في هذا المقام، وإنما يعنينا أن نستقصي ما قاله، ونتعرف ماله من اثر. قال:

(إن فكرة التفرقة بين الشعر الكلاسيكي والشعر الرومانتيكي هذه التفرقة التي طبقت شهرتها الآفاق، والتي تثير من المنازعات والانقسامات الشيء الكثير، ترجع في الأصل إلى شيلر وإليّ. فقد صغت في عبارة موجزة طريقة معالجة الشعر معالجة موضوعية، وأنا آبى أن أقتفي خطى أية طريقة أخرى، غير أن شيلر الذي يهتم بالناحية الذاتية يعد طريقته الطريقة الصحيحة. وقد اعتنق آل شليجل هذه الفكرة، ومن ثم فقد انتشرت في جميع أنحاء العالم، وكل فرد يتحدث الآن الكلاسيكية والرومانتيكية اللتين لم يطرقهما أحد بتفكيره منذ خمسين عاما).

والواقع الذي لا مرية فيه أن جيته ساهم بنصيب موفور في انتشار الرومانتيكية وينعكس

ص: 37

ذلك في الكتاب الذي طلعت به مدام ستايل على جمهرة النقاد وعامة القراء وعنوانه (من الألمانية، ' وأتت فيه على ذكر الرومانتيكية عند أدباء الألمان، وما استأثرت به من عنايتهم الفائقة واهتمامهم البالغ. أما مدام دي ستايل فيقول عنها فيكتور هيجو في مقدمته لديوان أشعاره إنها أول من جرى لسانها بعبارة (الأدب الرومانتيكي) في فرنسا.

وكأن لفظة رومانتيكي سئمت حياة الترحال والتجوال، وحنت إلى حياة الثبات والاستقرار، فولت وجهها شطر وطنها الأصلي، فعادت إلى إنجلترا، واطمأن بها المقام هناك، وقد وضحت معالمها واستبانت خطوطها، على نحو لا ترقى إليه شبهة بل ينهض عليه الدليل.

فبيرون يفهم من الرومانتيكية ما يفهمه جيته حين يقول - أي بيرون (إن شليجل ومدام دي ستايل حاولا جهدهما أن يلتزما في تقسيم الشعر قسمين اثنين، وهما الكلاسيكي والرومانتيكي وسوف يكون من نتيجة ذلك مناقشات حامية).

ومن عجب أن الروماتيكية لم تصادف هوى في نفوس أدباء الإنجليز، فصدفوا عنها ولم يعنوا بها عناية غيرهم بها، برغم من أنهم هم الذين ابتدعوها وابتكروها. فبينا نرى الرومانتيكية في فرنسا وألمانيا قبلة أنظار الكتاب والشعراء، ثم عنوانا لمدرسة من المدارس الأدبية، نراها في إنجلترا محل استخفاف الأدباء الإنجليز واستهانتهم، ومن ثم فقد أعوزها عندهم الدقة والوضوح. أما الفرنسيون فقد وضعوا الكتب والمؤلفات في التعريف بها، وبذلوا الجهد الجهيد في تحديد مفهوماتها ومدلولاتها، ولعل لبرنتير الفضل الأكبر في إزالة ما يكتنفها من غموض وإبهام. أما الألمان فقد نسجوا حولها نظرية فلسفية أحكموا أطرافها فجاءت متلاحمة متواشجة، يدفعهم إلى ذلك الجري وراء المجردات، والاندفاع وراء النظريات.

(للبحث بقية)

فخري قسطندي. . .

ص: 38

‌3 - من الأدب العربي:

الموت يتكلم. . .!

(ما الموت إلا تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت، فالموت

تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى، فكيف إذن يجزع

منه) (ابن مسكويه)

