الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 69
- بتاريخ: 29 - 10 - 1934
لجنة التأليف والترجمة والنشر
كيف نشأت فكرة هذه اللجنة؟
بمناسبة عيدها الفضي
بقلم الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم بالجامعة المصرية وعضو
اللجنة
لابد لمن يريد أن يفهم كيف نشأت لجنة التأليف والترجمة والنشر أن يرجع إذا أمكنه العمر، وأسعدته الذاكر، إلى حال مصر منذ عقدين، أي إلى عام 1914 حين تأسست اللجنة، لا، بل لابد له أن يرجع بذاكرته إلى عقد أو بعض عقد قبل ذلك، أيام كانت الكثرة من أعضاء اللجنة المؤسسين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة، تلك السن الحساسة التي فيها يتصل اليافع بالحياة العامة لاول مرة، يتصل بها بقلبه اكثر من عقله، ويهتز عنيفا بحوادث قلما يفقه كنه أسبابها ومراميها. ففي تلك السنوات صاح أول صائح أسمع بالاستقلال، فسمعنا صوته خافتا في حجرات الفصول الابتدائية، أو سمعناه أكثر وضوحا وأعلى نبرة في حجرات الفصول الأولى من المدارس الثانوية، ثم شاء الله أن يذهب بصاحب الصوت ويؤثره بجواره، فكانت لانتقاله من الدار إلى الدار رنة جزع دوت في مصر والصعيد، وأنتجت ذلك المشهد الخالد الذي بدأ كالبحر الزاخر عند (لازوغلي)، ثم سال في شوارع القاهرة خاشعاً صامداً إلا صوتاً يوحد الله، فبلغ الصحراء وما زال في المنبع فيض، وأبت المدارس على الطلبة الخروج، فحطمت أبواب وفتحت قسرا نوافذ، ورأينا جبار المعارف يطل على المشهد الرهيب من وراء حجاب وهو لا يكاد يصدق عينيه
ذلك هو الحدث الأول الذي فتح للعيون الصغيرة أول كوة تطل منها على شيء يسمى وطنا، وعلى ناس فيه بائسين يسموني أهلا، وهو أول صدع في القلوب الصغيرة فتح فيها مدخلا لحب الخير ورعاية الغير، وقد كنا ربينا تربية من لون العصر الذي نعيش فيه، لا تعين على الأكثر إلا حب الذات، والاستعداد للرزق عن طريق المرتبات
وجاء من بعد ذلك هذا الحدث أحداث، ونحن نتماشى معها حدثاً حدثاً، وجاءت من بعد هذا
على الشرق، أو على تركيا ممثلة الشرق نوازل، ونحن نتبعها نازلة نازلة، فكانت حرب البلقان وكانت حرب الطليان، وجرت الشائعات بالمزعجات، وتجهم المستقبل، فغلت تلك القلوب الطرية الشابة، فكانت جماعات، وكانت اجتماعات، وكانت مظاهر للإخلاص لا تكون إلا في عهد النبوة، وحوادث للتجرد من منافع النفس لا تكون إلا بوحي السماء، وكانت أراء، وكانت خطط للمستقبل اتسعت لها قلوبنا الكبيرة، واتسعت لها كذلك رؤوسنا الصغيرة، وضاقت بها ممكنات الحياة، وأخذ العود اللين يشتد، والبصر القاصر يمتد، والرأي الفطير يختمر، والخيال العالي يهبط من لازورد السماء سواد الأرض، حتى جاءت الحرب العظمى، فلم يكن بد في مصر من طلب النهضة من أوثق السبل وأقربها من مظاهر المسالمة والسلام، من طريق بث العلم بكل وسائل البث، ونشر الثقافة بكل أساليب النشر، فتألفت لجنة التأليف والترجمة والشر من نفس ذلك النفر الذي كوته الحوادث، وصهرته التجارب، وميزته الآلام
(كم ربحنا من الحلبة هذا العام يا فريد؟) و (كم خسرنا في الفول يا يوسف؟) تلك كانت بضاعة اللجنة الأولى، وذلك رأس مالها الذي كان، جمعته من قروش بقدر ما سمحت به أكياسهم الخفيفة منذ عشرين عاما، ولم يكن لها مقر إلا بيوت متواضعة هي منازل أعضائها. وارتأوا تأليف الكتب المدرسية والشعبية، وفاضوا بينها، ونزلوا بحكم الحاجة إلى المال إلى أقرب الصنفين مكسبا، فبدأوا بالمدرسية، رجاء أن ينفق من أرباحها على الكتب الشعبية، فكان أول كتاب أخرجته كتاب (مبادئ الكيمياء للمدارس الثانوية)
هذه هي اللجنة إلى حين إنتاجها أول نتاج لها، وهذه إشارة خفيفة إلى تاريخ نشأتها، وفي تتبع تفصيلات هذه النشأة تتبع لبعض تفاصيل النهضة المصرية في ذلك الأوان، فليس تاريخ اللجنة تاريخ أفراد، ولو كان كذلك لهان، وإنما هو فصل موجز من تاريخ هذا البلد، وقطعة صغيرة من نهضة هذه الأمة، ومرآة يرى الرائي فيها بعض آثار ذلك الزمان.
أحمد زكي
رؤيا في السماء
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال أبو الخالد الأحوال الزاهد: لما ماتت امرأة شيخنا أبي ربيعة الفقيه الصوفي، ذهبت مع جماعة من الناس فشهدنا امرها؛ فلما فرغوا من دفنها وسوى عليها، قام شيخنا على قبرها وقال: يرحمك الله يا فلانة! الآن قد شفيت أنت ومرضت أنا، وعوفيت وابتليت، وتركتني ذاكرا وذهبت ناسيا، وكان للدنيا بك معنى، فستكون بعدك بلا معنى؛ وكانت حياتك لي نصف القوة، فعاد موتك لي نصف الضعف؛ وكنت أرى الهموم بمواساتك هموما في صورها المخففة، فستأتيني بعد اليوم في صورها المضاعفة؟ وكان وجودك معي حجابا بيني وبين مشقات كثيرة، فستخلص كل هذه المشاق إلى نفسي؛ وكانت الأيام تمر اكثر ما تمر في رقتك وحنانك، فستأتيني اكثر ما تأتي متجردة في قسوتها وغلظتها. أما أنا والله لم أرزأ منك في امرأة كالنساء، ولكني رزئت في المخلوقة الكريمة التي أحسست معها أن الخليقة كانت تتطلف بي من أجلها!
قال أبو الخالد: ثم استدمع الشيخ، فأخذت بيده ورجعنا إلى داره، وهو كان اعلم يما يعزى الناس بعضهم بعضا، واحفظ لما ورد في ذلك؛ غير أن الكلام ساعات تبطل فيها معانيه أو تضعف، إذ تكون النفس مستغرقة الهم في معنى واحد قد انحصرت فيه، إما من هول الموت، أو حب وقع فيه من الهول ظل الموت، أو رغبة وقع فيها ظل الحب، أو لجاجة وقع فيها ظل الرغبة. فكنت أحدثه واعزيه، وهو بعيد من حديثي وتعزيتي؛ حتى انتهينا إلى الدار فدخلنا وما فيها أحد؛ فنظر يمنة ويسرة، وقلب عينيه ههنا وههنا، وحوقل واسترجع، ثم قال: الآن ماتت الدار أيضا يا أبا خالد! إن البناء كأنما يحيا بروح المرأة التي تتحرك في داخله؛ وما دام هو الذي يحفظها للرجل، فهو في عين الرجل كالمطرف تلبسه فوق ثيابها من فوق جسمها: وانظر كم بين أن ترى عيناك ثوب امرأة في يد الدلال في السوق، وبين أن تراه عيناك يلبسها وتلبسه! ولكنك يا أبا خالد لا تفقه من هذا شيئا، فأنت رجل آليت لا تقرب النساء ولا يقربنك، ونجوت بنفسك منهن وانقطعت بها لله؛ وكأن كل نساء الأرض قد شاركن في ولادتك فحرمن عليك! وهذا مالا افهمه أنا إلا ألفاظا، كما لا تفهم أنت ما أجده الساعة إلا ألفاظا؛ وشتان بين قائل يتكلم من الطبع، وبين سامع يفهم
بالتكلف.
فقلت له يا أبا ربيعة، وما يمنعك الآن وقد أطرحت أثقالك وانبتب أسبابك من النساء - أن تعيش خفيف الظهر، وتفرغ للنسك والعبادة، وتجعل قلبك كالسماء انقشع غيمها فسطعت فيها الشمس؛ فإنه يقال: إن المرأة ولو كانت صالحة قانتة - فهي في منزل الرجل العابد مدخل الشيطان اليه، ولو أن هذا العابد كان يسكن في حسناته لا في دار من الطوب والحجارة لكانت امرأته كوة يقتحم الشيطان منها. ولقد كان آدم في الجنة، وبينهما وبين الأرض سماوات وأفلاك، فما منع ذلك أن تتعلق روح الأرض بالشيطان، فيتعلق الشيطان بحواء، وتتعلق هي بآدم؛ ومكر الشيطان فصور لهما في صيغة مسئلة علمية، ومكرت حواء فوضعت فيها جاذبية اللحم والدم، فلم تعد مسئلة علم ومعرفة، بل مسئلة طبع ولجاجة. فأكَلا منها فَبدَتْ لهما سَوْءَاتُهُمَا. وهل اجتمع الرجل والمرأة من بعدها على الأرض إلا كانا من نصب الحياة وهمومها، وشهواتها ومطامعها، ومضارها ومعايبها - في معنى (بَدَتْ لهما سَوَْآتُهُمَا). . .؟
كلانا يا أبا ربيعة ممن لهم سير بالباطن في هذا الوجود غير السير بالظاهر، وممن لهم حركة بالفكر غير الحركة بالجسم؛ فقبيح بنا أن نتعلق أدنى متعلق بنواميس هذا الكون اللحمي الذي يسمى المرأة؛ فهو تدل وإسفاف منا. ولعلك تقول:(النسل وتكثير الآدمية.) فهذا إنما كتب على إنسان الجوارح والاعضاء، أما إنسان القلب فله معناه وحكم معناه؛ إذ يعيش بباطنه، فيعيش ظاهره في قوانين هذا الباطن، لا في قوانين ظاهر الناس. وإنه لشر كل ما نقلك إلى طبع أهل الجوارح وشهواتهم، فزين لك ما يزين لهم، وشغلك بما يشغلهم؛ فهذا عندنا - يرحمك الله - باب كأنه من أبواب المجون الذي ينقل الرجل إلى طبع الصبي.
فاطمس يا أخي على موضعها من قلبك، وألق النور على ظلها؛ فالنور في قلب العابد نور التحويل إن شاء، ونور الرؤية إن شاء، يرى به المادة كما يريد أن تكون لا كما تكون. وأنت قد كانت فيك امرأة، فحولها صلاة وأعمل بنورك عكس ما يعمل أهل الجوارح بظلامهم، فقد تكون في أحدهم الصلاة فيحولها امرأة. . .
قال أبو ربيعة: تالله أنه لرأي؛ والوحدة بعد الآن أروح لقلبي، وأجمع لهمي؛ وقد خلعني الله
مما كنت فيه، وأخذ القبر امرأتي وشهواتي معا، فسأعيش ما بقي لي فيما بقي مني. وزوال شئ في النفس هو وجود شيء آخر. ولقد انتهيت بالمرأة ومعانيها وأيامها إلى القبر، فالبدء الآن من القبر ومعانيه وأيامه.
وتواثقا على أن يسيرا معا في (باطن) الوجود. . .! وأن يعيشا في عمر هو ساعة معدودة اللحظات، وحياة هي فكرة مرسومة مصورة. قال أبو خالد: ورأيت أن أبيت عنده وفاء بحق خدمته، ودفعا للوحشة أن تعاوده فتدخل على نفسه بأفكارها ووساوسها. وكان قد غمرنا تعب يومنا، وأعيا أبو ربيعة وخذلته القوة؛ فلما صلينا العشاء قلت: يا أبا ربيعة، أحب لك أن تنعس فتريح نفسك ليذهب ما بك، فإذا استجممت أيقظتك فقمنا سائر الليل.
فما هو إلا أن اضطجع حتى غلبه النعاس. وجلست أفكر في حاله وما كان عليه وما اجتهدت له من الرأي؛ وقلت في نفسي: لعلني أغريته بما لا قبل له به، وأشرت عليه بغير ما كان يحسن بمثله فأكون قد غششته. وخامرني الشك في حالي أنا أيضا، وجعلت أقابل بين الرجل متزوجا عابدا، وبين الرجل عابدا لم يتزوج؛ وأنظر في ارتياض أجدهما بنفسه وأهله وعياله، وارتياض الآخر بنفسه وحدها؛ وأخذت أذهب وأجئ من فكر إلى فكر، وقد هدأ كل شئ حولي كأن المكان قد نام، فلم ألبث حتى أخذتني عيني فنمت واستثقلت، كأنما شددت شداً بحبال من النوم لم يجئ من يقطعها.
ورأيت في نومي كأنها القيامة وقد بعث الناس وضاق بهم المحشر، وأنا في جملة الخلائق، وكأننا من الضغطة حب مبثوث بين حجري الرحى. هذا والموقف يغلي بنا غليان القدر بما فيها، وقد أشتد الكرب وجهدنا العطش، حتى ما منا ذو كبد إلا وكأن الجحيم تتنفس على كبده، فما هو العطش بل هو السعار واللهب يحتدم بهما الجوف ويتأجج.
فنحن كذلك إذا ولدان يتخللون الجمع الحاشد، عليهم مناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، يملئون هذه من هذه بسلسال برود عذب، رؤيته عطش مع العطش، حتى ليلتوي من رآه من الأم، ويتلعلع كأنما كوى به على أحشائه.
وجعل الولدان يسقون الواحد بعد الواحد ويتجاوزون من بينهما وهم كثرة من الناس، وكأنما يتخللون الجمع في البحث عن أناس بأعيانهم ينضحون غليل أكبادهم بما في تلك الأباريق من روح الجنة ومائها ونسيمها.
ومر بي أحدهم، فمددت إليه يدي وقلت:(أسقني فقد يبست واحترقت من العطش!)
قال: (ومن أنت؟)
قلت: (أبو خالد الأحول الزاهد.)
قال: (آلك من أطفال المسلمين ولد افترطته صغيراً فاحتسبته عند الله؟)
قلت: (لا. . .)
قال: (ألك ولد كبر في طاعة الله؟)
قلت: (لا. .)
قال: (ألك ولد نالتك منه دعوة صالحة جزاء حقك عليه في إخراجه إلى الدنيا؟)
قلت: (لا. .)
قال: (ألك ولد من غير هؤلاء ولكنك تعبت في توميه، وقمت بحق الله فيه؟)
قلت: (يرحمك الله، إني كلما قلت (لا) أحسست (لا) هذه تمر على لساني كالمكواة الحامية. . .)
قال: (فنحن لا نسقي إلا إباءنا، تعبوا لنا في الدنيا، فاليوم نتعب لهم في الآخرة؛ وقدموا بين يديهم الطفولة، وإنما قدموا السنةً طاهرةً للدفاع عنهم في هذا الموقف الذي قامت فيه محكمة الحسنة والسيئة. وليس هنا بعد ألسنة الأنبياء أشد طلاقة من ألسنة الأطفال، فما للطفل معنى من معاني آثامكم يحتبس فيه لسانه أو يلجلج به)
قال أبو خالد: فجن جنوني، وجعلت أبحث في نفسي عن لفظة (ابن) فكأنما مسحت الكلمة من حفظي كما مسحت من وجودي؛ وذكرت صلاتي وصيامي وعبادتي، فما خطرت في قلبي حتى ضحك الوليد ضحكاً وجدت في معناه بكائي وندمي وخيبتي
وقال يا ويلك أما سمعت: (إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام، ويكفرها الغم بالعيال.) أتعرف من أنا يا أبا خالد؟
قلت: من أنت يرحمنا الله بك؟
قال: أنا ابن ذلك الرجل الفقير المعيل، الذي قال لشيخك إبراهيم بن أدهم العابد الزاهد:(طوبى لك فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة.) فقال له إبراهيم: (لروعة تنالك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه. . .). وقد جاهد أبي جهاد قلبه وعقله وبدنه، وحمل على نفسه
من مقاساة الأهل والولد حملها الإنساني العظيم، وفكر لغير نفسه، وأغتم لغير نفسه، وعمل لغير نفسه، وآمن وصبر ووثق بولاية الله حين تزوج فقيراً، وبضمان الله حين أعقب فقيراً؛ فهو مجاهد في سبل كثيرة لا في سبيل واحدة كما يجاهد الغزاة؛ هؤلاء يستشهدون مرة واحدة، أما هو فيستشهد كل يوم مرة في همومه بنا، واليوم يرحمه الله بفضل رحمته إيانا في الدنيا. أما بلغك قول أبن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو:(أتعلمون عملا أفضل مما نحن فيه؟ قالوا: ما نعلم ذلك. قال: أنا اعلم. قالوا فما هو؟ قال: رجل متعفف على فقره ذو عائلة قد قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين، فسترهم وغطاهم بثوبه؛ فعمله أفضل مما نحن فيه. . .)
يخلع الأب المسكين ثوبه على صبيته ليدفئهم به ويتلقى بجلده البرد في الليل. إن هذا البرد - يا أبا خالد - تحفظه له الجنة هنا في حر هذا الموقف، كأنها مؤتمنة عليه إلى أن تؤديه. وإن ذلك الدفء الذي شمل أولاًده يا أبا خالد - هو هنا يقاتل جهنم ويدفعها عن هذا الأب المسكين. قال أبو خالد: ويهم الوليد أن يمضي ويدعني، فما أملك نفسي، فأمد يدي إلى الإبريق فأنشطه من يده، فإذا هو يتحول إلى عظم ضخم قد نشب في كفي وما يليها من أسلة الذراع فغابت فيه أصابعي، فلا أصابع لي ولا كف. وأبى الإبريق أن يسقيني وصار مثله بي، وتجسدت هذه الجريمة لتشهد علي، فأخذني الهول والفزع، وجاء إبريق من الهواء، فوقع في يد الوليد، فتركني ومضى
وقلت لنفسي: ويحك يا أبا خالد ما أراك إلا محاسبا على حسناتك كما يحاسب المذنبون على سيئاتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وبلغتني الصيحة الرهيبة: أين أبو خالد الأحوال الزاهد العابد؟
قلت: هأنذا.
قيل: طاووس من طواويس الجنة قد حص ذيله فضاع أحسن ما فيه! أين ذيلك من أولاًدك وأين محاسنك فيهم، أخلقت لك المرأة لتتجنبها، وجعلت نسل أبويك لتتبرأ أنت من النسل؟
جئت من الحياة بأشياء ليس فيها حياة؛ فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت منها وانهزمت عن ملاقتها، ثم أنت تأمل جائزة النصر على هزيمة. .!
عملت الفضيلة في نفسك ونشأتك ولكنها عقمت فلم تعمل بك. لك ألفً ألف ركعة وممثلها
سجدات من النوافل، والخير منها كلها أن تكون قد خرجت من صلبك أعضاء تركع وتسجد. قتلت رجولتك، ووأدت فيها النسل، ولبثت طوال عمرك ولداً كبيراً لم تبلغ مرتبة الأب! فلئن أقمت الشريعة، لقد عطلت الحقيقة، ولئن. . . . . .
قال أبو خالد: ووقعت غنة النون الثانية في مسمعي من هول ما خفت مما بعدها كالنفخ في الصور؛ فطار نومي وقمت فزعا مشتت اللب، كمن فتح عينيه بعد غشيته فرأى نفسه في كفن قبر سد عليه. . .!
وما كدت أعي وأنظر حولي وقد برق الصبح في الدار حتى رأيت أبا ربيعة يتقلب كأنما دحرجته يد، ثم نهض مستطار القلب من فزعه وقال: أهلكتني يا أبا خالد، أهلكتني والله.
قلت ما بالك يرحمك الله!
قال. إني نمت على تلك النية التي عرفت: أن أجمع قلبي للعبادة، وأخلص من المرأة والولد، ومن المعاناة لهما في مرمة المعاش والتلفيق بين رغيف ورغيف، وأن أعفي نفسي من لأوائهم وضرائهم وبلائهم لأفرغ إلى الله وأقبل عليه وحده. وسألت الله أن يخير لي في نومي؛ فرأيت كأن السماء قد فتحت، وكأن ر جالا ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضا، أجنحة وراء أجنحة؛ فكلما نزل واحد نظر إلي وقال لمن وراءه: هذا هو المشئوم!
فيقول الآخر: نعم هو المشئوم!
وينظر هذا الأخر إلي ثم يلتفت لمن وراءه ويقول له: هذا هو المشئوم!
فيقول الآخر: نعم هو المشئوم!
وما زالت (المشئوم، المشئوم) حتى مروا؛ لا يقولون غيرها ولا أسمع غيرها، وأنا في ذلك أخاف أن أسألهم، هيبةً من الشؤم، ورجاء أن يكون المشئوم إنساناً ورائي يبصرونه ولا أبصره. ثم مر بي آخرهم، وكان غلاماً. فقلت له: يا هذا، من هو المشئوم الذي تومئون إليه؟
قال: أنت!
فقلت: ولم ذاك؟
قال: كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك، وتحزنت على
ما فاتك من القيام بحقها فرفعنا عملك درجة أخرى؛ ثم أمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا!. . . . . .
إن سموا الرجل بنفسه عن الزوجة والولد طيران إلى الأعلى. . . ولكنه طيران على أجنحة الشياطين!
طيران الرجل إلى فوهة البركان الذي في الأعلى. .!
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
الشيخ علي يوسف
للأستاذ عبد العزيز البشري
في يوم 25 أكتوبر من سنة 1913والقلوب واجفة والأبصار زائغة ومصاير الأمور تتوائب للأوهام في صور مبهمة غامضة، تضطرب بين اليأس كله، وبيت الرجاء كله، والناس يتساءلون متهامسين من الخوف ومن الورع: ترى ماذا عسى أن يكون قسم مصر من هذه الحرب العامة، وماذا كتبت لها الأقدار في صفحتي الليل والنهار؟
في ذلك اليوم من تلك الأيام السوداء مات رجل ليس مثله في مصر كثير، رجل إذا أحبه ناس أشد الحب، فلأنه قوة كبيرةً في مصر. وإذا كرهه ناس أشد الكره، فلأنه قوة كبيرة في مصر، فالشيخ علي يوسف، على تفرق الأهواء فيه، كان قوة هائلة في هذه البلاد يحسب الناس جميعاً لها كل حساب
ولقد كنت من الذين أبغضوا علياً أبعد البغض، ثم كنت من الذين يحبونه أغلى الحب، ولا والله ما رأيته في حالي بغضي وحبي له إلا رجلاً عظيماً!
مات الشيخ علي يوسف في ذلك اليوم فما قامت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن تقوم، ولا قعدت الدنيا لموته كما ينبغي أن تقعد؛ بل لقد شيع ودفن كما يشيع ويدفن أوساط الناس، وكأن الناس لم يشيعوا فيه مفخرة من مفاخر مصر، ولا أودعوا الضريح كنزاً من كنوزها الثمان!
