المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 690 - بتاريخ: 23 - 09 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٩٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 690

- بتاريخ: 23 - 09 - 1946

ص: -1

‌أجل يا صديقي، ضغط الدم!

أجاوبك يا صديقي عباس على بعد صفحات في الرسالة، كما تتجاوب حمامتان كسيرتان على بعد شجرات في الحديقة.

أنا أيضا ضحية هذا المقياس الحديث لضغط الدم! كنت من قبلُ أحمد الله على دوام الصحة، وأغبط نفسي على فراغ البال؛ فإذا مسني الضر لسبب من أسبابه المألوفة، احتملته راضيا لأنه التغير الذي يدفع من سأم العيش، والتنوع الذي يزيد من جمال العافية. فلما كتب الأطباء عن ضغط الدم وأعراضه، وتحدث الناس عن آثاره وأمراضه، تلمست شواهده في جسدي، فإذا صوت يشبه (الوشّ) في رأسي، وحركة تشبه الاختلاج في صدري، فزرت الطبيب المختص؛ فظل وقتين طويلين في يومين متعاقبين، يجس بيده، ويقيس بمقياسه، ويصور بآلته، ويدون في مذكرته، وأن افي كل ساعة من هذين اليومين أذوب ولا أثوب، وأنظر ولا أرى، واسمع ولا أعي، وأتوهّم ولا افهم، حتى قرر الدكتور أن أعضائي الرئيسية صحيحة، ولكن عندي ارتفاعا في الضغط يخشى إذا أهملته أن يصبح خطرا لا حيلة فيه. ثم نظم لي الغذاء ووصف الدواء ونصح لي أن أزوره الحين بعد الحين.

وهكذا خرجت يا صديقي من عيادة النطاسي الكبير وأنا نوع آخر من الخلق، فيه الروح وليس فيه الحياة، وعنده الهم وليس عنده الأمل! أصبحت منذ ذلك اليوم كمريض (موليير)، أتوهّم أن في كل أكلة أو حركة أو فكرة ضغطا على الضغط يشده ويوتره، وأتخيل أن ي (كبالون) الأطفال المنفوخ أخف صدمة تفجره وتدمره. فأنا آخذ نفسي أخذا شديدا بالجوع والظمأ والحرمان والتبلد والركود، فلا أطعم ما اشتهي، ولا أن عم بما ألذ، ولا أن فعل لسرور أو حزن، ولا اشتغل بفعل ولا فكر، ثم اهرع كل أسبوع إلى المقياس المخوف فأجده ثابتا على رقم الخطر لا ينخفض ولا يتذبذب! فأسأل عن علة ثبوته على قلة قوته، فأعلم أن اشد ما يغذي الضغط ويقويه، إنما هو الاكتراث له والتفكير فيه. وهل يستطيع المحكوم عليه إلا ينظر إلى السيف وهو مُصْلَتْ فوق رأسه، أو يملك المسموم إلا يفكر في الموت وهو يتغلغل في طوايا نفسه؟

الحق يا صديقي أن العيش على هذا الحال جحيم، وأن الله الذي أخفى الأجل عن عباده رؤوف رحيم، فلو كان للأجل مقياس كمقياس الضغط لجعل حياة الإنسان هما دائما يمر

ص: 1

حلاوة الدنيا، ويذوي خضرة الأمل، ويزهق روح السعي، ويذهب جمال الوجود.

فليت الأطباء يخفون هذا الداء ما داموا لا يملكون له السلامة، ويدعوننا نفعل به فعل الأباء نكفكف غلواءه بالفصد والحجامة!

احمد حسن الزيات

-

ص: 2

(نعم) أومن بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

هل يستطيع صديقي الأستاذ الطنطاوي أن يحصر الجدل في هذه الصخرة الراكزة التي يخيل إلي أني وضعت عليها الفلسفة الإثباتية واليقين الديني، وقيمة العلم والحضارة حين اهتديت إلى ما زعمته القضية الفكرية الأولى، وهي الملخصة في هذه الجملة:

(أومن بالإنسان لأومن بالكون ورب الكون، فلن يؤمن الفرد الإنسان ي بهما أن لم يؤمن أولا بنوعه، لأن عقل النوع هو المنظار الذي ندركهما به، فإن أهدرنا قيمة الإنسان أهدرنا عقله وروحه، فلا يبقى لنا ما ندرك به كوننا وربنا!!).

ولو وقف صديقي أمام هذه القضية التي هي كما قلت (أشبه ما تكون بمعادلة رياضية) لعرف أي نظرة جديدة إلى الكون تتراءى من خلال هذه الفكرة، وأي أفق رحيب يتفتح للنفس البشرية من ورائها، وأي توفيق لطريق حل مشكلات العيش والفكر يتراءى منها!

وقد زعمت أن ي اهتديت إلى القضية الفكرية والدينية الأولى حين اقرر هذه القضية، فإن لم أكن سبقت إلى الاهتداء إليها، فهذا هذا الزعم صحيح، ونعم هو من توفيق يحمد الله عليه اجل الحمد.

وقد قلت في مقدمة الكتاب: (وأكاد أرى أن الموقف الفكري في هذه القضية يسبق موقف (ديكارت) حين اثبت (وجود الذات المفكرة)، واتخذه أساسا بني عليه فلسفته الإثباتية؛ إذ أنه من أين لديكارت أن يثبت أن لتلك الذات قيمة واعتبارا، وأن لما ينتج منها من الفكر قيمة واعتبارا أن لم يثبتهما أولا للنوع الذي تنتسب إليه هذه الذات، ليكون لما يصدر عن أفراد ذلك النوع تلك القيمة وذلك الاعتبار؟

فالموقف الطبيعي الأول هو أن نرصد أولا هذا النوع الإنسان ي كله بعين غريبة عنه، مفارقة وجوده، لنثبت له مكانته الخاصة في الكون، وخصوصا بعد أن وصل فكره وجهده أخيرا إلى أن يكون عاملا عظيما من عوامل الحكم والتكوين والتخريب في الطبيعة، ثم تأتي بعد ذلك جميع مواقف الإثبات واليقين).

والطفل في نشأته الأولى يدرك الكون والناس إدراكا فكريا قبل أدراك نفسه وأعماقها، فينبغي مسايرة للنشأة الطبيعية أن لا نحاول إثبات (الذات المفكرة) كما فعل ديكارت إلا بعد

ص: 3

أن نثبت (النوع) الذي نراه وندركه قبل أن نراها، بل نحن لا نستطيع أن ندركها إلا في مرآة النوع ومواريثه. والفرد من غير النوع لا يستطيع أن يدرك شيئا من مواريث جنسه: ويكون كذلك (الإنسان الغزال)، أو (الإنسان القرد)، أو (الإنسان الذئب)، الذي يتحدث عنه الناس!

هذه هي القضية في سمائها العالية، وهي تحتاج إلى جناح قوي للتحليق وراءها، وتحتاج - كما قلت - إلى نظرة المفارق لنفسه ونوعه، الخارج بالفكر والخيال عن حدود وجوده، الراصد لنوعه رصد الملأ الأعلى ممن هم فوق الإنسان والملأ الأدنى مما هن دونه!!

ولم يدر صديقي الطنطاوي أن أولى الناس بالفرح والتأييد ل هذه القضية هم أمثاله من الدينيين الذين تهفو حياة قلوبهم إلى الإثبات واليقين، ويرون الكون لا معنى له أن لم يكن قائما على قيم ثابتة تعتمد على منطق الطبع ومنطق العقل ومنطق العمل.

والقضية مسوقة للرد أولا على الماديين الذين لا يعترفون بقيم ثابتة للوجود، و (الدرْونيين) الذين يقررون أن الإنسان ما هو إلا قرد نهض على قدميه وثرثر بلسانه وفرح بما ثرثر، وخلق لنفسه إلهة، ووضع موازين ومقاييس لخيره وشره، وزعم أنها موضوعة من (عقل) الكون، ويقررون أن عقل الإنسان ودينه وعلمه، إنما هي كالإفرازات المادية للكبد والمعدة وغدد السموم في العقارب والحيات، وأن ما يزعمه من قيم للأمور، إنما هي أعاليل يعلل بها نفسه ليخدعها، وليس بينه وبين (عقل) الوجود - أن اعترفوا به - صلة، وأن ما بينهما هوة لا يستطاع عبورها، وأن موازين (الخير) والشر عنده مسائل اعتبارية، وليس هناك وحي ولا نبوة، وأن ما بين الناس لا يزيد على ما بين النحل والنمل والبقر والبراغيث والبعوض - كما قال ذلك في الرد علي في هذه المجلة صديقي الأستاذ زكي نجيب محمود في سنة 1941 - وأن حياة أفراد الإنسانية إلى عدم لا رجعة بعده، كحياة مليارات أوراق النبات وأهراء الحبوب، وملايين الحشرات تأتي بها دورات وتذهب دورات أبدية من غير رجعة إلى مصير أكمل - كما قال ذلك كاتب متدين صوفي باحث كتب إلي من بيروت يطرح أمامي هموما ذهنية وشكوكا لحقته -.

أفتراني يا صديقي حينما أفتش في رحاب الكون والنفس عن فكرة جديدة اقذف بها على باطل القوم، أنتزعها من قوى الإنسان الفكرية والابتداعية النامية المنمية التي جعلت

ص: 4

الإنسان في مصاف آلهة القدماء في التكوين والتخريب والتسخير لقوى عظيمة جبارة هائلة كالكهرباء والقوى الذرية والمواد العمياء وتقريب الأبعاد وكشف المستورات من خبايا الكون والتغلب على كثير من الآفات. . . أفتراني حينما افعل ذلك أكون قد خالفت رأي القرآن في الإنسان؟!.

إن الماديين يهدرون الإنسانية كلها وما أتى عن طريقها من دين وعلم ووحي أن زل على محمد وسابقيه من الرسل فليس القرآن بشيء في ميزانهم، وليس محمد وجميع الرسل في رأيهم سوى أفراد من تلك الإنسانية القردية التي تلغو وتزعم أن للغوها قيمة.

أفتساق الحجة لأمثال هؤلاء من القرآن أو التوراة أو الإنجيل وهم لا يعترفون بها ولا بمن نزلت عليهم ولا بالنوع الذي ينتسب إليه من نزلت عليهم؟ أم الأولى أن تساق الحجة إلى هؤلاء من رحاب الفكر والكون الواسعة بمنطق هذا الزمان ما دامت آيات الله في الآفاق والأنفس دائما تسعف الذين يخلصون لله ويخلصون الفكر في الكون؟!.

إن الفكر الديني آفته أنه يخاف غالبا اجتياز الحدود المورثة ولو أيقن أن وراءها مصلحة محققة، لأنه فكر يغلب عليه الاتباع لا الابتداع، وربما يكون ذلك مقبولا ما دامت طمأنينة النفس وسكينتها موفورة، ولكن اعتقد أن واجبه أن يأخذ الحجة حيثما وجدت ما دامت تسعف في إقناع المعارض أو إلزامه.

ثم أني اسأل صديقي بدوري كما سألني: كلام من يا آخي الذي يقول: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا)، (ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)؛ (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أن فسهم لا تقنطوا من رحمة الله، أن الله يغفر الذنوب جميعا، أنه هو الغفور الرحيم)؛ (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)؛ (والعاقبة للمتقين)؛ (ولا اقسم بالنفس اللوامة) أي (الضمير)!؟.

أليس هذا كلام الله أيضا؟ وهل وراء سجود الملائكة لأبى هذا النوع تكريم؟ وهل وراء اختصاصه بعلم ما لا يعلمه الملائكة من غيب السماوات والأرض تفضيل؟ وهل بعد صبر الله وحلمه على ما يبدو من ظواهر الإفساد وسفك الدماء الذي يفعله الإنسان حجة على أن الغاية من خلق هذا النوع، أن ما هي غاية تربو فوائدها وبركتها على خسرها ولعناتها؟

ص: 5

وهل بعد رد الله تعالى على الملائكة حينما قالوا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) بقوله (أني اعلم ما لا تعلمون) يصح أن نعترض كما اعترضوا، ونجعل حجتنا في السخط عليه هي ما نراه من ظواهر الفساد وسفك الدماء بعد أن نظر الله إليها في مجموعها نظرة اغتفار وسماح في سبيل تحقيق الغاية الكبرى من حياة هذا النوع؟

إن أسرار قصة آدم هذه كما أوردها القرآن في أوائل سورة البقرة، اعظم مفتاح للغز الحياة، واعظم تاج على رأس البشرية، واعظم صوت يطرد اليأس من مستقبل الإنسان، واعظم تفسير لما يبدو من شروره، واعظم دافع إلى الكفاح لتحقيق كماله المرجو!.

وإني دائما أقول: أنه يجب على المفكرين إلا يسرعوا بحكمهم النهائي على الإنسانية، مع أنهم لم يتبينوا خاتمة حياتها، ولم يدركوا (القطفة) الأخيرة من ثمارها. . . ولعلها لا تزال في دور الشباب الطائش، ولعل وراء طيشها كهولة عاقلة. وما دام الله تعالى لم ييئس منها - ولن تفوت عليه تعالى غاية أرادها - فينبغي لنا ألا نيئس منها كذلك، فما دام يسمح بخروج بذرة إنسانية، فلا تزال الغايات والنتائج الصالحة منها، بعضها يتحقق وبعضها ينتظر تحقيقه.

وما عهدنا نوعا ما في الطبيعة سلك غير الطريق التي رسمها له الله (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، فلماذا يستثنى الإنسان ويجعله يسير في غير طريقه التي رسمها له؟ وفيما ذا يكون الاستثناء في الإنسان أثمن شيء في الأرض؟!.

ولم يدر صديقي - وهو الباحث الديني - أن الله تعالى لا يجوز عليه عقلا أن ينعى على الإنسان صفات وطبائع هو الذي قسره عليها وحدها وأخرجه في قوالبها، وصوره من نطفة أمشاج وأخلاطا من قوى ومواد عمياء ليبتليه، فليس الإنسان إذا ملوما ما دام قد طبع على أن يكون فقط كفور أو هلوعا وجزوعا وكنودا وعجولا وقتورا وضعيفا وجدلا. . . الخ.

وما كان القرآن - وهو كلام الله الذي كرم الإنسان الأول ودافع عنه أمام الملائكة وأمرهم بالسجود له وخصه بعلم غيب السماوات والأرض وطرد إبليس من الجنة حينما استكبر عليه - ليناقض نفسه في قضية الإنسان، ويقصد إلى ما فهمه الأستاذ وأمثاله ممن يسوقون دائما هذه الآيات التي ذكرها هو في مقام الاعتراض علي.

إنما القرآن في هذه الآيات يصف طبائع الشر التي في الإنسان كما يصف طبائع الخير

ص: 6

فيه، ولم تفد هذه الآيات أن طبيعته مقصورة على الشر وحده، فإذا وقع منه الشر، فهو جدير به لأن في طبيعته جانبا للشر، وإذا وقع منه الخير، فهو جدير به أيضا، لأن في طبيعته جانبا للخير أيضا:(إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)، (وهديناه النجدين)، (لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم، ثم رددناه اسفل سافلين إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات)، (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، (أن ربك واسع المغفرة، هو اعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وأذ أن تم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن اتقى).