يا من يراع إذا تمثل صورتي فيم ارتياعك؟

هون عليك ففي ابتعادك عن بني الدنيا انتفاعك

لك ضجعة عندي تريحك هل سيؤذيك اضطجِاعُك

أو لست من دنياك تسبح في خضم هائل

يغشاك موج فوق موج تحت غيث هاطل

لم لا تسر إذا وصلت مبكراً للساحل؟

أنا في الحياة كمنجل في كف حصاد بصير

أهوى على الذاوي فأقصيه عن الزهر النضير

لولا مبادرتي لضاق الروض بالعدد الكثير

كم من مريض قد غزاه الدهر بالداء العياء

متململاً يرجو الشفاء من الطبيب ولا شفاء

يممت منزله فكان له على يدي الدواء

سيزول عنك الجهد حين تتيه في نوم عميق

يا طالما كانت تصادمك المآزق في الطريق

فإذا انتصرت على مضيق زل نعلك في مضيق

ماذا تركت على الحياة سوى جناة آثمين

كانت قلوبهمو تئز عليك بالحقد الدفين

قد بت مرتاحاً وباتوا - رغم بعدك - متعبين

تالله ما قصر تخر لحسنه شم الجباه

ص: 39

قد حفه روض أنيق يملأ الدنيا شذاه

أزكى تراباً من ضريح تاه في جوف الفلاه

تالله ما عرس تخف إلى سرادقه الجموع

نثرت بساحته الزهور وأوقدت فيه الشموع

بأجل من نعش يسير على الكواهل في خشوع

تالله ما خمل من الديباج تسبي الناظرين

قد رصعت بقلادة من ساطع الدر الثمين

أشهى لذي التفكير من كفن على ميت دفين

يا رب ملتاع كشيب عذبته يد القدر

غمرته دنياه بمختلف الحوادث والغير

وجد الحِمام يريحه مما يكابد فانتحر!

يا من يراع إذا تمثل صورتي فيم ارتياعك؟

هون عليك ففي ابتعادك عن بني الدنيا انتفاعك

لك ضجعة عندي تريحك هل سيؤذيك اضطِجاعُك

محمد رجب البيومي

من وحي المصيف. . .

أترع الكأس من سلاف حلال

وأرو قلباً قد أظمأته الليالي

غافل الدهر ساعة وتنقل

بين ظل وكوثر سلسال

هذه جنة دعوها مصيفاً

أسكرت خافق وأذكت خيالي

شادها الله كي نشاهد فيها

لجنان الخلود خير مثال

ولو أن الجنان كانت كهذي

لكفى صوغها بهذا الجمال

هاهو البحر في لساني أجاج

وبقلبي مذاقه كالزلال

صفحة تشبه السماء صفاء

قد أضاءت بخرد كالآلي

يحتضن الخضم وهو غضوب

يرسل الموج عالياً كالجبال

ص: 40

فتراه كعاشق فر عيناً

بحبيب أمده بالوصال

هادئاً يغمر الحسان بلثم

وعناق يثير حقد الرجال

وبدا الشاطئ البديع كروض

بورود من العرائس حال

نائمات يوقظن كل فؤاد

جالسات مع الهوى والدلال

خاطرات مثل النسيم رخاء

مائسات في فتنة واختيال

فوق صدر الرمال مستلقيات

فارشفي الحسن يا شفاه الرمال

أحمد هيكل

ص: 41

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ على العماري

إنه لا يزال في الناس يا سيدي من يتهم المشايخ بالغلاظة والثقالة، ولا يزال في المشايخ من يقدم للناس أدلة هذا الاتهام مع أن العلماء كانوا هم أهل الظرف، وكانوا بُرَاء من هذه الصفات التي ينكرها الناس على (علمائنا) والتي جعلوا لها من إنكارهم إياها اسما عَلَما عليها هو (المشيخة. . .) وما يريدون بها إلا الغلاظة، كأن الرجل لا يكون شيخاً عالما إلا بهذا الوقار البارد وهذا التزمت الفاسد، وهذا الجد الكاذب، والسبحة الطويلة والنصائح المتكلفة المكررة المملولة، والأمر بالمعروف بغير الأسلوب المعروف، والنهي عن المنكر بالطريق المنكر، وإقامة القيامة على (الضعيف. . .) يحلق لحيته، أو يحرق دخينته، أو يؤم المساء في غير محرم قهوته، ويسكتون عن منكرات الحكام، وضلالات الأحكام. . .

لذلك شكرت لك ما كتبت عن ظرف الفقهاء، وما دفعت عنا (معشر

المشايخ) من هذه التهمة (غير) الباطلة، وجمعتُ طائفة صالحة من

الأخبار المتفرقة في كتب السيرة والتراجم، وأسفار المحاضرات

والأدب، من ظرف العلماء من لدن سيد العالمين وإمام العالمين محمد

صلة الله عليه إلى العصور المتأخرة لأهديها إليك ثم وجدت كتابين في

هذا الباب:

كتاب (الظراف والمتاجنين) لابن الجوزي وهو في (106) صفحات وقد كان طبعه في دمشق الأستاذ حسام الدين القدسي منذ ثمان عشرة سنة وكان شرفني بكتابه مقدمة له، هي من أوائل ما كتبت.

وكتاب (المراح في المزاح) للبدر الغزى، وهو أجمع لأخبار هذا الباب، وقد طبعه في دمشق الأستاذ الأديب أحمد عبيد.

وبعد، فلعلك يا سيدي تكتب أنت الفصل الجامع في (ظرف الفقهاء).