لا أقول أنه الإهمال السئ، ولكن أقول أنه الظرف السيء، ولكن أقول أنه الظرف السيئ ولا أريد المزيد
والآن تسأل الشباب المثقفين المتعلمين عن الشيخ علي يوسف وكيف كان خطبة في البلاد من إحدى وعشرين سنة فقط؛ فترى أقلهم من لا يعرف عنه كثيراً، وترى أكثرهم م لا يعرف عنه كثيراً ولا قليلاً!
أهكذا، وبهذه السرعة السريعة، تختفي سير الرجال عندنا كما تختفي الصور إذا ساد الظلام، أو كما تختفي أشباح الرؤى ساعة الهبوب من المنام؟
وإنني لأضيف الوزر في هذا أيضاً على الظروف. والحمد لله الذي جعل لنا من هذه (الظروف) تكأة نعتمد عليها كلما غشيتنا غاشية من الإهمال، أو طاف بنا طائف من سيئ
الأعمال!
ولقد قلد الشيخ علي منصب مشيخة السجادة الوفائية، فاستحق بهذا أن يسمى السيد علياً؛ وقلده الخليفة العثماني الرتبة الأولى من الصنف الثاني، فأستحق بذاك أن يدعى علي بك أو علي باشا يوسف؛ ولكنني لا أعبر عنه إلا بالشيخ علي يوسف. هذا الاسم الذي طالما رن في الآذان، وتجاوبت به الأصداء من كل مكان: الشيخ علي يوسف! الشيخ علي يوسف! وحسبه بهذا لقباً، بعد ما أعتز بنفسه حسباً، وكرم بالرسول الأعظم نسباً
كان الشيخ علي يوسف رجلاً عصامياً بأوفى معاني الكلمة. نجم في (بلصفورة) من بلاد مديرية جرجا، في أسرة إذا كرم أصلها فقد رقت حالها. ولا تنس أن المال هو كل شئ في هذا الزمان. وتعلم القراءة والكتابة في كتاب القرية، وحفظ القرآن الكريم. ثم انحدر إلى بني عدي من أعمال مديرية أسيوط. فطلب العلم هناك على الشيح حسن الهواري، ثم قدم الأزهر فطلب العلم فيه بضع سنين
وإلى هنا كانت حياة الشيخ علي حياة عادية بحتاً، فلم يزد خطبه على مجاور مغمور في ذلك الخضرم الزاخر بآلاف المجاورين.
وتستشرف نفس الفتى للأدب. والأدب في ذلك الوقت أن تقول شعراً مقفى موزوناً. فإذا أعوزك العروض، وعميت عليك أوزان الشعر، فحسبك أن يكون المصراع في طول المصراع. فإن زاد الكلم ففي تصغير الكتابة وتدقيق الحروف متسع للجميع وعلى شرط أن تتغزل. فتتغزل كلما طلبت مديحاً، وتتغزل كلما أردت رثاءً، وتتغزل كلما ابتغيت هجاء. وكانت هذه، وخاصة في البيئة الأزهرية أهم فنون الشعر إن لم تكن جميع فنون الشعر.
وعلى هذا قرض الشعر المجاور على يوسف فذهب له به بين المجاورين صيت وذكر
ولقد كان الأدب يحمد من المجاور عند أشياخه إلا أن يسرف فيه ويجرد له صدراً كبيراً من وقته، فإنهم كانوا يكرهون ذلك منه، لأنه في الواقع يشغله، بقدر ما، عن توفير الذهن على الدرس والاستذكار ويرون هذا منه آية على (عدم الفتوح) والعياذ بالله! وحسبة في العام قصيدة يمدح بها شيخة يوم يختم الكتاب، وقصيدة أو اثنتين يرثي بهما من يموت من علية العلماء
وأسرف الشيخ علي في قرض الشعر، فمدح ورثى، وتغزّل (بالطبع) وهجا، حتى اتسق له من هذا النظم ما جمعه بعد في ديوان كامل، وبهذا أصبح مجاوراً ممتازاً وإن حق علية القول، وتراءى شبح الهول!
إذن أصبح مجاوراً ممتازاً بين المجاورين بالأدب، أو إن شئت قلت، لقد أدركته من الناحية الأزهرية حرفة الأدب
ولقد دعاه هذا إلى الاختلاف إلى مجالس الأدباء، ومساهرتهم ومسامرتهم والتروي عنهم، ثم إلى غشيان دور بعض العلية ممن كانوا يجلسون لأهل العلم والفضل والأدب، فيتحاضرون ويتذاكرون. وأقبل الشيخ على هذا الشأن بقدر ما أدبر عن الكد في دروس الأزهر. ثم جعل يرسل المقالات المنثورة في الصحف والمجلات التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وكان يكتب أول الأمر على طراز الكاتبين في عصره: مقدمات طويلة تمهد بين يدي كل موضوع ولو لم تدع إليها حاجة الكلام، واحتفال للمحسنات البديعية تستكره استكراهاً، ولو استهلكت الغرض المطلوب
على أن من حسن حظ الشيخ علي أنه ابتدأ في معالجة الكتابة في الوقت الذي انبعثت فيه تلك النهضة البيانية الفاخرة، تلك النهضة التي نفخ ضرامها بالإرشاد والتنبيه السيد جمال الدين الأفغاني، وبالفعل من الإنشاء والتعليم والتأليف الشيخ حسين المرصفي، وللشيخ علي طبيعة، وفيه فطنة قوية، فجعل يدرّب قلمه ويروضه على إرسال البيان سهلاً جزلاً خالياً من الاعتساف، متطلقاً من تكاليف البديع
وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جديد جدير بالانتباه: ذلك أن حسن البيان وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى تمكن الكاتب من ناصية اللغة، وتفقهه في أساليبها، وبصره بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات بلغائها، إلى حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته أنور صياغة، ويصورها أبدع تصوير. بل إن ذلك ليرجع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة جداً، إلى شدة نفس الكاتب وقوة روحه. فقد لا يكون الرجل وافر المحصول من متن اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعنى بتقصي منازع البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام. ذلك لأن شدة نفسه، وجبروت فكرته. تأبى إلا أن تسطو
بالكلام فتنتزع البيان انتزاعا. ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني، وهو غريب عن العربية، وقاسم بك أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول. ولقد يعجب القارئ اشد العجب إذا زعمت له أن المرحوم حسين رشدي باشا، وكان رجلاً قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، لقد كان أحياناً يرتفع بالعبارة إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البيان!
والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف، على أنه تعلم في الأزهر، وقرأ طرفاً من كتب الأدب، وأستظهر صدراً من مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها - إلا أنه لم يكن مديناً في بيانه لشيء من هذا بقدر ما كان مديناً لشدة روحه وسطوة نفسه. وانك لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر أن أحداً لم ينته في البيان منتهاه. ثم تقبل على صيغة تفتشها وتفرها، فلا تكاد تقع على شئ من هذا النظم الذي يتكلفه صدور الكتاب. وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوباً، أو على الصحيح لقد خط قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد عليه الناس من منازع البلاغات
ولندع الآن بيان الشيخ علي وأثره، فلذلك موضع آخر من هذا الحديث. ونعود إلى تاريخ الرجل فنقول إنه ما كاد يستوي له ذلك القدر من الأدب حتى أنشأ مجلة دعاها (الآداب). وهي وإن لم تكن شيئاً يذكر بالقياس إلى المجلات التي كانت قائمة في ذلك العهد. وخاصة بعد إذ عفّى الزمن على مجلة روضة المدارس التي كان يقوم على تحريرها وإجالة الأقلام بروائع البيان فيها صدور العلماء والشعراء والكتاب
المؤيد
وإذا قلت (المؤيد) قلت شطر من تاريخ مصر محتفل بالأحداث العظام
راع أهل الرأي في مصر أن ليس لهذه الأمة، أعني للمسلمين وهم كثرتها الكثيرة. صفيحة تتحدث عنها وتدلى بحاجاتها. وتترجم عن أمانيها، وتذود عن حقوقها وكرامتها. وأن أمة ليس لها في هذا الزمان صحيفة، لهي أمة لا تحس لنفسها وجوداً. ولقد قوى الشعور بشدة الحاجة إلى صحيفة وطنية إسلامية بعد إذ صدر المقطّم صحيفة تظاهر الاحتلال الإنجليزي. وتروج للسياسة الإنجليزية في هذه البلاد، وتدفع في صدور الأماني القومية ما اعترضت تلك السياسة في يوم من الأيام. وهنا يتقدم الشيخ علي مع صاحب له يدعى
الشيخ أحمد ماضي فينشئان جريدة المؤيد يومية سياسية وطنية إسلامية. ثم لا يلبث الشريكان أن يختلفا، ولا يخرج أحدهما عن الشركة إلا على مال، والمال في يد الشيخ علي أقل من القليل. وهنا تحركت أريحية بعض كبار المصريين فأدوا المال عن الشيخ إلى صاحبه. وهكذا خلص المؤيد للشيخ علي يوسف. وكان للمرحوم سعد باشا زغلول في هذا سعي مشكور
وأذكر أنه لما أتى رحمه الله، بمطبعة جديدة من طراز (الروتاتيف) وعقد لذلك حفلاً جامعاً في إدارة المؤيد خطب في الجمع فأتى في سيرة المؤيد على هذه الحادثة، ونوه بفضل سعد بك زغلول (المستشار بمحكمة الاستئناف) الذي أبى أن يسمع هذه الخطبة إلا واقفاً.
وجرى المؤيد طلقاً، والله يعلم كم عانى الشيخ علي في إخراجه فرداً لا مسعد له من معين أو من مال. الحق أن الرجل لقد جاهد في هذا جهاد الجبابرة، وعانى عناء لو صوره القلم على حقيقته لظنه الناس من إحدى القصص التي تمثلها أخيلة الكتاب. وهكذا لم يمض زمن طويل حتى جنى ثمرة الصبر العجيب (إنَّ الله مع الصَّابرين) صدق الله العظيم
مضى المؤيد يحرره الشيخ علي يوسف، ويرفده بالمقالات البارعة أعيان أهل الرأي والعلم والأدب في البلاد من أمثال المرحومين الشيخ محمد عبده، وسعد بك زغلول، وقاسم بك أمين، وفتحي بك زغلول، وحفني بك ناصف، وكثير غيرهم من أصحاب البيان. وكانوا يسرون أسماءهم في الأحاديث السياسية، بوجه خاص، فذلك مما لا تأذن به المناصب الحكومية بحال. وكذلك أضحى المؤيد مجالاً لأفحل الأقلام وأنضج الآراء. بل لقد أضحى المدرسة التي تخرج عليها من شهدوا الجيل الماضي من أعلام البيان ويسير المؤيد، ويذهب صيته لا في مصر ولا في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي كله، فلقد أصبح لسانه المعبر أفصح تعبير عن حقيقة حاله، والمترجم أنصح ترجمة عن آلامه وآماله، ومتحدث أخبار المسلمين وراويها، ومتلقي أفكارهم في قواصي الأرض وأدانيها
لا يرحل الناسُ إلا نحو حجرته
…
كالبيت يفضي إليه ملتقى السبُل
وحسبنا هذا القدر الآن في المؤيد وفي صاحب المؤيد. وسنعاود الحديث فيه إن شاء الله تعالى أن نوفيه بعض حقه إن لم نوفه كل حقه. رحمة الله عليه.
عبد العزيز البشري
لا مؤاخذة
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
كنت أعرف رجلاً طيب القلب بلغت منه طيبه القلب مبلغاً عظيماً. فكان يحب الخير ولا يميل إلى الأذى ويعف عما في أيدي الناس، ويعطيهم مما في يديه أكثر مما كان ينبغي له، حتى أنه كان يحب أحياناً أن يولم لبعض أصدقائه وليمة فلا يجد ما يولم لهم به من المال في كفه، فيدفعه حرصه على إرضائهم إلى يؤذي نفسه في سبيل ذلك الرضا، فقد استدان مرة بضعة جنيهات من صديق له وأولم في اليوم التالي لبعض أصدقائه وليمة لذيذة، وأبى عليه كرمه أن يهمل صديقه الذي استدان منه فدعاه إلى الحضور، وكانت فكاهة الأصدقاء بنبأ الوليمة والدين الذي ركب صاحبها من ورائها سبباً في شحذ شهوة الطعام في الجمع حتى لم يبقوا على شئ من ذلك الطعام اللذيذ
غير أن هذا الرجل الطيب كان به عيب واحد لا أعرف فيه عيباً سواه، وهو أنه كان يعنى عناية عظيمة برأي الناس فيه، فلا يكاد يسمع من أحد مدحاً في نفسه حتى يثور طربه، ويهتز للمديح اهتزاز الغصن الرطب في الريح، وقد تدفعه الأريحية عند ذلك إلى الخروج عن طاقته في جزاء المادح؛ وأما إذا هو سمع أحداً يذمه ولو ذماً ضئيلاً، فإنه لا يتمالك نفسه من الغضب، وقد تكون غضباته مضرية هائجة، ولولا إنه من الثابتين المطمئنين إلى حكم القانون، لكان لا يرى شيئاً يغسل عنه معرفة معرة الذم، إلا أن يراق في سبيلها الدم. وقد عرفت أنه سمع أن بعض الناس يقعون فيه ويذمونه بأنه يأكل في بيته الثريد بأصابعه الخمس، وأنه ما يكاد يصل إلى بيته حتى ثيابه المحترمة، ويلبس لباساً ساذجاً مما يلبسه عامة الناس من طبقة الفقراء، فيضع على رأسه لبدة بيضاء من الصوف الخشن، ويلبس في رجله قبقاباً من الخشب الثقيل، ويلبس على جسمه جلباباً من القطن الرخيص، فما كاد يسمع ذلك القول حتى ثارت ثائرته، وجعل يصيح في الحاضرين بأعلى صوته واصفاً ما يلبس وما يأكل، مجتهداً أن يطلع الناس على حاله في بيته، وعلى ما هو عليه من تمتع بأقصى ما يتمتع به المتحضرون المتأنقون؛ ولعله قد لاحظ شيئاً من التردد بين سامعيه في تصديق أقواله، فجعل يزيد في التأكيد حتى بلغ الأمر منه أن جعل يقسم لهم جهد الأيمان، ولما أحس مع كل ذلك أن السامعين فيهم المعاند والمكابر، اتخذ خطه عمليه حازمه لبيان
صدق قوله فقد حلف على الجميع وعزم أشد العزيمة أن يزوروه في منزله في صباح الغد ليقيموا عنده النهار أجمعه فيطلعوا على أسلوب حياته معاينة واختباراً. ثم ذهب من فوره إلى أقرب أصدقاء إليه، وأوثقهم مودة عنده وأملئهم جيباً. فاستدان منه ما يستعد به لحفلة الغد، ولم ينس أن يدعوه في المدعوين لشهود ما هو على نية إظهاره وإجلائه
ولكن لا يظنن أحد من القراء أنني أصف هذا الرجل لأنه ممن يستحق العناية الخاصة لميزة في شخصه، أو لمكانة له بين الناس. فإنما أنا أسوقه مثلا لقوم في مصر يريدون أن يقحموا البلاد في مثل ما تورط فيه صاحبنا هذا. فمثلاً قد تكرر ما قال القائلون من الدعوة لمصر في الخارج، وما صاح الصائحون من وجوب إظهار أهل الغرب على ما نحن عليه من رقي وتحضر، وهم لا يظنون على ذلك السعي بالمال مهما عظم مقداره، والحق أنني أعطف أشد العطف على وطنية هؤلاء وسلامة طويتهم. فمثلاً قد ذهب أحد المصريين إلى مؤتمر من المؤتمرات، وكان بطبيعة الحال لابساً بذلة من البذلات الرسمية الوجيهة، فمال عليه جاره وكان من ممثلي بعض دول الغرب فسأله عما هو صانع ببذلته بعد انصرافه من المؤتمر. وأغلب ظني أن ذلك الزميل الأوربي المحترم قد ظن في الممثل المصري أنه لا يكاد ينفلت من المؤتمر حتى يرمي بتلك البذلة فوق أقرب شجرة من شجر الجميز إذا بلغ الطريق المؤدية إلى عاصمة بلاده، وهو راكب جملاً قوياً يحمله في سفره، ثم يقف تحت تلك الشجرة ينتظر مرور أول وعل من وعول الجبل فيرميه بسهم من قوسه الشديدة، ويسلخ عنه جلده، وينشره في الشمس يوماً أو بعض يوم، ثم يلبسه بدل بذلته الرسمية. ثم يتابع سيره نحو العاصمة لمقابلة أولي الأمر فيها، وإبلاغهم نتيجة بحوث المؤتمر الذي كان يمثل بلاده فيه. لعل ذلك الزميل قد حسب هذا، ولا بد أن الممثل المصري قد تصور هذا الظن، ورأى فيه مساساً عظيما بكرامته وكرامة بلاده فغضب له، وجاء يشكوه لبني وطنه ليظهر لهم مقدار جهل الناس بحقيقتهم، وقد سمع هذا القول طائفة من الناس فغضبوا له غضباً شديداً، وجعلوا يطالبون بأن تبذل الحكومة من أموال الشعب بضع مئات من ألوف الجنيهات الذهبية لكي تنظم دعوة لاطلاع أهل الغرب على حقيقة أمر الشعب المصري
وأنني لا أرى مانعاً يمنع من بذل المال، ولا من القيام بدعوة في سبيل مصر، فكل شئ في خدمة مصر هين، وكل قصد الحياة هو خدمة مصر
ولكني مع ذلك أحب أن تتجه الدعوة نحو قصد مخالف كل المخالفة لما يريد هؤلاء السادة أن يدعوا إليه. ولا يسعني إلا أن اعتذر لهم وللقراء عن هذه المخالفة التي قد تغضبهم متى وصفت لهم حقيقتها، ولا أجد شيئاً أقدر أن أعتذر إليهم إلا أن أقول لهم:(لا مؤاخذه)، فإن هذه الكلمة كلمة سحرية، وقد جربت أثرها في مختلف المواقف، فو الله ما خانني سحرها يوماً، ولا خذلني نصرها في ساعة من ساعات الشدة. فكم وطئت على أقدام في الترام وقت الزحام، فلما رأيت ثورة الذي وطئت قدمه أسرعت وتلفظت بذلك الطلسم، فإذا وجهه تشرق عليه ابتسامة عريضة، ويهز رأسه لي، كأنما هو يعتذر عما ظهر على وجهه من التجهم في أول الأمر. وكم أخطأت فلم ينجني من تبعة الخطأ إلا هذا اللفظ المبارك، وكم خرجت عن حدود اللياقة ونفذت إلى العفو الفسيح من مدخل هذا اللفظ البديع. فلا مؤاخذه أيها السادة إذا كنت أعتقد أن خير مصر ونفع الوطن في أن نبذل بضعة آلاف أو بضعة مئات من الآلاف من جنيهات الذهب، على أن يقوم جماعة من المخلصين لمصلحة هذه البلاد بدعوة في شعوب العالم أجمع، يعلون فيها من ذكر مصر، بأن يصفوا أهلها بالتوحش والغلظة، وينعتوهم بأقبح النعوت وأبشع الصفات - وحبذا يوم يعتقد فيه شعوب أوربا وأمريكا أن المصريين لا يلبسون إلا جلود النمور والأسود، ولا يعرفون من المساكن إلا الكهوف والأدغال، وأن لهم قسياً قوية وسهاماً مسمومة، وأنهم يقفون لأعدائهم تحت الصخور ووراء الجذوع، فيسددون إليهم سهاماً مسمية لا ينجو أحد من جراحها، وأن الذي يدخل بلادهم لا يلقى إلا مشقة، ولا يرتاح في حل ولا ترحال. وأن المصريين يأكلون لحم الحيوان بغير نضج، فإذا لم يجدوا من لحوم الحيوان شيئا اشبعوا الجوع بما يجدونه قريباً منهم من اللحم، ولو كان آدمياً؛ وأنهم حديد الأسنان، حمش السيقان، حرز العيون، قبيحوا الخلقة. أقول هذا (ولا مؤاخذه) فأت تلك الدعوى عندي آثر وأحب، وأثرها في ظني أبلغ في إجلال القوم لنا ومراعاتهم لحرمنا. فأن الناس على حضارتهم لم يزيدوا بعد على أنهم متوحشون، قد طلوا ظاهرهم بطلاء من الفضة أو الذهب، وأما باطنهم فلا يزال فيه الحيوان البري الذي يخشى القوة الوحشية خشية أعظم من تقديره لفضائل الفلسفة
وإنها لإهانة لا تعدلها إهانة أن يذهب نفر من أهل مصر ليعلفوا في ملأ الشعوب الأخرى أن شعب مصر يلبس الملابس المعتادة، لا جلود الحيوان، وأنه يأكل الخبز والطعام، لا
لحوم البشر ولا المن والجراد. أما أنا فيمين الحق أنه لأحب إلي أن يذهب الناس عني قائلين إني متوحش، أو إني جاهل، أو أني غر، أو إنني من أكلة لحوم الإنسان، من أن أكلف نفسي أن أبين لهم إنني لست كما يزعمون. لا بل إنني أحسب أنه لو ظن الناس في مثل هذه الظنون لكان هذا مبعث فكاهة لنفسي أنعم بها وحدي وأنا أتأمل مقدار جهل هؤلاء الناس بي، وضلالهم في معرفة حقيقة أمري
ولعل أهل الغرب إذا فشت فيهم عقيدة أننا من لابسي الجلود وآكلي اللحوم النيئة، حملهم ذلك على بعض التحرز في معاملاتنا، وبعض الخشية من أنيابنا
ولا مؤاخذه.!. . .
محمد فريد أبو حديد
بوانكاريه وبارتو
للأستاذ محمد عبد الله عنان
فقدت فرنسا في أسبوع واحد رجلين من أعظم رجالها، وسياسيين من أقدر ساستها وكاتبين من أكبر كتابها، هما مسيو لوي بارتو وزير خارجيتها، ومسيو رايمون بوانكاريه رئيس جمهوريتها الأسبق؛ فذهب مسيو بارتو ضحية بريئة في حادث مرسيليا المروع الذي اغتيل فيه الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، وتبعه مسيو بوانكاريه إلى القبر بعد أيام قلائل. وكان السياسي العظيم مريضا منذ حين، يستشفي في الرفييرا، ولكنه عاد إلى باريس منذ أشهر ممتعاً بالصحة والنشاط، ثم توفي فجأة، بينما كان يتابع الكتابة في مذكراته؛ فذهب بموته ركن من أعظم أركان السياسة الفرنسية المعاصرة. ولا يشغل بوانكاريه وبارتو مكانتهما الممتازة في عالم السياسة فقط، ولكنهما يشغلان مكانتهما الممتازة في عالم البيان والأدب أيضاً، ولكل منهما آثار أدبية تتبوأ المقام الأول بين تراث الأدب الفرنسي المعاصر
كان رايمون بوانكاريه فرنسياً عظيماً من غلاة الوطنية الفرنسية التي تذهب إلى حد التعصب؛ وكان يمثل مدرسة سياسية خاصة شعارها القومية المغرقة في كل شئ، ووسيلتها القوة والتفوق المادي قبل كل شئ؛ وكانت سياسته قبل الحرب وفي خلالها، ثم من بعدها، تمثل دائما روح العسكرية المحافظة، وروح الاستعمار الجشع، فكان بوانكاريه من أعظم بناة العسكرية الفرنسية، وكان من أعظم بناة الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية.
