المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 691 - بتاريخ: 30 - 09 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٩١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 691

- بتاريخ: 30 - 09 - 1946

ص: -1

‌الآراء الخاطفة.

. .

للأستاذ عباس محمود العقاد

الحركات الخاطفة معروفة في ميادين الأدب كما عرفت قديما وحديثا في ميادين الحروب.

وهي تنجح في هذه الميادين كما تنجح في تلك الميادين، فليست الأناة لازمة في كل عمل، وليس البطء في التفكير مطلوبا من كل أحد:

وربما فات قوما جل أمرهم

من التأني وكان الأمر لو عجلوا

كما قيل بحق وصواب.

ولكن الحركات الخاطفة قد تنهزم في ميادين الأدب كما تنهزم في ميادين القتال، لأنها لا تصلح لكل موضع ولا تنتصر على جميع الأعداء.

وعيبها الأكبر في الآراء الأدبية أنها سريعة الرواج سريعة الإقناع، وأنها تجتذب أليها (على وجه السرعة) أولئك الذين ينفرون من التمحيص لأنهم لا يستطيعونه أو لا يجدون له متسعا من الفراغ، فيقبلون كل ما قيل ويصدقون في معظم الأحوال ما هو حقيق بالتكذيب والإعراض.

ومن هذه الآراء الخاطفة آراء بعض الناقدين المحدثين في أدب الصحافة أو فيما يكتبه الأدباء في الصحف والمجلات. فعند هؤلاء الناقدين المحدثين أن الأديب لا ينبغي أن يكتب للصحف والمجلات، وأنه لا يكتب فيها شيئا يستحق أن يعيش إلى غير الأجل الموقوت الذي يقدر لأخبار الصحافة وحوادث اليوم أو الشهر أو العام على ابعد الآجال.

وفي هذا الرأي آفة الآراء الخاطفة جمعاء.

فهو صحيح وغير صحيح، أو هو لا يقبل كله ولا يرفض كله، ولكنه يروج بصوابه وخطئه عند من (يخطفون) الآراء ويقابلون عجلة التفكير بعجلة الإصغاء.

فهذا الرأي صحيح إذا كانت كلمة (الكتابة) تشمل التفكير والتجربة والدراسة والمراجعة وتدوين الكلام على الأوراق.

فالكاتب الذي يفكر ويجرب ويدرس ويراجع في الساعة التي يدون فيها كلامه على الورق يخطئ في حق الأدب وفي حق نفسه ولا يستحق البقاء بعد طي الصحيفة التي يكتب فيها بساعات أو أيام.

ص: 1

ولكنه إذا كان يودع الصحيفة ثمرة التفكير الصحيح والتجربة الطويلة والدرس الدقيق والمراجعة المتوالية، فما هو الفارق بين إيداع هذه الثمرة في صفحات مجلة أو صفحات كتاب؟ وما هو وجه الخطأ في تعويد القارئ الصحفي أن يطالع الموضوعات المدروسة إلى جانب الموضوعات العابرة وأحاديث الفضول والسمر الرخيص؟

لا فارق في هذه الحالة بين أدب الكتب أدب الصحافة، ولا خطأ في اقتران الجد بالهزل لأنه خير من استئثار الهزل وحده بعقول القراء (الصحفيين).

ومن الواجب هنا أن نفرق بين تفكير وتفكير، وبين إسراع وإسراع، وبين ثمرة وثمرة.

فإذا كان الكاتب يفهم في أسبوع ما ليس يفهمه الكاتب الآخر في سنة أو بضع سنوات فليس هذا البطيء بالمزية المحمودة ولا ذلك الإسراع بالذنب المعيب.

وليست السلحفاة افضل من العصفور لأنها سلحفاة ولا العصفور أعجز من السلحفاة لأنه عصفور.

وإنما المعول على (الثمرة) لا على الزمن الذي تصل فيه هذه الثمرة إلى آكليها. فإذا وصلت إليهم في القطار السريع فليس حتما لزاما عليهم أن يردوها إلى البستان ليحملها إليهم بائع يمشي على قدميه!

كذلك لا يعاب الأديب لأنه يكتب في الموضوعات الهينة أو موضوعات الصحافة على اختلاف مواعيدها، فأما المعول على ما يقول في موضوعاتها لا عناوين تلك الموضوعات، وربما كتب بعضهم في الحروب العالمية فضاعت في قراءته اللحظات فضلا عن الساعات، وكتب بعضهم في لعب الأطفال فكانت كتابته أحق بالقراءة والحفظ من كتابة ذلك في حروب الأمم وقيام الدولات أو سقوط الدولات.

ولم نر من الأدباء المعاصرين من طرق هذا البحث فأحسن فيه كما احسن الأستاذ محمد روحي فيصل في مقاله بمجلة (الفكر) السورية حين قال: (. . . أرى مع ذلك أن الصحافي إذا استأنى في تحقيق كلمته، وجرى فيما يكتب على مهل وعناية، وحلل البواعث وتصور النتائج واحب وكره وخاصم في المثل الأعلى كان أديبا بأدق ما في الأدب من الخصائص، كما إن الأديب إذا أسرع في تركيز صوره وعرض تصويره سار إلى الصحافة وهو لا يدري).

ص: 2

وهذا هو الرأي السديد في موضوع الأدب والصحافة كما نراه، ولو عاد إلينا الجاحظ والأصفهاني وابن سينا وأدباء العربية الأقدمون أجمعين لرأوه مثلنا بلا خلاف في الجملة أو التفصيل، لأننا لا نحسبهم قضوا في تدوين مصنفاتهم المرسلة وقتا أطول من الوقت الذي يقضيه الصحفي اليوم في كتابة مقال، ولكنهم قضوا الوقت الطويل في الجمع والتحصيل، فهان عليهم بعد ذلك أمر التدوين والتسجيل.