قرأت ما كتبت يا سيدي في العدد (687) فقل لي سألتك بالله، أأنت تجد أم تهزل؟ وهل تنقل هذا الهذيان عن أستاذ في الجامعة أم عن حشاش في القهوة؟ وهل هذه هي دروس

ص: 42

الجامعة التي نرسل أبناءنا إليها ليغترفوا من علوم أساتذتها ما يعودون به معلمين في مدارسنا؟ وهل هذا هو دين التجديد الذي بعث به نبي البلاغة في آخر الزمان؟ وإذا نحن احتملنا الركاكة والعجز أفنحتمل الكفر من هذا الشيخ الذي يقرر أن الله قال لمحمد (يا أخي أنت حارق نفسك ليه)؟ لقد عرفنا من جعل لله صاحبة وولدا ولكنا لم نعرف قبل اليوم من جعل لله أخاً، أفلا يرضى الشيخ إلا أن يكون مجدداً في الشرك بالله - تعالى الله عما يقول المشركون علوا كبيراً؟ ولا يعجبه إلا أن يفتح له إلى جهنم باب خاص؟

وماذا يقول صديقنا العميد الدكتور عزام وهو العالم البليغ المؤمن بهذا الجهل والعي والكفر؟

أما أنا فأقول: أعيدوا أولادنا إلى باريس ليتعلموا فيها العربية كما كانوا، فأن الجهل الذي يعودون به من باريس، أهون من الكفر الذي يرجعون به من الشيخ أمين الخولي.

علي الطنطاوي

رأي في مجلة الأزهر

نرى الآن، كما يرى المعنيون بالأزهر وإصلاحه، بوادر نهضة توحي بها رياسته الجديدة وترعاها في ثقة وهدوء وبعد عن الإعلان والادعاء. كما هي سجية المصلح المؤمن لفكرته والذي هو من الوقت نفسه لا يتخذ من عمله وسيلة لمجده الشخصي.

و (مجلة الأزهر) ناحية من نواحي النشاط الأزهري الذي شملته بوادر هذا الإصلاح الجديد، فقد عرف أن نظاما جديداً وضع لإخراج هذه المجلة وأن لجنة يرأسها فضيلة الأستاذ الأكبر قد أقرت لائحة جديدة لها وأن هذه اللائحة تضمنت النص على أغراض المجلة وما يراد من إصدارها وكيف يمكن أن تكون حاملة لرسالة الأزهر والتعبير عنها أكمل تعبير، وأن تشمل الاتجاهات الثقافية والإصلاحية للجامع الأزهر.

ونحن نرى أن مجلة الأزهر يجب أن يكون لها هدفان: -

الأول إبراز وتصوير نواحي النشاط المختلفة وصلاته بالحياة العامة في مصر والخارج وما يقوم به من المساهمة في النشاط العلمي والثقافي والروحي، وهذه النواحي الثلاث تشمل كما نعلم مصر والشرق العربي وسائر البلاد الإسلامية وكثيراً من بلاد العالم

ص: 43

الأخرى.

لذلك نعتقد أنه من الواجب أن ينشأ في المجلة قسم خاص بشؤون البلاد الإسلامية يترجم أو ينقل عن صحف هذه البلاد وينشر الجيد مما يكتبه أعضاء البعوث الإسلامية في الأزهر عن بلادهم والاتجاهات الإصلاحية فيها، ويكون له توجيه إيحائي إصلاحي يشعر بما للأزهر من حق التوجيه وما عليه من واجب الرعاية لكل ما فيه خير هذه البلاد الإسلامية كلها.

وفي السنوات العشر الأخيرة أرسل الأزهر طائفة من بعوثه، بعضها إلى الهند لدعوة المنبوذين وبعضها إلى الحبشة وإلى الصين، وبعضها إلى مؤتمرات علمية ودينية في كثير من بلاد الشرق والغرب. وللأزهر مبعوثون في كثير من بلاد الشرق العربي وأفريقيا وله معهد في لندن وبعوث في جامعات إنجلترا وفرنسا.

وهذه البعوث والمعاهد كلها وما قامت وتقوم به من عمل وما وضعته من تقارير، وهؤلاء المبعوثون ما قاموا وما يقومون به من دراسات وأعمال كان ولا يزال من الممكن أن نجد في مجلة الأزهر عن أعمالها وبأقلام رجالها البحوث الجيدة المفيدة الدالة على نشاط الأزهر وحيويته ومشاركته في بعض مشاكل العالم الفكرية الكبرى وقيامه على إفادة المسلمين والراغبين في هداية الإسلام وثقافته في كثير من بقاع الأرض.