وكان مولده في (بارلد يك) من أعمال اللورين في أغسطس سنة 1860، ودرس الحقوق في باريس؛ وبدأ حياته العملية في الصحافة، فتولى حيناً تحرير القسم القضائي لجريدة (لي فولتير) ثم عين موظفاً في وزارة الزراعة، ولكن جو الوظائف الحكومية لم يرقه، فاستقال لنحو عام من تعيينه؛ وكانت أحداث السياسة وتهزه وتستغرق اهتمامه، فخاض المعركة الانتخابية ودخل البرلمان لأول مرة في سنة 1887 نائباً عن مقاطعة الموز. ومن ذلك الحين بدأ نجمه السياسي في التألق؛ وامتهن المحاماة في باريس، فظهر فيها بمقدرته وساحر بيانه؛ وجدد انتخابه لمجلس النواب سنة 89، ثم في سنة 93. وفي هذا العام دخل الوزارة وزيراً للمعارف وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، ثم تولى وزارة المالية في العام التالي، ثم المعارف مرة أخرى سنة 95. وأستمر في مجلس النواب حتى سنة
1903.
ثم دخل مجلس الشيوخ. وتبوأ بوانكاريه مركزه في الزعامة السياسية؛ كما تبوأ مركزه في الزعامة الأدبية؛ وكان إلى جانب مقدرته السياسية كاتباً ممتازاً؛ يلفت الأنظار بروعة كتاباته السياسية والأدبية. وفي سنة 1906 تولى وزارة المالية مرة أخرى. وفي سنة 1909 توجت زعامته الأدبية بانتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية. وفي يناير سنة 1912 ألف بوانكاريه وزارته الأولى خلفاً لوزارة كايو المستقيلة، وتولى إلى جانب الرياسة وزارة الخارجية. وهنا بدرت بوادر الأزمات الدولية التي مهدت إلى الحرب الكبرى، فأبدى بوانكاريه خلال هذه العواصف قوة ومقدرة، وظهرت قوة وسائله بالأخص في مسألة مراكش حيث استطاع أن يرغم السلطان على الاعتراف بالحماية الفرنسية، وظهرت ميول بوانكاريه العسكرية واضحة في عنايته بمسألة التسليحات، ومضاعفة قوى فرنسا البحرية. وفي سنة 1913 أنتخب بوانكاريه رئيسا للجمهورية الفرنسية خلفاً للرئيس فاليير؛ وأستدعى ارستيد بريان لرياسة الوزارة. وكانت أوربا تسير يومئذ إلى الأزمة الكبرى بخطى سريعة؛ وكان بوانكاريه يسهر على ثمار سياسته، وعلى المحالفات التي انتهت إليها. وفي يوليه سنة 1914 كان بوانكاريه إلى جانب نيقولا الثاني قيصر روسيا في بطرسبرج؛ وكانت بواعث هذه الزيارة ظاهرة واضحة، وهي تمكين التحالف الروسي الفرنسي ضد ألمانيا والنمسا والمجر، وتنظيم الخطط للمعركة القادمة
ولما عاد بوانكاريه إلى فرنسا كانت الأزمة قد وصلت ذروتها ولاح شبح الحرب جلياً في الأفق. وكتب بوانكاريه بهذه المناسبة إلى جورج الخامس ملك إنجلترا خطاباً أشتهر بقوة منطقه وبيانه. ثم كانت الحرب؛ فكان بوانكاريه رجل الموقف؛ وأبدى خلال هذه الأعوام العصيبة كثيراً من الحزم والقوة والبراعة في تدبير شؤون الحرب ومعالجة المشكلات الخطيرة التي كانت تثيرها، واستطاع أن يقف البرلمان عند حده وأن يحمي الجيش من نفوذه وأن يرد حملاته عن الحكومة، وأن يقضي على التنافس الحزبي وآثاره في سير الأمور. ولم يحجم في سنة 1917 عن استدعاء خصمه القديم جورج كليمنصو إلى تولي الحكم، فكان موفقاً في اختياره، وكان كليمنصو وزارة النصر النهائي
وهنا نقطة خطيرة يجب أن نشير إليها تلك هي موقف بوانكاريه الحقيقي إزاء الحرب الكبرى ومبلغ مسئوليته في العمل لأثارتها. وقد أثارت مسئولية الحرب منذ عقد الصلح
كثيراً من البحث والجدل، وألقى عليها كثير من الضوء سواء من الوثائق الرسمية المختلفة التي نشرت، أو تصريحات أقطاب السياسية الأوربية الذين اتصلوا بمقدماتها. وقد ظهر منها جميعاً أن رايمون بوانكاريه يحمل في إثارة الحرب الكبرى أكبر التبعات وأنه كان مت العاملين لها قبل نشوبها بأعوام؛ وظهر بالأخص من الوثائق التي نشرها مسيو أزفولسكي سفير روسيا في باريس قبيل الحرب، أن بوانكاريه كان دائب العمل بالتفاهم مع القيصر على تنظيم الخطط لإذكاء الأزمة، وأن زيارته للقيصر في يوليه سنة 1914 لم تكن إلا لأحكام خطط العمل والدفاع في الحرب المنشودة. وهذه نقطة خطيرة تثقل كاهل بوانكاريه بلا ريب، ولم يوفق هو قط إلى دحضها رغم كل ما قال وكل ما كتب.
وانتهت رياسة بوانكاريه للجمهورية في سنة 1920، وخلفه مسيو دي شانل الذي لم تطل رياسته سوى أشهر؛ وعاد إلى مجلس الشيوخ، وإلى العمل في المحاماة والصحافة، وفي يناير سنة 1922، ألف بوانكاريه وزارته الثانية، وتولى وزارة الخارجية، وكان الجدل يشتد يومئذ بين فرنسا وألمانيا حول تنفيذ شروط معاهدة الصلح وأداء التعويضات المفروضة على ألمانيا؛ وكان بوانكاريه يرى منذ البداية أن تذل ألمانيا، وتسحق حتى النهاية، وكان من أشد خصوم الهدنة ووقف الحرب، وكان يرى مع فوش أنه يجب مطاردة الجيش الألماني حتى عاصمة بلاده، وجعل الرين حداً لألمانيا؛ فلما بدأت ألمانيا في التذمر من شروط الصلح، ومن أداء التعويضات، رأى بوانكاريه الفرصة سانحة للعمل، فقرر احتلال الروهر في أوائل سنة 1923 تنفيذاً للعقوبات التي نصت عليها المعاهدة في حالة التخلف عن التنفيذ، وكان هذا الأجراء من أشنع الأخطاء التي ارتكبتها السياسة الفرنسية؛ ولم يقف إلى جانب فرنسا فيه سوى بلجيكا؛ وانتهى إلى عكس المقصود منه إذ أثار في ألمانيا روح السخط والمقاومة، وفقدت فرنسا من جرائه كثيراً من العطف، وظهرت فيه بمظهر التحامل والتحرش؛ وفقد بوانكاريه أيضاً كثيراً من ثقة مواطنيه وتقديرهم؛ وظهر ذلك جلياً في انتخابات سنة 1924 حيث فاز فيها خصومه ومعارضوه واضطر إلى الاستقالة؛ وتتابعت من بعده عدة وزارات ضعيفة كانت تسحقها الأزمة المالية وأزمة الفرنك بنوع خاص. ولما تفاقم خطب الفرنك وكادت فرنسا تنكب بكارثة مالية شنيعة دعي الرجل القوي (بونكاريه) إلى الحكم مرة أخرى في يوليه سنة 1926، فلبى الدعوى؛ واستطاعت
وزارته بما اتخذت من التدابير السريعة القوية أن تجتنب الكارثة وأن ترد إلى الفرنك ثباته، وأستمر بوانكاريه في الرياسة إلى سنة 1929، ثم استقال لأسباب صحية، وتفرغ إلى كتابة مذكراته التي بدأ بإخراجها قبل ذلك بأعوام تحت عنوان (في خدمة فرنسا) وفيها يبسط مراحل حياته السياسية، وما اضطلع به من الأزمات السياسية قبل الحرب وفي أثنائها، وما بذله من جهود لإحراز النصر. وكان بوانكاريه أثناء اعتزاله الحكم يكتب في الصحف فصولاً سياسية قوية، واشتهرت منها بالأخص سلسلة مقالات يكتبها تحت عنوان (الوعاء المتكسر)، وفيها يندد دائماً بسياسة الضعف نحو ألمانيا؛ وكما أن بوانكاريه كان يعرب في سياسته عن عميق تعصبه القومي، فكذلك تطبع كتاباته مثل هذه النزعة القومية العميقة، وهو ينحو في ذلك نحو مواطنه الكاتب اللوريني الأشهر موريس باريس الذي أشتهر بعنف حملاته على ألمانيا، وتحريضه على سحق العنصر الجرماني؛ ولبوانكاريه آثار أدبية وتاريخية أخرى، وله في المحاماة مواقف مشهورة، وقد وصل أثناء العمل بها إلى أرفع ما يطمح إليه محام، وأنتخب نقيباً للمحامين، ورفع بذلك إلى صف أعلام الفصاحة القضائية، كما رفع من قبل إلى ذروة المجد السياسي.
وقد لبثت السياسة الفرنسية مشربة بروح الأثرة والقومية العميقة، الذي عمل لإذكائه رجال مثل فوش وبوانكاريه وكليمنصو؛ ثم تطورت منذ سنة 1926، أي منذ اشتد ساعد الاشتراكيين والاشتراكيين الراديكاليين، وقويت الدعوة إلى السلام والتضامن الدولي، وتولى ارستيد بريان توجيه السياسة الخارجية الفرنسية، ولاح مدى حين أن التفاهم ممكن بين أعداء الأمس، وأن سلام العالم يمكن تحقيقه بالمواثيق والمعاهدات الصريحة، ولكن بريان توفى بعد أن ازور نجمه؛ ثم قامت الاشتراكية الوطنية في ألمانيا، وعادت موجة التطرف الهتلري توجه النذير إلى فرنسا؛ فعادت فرنسا إلى سياستها القومية المتطرفة، وظهر بوانكاريه لمواطنيه مرة أخرى بأنه في دعوته إلى هذه السياسة، أبعد نظراً من الوجهة العملية، من أولئك الذين ينشدون السلام بالتفاهم والحسنى.
وقد كان لوي بارتو من تلاميذ هذه المدرسة السياسية المغرقة في القومية، وكان مثل صديقه وزميله بوانكاريه يؤمن بسياسة القوة والتحالف العسكري. وكان مولده في بيارن من أعمال فرنسا الجنوبية سنة 1862، ودرس الحقوق أيضاً ثم انتظم في سلك المحاماة، تلك
المهنة الخلابة التي يتخرج فيها معظم الساسة الفرنسيين. ودخل بارتو مجلس النواب لأول مرة في سنة 1889، ولم يلبث أن ظهر بقوة منطقه وبيانه. ودخل الوزارة لأول مرة سنة 1894، إلى جانب بوانكاريه وهو يومئذ في الثانية والثلاثين من عمره. وكانت يومئذ بدعة أن يتولى الوزارة فتيان أحداث مثل بارتو وبوانكاريه. ولكن النبوغ المتفتح كان يسود كل اعتبار آخر؛ واستمر بارتو بين النيابة والمحاماة، مدى حين. وتولى الوزارة بعد ذلك مراراً، في وزارة الأشغال والداخلية. ثم وزارة الحقانية منذ سنة 1909 في وزارة بريان، وأستمر في هذا المنصب أربعة أعوام. وفي سنة 1913 استدعي بارتو لرئاسة الوزارة، فاستمر مضطلعاً بأعبائها إلى ما قبيل الحرب الكبرى؛ واستطاع في هذه الفترة أن يحمل البرلمان على إصدار قانون الخدمة العسكرية الجديد الذي يمدها إلى ثلاثة أعوام؛ ثم تولى وزارة الأشغال مرة أخرى في سنة 1917، ثم وزارة الحقانية في وزارة بوانكاريه الثانية (سنة 1924). وعني بارتو بدرس حركة النقابات وأصدر عنها كتاباً جامعاً بعنوان العمل النقابي ' في عالم الأدب ظهوراً قوياً، واشتهر أسلوبه التحليلي؛ وكتب تراحم نقدية بديعة لميرابو خطيب الثورة الفرنسية ولامارتين وغيرهما وهي من أقيم كتب الترجمة لفرنسية، وكتب كتاباً عن غرام فكتور هوجو ' وهو من أرق ما كتب عن هذا الشاعر؛ وكتب رسالة عن فاجنر؛ وكتب غير ذلك من الكتب والرسائل مما يضيق المقام بذكره؛ وأنتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية منذ سنة 1924؛ وكان محاضراً ومحدثاً ساحراً، أشتهر بغزير ثقافته وقوة عارضته وتدفق بيانه.
ولما نشيت الحرب الكبرى دفع بارتو بابنه الوحيد إلى صفوف المدافع عن الوطن، فقتل في المعارك الأولى، وأصاب فؤاد الوالد الكسير جرح لم يندمل قط.
وغادر بارتو مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ في سنة 1922 واستمر يخوض المعركة السياسية؛ ولكنه كان من فريق الساسة الهادئين الذين لا يظهرون كثيراً على مسرح المعارك الصاخبة، ثم تولى وزارة الخارجية منذ فبراير الماضي، وكانت منذ سنة 1927 وقفاً على ارستيد بريان حتى توفي سنة 1932؛ وتولاها من بعده بول بونكور. وكانت وفاة بريان نذيراً بتطور سياسة فرنسا الخارجية، وعودها إلى الخضوع لروح الأثرة والوطنية المغرقة؛ فلما تولاها بارتو كانت نظريات فوش وبوانكاريه قد غلبت في توجيهها
مرة أخرى؛ وبارتو من أبناء هذه المدرسة كما قدمن. وجاء عنف الحركة الهتلرية في ألمانيا نذيراً جديداً لفرنسا بوجوب التحوط ومضاعفة الأهبات والمحالفات العسكرية. وقد أبدى بارتو في تنفيذ هذه السياسة نشاطاً وبراعة فائقين فطاف بالبلاد المحالفة لفرنسا مثل بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوجوسلافيا ليحكم أواصر التحالف بينها وبين فرنسا، ولكي تحاط ألمانيا بسياج قوي من الأمم التي تقف وقت نشوب الحرب إلى جانب فرنسا. بيد أن أعظم ظفر استطاع بارتو أن يتوج به سياسته هو تقوية التفاهم الفرنسي الروسي واستئناف سياسة التحالف القديم بين روسيا وفرنسا، وإدخال روسيا في حظيرة عصبة الأمم وحظيرة الدول الغربية بعد أن لبثت بعيدة عنها زهاء ستة عشر عاما. وكانت هذه أول مرحلة في سياسة فرنسا الجديدة لتحقيق عزلة ألمانيا عن باقي الدول الأوربية؛ وكانت المرحلة الثانية هي توثيق أواصر التحالف بين يوجوسلافيا وفرنسا ثم حمل يوجوسلافيا على التقرب من إيطاليا، وأخيراً تحقيق التفاهم بين فرنسا وإيطاليا وتسوية المسائل المعلقة بيتهما وحملها بذلك على نبذ سياسة التفاهم مع ألمانيا بصورة نهائية. وكانت زيارة الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا تحقيقاً لهذا البرنامج. ولكن وقعت فاجعة مرسيليا التي ذهب ضحيتها الملك اسكندر ومسيو بارتو؛ ولقيت السياسة الفرنسية بذلك صدمة قوية. بيد أنها صدمة مؤقتة، والظاهر أن فرنسا ستمضي في تنفيذ برنامجها السياسي، وأن مسيو لافال وزير الخارجية الجديد، سيستأنف العمل حيث وقف مسيو بارتو؛ وسيقوم مكانه بزيارة رومه، كما كان مقرراً من قبل. ولكن الموقف ما يزال غامضاً، ولا سيما إزاء وقوعه في يوجوسلافيا عقب وفاة الملك اسكندر من الحوادث والتطورات الخطيرة
تلك سيرة الرجلين اللذين فقدتهما فرنسا في أسبوع واحد. وقد فقدت فرنسا في الأعوام الثلاثة الأخيرة جل أقطاب زعمائها القدماء، مثل كليمنصو وفوش ودومير وبريان وبوانكاريه وبارتو؛ وطويت بذهابهم مرحلة أو مراحل من تاريخ فرنسا المعاصر، ولم يبق من أقطاب ساسة الجيل المنصرم سوى القلائل، مثل تاريدو الذي يمثل الكتلة القومية، وهريو الذي يمثل السياسة الاشتراكية. ولا ريب أن فرنسا ستشعر بفداحة هذه الخسارة خصوصاً في هذه الآونة العصيبة التي تقتضي كثيراً من العمل السياسي المستنير. بيد أن للسياسة الفرنسية تقاليد راسخة، وسوف يبرز إلى الميدان السياسي رهط من الساسة
والزعماء الجدد ليملأوا ذلك الفراغ، وليقودوا الجمهورية الثالثة إلى نفس المثل والغايات التي عمل لها ساسة الجيل الراحل
محمد عبد الله العنان
المحامي
في العيد الألفي لمولد الفردوسي
الشاهنامة
للدكتور عبد الوهاب عزام
ترجمة الكلمة التي ألقاها الأستاذ عزام بالفارسية على قبر
الشاعر في طوس
لست أريد أن أفصل الكلام في الشاهنامة أو بعض مباحثها الكثيرة. فأدباء إيران الكرام أعرف بذلك وأقدر عليه، ولكني أريد أن أتقدم إليكم بكلمة موجزة تبين عن مكانة الشاهنامة في آداب الأمم ولا سيما الأمم الشرقية:
قال بعض المؤلفين إن الشاهنامة إلياذة الشرق. وذلك التشبيه غير صحيح من بعض الوجوه، فأن الشاهنامة جديرة أن يكون لها بين أمم الشرق مكانة أرفع من مكانة الإلياذة بين أمم الغرب. ذلكم بأن الإلياذة قصة حروب وقعت في معترك ضيق من آسيا الصغرى بين اليونان والطرواديين. وهي زهاء ثمانية آلاف بيت، تستمر حوادثها ستة وخمسين يوماً. والشاهنامة تقص حادثات ميدانها ما بين الهند والصين إلى البحر المتوسط، وتشمل كل وعت الروايات من تاريخ الأمة الإيرانية وأساطيرها من أقدم عصورها إلى العهد الإسلامي، ويشترك في وقائعها التورانيون والعرب والروم والهند، ولا تحرم الصين من نصيب فيها. فكل أمم آسيا العظيمة وبعض أمم أوربا يتناولها موضوع هذا الكتاب العظيم. فقد أوعى الكتاب من التاريخ والأساطير ما هو جدير بعناية المؤرخ الناقد، مؤرخ السياسة أو مؤرخ الأدب والاجتماع
وصفت الشاهنامة نشوء الحضارة الإيرانية وتطورها، وقصت تاريخ الإيرانيين ملوكهم وأبطالهم وكبرائهم في القرون المتطاولة، وأبانت عما كان بينهم وبين الأمم المجاورة من عداء ومودة، وحرب وسلم. وصفت الجلاد الهائل المستمر بين إيران وتوران، ثم مثلت ما كان بين الأمتين من جوار ومودة في القرابة بين ملوك إيران وتوران، إذ جعلتهم جميعاً بني أفريدون، ثم وصلت هذه القرابة بمصاهرات عديدة: كتزوج سياوخسن بن كيكاوس جريرة بنت بيران أعظم قواد التورانين، ثم فرنكيس بنت أفراسياب أعظم ملوك توران،
ومن سياوخسن وفرنكيس ولد كيخسرو حفيد كيكاوس وسبط أفراسياب. وكذلك نجد في العصور التاريخية تزوج أنوشر وأن بنت الخاقان
وأما العرب فقد أجمل الكتاب في أنبائهم ما كان بين الإيرانيين والسامين من حوادث في العصور المتطاولة، فجعل الضحاك عربياً، وقص وقائع كيكاوس وملك هاماوران (حمير) ووقائع أخرى بين الساسانيين والقبائل العربية. ثم ذكر طرفاً مما كان بين الأمتين من مودة وتعاون فيما كان من مصاهرة بينهما إذ تزوج بنو أفريدون الثلاثة سلم وتور وايرج ثلاث بنات لملك اليمن. وتزوج كيكاوس سوذابة بنت مهراب ملك كابل وهي عربية من نسل الضحاك، فولد رستم بطل الأبطال من أب إيراني وأم عربية. وأوضح من هذا ما كان بين الأمتين من مودة في العهد الساساني أعظم مظاهرها علاقة ملوك الحيرة بملوك فارس، وما كان للفرس من سلطان ومحبة بين العرب في البحرين واليمن
والروم ذكروا في أنباء الوقائع المتمادية التي كانت بين الساسانيين ودولة الروم الشرقية وفي قصة الاسكندر. ووصفت مودتهم في قرابة ملوك الروم أبناء سلم بن أفريدون، وفي تزوج كشتاسب بن لداسب من كتايون بنت ملك الروم، وتزوج كسرى برويز مريم بنت القيصر
والهند ذكروا في حوادث منها وقائع كابلستان وحوادث بهرام كور وتزوجه بنت ملك الهند. والصين تذكر في وقائع التورانيين وفي التجارة
فهذه المنظومة العجيبة التي تتناول حوادث قرون وأمم كثيرة، لا ينبغي أن تشبه بالإلياذة الضيقة الحدود؛ وينبغي أن تكون عناية الشرقيين بها أعظم من عناية الغربيين بالإلياذة
ولا ريب أن في الشاهنامة أساطير كثيرة، ولكن الأساطير في الأدب أروع من الحقائق. ثم لا ينكر دلالة الأساطير على تطور الأمم وعلى كثير من عاداتها وأخلاقها. فأن الأساطير وليدة خيال الأمة وأمانيها، لا يحدها الواقع ولا تضيقها الحقيقة
وكم في أساطير الشاهنامة في العهدين الأول والثاني - عهدي البيشداديين والكيانيين - من حقائق دينية واجتماعية وتاريخية ألبست ثوب الخيال وحرفت فيها الوقائع والأسماء
وللشاهنامة ميزة أخرى على الإلياذة، وملاحم أخرى كالمهابهاراته والرامايانا، بأنها كلها لشاعر واحد، إذا استثنينا ألف البيت التي نظمها الدقيقي. والفردوسي ناظمها شاعر تاريخي
معروف لا يشك أحد في وجوده وانه ناظم هذه الملحمة الرائعة، على حين يكثر خلاف المؤرخين في الإلياذة وناظمها، وعلى حين أن المهابهاراتا والرمايانا نظم شعراء عديدين بعضهم مجهول
فالشاهنامه سجل تاريخ أمة وأساطيرها منذ أقدم عصورها، وهذا لا يعرف في منظومة أخرى
لم يكن الفردوسي مخترع هذا الحادثات بل كان مصورها، فقد نظم الرجل ما ادخرته الروايات، ولم يكن حراً في الذهاب مع خياله كيف يشاء. ودليل هذا في الكتب الأخرى ولا سيما كتاب الثعالبي (غرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم) وهو أقرب الكتب إلى الشاهنامة، وقد عاصر الثعالبي الفردوسي وقدم كتابه للأمير نصر أخي السلطان محمود الغزنوي الذي قدمت إليه الشاهنامة
وهذا يزيد في قيمة الكتاب ويجعله مرآة تاريخ الأمة وأفكارها، لا صورة من خيال الشاعر وأوهامه. وهذا أيضا يزيد في قدر الفردوسي، فعسير جداً أن يذلل الشاعر هذه الأكداس من الحوادث للنظم السلس المتين، ويكلف نفسه السير في حزنها وسهلها، لا يتخير الأيسر والأسهل من موضوعات النظم
لو كانت الشاهنامة قصصا منثورة من روعة الشعر وموسيقى النظم، لكانت مع هذا جديرة بعناية الإيرانيين والأمم الشرقية، ثم عناية المؤرخين والباحثين في الأمم كلها. فكيف وقد أفرغت هذه القصص في صور شعرية رائعة، ونظم متين منسجم، يزيد المعنى جلالاً وروعة؟ كيف وهي جهد شاعر نابغة في أكثر من ثلاثين عاماً؟ لا تقتصر الشاهنامة على قصص الحادثات، ولكنها تصور الوقائع حتى يكاد القارئ يرى الفرسان في حومة الوغى، ويبصر النقع معقوداً في الآفاق، ويسمع صليل السيوف ووقع الأسنة، وصياح الأبطال وصهيل الخيل
وهذا الفردوسي وصاف الحروب لا يقصر في تصور عواطف الإنسان والإبانة عنها على لسان أبطال قصته، وهو ليس عاجزاً في قصص الحب كما ترى في قصة زال وروذابة، وقصة بيزن ومنيزه، وقصة كشتاسب وكتايون. وناهيك به رجل أخلاق لا يألو في الدعاء إلى الخير والنهي عن الشر. وهو بصير بأحداث الزمان يستخرج المواعظ من وقائع
الكتاب، فلا يكاد يفتتح فصلاً أو يختمه إلا واعظاً بليغاً من غير الزمان
وإني أستشهد هنا أستاذاً من كبار المستشرقين درس الشاهنامة درساً بليغاً، هو الأستاذ نلدكه الألماني قال:
(إن الفردوسي شاعر مطبوع، يستولي على فكر القارئ، ويحيى القصة التافهة بإنطاق الممثلين أمامنا، بل كثيراً ما تضيع الحركات في جلال الأقوال. وهو يفصل الحادثات فيبين أحسن إبانة عن حادثة لم يكتب عنها في الأصل الذي نظم عنه أكثر من أنها وقعت، ويبيح لنفسه أن يخلق حادثات صغيرة ليتم الوصف. وهو يعرف كيف يحيي أبطاله، بل يخرج أحياناً البطل في صورة جديدة غير التي عرفته بها الروايات، وما أقدره على تبيان ما وراء أعمال الأبطال من أسباب وأفكار. والوصف النفساني رائع جداً، ونغمة البطولة تسمع في الكتاب كله، وعظمة الزمان القديم وأبهته، وفرحه وترحه وجلاده، مصورة في أسلوب معجب، حتى ليسمع الإنسان صليل السيوف وجلبة المآدب. هو لا يبلغ في التفاصيل مبلغ هومير، ولا يستطيع مثله أن يجعل حادثة في كلمات قليلة، ولكنه مع هذا يمضي قدماً إلى غايته حين يصف الوقائع، وإن يكن في الخطب والرسائل مكثاراً
مشاهد الحرب تستقبل القارئ في كل مكان، ولكن هناك ميادين للحب والعواطف الرقيقة، فهناك قصص للحب عظيمة كقصة زال وروذابه، وبيزن، ومنيزه. وهي أجمل أقسام الكتاب، والشاعر في هذا، بل في كتابه كله، يملك القارئ ببساطة الوصف. وعاطفة الأمومة والأبوة والقرابة واضحة في الكتاب كذلك، ولكن يصحبها التعطش للدماء ثأراً للأقارب، فقصة الانتقام لسيا وحسن مثلاً تملأ صفحات من الكتاب كثيرة جداً، وهذا الولع بالثأر يتمكن حتى نجد الرجل العاقل كودرذ يشرب دم أطيب الأعداء بيران. . . .