وعلى ذكر الكتابة المرسلة نذكر الآراء (الخاطفة) التي تقال هذه الأيام عن السجع والترسل في بعض الموضوعات.

فقد تلقف بعضهم كلام الناقدين في نقد السجع فحسب أن السجع معيب على كل حال، وانه أسلوب قديم لا يطرقه الكتاب المحدثون ولا يوافق كتابة العصر الحديث!

وكنا قد تناولنا كاتبا منهم بالتسخيف والتفنيد في عبارات مسجوعة، فظن انه (أديب حديث) لأنه لا يسجع وأننا أناس جامدون لأننا نستخدم السجع في بعض العبارات!

ونحن نتعمد السجع أحيانا للسخرية أو للتوكيد والتقرير، ونفهم لماذا يعيبه الناقدون فنفهم انه أسلوب يطرق في هذا العصر كما يطرق في كل زمان، لان السجع لا يعاب لذاته، ولكنه يعاب لان المتقيدين به يهملون المعنى في سبيل القافية أو الفاصلة، فيعاب عليهم هذا الإهمال، ولو كان مجرد العناية بالقافية عيبا لعيب الشعر كله في اللغة العربية على التخصيص، لأنه يجمع القافية والوزن معا وينفرد الكلام المنثور بالقوافي دون الأوزان.

أما إذا اتفق السجع والمعنى فلماذا يعاب؟ بل لماذا لا يستحسن ويطلب في الكلام المنثور؟ انه زيادة فيه وليس بنقص، ومزية فيه وليس بعيب، ومطلب يراد وليس بمأخذ يجتنب، ولنا أن نتحدى من ينكره في بعض عباراتنا أن يمحوه ويرسل الكلام في موضعه، فإن لم يكن الترسل في هذه الحالة هو المخل بالمعنى فهو المحق في نقده ونحن المبطلون!

ومن هذه الآراء (الخاطفة) نقد الناقدين (الخاطفين) لوصف الناقة أو وصف الصحراء في عصرنا الحديث.

عز عليهم أن يفهموا لماذا عيب هذا على الشعراء المتقدمين فحسبوا انه منقود على الإطلاق، وإن آية التحريم قد نزلت على وصف النوق والصحراوات إلى أبد الأبيد

وليس الأمر كذاك

ص: 3

فإنما يعاب وصف الناقة على المحاكاة كما تعاب المحاكاة في وصف الطيارة من احدث طراز، وكما تعاب المحاكاة في وصف القنبلة الذرية، وكل مخترع يأتي بعد القنبلة الذرية، ولو أتى بعدها بعدة قرون.

والجبال أقدم من الناقة، فهل يحرم وصفها على الشعراء والكتاب؟ والبحار أقدم من الجبال، فهل يحرم وصفها على الشعراء والكتاب؟ والكواكب والشموس أقدم من الجبال ومن البحار ومن الأرض نفسها، فهل يحرم وصفها على الشعراء والكتاب؟

والعجب أن تخفى هذه الحقيقة البينة على أحد ممن يفقهون الشعر أو لا يفقهونه! فكيف خفيت على أولئك النقاد؟

ما نخالها خفيت عليهم ألا انهم حسبوا أن الناقة (أداة مواصلات)، ووصفها الشعراء الأقدمون لأنها أداة مواصلات. فلا يحسن بالشعراء المحدثين أن يتركوا أدوات مواصلاتهم ليصفوا النوق في الصحراء.

والناقة ليست بأداة مواصلات وكفى، إلا إذا كان راكبها جمّالا وكفى.

ولكنها حيوان وراكبها إنسان، وشأن الحيوان والإنسان باق في الشعر وفي الإحساس والتعبير عن الإحساس إلى آخر الزمان.

وهي بهذه المثابة أحدث من طيارة اليوم وطيارة القرن الثلاثين وما بعد القرن الثلاثين.

وكذلك الصحراء وأهل الصحراء، وكذلك كل بقعة من بقاع الأرض وكل مطلع من مطالع السماء.

فالشاعر الذي تروعه الصحراء ولا ينظم فيها أعرق في المحاكاة والتقليد من الشعراء المتقدمين، والأديب الذي يحسب أن الطيارة قد نسخت الناقة والجواد وسائر المطايا الحية لا يحس الحياة ولا الأحياء.

وهذه تعقيبات تقال، ولا بد أن تقال وتعاد على تلك الآراء الخاطفة التي تروج بين خطاف الآراء والمذاهب في هذه الآونة، ولكنها ليست بالتعقيبات الخاطفة كما يرى القراء.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌القَِيم.

. .

للأستاذ عبد المنعم خلاف

من ذا الذي يستطيع أن يرد على الناس إيمانهم (بالقيم) العظيمة التي تعمر الوجود؛ وكانت تعمر القلوب إلى ما قبل هذا العصر المادي، عصر زوال الحدود وكثير من الفروق القديمة بين الأشياء والأمور؟ إنها رسالة المخلصين للحياة لرد الإيمان بالحياة نفسها إلى قلوب أوشكت أن تفقد إحساسها بالحياة. . .