وبين الأزهر وكثير من الجامعات والهيئات الدينية والعلمية المختلفة كثير من المراسلات في شؤون لها من الأهمية ومن العموم والاتصال بشؤون المسلمين وغيرهم ما يجعلها كبيرة القيمة والأثر إذا أبرزت إبرازاً صحفياً مفيداً لقراء مجلة الأزهر والمشتغلين بشؤون الشرق والإسلام.

ولست أقصد بهذا ما هو من الشؤون السرية في هذه المراسلات أو ما ليست له صفة العموم.

هذه الصفحات من نشاط الأزهر وما يرد إليه من رسائل وما يسأل عنه من مسائل لنشرها وإبرازها فوائد أخرى لا تقل عن فائدتها الثقافية في توجيه القراء والمستغلين بهذه المسائل العامة، هذه الفائدة هي إشعار الأزهريين بما لهم من الخطر والمكانة وما هم جديرون أن يهيئوا له أنفسهم من عمل وأن يشغلوا به قلوبهم وعقولهم وفراغهم من جد الأمور.

ص: 44

وهذا وحده كفيل بأن يشعرهم الكرامة لأنفسهم ومعهدهم وبأن يكون عاملاً من العوامل المؤثرة في حسن توجيههم وأعدادهم لما ينتظر الناس أن يقوموا به من المساهمة في الخير العام لمصر والشرق والإسلام.

هذا وما يتصل به من إخراج الكتب العلمية والدينية إخراجاً علمياً ونقد المؤلفات العلمية نقداً علمياً أيضاً هو الهدف الأول مما اعتقده غرضاَ لإخراج مجلة الأزهر.

أما الهدف الثاني فهو إبراز صورة من النشاط الداخلي للأزهر وأقصد بالنشاط الداخلي ما يقوم به الأساتذة والمبرزون في الطلبة من البحوث وما يضعه الأساتذة والطلبة والمتخرجون من الرسائل ذوات القيمة، وما يبرزه هؤلاء وهؤلاء من المؤلفات أو يقومون لتحقيقيه من النظريات العلمية أو الاجتهادات أو التحقيقات التاريخية.

هذا رأي أبديه بعد ما عرف أن لجنة يرأسها الشيخ الأكبر قد وضعت لها منهاجاً تسير عليه في عهدها الجديد.

ولعل (الرسالة) - وعنايتها بالأزهر وبالثقافة الدينية مشهورة مشكورة - تستطيع في عددها القادم أن تنشر على الناس شيئاً مما رأته هذه اللجنة في إصلاح هذه المجلة فقد يجدون فيه ما يجعلهم يتوقعون أن يروا مجلة للأزهر جديرة بأن تحمل اسمه وتفصح عن رسالته.

ونحن نرجو (ونعتقد أن رجائنا سيكون أمراً واقعاً عما قريب) أن الأزهر في عهد الجديد سيقوم بما أعتقد أنه واجبه الأول. وهو رعاية الحياة الدينية في مصر وتوجيهما الوجهة الإصلاحية التي طال ترقب الناس لها والتي ظن كثير من المفكرين وأصحاب الرأي أن الأزهر قد تخلى عنها وأنه رضى لنفسه أن تكون حياته الحاضرة والمقبلة امتداداً لهذه الحياة التي عاشها قروناً طويلة، هذه الحياة التقليدية البعيدة عن روح العلم والنقد والفهم الصحيح والتي هي بعيدة أيضاً عن مسايرة الحياة والناس والزمان.

ومجلة الأزهر على هذا يجب أن تكون ميداناً من ميادين هذا التوجيه الإصلاحي الجديد لحياة الدينية في مصر والشرق.

محمود الشرقاوي

ص: 45

‌القصص

قدح من الشاي

للكاتبة الإنجليزية كاترين مانسفيلد

(كاترين مانسفيلد كاتبة إنجليزية ولدت في نيوزيلندا في سنة

1890.

ثم سافرت إلى لندن حيث تلقت تعليمها وأتمت ثقافتها

ثم بدأت حياتها الأدبية إلى أن ماتت في 1923.

واشتهرت الكاتبة بقصصها التي تعني فيها بتحليل الشخصيات تحيلا قليلاً دقيقاً في أسلوب لا يعرف الرحمة ولا الرأفة وإن كان يجمع في ظاهرة بين الرقة والتهكم وبين العذوبة والمرارة.

وفي هذه القصة تحليل الكاتبة لشخصية امرأة يتملكها الغرور وتتحكم فيها الغيرة وحاولت القيام بمغامرة تظهر فيها الكرم والعطف والحنان حتى تعارضت هذه الصفات الأخيرة مع غرورها وغيرتها فأقلعت عن مغامراتها وارتدت إلى طبيعتها الأصلية.).