ويتجلى في الكتاب كذلك ندب حظوظ الإنسان في هذا العالم الحائل والاعتبار بغير الزمان) اهـ.
هذه الميزات الأدبية والتاريخية جعلت للشاهنامة مكانة علية في الأدب الفارسي منذ نظمت، فحاكها كثير من الشعراء بقصص متصلة بموضوعها، فنظمت ست قصص أبطالها من أسرة رستم وهي: كرشاسب نامه، وبطلها كرشاسب جد أسرة سام ابن نريمان. وسام نامه، وبطلها سام بن نريمان جد رستم. وجهانكير نامه، وبطلها جهانكير بن رستم. وفرامرز
نامه، وبطلها فرامرز بن رستم. وبانو كشاسب نامه، وبطلتها بانو كشاسب بنت رستم وامرأة كيو بن كودرز. وبروز نامه، وبطلها بروز بن سهراب بن رستم. ونظمت بهمن نامه، وبطلها بهمن بن اسفنديار.
ثم نظمت بعد قصص أخرى كتيمور نامه التي نظمها الهاتفي، وشاهنامة القاسمي الكونابادي، وشاهية مجد الدين البابوي النسائي. ولا تزال محاكاة الشاهنامة مستمرة حتى العصر الحاضر
وقد حاكاها الترك أن صح ما يروى إن شاعراً في القرن العاشر الهجري من بروسه أسمه الفردوسي الطويل نظم شاهنامة طويلة جداً في 380 جزءاً، وأهداها للسلطان بايزيد الثاني، فأمر بانتخاب 80 جزءاً منها وإحراق الباقي، فغضب الشاعر وهجا السلطان وهجر بلاد الروم إلى خراسان حيث مات غماً
وأولع الناس بترجمة الشاهنامة إلى لغاتهم، فترجمت إلى عشر لغات. وكانت اللغة العربية أولى اللغات بترجمة الشاهنامة، لما بين الأدبين الفارسي والعربي من التقارب. ولذلك كانت العربية أسبق اللغات إلى إحراز هذه الترجمة. فقد أمر الملك المعظم بن الملك العادل الأيوبي الفتح بن علي البنداري الأصفهاني أن يترجم الشاهنامة إلى اللغة الغربية، فشرع في ترجمتها في جمادى الأولى سنة 620، وأتمها في شوال سنة 621. استطاع أن يترجم هذا الكتاب العظيم في ثمانية عشر شهراً، وهي همة علالية ومقدرة عظيمة من هذا الأديب الكبير. ونحن نعترف لإخواننا الإيرانيين بفضل إنشاء الشاهنامة وفضل ترجمتها إلى اللغة العربية.
ترجم البنداري الكتاب نثراً بلغة سهلة غير متكلفة، ونقل الحوادث مجردة من التفصيل والتصوير الشعري، فجاء الكتاب في نحو 18500 سطر، في كل سطر نحو عشر كلمات. وذلك نصف الشاهنامة.
ومعظم تصرف المترجم يرجع إلى ما يلي:
1 -
حذف بعض الفصول الصغيرة كفصل تجريب أفريدون أولاده في قصة أفريدون، وقتل رستم الفيل الأبيض وذهابه إلى الجبل الأبيض في قصة منوجهر، ومقاتلة رستم وجنكس في قصة كامدس الكاشاني، ونصح زال ابنه رستماً في قصة اسفنديار الخ.
2 -
وحذف بعض الحوادث كما حذف ما وقع بين رستم والتركمان حينما ذهب لإحضار كيقباد من جبل ألبرز، وحذف ذهاب امرأة كيو إلى أبيها رستم حينما ذهب زوجها إلى توران باحثا عن كيخسرو.
3 -
وحذف اكثر مقدمات الفصول التي يتكلم فيها الفردوسي عن نفسه أو يعظ، كما حذف مقدمة قصة سهراب ورستم التي يتكلم فيها الشاعر عن موت الشبان وحكمته؛ ومقدمة قصة سياوخسن التي يتكلم فيها الفردوسي عن الشعر والكلام البليغ.
4 -
اختصار الرسائل والخطب والوصايا المطولة، واختصار الوصف في الحروب وآلات الحرب، ووصف الخيل والوحوش، ووصف المآدب الخ.
5 -
وحذف مدائح السلطان محمود، وإثبات مدح الملك المعظم في بعض مواضعها.
6 -
ويزيد روايات من كتب التاريخ كالطبري والمسعودي، كما روى قصة ملك الحضر في عهد سابور بن أردشير، ونقل ما كان بين هرمز ورعيته.
والمترجم في هذا أمين لا ينقل كلمة من كتاب آخر إلا نبه إليها إلخ. إلخ. وقد أصلحت بعض هذه العيوب على قدر الطاقة حينما نشرت الترجمة العربية.
لم ينقل المترجم إلى العربية جمال شعر الفردوسي، ولكن نقل حوادث الشاهنامة مختصرة فيسر لقارئ الغربية الإحاطة بموضوع الكتاب في وقت قصير. ولابد أن يكمل نقص هذه الترجمة بترجمة منظومة للكتاب كله أو لفصول منه.
ولهذه الترجمة العربية قيمة أخرى، فقد ترجمت في أوائل القرن السابع الهجري قبل أن يكثر الاختلاف بين نسخ الشاهنامة. وليس عندنا نسخة ترجع إلى ذلك القرن. فيمكن أن يستعان بهذه الترجمة في المقترنة بين نسخ الشاهنامة المختلفة وترجيح بعضها على بعض.
اهتمت الأمم الشرقية الإسلامية من بعد بترجمة الشاهنامة، فترجمت إلى التركية العثمانية، وإلى التركية الشرقية، وطبعت الترجمة الأخيرة في طشقند سنة 1326. وترجمت إلى اللغة الكجراتية وطبعت في بمباي (1897 - 1904)، وترجمت إلى اللغة الأردية كذلك.
وفي القرن التاسع عشر الميلادي عرف الأوربيون الشاهنامة واهتموا بها، فترجمها مول إلى الفرنسية وطبعت على نفقة الدولة في نصف قرن بين سنة 1830 إلى سنة 1877 وطبع معها الأصل الفارسي في ثمانية مجلدات ضخمة، وهي أعظم طبعة للشاهنامة عرفت
في العالم كله.
وترجم اتكنسون إلى الإنكليزية رستم وسهراب، ثم الكتاب كله ترجمة مختصرة وطبعت في لندن سنة 1830، وترجم أرنولد سهراب ورستم أيضا. ثم ترجم ورنر وأخوه الكتاب كله نظماً وطبع سنة 1905 فما بعدها، وكذلك ترجم رجرس معظم الكتاب وطبع في لندن سنة 1907.
وترجم الكتاب إلى الألمانية نظما مرتين: ترجمة فون شاك وطبع في برلين سنة 1851 إلى سنة 1865، ثم ترجمه ركرت، وطبع في برلين من سنة 1890 - سنة 1895.
ومن قبلهما ترجم جرس خلاصة الكتاب إلى موت رستم، وطبعه في برلين سنة 1830.
وأوفى ترجمة للشاهنامة الترجمة الإيطالية، ترجمها بزي نظماً، وطبعها في تورينو 1886 - 1888 في ثمانية مجلدات.
وطبع الأوربيون الشاهنامة الفارسية نفسها مرارا، طبع الجزء الأول منها في كلكتا سنة 1811، وطبعها كلها تزنر مكن في كلكتا سنة 1829 وهذه الطبعة أصل لطبعات أخرى. وطبعها مول في باريس كما تقدم. وطبع ثلاثة أجزاء منها فون فولر في ليدن بين سنة 1877 وسنة 1884.
فهذا اهتمام الأوربيين بالشاهنامة وهم لا تربطهم بها وبقومها ما يربط الأمم الشرقية. وإنا لنرجو أن يزيد اهتمام الشرقيين بهذه المنظومة العظيمة حتى لا تخلو لغة من اللغات الشرقية من ترجمة كاملة منثورة ومنظومة.
ولعل هذا الاحتفال العظيم بذكرى شاعرنا النابغة الخالد، يكون فاتحة نهضة في الشرق توفي الشاهنامة حقها من العناية
وإن المندوبين المصريين ليسران ويفتخران بالمشاركة في هذا المهرجان، ويبلغان مشاركة الحكومة المصرية والأمة المصرية الاحتفال بالفردوسي الشاعر العظيم الذي تربطه بهم وأدباء الفرس عامة روابط أدبية وتاريخية لا تمحى على كر الأيام
عبد الوهاب عزام
الخميس
20 جمادى الأول سنة 1353
30 أغسطس سنة 1934
6 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الأبرشي
المفتش بوزارة المعارف
أنواع الشخصية
الشخصية نوعان:
عملية وفكرية، ولنتكلم عن كل منها بالتفاصيل فنقول:
(1)
الشخصية العملية
كثيرا ما يسأل الإنسان: أيهما أفضل: الأمور النظرية أم العملية؟ وبعبارة أخرى أيهما أفضل: الأفكار أم الأعمال؟ وجوابنا على ذلك أننا لا نستطيع أن نفضل النظريات من العمليات، فنحن في حاجة إليهما معاً، وكل منهما متوقف على الآخر ومكمل له، لا ضده ونقيضه كما يظن البعض، والأفكار أمهات الأعمال، ومن الممكن اعتبارهما مظهرين لشيء واحد
وكما أن لكل أمر من الأمور ناحيتين: إحداهما نظرية والأخرى عملية، كذلك نقول إن للشخصية ناحتين: نظرية وعملية؛ فالرجل مثلاً قد يكون موضع الإعجاب لأفكاره وأعماله، ولو أن الأعمال في النهاية نتيجة الأفكار، ومع ذلك قد تغلب على الإنسان إحدى الناحيتين: النظرية أو العملية تبعاً لميوله وعاداته، فهذا قد يميل إلى الجهة العملية، وذلك قد يميل إلى الناحية الإدراكية فتنمي فيه بطريقة التعود هذه الناحية أو تلك.
ولاشك في أن الشخصية العملية التي تظهر بالعمل والتنفيذ أكثر أثراً وظهوراً في الحياة العملية من الشخصية الفلسفية البعيدة عن هذه الحياة، والأولى كممثل يقوم بتمثيل دوره عملياً على المسرح أمام الناس، والثانية كمن يقوم بتمثيل دوره في الخفاء أو وراء الستار بعيداً عن الأنظار، فأثر الأولى أكثر وضوحاً وظهوراً من أثر الثانية. وتتمثل الشخصية العملية في المصلحين وقادة العمل والمستكشفين الذين ترى آثارهم في أعمالهم التي قاموا بتحقيقها وتنفيذها خدمة للإنسانية. وتتمثل الثانية في الشعراء والفلاسفة والخياليين الذين يقومون بتصوير الأشياء ووصفها، فيسبحون تارة في عالم الحقيقة، وتارة في عالم الخيال؛
ولا ينكر فضلهم أحد، ولكن أثرهم في هذا العالم المادي أقل ظهوراً؛ ففي اليوم الذي اجتاز فيه (بليريوت) القنال الإنجليزي بطيارته كانت الأفكار كلها وأحاديث الفخر والإعجاب موجه إليه، لا إلى العالم الذي فكر فيها عدة سنوات حتى أخترعها.
وإننا لا نقصد بذلك أن نقلل من قيمة العلماء أو المفكرين أو قادة الفكر، ولكننا نقصد الاعتراف بأن تأثير رجال الأعمال أظهر من تأثير رجال الفكر، وإننا نتأثر بالأعمال النبيلة أكثر من تأثرنا بالأفكار مهما كانت سديدة، ولا ننكر أن الفكر والوجدان ينتهيان بالعمل
ومنذ زمن ليس بالبعيد كانت التربية تفكر في العالم أكثر من العمل، فكان الإنسان إذا اختبر سئل عن (مقدار ما يعرفه) أما اليوم فقد تبدلت الحال وانعكس الأمر؛ فأصبحت التربية تعنى كل العناية بالعمل والأعمال، وأصبحت الأسئلة:(ماذا فعل الإنسان؟ وماذا يستطيع أن يفعل؟ وما مقدار ما يفعل؟) ولم تكن الجامعات فيما مضى لتعنى بالجانب العملي من الحياة، ولم تكن لتعمل على تربية رجال ليعملوا؛ بل كانت عنايتها موجهة إلى تكوين رجال مثقفين حباً في الثقافة، معلَّمين حباً في العلم، ليكونوا كزينة لها أينما وجدوا في الأسرة أو المجمع الديني أو في المجمع الأدبي. وكان الرجل الجامعي المثقف لا ينتظر منه أن يعمل شيئاً بيده، فكان كأداة من أدوات الزينة، وكان المجتمع يزدريه ويحتقره إذا حاول أن يعمل عملاً يدوياً. أما الأعمال اليدوية وأما الصناعات فكانت خاصة بالطبقة الفقيرة التي تدعى الطبقة العاملة. وكان يظن خطأ أن هذه الطبقة خلقت لتعمل، أما الطبقة الأخرى فخلقت لتفكر.
أما اليوم فقد أصبحت الفكرة السائدة أن التفكير غير مقصور على طبقة من الطبقات، وأن العمل لا تختص به طائفة دون أخرى، وصار التعليم عاماً بين الفقراء والأغنياء على السواء في الأمم المتمدينة، لا يمتاز به هؤلاء على أولئك، وجعل وسيلة لإعداد الجميع للقيام بواجبهم العلمي والعملي والأدبي في الحياة. وأصبحت الفرصة، فرصة العمل سانحة أمام الجميع من غير ما تفريق. فالعلم الآن في هذا العالم المادي لا يصلح في نظر الماديين - وما أكثرهم - لأن يكون غاية مستقلة. بل يجب أن يكون وسيلة للعمل. ولسنا في شك مطلقاً من أن العلم قوة، لا، بل أكبر قوة في يد الإنسان. وهو قوة اليوم كما كان قوة بالأمس. وسيكون قوة إلى الأبد، ولكننا في حاجة إلى العلم الذي يؤدي إلى العمل، العلم
الذي يمكن تنفيذه والانتفاع به عملياً بتحويله إلى عمل؛ فالعلم بلا عمل لا خير فيه، مثله كمثل شجرة بغير ثمر. هذا هو المقياس الذي يقاس به العلم، ويحكم به على العلوم اليوم. ولا عجب؛ فبعد أن كان العلم يطلب للعلم، حباً في العلم ذاته، أصبحنا لا نفكر إلا في الماديات، نسأل عن مقدار ما يمكن أن يستفاد به عملياً في الحياة من تعلم هذا العلم أو هذه المادة، وأصبحت العلوم التي لا تؤدي إلى أكل الخبز، أو الخبز والزبدة، ينظر إليها نظرة تشكك في الإقبال عليها. ويكثر الإقبال على العلم أو المهنة بقدر ما يمكن أن تدره من المال في أقصر وقت. هذا هو مقياس الإقبال على العلم الآن، وهذا هو الرأي السائد بين الأكثرية من المربين والمتعلمين في الأمم المتمدينة. فالعالم أصبح تجارياً، والعلم كذلك أصبح ينظر إليه بنسبة ما يستطيع صاحبه أن يكتسبه بواسطته من وظيفة أو ثروة أو مركز أو نفوذ. ويكاد هذا العصر المادي يقضي أو قضى بالفعل إلى العالم الروحي، وعلى تعلم العلم حباً في العلم، والاشتغال بالفن حباً في الفن. وإننا لا نكره المادة، ولا ننادي بكره المادة أو احتقارها، ولكن يؤلمنا أن تسيطر المادة على كل شئ، حتى على أفكارنا وتعليمنا. ولا ننكر أن النجاح هو الحياة، وهو الفوز. وحبذا الأمر لو أمكننا أن ننجح النجاح المادي مع المحافظة على الروح العلمية الخالصة، فنجمع بين عالم المادة وعالم الروح.
فالحياة اليوم نزاع بين القديم والجديد، بين عالم الروح وبين عالم المادة، وهو نزاع لا نهاية له، ولكنه ليس نزاعً عدائيً، بل هو نزاع ودي تكميلي لا غرض منه سوى النجاح في الحياة
ولكن ما النجاح الذي نبغيه؟ وما الرقي الذي نريد الوصول إليه؟ هو نجاح الشعب ورقيه، روحياً ومادياً، قوةً ونفوذاً، علماً وعملاً، مبدأ وإنسانية. ولكن هل يمكن الجمع بين الروح والمادة في آن واحد؟ ولم لا؟ إن الإنسان يستطيع أن يكون روحياً إلى حد ما، ومادياً إلى حد ما، بحيث لا تتغلب الروح على المادة، ولا تسيطر المادة على الروح؛ فيأخذ من كل منهما نصيبه، ولا يعنى بناحية ويهمل الأخرى. والنجاح هو الفوز بعد الجد والتعب، التعب الجسمي والعقلي، سواء أكان ذلك النجاح في التأليف أو في نسج القطن وغزله، أو في بيعه وشرائه، أو في صنع السيارات أو الطيارات أو في كتابة الروايات. . إلخ
ومن الضروريات الأساسية للشخصية العملية العلم بالشيء الذي يراد القيام به، والرغبة في
النجاح فيه ولا فائدة في العلم والرغبة إذا لم يصحبا بقوة تنفيذية معنوية أو حسية، داخلية أو خارجية تعمل على التنفيذ.
فكما أن السيارة لا تستطيع السير إلا إذا كانت معدة للسير تمام الإعداد. وكان بها المقدار الضروري من زيت الوقود، وكان الطريق معبداً صالحاً لسير السيارات، كذلك الإنسان لا يمكنه أن يقوم بعمل عظيم إلا إذا كان هناك علم به، ورغبة شديدة فيه، قوة دافعة تدفعه إلى القيام به، هي قوة الإرادة والعزيمة الثابتة
وطالما صادف الإنسان أشخاصاً لديهم الوسائل الضرورية للنجاح في العمل من علم وخبرة وذكاء وحسن تقدير، ولكنهم فقدوا صفه واحدة من أهم الصفات الضرورية للنجاح، تلك هي قوة العزيمة والتنفيذ، فلم ينجحوا في أعمالهم، لأنهم يميلون إلى كثرة النقد والتحليل والتشكك في كل شيء حتى في أنفسهم فيمنعهم ذلك الشك من رؤية فائدة الشيء فيترددون في الإقدام، ويرجعون إلى الوراء، فتضيع منهم فرصه النجاح، والفرصه إن أتت مرة قد لا تعود مرة أخرى. فالعزيمة الصادقة تعد سراً عظيماً من أسرار الشخصية العملية والنجاح في العمل.