فإذا قال القرآن: (أن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الضر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين)، فهو يقرر أن من طبع الإنسان هذه الصفات، لأنه (خلق) عليها، فليقاومها بما يمحوها أو يعدلها كالمداومة على الصلوات والزكاة وأمانة العهد، وغير هذه من صفات الخير التي ذكرت وراء الآيات السابقة.

وإذا قال: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا). فهو يقرر كذلك أن من طبيعة الإنسان التي خلقه الله عليها العجلة: (خلق الإنسان من عجل، سأريكم آياتي فلا تستعجلون). ولذلك يجب التريث والصبر والسكينة وعدم اختلاس حق الأيام في إنضاج الثمار حسب قوانين الله التي وضعها

وإذا قال القرآن (وخلق الإنسان ضعيفا). فهو فعلا قد خلق من شيء تافه ضعيف: (الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة)، (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة، فإذا هو خصيم مبين).

وهكذا سائر الآيات التي ذكرها الأستاذ تنبه إلى ما طبع عليه الإنسان من صفات الشر ليحذرها ولا يستسلم لها، وليقاومها بطباع الخير التي طبع عليها أيضا. ولو لم يورد القرآن تلك الطباع في معرض الذم حينما يستعرض أفعال الاشرار، ما تنبه أكثر الناس إلى أنها طباع شر يجب الحذر من نتائج الاستسلام لها، وكيف يتنبهون إلى أنها شر ما داموا يجدونها في طبيعتهم

والقرآن وهو كتاب تربية، ما كان له أن يغفل الحملة العنيفة على طباع الشر في الإنسان والإنحاء عليها باللوم والإزراء، حتى ينبه الإنسان إلى خطرها في قذفه إلى اسفل سافلين

ص: 7

ما لم يعتصم بما في طبعه من طباع الخير، وبما يأتيه من هدى الله.

ولو ربي الأطفال جميعا حق التربية، ولم يهملوا هذا الإهمال الشنيع الغالب الذي نراه في الأمم المتأخرة، لرأينا أن نسبة الخير ترتفع في حياة الناس ونسبة الشر تنخفض، كما وقع ذلك في عهد الدولة الإسلامية الأولى، وكما يقع الآن في دول شمال أوربا كفنلندا والسويد والنرويج والدانمرك.

وهذا يدل على أن الإنسان يتغلب على ما في طبعه من الشر بالتربية وطباع الخير، فليس الشر غالبا إلا بما يظاهره من فساد النظم الاقتصادية وإهمال التربية والتهذيب والتعليم

وبعد، فهذا هذا الفهم الذي فهمه الصديق الطنطاوي، إنما هو من آثار السير في الحدود الموروثة وعدم تغير طرق النظر بتغير العصور، وأرجو أن يتحرر صديقي في فهم القرآن من جميع الموروثات حتى تنكشف له أعاجيب ووجوه جديدة من الرأي الذي يشهد للقرآن بأنه كتاب البشرية في جميع عصورها وأحوالها

وبعد، فإن نوعا يخرج محمدا وأولي العزم من الرسل والحكماء والصديقين والعلماء والرواد المجاهدين جدير بأن يوثق به ويؤمن بقيمته، فإن مقياس قيم الأنواع هو لبابها وجوهرها، وثمر الشجر اقل شيء عددا فيه، والشوك يكون مع الورد، والظلام مع النور، والفساد وسيلة لأدراك الصلاح والحفاوة به.

(ونبلوكم بالشر والخير فتنة)، فالخير أيضا فتنة!

هذي طباع الناس معروضة

فخالطوا العلم أو فارقوا!

عبد المنعم خلاف

-

ص: 8

‌علوم البلاغة في الجامعة

للأستاذ علي العماري

تحدثت في المقال السابق عن الأسلوب الذي تدرس به البلاغة العربية في الجامعة، وعبت أن يكون هذا الأسلوب العامي الركيك هو الذي يلقى على طلبتها، وتنقصه بأنه يفسد ذوق التلاميذ، وبأنه لا يتفق وطبيعة النصوص العربية الفصيحة، ولا سيما كتاب الله الكريم.

وقد سمعت بعض الاعتراضات على ما كتبت، فسمعت من يقول إن هذه محاضرات ألقيت على طلبة صغار لم يتعدوا مرحلة التعليم الثانوي إلا منذ قليل، ولم يشهدوا من علوم البلاغة إلا نتفا يسيرة. ونسى هذا القائل أن طلبة الجامعة تلقوا في المرحلة الثانوية كتبا ذات بال في علوم البلاغة، وفيها من النصوص العربية الفصيحة العالية، ومن الأسلوب المهذب الطيب، ما يهيئهم لأن يتلقوا أسلوبا أرقى واسمح، وحسبك أن تنظر فيما يدرس في المدارس الثانوية من كتب في هذا الفن لترى أن أسلوبها ارجح وأقوى من هذا الأسلوب الذي نقلنا مقتطفات منه في المقال السابق، وحتى لو كان الطلاب لم يتلقوا في المرحلة السابقة شيئا يذكر لكان لزاما على أستاذ البلاغة في الجامعة أن يكون مثلا لهم فيحسن التعابير، وجمال اختيارها، وإذا كان لا بد من أسلوب عامي، فليكن أسلوبا مهذبا لائقا. وإن علماء النفس يحدثوننا عن تداعي المعاني، وعما تلقيه الكلمات من المعاني والظلال في نفوس السامعين، والأستاذ الخولي مؤمن ب هذا، فهل يستطيع أن يحدثنا عما تحدثه الكلمات من أمثال قوله عن محمد وجميع الأنبياء أنهم (سعاة بوستة) أو قوله شارحا قول الله عز وجل (وما أنت بمسمع من في القبور):(أنت مش قدام ناس. أنت قدام ألواح وبهايم) وماذا تنشره من ظلال، وماذا تستجلبه من معاني في نفوس تلاميذه؟ وسمعت من يقول أنه لا باس أن يكون هذا الأسلوب أداة التعليم في الجامعة، والأسلوب العامي ما دام لم يكتب في كتاب وأن ما يلقى في درس في حجرة فلا غبار عليه. وجوابي على هذا أني أتكلم عن تدريس فن البلاغة في الجامعة لا عن تدريس الجغرافيا في المدارس الابتدائية، أما الثالث فيقول: أن اللجوء إلى نقد الأساليب تهرب من نقد الآراء، وهذا ولاشك جاهل أو متجاهل قيمة الأسلوب في تكوين أذواق المتعلمين بلوفي أخلاقهم وعاداتهم أيضا. على أني - بحول الله وقوته - ماض في نقد ما تضمنته مذكرات الأستاذ الخولي في علوم البلاغة

ص: 9

من آراء في قواعدها أو فهوم في النصوص الأدبية، ولنبدأ بمذكراته في علم البيان.

والفكرة المتسلطة عليه في هذا الفن أن يجعل لكل عبارة من عباراته منبعا لمعاني نفسية يجب أن تثيرها في نفس المتكلم اولا، وفي نفس السامع ثانيا، وهو لذلك يتكلف العنت، ويركب الشطط في تخريج النصوص الأدبية. وهولا يؤمن بالماديات الصرفة في هذا الفن، ويكاد ينكر المحسات التي لا تثير معاني نفسية فحين يقول الشاعر مثلا:

تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ

عميرا، واما أن تزور المهلبا

هما خطتا خسف نجاؤك منهما

ركوبك حوليا من الثلج أشهبا

لا يرى لهذا التشبيه معنى، لأن الشاعر لم يزد على أن فضل الفرس في البياض على الثلج دون أن يلاحظ العلاقات المعنوية بين المشبه به والمشبه؛ فتراه يقول مثلا حين يتكلم عن أغراض التشبيه (ومنها بيان حاله كما في تشبيه ثوب بآخر في السواد. . . الخ. هذه عبارة الخطيب القزويني صاحب الإيضاح فيعلق عليها الأستاذ قائلا: هذا كلام فارغ؛ لأن الإنسان حين يشبه السواد يلحظ فيه الانتشار والتغطية والإبهام، أي أثرا نفسيا يقع من رؤية هذا السواد، وعلى هذا الملحظ يشبه الليل). لا يا مولانا، هذا شيء وذاك شيء أخر، نعم قد يلاحظ المشبه بالسواد المعاني التي يثيرها في النفس، ولكن لا بأس أن يلاحظ مشبه أخر مجرد السواد. وليس هذا بالكلام الفارغ، وهو من أساليب العربية المقبولة بل وفي طبائع الناس أيضا فهم لا يزالون يلحقون شيئا بشيء في البياض أو الحمرة أو السواد أو ما شاءوا من لون، ولعله يلفت النظر إلى هذا التهجم الجائر على كلام العلم العلامة الخطيب القزويني، ومن معه من علماء البلاغة حين يقول (هذا كلام فارغ) ولا شك أن مثل هذا يمحو من أذهان المتعلمين ما لهؤلاء من هيبة وجلال، وبذلك لا ينتفعون بما كتبوا وألفوا ما داموا يحتقرونهم ويسمعون من أستاذهم هذا التنقص لهم، والغض منهم.

وقد ذهبت به هذه النظرة الجائرة إلى أن ينكر نوعا من التشبيه قد أطال علماء البلاغة ونقدة الأدب في امتداحه يقول:

(ولا زوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت)

المشبه زهرة البنفسج قائمة على ساقها، والمشبه به أوائل النار في أطراف كبريت، إذا

ص: 10

أردنا أن نحلل عملية التشبيه إنه شعر للبنفسج بجمال فترجم عنه، ونحن نفهم أن الجميل قادر أن يلفت معنى وراء وجوده المادي ولكن الشاعر لم يتخطى الوجود المادي نظر إليها على أنها زهرة لها حجمها الخاص ولونها الخاص، وقال كلاما شرح به هذا الوضع المادي (كأوائل النار في أطراف الكبريت). أولا: ما هو الشيء المعنوي الذي لفتت إليه الزهرة الجميلة؟ لا شيء. زهرة البنفسج هذه يمكن أن نحس أمامها بنوع من الانصراف عن التنبه واليقظة، فإذا شبهتها بإنسان حالم تكون قد تذوقت للون طعما خاصا من طعوم الحياة؛ وبذلك تكون المادة قد أفلحت في أيجاد المعنى. . أما وصف اللون بلون أخر فلا شيء. ثانيا: نلاحظ أن الشاعر نقلنا من جو فسيح إلى جو خانق فليست هنا قوة في الإحضار، وإنما هي غفلة وسوء تصرف).

قد يبدو هذا الكلام مقنعا ورائعا لأول وهلة، ولكن يجب أن نتذكر حقيقتين:

الأولى - أنه يدرس التشبيه؛ ومعنى ذلك أن يقف عند تشبيه الشاعر. هل أصاب أو اخطأ في إلحاق هذا اللون بذاك. أما أن الشاعر لم يلتفت إلى ما يهيجه البنفسج من المعاني في النفس والتفت إلى شيء مادي بحت فهذا لا دخل له في صحة التشبيه أو فساده.

الثانية - أن البيان يبحث عن الأساليب الفنية التي تؤدي بها المعاني، وما دام يبحث عن الفن فهو يجده في المعاني البحتة ويجده كذلك في الماديات البحتة، وليس أحدهما بأولى من الأخر في إبراز الفن البياني فيه، وعلى ذلك فهم علماء البلاغة ما ورد من هذه الأمثلة. ولعلنا نأتي بالقول الفصل حين نسوق ما قاله أمام البلاغيين الشيخ عبد القاهر الجرجاني في هذا الموضوع بعينه (وهكذا إذا استقريت وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان اشد كانت إلى النفوس اعجب وكانت النفوس لها اطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية اقرب، وذلك موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح والمتآلف للنافر من المسيرة، أنك ترى بها الشيئيين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، ولذلك تجد تشبيه البنفسج في قوله: ولا زرودية. . . الخ اغرب واعجب، وأحق بالولوع واجدر من تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق؛ لأنه إذ ذاك مشبه لنبات غض يرف، وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف، بلهب نار في جسم مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف ومبني الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يمهد ظهوره منه، وخرج من

ص: 11

موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به اكثر، وكان بالشغف منها اجدر). وليس بعد كلام الشيخ كلام، ولكن لعل شيخ الجامعة يتهمه بفساد الذوق ولو أنه أعاد وأبدا، واحتج بنظرية نفسية كان الأستاذ ينكر أن المتقدمين تنبهوا لمثلها، والأمر أوضح من أن يشرح، فالشاعر أراد أن يبين زرقة البنفسج التي تفخر بها على اليواقيت الحمر ففكر في شبيه ل هذه الزرقة، وهنا يتفاضل الشعراء فمنهم من يكون قوي اللفتة فسرعان ما يقع على شبيه ولو كان نادر الحضور في الذهن، ومن هنا تجيء طرافته وجدته، ومنهم البليد الذي لا يصل إلى الشبيه وربما لا يصل، وإذا كان من الميسور للأستاذ البلاغة في الجامعة أن يتهم الشيخ عبد القاهر في ذوقه فأظن أنه ليس من الميسور أن يتهم جريرا الشاعر. فإليه نسوق القصة التالية: يحكى أن جريرا قال: أنشدني عدي (يعني ابن الرقاع العاملي): عرف الديار توهما فأعتادها.

فلما بلغ إلى قوله: (تزجى اغن كأن إبرة روقه) رحمته وقلت قد وقع، ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف؟! فلما قال:(قلم أصاب من الدواة مدادها) استحالت الرحمة حسدا. قال صاحب الإيضاح: فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر شبه، وحين أتمه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف.

وبعد ف هذا كلامهم وهذا كلامه، وموعدنا المقال التالي.

علي العماري

مدرس بمعهد القاهرة

ص: 12

‌أنا وضغط الدم

للأستاذ عباس حسان خضر

قضيت ما قضيت من حياتي - قبل أن تبدأ قصتي مع ضغط الدم - بعيدا عن الأطباء، لم القهم في مرض ألمّ بي إلا مرات معدودات. وذلك لعديد من الأسباب لا أريد أن اذكر منها إلا أنني حريص على العمل بالحكمة المأثورة:(الوقاية خير من العلاج).

ومهما كانت الأسباب فقد كنت بخير إلى أن لقيت صديقي في الطريق وهو ذاهب إلى مكتب شركة من شركات التامين على الحياة ليدفع قسطا من المؤمن به على حياته، وطلب مني أن اصحبه وقال لي: لم لا تؤمن أنت أيضا على حياتك؟ فقلت في نفسي: حقا لم لا أؤمن على حياتي؟ إنني لا ادخر شيئا، وهذه قطع كبدي تمشي على الأرض، ولا يملك أبوهم شبرا من أرض. . .