لم تكن روزماري جميلة كل الجمال، فلا تستطيع أن تعدها جميلة. قد تكون حلوة إذا فحصتها قطعة قطعة. . . ولكن لماذا تبلغ قسوتك إلى حد تقطيعها إربا؟ فقد كانت في ميعه الصبا، ذكية،، مطلعة، عصرية، أنيقة. وكانت حفلاتها ألذ مزيج من أبرز الشخصيات. . . والفنانين - مخلوقات نادرة اكتشفتها بنفسها. . .

وكانت روزماري متزوجة من رجل يحبها حباً شديداً؛ وكان الزوجان غنيين كل الغنى؛ فإذا أرادت روزماري أن تبتاع شيئاً ذهبت إلى باريس كما تذهب أنت وأنا إلى شارع بوند، وإذا أرادت أن تشتري بعض الأزهار وقفت بها السيارة أما أفخم المحال في شارع ريجنت، وقالت روزماري وهي في المحل بطريقتها المدهشة (أريد هذه المجموعة وهذه وهذه، وأعطني أربع باقات من هذا النوع وأصيص الورد ذاك. . . نعم سآخذ كل ما فيها. لا. . . دع النرجس فمنظره لا يروقني).

فيحني العامل رأسه ويخفي النرجس عن النظر كما لو كان ما قالت عنه هو الحقيقة. ثم تتبعها إلى السيارة عاملة نحيلة تترنح بما على ذراعيها من باقة بيضاء تشبه طفلا في

ص: 46

ملابسه الطويلة.

ذهبت روزماري في يوم من أيام الشتاء لشراء شيء من محل تحف أثرية وكان يعجبها ذلك المحل لمبالغة صاحبة في التلطف في خدمتها، فكان يشرق وجهه عند دخولها ويقبض يديه ويكاد لا ينطق من فرط احترامه لها وإعجابه بها. وكل هذا تملق طبعا.

وبدأ الرجل كعادته يشرح لها بصوت كله هدوء، وحركات كلها احترام (إني أعتز بتحفي فأفضل ألا أبيعها أبدا على أن أبيعها لشخص لا يقدرها حتى قدرها أو لشخص يفتقر إلى حاسة تذوق الجمال) ثم تنهد وأخرج علبة من القطيفة الزرقاء وضغطها على المائدة الزجاجية بأطراف أصابعه الشاحبة.

وما كان ليحتفظ لها بهذه العلبة الصغيرة التي لم يعرضها على أحد قبلها إلا لندرتها ودقة صنعها وبهاء صقلها.

وأخرجت روزماري يديها من القفاز الطويل لتفحص هذه العلبة التي أعجبت بها وأحبتها وصممت على اقتنائها ثم لاحظت جمال يديها على القطيفة الزرقاء وهي تفتح العلبة وتقفلها. وربما جرؤ البائع أن يلحظ هذه الملاحظة عينها في نفسه لأنه تناول قلما وانحنى على المائدة وزحفت أصابعه الشاحبة لي تلك الأصابع الوردية المتوهجة وقال بلطف (لو سمحت لي سيدتي أن أريها الأزهار على غطاء العلبة).

فأبدت روزماري إعجابها بالأزهار وتساءلت عن الثمن. بيد أن البائع لم يسمعها في اللحظة الأولى. وأخيراً طرق سمعها (28 جنيهاً يا سيدي).

(28جنيها؟) لم تنبس روزماري بينت شفة ووضعت العلبة ولبست قفازها (28 جنيهاً) حتى إذا كان المرء غنيا؟. . . واضطربت روزماري وحملقت في إبريق شاي ضخم يعلو رأس الرجل وأجابت بصوت حالم (حسنا، أيمكنك أن تحتفظ بها لي؟ - سوف. . .).

ولكن البائع انحنى كما لو كان احتفاظه بها لها واجباً معروفاً وخرجت روزماري وأوصدت وراءها الباب وتأملت في الجو الممطر، وكان المطر يتساقط رذاذا وبدأ الظلام يخيم على الدنيا كالرماد المتهاوي، واشتد البرد وبدت المصابيح المضاءة حزينة وكانت الأنوار في المنازل المقابلة معتمة تحترق كأنها تتحسر على فقد شيء وكان الناس يتعجلون السير وقد شرعوا مظلاتهم.

ص: 47

وشعرت روزماري بألم غريب وضغطت بقفازها على صدرها وتمنت لو أن العلبة الصغيرة كانت معها لتتعلق بها أيضاً. ثم نظرت إلى سيارتها التي كانت تنتظرها في الشارع وفكرت في الذهاب إلى المنزل لتناول الشاي.