محمد عطية الأبرشي
من مشاهداتي في أوروبا
معجزات طبيب
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
يرى الداخل إلى مصحة تسايلابس حديقة جميلة زينت بالورود ونسقت بالزهور المختلفة الألوان، فإذا من انتهى من الحديقة ودخل من الباب العام للمصحة، وجد نفسه في ردهة فسيحة ذات جناحين كبيرين أحدهما للرجال والآخر للنساء قد صفت فيهما الآرائك، ونسقت أشجار الظل وأصص الأزهار المعروفة بالحدائق الشتوية التي لا تنفك عينك تقع عليها أبداً في بلاد النمسا الجميلة. ثم لا يلبث أن يرى أفواج المرضى يتدفقون عندما يقترب موعد العلاج: وهو منظر يذعر له من يراه لأول مرة، ويكاد يذوب قلبه حسرة على أولئك المساكين وخاصة منهم المشلولين والمقعدين الذين يجرون في العربات جر الأطفال الصغار لعدم قدرتهم على المشي والحركة. يأخذ كل مريض مكانه على تلك الأرائك. وفي يد كل تذكرة دخول ثمنها ثلاثة شلنات نمساوية أي نحو أحد عشر قرشاً مصرياً تبيح له الدخول مرة واحدة. وقبل ميعاد العلاج بعشر دقائق يفتح باب يوصل إلى ردهة فسيحة ثانية توجد بها أرائك أخرى ومشاجب تعلق عليها الملابس، وتقف سيدة تتسلم تذاكر الدخول وأخرى تأخذ بيد العميان إلى أماكنهم. وهنا يخلع الجميع ملابسهم العليا ليصير النصف العلوي لجسم كل منهم عرياناً. فإذا دقت الساعة النصف بعد السابعة أو العاشرة صباحاً، أو الثانية بعد الظهر، فتح باب حجرة العلاج على مصراعيه، ووقف به ساحر جالزباخ يستقبل مرضاه، وهو رجل مسن، ولكنه بدين الجسم طويل القامة قوي الساعد مفتول العضل حاد النظر طويل اللحية أحمر الوجه دائم الابتسام، يفيض البشر من عينيه الواسعتين البراقتين، يحيي مرضاه بابتسامة ساحرة، ويداعبهم بمختلف الدعابات، ويقف بجواره نجله الدكتور فرتز الذي درس الطب في ألمانيا ثم انقطع لمساعدة والده في تلك المصحة العظيمة. أما حجرة العلاج فهي حجرة فسيحة مربعة طولها 12 متراً وارتفاعها 7 أمتار، غطيت جدرانها بطلاء بنفسجي اللون، وأقيمت بجوار تلك الجدران عدة أفران كهربائية ذات أضواء مختلفة الألوان بعضها قوي جداً وبعضها ضعيف. فإذا دخل فوج المرضى تلك الحجرة تراصوا صفوفاً أمام آلة العلاج يتقدمهم الأطفال ويتلوهم المشلولون والعميان
ويتبعهم باقي المرضى. أما الجدد فيجلسون على أرائك خلفية بعد أن يكونوا قد دونوا البيانات الخاصة بهم وبأمراضهم عند السكرتيرة التي تعرضها على الطبيب فيما بعد. تغلق أبواب الحجرة بعد ذلك فتصبح مظلمة إلا بصيصاً من نور ضئيل. ثم يبدأ الساحر بالعلاج: تسمع صوتاً يدوي في أرجاء الحجرة كأنه الرعد القاصف يصم الآذان، ويدخل الرعب في القلوب، فترتاع له أفئدة أولئك الذين كتب عليهم أن يلجو هذه الحجرة لأول مرة، ثم ترى شرراً كهربائياً بنفسجي اللون يتطاير من كرة معدنية كالبطيخة تتصل بأحد طرفي عصا يقبض عليها الساحر من الطرف الآخر، ثم يمسك بعنق كل مريض ويمر تلك الكرة مرات سريعة بالقرب من عموده الفقري من أعلى إلى أسفل، ويضعها أحياناً على الجزء الذي يشكو منه ألماً، ولا يستغرق ذلك كله أكثر من عشرين ثانية، ثم يتركه إلى غيره وهكذا حتى ينتهي منهم جميعاً في زمن لا يزيد على نصف ساعة، فإذا خرج المريض من قبضة يده القوية ومن تحت تلك العصا السحرية مر في أحد الأفران الكهربائية مروراً لا يستغرق بضع ثوان أيضاً بإرشاد إحدى المرشدات هنالك
والحق أقول إننا لأول مرة سمعت أنا وصديقي ذلك الصوت المزعج ورأينا ذلك الشرر الكهربائي البنفسجي الذي علمنا عنه فيما بعد أنه نتيجة تيار كهربائي عالي الضغط جداً إذ يبلغ 595 ألف فولت، أقول إننا عند ذلك ذعرنا وامتلأت قلوبنا رعباً، وكاد صديقي يترك الحجرة ويعود أدراجه من شدة الخوف، ولكني تملكت قواي وشجعته ونبهته إلى أولئك الأطفال والشيوخ الذين يتلقون ذلك الدش الكهربائي بلا خوف ولا وجل، واتضح لنا بعد التجربة أن فعل تلك الآلة في الجسم أخف كثيراً من صوتها المرعب في النفس حتى أن صاحبي بعد بضعة أيام أصبح لا يرهبها بل على العكس من ذلك كان يسعى ليكون في المقدمة، فكنت أذكره بقول الشاعر العربي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
…
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
أما الكشف على المريض الجديد فلا يستغرق أكثر من دقيقة لأنه يسأله عن الداء وموضع شكواه، ثم يضع فوق ذلك الموضع أنبوبة زجاجية يمر بها تيار كهربائي ذو ألوان مختلفة، وكأني به يتعرف بذلك موضع الداء تماماً. ويدخل المرضى لتكرار ذلك العلاج بالأكتروراديوم ثلاث مرات يومياً. ثم إنه علاوة على ذلك العمل الأساسي يستعمل طرقا
أخرى في العلاج، فإنه يأخذ بالمحقن من كل مريض كمية معينة من دمه في حجرة خاصة ويضعها في أنبوبة كتب عليها اسم المريض، ثم يمر فيها تيارات كهربائية لتقوية الدم، وفي اليوم التالي يعيدها بالمحقن إلى جسم المريض نفسه، وكأني به يتمثل بقول أبي نواس:
وداوني بالتي كانت هي الداء
وفي المصحة فوق ذلك حجرات أخرى لعلاج بعض الأمراض الخاصة كالربو مثلاً حيث يستنشق المريض بعض غازات معينة في أوقات تعين له. وهناك حجرة أخرى يدخلها المرضى بترتيب خاص حيث يحصر الجزء المريض من الجسم بين قرصين من المعدن تمر فيهما أشعة كهربائية قصيرة. وفي المصحة نحو ثلاثين موظفاً من رجال ونساء طبيبات وممرضات، ولهم جميعا في المصحة مسكنهم ومأكلهم ومشربهم
ولقد تقابلنا مع الدكتور فرتز وتحادثنا معه طويلاً باللغة الإنجليزية فكان مثال التواضع والأدب الجم، وعرفنا منه أنه تجرى عمليات في المصحة بوساطة التيار الكهربائي ذي الضغط العالي، وأنهم يعالجون الأمراض على اختلاف أنواعها كالشلل والعمى والربو والسكر والسل الرئوي وعرق النسا إلخ. ما عدا الحميات بأنواعها والصرع والجنون، وعلمنا منه أيضاً أنه يبحث بحثاً جديداً في استخدام الأشعة القصيرة في العلاج، وهو ينتظر فائدة كبيرة من وراء ذلك البحث. وأما والده زيليس نفسه فهو في الخامسة والستين من عمره وهو أقوى من أي شاب تراه، ويأمل أن يعيش مائة سنة أخرى بفعل الألكتروراديوم، وهو لم يتعلم في المدرسة ليكون طبيباً، وإنما كان أخصائياً في النبات، ولما غادر المدرسة هوى الكهرباء، وأخذ يدرسها ويجرب فعلها في الأمراض حتى انتهى إلى ذلك النجاح العظيم الذي صادفه باستخدام الضغط العالي الكهربائي، وأخذ الشعب النمساوي والألماني يقبل عليه وينتفع بعلمه وتجاربه حتى علا كعبه، فأخذ الأطباء في النمسا وألمانيا ومن ورائهم أطباء العالم يحملون عليه حملات شديدة وازدادت حملتهم عليه لما نبه ذكره وافتتح مصحته في سنتي 1929، 1930 فحاربوه بكل ما أوتوا من قوة واتهموه بأنه دجال وأنه عالة على الطب، وحرضوا عليه الحكومة، فقبضت عليه وقدمته للمحاكمة، فكان برغم ذلك رابط الجأش عظيم الثقة بنفسه وحصر دفاعه في الكلمات القصيرة الآتية قال: (أولئك الأطباء المدبلمون كثيراً ما يخطئون ويكون في خطئهم القتل
لمرضاهم، ذلك القتل الذي لا يقام له وزن. أما أنا فيجيئني المريض بعد ييأس يأساً تاماً من شفائه على أيديهم فيبرأ من سقمه ويشفى من علته فيتركني شاكراً مسروراً، ولم يشك مريض واحد إلى أحد بأن طريقتي أوقعت به أي أذى. فهل هذه الحملة إذن إلا حملة حقد وحسد؟) فكان في ذلك الإقناع كل الإقناع للمحكمة فخرج منها منتصراً. ثم سار على نهجه فحاز ثقة الشعوب جميعاً. وفي نظرنا أن كل الخير للإنسانية جمعاء، ولهؤلاء الأطباء أن يتشجعوا وأن يضحوا بشيء من تعصبهم وغرورهم في سبيل الصالح العام، وأن يمدوا أيديهم إلى ساحر جالزباخ فيصافحوه معتذرين عما فرط منهم، وفي يقيننا أنه لن يمتنع عندئذ عن أن يبيح لهم بسره الغامض وأن يطلعهم على أعماله وتجاربه ومخترعاته، فتتكاتف الأيدي جميعاً وتتوافر على دراسة الأشعة القصيرة والألكتروراديوم. فيخطو العالم الخطوة الحاسمة نحو استخدامها بدلاً من المشرط، ونحو إحلالهما في العلاج محل الأدوية والعقاقير وفي هذا ما فيه من خير ونفع
عبد الحميد فهمي مطر
بين فن التاريخ وفن الحرب
5 -
خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
ويختلف الرواة في الحركة التي جرت، فالأخبار التي يستند إليها الواقدي والبلاذري لا تبحث في غارة المرتدين على المدينة، ولا تذكر موقع ذي حسي، وتذكر أن أبا بكر لما علم أن القبائل اجتمعت في ذي القصة بقصد الغارة قرر أن يقاتلها في عقر دارها غير مبال بقلة عدده، وقصد من ذلك إرهاب المرتدين وإلقاء الرعب في قلوب العرب، وجعلهم يعتقدون أن المسلمين أقوياء وأن ذهاب جيش أسامة يقلل من قوتهم، فتقدم أبو بكر على رأس المقدمة الراكبة نحو ذي القصة يعقبه الكوكب (القسم الأكبر).
وبالنظر إلى رواية سيف أن الجمال بعد أن نفرت براكبيها، ودخلت المدينة بات أبو بكر ليلته يتهيأ للهجوم، فبعد أن رتب قوته خرج مبكراً من المدينة وباغت عدوه فهزمه شر هزيمة. والذي يلوح لنا أن الروايات الأولى هي الأصح. وكانت قوة المقدمة تبلغ مائة رجل، وسارت يومها وعسكرت مساء بالقرب من أجمة، فباغتها العدو من مكمنه وألجأها إلى الفرار، فاحتمى أبو بكر بالأجمة منتظراً ورود الكوكب (القسم الأكبر) ولما نادى أحد المسلمين بوروده انهزم المرتدون، فطاردهم المسلمون إلى ثنايا العوسجة ثم قفلوا راجعين إلى ذي القصة
ويذكر الواقدي أن أبا بكر لم يخرج إلى ذي القصة إلا بعد عودة جيش أسامة إلى المدينة، غير أننا لا نميل إلى رأيه، لأن مجرى الأخبار يدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة لما خرجت من المدينة قاصدة العدو. ويزعم سيف أن بني ذبيان وعبس بعد هزيمتهم هذه وثبوا على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين في كل قبيلة، وليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين. وكانت وقعة ذي القصة والبقعاء أول
نصر للمسلمين على المرتدين، ومنها تظهر فراسة أبي بكر وصلابة عوده.
لا بد أن القارئ انتبه إلى فساد خطة القبائل في محاولتهم غزو المدينة، إذ بدلاً من أن يجتمعوا في محل واحد للهجوم على المدينة أو أن يقاوموا جيش المسلمين معاً اجتمعت كل قبيلة في حيها، فاجتمع بنو أسد في السميراء، وفزارة في طيبة، وجديلة وغوث في طيء في جبليهما، وذبيان وعبس اجتمعت فرقة منهما بالقرب من الربذة والأخرى في ذي القصة والبقعاء.
والداعي لتفرقهم على ما يظهر أن المياه في كل محل من تلك المحلات لم تكن كافية لإرواء جماعة كبيرة، وكان الكلأ قليلاً فضلاً عن صعوبة اجتماع كلمة القبائل على غاية واحدة.
وكان قبل ذلك حلف بين بني أسد وغطفان وطيء، بيد أن قتالاً وقع بين غطفان وبني أسد من جهة وطيء من جهة أخرى فأمست القبائل متخاصمة. وكذلك كلمة طيء لم تكن مجتمعة فمال إلى المرتدين فرقتان منها فقط، وهما جديلة وغوث. أما الفرق الأخرى فبقيت على إسلامها. وكانت القبائل في قيامها على المدينة يراقب بعضها بعضاً، ولا تريد أن تكون البادئة بالعداء، ذلك ما جعل كلا منها يبقى في حيه ويراقب عمل الآخر
وقد اختبر الصديق حالة القبائل وتأكد أن كلمتها لم تجتمع، لذلك لم يشأ أن يؤخر جيش أسامة عن سفره، واكتفى برجال المدينة والموالين من القبائل القريبة منها وقد أيدت الوقائع رأيه. وبعد انتصار أبي بكر على القبائل في البقعاء قفل راجعاً إلى المدينة، ولما شاع خبر انتصار المسلمين على أهل الردة في أول قتالهم أخذت الصدقات تأتي من الأطراف بعد أن تردد أهلها في إرسالها، فوردت صدقات عدي بن حاتم من طيء وصدقات أخرى
وبعد مدة قصيرة عاد جيش أسامة من الشمال، فقرت به أعين المسلمين فلم يمهل أبو بكر المرتدين بعد أن بلغه أن بني عبس وذبيان أوقعت بمن فيها من المسلمين ومثلت بهم، وبعد وقعة ذي القصة أراد أن يفني من في الأبرق فأراح جيش أسامة بضعة أيام وخرج بالقوة التي سار بها إلى ذي القصة بعد أن أنجدها بالناس من جيش أسامة وتوجه نحو الأبرق، وفيه الفرقة الثانية من بني عبس وذبيان وبني كلاب وغيرهم
وقد ناشده كبار الصابة بألا يعرض نفسه للخطر بقيادة الجيش بنفسه إلا أنه لم يجب طلبهم.
فبعد أن عبأ جيشه باغت المرتدين في الأبرق فهزمهم شر هزيمة وانسحبت فلولهم إلى السميراء والتحقت ببني أسد، ولما رأى طليحة الخطر انسحب بجميع القوات التي التفت حوله إلى بزاخة
وأقام أبو بكر في الأبرق وكان يملكه بنو ذبيان، فأعطى مراعيهم لخيل المسلمين وحرم بطون ذبيان منها.
تولية خالد بن الوليد قيادة الجيش
تدل الأخبار على أن خالداً أشترك في قتال ذي القصة والأبرق مع المهاجرين، ولاما رجع أبو بكر إلى المدينة انسحبت قوة المسلمين إلى ذي القصة، وتولى قيادتها خالد بن الوليد
وتذكر الروايات التي تبدأ بسيف بن عمر أن أبا بكر لما وصل إلى المدينة جمع رجالا من القبائل المجاورة للمدينة وأرسلها إلى ذي القصة لتقوية جيش المسلمين. ثم عاد إلى ذي القصة لتقوية الجيش وقسمه إلى أحد عشر فرقة، وعين قائدا لكل منها فوجهها إلى مناطق المرتدين في جزيرة العرب لقتالهم والقضاء على حركة الردة
وهذه الرواية التي يرويها سيف يصعب تصديقها وذلك:
أولاً - لأن قوة المسلمين لم تكن في عدد يكفي لتقسيمها إلى أحد عشرة فرقة
ثانيا - إن إيفاد فرق البحرين وعمان ومهرة وحضرموت واليمن قبل قمع الفتنة في قلب جزيرة العرب مسئلة فيها نظر.
ويمر طريق البحرين وعمان ومهرة ببلاد بني حنيفة، وفيها مسيلمة ثائرا، وهو معتصم في بلاده الوعرة. والحقيقة أن قوة جيش المسلمين لم تجاوز بضعة آلاف على ما ذكرناه في بحث تقدير قوة الفريقين. فجيش أسامة لم يجاوز ستة آلاف، أما القوة التي جهزها لمقاتلة من اجتمع في ذي القصة فلم تتجاوز الألفين. فتقسيم هذه القوات جميعا إلى أحد عشر قسما مما يجعل كلا منها ضعيفا بحيث لا يستطيع القيام بالواجب المنوط به. بينما الأخبار تؤيد أن جيش خالد بن الوليد وحده كان يبلغ أربعة آلاف رجل، ثن إن هناك أخبارا تؤيد حبوط هجوم فرقة عكرمة بن أبي جهل، وكذلك هجوم فرقة شرحبيل بن حسنة على قوات مسيلمة وانسحابهما إلى الوراء والتحاقهما بفرقة خالد بن الوليد مما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد أن أبا بكر فكر قبل كل شئ في القضاء على حركة الردة في وسط جزيرة العرب، وجمع لذلك ما
في يده من القوات المتيسرة وناط قيادتها بخالد
قوة الجيش:
إن الرواة على عهدنا بهم لم يرووا لنا مقدار قوة المسلمين التي احتشدت بقيادة خالد بن الوليد في ذي القصة. والمصدر الوحيد الذي يذكر لنا قوة خالد هو أبو حبيش، إذ يروي لنا أنها كانت تبلغ أربعة آلاف مقاتل حركته إلى بزاخة
وكان الجيش على ما سبق بيانه مؤلفا من القوة التي جمعها أبو بكر من القبائل المجاورة للمدينة على جناح السرعة الهجوم على المرتدين في ذي القصة بعد تهديدهم للمدينة، ومن القسم الذي التحق به من جيش أسامة بعد عودته إلى المدينة قبل الهجوم على الأبرق. ومن الواضح أن البعض منة تخلف عن الالتحاق ليقضى مدة من الزمن بين أهله بعد أن غاب عنهم مدة شهرين في سفرة إلى الشمال
والذي يظهر من رواية سيف أن أبا بكر لما عاد إلى المدينة أرسل هذا القسم المتخلف أيضا إلى ذي القصة. وبعد التحاقه أصبح جيش خالد أربعه آلاف أو أكثر. وكانت قوة الأنصار وحدها تبلغ زهاء خمسمائة مقاتل. أجل، إن هذا العدد ضعيف بالنظر إلى المهمة الخطيرة المنوطة به. إلا أن تجانس القوة في هذا الجيش وصلابة المعتقد فيه، وتفرق كلمة القبائل المرتدة جعلته أهلا للعمل
منطقه الحركات:
يحد المنطقة التي جرت فيها الحركات من الشرق، الدهناء، وهي الساحة الرملية الممتدة من الشمال الغربي إلى الشرق الجنوبي في شرقي القصيم. وكانت الدهناء ولا تزال المفازة التي تفصل أرض السواد (أعني العراق) عن بلاد نجد. ويحدها من الشمال جبل شمر أعني بلاد طيء المرتفعة التي تمد جبالها على ما سبق من الشمال الشرقي. إلى الجنوب الغربي، وأخطرها جبلا سلمى في الجنوب وأجا في الشمال، وفيها وديان كثيرة أجلها شأناً وادي حائل، وهو يبدأ من بزاخة طيء بشعاب متعددة، ويفصل الجبلين أحدهما عن الآخر حيث تنصب فيه عدة شعاب من الشمال والجنوب وتغمرة بالمياه في موسم الأمطار. وقد شيدت على جانبيه القرى التي ترتوي بمياه الآبار المنصرفة إليها من الجبال. ولما كان
جبل سلمى وجبل رمان يشرفان على وادي الرمة من الجهة الشمالية، فالشعاب التي تمر بالأطناف الجنوبية تنحدر جميعا إلى ذلك الوادي. وهذة الأطناف هي الحدود الفاصله بين حي بني أسد وحي فزاره من بني غطفان، وقريتا فيد وطابه لبني طيء وهما على الحدود
ويحد منطقة الحركات من الغرب حرة خيبر، ومن الجنوب الهضبة المشرفة على وادي الرمة من الجنوب، وفيها بنو سليم في الشمال وبنو عامر في الجنوب. وموقعا العمق في الغرب ورابية أبان الأبيض في الشرق في أرض بني سليم
والوادي أرض منخفضة بين هضبتين مرتفعتين تنصرف إليه جميع المياه التي تنزل عليهما في موسم الأمطار. وإذا حفرنا الآبار في بطنه على عمق بضعة أقدام نعثر فيها على ماء كثير. والطريق التي تصل المدينة ببلاد القصيم تمر بهذا الوادي. بالقرب من سابية، ثم بالشقرة فالربذة بالقرب من الحناكية فالمشقق فبئر الطرفة، فإلى جنوب أكمة الخيمة حيث يدخل أرض بني أسد، ويمر بعد ذلك بين الأبانين: أبان الأسود في الشمال، وأبان الأبيض في الجنوب. والأسود في أرض بني أسد إلى أن يمر بشمال الرس وهو بئر ماء لبني أسد، فيصل إلى القريتين في بلاد قصيم، أعني العنيزة في الجنوب وبريدة في الشمال وكلتاهما في حي بني تميم
ويسكن يسكن بنو أسد في الساحة الواسعة التي شمال الوادي من جنوبي فيد وأطابة غربي السميراء والظهران والسليلة.
وفي غربي النقرتين نقرة السلاسل ونقرة الخطوط وجبل سارة. وفي أرض بني أسد يقع موقع الغمر وهو في رابية مرتفعة تشرف على وادي الغمر الذي ينبع من سفح جبل الموشم الشمالي ويف في الكهفة. وبالقرب منه تقع بزاخة بني أسد. وهي الموقع الذي نشبت فيه المعركة بين جيش خالد وجيش طلحة.