إن الكون العظيم قائم على نِسَبٍ ثابتة، وحدود واضحة بين الجمال والقبح، والصحة والفساد، والنظام والفوضى، وكانت عقول الناس وطباعهم متأثرة بما في طبيعة الكون من هذه النسب والحدود. لا تحاول طمسها بفلسفتها، ولا تغييرها بمقدرتها العلمية؛ لان الكون المادي ظل في قوالبه القديمة وحدوده الجامدة، لا يستطيع الناس الخلط بينها إلى أن أتى هذا العصر الذي زالت فيه الكثير من الحدود والمسافات بين الأشياء والأمكنة فزالت الحدود كذلك بين الخير والشر والجمال والقبح أو خيل للناس أنها زالت، واتسع مدى الخلط والتأويل، لأن رجال الأخلاق لم يسايروا المنطق العصري فيجعلوا الحكم النفسي على (قيم) الأمور متمشيا مع الفهم العلمي الجديد لها. وهذا كله نتيجة لتخلف الروح تخلفا بعيدا عن سيرة الحياة المادية وقد صار الناس لا يتذوقون الأشياء المادية تذوقا روحيا يضفي عليها ظلال التأويل، ويخلع عليها لونا من حياة القلوب نفسها فيخرجها في هالة روحية وطاقة نفسية.

خذ أمثلة: الانتقال السريع بالطيران، والاتصال الخاطف باللاسلكي، والمقدرة الساحقة بالكهرباء والفولاذ والقوى الذرية. . إنها أعمال واقعية الآن، وكانت إلى ما قبيل الربع الأول من هذا القرن أحلاما إنسانية خالدة لا تقترب من خيال الناس إلا حيث يدور حديث الآلهة والكائنات القادرة التي تتصل بالآلهة. . . والتي لا سدود ولا قيود في عالمها.

والآن بعد أن صارت هذه الأعمال من أعمال الإنسان ابن العجز القديم، صار يفعلها وهو في ذهول عن (قيمة) ما يفعل، كأنها لم تكن يوما ما أحلاما عن عالم الآلهة! وإني اعتقد أن أزمات الحياة الآن ناشئة عن هذا الذهول الشنيع الناشئ من إهمال الوعاظ والأخلاقيين والمربين أن يحملوا هذه المقدرة الإنسانية الأخيرة مجالا عظيما من مجالات الوعظ

ص: 5

والإرشاد لأيقاظ الإنسان أولا إلى (قيمة) ما يفعله الآن.

ونحن إذا أفلحنا في أن نجعل الفرد الإنساني يتذوق هذه الأعمال المادية اليومية التي يفعلها تذوقا روحيا يجعله يتلفت بالفكر والقلب إلى قيمتها، نفلح لا شك في أن نعود به إلى رؤية (القيم) العظيمة الخالدة التي تعمر الوجود، وكانت تعمر القلوب أيام العجز قبل التسلط المادي الأخير.

وبديهي أن الطفل الناشئ في هذا العصر بين القطارات والطائرات والبرقيات وعالم الكهرباء ينشأ وهو يرى هذه الأشياء كأنها أشياء طبيعية لا تسترعي انتباهه، ولا تثير اهتمامه، لأنه ألفها من منذ نشأته؛ فيمر عليها مخدرا بالألفة، ولا يعرف لها قيمة تجعله يلتفت إلى (الإنسانية) التفاته خاصة يدرك بها تفردها وامتيازها.

ومن هنا ينشأ الذهول عن (القيم) الثابتة التي في الوجود؛ كالحق، والخير، والجمال، والمروءة، والإيمان، وغير أولئك من معايير الحياة القديمة التي كانت تسجد على أقدامها قلوب الناس أيام العجز.

وما أدري: لعل هذا الكائن الإنساني سيأتي عليه عصر سيشعر فيه بقدرة فائقة، ولعله حينئذ يستحي كما يستحي الخلائق العقلاء الكاملون أن يعتدوا على (قيم) الحق والخير. لان حياة الإنسان القادر لا تستقيم ولا تستمر إن لم يقمها على الحق والخير، والحق والخير هما أساس هذا الوجود الذي نعيش فيه، ولا يعمى عنهما وعن أخواتهما كائن يخلف الله في الأرض تلك الخلافة الواسعة.

والحياة الفردية والحياة الاجتماعية قد اثر فيهما فقد (القيم) الآن تأثيرا خطيرا هو الذي يجعلهما على قلق واضطراب وتقطع أمر. فلست ترى الفرد الذي يستحي من نفسه إذا فعل القبيح أو الضار حينما يخلو بتلك النفس اللوامة؛ لأنه صار يرى الأعمال بدون (قيمتها)، وصارت الفلسفات الأبيقورية والميكيافللية تمهد له وتبرر عمله، وتسعفه بالأعذار الكاذبة الخادعة، فلا يسمع لضميره صوتا ينكر عليه، لأنه فقد الحساسية بالقيمة الخلقية للأعمال، وأسعفته الحريات التي صارت شعار العصر، واختلطت فيها حرية الفكر والرأي بحرية الطباع، وحرية الطباع معناها الانطلاق وراء البدوات والنزوات، والبدوات والنزوات هي امتداد حياة الطفولة التي لا تدرك (قيم) الأشياء، وامتداد طيشها الذي لا

ص: 6

يحسب حساب عواقب الأعمال والأقوال.

ولست ترى كذلك الآن الدولة التي تحترم العهد والكلمة والشرف لان فقد (القيم) قد انتقل إلى المجال الدولي كذلك كنتيجة طبيعية للحياة الفردية الحالية. وهي حالة بالغة الخطورة إن لم يتداركها المربون والمفكرون بالسعي المتواصل لرد (القيم) إلى مكانها من القلوب والأشياء، وخلع القداسة على كل حرمات الحياة، وإحاطة النظم والقوانين والعقائد السامية بهالة من الاحترام والاعتبار؛ حتى تحد من الفجور الذي يصحب القدرة المالية الفائقة، وتكفكف من غلواء الغرور الذي تبعثه السيطرة على القوى. ذلك الغرور الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية توشك أن تتنكر لرسالتها الإنسانية، وتغفل عن تاريخ أبطالها العالميين حين اهتدت إلى سر القنبلة الذرية الذي جعل لها المقام الأول في التسلح والمقدرة على البطش. فهي الآن تسير في سياستها العالمية تحت تأثير غرورها بأنها حائزة أسرار ذلك الطارق العنيف الذي جعل اليابان تركع على قدميها اثر ضربتين اثنتين من ذلك الطارق.