وقال صديقي: على أنك إذا طلبت التامين عهدت الشركة إلى طبيبها أن يفحصك فحصا تاما ليتحقق سلامتك من جميع الأمراض، فإذا كانت هذه السلامة اطمأننت على صحتك وجنيت فائدة التامين، وإلا عرفت داءك فتبادر إلى علاجه، وسيسألك الطبيب عن الأمراض التي أصبت بها في حياتك، فلا تصدقه وقل له: أنك لم تصب بأي مرض في أي زمن. تصور أني قلت له: لم امرض إلا مرة واحدة في حياتي، إذ أصبت بحمى (الدنج) فجعلت الشركة تبحث عما عساه يكون ل هذه الحمى من الآثار التي تقصر الأعمار. . . وبعد البحث والدرس، والأخذ والرد، قبلت التامين. قلت لصديقي: أنك - ولاشك - اصدق المؤمنين على حياتك لدى هذه الشركة!.

وتقدمت إلى الشركة بطلب التامين على حياتي بألف جنيه، على أن ادفع أقساطا شهرية بضعة جنيهات؛ وزعمت أني لن أبالي بعد ذلك أن أموت في أي وقت تاركا لأولادي ألف جنيه! وكنت شديد الحذر من سيارات الحلفاء وما إليها من الدواهم التي تعج بها شوارع القاهرة، وزعمت أيضا إنني لن أكون كذلك بعد أن يتم عقد التامين. . .

واستدعتني الشركة للفحص الطبي، وليس يهمك أن تعلم أني أخذت بنصيحة صديقي في الكذب على الطبيب أو لم آخذ بها، فقد حدث ما شغلني عن ذلك، وهو المقصود من هذه الحكاية، فلنقصد إليه قصدا. . . لف الطبيب على ذراعي قطعة من قماش اسود كثيف،

ص: 13

وأدار الآلة المتصلة بها، فضغطت على ذراعي، ونظر إلى دائرة بها مشير يتنقل بين أرقام. . . ثم قال: عندك ارتفاع في ضغط الدم!

ضغط الدم. . .! وما ضغط الدم. . .؟

لم يجب الطبيب، لأنه لا يتكلم في الصميم، وإنما أبدى استعداده للعلاج.

ولكني لم آتي هنا للعلاج. . . ولست اعرف هذا المرض، ولا أحس له بأعراض، وإنما أطلب التامين على حياتي. . . ولكن الشركة لا تؤمن هذه الحياة التي يتحيفها ضغط الدم. . .

وذكرت قول صديقي: (. . . وإذا عرفت داءك فتبادر إلى علاجه)، ولكني أصررت على تجاهل هذا الداء أما أولادي فإن كنت سببا في وجودهم فإن موجدهم الأصيل الذي يكفلني ويكفلهم اقدر على كفالتهم بعدي وهو المستعان في كل حال.

ولكن مالي أنتبه عند ما اسمع الناس يرددون كلمة (ضغط الدم) بين ارتفاعه وانخفاضه، وأرى اهتمام بعضهم بقياسه، ومعرفة درجته ومعالجته. . .؟ استرعى ذلك انتباهي. وأثار باطن الشعور الذي خلته انتفى عني، فقصدت أحد الأطباء. . . ولف على ذراعي ذلك القماش الأسود، وقاس ضغط دمي، وسألني عن سني، وقرر أن الضغط مرتفع إلى درجة لا يحسن السكوت عليها.

ورحت أتناول الأدوية، وسرت على (الرجيم) وكنت كلما أخذت الدواء، أو أكلت مسلوقا، أو حرمت نفسي محذورا؛ أوحى إلي كل ذلك إنني حقا مصاب بضغط الدم، وكأن كل ذلك يأمرني أمرا بأن أكون كذلك، فيجب أن استشعر ثقل الدماغ والصداع وفتور الجسم، وارتخاء الاطراف، فيجيبني كل ذلك ومعه هموم الدنيا وسواد العيش. وكنت أحس كلما وطئت قدماي عتبة (عيادة الدكتور) أن الضغط يرتفع، وإن كنت قد أوحيت إلى نفسي في الطريق أن الأدوية و (الرجيم) قد أفادت فأذهبته. . . فيقيس الطبيب، وأعاود تعاطي الأدوية، والخضوع (للرجيم) وهزل جسمي وضعف بدني. وعجبت من أن حالتي تزداد سوءا على مر الأيام، مع العناية والدقة في مراعاة مقتضيات العلاج، ومع الحرمان التام من كل ما يزيد الضغط!

حرت في الأمر، فمرة أقول لعل المرض كان في أطواره الأولى خفيفا، أما الآن فقد

ص: 14

استفحل أمره حتى أعضل، ولولا هذه المعالجة لأدى بي إلى الحالة التي خشيت شركة التأمين خسارتها فيها، ومرة أقول لعل هذا الطبيب غير موفق، فأغيره ولا يتغير الحال. وأخيرا قلت: ألم اكن قبل بخير؟ فلم لا ارجع كما كنت؟ وطرحت الدواء وخلعت طاعة (الرجيم) فغذيت جسمي باللحم والبيض، ورويته بالخضر المطهية بالطماطم، وعمرت دماغي (بالتقلية) فعادت روحي إلى بدني، وجعلت الحيوية تدب في اوصالي، واقبلت على رياضتي البدنية التي كنت تركتها خيفة أن ينفجر القلب وتتمزق الشرايين؛ فأشرقت نفسي ورأيت الدنيا مشرقة؛ وكل شيء يبسم ويدعوني إلى مشاركته؛ وأدركت ما كاد يفسد من أموري، فطابت نفسي بذلك وحمدت الله على هذا التوفيق. ولم أندم على تلك المحنة لأنني اعتبرتها تجربة استفدت منها؛ إذ عرفت أن داءي من الحالة النفسية التي وقعت فيها، والتي كانت تستشري عند كل مرسوم من مراسيم العلاج إذ أفكر متسائلا: لم آخذ هذا؟ ولم ادع ذاك؟ وعرفت أيضا أن دائي من ضعف بدني لحرمانه التغذية والتقوية، كما عرفت أن سواد عيشي كان من سواد قماش تلك الأدلة التي يقيسون بها ضغط الدم.

ولكن لم تدم جدوى هذه العبرة طويلا، فقد أوقعني سوء الطالع مرة ثانية مع موظف في شركة أخرى للتأمين، من أولئك المنوط بهم جلب حرفاء للشركة لقاء جعل مقدر بنسبة مئوية من مقدار التأمين، واهم ما يتصف به هؤلاء اللباقة في الحديث، والقدرة على شرح فوائد التأمين والإقناع بضرورته. أكد لي أن صحتي جيدة، وأنه لا يبدو علي ما يدل على ضغط الدم، وأن الضغط لا يرتفع في دم من هو في نحافتي وفي مثل سني. ورضيت أن أتقدم للتأمين مرة أخرى. . . وما وضعت قدماي على عتبة طبيب الشركة حتى هممت بالرجوع لأنجو بدمي من أكدار أحسست أنها تتسرب اليه، ولكنني أشفقت على الموظف الذي يدعوني إلى الدخول متلطفا مبتسما؛ فدخلت، وتمت الطامة برؤية مقياس الضغط ذي القماش الأسود الكثيف. . . واظهر الطبيب استعداده للعلاج. . . فخرجت وقد أضفت إلى ثبت المنغصات فكرة التأمين على الحياة، وباعتباري إنساناً إذا مسه الضر دعا الله إلى جنبه

- تذكرت تلك الحكمة التي خطرت لي عقب رفض الشركة الأولى تأمين حياتي. فقلت: (أما أولادي فإن كنت سببا في وجودهم فإن موجدهم الأصيل الذي يكفلني ويكفلهم اقدر

ص: 15

على كفالتهم بعدي).

على إنني لم ادر تماما أأنا حقا مصاب بذلك الضغط، وأن التفاوت بين الحالتين يرجع إلى تلك الأسباب من تركيز تفكيري فيه كلما جرعت دواءا أو أكلت مسلوقا أو تجنبت محذورا، ومن الشعور الكريه الذي ينتابني في مدخلي إلى الطبيب، واسوداد الدنيا أمام ناظري حينما ابصر ذلك القماش الأسود، ومن التفكير في التأمين على الحياة، إلى ما يجره كل هذا من الهم والحزن ونكد العيش؛ فإذا نفت عني إرادتي كل ذلك أو إذا ذهب عني لابتعادي عن مثيراته شعرت بأني في حالة عادية لا يشوبها أي كدر، ولكن ما بالي لم اشعر بشيء من قبل ولا من بعد؟ أم أنا يوم فحصني طبيب الشركة وقاس ضغطي لأول مرة كنت متغير المزاج لأي سبب بأن وقع لي قبيل الفحص ما جعل مشير المقياس يرتفع إلى رقم ما كان يبلغه لو كنت في حالة عادية، ثم استقرت الفكرة في نفسي بعد ذلك بحيث يسبب الشعور بها عند كل مناسبة ارتفاعا في الضغط؟ وعلى ذلك أستطيع أن افرض إن كثير من الناس أصيب به عندما شاهدت عيناه القماش الأسود يلف على ذراعه لأول مرة، وصارت رؤيته بعد ذلك تبعث الوساوس وتجلب الأكدار.

ولا أعني بالوصول إلى نتيجة حاسمة في ذلك، فلا سبيل إليها اولا، لعدم الانسجام بين راحة بالي وبين مقياس الضغط. والأمر الثاني الذي يصرفني عن تحقق وجود ارتفاع الضغط هو إنني عرفت أن أوفق شيء لي أن أحيا حياة صحية عادية، لا أتكلف فيها تناول شيء أو أتجنب آخر ما دمت في حدود القانون الصحي العام، وإنني عندما اعمد إلى العلاج أراني أتداوى (بالتي كانت هي الداء) على فرق ما بيني وبين أبي نواس من اللذة والألم والنشوة والحسرة، ومن أن كأسه تداوي والذي كنت فيه يدئ.

وبعد، فهذه قصتي مع ضغط الدم، سقتها هنا بدافع الرغبة في التعبير الأدبي عن تجارب تضمنت أحاسيس وأن فعالات، ولعل فيها إلى ذلك مادة تنفع من وقع في مثل ما وقعت فيه، أو تعصم من يوشك أن يقع أو تحمل العبرة إلى من يعتبر من بعيد.

عباس حسان خضر

ص: 16

‌صحائف مطوية:

من أخلاق البحتري

علاقته بالخلفاء

للأستاذ محمد رجب البيومي

لأبي عبادة البحتري عند أدباء العربية مكانة رفيعة لا يتطلع إليها ابعد الناس أملا في نباهة الذكر، واستفاضة الشهرة، فهو أحد الثلاثة الذين رزقوا من الحظوة والذيوع ما جلجل صداه في كل زمان، على أن الوليد أعقهم تأثير أو أكثرهم أنصارا، نظرا لديباجته الناصعة، وسلاسته المترقرقة، ووضوح معانيه وضوحا يصل بها إلى أعماق القلوب بمجرد النظرة الأولى، ولا كذلك أبو تمام والمتنبي، فالأول مغرق في الغموض والالتواء، والثاني مولع في مخالفة أهواء الناس، وحسبك أن يقول أبو العلاء_وهو أبعد الناس عن مذهب الوليد - (أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري)!.

ولقد تناول شعره بالنقد والتحليل طائفة ممتازة من أرباب الأقلام الناضجة فقالوا فيه ما شاء لهم تفكيرهم واستنتاجهم، فمن من متعصب لهم كالآمدي، ومن متعصب عليه كالصولي، ومن متجرد عن الميول والأهواء كابن الأثير، ومهما يكن من شيء فقد خرج الأدب من هذا التطاحن المحمود بثروة كبيرة تعتز بها المكتبة العربية على ممر الأحقاب. وأن من الغريب أن يغفل هؤلاء جميعا عن دراسة أخلاق البحتري دراسة تبرزه على حقيقته أمام الجمهور، اللهم إلا شذرات يسيرة في مختلف الأسفار لا تشبع نهمة راغب في البحث، آمل في الوصول إلى نتيجة واضحة يفهم على ضوءها شعر البحتري كما يجب أن يكون الفهم والاستنتاج!

على أني آسف كل الأسف ل هذه الحقيقة المؤلمة التي اهتديت إليها بعد بحث جهيد، والتي تصور لنا البحتري خبيث الطبع، لئيم المكر، ملتهب الحقد، وهذا يتجلى بوضوح تام في مختلف علاقاته بالناس من خلفاء وشعراء وأصدقاء، بل في علاقته بأقاربه وأهل بيته وهم أولى الناس بعطفه وإشفاقه، لو كان في قلب الوليد إثارة من عطف وإشفاق!

ونظرة واحدة إلى ديوانه تريك العجب العاجب من وقاحته وغدره فهو يمدح الرجل ويذمه

ص: 17

مرات عديدة لا لأنه يستحق الذم أو المدح مثلا فذلك مقبول، بل لأنه جاد له بالمال فمدحه ثم أبطأ قليلا في سيبه فأقذع في هجوه، غير متذكر ما طوق جيده قبل ذلك، بل لقد وصل به التنكر والجحود إلى أن جعل شعره محلا تجاريا يأخذ منه ما يلزمه إبان حاجته فهو - كما يقول صاحب الموشح - يمدح الإنسان بتحفة خالدة من رائع الشعر ثم يعرض له بعد تناسل الأيام أن يمدح محسنا آخر فيدفعه لؤمه إلى أن يعمد إلى شعره الذي قاله في الممدوح الأول فيغير ما يحتاج إلى تغير من الأسماء والألقاب ثم يسوق القصيدة برمتها إلى الممدوح الثاني، وهذه طريقة مقيتة وقع فيها المتنبي أيضا فقد مدح أبا الفضل وزير كافور الأخشيد بقصيدة:

باد هواك صبرت أم لم تصبرا

وكان منها:

صغت السوار لأي كف بشرت

بابن الفرات وأي عبد كبرا

ولما لم يثبه أبو الفضل عليها صرفها عنه وتحول إلى ابن العميد فمدحه بها بعد أن غير كلمة ابن الفرات بابن العميد ثم أردفها بزيادة يسيرة تتضمن جانبا من أوصاف ابن العميد. . .! وإذا كان المتنبي قد وقع في ذلك مرة واحدة فقد كان البحتري غارقا في هذه العادة إلى أذنه، حتى أنه كرر هذه الجريمة الأدبية إحدى وعشرين مرة وكان الله عز وجل أراد أن يكشفه للناس على حالته، فبالرغم من تحفظ ولده أبي الغوث عن الوقوع في ما يدل على ذلك حين جمع ديوان والده فقد ذكر له قصيدتين متشابهتين في أكثر الأبيات فأنت تقرا اللامية التي مدح بها المتوكل على الله ومطلعها:

قف العيس قد أدنى خطاها كلالها

وسل دار سعدي إن شفاك سؤالها

ثم تقرأ قصيدته التي مدح بها إبراهيم بن المدبر ومطلعها:

وقوفك في أطلالهم وسؤالها

يريك غروب الدمع كيف انهمالها

أقول: تقرأ هاتين القصيدتين فتجدهما متوافقتين لفظا ومعنى في كثير من الأبيات. ولك أن تستنتج من هذا حكمك على ضمير البحتري الفاسد، وحرصه على ابتذاذ الأموال بما تنكره مروءة الأخلاق.