والذي جعلنا نميل إلى العتقاد بأن موقع بزاخة في هذا المحل هو ما ذكره ياقوت الحموي في معجمه نقلا عن ابن الكلبي. أما الأصمعي فيروي أن بزاخة ماء لطيء. وفي جبل طيء موقع آخر يسمى بزاخة. وعلى ما يظهر لنا من مجرى الحركات أن القتال بين المسلمين وبين المرتدين لم بقع في أرض طيء، بل وقع في أرض بني أسد بالقرب من الغمر، ولا سيما أن خالداً بعد انتصاره على طليحة وجه سراياه في جهات مختلفة مطارداً
فلول المنهزمين. وهذه السرايا قاتلت المنهزمين في جبل رمان وفي الأبانين. ولا يعقل أن المعركة نشبت في بزاخة طيء والمطاردون يطاردون المنهزمين إلى رمان والأبانين، بل من المعقول أن تنشب المعركة في جوار الغمر قيشرد المنهزمون إلى أنحاء مختلفة، فينهزم بنو فزارة إلى حيهم في جنوبي الرمان وغربيه، وبنو أسد إلى الأبانين وإلى ظفر في جوار كهفة وإلى النقرة - أعني إلى حدود الحي
وفي منتهى الشرق بلاد بني تميم والقصيم على الحدود بين بني أسد وبني تميم. وهي من أغنى البقاع الواقعة في نجد، وتحدها رمال الدهناء من الشرق، وفي غربها مراعى الحزن، وفي شرقها مراعى الصمان، وكلتا البقعتين من أخصب المراعي وهما لبني تميم. وبنو يربوع في الحزن إلى وادي حائل، والصمان إلى بني حنظلة، وماء الطريفة في شمالي البريدة لهم أيضاً. والبطاح في جنوبي الحزن وفيه قرية بريدة وموقع البعوضة والقعرة، وهو مشهور بجودة الكلأ وفيه دارت الدائرة على مالك بن نويرة رئيس بني يربوع
ولا تزال إحدى ضواحي البريدة تسمى بالبطاح، والقصبة تتألف من أربع ضواح، وهي جردة وجديدة وشمال وبطاح.
وموقع النباج في حي بني تميم وهو المحل الذي وصلت إليه سجاح برجالها فقاتلها بنو تميم وكسروها، وهو واقع في الحزن على طريق الكوفة بعد الفيد
يتبع
طه الهاشمي
قصه لؤلؤة
للأديب حسين شوقي
ولدت في أعماق المحيط الهندي، وكنت أقيم هادئة مطمئنة في مقصورتي الصدفية، إلا أنني سئمت الحياة التي كنت اقضيها على نمط واحد، واشتقت إلى مشاهدة العالم الآخر القائم فوق سطح الماء الذي طالما حدثتنا عنة الأسماك في دهش وإعجاب، ولكن أخواتي من اللؤلؤ أشرن عليّ بالصبر، زاعمات أن الإنسان سوف ينزل إلى الأعماق لينتزعني من خلوتي، لأننا معشر اللؤلؤ - على زعمهن - ذوات قيمه نادرة عنده، وقد صدقن في زعمهن، إذ نزل إليها ذات يوم زنجي ليأخذني من صدفتي، إلا أن الحوت افترس المسكين، ثم حاول زنجي آخر بعد ذلك بقليل أن يفعل فعله سابقه، ولكنه لم يدركني، إذ كنت في عمق سحيق فمات مختنقاً. . بعد هذين الحادثين لم يبق لدى شك في قيمتي بعد هذين الحدثين لم يبق لدى شك في قيمتي عند الإنسان، وأنا خاملة الذكر في البحر، لذلك ازداد شوقي إلى المشاهدة هذا العالم. . . ثم أتى زنجي ثالث مجدود استطاع أن يرفعني إلى سطح الماء، وهذا سلمني إلى رجل أبيض أخذ ينظر إلى في شره بعد أن انزع عني بسكينة الحاد صدفتي المسكينة!
وأراد زنجي رابع أن يسرقني من الرجل الأبيض، ولكن الأبيض داهمه أثناء السرقة فضربه بالسوط ضرباً مبرحاً مزق جلدة وأسال دمه. . يالخيبة أملي لو كان هذا هو كل ما يشاهد في دنيا الإنسان!.
سافرت بعد ذلك إلى لندن على متن باخرة فخمه. . وهناك قامت فتاة حس ناء بصقلي في دقه وأناة. . وبعد أن أنهت من عملها رفعتني بإصبعها، وأخذت تتأملي طويلا ثم تنهدت من الأعماق. فخشيت عليها أن تفعل فعله الزنجي السارق، لأن جلدها ناعم لا يتحمل السوط. أما أنا فكان بودي أن أتعلق بجيدها البلوري أو أعلق بيدها الناعمة. . .
ثم أخذني جوهري فعرضني في زجاج دكانه. . وكان المارة ينظرون إلى في إعجاب وفضول، وذلك ما أدخل على نفسي الزهو. . والواقع أنني كنت جميلة حقاً بلوني الوردي الذابل، ولا سيما بعد عملية الصقل التي قامت بها تلك الفتاة الحسناء. وقد لاحظت أن أهالي لندن فضوليون إلى حد بعيد، وقد يصح مثل هذا الفضول من جانبي أنا مثلاً إذ
قضيت حياتي سجينة في صدفة. . أما من جانب الإنجليز فهو أمر مستغرب، وهم قوم رحل أفاقون. . وكان صاحبي الجوهري في الغالب يهودياً، لان انفه كان مقوساً، ثم إنه كلما وضعني في يده المجعدة، ضغط علي في قسوة وشره حتى كنت أخشى على نفسي الهلاك. وقد باعني ذات يوم إلى سيدة متقدمة في السن بربح وافر على ما أظن، لأنه جعل يفرك يديه طويلاً عقب إتمام الصفقة، وكانت نية هذه السيدة أن تصنع مني خاتماً. إلا أن ولدها وهو طفل (عفريت) في السابعة من عمره ابتلعني ظنا منه أني قطعة من الحلوى. فغشي على السيدة من الحزن، أكان ذلك من أجل ولدها أم من أجلي؟ لا أعلم، ولكني أرجح الثانية على الأخص بعد حادث الزنجيين اللذين ماتا في سبيلي. . .
وقد تناول الطفل مسهلاً قوياً أعادني إلى الحياة والنور. . . ثم انتقلت إلى يد أخرى كلها مرتعشة مجعدة. .
رب! كيف نظم هذا الوجود؟ كيف يكون الجاه والغنى عند العجائز والدميمات فقط؟
ولكن من حسن حظي وقعت في النهاية في يد فتاة أمريكية حسناء مثرية جدا، أعطيت لها في شكل خاتم قدمه شاب خاطب، وكانت الفتاة سعيدة بي. . فكم من رحلات شيقة قمنا بها - نحن الثلاثة - على متن طيارتها الخاصة، إلا أنه اتضح للفتاة يوما أن هذا الشاب يخونها، وأنه لم يخطبها إلا طمعا منه في ثروتها، لذلك ثار ثائرها: فألقت بي في وجهه، وكان ذلك أمام الباب الخارجي للدار الواسعة، فتدحرجت حيث اختبأت في حفرة مظلمة بالحديقة أنتظر من ينقذني، وأرجو أن يكون ذلك على يد فتاة جميلة
حسين شوقي
تعليقات القراء على الرسالة
إلى الأستاذ الرافعي
للأستاذ علي الطنطاوي
سيدي:
أعرني هذا القلم السحري الذي تكتب به. . . لأصف لك الشعور الذي خامرني وإخواني هنا، حين قرأنا فصلك الأخير: قصة زواج. . . فما أدري والله كيف أصفع لك
وقد والله قرأناه مثنى وثلاث ورباع، وقد والله قطعتا القراءة مرة وثانية وثالثة، لأننا لم نكن نملك نفوسنا أن تفلت من قيود المادة، وتنفذ من بين السطور إلى عالم أسمى وأوسع، تطير في أرجائه لتحلق بهذه البلاغة العلوية التي تسمو بتاليها وتسمو. . . حتى تدنو من حدود العالم الكامل - عالم القرآن - وتريه تحقيق ما قاله سعد (بطل المشرق): كأنها تنزيل من التنزيل!
وقد والله خرجنا منها وكأننا لم نعرف عبد الملك أمير المؤمنين، وسعيداً سيد التابعين، إلا الساعة. . . فإذا أنت قد نقلت الملك والجلال من ذاك إلى هذا، وإذا مقالة منك واحدة، تغلب عبد الملك على جيوشه وأمواله وملكه، ثم تجرده منها، ثم تعرضه جسداً هزيلاً؛ وتمنح سعيداً على فقره وتواضعه، أسمى العظمة والهيبة والجلال. . . حتى يقول هذا:(أنا. . .) فترددها ملائكة السماء. ويقول ذاك: (أنا. . .) فتستحي أن تعيدها شياطين الجحيم!
وأقسم لقد سمعت هذه القصة وقرأتها، وحفظتها، وحدثت بها. وانحدرت بين أذني ورأسي ولساني عشرين مرة، ثم كأني لم أسمع بها إلا الآن. . . وكأني كنت فيها في ليل مظلم، فطلعت على مقالتك شمساً ساطعة؛ عرفت معها كيف تكون حصيات الليل لآلئ النهار. . . فما بالك بمن لم يسمع باسم سعيد؟ وما بالك بمن لا يعرف في الدنيا أدباً، إلا الأدب الذي يسقط علينا من باريس أو لندن أو بوسي أيرس؛ ولا يدري من البلاغة إلا أنها التي تلوح بين سطورها رؤس البنادق، وأفواه المدافع، وأجنحة الطيارات؟
ومثل أولئك كثير، فقد عابوك بالغموض، ورموك بالإبهام، وادعوا أن كتبك لا تفهم، ومعانيك لا تساغ، فلما ظهر أن في الغرب شاعراً فحلاً مذهبه الغموض فنًا من فنون الأدب تتمحل له الأسباب وتتلمس له الدواعي! فما الذي سيئة الرافعي حسنة بول فاليري، إلا أن
ذاك من فرنسا وهذا من مصر؟
أما إن هذا الإيمان بالغرب إذا انتقل من الشيوخ إلى الشبان لم يكن إلا كفراً بالشرق وإلحاداً بالعقائد الشرقية، وجهلاً باللغة الشرقية، وخروجاً من الجلدة الشرقية. . . وإن عندنا في دمشق ندوة أرادت أن تعيب مجمعنا الأدبي، فلم تجد أبلغ في العيب من قولها: إن المجمع ثقافته شرقية، بل لقد (ضبطتنا متلبسين بالجريمة)، وأشهدت علينا أننا كنا نحمل كتباً صفراء. وكان الذي نحمله (شرح المواقف للسيد). ومثل هؤلاء لا يقرأون الأدب العربي إلا إذا صيغ هذه الصياغة
وعندنا إن هذه القصة بكل ما قرأنا في العربية من قصص ما يزال أكثر أصحابها ينشدون أدباً فرنسياً أو إنجليزياً بحروف عربية
وعندنا أنك إذا استكثرت من هذا النوع غطيت على خيام أهل الجديد ودورهم المبنية من الطين والقش، بقصر شامخ من الصخر يثبت ما ثبت الدهر
وعندنا أن مائة قصة من مثل هذه القصة، تنشئ الأدب العربي إنشاء جديداً، وتخرج من الشيخ الهم الفاني، الذي ينتظر الموت شاباً قوياً بهياً، جاء يستأنف الحياة بحنكة الشيخوخة. وتجعل من الأدب العربي أدبين: أدب أربعة عشر قرناً، وأدب الرافعي
ولست والله أمدحك لأتملقك وأتزلف إليك، وما بي بحمد الله رذيلة التملق والتزان، وإني لأنقم منك أحياناً. إنك تبالغ في الدقة، وتمعن في السبك الفني لمعانيك وألفاظك، حتى ما أكاد أفهم عنك، وإننا لنحفظ جملك هذه الغامضة، ونتنادر بها، على حين أنك تعرف من نفسك القدرة على أسهل الكلام وأوضحه، ، وإن شعرك لين سائغ عذب كالماء
ولكني أمدحك، وما أجدني صنعت شيئاً، لأنك في نفسي أكبر من ذاك، إنك واحد من عشرة هم كتاب العربية في كل عصورها، إنك لسان القرآن الناطق.
فاقبل تحياتي وإكباري وشكري، وأسألك أن تزيدنا من هذا النوع من الأدب، وأن تستكثر من هذه الفصول الاجتماعية، وأن تعلم أن مقالاتك في الزواج كان لها من الأثر ما لا يكون لقانون صارم من ورائه السجن والغرامة. وإننا نحمد الله على أن جعل في العربية مجلة صاحبها الزيات، ويكتب فيها الرافعي
علي الطنطاوي
عضو المجمع الدبي بدمشق
من شعر الشباب
لا تباهوا
للأستاذ فخري أبو السعود
مَنْ لُمْلكٍ بات مهضوم الحمى؟
…
وتراث بات نهب الناهبين؟
ولأرض نام عنها أهلها
…
تاركيها بين أيدي الآخرين؟
وتخلى قادة عن أمرها
…
فاستوى المائن منهم والأمين
خيرها يخطي شعبا قانعا
…
ويصيب الدخلاء الطامعين
كل من هبوا على الأرض سعوا
…
يبتغون الرفد فيها والمعين
كلهم من عسكر أو عزل
…
جند إذلال عليها يخطرون
أمنوا فيها فكانوا حربها
…
ومشوا في ظلها مستهزئين
من لشعب فترت همته
…
للذي يجري عليه مستكين؟
يتسامى كل شعب للعلا
…
وهو يشقى في حماه يهون
ورأى حرية القوم دنت
…
موردا لكنهم لا يردون
قيد الحرص من الشعب الخطى
…
فهو بالعيش وإن ذل ضنين
ولو اعتزوا بعزم لعنا
…
لاعتزام الشعب كيد الكائدين
ولدانت لهم آمالهم
…
إنما الآمال بالعزم تدين
لا يطل منا بفضل أحد
…
لا يعز الفرد والجمع مهين
لا تساموا درجات بينكم
…
كلكم للغاصب العادي قطين
لا تباهوا بمغان رفعت
…
هي للسكن قبور وسجون
أو بألقاب علا زائفة
…
تتغالون بها مفتتنين
أو بأثواب عليكم نمقت
…
أنتم أسرى بها لو تعلمون
حيثما راح ابن مصر أو غدا
…
فهو في الأسر وفي القيد رهين
حرروا أعناقكم ثم أفخروا
…
بحطام أو بجاه تملكون
ما ارتقاء ندعيه بيننا
…
ونهوض وعلوم وفنون
يالشعب بات عن حرية
…
غافلا يلهيه سفساف الشؤون
تندب الحاضر نفسي وترى
…
فيه وجه الغد مربد الدجون
عصف العصر اصطخابا حولنا
…
وتفانى آله مشتجرين
وعلينا آل مصر حجب
…
من بقيات الليل والقرون
ليت شعري - إذ تعالى بينهم
…
صيحة في كل يوم ورنين -
أأفاق القوم من نومهم؟
…
أم مشوا في نومهم مختبطين؟
نحن نحيا في خيال ورؤى
…
نحن في كهف عن الدنيا كتين
نحن - والدنيا اجتهاد ووغى -
…
نهب لذات ولهو ومجون
صاح بعض بهراء وأحتمى
…
بعضنا بالصمت عجزا والسكون
كثر القول وما أغنى الحمى
…
عن دعاوى اللاغطين القاعدين
إنما يطلب من أبنائه
…
عملا ينسخ قول القائلين
فخري أبو السعود
الحياة الغالية
للأديب سيد قطب
بالأمسِ كنتُ أعيشِ نضْو تَرَقُّبِ
…
أزْجِي حَيَاتي كالأجيرِ المتعَبِ
أرنو إلى الإصباحِ، ثم تُمجُّهُ
…
نفسي، وأنظرُ كارهاً للمغربِ
وأحسُّ بالقفزِ الجديبِ يلُّفني
…
فأعيشُ في ظُلَمٍ كقبرِ الغيهبِ
وَلَو إنما اختصِرتَ حياتيَ لم أكنْ
…
أدري بما نقصتُ، ولم أتَعتبِ
وإذا تشابهتِ الحياةُ أقفرتْ
…
كُرهت، فلم يُشعَرْ بها أو تُطلَبِ
واليومَ آسفُ للدقائقِ تنطوِي
…
من عمريَ الغالِي الثمينِ الطيِّب
واليومَ أرقبُها وأرقبُ خَطْوِها
…
فأعيشُها مِثلَينِ بعد تَرقُّي
وهي العميقةُ كالخلودِ وإنما
…
تمْضيِ حثيثاً في خُطا المتوثَّبِ
وأودُّ أن لو أبطأتْ وتلَّبثتْ
…
في خَطْوِها لبْثَ الوئيد الُمكثِبِ
تغلو الدقائقُ في حياةٍ خصبةٍ
…
وتهون أعوامٌ بعمرٍ مُجدب!
الحبُّ فاضَ على الحياةِ بخصبه
…
وأجدَّ عُمراناً بكل مُخَرِّبِ
وأزاح أستارَ الدُّجى فتكشَّفَتْ
…
ظلماتُه عن كل زاهٍ مُعجِب
وكذلك تَحْلَوْ لِي الحياةُ وتُجتلى
…
وتعزُّ ساعاتُ الغرامِ المخصب
يا ثغر.
. .
أتأذن يا ثغر في قبلة؟
…
فديتك يا ثغر بالمهجتينْ
فدتك البحار بمرجانها
…
وعوذت درّك من كل عين
أريدك يا ثغر بشاً ضحوكا
…
ولو كان فيك خداع ومَيْن
فانك مغرٍ وحق الجمال
…
تغر بفتنتك الحسنين
فبالورد قد لُفَّت الشفتان
…
فأصبحتا فيك ريّانتين
فباللهِ تأذن في قبلة
…
وإن كنتَ سمحاً ففي قبلتين
فكل نعيم بهذه الحياة
…
يُنال على تَيْنِك الشفتين
حسين شوقي
العلوم
فكرة النظام الشمسي الحديثة
تغلب النظام الكوبرنيكي على النظام البطليموسي
بقلم فرح رفيدي
من البدهيات التي لا تستلزم حيرة الإنسان كثيراً هي أنا نرى الشمس تدور لأن الأرض تدور، ولولا ذلك لما كان ليل ونهار، ولكانت الأرض أبداً نصفين ثابتين، نصفاً مظلماً قاتماً، ونصفاً مستنيراً أبداً بشمس ثابتة
وهذا الذي قد نعتبره أمراً بدهياً اليوم، كان بالأمس سبب الشقاق وموضوع الحوار، وقبلة أنظار الباحثين من الفلكيين وغير الفلكيين. ومنذ مئة وخمسين سنة فقط كان الحوار قائماً على منبر جامعة هارفرد بأمريكا في إذا ما كانت الأرض تدور أو لا تدور، وكان من برنامج الجامعة نفسها أن تدرس الفكرتين المتناقضتين في وقت واحد. وقبلها بوقت قصير كانت جامعة باريس تؤيد الفكرة القائلة بأن حركة الأرض حول الشمس فكرة مناسبة إلا أنها خاطئة. فحداثة هذه الفكرة تدل على أن الفكرة اليونانية عن نظامنا الكوني لم تزل من قلوب الناس بإعلان كوبرنيكس لفكرته الجديدة، بل ظلت الفكرتان تتحاربان في عقول الناس إلى أن تغلبت إحداهما على الأخرى. وكان الانتصار الذي أحرزته الفكرة الجديدة انتصاراً نهائياً للحقيقة، وموتاً أبدياً للفكرة الباطلة التي شغلت عقول الناس بتناقضها وكثرة تعقدها
قبل أن يبزغ نور الفكرة الحديثة بألفي سنة كان فيثاغورس اليوناني يعتقد بحركتي الأرض اليومية والسنوية، غير أن هذا الاعتقاد قد قضى عليه أرسطو، ورفضته الكنيسة لمنافاته للدين المسيحي في العصور الوسطى، فمات قبل أن ينشر أو ينتفع به أحد، والكنيسة لم تقف عند حد رفض الفكرة وتحريم الاعتقاد بها، بل تعدته إلى تضحية كل نفس جاهرت بمعتقدها الحر، فأحرقت جيوردانوبرونو سنة 1600 لاعتقاده بعوالم عديدة في الكون غير عالمنا، وقاسى غاليليو ألواناً من العذاب لتأييده ما أقره كوبرنيكس. وكوبرنيكس نفسه كان محجماً طول مدة حياته عن أن يجاهر بعقيدته خوفاً من الكنيسة ومن أن يهزأ بفكرته،
ولم ينشر كتابه عن النظام الشمسي إلا بعد أن مات
أول شئ جعل كوبرنيكس يطرح النظام البطليموسي جانباً ويجاهر بنظامه الحديث هو صعوبة الأول وتعقده، وعدم مطابقة الحجج الكثيرة للظواهر المشاهدة في الكون، وذلك ما يفقده ميزة الجمال والبساطة الطبعية. وليس بالأمر الغريب الذي جعل الفونس العاشر ملك قشتالة يقول لما رأى النظام اليوناني كما شرح له. (لو استشارني الله يوم خلق هذا العالم لكان الكون أبسط وأجمل مما هو عليه الآن). وقد أصاب شيشرون الروماني بوصفه الكواكب بأنها لم تكن سهلة التعبير، إذ هي تارة متأخرة، وتارة متقدمة بين النجوم. وقد نراها في بعض الأوقات سريعة، وفي غيرها بطيئة، وأحياناً في المساء وأخرى في الصباح، فهي لا تبقى على حال واحدة أبداً. واليونان أنفسهم أقروا بفظاعة أفكارهم وعسر تحليلاتهم، ولم يقدروا أن يتصوروا كوناً طبيعياً من صنع الإله الأكبر وفيه هذه المتناقضات والصعوبات الجمة التي شاهدوها في حركات الكواكب السيارة. فكان عندهم الكون ظاهره وباطنه وما فيه من أجرام مختلفة الحجم متباينة الضوء مثالاً للتكامل والتلاؤم. فشكل الكون كان كروياً كشكل أجرامه التي تحدث بدورانها دوائر مستقيمة متعادلة. ولأن الدائرة كانت أتم الأشكال الهندسية تلاؤماً، والكون متلائم ومتسق مثلها، كانت صفة تابعة لحركات النجوم ومداراتها. على أن محاولاتهم هذه من تفسير الكون كنظام يسير لتطبيق قواعد هندسية سطحية، لا كنظام خاضع لنواميس طبعية أصلية، أفسدت عليهم الأمر وكانت سبباً في تعقيد الفكرة وإخراجها بصورة يصعب على العقل تصويرها أو إدراكها. فكانت النتيجة أن قام كوبرنيكس بفرض نظرة أسهل على الفهم وأقرب للمنطق من الفكرة القديمة. فجعل فكرته سهلة التعبير، بسيطة خالية من الدوائر أو شبه الدوائر الموجودة في النظام البطليموسي
في سنة 1507 آمن كوبرنيكس بدوران الأرض حول الشمس، وكاد يذيع ذلك لولا خوفه من أن يتهم بالهرطقة والكفر. وذلك لأن الكنيسة حينئذ كانت تدعي أن الإنسان مادام أعظم المخلوقات في الكون، وغاية ما أبدع الله على صورته، وأن كل مخلوق ما عداه وجد له وله وحده، وما دامت الأرض هي موضع ذلك المخلوق العظيم ومكان الجبلة الممتازة المنفوخ فيها من روح الإله، فهي بلا شك مركز الكون، ومحور دورانه، ومركز انعكاس
أضوائه من مختلف الجهات حولها. وإن من أخذته أدنى ريبة في ذلك فقد أهان الإنسان وحط من مقامه الرفيع بين المخلوقات ونال من كرامة الإله وقوته وجبروته، لأنه هو والإنسان صورة واحدة
رأى كوبرنيكس أنه إذا كانت الأرض ثابتة فإن كل شيء ما عداها يتحرك. أي أن الكون من كواكبه السيارة وغير السيارة في حركة دائمة حول نقطة ثابتة في مركزه، ونقيض ذلك هو دورة الأرض وثبات ما حولها، وإذا قابلنا بين الفرضين وجدنا أن الظواهر الناتجة من الثاني هي كالنتائج الظاهرة من الأول، بل إن الفكرة الثانية، أي دورة الأرض، أسهل للعقل وأخف على الفكر من الفكرة الأولى. لذلك افترض كوبرنيكس دورة الأرض كشيء أقرب للحقيقة وأصدق للتعبير عن مظاهر الكون من فرض ثباتها ودورة الكون حولها. وقد رأى مما يبرر اعتقاده بدورة الأرض، أن للكواكب السيارة شذوذاً في حركتها، وأن اختلاف هذه الحركات يبين أن الكواكب تدور حول مركز غير الأرض. فبما أنها تارة قريبة وتارة بعيدة عن الأرض، ليست مركزاً لدوائر حركاتها
أكد لبطليموس ثبات الأرض اعتقاده لأن الدوران يهدمها ويفتتها فتتناثر في الفضاء قطعاً. فهاجم كوبرنيكس هذا بقوله: إن دورة الكون السريعة حول الأرض يجب بناء على ذلك أن تفتت الكون كله في الفضاء، ولو سلمنا بدورة الكون بدون تفتيت، أليس من نتيجته أن يتسع الكون ويتمادى في الاتساع حتى تبتعد أجزاؤه عن مركزه؟ وهذا الابتعاد عن المركز يزيد بسرعة الكون وقوة دورانه؟ وذلك لاتساع حلقته ولزوم دورتها في مدة أربع وعشرين ساعة؟ ثم إن قوة الدوران أن تدفع بأجزائه أكثر عن المركز فيتسع وتزيد بذلك سرعته التي تعود فتزيد بتوسيعه وهكذا إلى ما شاء الله. وعلى ذلك تصبح السرعة متناهية ويمتد الكون إلى ما لانهاية له؛ فإذا كان كذلك غير محدود الأطراف فالحركة ليست من صفاته لعدم وجود متسع في الفضاء لإتمامها، ثم لو كان الكون محدودا ومتحركا فماذا يكون وراء الجليد؟ فإذا كان لاشيء فهل يمكن أن يكون شئ محاطاً بلا شئ؟ هكذا احتار كوبرنيكس في أن يعتقد بكون محدود متحرك، أو بكون متحرك غير محدود. والتناقض جلي بين الفكرتين. لم يدر كوبرنيكس ما إذا كان الكون محدداً أم غير محدود، ولكنه كان متأكداً من حد الأرض وإحاطتها بسطح كروي، وقد عرف أن الاعتقاد بحركة شئ محدود أسهل من
الاعتقاد بشيء متناه غير معروف الحدود. فالأرض إذن حقيقة تدور، ونتيجة هذه الدورة في هذه الحركة الظاهرية في السماء التي نشاهدها ليل نهار.