فقيمة رسالتها الإنسانية قد أثر فيها زيادة مقدرتها المادية، وقوتها المحاربة، لأنها خطت خطوة واسعة في العلم لم يصحبها خطوة موازية في الروح التي تخلع القيم على الأشياء، وان رد القيمة الخلقية للأعمال والأشياء رسالة تحتاج إلى معجزات من الجهاد الموصول والإخلاص الإنساني والاستمداد من رب الحياة الذي جعل في الإنسانية مرونة تجعلها تدرك رشد أمرها وتكيف حياتها حسب مصلحتها، وتخرج من الأهوال وفيها بقايا حياة تسمح بتجديد شعلتها، وامتداد وجودها في كل الظروف والأحوال.

وأعظم أسلحة الجهاد في هذا السبيل هو التفاؤل والتأميل، وعدم اليأس من روح الله؛ مع اليقين الثابت بأنه ما خلقنا إلا للخير ولو بدا في ثياب الشر لدى أنظارنا القصيرة.

عبد المنعم خلاف

ص: 7

‌هَْزلٌ.

. .!

للأستاذ محمود محمد شاكر

يخيل إلى أن بين قلمي والليل صبابة أو هوى قديما. فطالما رأيتني اعقد الرأي والعزم نهارا على شئ اجعل الكتابة له قيدا إذا جنّ الليل، فما أكاد احمل القلم وابدأ حتى أرى القلم ينقض عليّ رأيي وعزمي ويمضي إلى حيث شاء كما شاء، فما يبقى من آية النهار المبصرة شيئا إلا طمسه أو إزالة أو نكّر من معارفه. وما أظنّ إلا أن كل كاتب قد ابتلى من قلمه بمثل الذي ابتليت به أو بشيء يقاربه. ومن اعسر شئ ألقاه من هذا القلم ربما بدأت الكتابة، فإذا هو مطواع حثيث ماض لا يتوقف، وإذا كلمة مرسلة إليه ليقيدها، فإذا هو كالفرس الحرون قد ركب رأسه وأبى اباء، فلا أزال أترفق به واستحثه وأديره بين أناملي ليلين ما استعصى من طباعه، ولكنه يأبى إلا لجاجة وعنادا، ثم ينزع إلى وجه غير الذي أردت، وإذا أنا مضطر أن أعود من حيث بدأ هو لا من حيث أردت أنا أن ابدأ، وعندئذ يمضى على هواه وعلى ما خيّلت. وقد عرفت ذلك من عاداته قديما، فما يكاد يفعل ذلك حتى أثوب به إلى ورقة أخرى فإبداء الكتابة من حيث أراد، وأمري لله.

أفتراني أخطئ إذا أنا زعمت إن لقلم الكاتب شخصية مستقلة بل منفصلة تكاد أحيانا تغلب حامله على رأيه وعلى تقديره وعلى عزائمه؟ أم الإنسان المفكر صاحب العقل شئ آخر غير الإنسان الكاتب حامل القلم؟ فهو حين يفكر يعطي أفكاره من الحرية والسعة والحماسة ما يجعلها اقدر على التصرف في وجوده الرأي وشعابه ونواحيه، فإذا حمل القلم ليملي عليه بعض أفكاره، استقل قلمه بالفكرة بعد الفكرة يزنها ويقدرها على قدر عقله هو لا على عقل حامله، فربما عرض له أن ينبذ منها أو ينتقَّصها أو يتجافى عن طريقها فيسد عليها المسالك ويضرب عليها بالأسداد، ثم يشرع إلى وجه غير الذي يراد له؟ أم الإنسان إذا فكر ثم أراد أن يكتب وحمل القلم صار هو نفسه شخصا أخر غير الإنسان المفكر بغير قلم محمول؟ كل ذلك ممكن، ولكنه على كل حال متعبة وشقاء لحامل القلم ما بعده شقاء ولا تعب.

وأعرف رجلا من أصدقائي الكتاب، إذا حمل القلم وكتب كلمات ألقى قلمه ضجرا يائسا متململا من عسر المدخل الذي دخل به على ما أراد، فإذا عاد القلم إلى جماحه وتعذره، ولا يزال كذلك مرة بعد مرة حتى يرى قلمه قد رضى وأطاع ومضى إلى أخر حرف في المقالة

ص: 8

غير متوقف ولا متلعثم، وقد قال لي: انه ربما مضت الأيام على ذلك الحِران، مع انه يعلم مستيقنا إن الفكرة كانت قد اختمرت واستوت وتهيأت له من قبل أن يحمل القلم بأيام، وانه كان يظن انه لن يحمل قلمه حتى يراه قد انساب انسيابا لا يعوقه شئ، فإذا فرغ من كتابة ما أراد لم يجد انه زاد قليلا ولا كثيرا عما كان فكر فيه وعزم على كتابته. فأي سر هذا الذي ينطوي عليه القلم حتى يكون هو المتصرف الذي لا يرد لما أراده أمر؟ قد تقول: انه الحالة النفسية التي يكون عليها الكاتب؛ وقد تقول: إنه الجو الذي تعيش فيه الكلمات التي ينبغي استنفارها من مكامنها؛ وقد تقول أشياء كثيرة من هذا وأمثاله، ولكن يبقى انك لا تكاد تميز بعد الكتابة شيئا من الاختلاف عما كنت قد فكرت فيه وأدرته في نفسك وعرفت انه قد أطاع لك، فمن أين جاء هذا التوقف العجيب الذي تعتاده بعض الأقلام؟!