ولننظر أولا إلى علاقته بالخلفاء لنعرف إلى أي مدى سفل الوليد، فما صان عهدا ولا حفظ

ص: 18

إلاّ، حتى مع المتوكل على الله، ذلك الخليفة المعطاء الذي أدناه من مجلسه وأغرقه في طوفان من حبائه، وأختاره نديما على بساط الشراب إلى أن لقي حتفه وهو في ندوته يجاذبه أطراف السمر مع الفتح بن خاقان، وحين حلت الكارثة قام الوزير الشجاع بما يفرضه عليه واجب الشهامة والرجولة ففاضت روحه قبل سيده، وفر البحتري إلى حمام مهجور بقصر القاطول فاختبأ فيه وبعد ذلك جاء ليكذب على الناس فيقول في اختلاق ذميم:

أدافع عنه باليدين ولم يكن

ليثني الأعادي اعزل الليل حاسره

ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي

درى الفاتك العجلان كيف أساوره

مع أن البحتري لو كان صادقا في قوله لصرع لساعته كما صرع الفتح بن خاقان شهيد المروءة والوفاء! ونحن لا نبالغ في مؤاخذة البحتري على فراره هذا فلعله ممن لا يلقون بأيديهم إلى التهلكة. ولكننا نبالغ في مؤاخذته على هجاءه المتوكل بعد مصرعه برغم ما غمره به من خير عميم، فقد قال في مدح المنتصر قاتل المتوكل العاق:

حججنا البلية شكرا لما

حبانا به الله في المنتصر

تلافي البرية من فتنة

أظلهم ليلها المعتكر

ولما ادلهمت دياجيرها

تبلج فيها مكان القمر

ولو كان غيرك لم ينتهض

بتلك الخطوب ولم يقتدر

رددت المظالم واسترجعت

يداك الحقوق لمن قد قهر

وآل أبي طالب بعدما

أذيع بسربهمو فابذعر

ونالت أياديهمو جفوة

تكاد السماء لها تنفطر

بقيت أمام الهدى للهدى

تجدد من نهجه ما اندثر

ومعلوم أن المتوكل هو الذي غالى في قهر آل أبي طالب!! فهل يليق أولا أن يمدح قاتله؟! وهل يليق ثانيا أن يعرض بهجاء ولي نعمته الأول فيقول أن الفتنة أظلمت دياجيرها في عهده وأن الهدى قد أن دثر على يديه؟ إن هذا لغريب.

على أن البحتري لدناءة اصله، وخسة طبعه لم يلبث أن قلب للمنتصر - ولي نعمته الثاني - ظهر المجن، فهجاه هجاءا مراً بعد مقتله، ثم أن قلب إلى الخليفة الجديد المستعين بالله يتزلف إليه ويمدحه حتى يستنزف أموال خزائنه فهو يقول متظاهرا بالولاء والإخلاص:

ص: 19

لقد نصر الأمام على الأعادي

وأضحى الملك موطود العماد

أمير المؤمنين اسلم فقد ما

نفيت الغي عنا بالرشاد

تدارك عبدنا الدنيا فقرت

وعم نداك أفاق البلاد

ولقد هبت في عهد المستعين بالله زعازع شديدة تنبئ بزوال دولته نظرا لقوة أنصار المعتز بالله غريمه الأول ومنافسه الألد فرأى البحتري أن يحتاط لنفسه فأرسل للمعتز في سجنه قصيدة تنبئ عن ولاءه، وكان قد قالها قبل ذلك في حبس سعيد بن يوسف ولكنه كما قلنا - فيما تقدم - شاعر تجاري يتصرف في شعره كما شاء ومما جاء في هذه القصيدة:

جعلنا فداك، الدهر ليس بمنفك

من الحادث المشكو والنازل المشكي

وقد هذبتك الحادثات وإنما

صف الذهب الإبريز قبلك بالسبك

على أنه قد ضيم في حبسك الهدى

وأضحى بك الإسلام في قبضة الشرك

أما في نبي الله يوسف أسوة

لمثلك محبوسا على الجور والإفك

أقام جميل الصبر في السجن برهة

فآل به الصبر الجميل إلى الملك

وكأني بالبحتري وقد خاف أن يعلم المستعين بالله نبأ هذه المراسلة فتقدم إليه عصماء مظهرا ولاءه ووفاءه قائلا في ديباجة مشرقة وأسلوب سلس:

بقيت مسلما للمسلمينا

وعشت خليفة لله فينا

فقد أنسيتنا بذلا وعدلا

أُبوَّتك الهداة الراشدينا

أراد الله أن تبقى معانا

فقدر أن تسمى مستعينا

إذا الخلفاء عدّوا يوم فخر

سبقت سراتهم سبقا مبينا

وقيناك المنون وأن حظا

لنا في أن نوقيك المنونا

وبعد أن أمن على نفسه من ناحية المستعين اخذ يراسل المعتز بالله من جديد فهو يقول في مخاطبة غلامه نائل:

ألا هل يرجع العيش لنا مثل الذي كانا

وهل ترجع يا نائل بالمعتز دنيانا

عدمت الجسد الملقى على كرسي سليمانا

فقد اصبح للعنة نقلاه ويقلانا

ص: 20

والجسد الملقى على كرسي سليمان هو المستعين بالله الذي قربه من مجلسه وغمره بنواله. ولما دارت الدوائر على المستعين وقتل بقصره تحت جنح الظلام، اخذ البحتري يضحك لآماله، وسار من فوره إلى المعتز بالله معتمدا على ما كان بينهما من مراسلة خفية ثم مدحه بقصيدة طويلة عرج فيها على المستعين - ولي نعمته الثالث - فسلقه بلسان حاد ولصق به جميع المثالب حتى جرده من إنسانيته فهو يقول في هجاءه:

متى أسل الديان أن تصطفى له

عرى التاج أو تثني عليه عصائبه

وكيف ادعى حق الخلافة غاصب

حوى دونه إرث النبي أقاربه

بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه

على الناس ثور قد تدلت غباغبه

ثقيل على جنب الثريد مراقب

لشخص الخوان يبتدئ فيواثبه

إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل

أضاء شهاب الملك أم كل ثاقبه

تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله

فطورا ينازيه وطورا يشاغبه

رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر

وعرى من برد النبي مناكبه

وقد سرني أن قيل وجّه مسرعا

إلى الشرق تحدى سفنه وركائبه

إلى دسكر خلف الدجاج ولم تكن

لتنشب إلا في الدجاج مخالبه

ثم أخذ يكرر هجاءه ثانية وثالثة ورابعة وما ذلك إلا ليحوز قبول المعتز بالله! فيا لضيعة الوفاء. . .

ولقد كان مصير من سبقه من الخلفاء في هذا العهد الأحمر الذي فاضت به دجلة بدماء الخلفاء، حتى كان تعيين الخليفة حكما عليه بالإعدام، فهو ينتظر تنفيذه بالليل، فإذا اخطأه ترقبه بالنهار؟! ولعمري أي خطأ شنيع وقع فيه المعتصم حين اصطفى هذه الشرذمة السافلة من غوغاء الأتراك ليدفع بها سلاطة الفرس على قلة شرهم - فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم!.

وما أن عرف البحتري مصرع المعتز حتى توجه كعادته إلى غريمه الجديد، يمدحه ويستدر عطفه. وما في ذلك عيب، ولكن العيب كل العيب في تعريضه الشنيع بهجاء المعتز - ولي نعمته الرابع - محاولا أن يشفي بذلك غلة الممدوح، ولو طال أمد البحتري إلى الآن لوجدناه يحرص على تمثيل هذا المنظر القبيح مع من يتعاقب على الدول من ملوك

ص: 21

وخلفاء.

وليت شعري كيف عمى الخلفاء عن تلاعب البحتري بهم هذا التلاعب المقيت، فلم يتنبهوا إلى غدره الفاحش، فيقفلوا أبوابهم في وجهه على اقل تقدير ولكنه الحظ الذي ستر مثالبه، وأطبق العيون عن مخازيه، فجعل كل خليفة يبتسم له ناسيا ما ارتكبه في حق زميله السابق من غدر وعقوق، ولقد كان أبو تمام أولى ب هذه الحظوة لدى الخلفاء، لما نعرفه من نبل أخلاقه، وكرم خلاله، إلا إن السعادة التي احتضنت البحتري قد ناصبت حبيبا العداء! فقد مدح المعتصم بقصيدتين خالدتين ثم رجع ولم يظفر بطائل رغم شفاعة أحمد بن أبي دؤاد!!

والحظ يقسم عاش بشر ما اشتكى

بصرا وعمرا أكمها بشار!

على أن له مع أحمد بن الخصيب موقفا كمواقفه مع الخلفاء سواء بسواء، قال صاحب الموشح (حدثني أحمد بن أبي ظاهر فقال: ما رأيت اقل وفاء من البحتري ولا أسقط، رأيته قائما ينشد أحمد بن الخصيب مدحا له فيه، فحلف عليه ليجلس، ثم وصله واسترضى له المنتصر وكان غاضبا عليه، واخذ له منه مالا فدفعه اليه، ولما نكب المستعين أحمد بن الخصيب بعد كرمه هذا رأيت البحتري ينشده

لابن الخصيب الويل كيف انبرى

بإفكه المردي وإبطاله

قد اسخط الله بإعزازه الد

نيا وأرضاها بإذلاله

يا ناصر الدين أنتصر موشكا

من كائد الدين ومغتاله

فهو حلال الدم والمال أن

نظرت في سائر أحواله

والرأي كل الرأي في قتله

بالسيف واستصفاء أمواله

ثم قال ابن ظاهر كان ابن العلجة فقيه يفتي الخلفاء في قتل الناس! نزحه الله).

هذه علاقة البحتري المخزية مع أولياء نعمته، ولقد كان في حاجة إلى من يذكره بقصة صعصة بن غالب حين بلغه موت الوليد ابن عبد الملك، فقال: لعنه الله وأخزاه! لقد سبني مرة أمام حشمه وخوله، وكان والده غالب حاضرا فقال: يا بني لقد رفعت من ذكر الوليد إذ ذكرت سلطانه عليك، وخفضت من شأنك إذ نبهتنا إلى منزلتك لدى الخليفة وأنت سيد قومك، فلا تفضح نفسك بهجاء رؤسائك أمام الناس!!).

(يتبع)

ص: 22

محمد رجب البيومي

ص: 23

‌إلى المجمع اللغوي:

الأسماك في الشواطئ الحضرمية

للأستاذ علي عبود العلوي

- 3 -

اللغة المهرية:

هذه هي المعلومات التي دونتها عن الملاحين الحضرميين طيلة الساعتين التي كنت أتخطر فيهما مع النسمة الروحية - لا - الغذائية.

وهي كما ترى على أكثرها مسحة اللغة المهرية والشحرية - نسبة إلى الشحر - وهي ليست بذاك كما يقول علماء اللغة.

وقبيلة مهرة من القبائل العربية ونسبتها إلى قضاعة. وتسكن مهرة في ظفار الحبوظية ومرباط وصيحوت وغيرها من الأماكن الشرقية بالنسبة إلى موقع حضرموت. وهذه الأماكن يشملها اسم حضرموت وذلك حسب التقسيم الجغرافي القديم ولا يعتد بالتقسيم السياسي اليوم.

وذكر بعض مؤرخي العرب أن لغة مهرة هي من بقايا التراث العربي القديم اعني أنها من بقايا لغة عاد. وهي إلى اليوم لا كتابة لها.

ويؤكد بعض المؤرخين أنها من بقايا اللغة الحميرية. ويؤيد هذا الرأي فضيلة شيخنا العلامة الكبير مفتى (جوهور) سابقا السيد علوي بن طاهر الحداد العلوي يقول:

(ويدل على هذا وجود كلمات فيها نص علماء اللغة على أنها حميرية. اذكر منها أنهم يسمون اللبن (شِخَوفْ) وهذا اسمه بالحميرية كما في القاموس، ويقولون (قَيَهلْ) بمعنى اقبل. وقد ذكر هذا اللفظ بمعنى الوجه في ترجمة صاحب القاموس، ويقولون للنار (شَوَاظْ)، وهذا محرف من شُواظ، ويسمون الماء (حَموه) وهذا هو اسمه في لغة عربية بتفخيم ألف وزيادة الحاء فقد حكي علماء اللغة أنه يقال: فيه (حاه) على لغة فإذا فخم الألف قرب جرسه في السمع مما ذكر.

وقال أيضا: وللمهرة والقَرى - هم بادية مهرة وتسكن الجبال - وأهل سقطري لغات

ص: 24

متقاربة تجمعها اللغة المهرية، وبينهما فروق. وتسمى لغة القرى بالحِكلى.

وأعدادهم محرفة عن العربية بتحريف بعيد أو قريب، والعدد في لغة الأمحارة الحبشية اقرب إلى العربية منها.

أعداد القرى

أعداد المهرة

أعداد الحبشة

(1)

طاد

طَاط

أحَدْ

(2)

ثِرَةْ

ثِلْثْ

لِسْنَين

(3)

صَاطِيْطْ

صافيدْ (أو صفديد)

سلاسي

(4)

أرْبَعَط

أرْبوُتْ

أرْبُوء

(5)

خُوْنِش

خُمُةْ

ص: 25

هَمْسَهْ

(6)

شِتِتْ

يَتِّيه

سَدِسْ

(7)

شِبْعَتْ

هِيَيَايِتْ

لَسْبُوْ

(8)

ثِنْيَتْ

ثِمِنْتْ

سَمانِية

(9)

تسعِتْ

ثَايِتْ

زَطِّىْ

(10)

عِشْرِتْ

عِشْرِتْ

عَشر

هذا ما نص عليه فضيلة شيخنا في محاضرة له عن ظفار الحبوظية نجتزئ بالنقل عنها بما يهمنا حسب سياق البحث.

ولتكملة البحث نثبت هذه الألفاظ عن اللغة المهرية وهي:

ألفاظ مهرية

ص: 26

يقابلها بالعربية

تُخوْل

إجلس

أَثث

قم

ثِيوُوْطْ (الثاء مفخم)

النار

حَيلو

الليل

من هوك قهبك؟

من أين جئت؟

كعبيت

الصحفة

شخوف

اللبن

هيبيت

الناقة

هيرون

الغنم

بَقَريت

البقر

مَحِل

السمن

غجِّيْنْ

صبي

ص: 27

غجِّيْتْ

بنت

حِبِرانِيْ

إبني

وعن اللغة المهرية صدرت في اوربا هذه المؤلفات القيمة كما ذكرها المستشرق الإيطالي (نللينو) راجع مجلة الزهراء. فعسى أن يقوم بترجمتها المجمع اللغوي أو أحد أبناء العروبة البررة.

1 -

تأليف وطبع في فينا سنة 1902 م.

2 -

كتاب اللغة المهرية والسقطرية، وهو باللغة الألمانية طبع فينا سنة 1902و1907 م. وهو في ثلاثة مجلدات.