قبل أواخر القرن السادس عشر سمع بالفكرة الجديدة (ثيخو ميراهي)، ولاشتياقه لمعرفة صحتها اعتزم عمل زيج جديد دقيق لحركات الكواكب، فبنى مرصداً ذا قبة متحركة، وعمل ربعاً قطره 19 قدماً، وكرةً تمثل الكون قطرها خمسة أقدام، فحصل بذلك على أرصاد دقيقة جداً. على أنه لم يتم ما أراد تحقيقه إذ مات في سنة 1601
أتى بعد ميراهي رجل ألماني اسمه يوهنس كبلر، وكان هذا بعكس ثيخو تنقصه الموهبة الميكانيكية. ولكنه كان ذا مقدرة كبيرة في الاستنتاج والتمييز بين حالة وأخرى، وجمع الحقائق بعضها إلى بعض لتكون نتيجة حقيقية واحدة. فما كان منه إلا أن أخذ نتائج أرصاد ثيخو في الكواكب، وصار يتأملها ويبحث فيها ويقابلها، حتى توصل إلى ثلاث حقائق أساسية في بناء فكرة الكون الحديثة:
الأولى: توصل إليها كنتيجة لسبعة أرصاد للمريخ في موضع واحد، وهي أن الأرض تدور حول الشمس، ليس بشكل دائرة كما أعتقد اليونان، بل بشكل منحرف قليلاً عن الدائرة يسمى قطعاً ناقصاً والشمس تقع في إحدى بؤرتيه
الثانية: المستقيم الذي يصل الأرض بالشمس يقطع في الفضاء مساحات متساوية في أوقات متساوية.
الثالثة: نسبة مربع زمن دورتين لكوكبين هي كنسبة مكعب المسافتين من الشمس. أي إذا كانت مسافة الكوكب الأول من الشمس م1 ومسافة الكوكب الثاني م2، وكان زمن دورة الأول حول الشمس س، وزمن الثاني ص فهذه الحقيقة هي كالمعادلة م1 2: م1 2: س3: ص3. وقد دل نيوتون فيما بعد بمعادلات رياضية وبالمقابلة أن هذه الحقائق الثلاث تنطبق لا على الأرض وحدها، بل على كل كوكب من كواكب المجموعة الشمسية، وقد عرفت بقوانين كبلر نسبة لمكتشفها العظيم
في العصر الذي كان فيه كبلر يجرب أن يوحد أجرام النظام الشمسي بقوانين أساسية ثابتة، ويحكم ظواهر الكون لمسبباتها الطبيعية، كان بعيداً عنه وفي بلاد بعيدة، رجل إيطالي منهمك في صنع تلسكوب جديد لينظر به سطح القمر، وليرى قوانين كبلر تعمل عملها بين
المشتري وأقماره. في سنة 1609 صنع غاليليو أول تلسكوب، وفي سنة 1610 استطاع أن يرى سطح القمر ويميز الأماكن المرتفعة من المنخفضة فيه، وأن يظهر حقيقة المجرة كمجموعة كبيرة من النجوم الصغيرة المتقاربة من بعضها، والتي ترى لكثرتها كأنها جسم واحد
في مساء ليلة من ليالي يناير سنة 1610 أحرز غاليليو أعظم نصر عرفه النظام الكوبرنيكي على النظام البطليموسي، إذ رأى حينئذ المشتري وحوله أقمار أربعة تحوم حوله. وهذا ما يؤيد أن الأرض ليست هي وحدها صاحبة الكون ومركزه، بل هناك أجرام أخرى لها ذات الميزة التي اختصها بها اليونان الأقدمون. واستطاع غاليليو بذلك أن يسقط أهم دعامات النظام البطليموسي الذي يقول: إن الأرض وهي - أهم الأجرام في السماء وأقدمها وموطن أرقى المخلوقات والمسرح الذي مثلت عليه مأساة المسيح ابن الله - لابد أن تكون مركز الكون ومحور دورانه
ومن جملة الأسباب التي كان يحتج بها أرسطو في تأييد النظام القديم، وهو أنه لو فرض دوران الأرض حول الشمس، فإن عطارد والزهرة يجب أن يظهرا بأوجهٍ كأوجه القمر، وبما أنا لا نرى شيئاً من ذلك فدورة الأرض حول الشمس فكرة فاسدة، ولكن غاليليو لم يجب على ذلك قبل أن رأى في تلسكوبه أوجه الكوكبين واختلافها بحسب موقعها من الأرض، وهكذا سقطت دعامة أخرى من دعامات النظام البطليموسي، ولم يبق لذلك النظام إلا أن ينهار من أسسه التي لم تقدر على احتمال ضغط التجارب الشديد
منذ تلك الاكتشافات كان غاليليو سبب ثورة عاصفة من النقد والبحث والشك في أوربا. وكان الناس يتساءلون فيما قد تكون حقيقة هذا الكون الذي خدعهم ظاهره مدة طويلة من الزمن؟ وماذا عسى أن يحدث من حط عظمة الأرض والإنسان والخالق من مكانها الأول؟ وما الذي تجيبه عليه الكنيسة والتوراة دحضاً لهذه المظاهر الجديدة وتطميناً للنفوس الحيرى المضطربة. ذلك ما زاد قلق الكنيسة والبابا على ضياع النفوس من حظيرتها، فهبت تناصر القديم بالتوراة والدين، وتشددت في تعاليمها ورفضت كل معتقد غريب عنها، وحاكمت من الشعب كل من عصى أمرها أو أهان قدرها. وكان غاليليو أول من صبت جام غضبها عليه، فصادرت كتبه وأرغمته مرات على رفض معتقده والتمسك بما تقول
الكنيسة، وحوكم وعوقب من أجل ذلك. غير أن وقفة الكنيسة هذه لم تخفه ولم يهب سطوتها، وقد جرب إقناع مناوئيه ببراهين منطقية وعملية على فساد فكرتهم، حتى أنه كثيراً ما كان يناقضهم بحجج من التوراة، وكان يقول لرؤساء الدين عن عملهم هو تعليم الناس كيف يذهبون إلى السماء لا كيف تدور السماء. بيد أن الكنيسة لم تعر ذلك سمعاً، وأبت عليه أن يقارعها الحجة بالحجة خوفاً على هيبتها ووقارها أمام الشعب
وأخيرا في سنة 1616 التأم المجمع المقدس في روما، وقرر رفض حركة الأرض رفضاً باتاً من تعاليمها وعد الاعتقاد بها هرطقة وعصيانا. وبعد ذلك بسنة أصدر البابا بولس الخامس أمره لغاليليو بألا يعتقد ولا يعلم ولا يدافع عن فكرته الجديدة. ومن بعض أتباع البابا وأصدقاء غاليليو من نصح له أن يفرض ما يعتقد به عن حركة الأرض فرضاً بدون أن يجزم بحقيقته. غير أن غاليليو ظل يشتغل حتى سنة 1632 عندما أظهر كتابه وفيه الحوار بين رجلين عن النظامين البطليموسي والكوبرنيكي، فسمعت الكنيسة به ومنعت بيعه، وأوعزت إلى محكمة التفتيش جلبه لروما، وهناك حوكم وهدد بالتعذيب إن عاد وجاهر بإنكاره، وحكمت عليه المحكمة أن يتلو كل أسبوع أمامها مزامير التوبة السبعة لمدة ثلاث سنوات، ولولا أصدقاؤه الكثيرون في روما لذهب ضحية أفكاره الجريئة
لكن برغم كل ما فعلته الكنيسة من إرهاب وتشديد، وبرغم كل ما أصدره البابا من أوامر تحريم وتعذيب، فأن الحقيقة ظلت سائرة في طريقها إلى الأمام، وما كانت لتختفي مرة إلا لتظهر للملأ بصورة أوضح وأروع من الأولى. وبدأت فكرة النظام الحديثة تتحقق تدريجياً في عقول معتنيقها، وتكبر وتتسع حول أساس جديد متين. وما زرع البذرة الأولى كوبرنيكس ونمت حتى أتى كبلر وغاليليو بعده وزادا في نموها وتحكيم أصولها في النفوس. ثم جاء نيوتون وربط أجزاء النظام الجديد بقانون الجاذبية العام. وأثبت صحة الحقائق التي استلمها عن غاليليو وكبلر ببراهين رياضية دقيقة، وظلت الفكرة تنمو وتتسع، والنظام الشمسي يكبر باكتشاف سيارات جديدة فيه كأورانوس ونبتون، حتى اكتشف نهائياً بلوتو في سنة 1930 وهو أبعد الكواكب السيارة عن الشمس. وكان ذلك خاتمة النمو المطرد في فكرة النظام الشمسي الحديثة، الذي ابتدأ من كوبرنيكس وبقي نحواً من ثلاثة قرون.
فرح رفيدي
البريد الأدبي
في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر
في مساء الخميس الماضي أقامت لجنة التأليف والترجمة والنشر في دارها مأدبة عشاء شرقية فخمة احتفالاً بمرور عشرين عاماً على إنشائها دعت إليها أعضاءها وأصدقاءها وصفوة من وجوه الأمة ورجال الصحافة، فتوافوا إليها في الساعة الثامنة، ثم تحلقوا حول الموائد الكريمة الشهية يتجاذبون ذكريات المودة ويتساقطون أعذب الأحاديث، ويتمتعون بشعور الرضا عن اطراد النجاح لهذا العمل النافع المخلص. فلما فرغوا من الطعام وقف صديقنا الأستاذ أحمد أمين رئيس اللجنة، فألقى كلمة قيمة شكر فيها الحاضرين وألم بتاريخ اللجنة وأطوارها إلمامه وافية واضحة سننشرها في العدد القادم، ثم عاد القوم إلى السمر بعد أن وقفوا على سر هذا المجهود الموفق، وأدركوا أن بقاءه ونماءه إنما يرجعان إلى تجانس الميول فيه، وإخلاص النية له، ونبالة القصد منه، وقوة الإيمان به. وكانت فرقة هاوية من أعضاء نادي الموسيقى تفصل بين الأحاديث الحين بعد الحين بألحانها الساحرة، فأضافت إلى جلال العلم، وجمال الأخوة، بهجة الفن ونشوة الطرب؛ ثم انقضى السمر بانقضاء الهزيع الأول من الليل، وانصرف القوم مبتهجين بجمال الحفلة، مغتبطين بنجاح اللجنة، مثنين على جهود الأعضاء.
أزمة المسرح
يجوز المسرح اليوم أزمة حقيقية، وينظر المتشائمون إلى مستقبله في كثير من الجزع. وقد عقد أخيراً في رومه مؤتمر دولي برعاية الأكاديمية الإيطالية لينظر في شؤون المسرح والدولة، وشهده جمع كبير من أقطاب الكتاب المسرحين في مختلف البلدان. وخطب السنيور لويجي بيراند للو المندوب الإيطالي، فنوه بأهمية المسرح في تنظيم الحياة الاجتماعية، وقال بأنه الأعراب الأسمى للفن، وإنه يستطيع وحده أن يثبت الظواهر الخالدة لعصر من العصور. وتحدث الكاتب المسرحي الأشهر موريس ميترلنك عن أزمة المسرح فأنكر خطورتها، وقال بأن المسرح يشبه طفلاً مريضاً منذ مولده، وقد لا يصل إلى اكتمال صحته قبل مرور ألفي عام، أي بعد أن يكون قد استنفد كل أمراضه، وكل آلام نموه. وإذن فأن الحمى التي يجتازها المسرح اليوم ليست إلا مظهراً من مظاهر هذا التطور الطويل
الأمد. ثم أن هذا العارض يرجع في الغالب إلى عوامل خارجية لا علاقة لها بالمسرح ذاته.
وقد عنى المؤتمر عناية خاصة بشؤون المسرح الدرامي، وبحث عدداً من مسائله الهامة، مثل ظروف المسرح الدرامي الحالية وعلاقتها بظروف المناظر المسرحية الأخرى، وخصوصا السينما، وهندسة المسرح، والمسارح العامة والخاصة، وفن المناظر والزخرف، وأثر المناظر المسرحية في أخلاق الشعوب، وعلاقة المسرح بالدولة، وغيرها. وقد أثارت هذه المسألة الأخيرة في المؤتمر كثيراً من الجدل، لأن جميع الدول الأوربية تحاول اليوم أن تضع لها سياسة خاصة للمسرح، وتحاول أن تجعل منه أداة تعبر عن المثل القومية العليا. ومنها من تحاول بواسطة المسرح إحياء التقاليد القديمة، ومزج الأساليب الحديثة بأساطير الماضي. وقد بذلت بالفعل جهود لتحقيق هذه الغاية بصورة عملية، فأسست معاهد للثقافة المسرحية، ولا سيما في روسيا والنمسا. وفي ألمانيا يغدو المسرح أداة حكومية. وفي هذه الوصاية التي تحاول الحكومات أن تفرضها على المسرح خطر على استقلال الفن يجب اتقاؤه
وتثير المسألة المسرحية اليوم كثيراً من الجدل، ويذهب بعض المتشائمين إلى القول بأن المسرح يحتضر. ولكن كثيراً من أقطاب المسرح يرون مثل موريس ميترلنك في هذا التصوير مبالغة كبيرة. وقد قرأنا أخيراً في جريدة (الفيجارو) مقالاً بديعاً للكاتب المسرحي الكبير هنري برنشتين، يقول فيه إن أزمة المسرح نغمة قديمة ترجع إلى عهد ارستوفان ذاته، وإنها ما زالت تتجدد خلال العصور المختلفة؛ وفي رأيه أن أزمة المسرح اليوم محلية ترجع أولاً إلى أسباب اقتصادية، أساسها شدة التنافس في بناء المسارح منذ الحرب، وضغط الحكومة على المسرح، وإرهاقه بالضرائب الفادحة، وثانياً إلى ندرة الموهبة الدرامية، وصعوبة العمل الدرامي
وهل نحن في حاجة إلى أن نذكر أن صدى هذه الأزمة المسرحية يتردد في مصر منذ حين، وأنها تفاقمت حتى غدت خطراً حقيقياً على المسرح المصري، بل لا نبالغ إذا قلنا أن المسرح المصري لا وجود له الآن
إحياء الأقصوصة الطويلة (الحكاية)
كتب الكاتب الكبير بول موران فصلاً ممتعاً عن الحكاية فلاحظ أنها تمزج بالقصة وحمل على القائلين بأن الأقصوصة الطويلة إنما هي قصة من النوع الطويل، ولكنها أقل منها حجماً. ويرى بول موران أن هناك فرقاً جوهرياً بين النوعين، فالأقصوصة الطويلة صغيرة الحجم حقاً، ولكنها تخالف القصة من حيث الجوهر؛ ذلك أن القصة العادية لا يحدها حجم، وقد تطول أو تقصر فلا يغير ذلك شيئاً من موضوعها، ولكن حجم الأقصوصة الطويلة يفرضه موضوعها ذاته. وفي وسعك أن تترك الكتابة في القصة إلى حين ثم تستأنفها دون حرج، ولكن الأقصوصة إذا تركت على هذا النحو تصدع بناؤها
ويجب ألا تمزج الأقصوصة بالتصوير الموجز وقيمتها قبل كل شئ في نوعها، فهي عمل معتنى به وليست عملاً سهلاً سريعاً؛ أما قيمة القصة فهي ما تخلعه عليها مواهب كاتبها، وتخضع الأقصوصة لقوانينها الخاصة، وهي لم تتغير منذ عهد الأحياء. وموضوعها دائماً هو أن تعزل شخصية أو عملاً، وأن تجرده من ملحقاته، وأن تخرجه من الحياة. أما القصة العادية (الطويلة) فتحملنا إلى أفق خلقي محض، ولهذا كان الإنكليزي قصصياً (روائياً) مجيداً، أما الفرنسي فأنه لبراعته في التحليل يجيد كتابة الأقصوصة.
وقد تستطيع أن تكتب قصة طويلة دون التزام الذوق الحسن، أو دون موهبة وعبقرية، ولكن الأقصوصة الحسنة لا يمكن أن تكتب إلا طبقاً لأصول الفن؛ فللكاتب الذي له مواهب فنية لا يستطيع مطلقاً أن يكتب أقصوصة ذات شأن.
بين الدوتشي وجبرائيل دانونزيو
يقيم دانونزيو شاعر إيطاليا الأكبر منذ أعوام في قصره في (فتوريالي) على مقربة من بحيرة لوجانو، وقد ذاعت في العهد الأخير إشاعات كثيرة عن علائقه مع زعيم إيطاليا السنيور موسوليني، حتى قيل بأن الشاعر معتقل في قصره في الواقع وأنه لا يسمح له بالانتقال منه أو استقبال أحد فيه إلا بإذن خاص، ولكن الظاهر أن هذه الإشاعات حديث خرافة، وأن الصداقة التي توثقت بين بطل فيومي (دانونزيو) والدوتشي (موسوليني) لم تزعزها الحوادث. وقد زار السنيور موسوليني أخيراً صديقه الشاعر الكبير في قصره في فتوريالي زيارة خاصة مجردة عن كل صبغة رسمية، واستقبله دانونزيو بغبطة وحماسة،
وتعانق الرجلان عند اللقاء، وصاح دانونزيو بصديقه. (ها قد أتيت أخيراً)، وكانت آخر مرة زار فيها موسوليني صديقه، منذ عامين حينما كان يزور تورنيو وميلانو محتفلاً بذكرى الثورة الفاشستية. وقد وفد موسوليني على الشاعر عند الغروب وتناول معه العشاء، واستمر معه حتى منتصف الليل؛ ثم ودعه مرتحلا إلى مدينة كريمونا التي أعلن منها الزحف على رومه سنة 1922، وكانت مهد الثورة الفاشستية.
مدام جولييت آدم
بلغت مدام جولييت آدم الكاتبة الفرنسية الشهيرة عامها الثامن والتسعين في هذا الشهر، ومدام جولييت من أعظم كاتبات فرنسا المعاصرات، ولدت سنة 1836، وعاصرت أقطاب الأدب الفرنسي في عصر الجمهورية الثانية والإمبراطورية مثل هوجو، ولامارتين، وبلزاك، والفرددي فيني، وموسيه، وجورج ساند، وكوبيه، وموباسان، وذاعت شهرتها منذ سنة 1860؛ وكانت تتمتع من جراء جمالها الباهر، ومواهبها الأدبية الممتازة في المجتمع الفرنسي الرفيع بنفوذ عظيم، وظهرت لأول مرة بروايتها الشهيرة (قريتي) ثم كتبت من بعدها عدة قصص وكتب نقدية؛ وأنشأت (المجلة الجديدة) سنة 1877 فلقيت نجاحاً عظيماً وظهرت بمواهبها الصحفية. وتعيش مدام جولييت آدم منذ نحو خمسين عاماً في أحد الأديرة التاريخية، في قرية (جييف سير فييت)، وما زالت تستقبل هنالك كل يوم أحد كثيراً من أصدقائها العظماء، وما زالت على رغم تقدم سنها تعني بالشؤون السياسية والأدبية عناية كبيرة.
وقد كان زعيم الوطنية المصرية المغفور له مصطفى كامل باشا على اتصال بمدام جولييت آدم؛ وكانت بينهما رسائل منظمة، يبدو فيها عطف الكاتبة الشهيرة على القضية المصرية، ونشرت ترجمة بعض هذه الرسائل في ترجمة المرحوم مصطفى كامل
القصص
مهداة إلى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
العروس
للأستاذ محمد سعيد العريان
لم يرقها اليوم أن تجلس إلى المرآة جلستها الطويلة، فدلفت إلى النافذة تنوء بهم ثقيل على صدرها، واتكأت بمرفقها على حافة المقعد، ثم أزاحت السجف وجلست ترقب الطريق. وصك أذنيها غناء المغنيات في بيت جارتها كريهاً نابياً كأنما ينعى إليها الشباب. .!
لقد جاوزت (إحسان) العشرين وما تزال قعيدة الدار، تنتظر الخاطب المجهول يدق الباب ليطلب يدها. أتراها لم تكن أجمل من فلانة وفلانة وفلانة؟ بلى، وإنها لخير منهن؛ ولكنهن تزوجن جميعاً وانتهى بهن القدر إلى المستقبل الذي تحلم به كل فتاة، وهي وحدها ما تزال تنتظر. .!