وأنا قد جربت نفسي، فرأيتني إذا أردت أن اكتب أحيانا شعرا يدور في قلبي ويلح على خاطري، فأمسكت أي الأقلام وقعت عليه يدي، فإذا هو عصيٌّ عنيد لا تلين له سنٌّ - أو قناة على ما يقولون - فإذا ألقيته وحملت القلم الذي اعتدت زمانا أن اكتب به الشعر، أو الذي اعتاد هو أن يكتب لي الشعر، انطلق على سجيته طيعا رفيقا سهل المقادة حسن التهدي إلى قبله الشعر. فاحب الآراء إليّ أن اجعل للقلم شخصية منفصلة تعين الكاتب أو تعانده، فذلك أشبه بالسلطان العريض الذي فرضته الأقلام على الحياة، والذي لولاه لعاش الإنسان ومات وكأنه لم يوجد قط.

كنت أردت أن اكتب شيئا عن المتنبي وعن حكمته وبصره الحياة وبالناس وبما يعتلج في القلوب على اختلافها ، وذلك لحديث جرى بيني وبين أحد ضيوف مصر من أهل العراق. وأردت أن أقارن بين ما يسمونه شعر الحكمة، وبين حكمة المتنبي في شعره، وأين وقع منه سائر الشعراء؛ فما كدت ابدأ حتى عرضت لي أبيات المتنبي التي يقول فيها:

إنما انفسُ الأنيس سباعٌ

يتفارسنَ جهرةً واغتيالا

من أطاق التماس شئٍ غلاباً

واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا

كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى

أن يكون الغضنفَر الرئبالا

وذكرت عندئذ ذلك البيت الذي أحيته أم كلثوم حين غنت في شعر شوقي:

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا

ص: 9

وما استعصى على قومٍ منالٌ

إذا الإقدام كان لهم ركابا

وأردت أن أعرض للفرق بين القولين، وبين العبارتين، وبين القوتين، وبين البيانين. فأي دقة وأي هداية كانت لهذا الرجل الفذ الذي لو احتلت على بعض ألفاظه أن تجد لها بديلا في كلامه لأفسدت معنى البيت وقوته وعبارته وبيانه! فخذ مثلا لفظ (الأنيس)، وتخير ما شئت من حروف اللغة وضعه حيث وضع المتنبي لفظه، وأقرا وانظر وتدبر، هل يليق أو يسوغ أو يلين أو يستقر في مكانه من البيت؟ ضع مكانه (الإنس) أو (البشر) أو (الناس) أو (الأنام) أو ما شئت، سواء استقام الوزن أو لم يستقم، تجد الفرق بين الاختيارين عظيما واسعا. فهو قد اختار اللفظ والبناء الذي يدل دلالة على المؤانسة والرقة والتلطف وإظهار المودة والظرف وحلاوة الشمائل ولين الطباع، ليظهر لك أنها تخفي تحت هذا كله طباعا وحشية ضارية مترفقة حينا وباغية أحيانا فمهد للصورة التي أرادها باللفظ الذي لا يستغني عنه في دقة الصورة وحسن بيانها. فأين هذا من ضعف شوقي الذي لم يزد على أن جمع كلمات رص بعضها إلى بعض لا حاصل لها ولا خير فيها. وما قيمة ذكر الركاب، مع الإقدام والاستعصاء والمنال؟ وأما البيت الأول (وما نيل المطالب)، فهو كلام عامي دائر على الألسنة، ولا فضل فيه، بل هو أشبه بتقرير ضعيف عن معنى ليس بشيء.

وعندئذ عرض لي أنا أن هذا الفعل من شوقي هزل للمعاني، وهزل في طِلابَها، وهزل في أدراكها على وجهها. وإذا هذا القلم يسألني - أو يأبى ألا أن يذكرني - بان الهزل الذي كان فيه شوقي خير من كل هذا الهزل الذي أصبحنا وأمسينا نعيش فيه. فالدنيا تجد من حولنا ونحن نهزل، ولا نكاد نجد من كبار رجالنا أحدا قد نهض به جَدُّه وجِدُّه في ناحية إلا وقد سقط به هزله في ناحية أخرى. وان اشد البلاء من مثل هذا الرجل أن يلبس عليه حتى يظن أن هذا الهزل هو أجد الجد، لأنه ظن انه ما بلغ إلا بجدٍّ كان فيه طبيعة مغروزة فظن حتى صار ظنه حقا عنده.

ولسنا نحب أن نطعن على الرجال بالحق فضلا عن الباطل، ولكن بلادنا في كل مكان من مصر إلى الشام إلى لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى بلاد الهند إلى أند ونسيا إلى الجزائر وتونس ومراكش؛ قد أحست شعوبها أن ساعة الجد قد آذنت ودنت، وأنها ساعة إذا أفلتت فلن تعود إلا بلاء وعناء وشقاء. ومع ذلك فالرجال والزعماء وأصحاب الرأي أيضا،

ص: 10

وهو اشد البلاء، قد ركَّبوا في رؤوسهم أذنا من طين وأذنا من عجين - كما يقول المثل العامي - فما يسمعون حسيس النار التي تشتعل في صدور أبناء هذا الشرق ألا كحشرجة الميت، فهم يعالجون أمورنا على صورة من اليأس والملل، كأنما يرجون الظفر بأي شئ كان، ماداموا يحسبون انهم إذا رفعوا لأعين الناس هذا الذي ظفروا به، وقالوا لهم لقد ظفرنا لكم بخير ما ترجون، صدّقهم الناس وصفقوا لهم ومشوا في ركاب مجدهم، وجأروا إلى الله بالشكر على ما انعم على أيديهم. فهم ليسوا طلاب حق ضائع بل طلاب مجد كاذب، يظنون انهم يختمون به أعمالهم الصالحات.