ولكن في لحظة تفكيرها في ذلك جاءتها من حيث لا تدري فتاة نحيلة قاتمة اللون وقفت قرب مرفقها وصدر منها صوت اقرب إلى الأنين منه إلى التنهد (أيمكنني أن أتحدث إليك لحظة يا سيدتي؟).

قالت روزماري (تتحدثين إلي أنا؟) ولتفت لترى مخلوقاً صغيراً مهدوما ذا عينين جاحظتين تتعلق يداه المحمرتان بياقة معطفها ويرتعش كما لو كان قد خرج توا من الماء.

تلجلج الصوت وقال (سيدتي! أسألك ثمن قدح من الشاي).

(قدح من الشاي؟) ولما كان في ذلك الصوت بساطة وإخلاص لا يجتمعان في صوت شحاذ سألتها روزماري (إذن ليس معك نقوداً أبداَ؟).

(أبداً يا سيدتي).

(يا للعجب) وتنهدت روزماري وتطلعت إلى الظلام وحملقت الفتات في وجهها.

وفجأة تصورت روزمارى مغامرة أوحت إليها بها هذه المقابلة في الظلام تشبه شيئا من رواية للكاتب العظيم دستوفسكي. لتفرض أنها صحبت هذه الفتاة إلى منزلها؟ ماذا كان يحدث لو أنها عملت شيئا مما طالما طالعته في الكتب ورأته على المسرح؟ سوف يكون شيئا رائعا. . . ثم خطت روزمارى إلى الأمام وقالت للفتاة (تعالي إلى منزلي لتتناولي الشاي معي).

فصعقت الفتاة لهذا العرض المدهش وارتعشت من شدة الاضطراب فمدت روزمارى يدها ولمست ذراعها وقالت وهي تبتسم (إني أعني ما أقول) وشعرت بمبلغ بساطة ابتسامتها ورقتها فأضافت (ولم لا؟ افعلي. تعالي معي في سيارتي).

أجابت الفتاة بصوت مفعم بالألم والحزن: (انك لا تعنين ما تقولين يا سيدتي).

فصاحت روزمارى: (ولكن جادة فأنا أريدك أن تفعلي أرجوك أن تأتي معي).

وضعت الفتاة أصابعها على شفتيها وأنعمت النظر في روزمارى وتساءلت بصوت متلجلج

(أتأخذينني للبوليس؟).

ص: 48

(البوليس!. . . ولم ذا تبلغ قسوتي هذا الحد؟ لا، لا. فكل ما أريد هو أن أدفئك وأسمع منك أي

شيء يهمك أن تقصيه على).

ولما كان من السهل قيادة الجياع تبعت الفتاة روزمارى إلى سيارتها.

وامتلأت روزمارى بشعور النصر وكادت تقول (الآن ظفرت بك) وهي تحملق في الأسيرة الصغيرة. ولكن ذلك لم يجردها من رقة شعورها وعطفها بل أرادت أن تثبت لهذه الفتاة أن أشياء عجيبة قد تحدث في الحياة وأن للأغنياء قلوبا وأن النساء أخوات.

ثم التفتت روزمارى مهتاجة قائلة (لا تخافي ولم لا تجيئين معي؟ أنا امرأة مثلك وان كنت منك حالا. فعليك أن تنتظري مني. . .).

وفي تلك اللحظة وقفت السيارة لحسن حظها لأنها لم تعرف كيف تنهي هذه الجملة. ثم دق الجرس وفتح الباب ودفعت روزمارى الفتاة إلى داخل الصالة بحركة لطيفة تكاد تكون عناقا وهي تقول:

(تعالي إلى الطابق الثاني. تعالي إلى غرفتي) وأرادت أن تحمي هذا المخلوق من نظرات الخدم فصممت وهما تصعدان الدرج على ألا تدق الجرس لخادمتها جان وعلى أن تخلع ملابسها بنفسها.

صاحت روزمارى عندما وصلا إلى غرفة نومها الجميلة بستائرها المسدلة ووسائدها المذهبة ونمارقها الزرقاء والنار تضئ ما حولها من أثاث فخم والأزهار تملأ الغرفة عبيرا حلوا: هانحن هاتان!

لم تعبأ روزمارى بوقوف الفتاة مذهولة على الباب وجرت مقعدها المريح نحو النار وصاحت (تعالي اجلسي على هذا المقعد المريح. تعالي ليدب الدفء إلى فيبدو عليك أنك تنوئين تحت وطأة البرد).

قالت الفتاة وهي تتراجع إلى الوراء (أنا لا أجرؤ يا سيدتي).