3 -

رسائل متعددة وهي من تأليف مطبوعة في منشورات المعهد العلمي في فينا سنة 1909وبعدها.

مرامي العنبر والإبل المعنبرة:

ولن أحيد أصلا عن موضوع بحثنا حينما استطرد إلى مرامي العنبر ولا سيما أن التاريخ العربي قد أقام لها وزنا.

ويقول الأستاذ عن منشأ العنبر في كتابه الذخيرة:

(ويغلب على الظن أن منشأه أن عقادات صفراوية تتكون في أمعاء بعض القياطس البحرية كما تتكون الحصوات المرارية عند الإنسان وغيره من الحيوانات الثدية).

والقياطس البحرية هي التي اسماها البحارة الحضرميون بالشوحطة، وما عزب عن أذهانهم من فصيلتها كما أشرنا إلى ذلك.

ومرامي العنبر ليست محصورة بمكان واحد. فكما يوجد على شواطئ البرازيل وجزيرة مدغشقر وجزائر الهند الشرقية والصين واليابان ونيوزيلندا الجديدة واستراليا وساحل أفريقيا الشمالي كذلك يوجد على الشواطئ الهندية والعربية إلى باب المندب.

وللشواطئ الحضرمية نصيب من ذلك كما حدثنا التاريخ عنها في القديم بل والحديث.

قال الهمداني: (وبها - أي اليمن - مرامي العنبر على سيوفها ولمهرة وبني مجيد علي

ص: 28

سيفي بحر اليمن شرقا وغربا الجمال المعنبرة. وذلك أن مسائمها على الساحل، وإذا اشتم الجمل العنبر به برك فلم يثر حتى يفتقده صاحبه، فيطلبه فيجده بالقرب منها فيلتقطها. فإن أبطأ عليه لم يبرح حتى تفتر قواه من الجوى وربما نفق فذلك خيفته عليها. صفة جزيرة العرب ص37).

وقال في موضع آخر: (وباليمن من كرام الإبل الارحبية لأرحب بن الدعام من همدان والمهرية ثم من المهرية العيدية تنسب إلى العيد قبيلة من مهرة والصدفية والجرمية والداعرية تنسب إلى دعر من بلحراث والمجيدية ومنها الإبل المعنبرة. ص201)

وقسم أبو عبد الله محمد أبو طالب الأنصاري الدمشقي المعروف بشيخ الربوة المتوفى سنة 728هـ العنبر إلى خام ومبلوع. وله نظرية في العنبر. أوهي نظرية المعلومات السائدة في ذلك العصر وهذه النظرية لا تتفق والمعارف العصرية كما ذكرنا عن الأستاذ حسن عبد السلام، ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه نبه في آخر بحثه إلى ما هو معروف لدينا اليوم: قال قوم: أن العنبر زبل هذه الدابة.

ولا غرو أن نتيح له الفرصة ليتحدث إلينا بمعلومات أجدادنا العرب السابقين قال:

(ولهذا المحيط - يقصد بذلك المحيط المغربي - مد وجزر كما للمحيط المشرقي. ويقذف ساحله العنبر الخام من غالب جهاته ولاسيما من خلجانه. والعنبر نبع من عيون من جبال بقعر البحر المالح الفارسي والحبشي والهندي والمغربي والصيني والموسوي فيركب بعضه بعضا. وهو في حين خروجه شديد الفوران والحرارة فإذا لاقى برد الماء جمد على أحجار وصار جماجم صغارا وكبارا فيكون جموده كجمود الشمع إذا أصابه بعد ذوبه الماء البارد فيبقى لاصقا بتلك الصخور إلى أن يهيج البحر في زمن الشتاء فيقتلعه قطعا قطعا ويخرجه إلى سطحه فترمي به الأمواج إلى الساحل.

وأجوده الذي يقع إلى ساحل الشحر من بلاد المهرة فيلتقطه الجلابون؛ وربما ابتلعه سمك يسمى أوال فإذا ابتلعه مات من شدة حرارته فتريقه الأمواج أيضا فيشق عنه جوفه ويستخرج منه، وله رائحة زهمة ويسمى المبلوع والآخر الخام.

والعنبر إذا ألقاه الموج إلى الساحل لا يأكل منه حيوان إلا مات ولا ينقر منه طائر إلا أنفصل منه منقاره. وإذا وضع عليه رجليه نصلت أظفاره فإن أكل منه شيئا مات.

ص: 29

وقد ورد في دابة العنبر حديث صحيح وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاث مائة رجل سرية وأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه فأجهدهم الجوع حتى أن الرجل كان يقتات في اليوم والليلة بتمرة واحدة فبينما هم يسيرون على ساحل البحر إذ أصابوا دابة العنبر مثل الكثيب الأضخم ميتة فأكلوا منها شهرا حتى سمنوا وكانوا يغترفون من وقب عينيها الدهن بالقلال، وأخذ أبا عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في الوقب، واخذ ضلعا من أضلاعها فنصبه ثم ادخل اعظم بعير واركبه أطول رجل وأمره يدخل تحت الضلع فلم يبلغ رأسه منقعره. ولما رجعوا تزودوا من لحم السمكة حتى أوصلتهم إلى المدينة. فلما قدموا حكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رزق ساقه الله إليكم. فهل معكم شيء فتطعمونا؟ فأرسلوا إليه منه فأكل.

وقال قوم: أن العنبر زبل هذه الدابة. صفحة 133 - 134 من كتابه (نخبة الدهر وعجائب البر والبحر) المطبوع في بطرسبورغ سنة 1281هو1865م.

ومن نصه نفهم امتياز العنبر الذي يلقى على الشاطئ الحظرمي على غيره.

وللمسعودي إشارات إلى مرامي العنبر بالشواطئ الحضرمية والإبل المعنبرة فليراجعها من أحب.

ولا أعرف عن الإبل المعنبرة شيئا اليوم. أما مرامي العنبر فلا تزال القياطس البحرية تكرم شواطئنا الحضرمية بمبراتها الودية في كل حين.

وهذه الإبل المعنبرة هي التي أشاد بذكرها التاريخ في سرعة السير كما تحدثت عنها الأسفار الأدبية. قال البعيث الحنفي:

وهاجرة يشوي مهاها سمومها

طبخت بها عيرانة واشتويتها

مفرجة منفوجة حضرمية

مساندة سر المهاري انتقيتها

فطرت بها شجعاء قرماء جرشعا

إذا عد مجد العيس قدم بيتها

وجدت أباها رائيضيها وأمها

فأعطيت فيها الحكم حتى حويتها

وقال جرير:

وكيف ولا اشد حبال رحل

أروم إلى زيارتك المراما

من العيدي في نسب المهارى

تطير على أخشتها اللغاما

ص: 30

وتعرف عنقهن على نحولٍ

وقد لحقت شمائلها انضماما

وقد غالى في القول أبو الشمقمق وجاوز الطرف إذ جعل نعليه تسابق الإبل المهرية على شدة سرعتها في السير، ولندعه يحدثنا كما شاء له ظرفه وأدبه قال:

رحل المطي إليك طلاب الندى

ورحلت نحوك ناقتي نعليه

إذ لم يكن لي يا يزيد مطيتي

فجعلتها لك في السفار مطية

تحدى أمام اليعملات وتفتلي

في السير تترك خلفها المهرية؟!

من كل طاوئة الصُوى مزورة

قطعاً لكل تنوفة روسيه

فإذا ركبت بها طريقا عامراً

تنساب تحتي كانسياب الحية

لولا الشراك لقد خشيت جماحها

وزمامها من أن تمس يدي؟!

تنتاب أكرم وائلا في بيتها

حسباً وقبة مجدها مبنية

أعني يزيدا سيف آمحمد

فراج كل شديدة مخفيه

يوماه يوم للمواهب والندى

خضل ويوم دم وخطف منيه

ولقد أتيتك واثقا بك عالما

أن لست تسمع مدحة بنسيه

ويقصد الشاعر بيزيد: يزيد بن المؤيد الشيباني، وكان واليا على اليمن.

علي عبود العلوي

ص: 31

‌دعبل الشاعر الشجاع الوفي

للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

يتربص الرجل أن تضع زوجه حملها ليتخير لوليدها احسن الأسماء، فإن كان من التقاة الهداة تيمن باسم من يرى فيه الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، وان كان من الأثرياء أو السراة دارت بخلده أسماء الأغنياء والأشراف ينتقي منهم من يرى مسماه المثل فيما يستهويه، ولا احسب والدا أو والدة يختاران لوليدهما اسماً قبيحاً أو لقبا مستهجنا لا سيما والأسماء بغير ثمن، إلا إذا جاء ذلك ساعة دعابة أو مرح أو عقب واقعة أو حادث كأبي الشيص وخندف وثعلب وغيرها من الألقاب والكنى والأسماء.

وإذن فلم سمى أبو دعبل ابنه بهذا الاسم؟ ألأنه رأى فيه منة وصلابة؛ حتى انه ليشبه الناقة القوية الضارعة؟ أو لأنه لاحظ المنفعة والفائدة، فللناقة لدى العرب من الفوائد مالها، فهي عماد حياة العربي، كما إن الثور كان قديما رأس مال المصري. لعل أبا دعبل لاحظ الأمرين معا؛ فقد كان دعبل قوي الأسر طويل الجسم، ولا بد أن يكون قد توسم فيه سراوة طبع وصفاء ذهن، أو على الأقل هذا ما يراه كل والد في ولده متى أهل، فكرمه بهذا الاسم. ولقد وصف العرب الناقة ومنحوها من الصفات والنعوت ما أفعمت به أشعارهم، وهذه معلقة طرفة ابن العبد ابرز محاسنها وصف ناقته وصفا دقيقا في نحو ثلاثين بيتا، فلم يترك عضوا إلا أبدع في تصويره؛ فمن ذلك قوله يصف خدها وعينيها ولعلهما اقل أعضائها حسنا:

وخد كقرطاس الشآمي ومشفر

كسبت اليماني قده لم يحرد

وعينان كالماويتين استكنتا

بكهفي حجاجي صخرة قلت موردي

وننتقل من سبب تسميته إلى حياته ونشأته الشعرية التي تبين صفتيه اللتين سنتحدث عنهما.

ولد دعبل في العصر الذهبي لدولة بني العباس، فالملك ثابت الأساس موطد الاركان، لا يعرفون لبني أمية شأنا ولا يخافون من بني عليّ نقضاً، فالأولون قبع بعضهم في دورهم يبغون نجاة ويطلبون سلامة وأمناً، وبعضهم هجر جزيرة العرب، ونزح من المشرق إلى المغرب؛ فأسس ملكا وبنى دولة، وأما الآخرون فاكتفوا بتلك الإمامة الوهمية يتوارثونها

ص: 32

إماما عن امام، وشب دعبل عن الطوق، واصطنع الشعر يعرضه على شعراء عصره، وكان مسلم بن الوليد أدناهم إلى نفسه؛ فما زال هذا شأنه حتى أمره أستاذه بإذاعة شعره؛ لأنه آنس منه إجادة، ورأى فيه روعة، وكان أبدع ما انشد ما قاله في مدح آل علي وذكر مناقبهم، وتعداد آثارهم، ورثاء قتلاهم، والتحسر على صرعاهم حتى صار بحق شاعرهم الذائد عن حياضهم، والثابت على ولائه لهم، لا يخشى في حبهم لوما ولا يخاف من إعلانه سخطا، بل هو بادي الخلفاء العداء، فالملك لله وحده، وأينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة؛ فماذا يبعث في نفسه الهلع وهو ينصر آل الرسول؟ ولكن أليس الرعديد الخوار قرأ هذه الآية كما قرأها دعبل؟ لقد قرأها ولكن هلعه أنساه إياها، وذكره بقول الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فهو يتقي الشر ويتحاشى أن يقع فيه، ولكن دعبلا كان يرى في نصرة آل علي يدعو لله ويدفع عن آل رسول الله، فإن فاته زخرف الدنيا؛ لم يفته اجر الآخرة؛ إلى انه يتصف بخلال نبيلة عدا الشجاعة في الحق، والجرأة في الذود عنه شجاعة وجرأة يحسبهما الجبان طيشا وحمقا ويراهما الشهم النبيل رجولة ومنة، ولله قول القائل فإنه ليصور في وصفه دعبلا:

قل للجبان إذا تأخر سرجه

هل أنت من شرك المنية ناجي

كانت حياة دعبل أصدق مثل على أن الآجال موقوتة لا تستأخر ولا تستقدم، فإنه عادى أولي البطش والطول، وبادي البغضاء ذوي القوة والحول عداوة لدودة لا تعرف هوادة، يذمهم ويقذع في ذمه، ويهجوهم ويفحش في هجوه، غير عابئ بما قد يصيبه فأرض الله واسعة وإذا قلته دار أقلته ديار، وحسبه أن يجد من يقاسمه زاده ويشاطره رأيه، روى عنه انه قال:(لي خمسون سنة احمل خشبتي على ظهري أدور على من يصلبني عليها فلا أجد من يفعل ذلك).

والسر في شجاعته انه كان أول أمره وبدء نشأته من قطاع الطريق وولغة دماء البشر، ويميل إلى إشهار الشر، ورفع يد البغي في وجوه من يحاولون مساءته، قال له أبو خالد الخزاعي: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد، ووترت الناس جميعا، فأنت دهرك كله طريد شريد، هارب خائف، فلو كففت عن هذا، وصرفت هذا الشر عن نفسك؟ فقال له: ويحك! إني تأملت ما تقول، فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على رهبة، ولا يبالي

ص: 33

بالشاعر وان كان مجيدا إذا لم يخف شره، ولمن يتقيك عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة، ولم يكن ذلك فيه انتفع بقوله، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد! إن الهجاء المفرع أخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. وقال أبو خالد. فضحكت من قوله وقلت: والله هذا مقال من لا يموت حتف أنفه!).

بهذه النفسية الحانقة على البشر كان يعيش، وبهذا المنظار الأسود الذي يرى به الناس صعاليك أوغادا كان يرى كثرة مباشريه ومعاصريه، فكيف يموت حتف انفه؟

لقد تحققت كهانة صاحبه، فقد مات مقتولا بعد أن طارده الخلفاء والوزراء، وانتهت حياته على يد اتباع مالك بن طوق أمير عرب الشام في قرية من القرى الأهواز اغتالوه بها، وانتقموا لعداته وهم كثرة منه.