فأي هزل كهزل رجال الهند مثلا، وهم الذين عركوا ساسة الإنجليز مائة وخمسين عاما أو تزيد، ولقوا من خداعهم وكذبهم وتغريرهم وقسوتهم وشناعة أحقادهم مالا ينسى مواجعه ألا غِرٌّ غافل؟ وإذا الذين كانوا بالأمس نار الثورة وضرامها قد رضوا أن يستمتعوا بالحكم ويصيروا وزراء في شعب مستعبد تدوسه أقدام الغاصبين، وهو لا يزال يسمع منهم أن الهند جزء لا يتجزأ من هذه الأمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أملاكها - فأي هزل اسخف وابعد في الغفلة والسذاجة وسوء التقدير من هذا الحكم؟ وفيم يدلس هؤلاء على إخوانهم الذين لا يعرفون كما يعرفون من خبايا النيات البريطانية التي تدس لهم السم في الدسم؟ أو لم تكفهم العبرة التي لا تزال أختهم مصر ترفل في أغلالها منذ سنة 1924 إلى يوم الناس هذا، حين قبل رجال الثورة إن يكونوا للناس حكاما تحت ظلال الغصب والاحتلال؟

وأي هزل اشد على النفس الشاعرة مرارة وغضاضة من رجال قاموا من غفلتم ومنامهم يسمعون الشعب كله ينادي (الجلاء ووحدة وادي النيل)، أي ينادي بالحق الطبيعي الذي لا يحتاج إلى تفسير ولا بيان ولا شروط، والذي ظلت مصر الصابرة تهمس به أحيانا وتصرخ به أحيانا أخرى منذ سنة 1882، وإذا هم يطالبون بالذي يطالب به الشعب، ولكنهم لا يلبثون ألا قليلا حتى يرضوا لأنفسهم أن يدخلوا من باب المفاوضة مع البريطانيين، فلما دخلوا داروا فيها كما تدور بهم، وهم كانوا أولى الناس بان يعرفوا بعد طول التجربة ما عرفه الشاب مصطفى كامل إذ قال لهم:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، لأنه أدرك إن المفاوضة معناها أن ينزل الضعيف عن أكثر حقه للقوى الطائش الباغي؛ فما

ص: 11

ظنك به وهو ليس بقوي طائش باغ وحسب، بل أيضاً منصور مظفر قد خرج من الحرب وهو يظن أن الدنيا له، وانه وان كان ضعيفا بين الأقوياء، إلا انه هو الجبار العظيم بين الضعفاء؟ وانه سوف ينال من الأقوياء والضعفاء بحيلته وسياسته ما لا ينال بالعنف، فلذلك آثر طريق المفاوضة، واتخذ أعوانه لينيموا الشعب إليها حتى يهدأ ويسكن ويظن انه بالغ ما يريد؛ لان الدنيا تغيرت، ولان العالم في حاجة إلى نظام جديد ليس بينه وبين القديم شبه. وظلت المفاوضات اشهرا وهي تسير فينا على عكازتين كأنها هي الأخرى من ذوي العاهات الذين خلفتهم الحرب عرجا وظلَّعا أو شرا من ذلك. فأي هزل هذا؟

أي هزل هذا الذي يؤمن به رجال يخالهم الناس من أصحاب العقل والحكمة وسداد الرأي في المعضلات؟ وماذا فعلوا منذ بدءوا إلا إن قدم الإنجليز مشروعا وقدموا مشروعا؟ ولا يزالون على ذلك إلى يومنا هذا. فهم إنما يتقارضون كلاما لا يغنى عنهم ولا عن مصر. وفيم يتفاوضون؟ ألا أن الحق بيّن والغصب بيّن، فقولوا لأصحابكم الذين تفاوضون إن مصر لا تريد إلا تحقيق هذه الكلمات:(الجلاء ووحدة وادي النيل). إننا نريد مصرنا وسوداننا، إننا لا نريد منكم إلا أن تدعونا وشأننا، اخرجوا من بلادنا، فارقونا. قولوا ذلك وعلموا الشعوب بأيمانكم وإصراركم أن تكون اشد إصرارا وأيمانا وأوفى شجاعة واقدر صبرا، وإلا سوف يأتي يوم يجدُّ فيه الشعب جدَّه، فإذا الذي ظننتم انه مجد لكم هو ابغض شئ إلى الشعب، واعلموا انه لا مجد إلا بفعال، والهزل مخبثة للفعال، فجدوا إذن وعودوا إلى الإنجليز من حيث بدءوا بكم.

إن هذا الذي يحدث في الهند وفي مصر حسرة للنفوس تطوي تحتها أسوا مغبة، فهل من رجال ينقذون بلادهم من شر هذه الموبقة المستطيرة؟ إن الحكام والمفاوضين طلاب المجد لن يذوقوا لذة المجد حتى يكون الشعب هو الذي يذوق لهم طعمه، فإذا إستكرهه، فلا تخدعنهم الحلاوة التي يجدونها في ألسنتهم، فإنها مرارة الدهر وذل الأبد. ورحم الله المتنبي:

من أطاق التماس شئ غلابا

واغتصابا لم يلتمسه سؤالا

فعلام المفاوضة، وفيم السعي إلى الحكم؟

محمود محمد شاكر

ص: 12

‌من أحاديث الإذاعة:

عيدي الذي فقدته

للأستاذ علي الطنطاوي

يا آنسين بالعيد، يا فرحين به، هل تسمعون حديث رجل أضاع عيده، وقد كانت له أعياد، أم يؤذيكم طيف الشجى إذ يمر بأحلام أفراحكم الضاحكة؟ إذا كنتم تصغون إلى حديثي فلكم شكري، وان انتم أعرضتم عني فما يضرّني إعراضكم، وان من نعم (المذياع) انه لا يدري المتكلم فيه من ينصت له، ومن يَشغب عليه، ولا يسمع مدحا ولا قدحا، وما يرى إلا (العلبة) يكلمها، وما ترد علبة متكلم جوابا. . .