فتقدمت روزوماري إلى الأمام وقالت: (أرجوك يجب ألا تخافي اجلسي. وعندما أنتهي من خلع ملابسي سننتقل إلى الغرفة المجاورة لنحتسي الشاي. مم تخافين؟) ودفعت الهيكل النحيل في مهده العميق.

ص: 49

ولم يصدر من الفتاة جواب، بل بقيت كما أجلست، يداها إلى جانبيها وفمها مفتوح قليلا، وإذا شئنا الإخلاص في الوصف قلنا إنها بدت غبية. ولكن روزماري لم تعترف بذلك وانحنت عليها قائلة (ألا تخلعين قبعتك؟ إن شعرك الجميل مبلل ويحس المرء كثيراً من الراحة وهو عاري الرأس. . . أليس كذلك).

فخلعت الفتاة القبعة البالية وهي تقول همساً: (حسناً سيدتي) فقال روزماري: (دعيني أساعدك على خلع معطفك منك أيضاً).

فوقفت الفتاة ولكنها أمسكت المقعد بإحدى يديها وتركت روزماري تنزع عنها المعطف؛ ولكنها تذكرت أنه إذا رام الناس العون فعليهم أن يضحوا ولو قليلاً وإلا تعذر العون في الحقيقة. وماذا كانت تفعل بالمعطف الآن؟ تركته على الأرض مع القبعة.

ولما همت بتناول سيجارة من علبتها المعدنية قالت الفتاة بسرعة ولكن بخفة وغرابة (معذرة يا سيدي، لا سيغشى علي سأموت إن لم آخذ شيئاً يا سيدتي).

(يا الله! كم أنا طائشة) وأسرعت نحو الجرس (شاي! شاي بسرعة! وقليل من الكونياك في الحال).

وكانت الخادمة قد مضت ولكن الفتاة كادت تصحيح (لا، لا أريد خمراً فأنا لا اشربها أبداً. إنه قدح من الشاي الذي أريد يا سيدتي) ثم انفجرت في البكاء.

كانت لحظة مؤلمة ساحرة. جثت روزماري بجانب مقعدها وقالت (لا تبك أيها الشيء الصغير الضعيف. لا تبك (وقدمت إليها منديلها الحريري ولفت ذراعها حول تلك الأكتاف العصفورية النحيلة.

وأخيراً نسيت الفتاة الخجل، نسيت كل شيء إلا أن كلتيهما امرأة فقالت (لا أستطيع الاستمرار على هذه الحال. لا أحتمل. سأموت جوعاً).

(لن تموتي جوعاً فسأعنى بك. لا تبكي. ألا ترين كم كان جميلاً أنك قابلتني. سنحتسي الشاي معاً وستخبرينني بكل شيء وأعدك أن أدبر لك أمرك أرجو أن تكفي عن البكاء لأنه شيء مضن).

وكفت عن البكاء عندما وقفت روزماري قبل حضور الشاي لتضع المنضدة بينهما. ثم زودت المخلوق الصغير الضعيف بكل شيء، جميع أنواع الشطائر والخبز والزبد، ولما

ص: 50

فرغ قدحها ملأته لها بالشاي والحليب والسكر فطالما قال الناس إن السكر منعش جداً. أما روزماري نفسها فلم تأكل بل كانت تدخن وتنظر للخارج عمداً حتى لا تخجل الأخرى.

وفي الحقيقة كان مفعول تلك الأكلة الخفيفة عجيباً. فلما حملت منضدة الشاي خارجاً كان يتمدد على المقعد إنسان جديد، مخلوق خفيف ضعيف ذو شعر مجعد وشفاء قاتمة وعيون غائرة مضيئة، كان يتمدد هذا المخلوق في نوع من الاسترخاء الحلو ناظراً إلى اللهب متأملا فيه.

وأشعلت روزماري سيجارة جديدة وبدأت حديثها بكل لطف (ومتى تناولت آخر أكلة؟) ولكن في تلك اللحظة تحرك مقبض الباب وسمع صوت من الخارج (رزوماري! أيمكنني الدخول؟) كان هذا زوجها فيليب.

أجابت روزماري (طبعاً).

دخل فيليب ووقف محملقاً بضع لحظات ثم قال (إني آسف لإزعاجكما).

(لا داعي للأسف فكل شيء على ما يرام (هذه صديقتي الآنسة. . .).

(سميث، يا سيدتي).

قالت روزماري (سميث وسنتجاذب أطراف الحديث لمدة قصيرة).

قال فيليب (حسنا)، ولاح بصره المعطف والقبعة على الأرض، ثم اتجه نحو النار وأدار ظهره إليها (إنه مساء كئيب) قال ذلك بغرابة مصوباً نظره نحو الشبح المتغافل ثم نحو روزماري ثانية.