وفي دعبل صفة أخرى غير الشجاعة، تلك هي الوفاء الصادق الذي لا يعرف فيه مينا، والإخلاص الراسخ لا يشوبه خداع أو ختل، وفاء لآل علي على ضعفهم، ونصرهم بشعره طوال حياته على غير خلق الشعراء، وليعذرنا سادتنا شعراء عصرنا الذين تستولي عليهم عواطفهم، وتتملكهم أهواؤهم، فمن اجزل لهم صلته حمدوه ومدحوه، ومن قبض دونهم يده نبذوه وذموه، وله في ذكرهم والإشادة بهم والتنبيه على شأنهم ووجوب إعظامهم قصائد رائعة وأبيات خالدة تدل على أن نظمه فيها كان صادرا عن شعور حار ووجدان متدفق وعاطفة حافزة، بل تدل على أنه كان رجل عقيدة ورأي وإيمان ومذهب، لا تأخذ منه زعازع أو أعاصير، ولا يبلبل إيمانه مآسي ومحن، ومن قصائده الباقية على الدهر قصيدته التي وهب له من اجلها على بن موسى الرضا عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثيابه أريد على بيعيها بثلاثين ألف درهم، فأبى أن يساوم فيها، فقطع الراغبون فيها عليه طريقه ليأخذوها قسرا فقال لهم:(إنها تراد لله عز وجل وهي محرمة عليكم). فدفعوا له فيها المبلغ السالف، فحلف إلا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه فأعطوه كما واحدا، فكان بين أكفانه، وأول القصيدة هو:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

ص: 34

لآل رسول الله بالخيف من منى

وبالركن والتعريف والجمرات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجاد زي الثفنات

ديار عفاها كل جون مباكر

ولم تعف للأيام والسنوات

ومنها:

ألم تر أني من ثلاثين حجة

أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسما

وأيديهم من فيئهم صفرات

فآل رسول الله نحف جسومهم

وآل زياد حفل القصرات

بنات زياد في القصور مصونة

وبنت رسول الله في الفلوات

إذا وتروا مدوا إلى أهل وترهم

أكفاً عن الأوتار منقبضات

فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد

لقطع قلبي إثرهم حسرات

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم الله والحرمات

وهي قصيدة طويلة تسيل عيون أبياتها بالعبرات، وتصطخب أمواج بحرها بالحسرات، فإذا كفكف من دمعه وهدأ من روعه، فلأنه ينتظر أن يستأمن الدهر فيؤمنه، ويستكشف المحن فتنكشف، فهو ينشد:

فيا نفس طيبي، ثم يا نفس ابشري

فغير بعيد كل ما هو آت

فإن قرب الرحمن من تلك مدتي

وآخر من عمري لطول حياتي

شفيت ولم اترك لنفسي رزية

ورويت منهم منصلي وقناتي

أحاول نقل الشمس من مستقرها

واسمع أحجارا من الصلدات

ولقد رثي الحسين رضي الله عنه رثاء يدمي العيون ويفتت الأكباد حتى لكأنه حضر مصرعه، وشاهد

موقعه، فمن ذلك قوله:

رأس ابن بنت محمد ووصيه

يا للرجال - على قناة ترفع

والمسلمون بمنظر ومسمع

لا جازع من ذا ولا متخشع

أيقظت أجفانا وكنت لها كرى

وأنمت عينا لم تكن بك تهجع

كحلت بمنظرك العيون عماية

واصم نعيك كل أذن تسمع

ص: 35

ما روضة إلا تمنت أنها

لك مظجع ولخط قبرك موضع

هذه الأمثلة تدل على أن الرجل كان لا يخشى في رأيه لوما، ولا يرهب أحدا؛ فإنه ليهجو في سبيل مدحه آل علي بن العباس بشر القول ومقذع الهجاء. وأرى أن المأمون لم يكن ليقسو عليه لأنه عرف فيه خلتي الشجاعة والوفاء فأجله أعظمه، وكان كثيرا ما يستنشده شعره.

عبد العظيم علي قناوي

ص: 36

‌مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

للأستاذ خليل جمعة الطوال

ولما أظهر الله الإسلام تنفست هذه الفئات المضطهدة الصعداء، وأخذت تسير بسيره، وتترسم خطاه، وإذ آنست فيه إلى ظل نظام عادل، فقد أخذت تؤسس في كل حاضرة من حواضر الإسلام مدارس للعلم ومجالس للعلماء، واهم هذه المدارس على الإطلاق هي مدرسة الإسكندرية المشهورة.

وباتساع رقعة الإسلام أخذ الخلفاء يستعينون بهؤلاء العلماء على تنظيم شؤون إمبراطوريتهم السياسية، ولما ترافدت عليهم - أي الخلفاء - الفتوح، ودانت لهم الأقطار أخذوا يتطلعون إلى موارد العلم والمدنية والثقافة، ولم يفتهم قط أن يستعينوا بعلم هذه الطبقات الراقية التي خضعت لسلطانهم، ودخلت في حوزتهم، وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نجمل العوامل الرئيسية التي عملت في تنشئة الفكر العربي وإعداده إعدادا علميا صحيحا لتلقي الحضارة في خمسة عوامل هامة وهي:

أولا - النساطرة - وقد استعان هؤلاء على نشر أفكارهم في بلاد العرب بتعاليم منتزعة من الفلسفة اليونانية حتى كان كل نسطوري يحكم الضرورة معلما في الفلسفة اليونانية، وهم إلى جانب ذلك أول مدرسة تهذب فيها الفكر العربي باحتكاكه بالثقافة اليونانية، وأول من خدم الطب في العصور الأولى.

ثانيا - اليعاقبة، وإليهم يرجع الفضل الأول في إدخال الأفلاطونية الجديدة، ومذهب الباطنية في جو الثقافة العربية.

ثالثا - الزرادتشيون في بلاد فارس، واهم مدارسهم هي مدرسة جنديسابور التي أسسها (كسرى انوشروان (وكانت تضم طائفة من العلماء الذين شردهم الإمبراطور (بوستيانوس) حين أمر بإغلاق جميع المدارس والهياكل في أثينا. وكانت تدرس في هذه المدرسة الكتب اليونانية والسريانية والفلسفة الهندية وآدابها وعلومها، وفي هذه المدرسة أيضا ازدهر الطب ونما إذ تخلص من ضغط الكنيسة، وتحرر من قيود العلوم اللاهوتية، واشتهر في هذه المدرسة قبل الإسلام الحارث بن كلدة الطبيب المشهور، وابنه النضر، وقد ذكره ابن سينا مع الذين هزموا يوم بدر، ثم أُسر وقتله علي بن أبي طالب صبراً.

ص: 37

رابعا - مدرسة حران الوثنية، ولسنا نعرف مؤسس هذه المدرسة ولا كيفية نشأتها، والذي وصلنا إلينا عن حران أنها كانت مثابة لتعاليم الديانة اليونانية القديمة بعد أن طغت عليها المسيحية بالعالم اليوناني. والراجح أن حران قد ورثت كثيرا من تعاليم الديانة البابلية القديمة، وان هذه المدرسة أيضا كانت متأثرة إلى حد بعيد بتعاليم الأفلاطونية الجديدة كما وصفها (فرفوريوس الصوري).

خامسا - العبرانيون، وأهم مدارسهم في صور، وبانباديئا وكانت عاكفة على درس شرائعهم التقليدية، ولئن ورث العبرانيون عن النساطرة نزعة إلى علم الطب إلا انهم لم يتفقوا عليهم قط، وقد ذكر (لكلارك) في كتابه تاريخ الطب عند العرب في القرن العاشر 29 طالبا مسيحيا، على حين لم يذكر سوى ثلاثة من أطباء اليهود وأربعة من وثني حران.

والى جانب هذه العوامل الرئيسية التي استمد منها فكر العربي أسلوب دراسة الحضارتين القديمتين اليونانية والرومانية، فقد كانت هناك مراكز هامة أخرى بالثقافة اليونانية فقد ذكر (دييل) انه كان في كل من أنطاكيه والرها، ونصيبين - وذكر أيضا حران - أبان الفتح الإسلامي مدارس راقية احسن أساتذتها فهم الثقافة الإغريقية وفلسفة ارسطو، والعلوم والطب المعروفة عند القدماء. وقال أيضا: (إن خلفاء بني أمية كانوا يرجعون إلى هؤلاء الأساتذة ليستعينوا على نقل أهم كتب اليونان والبيزنطيين العلمية والأدبية إلى السريانية والعربية.

العرب والترجمة:

بعد أن تثقف العرب على يد هؤلاء الأساتذة وجهوا همهم إلى دراسة الحضارتين: اليونانية والرومانية دراسة مستقلة، واستخراج أهم روائعهما التي قد تفيدهم في بناء حضارتهم. فعكفوا على دراسة المؤلفات القديمة، واجتهدوا في تفهمها وشرحها ثم علقوا عليها ذيولا إضافية، ظهر فيها طابع العبقرية الإسلامية، وعدلوا فيها ونقدوها، وزادوا من عندهم أشياء جديدة وكان لهم نظر صائب في إمازة الغث من السمين، والوضع من الأصل. ومن الذين اشتهروا في ميدان الترجمة كان خالد بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان المعروف بحكيم آل مروان، فقد ترجم كثيرا من كتب الفلاسفة، ولا سيما كتب علوم الطب والنجوم والكيمياء والآلات، والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي والسرياني (وكانت الترجمة أحيانا من

ص: 38

اليونانية إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية) ويقال أن خالدا هذا كان أول من انشأ دار كتب في الإسلام، وقد أنشأها في دمشق.

وفي عهد عمر بن عبد العزيز، ترجم كتاب الطب الذي ألفه اهرن بن أعين، إلى اللغة العربية بأمر هذا الخليفة الصالح.

ويقسم بعضهم تاريخ الترجمة عند العرب إلى قسمين: أما الأول فيبتدأ من 132 هـ - 198هـ أي منذ بداية خلافة السفاح إلى خاتمة عصر الأمين، وفي هذا العصر ظهرت العبقرية العربية واضحة جلية لا سيما في الكتب التي ترجمها عبد الله ابن المقفع إلى العربية.

العصر المأموني:

أما القسم الثاني من تاريخ الترجمة عند العرب فيبتدأ بتسلم المأمون ذروة الخلافة ويعرف بالعصر المأموني، ويضاهي هذا العصر في تاريخ الحضارة العربية، بتقدم العلوم فيه وازدهارها، عصر بركليس في أثينا. واهم ما يمتاز به هو إنشاء بيت الحكمة التي أقامها الخليفة المأمون في بغداد، فجمعت في خزائنها اشهر الكتب العلمية القديمة، وضمت بين جدرانها كبار المشتغلين بالعلوم والفلسفة والنقل. وكان يتولى الهيمنة على إدارة دار الكتب هذه الوزير المعروف، سهل بن هارون، وجاء في بعض الروايات أن يحيى بن أبى منصور الموصلي المنجم المعروف، ومحمد بن موسى الخوارزمي صاحب الازياج المشهورة والمصور الأرضي البديع الصنع، كانا من خزنة بيت الحكمة المأمون. وكان علاّن الشعوبي، والفضل بن توبخت، وأولاد شاكر من الذين يترددون على هذه الدار أما للمطالعة، أو للنسخ والترجمة والتأليف.

وفي هذا الدور أيضا بعث المأمون إلى حاكم صقلية المسيحي يأمره بأن يرسل إليه جميع الكتب العلمية والفلسفية الموجودة في مكتبة صقلية الشهيرة، فتردد هذا في إرسالها، وضن بها كل الضن ولما ألح عليه الخليفة في الطلب جمع كبار رجالات الدولة واستشارهم في الأمر، فأشار عليه المطران الأكبر بقوله (أرسلها إليه فوالله ما دخلت هذه العلوم في أمة إلا أفسدتها) فعمل الحاكم بمشورته، وهي إن دلت على شيء فلا تدل إلا على مقدار كراهية رجال الاكليروس للعلم ونفورهم من ظل العلماء.

ص: 39

وفي هذا الدور أيضا جمع المأمون بعض حكماء عصره، على صنعة الصورة التي نسبت إليه ودعيت بالصورة المأمونية صوروا فيها العلم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره، وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي احسن مما تقدمها من جغرافية بطليموس، وجغرافية مارينوس. وقد وضع له علماء رسم الأرض - وكانوا على ما يرويه الزهري سبعين رجلا من فلاسفة العراق، كتابا في الجغرافيا أعان عمال الدولة على التعرف إلى البلاد التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب، وعنى بالطبيعة والرياضيات فوق عنايته بالطب ومعرفة العقاقير والنبات والحيوان، وفتح المأمون باب العقل والتفكير الحر على مصراعيه في جميع البحوث.

وفي عصر المأمون أيضا تأسست أول مدرسة للترجمة في العلم العربي، وكانت تتألف من حنين بن اسحق، وابنه اسحق بن حنين، وابن أخته حبيش الاعسم الدمشقي وغيرهم. وقد أسس المأمون هذه المدرسة في بغداد، فقامت خير قيام بنقل جميع المتون اليونانية المشهورة إلى اللسان العربي، وكانت هذه المدرسة أيضا تشرف على إصلاح جميع ما ينقله الغير إلى اللسان العربي. ومن الكتب التي ترجمها وعلق عليها حنين بن اسحق بأمر الخليفة المأمون: كتاب الإساغوجي لفرفوريوس وارمانوطيقا لأرسطاطاليس، وجزءا من الاناليطيقا وجزءا من الميتافزيقا، وتلخيصات نقولاوس الدمشقي وتعليقات الاسكندر الافروديسي والجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس، وديوشقورس وبولس الاجانيطي، وأبقراط.

ويروى أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلا بمثل. وقال أبو سليمان المنطقي انو بني شاكر، وهم محمد واحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة: منهم حنين بن اسحق، ثابت بن أبي قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة.

وكان يتمتع حنين بن اسحقبمكانة سامية عند خلفاء بني العباس، إذ احلوه منزلة سامية من الإجلال والاحترام وكان أبوه صيدليا في جند يسابور، وثقفه في بغداد جبرائيل ابن بختيشوع واشتهر في زمن المأمون وعاش إلى زمان المتوكل.

ص: 40

وقد ترجم ابنه اسحق بن حنين مقالة ارسطوطاليس في الروح وقد علق عليها فيما بعد الافروديسي، وتعد هذه الترجمة النادرة اليوم من أهم المراجع لدرس الفلسفة في عصرنا الحاضر، ويعلل الأديب الأستاذ إسماعيل مظهر هذه الظاهرة باتجاه الفكر بالأزمنة الحديثة إلى درس ألبي سيكولوجيا وابتعاده عن درس المنطق.

يقول القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: (. . . ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وارسطوطاليس، وابقراط وجالينوس واقليدس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة فإستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها. فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حظ الناس على قراءتها، ورغبهم في تعليمها، وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرهم ويلتذ بمذاكرتهم علما منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده؛ وأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصناعة العملية والتباهي بأخلاق النفس، والتفاخر بالقوى إذ علموا أن البهائم تشركهم فيها، وتفضلهم في كثير منها، فلهذا السبب كان أهل العلم في كل زمان هم مصابيح الدجى، وسادة البشر، وأوحشت الدنيا لفقدهم).

وقد بلغ من اهتمام المأمون بالعلوم وحثه على طلبها أن اصبح يضرب به المثل في عظم الحركة العلمية، حتى لقد مثله (نولدكه) بأنوشروان وغيره من رسل الثقافة العامة.