ولا تقولوا إذا سمعتم حديثي. هذا رجل لا يتكلم ألا عن نفسه. فكذلكم الأدباء كلهم؛ لا يتكلمون ألا عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها وآلامها يصفون أحلام الناس كلهم وآلامهم، فهم تراجمة العواطف، وألسنة القلوب، وصدى الخواطر، حتى ليقول القارئ إذ تمرّ به آثارهم: ما هذا؟ أن في هذا التعبير عما أحس به؛ انه وصف لي أنا وحدي. . . وما هو له وحده؛ انه وصف لكل نفس بشرية. . .

إلا ما اعظم فضل الأدباء على الناس! ولكن الناس لا يشكرون. . .

يا سادة: انه كان لي في حياتي عيد واحد، ولكن طمس القدم صورته في نفسي فلا أرى منها إلا ملامح. لقد وجدت عيدي في (صُرْماية حمراء) أصبحت يوما فلقيتها إلى جانب الفراش، وكنا نبسط الفرش، وننام على الأرض؛ لم تكن قد انتشرت هذه الأسرّة وعمت، لم تكن إلا للأكابر، ولقيت معها (قمبازا) من (الألاجة) له خطوط حمر على أديم اخضر كأنه حقل قد نبتت فيه سطور من شقائق النعمان، وعقالا (مقصباً) كأنما قد نسج بخيوط الذهب، يبرق كأنه تاج ملك جديد. وعباءة رقيقة فيها مناطق حمر، وأخر بيض، وحواش من القصب اللماع؛ لها طُرَر مختلفات الألوان. . . تخطف ببريقها النظر.

فلم اصدق أن كل ذلك لي أنا، وسالت متحققا. فقالوا: انه لك، انه لباس العيد. قلت: وما العيد؟ قالوا: العيد. ألا تعرف العيد؟ فلم اعرفه، ولكني قنعت بما وجدت من نعمائه وتخيلته ضيفا جميلا نزل البلد. . .

وذهبنا نبصر العيد، ومشينا في الطرقات، وإذا الوجوه باسمات الثغور، منبسطات القسمات

ص: 14

فكان أصحابها قد لبسوا مع الثياب البراقة الزاهية حلة من اللطف والظرف، ولم نر نحن الصغار من يزجرنا ذلك اليوم عن حماقة نأتيها، أو ذنب نذنبه، بل وجدت كل من أُسلّم عليه من أقربائي وأصحاب أبي يعطيني نقودا (نحاسات) صفرا لامعات كالدنانير، و (متاليك) جددا، ولم تكن قد عرفت هذه القروش الورقية القذرة الممزقة التي يأنف المرء من مسّها، فاجتمع لدي مبلغ من المال، هو بالنسبة إلى طفل مثلي ثروة كثروة رجال (الشركة الخماسية) في دمشق، ولكني أخذته حلالا بطيب نفس، واخذوا هم ما أخذوه حراما انتزعوه من فم الأرملة واليتيم؛ فكان بردا على قلوبهم وسلاما في لهب هذه الحرب، ولكنه سيكون من بعد نارا آكله في أكبادهم، وسمَّا هاريا في أمعائهم، وغصة خانقة في حلوقهم، ولعنة متسلسلة في ذراريهم، وجحيما متسعرا يوم المآب. . . فارتقبوا - أثرياء الحرب - أنا معكم من المرتقبين!

وكانت دارنا في (العُقَيبة) فكان أول ما لقيت من العيد (جامع التوبة)؛ هذا الجامع المأنوس الذي يملا جوّه دائما خشوع وأنس، ولم اكن ادري يومئذ ما الخشوع وما أنس الروح، ولكني أحسست فيه فرحة شاملة ملأت نفسي، وذهبنا إلى (الأموي)، وكان صوت التكبير ينبعث منه قويا مجلجلا، كأنه هدير (بردى) عند شلال (التكية) فشعرت بحال لم أعهدها في نفسي من قبل ولم اعلم ما هي؛ شعرت بالحماسة التي تغلى منها دماء المسلم حينما يسمع هذا النشيد السماوي الذي لم تسمع أذنا الأرض نشيدا بشريا أروع منه روعة أو اشد أو أقوى؛ هذا النشيد الذي علمت بعد إن أجدادنا كانوا يهدرون به في أشداقهم فتتداعى أمامهم الحصون، وتساقط الأسوار، وتفتح لهم به أبواب المجد حتى فتحوا به الدنيا، هذا النشيد الذي كان من بشائر الرجاء أن اتخذه (الأخوان المسلمون في مصر) شعارا لهم ليصلوا به ما كان انقطع من قلادة أمجادنا التي طوقنا بها عنق الزمان، ولينشروه مرة ثانية في آفاق الأرض فتردده معهم الجبال والأودية. والمدن والقرى: الله أكبر، الله وأكبر، لا اله إلا الله - الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد!