وأخذ الزمن يتراجع، كما تطوى سبيبة الخيالة فإذا هي ما تزال بنت السادسة عشرة؛ تزدهيها فتنة الجمال، وتسيطر على نفسها كبرياء الغنى، وتعبث بها أهواء الأنوثة الباكرة؛ وإذا هي بين أترابها في المدرسة - كما كانت - معقد المنى، وجوى الخواطر، وملتقى نظرات الغبطة، لم يجتمع لواحدة من رفيقاتها يومئذ ما اجتمع لها ما تفخر به الفتاة؛ فلم تكن لتشاركهن الحديث إلا على كبرياء وأنفة؛ وحين يجري حديث الشبان بينهن في همسٍ موسيقي مطرب، كانت تمط شفتيها في سخرية عابثة، ثقةً بأنها الفتاة المرموقة المشتهاة، كأن على من دونها من الفتيات أن ينتظرن ريثما تختار هي فتاها المجدود، ثم تترك لهن من بعد حق الأمل في الزوج الذي يشتهين. . .!
وكان لها من نشأتها وجاه أبيها ما يفسح لها في الأمل، ويمد لها أسباب المنى العريضة. ولكن أباها قد مات! أفينقص من شرفها وجمالها وثرائها أن أباها قد مات. . فأين الخطاب يزدلفون إليها ويزدحمون ببابها في طلب الرضا والقبول؟
إنها لرهينة الدار منذ سنوات خمس؛ فلا تبصر الطريق - على رغم عصريتها - إلا من خصاص النافذة، ولا تفارق محبسها إلا في ظل أمها الأيم العجوز؛ فلم تكن تعرف من
الشبان غير أبن عمها (فريد). لقد كان فيما ترى مثال الشاب الذي يداعب خيالها. لم يكن قد أتم دراسته العالية بعد، ولكنه أتم الرجولة؛ وكان على فقر من المال، ولكنه على غنى في النفس، وكمالٍ من الأدب والفضيلة. وكم كانت تعجب برجولته ونبله! ولكنها لم تكن تسمح لنفسها أن تمنحه أكثر من الإعجاب. آه لو كان على سعة من المال. . . لتمنت أن يكون زوجها الذي تقاسمه الحياة. . . من أين له أن يهيئ لها أسباب الرفاهية التي تشتهي. . .؟
لم تكن تدري أنها تحبه إلا يوم جاءها البشير أنه خطب لنفسه فلانة، فأغلقت من دونها الباب وجلست وحدها تبكي ما ساعفتها الدموع. ولم يكن يدري أنه يحبها إلا يوم زارها من بعد، فإذا في عينيها تساؤل وجواب، وعلى شفتيها ابتسامة ذابلة، ثم إذا هي تفر فتضرب الحجاب بينها وبينه، خشية أن يرى على وجنتيها علامة التأثر ترسمها الدموع. . .!
ولكم تمناها لنفسه وبات يرعى خيالها ليالي طويلة، ولكنه كان يزجر نفسه أن تؤمل الزواج من إحسان؛ وأين فقره وإقلاله من غنى إحسان. . .!
ومسحت الدموع عن وجنتيها، وقالت تعزي نفسها:(لقد تزوج فريد، فما أسفي على زواجه؟ إنني لجميلة، وإنني لغنية، وإن الشبان ليسرعون إلى ذوات الجمال والمال) وطافت برأسها أحلام، وزينت لها دنيا بهيجة من الخيال أفعمتها أنسا وسعادة؛ واستنامت إلى المنى، تصبح وتمسي حالمة بالخاطب المجهول
وتصرمت الأعوام عاماً بعد عام، وإحسان تعيش من أحلامها في رضا وقناعة؛ وحسبها من مسرات الشباب أنها توقظ كل يوم واحداً من شباب أحلامها تساقيه المنى وتبادله الحب، فإذا انتبهت من أحلامها السعيدة فإلى حين، كأنما هي من حبيبها على ميعاد
وأخذت زهرات الربيع تنتثر أوراقها داميةً على الشوك، لأن البستاني يحول أن تمتد إليها اليد التي تشعر أنها جميلة؛ ولكن بقيت على ثغر الزهر ابتسامته الناعمة، لأنه من أحلامه على رضا وقناعة
لشد ما كان يعجب شباب الناحية بإحسان! فما يحلو لهم سمر إلا الحديث عن جمالها وفتنتها، وما يطيب لهم مجلس إلا بذكر كمالها وشمائلها؛ ولكنها على ما حلت من نفوسهم أكرم منزلة - لم تبلغ أن تكون موضع الأمل عند واحد منهم أن تصير زوجته. لقد تقاصرت دونها المنى؛ من إبائها، وغناها، وحرص أهلها على التقاليد
ومن أين لغير القليل من الشبان أن يرضى مطامع إحسان؛ من أين له (المعجزة المالية) ليؤدي لها المهر الذي ترضاه، وينفق في أكلاف العرس ما يرضي التقاليد؟
وطالت الأيام على العذراء الحالمة، وبدأت تمل وحدتها الفارغة، وأخذت تسئ الظن بجمالها وفتنتها. ولم تجد غير المرآة تبثها خواطرها، فتعودت الجلوس إليها الساعات كل يوم، تبادلها الرأي فيما تظهر به جميلة جذابة؛ لعلها أن تجد بالجمال المصنوع رجلها الذي تحلم به. . .
أفتستطيع المرآة أن تمنحها الزوج إن منحتها الجمال؟. .! واستيقظت من أحلامها حين توالت عليها الأنباء بأن صواحبها اللاتي كانت تسخر منهن وتزهى عليهن بمالها وجمالها - قد تزوجن واحدة بعد أخرى، واستقرت بهن الحياة في بيت الأمومة
وهذه صديقة أخرى تتزوج. لقد طالما هزئت إحسان من (خديجة) جارتها وزميلتها في المدرسة؛ وما أكثر ما كانت تركبها بالدعابة الثقيلة والنكات اللاذعة حتى تطفر من عينها دموع الذلة والانكسار! لم تكن خديجة في مثل جمال إحسان، ولا لها قليل من جاه أبيها أو ماله؛ ولكن، هاهي ذي تتزوج وتعزف لها الموسيقى، وإحسان ما تزال تنتظر. . .!
وانقطعت سبيبة الذكرى، فأفاقت إحسان من غفلتها، وراحت تمسح الدموع عن وجنتيها بأطراف السجف وتنظر الطريق وأخذ عينيها بريق الكرات الملونة مدلاة من حبالها، يتلاعب بها الهواء تلاعب اليأس والهم بنفسها؛ واضطربت في مرأى عينيها الرايات الخضر، اضطراب أوراق الشجر هبت عليها رياح الخريف. . .!
لقد كانت وحدها في البيت، فلم ترافق أمها إلى بيت خديجة لتزف إليها التهنئة. منذ أمس، حين زارتها صديقتها داعية، وهي لا تستقر على حال من لذع الغيرة وألم الحرمان! وقدرت - إن هي أجابت الدعوى - أنها ستكون بين المدعوات موضع السخرية والإشفاق؛ وما تحب أن يسخر منها أو يشفق عليها أحد. . .!
ومر من تحت النافذة فوج من الشباب يقصدون بيت العروس، وراحت إحسان تختبر فراستها، لعلها أن تعرف زوج صديقتها من بين هؤلاء. أفكانت تريد ذلك حقاً؛ أم هي تريد أن تعرف من بينهم رجل أحلامها الذي صحبته في الوهم سنوات. .؟
وزفرت زفرة خافتة، وراحت تحصي سنيها التي عمرتها على الأرض. يا ويلتا! اثنتان
وعشرون سنة. . .! لقد تزوجت أمها في الثالثة عشرة، فلعل إحسان لو تزوجت في مثل سن أمها - كانت موشكة أن تصير جدة. . .! وركبها اليأس، واصطلحت عليها الأفكار السود، ولم تجد لنفسها طاقة بالوحدة بعد؛ فأزينت وأسرعت إلى بيت العروس تتفرج. . .
وهاجت أحزانها مظاهر الفرح، وبهرتها الأنوار البراقة، ولدغتها ثعابين الغيرة من عناقيد الزهر متعانقة متشابكة، ورنت في أذنيها ضحكات النساء كأن قلباً من الزجاج ينكسر. وانتظم النساء حلقات - على عادتهن - يتهامسن عابثات ضاحكات؛ فوقع في نفسها أنهن يتهامسن في شأنها، فانطوت على نفسها في زاوية من البهو تحاول إلا تتحدث إلى أحد، أو يتحدث إليها أحد. وخيل إليها أن التمنيات التي توجهها إليها صواحبها - سخرية وشماتة. . .
(العقبى لك.) ما أحراهن أن يترجمنها إلى اللغة الصريحة فيقلن: (الرحمة والرثاء لك أيتها العانس المسكينة. . .!) وأديرت - على برد الخريف - أكواب الشراب المثلوج، ووزعت الحلوى في العلب المذهبة الثمينة، وتزاحم النساء يتخاطفونها كأنما يقتضين الأجر على ما شرفن العروس بالحضور للتهنئة. . .! ورأت إحسان أنها لم تتفرج مما بها ولكنها زادت هما على هم، فأسرعت عائدة إلى الدار
ولم تنم المسكينة ليلتها، ولكن أخذتها إغفاءات متقطعة تتخللها الرؤى والأحلام. وعاد تفكيرها في الزواج بعض عملها اليومي، ولكنها لم تعد تفكر في الرجل - إذ تفكر في الزواج - أكثر مما تفكر مظاهر الاحتفال، وزينة العرس؛ وفيمن تدعو ليشاركها الفرح من نساء المدينة وشبان المدينة؛ كانت تفكر في الانتقام لكبريائها التي زعمتها ديست يوم عرس خديجة. سيكون احتفالاً خيراً من احتفالها، وسيزين البيت أروع مما أزين بيتها، وسيجتمع لها من سراة المدينة ووجهائها من لم يجتمع لعروس قبلها. ستحاول يومئذ أن تسعر الغيرة والحسد في قلوب كل صواحبها، أكثر مما كانت تسعرهما بكبريائها وتيهها عليهن وهي ما تزال صغيرة تطلب العلم معهن في المدرسة، أو تشاركهن اللعب في فناء الدار. . .!
كان العام قد استدار، وأخذت زهرات الربيع تتفتح ويضوع أريجها في الجو، ولكن قطرات من الندى كانت تبللها كدمعة الحزن في وجه عذراء مستحيية. . . ولكنها تبتسم؛ أكانت تصطنع الابتسام لتخفي عن الناظر بعض ما في صدرها من هم، أم كانت هذه دموع الفرح
على وجنتيها. . .؟
وأطل الفتيات من النوافذ يتعرفن خطيب إحسان خارجاً من دارها في جماعة من أهله؛ ورأين بضعة من الرجال عليهم سيماء السراة من أهل الريف، في جلابيبهم الفضفاضة ومعاطفهم السود، يلوون ألسنتهم بالحديث في لهجة جديدة على أهل الحضر. وبينهم (أفندي) واحد يبدو من مظهره، ونظام لباسه أنه وإن عاش في المدينة طويلاً - ما يزال بعض أهله
وقالت فتاة لأختها: - (أهو هذا؟)
- (بل هو ذاك)
ولم يكن هذا ولا ذاك؛ ولكنه خرج بعد انفضاض الجمع، يتوكأ على نفسه من ثقل وبدانة حشو ثيابه الغالية، يلوك بين شدقيه لساناً يتفقد بقايا الطعام بين أضراسه، ولم يخف ميل طربوشه أثر الوشم في صدغه
وقالت فتاة:
- (إنه لهو؟)
فأجابتها صاحبتها بابتسامة
وبرق الماس في إصبعه، ورف الذهب من سلسلة ساعته، فقالت الفتاة:
(إنه لغني. . .!)
وكان الحفل الحاشد بعد أيام، فاجتمع فيه من مظاهر البذخ والغنى ما لم يتهيأ لسكان الحي أن يشهدوا مثله منذ أعوام؛ فأقيمت المقاصف، ووزعت الهدايا، ودقت الطبول، وعزفت الموسيقى، وتجاوبت ألحان المغنين والمغنيات بين فناء البيت وأعلاه، وتناثرت نجوم الكهرباء تنقل إلى الأرض بعض معاني السماء، وعبق أريج الزهر يحمل إلى أهل الحياة أنفاس أهل الجنة. . . وإحسان في مجلسها راضية ناعمة، تشرف من علٍ على الحفل وزينته فخوراً مزهوةً
لقد كانت فرحة الزواج عندها أن تشهد لنفسها مثل هذا الحفل، وقد شهدته على أكمل ما أبدعته في خيالها؛ وبلغت مأملها في الظهور على صواحبها بما يتقاصرون عنه من بذخ وإسراف. أما الزوج، أما الرجل الذي سترتبط إليه ويرتبط إليها فلا فكاك مدى الحياة، أما
رجل أحلامها الذي أحبته زماناً من طول ما صحبها في الخيال - أما ذاك، فما عليها أن تظل نائمة تحلم ما دامت قد انتقمت لكبريائها الجريح
لم تفتش المسكينة عن الرجل الذي سعدت في الوهم بصبحته، وذاقت معه على البعد نعيم الحياة، وتنورت من فكرها فيه عالم الحب ودنيا الجمال. . . وراحت تفتش عما يرضي الناس ويطلق ألسنتهم بالإعجاب. . .
وباعت سعادة العمر؛ واشترت سعادة ليلة. . .!
محمد سعيد العريان
الكتب
هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام
تأليف الشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل (1073هـ)
نشره وعلق عليه الأستاذ محمود مصطفى
أهدي إلى زميلي الأستاذ محمود مصطفى كتاب (هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام) من تأليف الشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل المتوفى سنة 1073هـ، وهو كتاب عثر عليه الأستاذ محمود مصطفى المدرس بكلية اللغة العربية من كليات الجامع الأزهر في محفوظات دار الكتب المصرية، فأعجبه منه جريه على طريقة القدماء في دراسة الأدب من التنقل بالقارئ من خبر مستطرف، إلى معنى مستظرف، وإلى فكاهة بارعة، إلى حكمة رائعة. فمدار الكلام عنده على أبي تمام، ولكنه إذا ذكر قوة حفظه عرض لكثير ممن عرفوه بهذه المنقبة، فروى من أخبارهم ما يروي صدى المتأدب؛ وإذا ذكر مدحه لأحمد بن أبي دؤاد مثلاً عرج على حياة هذا الممدوح، فجلاها للقارئ بما لا يترك في نفسه من حاجة؛ وإذا مر بمعنى له تناوله الشعراء سرد من أقوالهم فيه ما يشبع نهمة النهم من طلاب الأدب. وهكذا جرى في كتابه من أوله إلى أن فرغ منه، وهذا عمل يثير الإعجاب حقيقة من عالم في هذا القرن الحادي عشر من القرون الهجرية، وهو من القرون التي طغت العامية فيها على العربية، وأصبح العلماء لا يحسنون فيها التأليف بالعربية الفصيحة، فكيف بهذا النوع من التأليف في الأدب والموازنة والنقد؟ ومؤرخو الآداب العربية يكادون ينسون الشيخ يوسف البديعي وأدبه في وسط تلك الظلمة القادمة، التي غطت على الأدب العربي في تلك القرون المظلمة.
فكم أحسن الأستاذ محمود مصطفى بلفت الأذهان إلى أدب الشيخ يوسف البديعي، حتى لا تطغي عليه تلك الظلمة، ولا ينسى مؤرخو الآداب عمله في وقت لم يكن لغيره عمل يذكر فيه.
وكم أحسن في تعليقاته على هذا الكتاب إذ تابع مؤلفه في طريقته، فعرف قارئه بالرجال الذين عرض لذكرهم ولم يعرض للتعريف بهم، وشرح ما وقع فيه من أشعار أبي تمام
وغيره، ولم يكن المؤلف يعني إلا بشرح القليل منها، لأنه لم يؤلف كتابه لذلك وإنما ألفه لتلك الأغراض السابقة.
وللأستاذ محمود مصطفى في شرحه طريقة تليق بوظيفته الجامعية، فهو يعني فيه بشرح المعاني الأصلية للكلمات وما خرجت إليه من مجاز أو كناية، ثم يستخرج من ذلك معنى البيت وينقده إذا رأى أبا تمام قد خرج به عن الجادة، فتكلف في الصنعة، أو ركب الشطط في مجازاته؛ وقد يجعل من نقده إطراءه إذا جمع موجبات الحسن في شعره، وهي كثيرة فيه، ولم يفته مع هذا أن ينقل من آراء الأقدمين الذين نظروا في شعر أبي تمام من الآمدي والجرجاني وغيرهما، ثم يعقب على ذلك برأيه فيوافقهم تارة فيما رأوه في شعره، ويخالفهم تارة أخرى فيه.
وقد جلونا بهذا كتاب هبة الأيام للقراء، وعرفناهم قيمة عمل الأستاذ محمود مصطفى فيه، وأدينا بذلك حقه علينا كأثر من أحسن الآثار الأدبية، وبقي لنا عليه أشياء أردنا للزمالة إلا نعرض لها، وأراد الأستاذ محمود إلا أن نطلق لقلمنا العنان مقرظين أو ناقدين، وإننا نكتفي عما عندنا بهذين النقدين
فالأستاذ محمود في قول أبي تمام:
وإذا مشت تركت بصدرك ضعف ما
…
بحليها من كثرة الوسواس
يرى فيه استخداماً طريفاً حسنا، لأن أمثلته قليلة في العربية، والاستخدام عنده في أن الوسواس يطلق على صوت الحلي، وعلى حديث النفس بما لا خير فيه، وقد أراد المعنى الأول في كلمة الوسواس الظاهرة في البيت، وأراد الثاني في الموصوف المحذوف في قوله (ضعف ما)، ولا شك أن هذا ليس من الاستخدام في شيء، وليرجع الأستاذ إلى تعريف الاستخدام وأمثلته في كتب البلاغة، فسيرى أن هذا لا يشمله تعريفه، ولا يشابه أمثلته. وكذلك نخالف الأستاذ محموداً فيما صنعه في قول أبي تمام:
أزرين باْلمُرْدِ الغطارف بُدَّناً
…
غيداً ألفتهمُ زماناً غيدا
إذ يريد أبو تمام أن يفضل الجميلات من النساء على أرباب الجمال من أولئك الغلمان الذين افتنن بهم الشعراء، وتغزلوا بجمالهم في عصره وقبل عصره، فلا يرضي هذا صاحبنا، ويقول إنه لم يؤلف أن يقال إن المرأة الجميلة تزري بالرجل الجميل، مع أن أبا تمام لم
يعن في شعره هذا، وإنما عنى أولئك الغلمان الذين غطى التغزل بهم على التغزل بالنساء في ذلك العصر، ثم يختار الأستاذ أن يقال إن مراداً جمع مرداء، وإن غطاريف جمع غطريفة، وإن لم يرد ذلك في اللغة، فيكون خطأ من أبي تمام فيها، ولا أدري كيف نحمله هذا الخطأ، ومعناه على ما تعطيه ألفاظه في حدودها اللغوية واضح لا شيء فيه، ولله العصمة وحده.
عبد المتعال الصعيدي
خلاصة تاريخ مصر الحديث
من الحملة الفرنسية إلى الوقت الحاضر
تأليف الأستاذ محمد الحسيني رخا
هذا الكتاب الصغير الذي يشمل منهاج السنة الرابعة الابتدائية، من وضع عالم كبير قضى سنوات طويلة في خدمة التعليم في أدق مناصبه من ناظر بالمدارس الأميرية إلى مفتش للآداب بالمعاهد الدينية، فلا عجب مع ذلك أن يكون كتابه هذا على ما هو عليه من الدقة العلمية، وحسن الترتيب. ولقد كان هذا الكتاب أحد الكتب الثلاثة التي فحصتها وزارة المعارف، ووافقت على صلاحيتها في المباراة التي أعلنت عنها في عام 1932 وتقدم للاشتراك فيها عدد كبير من المؤلفين.
وليست تقاس مهارة المؤلف هنا بما يحتوي عليه كتابه من المعلومات والوثائق كما هو الشأن في الكتب المطولة، وإنما تقاس مهارة المؤلف بمقدار نجاحه في تسهيل تلك المعلومات وصوغها في عبارات تناسب تلك السنة الدراسية، وربط أجزاء المنهاج بعضها ببعض بطريقة فنية تضمن تحقيق الغرض المنشود من تدريس التاريخ. ولقد وفق الأستاذ الفاضل مؤلف هذا الكتاب توفيقا يغبط عليه، فصاغه في صورة تحببه إلى الطلاب وتحبب إليهم موضوعه، كما أنه اهتم بحسن الطبع واختيار الورق فجاء كتابه متقناً من جميع نواحيه. وإني لأحمد لهذا المربي الفاضل جميل صنعه، وأقدم كتابه إلى طلاب السنة الرابعة الابتدائية مع مزيد الاغتباط
الخفيف
الفاروق عمر بن الخطاب
بقلم دياب عثمان العرابي
المتخرج في دار العلوم
كان سروري عظيماً حين ألقي إلي هذا الكتاب، الذي خصصه مؤلفه الأستاذ دياب العرابي لدراسة حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لاتجاه أدبائنا إلى تاريخ عظمائنا يتخذون منه المثل العالي والقدوة الحسنة، والكتاب يقع في نحو مائتين وستين صفحة من القطع المتوسط
تكلم المؤلف الفاضل عن حياة عمر في الجاهلية، ذاكراً نسبه ووصفه ومنزلته في قومه، ثم تكلم عن دخوله في الإسلام، وعن حياته في عهد الرسول ومواقفه المشهورة إلى جانبه صلى الله عليه وسلم، ثم تكلم عن عمر يوم السقيفة ومبايعته لأبي بكر، إلى أن تم له أمر المسلمين فتكلم عن فتوحه وأعماله وإصلاحاته في الدواوين وموقفه من عماله وموقفه من بيت مال المسلمين، ثم شرح حادث مقتله وبين تحوطه للخلافة ووصايته قبل وفاته
وهو بلا شك بحث ممتع ينظم هذا الكتاب في سلك المؤلفات التي تملأ قراءتها القلوب غبطة والنفوس عظة، والتي تؤثر من الوجهة الخلقية تأثيراً قوياً في نفوس القراء صغارهم وكبارهم
بيد أني، على الرغم من سروري بتلاوة هذا الكتاب واستمتاعي بما جاء فيه من حوادث ومواقف رائعة، لا أقر الأستاذ المؤلف على بعض نقط فيه، كإسهابه في وصف الفتوح وتعرضه لتفاصيل جعلتني عندها أتسأل: هل يدور الكتاب حول تاريخ الدولة العربية أيام عمر، أم هو يدور حول دراسة عمر نفسه؟ ولو أن الأستاذ وجه اهتمامه الأكبر إلى بسط أخلاق عمر واتخذ من أعماله مع الاكتفاء بالإشارة إليها أمثلة لما يقول لكان كتابه أكثر لذة وأقرب إلى الغرض. على أنه في وضعه هذا وما احتوى عليه من حوادث ومواقف مشهورة من حياة عمر جدير بأن يحرص على قراءته والاستفادة منه كل أديب. والحقيقة أن المؤلف قد أتى فيه على طائفة من العبر القوية، والأخلاق العالية، والحوادث الشيقة مما يجعلك تنسى التأليف وطريقته، وتندمج اندماجاً تاماً في تلك الشخصية العظيمة التي يدور حولها الكلام، بحيث تفرغ من قراءتك وأنت تحس إحساساً شديداً بالغبطة والارتياح.
الخفيف