يقول الدكتور طوطح في رسالته الإنجليزية عن حالة التعليم عند العرب: (انه بينما كان شارلمان يتعلم القراءة مكبا على مطالعة رسائله مع أترابه في مدرسة القصر كان المأمون يعالج الفلسفة بمناقشة اقضيتها هناك في بغداد). وقال إن المأمون أوفد عميد بيت الحكمة إلى بلاد اليونان لنقل حكمة اليونان وعلوم اليونان إلى اللغة العربية.

على إنه ليس في وسعنا أن نصور عصر المأمون الذهبي في مثل هذه الكلمة العجلى، وحسبنا أن نختم الكلام فيه بعبارة السير وليم مويز الموجزة البليغة إذ يقول: لقد كان المأمون عاملا من عوامل النهضة العلمية، على حين كان الملوك المعاصرون له في أوربا

ص: 41

في الدرك الأسفل من الجهالة، ولقد كان عصره يحاكي عصر بركليس في أثينا من جميع الوجوه.

الجامعات العربية:

وقد أنشأ العرب في فتوحهم عدة جامعات كبرى، وكانت جامعاتهم في البصرة والكوفة وبغداد والقاهرة وقرطبة وبلرم وسالرنو واشبيلية تغص بالعلماء والمتعلمين الذين كانوا يقصدونها من أقصى أطراف العالم الغربي الاوربي، وفي عهد الخليفتين: عبد الرحمن الثالث والحكم بن عبد الرحمن، بلغت مدارس قرطبة وحدها سبعا وعشرين مدرسة، وكان فيها إلى جانب هذه المدارس أيضا مكتبة حافلة يقال إنها حوت خمسمائة ألف مجلد.

يقول دوزي لم يكن في كل الأندلس أمي واحد يوم لم يكن في أوربا من يلم بالقراءة والكتابة إلا الطبقة العليا من القسوس، وكان العلماء والأدباء والفلاسفة فيها يختلفون إلى مختلف المجامع - كالمجامع العلمية اليوم - للتفاهم والمناظرة.

وقد كان طلبة العلم من مسيحي أوربا يفدون أفواجا على جامعة قرطبة لتلقي العلم فيها، وعن طريق هذه الجامعة الشهيرة انتقلت الفلسفة العربية إلى مختلف أقطار أوربا وظهر أثرها واضحا بليغا في جامعات باريس واكسفورد، وايطاليا الشمالية وسائر أقطار أوربا الغربية ومن الذين تأثرت الحركة الفكرية في أوربا ببحوثهم؛ كان أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد مولود قرطبة؛ فقد ألف هذا العبقري الفذ في الفلسفة الطبيعية وفي المادة والقوة، وقدم العالم، والطب والرياضيات والفلك؛ وعدل تعاليم الفيلسوف ارسطاطاليس الفلسفية وفصل بها بين اللاهوت والعلم فحسبه قومه كافرا ونبذه بعضهم ولكن (لاوي بن جرسون) ترجم كتاباته إلى اللاتينية وشاركه في ذلك ابن نربون فوصلت كتابات ابن رشد الفيلسوف العربي إلى العالم اللاتيني سنة 1250 فأستند إليها الطبيعيون، والعلماء، والفلاسفة، والاشتراكيون واعتمدها دانس سكوتش كما اعتمد ارسطو؛ وحتى قال بعض علماء الغرب، إنما ابن رشد كان خميرة أوربا، وقد رسخت قدمه في جامعات شمالي إيطاليا ثلاثمائة عام، ومن اتباعه بطرس أبو تسيس وجونجندن واوربانس في بولونيا، وبولس في فنيسيا سنة 1428 م، وكاجاتانوس النيسيسي حتى أن الفيلسوفة السيدة كسندرا فيدال دافعت عن ابن رشد، وقد تسربت فلسفته أيضا إلى جامعتي بولونيا وبدوي.

ص: 42

ومن مشهوري العرب والإسلام الذين نبغوا في هذه المدارس أيضا نذكر الطبيب ابن سيناء، والفيلسوف

الفارابي، وابن باجة، وسنعود لدراستهم في غير هذا الصدد وفي غير هذا المكان.

(يتبع)

خليل جمعة الطوال

ص: 43

‌بعد الوداع.

. .!

للأستاذ محمد عبد الرحيم إدريس

بعد ذاكَ الوداع سرتُ وحيداً

أذرَعُ الأرض مستهاماً شريدا

يا لبؤس الوَداع يُطلقُ في القلب اضطراباً وفي الخُطى تقْيدا

يا لتلك الكأس المريرة أحسُو

ها برغمي وانثَني عِرْبيدا!

يا لسخر الأقدار عند وداعي

تسأل القلب أين يمضي وحيدا؟!

وتعدُّ الدِّيارَ لي وكأني

سألاقي بها حبيباً جديداً

كلُّ دار تزور عني وتنأى

أيُّ دار تضُمُّ هذا الطَّريدا؟

كلُّ دارٍ ما لم تكن أنت فيها

طلَلٌ يسقم الفؤاد العميدا

كل دار تَضيَّفَتْني وحيدا

أطعمْتَني الأشجان والتسهيدا

يا رياح الشتاء هذا شراعي

قد ترامى على يديك شهيدا

أبعديه عن كل شطِّ عزاءٍ

واقذِفيه باليأس جهْماً عنيدا

أسلميه إلى العباب المدَوِّي

واطرَحيه عن الحياة بعيدا!

أمطريه أسىً وظلمة ليْلٍ

وهَبيه صواعقاً ورعودا

أو دعيه يمضي إلى الهمِّ طوْعاً

انه عن صخوره لن يحيدا

واحملي للفناء قلبي وصُبَّي

فوق هذا الصِّبا الوريف الوعيدا

وابعدي عن فمي كُؤُوس دموعي

فلقد ارْتوِي وأمضِي سعيدا!

بعد هذا النَّوى دفنتُ بِنفسي

أملاً كنتُ أشتهي أن أرودا

كنت أرجو أن لا فراق على الدهر بغير الردى عبوسا مريدا

كنت أرجو حتى غِلَاب المنيَّا

ت بذكرى تُضفي علينا الخُلودا

غير أني أرى سراب الأماني

ثمناً للفراقِ كان زهيدا!

(الإسكندرية)

محمد عبد الرحيم إدريس

ص: 44

‌البريد الأدبي

جوائز فؤاد الأول وفاروق الأول:

صدر مرسوم ملكي بإنشاء جوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول، وهذا نصه بعد الديباجة:

1 -

تنشأ ثلاث جوائز سنوية تسمى جوائز فؤاد الاول، وتكون كل منها 1000 جنيه مصري، وتمنح لصاحب احسن عمل أو إنتاج في الآداب والقانون والعلوم.

2 -

تنشأ ثلاث جوائز سنوية تسمى جوائز فاروق الأول قيمة كل منها 1000 جنيه مصري تمنحها وزارة المعارف العمومية لصاحب احسن عمل أو إنتاج في فرع من الفروع الرئيسية للعلوم.

3 -

يكون منح الجوائز المنصوص عليها في المادتين الأولى والثانية وفقا للشروط الملحقة بهذا المرسوم.

4 -

على وزير المعارف العمومية تنفيذ هذا المرسوم الذي يعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.

شروط منح الجوائز

وورد في الملحق المشار إليه في المرسوم عن شروط منح هذه الجوائز أنها تمنح سنويا للمصريين عن إنتاجهم في الموضوعات الآتية: الآداب، القانون، العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية، علوم الحياة (البيولوجيا)، العلوم الكيميائية، العلوم الجيولوجية.

وتشمل جائزة الآداب: الآداب البحتة مثل الأدب القصصي، الأدب التصويري، الأدب الاجتماعي، الشعر، البحوث الأدبية (النقد، البحوث اللغوية، الدراسات الإسلامية الأدبية) والتاريخ والجغرافيا، والفلسفة والآثار.

وتشمل جائزة القانون: القانون الخاص، ويشمل القانون المدني والقانون التجاري وأوضاع التقاضي، والعلوم الجنائية، وتشمل القانون الجنائي والإجراءات الجنائية وعلم الإجرام. القانون العام، ويشمل القانون الإداري والقانون الدستوري والقانون الدولي. وتشمل جوائز العلوم: العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية مثل علم الطبيعة التجريبي وعلم الطبيعة النظري والعلوم الإحصائية وعلم طبيعة الأجرام السماوية (الاستروفيزيقا) والهيدوليكا

ص: 45

والميكانيكا والكهرباء وعلوم الحياة مثل النبات والحيوان والفسيولوجيا والطفيليات والتشريح البشري والحيواني والطب وفروعه والأحياء المائية والعلوم الكيميائية مثل الكيمياء العضوية وغير العضوية والكيمياء الحيوية والتغذية، والعلوم الجيولوجية وتشمل علم الطبيعيات الأرضية (الجيوفيزيقا).

وتؤلف لهذه الجوائز لجنة دائمة مكونة من وزير المعارف رئيسا، وستة أعضاء يمثلون الفروع المختلفة، ويكون تعينهم بمرسوم، ومدة عضويتهم ثلاث سنوات قابلة للتجديد.

وتختار اللجنة الدائمة في كل عام لجاناً لفحص الإنتاج المقدم في كل مادة، ويجوز أن يختار لهذه اللجان بعض أعضاء اللجنة الدائمة، ويكون تعيين أعضاء هذه اللجان بقرار يصدر من وزير المعارف، ويمنح أعضاء لجان الفحص مكافآت يحددها وزير المعارف. هذا، ويعلن سنويا عن مسابقة في كل من المواد الست المذكورة في البند الأول، ويخصص لكل منها جائزة مقدارها 1000 جنيه مصري، وللمؤلف أن يتقدم بإنتاجه إلى المسابقة بنفسه، أو أن تتقدم به بعض الجهات أو الهيئات العلمية والأدبية، ومع هذا فيصح للجنة الدائمة المنصوص عنها في البند الخامس أن تدخل في المسابقة من تلقاء نفسها التآليف التي ترى أنها جديرة بالنظر، ولو لم يتقدم بها المؤلف، أو من يقوم مقامه.

وتحدد اللجنة الدائمة في كل عام فرعا أو أكثر من الآداب والقانون والعلوم تخصص للإنتاج فيها جوائز العام، وتعلن عن ذلك قبل الموعد المحدد لتقديم المؤلفات بستة شهور على الأقل.

ويشترط في الإنتاج الذي يقدم في المسابقة في كل عام ما يأتي:

أن يكون ذا قيمة علمية أو فنية ممتازة تظهر فيه دقة البحث والابتكار، وتهدف خاصة إلى ما يفيد مصر والإنتاج القومي.

وأن يكون قد سبق نشره ولم يمضي على نشره أول مرة أكثر من خمس سنوات من تاريخ الإعلان.

وأن يكون باللغة العربية الفصحى.

ولا يجوز التقدم من جديد بإنتاج سبق تقديمه.

ويقدم الإنتاج لنيل جوائز فؤاد الأول قبل اليوم الأول من شهر يناير من كل عام.

ص: 46

ولنيل جوائز فاروق الأول قبل اليوم الأول من شهر أكتوبر من كل عام.

وتمنح الجائزة كاملة لأحسن إنتاج يقدم في موضوع المسابقة. ومع ذلك فيجوز - إذا رأت اللجنة أن إنتاجين متقاربين ولا يمتاز أحدهما عن الآخر امتيازا ظاهرا - أن تقسم الجائزة بينهما بالتساوي، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقسم الجائزة إلى أكثر من ذلك.

ويجوز للجنة أن توصي بأن يوفد إلى الخارج على نفقة الدولة من يدل إنتاجه على امتياز ظاهر، سواء ممن نالوا الجوائز أو لم ينالوها، وذلك تمكينا له من الاتصال بالمعاهد العلمية أو الهيئات العالية لاستكمال البحث أو الاستزادة منه.

وإذا لم تمنح الجائزة المقررة للمسابقة في مادة من المواد في عام ما استبقيت إلى العام الذي يليه. وفي هذه الحالة يعلن عن المسابقة في الفرع الذي خصصت له جائزة العام مع الفرع الآخر.

ويجوز أن يتقدم شخص واحد بأكثر من إنتاج في سنة واحدة.

هذا ويحدد وزير المعارف الفروع التي تخصص للإنتاج فيها جوائز سنة 1947، ويحدد موعد الإعلان عنها وموعد تقديم الإنتاج.

أبو شأس الشاعر:

نقل الأديب شكري محمود أحمد (في عدد الرسالة 688) بضع مقطوعات من شعر أبي شأس، من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، والديارات للشابشتي، ووجد بعضها منسوبا إلى أبي نواس في ديوانه، فتسرع الأديب شكري وادعى إن أبا شأس هذا هو أبو نواس نفسه، وان الناسخ صحف هذا الاسم (أبا نواس) فصيره (أبا شاس)، وان ابن فضل الله العمري، واحمد زكي باشا، وحبيب الزيات، لم يفطنوا لهذا التصحيف، وقال انه لم يعثر له على ذكر في أي مصدر آخر. .

ولو رجع الأديب إلى مظان أسماء الشعراء لتحقق أن هناك شعراء يكنون بأبي شأس، منهم أبو شأس التميمي وأبو شأس الطبري، المذكوران في (معجم الشعراء للمرزباني) المطبوع بالقاهرة.

وهنالك شعراء يتسمون بشأس، منهم شأس بن نهار بن الأسود بن عبد القيس، وهو الممزق العبدي الشاعر المشهور، على ما في تاج العروس شرح القاموس، وقد ذكره الامدي في

ص: 47

كتابه (المؤتلف والمختلف) المطبوع مع (معجم الشعراء) وأورد له شعرا.

وأما نسبة بعض الأبيات إلى أبى نواس ايضا، فهذا يقع كثيرا، فكم من شعر لشعراء مشهورين مفيقين نراه منسوبا إلى غيرهم تعمدا أو خطأ.

زكي الحافظ الفيومي

الإمام الواعظ أحمد الغزالي:

نشر الأستاذ علي سامي النشار مدرس الفلسفة بجامعة فاروق بحثا قيما عن أحمد الغزالي في مجلة الأزهر جزء ثلاثة مجلد أربع عشر - وقد صرح في آخره بعدم عثوره على مؤلف له بقوله: (وليس بين أيدينا أيضا كتب بأحمد الغزالي لتبين لنا عقيدته. . .).

وإني قد عثرت أخيرا على مؤلف صغير الحجم للإمام المذكور - ضمن مجموعة لأبى حامد يسمى (كتاب التجريد في كلمة التوحيد) يحتوي على فصول صغيرة غير مرقومة، وكلها شروح وتعليقات على كلمة التوحيد - لا اله إلا الله - وتمتاز هذه الفصول على تنوعها بغلبة الوعظ عليها، ومزجها بالكتاب الكريم والسنة النبوية والحكم المأثورة.

وهي تدل على تبحر الشيخ وعلو كعبه. إذ أن في هذه الفصول تحقيقات صوفية وخواطر ربانية وأسرارا روحية!