فقالت روزماري بلهجة غير عادية (نعم. أليس كذلك؟).

فابتسم فيليب ابتسامته الساحرة الساخرة وقال لزوجته (في الحقيقة أود أن تجيئي إلى المكتبة لحظة. هل تسمح لنا الآنسة سميث؟).

فحدقت العينان الكبيرتان الغائرتان في فيليب ولكن روزماري أسرعت وأجابت عنها قائلة (طبعاً تسمح) ثم خرجا من الغرفة معاً.

ولما انفردا قال فيليب (وضحي لي من هي، وما معنى كل هذا؟).

فاستندت روزماري إلى الباب وهي تضحك قائلة (التقطتها من الشارع. سألتني ثمن قدح الشاي فأحضرتها معي إلى هنا).

ص: 51

فصاح فيليب (ولكن بالله عليك ماذا أنت فاعلة بها؟).

فقالت (كن لطيفاً معها) كن رقيقاً إلى أقصى حد. . . اعتن بها لا أعرف كيف. . . لم نتحدث بعد. . . لم نتحدث بعد. . . ولكن أظهر لها - عاملها - اجعلها تشعر -)

أجاب فيليب (يا طفلتي العزيزة! أتعرفين أنك مجنونة تماما! إن هذا الذي تطلبين شيء يستحيل عمله).

فأجابت روزماري (كنت على يقين من أنك ستقول ذلك ولكن لم لا؟ أريدك أن تعمله؟ أليس هذا سبباً؟ وعلاوة على ذلك يقرأ المرء دائما عن هذه الأشياء فصممت -).

فقال فيليب ببطء وهو يقطع طرف سيجارة (إنها حلوة للغاية).

(حلوة؟ ودهشت بل حنقت روزماري لدرجة أن وجهها احمر وقالت (أتظن ذلك؟ أنا - أنا لم أفكر في ذلك).

فأشعل فيليب ثقاب كبريت وقال (إنها رائعة لجمال. انظري ثانياً يا طفلتي لقد اهتزت مشاعري لما دخلت حجرتك الآن. وعلى كل حال. . . أظنك تخطئين خطأ كبيراً. إني آسف يا عزيزتي إن كنت أبدو وقحاً أو شابه ذلك ولكن عرفيني هل ستتناول الآنسة سميث طعام العشاء معنا في أثناء مطالعتي جريدة المساء؟).

قالت روزماري (يالك من مخلوق ماجن عابث!) وخرجت من المكتبة ولكن لم تعد إلى حجرة نومها بل ذهبت إلى مكتبتها. وهي تردد: (حلوة! رائعة الجمال! اهتزت مشاعري! حلوة! جميلة!).

أخرجت روزماري دفتر شيكاتها، وغنى عن القول أنه لا قيمة للشيكات في هذه الحال. ففتحت درجاً وأخذت خمسة جنيهات ونظرت إليها وردت منها اثنين ثم رجعت إلى غرفة نومها ممسكة بالثلاثة الباقية في يدها.

وبعد نصف ساعة كان فيليب لا يزال في المكتبة لما دخلت روزماري وهي تقول وقد استندت إلى الباب ثانية ونظرت إليه بتفرسها المدهش المصطنع: (إن الآنسة سميث لن تتناول طعام العشاء معنا هذا المساء).

فوضع فيليب الجريدة جانياً وقال (آه! ما الذي حدث؟ موعد سابق؟).

فجاءت روزماري وجلست على ركبتيه وقالت (أصرت على الذهاب فأعطيتها منحة مالية.

ص: 52

لم أستطيع أن أبقيها برغم إرادتها).

ثم أضافت بلين (أكنت أستطيع أن أفعل).

وكانت روزماري قد سوت شعرها تواً وكحلت عينيها قليلاً وتحلت بجواهرها فبدت رائعة الجمال عندما رفعت يديها ولمست خدود فيليب وقالت (أتحبني؟).

فأعجبته نغمتها الحلوة ولكن أزعجه صوتها الأجش فقال (أحبك حباً عنيفاً) وضمها إلى صدره (قبليني يا روزماري).

ثم سادت جو الحجرة فترة سكون قصعتها روزماري بصوت حالم (رأيت علبة صغيرة فاتنة اليوم ثمنها 28 جنيهاً أأستطيع شراءها؟).

فأجابها فيليب (تستطيعين أيتها الصغيرة المبذرة).

ولكن لم يكن ذلك ما أرادت أن تقوله روزماري في الحقيقة فإنها همست في أذن زوجها وضمت رأسه إلى صدرها وقالت (هل أنا جميلة يا فيليب؟).

بولس عبد الملك

بمعهد الصحافة بالجامعة الأمريكية

ص: 53