ولعل في نقل فقرات من فصول هذا الكتاب ما ينير الطريق لمن يريد البحث عن عقيدة الإمام. جاء في مقدمة كتابه:

قال الشيخ الأجل جمال الإسلام أحمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمة الله عليه في الحديث الصحيح والنقل الوارد الصحيح عن سيد البشر محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ذلك خبرا عن الله تعالى: لا اله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي. قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه لا اله إلا الله هي الحصن الأكبر وهي علم التوحيد؛ من تحصن بحصنها فقد حصل سعادة الأبد ونعيم السرمد، ومن تخلف عن التحصن بها فقد حصل شقاوة الأبد وعذاب السرمد. ومهما تكن هذه الكلمة حصنا دائرا على دائرة قلبك وروحها نقطة تلك الدائرة وسلطانها حارسا يمنع نفسك وهواك وشيطانك من الدخول إلى تلك النقطة فأنت خارج الحصن ومجرد قولك لا يزن مثقال ذرة، ولا يعدل جناح بعوضة.

ص: 48

فأنظر ما هو نصيبك من هذه الكلمة فإن كان نصيبك روحها ومعناها (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) وهو نصيب سيد الخلائق محمد صلى الله عليه وسلم ومائة ألف نبي ونيف وعشرين ألف نبي فقد حزت ذخر الكونين وفزت بسعادة الدارين. . . الخ.

وفي الفصل الثالث إذا قلت لا اله إلا الله إن كان مسكنها منك اللسان لا ثمرة لها في القلب فأنت منافق، وان كان مسكنها منك القلب فأنت مؤمن، وان كان مسكنها منك الروح فأنت عاشق، وان كان مسكنها منك السر فأنت مكاشف. فالإيمان الأول إيمان العوام والثاني إيمان الخواص والثالث إيمان خواص الخواص. . . الخ

وفي الفصل الحادي عشر افتح بصر بصيرتك فانه ليس في الوجود شيء إلا وهو يقول لا اله إلا الله (وان من شيء إلا يسبح بحمده (الآية) يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) يدل بوجوده على موجده وبخلقه على خالقه. . .

وفي الفصل الخامس عشر: اجعل رأس مال بضاعتك التوحيد، وملاذ أمرك التجريد، واجعل غناك افتقارك وعزك انكسارك، وذكرك شعارك، ومحبتك دثارك، وتقواك إزارك، فإن كنت مفتقرا إلى زاد وراحلة وخفير فأجعل زادك الافتقار، ومطيتك الانكسار، وخفيرك الاذكار، وانيسك المحبة ومقصد سفرك القربة. فإن ربحت فقد ربحت. . . الخ.

وفي الفصل السابع عشر: متى تتنبه من سنة غفلتك، وتصحو من خمار سكرتك؛ فتفهم ما تذكر وتعلم ما تقول، أمرت بالفهم ثم بالذكر، وأمرت بالعلم ثم بالقول فما لم تعلم لا تقل وما لم تفهم لا تذكر. إذا قلت لا اله إلا الله وأنت غافل القلب غائب الفهم ساهي السر فلست بذاكر (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) إذا ذكرته فلتكن كلك قلبا، وإذا نطقت به فلتكن كلك لسانا، وإذا سمعت فلتكن كلك سمعا؛ وإلا فأنت تضرب في حديد بارد:

إذا ذكرتك كاد الشوق يقتلني

وغفلتي عنك أحزان وأوجاع

فصار كلي قلوبا فيك واعية

للسقم فيها وللآلام إسراع

وفي الفصل السادس والعشرين: اعلم أن شجرة لا اله إلا الله شجرة السعادة فإن غرستها في منبت التصديق وسقيتها من ماء الإخلاص وراعيتها بالعمل الصالح رسخت عروقها وثبت ساقها واخضرت اوراقها، واينعت ثمارها وتضاعف أكلها. . . الخ.

ص: 49

وفي الفصل الثلاثين: أعرف عبدي؛ خلقت الأشياء كلها من أجلك وخلقتك من اجلي فاشتغلت بالنعمة عن المنعم وبالعطاء عن المعطي. فما أديت شكر نعمته ولا راعيت حرمة عطاءه، كل نعمة شغلتك عني فهي نقمة، وكل عطية الهتك عني فهي بلية. . . الخ.

وفي الفصل الحادي والثلاثين: عبدي أنا الذي افعل ما أشاء واحكم ما اريد؛ اعطي لا لباعث، وامنع لا لحادث، واسعد لا لعلة، واخلق لا لقلة، وابتلي بالشكر لا لحاجة، وقد خلت الأحدية وتقدست الصمدية عن البواعث العلل، لو كانت الإرادة هي عن باعث لكان محمولا، ولو كانت عن حادث لكان معلولا وليس بمحمول ولا معلول؛ بل خالق البواعث والعلل (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).

وفي الفصل الثاني والثلاثين: عبدي ليس في الوجود إلا أنا فلا تشتغل إلا بي ولا تقبل إلا علي إن حصلت لك فقد حصل كل شيء وان فتك فقد فات كل شيء. . . الخ.

على أن عقيدة الشيخ الواعظ فياحة كالعطر؛ شذاها في ثنايا كتابه الصغير، ويؤيد هذا قول الأستاذ انه تبحر في علوم الشريعة ثم دخل طريق القوم عن دراية، وقد عهد إليه أخوه بالتدريس في النظامية؛ كما يدل على سمو رتبته في الطريق ما قاله في أخيه عندما سئل عنه. كل هذه دلائل على سلامة عقيدة الشيخ من كل زيغ.

وفي الحق إن هذا الواعظ الصوفي صنو أخيه، وان كان اقل منه شهرة. يعرف ذلك كل من سلك طريق القوم، وكل ميسر لما خلق له!

هذه كلمة ما أردت بها إلا وجه الحق. وفقنا الله جميعا للصواب.

(شطانوف)

محمد منصور خضر

اللائحة الداخلية لمجلة الأزهر:

تألفت في يوم الأربعاء 24 من أبريل سنة 1946 لجنة لوضع نظام لمجلة الأزهر برياسة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر مصطفى عبد الرزاق شيخ الجامع الأزهر وقررت ما يلي:

أولا - تنظيم مجلة الأزهر بحيث تصلح لحمل رسالة الجامع الأزهر والتعبير عنها اكمل تعبير.

ص: 50

ثانيا - أن تكون المجلة من غزارة المادة وتنوع البحوث بحيث تشغل الاتجاهات الثقافية والإصلاحية للجامع الأزهر.

ثالثا - أن يكون لها ملحق يكتب بلغة أجنبية في موضوع يهم من لا يعرف العربية من المسلمين وغيرهم أو يشتمل على طبعة مستقلة لبعض المخطوطات العربية القيمة أو لما يظهر في المجلة من بحوث.

رابعا - أن تظهر المجلة في نحو مائة صفحة في أول كل شهر عربي ما عدا شهري الحر الشديد، وتكون سنتها عشرة اشهر. ورأت اللجنة أن تحدد أغراض المجلة والموضوعات التي تنشر فيها على النحو التالي:

أغراض المجلة هي: الدفاع عن الإسلام وبيان فضائله والتعبير عن مساهمة الأزهر في العناية بالدراسات الإسلامية عناية إنشائية وتكون حلقة اتصال بين الأزهر وسائر الجامعات والمعاهد العلمية من جهة، وبين الأزهر والرأي العام المثقف من جهة اخرى، وتكون أداة تعليم للأزهريين وأداة توجيه ديني وإصلاحي للمسلمين.

القصص

التجربة. . .

للأستاذ نجاتي صدقي

رآها تسير في بوليفار غامبيتا بباريس، وبرفقتها رجل سمين مترهل يكبرها بعشرين حولا على وجه التقريب، فظنها ابنته. . . ومما عزز فيه هذا الظن أن الرجل كان يسير إلى جانبها بخطوات آلية متئدة. . . في حين أن الفتاة كانت كتلة من النشاط والحيوية. . . وتسير وكأنها تقوم بحركات من الرقص الإيقاعي. . . وكان الهواء يعبث بشعرها الذهبي فيتطاير السنة هي أشبه بألسنة اللهيب. . . أما عيناها المتقدتان فكانتا لا تفتآن تتطلعان هنا وهناك.

ولما وقع نظرها عليه ابتسمت له، وظلت تتطلع فيه حتى صار خلفها، ثم أدارت رأسها نحوه ثلاث مرات. . . أما هو فقد آنسته عنايتها هذه به، فتتبع أثرها إلى أن ولجت مع الرجل فندقا صغيرا، ويبدوان الفتاة أحست أن الفتى قد اقتفى أثرها مستجيبا لندائها،

ص: 51

فالتفتت إلى الوراء وهي تعبر عتبة الفندق وأومأت له برأسها، فأدرك بأن عليه أن ينتظر.

وبعد عشر دقائق نفرت الفتاة من الفندق، فاقترب منها الفتى، وصافحها كما لو أنه ربي وإياها. . . وصافحته هي كما لو انه عزيز على قلبها كان غائبا فأتى. . . وسارا جنبا إلى جنب. . . ثم بادرها الكلام بقوله:

أظن أنكما لستما من باريس؟

كلا، نحن من النورماندي.

ويلوح لي انه والدك. . . أليس كذلك؟

كلا إنه زوجي. . .

ماذا. . . زوجك؟. . . أنت فتاة يانعة يافعة وهو رجل يكبرك جدا، وسمين، ومترهل، وعديم الحيوية، فكيف قبلت به بعلا لك؟

كنت جاهلة ولم افقه معنى الزواج فوقعت في احبولة، وزوجت به. . . والآن أفقت إلى نفسي. . . فرأيت أنني في واد، وفتى أحلامي في واد آخر.

ولم أتيتما إلى باريس؟

لأنني أردت المجيء إلى مدينة النور هذه، مدينة اللهو والحب الاعمى، فطالما طالعت في الصحف الباريسية إعلانات وأخبارا مثيرة، فصممت على أن آتي إلى باريس بأية وسيلة كانت لأمتع نفسي بملاذها. . . ولأختبر آثامها ولوفي أيام قلائل!. . . فاختلقت المرض.

اعترت الفتى الدهشة من مسلك هذه الفتاة الجامحة. . . ففكر في أن يردعها عن غيها، ولكن الشيطان شدد عليه الوطأة، وزين له الإثم الذي هي تسعى إليه. . . فقال لها مبتسما: أبمأذونية أنت في هذه الساعة؟

قالت - أستحصلت على أذن من زوجي لمدة أربع ساعات لازور صديقة لي هنا، فالساعة الآن الخامسة، وعلي أن أعود إلى الفندق في تمام الساعة التاسعة مساء.

حملق الفتى في وجهها، وحملقت في وجهه، وشد على يدها وشدت على يده، فتأبط ذراعها وسارا في (بوليفار غامبيتا الطويل. . . ثم راح يسرد لها منهاجه لاستغلال هذه الساعات المعدودات على اكمل وجه، وقال - نذهب الآن إلى جامع باريس، فنأكل كبابا وبقلاوة، ثم نذهب إلى مقهى فنحتسي بعض المشروب، ثم نزور دار السينما. . . ثم نعرج على فندق

ص: 52

لأخذ شيء ما. . . ثم نعود إلى فندقك في تمام الساعة التاسعة، أتوافقين؟

جدا. . . جدا. . . انه لمنهج ممتع.

يالها من أويقات عذبة سنقضيها معا في باريس.

هذا جل ما أتمناه. . . فأنت الطبيب الذي أسعى إليه. . .

أستمكثان طويلا في عاصمة النور؟. . .

ثلاثة أيام فقط.

شيء مؤسف حقا!

لماذا؟

أتسألين لماذا أيضا. . . انه ليشق علي أن أفارق هذا الجمال، وهذا الصبا، بمثل هذه السرعة.

أيهمك أمري بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة؟

احتار الفتى بما يجيب. . . أيقول لها انه لا يهتم بأمرها، فربما تعتبر ذلك إهانة لها وتنفر منه، أم يقول لها بأن أمرها يهمه جدا، فتعتبر ذلك إطراء، وترضى عليه؟. . . وبعد تردد قليل قال:

يهمني أمرك جدا يا عزيزتي. . . وثقي بأنني لن أنساك ما دمت على قيد الحياة، وسأراسلك دائما. بل سأبذل أقصى جهدي لكي أزورك في بلدك، كوني عند حسن ظنك بي. . .

وما إن سمعت الفتاة هذا الكلام حتى امتقع وجهها. وانطوت على نفسها، وهي تفكر في أمر غامض. . . وكان لسان حالها يقول:

هل ارتكاب الإثم في باريس يتطلب حبا؟. . . إنني لم آت إلى عاصمة اللهو والملذات لكي أجد لي زوجا ثانيا. . . إنني لا أود شخصا ليراسلني ويتتبعني من مكان إلى آخر. . . إنني تصورت اللذة الباريسية بمثابة كأس من الخمرة يحتسى على عجل، وينتهي الأمر أما وان هذه اللذة ستسبب لي متاعب ومراسلات ومطاردات فهذا ما لا أريده البتة.

ولما مرا بكنيسة في حيّ (مون مارتر) قالت الفتاة:

أتأذن لي بالدخول إلى الكنيسة قليلا؟. . .

ص: 53

فأنتفض الفتى، وقال - أتريدين الصلاة؟!.

قالت - اجل. . . لخمس دقائق فقط. . . انتظرني عند باب الكنيسة، كما انتظرتني عند باب الفندق.

مضت خمس دقائق، فصارت عشرا، وخمس عشرة. . . فانزعج الفتى ودخل الكنيسة فرأى في طرفها الأيمن جماعة من النسوة الضالات، والرجال الضالين، وأمامهم قسيس يتلو عليهم فقرات من الإصحاح الرابع لرسالة يعقوب فيقول:

(أيها الزناة والزواني!. . . أما تعلمون إن محبة العالم عداوة الله. . . قاوموا إبليس فيهرب منكم. . . اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم. . . نقُّوا أيديكم أيها الخطاة، وطهروا قلوبكم يا ذوي الرأيين، اكتئبوا ونوحوا وابكوا. . . ليتحول ضحككم إلى نواح، وفرحكم إلى غم. . . اتضعوا قدام الرب فيرفعكم).

أندس الفتى بين هذا الرهط من الناس باحثا عن فتاته، إلا انه لم ير لها أثرا. . . ثم أجال نظره في أرجاء الكنيسة، فلمح أن لها بابا اخر، فأشتبه بأن الفتاة أخطأت المخرج، فلحق بها. . . وإذ بلغ الباب وجده قسيسا يحاول إغلاقه فاستوقفه بلطف وقال له: عم مساء أيها الأب!

عم مساء يا بني.

أبانا. . . ألم تر فتاة خرجت من هذا الباب قبل دقائق معدودات. . . وهي تلبس قبعة قش واسعة الأطراف، مطوقة بشريط اخضر ينتهي بباقة صغيرة من الورد؟. . .

فأشاح القس بوجهه عن الفتى، وقطب حاجبيه. . . ثم قال:

أهذا أنت؟. . . اذهب في سبيلك يا بني. . . ولا تسخر نفسك لتجارب الشيطان. . . اجل. . . رايتها، واعترفت!. . . واغلق باب الكنيسة في وجهه. . .

نجاتي صدقي

ص: 54