ودخلت فوجدت في المسجد متعة لم أجد مثلها في لهو كنت أتخذه، أو ما كنت اسر به، وجدت - ولم أكن ادري - متعة الدين والدنيا إذا اجتمعنا: الكثرة والألفة والثياب البراقة والنظافة والنظام، والتقى والإخلاص، والغنى السمح الشاكر والفقر المتجمل الصابر،

ص: 15

والمعاونة على الخير، والمواساة والإيثار، وكان في المسجد نساء قد اجتمعن في (المشهد) بالأزر البيض والملاءات الساترة، ما يظهر منها عين ولا بنان ولا ساق، قد جئن للصلاة.

كذلك كان بلدنا قبل أن تصله هذه (الحضارة) الجديدة، كذلك كان يوم كان أهله متأخرين جامدين، فيا ليته يعود كما كان، يا ليتنا بقينا متأخرين عن هوّة الفساد لم نقدم عليها، جامدين لم نعرف هذا الميع. إن الجامد يتماسك ويثبت، أما المائع فيسيل ويجري حتى ينصب في البالوعة. . . أفعرفتم الآن مصيركم يا أيها (المائعون)؟!

ثم أممنا (مقبرة الدحداح) فإذا الحياة الضاحكة جاءت تزاحم الموت العابس على أرضه، وتنتزع منه مثواه، وإذا المقبرة دار الوحشة والعبرة قد أحالها العيد منزل الفرح واللهو، ففيها (الدُّويخات) منصوبات، و (القلاّبات) قائمات، والعربات الصغار مزينات بالأعلام الملونات مشدودة في جوانبها الأجراس والجلاجل، والأطفال بثيابهم التي تحكي زهر الربيع، منها الأحمر والأصفر والأخضر والفضي والمقصب وذو الطرد وذو الحواشي، راكبون على أفراس (الدويخة) تدور بهم، أو جالسون في سرر (القلابة) تصعد بهم وتنزل، أو متعلقون بالعربة، والنساء قاعدات عند النهر، والرجال مجتمعون عند التل، وعلى القبور الآس الأخضر معقود بشرط الحرير يخيل للرائي من كثرته انه في جنة ملتفة الأفنان، وخلال الآس الخيام المنقوشات والسرادقات، وباعة (القضامة) و (اللب) و (عرق السوس) يجولون بين الناس ينادون اعجب النداء، وبياع (الفول النابت) قد أوقد ناره ورفع قدره، ونصب مائدته، وحف به الصبيان والبنات، وصاحب (صندوق الدنيا) قد حط صندوقه، وقعد حول الأولاد، ينظرون فإذا هم يسيحون في البلاد، ويرون عبلة وعنتر بن شداد، فلا يكادون يستمرئون الحلم ويستغرقون فيه حتى يرخى الستار فيهبطوا إلى أرض الواقع؛ فإذا الذي كانوا فيه قد مرَّ كما تمر الأحلام لم يخلف ألا ذكرى مشوبة بألم الفقدان.

كذلك كانت المقبرة أول ما عرفت العيد. أنها صورة المقبرة يوم نفخ إبليس في بوق الحرب العالمية الأولى سنة 1914.

صبركم أيها المستمعون، ودعوني اطل وقوفي على هذه المقبرة، فأنكم لا تعلمون منزلتها في قلبي، ولا أستطيع أن أعلمكم، وكيف؟ أو تصدقون إذا قلت لكم أن لهذه المقبرة صورا في نفسي أحلى من صور الرياض، وذكريات اجمل من ذكريات الحب؟ وان نهرها هذا

ص: 16

الصغير القذر اعز عليه من بردى ودجلة والنيل، وأشجارها هذه المنحنية عليه أبهى عندي من صنوبر فالوغا ونخيل الأعظمية، وكراسيها هذه ألوا طية أفخم في عيني من أسرة (اوريان بالأس) و (شبرد)؟

إن في هذه المقبرة بقايا من قلبي، أن لها تاريخا في نفسي، يعرف أكثره أخي أنور العطار. فسلوا أنور متى يقوم بحق الوفاء لهذه الذكريات فيخلدها بقصائد بارعات من شعره العبقري، فما احسن أنا تخليدها، لا أطيق أن أفي لها هذا الوفاء؟ سلوه أنسى ليالي نمشي فيها لنزور قبور الأحبة في ظلمة الليل: أبي وأمي وأمه وأبيه، ونبكي عليها، والمقبرة ساكنة خالية، ما ترانا ألا عيون النجم، وما تسمعنا ألا الشواهد الشواخص. . ونحدق في سدفة الزمان نرقب أن نرى طلعة الأحباب الذين اشتد إليهم الشوق وطال الغياب، فلا نرى ألا ظلاما متراكبا، ونعود فنحاول أن نخترق حجاب الآتي لنبصر طيف الأمل الحلو فلا نبصر إلا الظلام. . . ليالي كنا نعود وقد برح بنا ألام، وهدّنا الحزن، فأستمع من أنور بواكير أشعاره ويسمع مني بوادر رسائلي، تلك البواكير التي قراها الناس فرأوها ندية للدمع، فياضة بالحزن. فقالوا: ما لهذا الشاب والألم، ماله لا ينظم إلا الشعر الباكي، ما دروا أن هذا الشعر قد نظمت حباته على قبر الوالدين، في ليالي اليتم الكوالح. . .

مساكين الأدباء. يجبلون فلذات قلوبهم بدموع عيونهم، ليقيموا منها تماثيل الأدب فيأخذها الناس عابثين، وينظرون إليها لاهين، ويعيبونها ظالمين، ثم يملُّونها كما يمل الصبي لعبته فيرمونها فيحطمونها، ويفتشون عن لعبة جديدة. . .

مساكين الأدباء!

يا سادة:

لقد مشيت بعد في الزمان، وسحت في البلدان، فكبرت ورأيت أياما قال (التقويم) إنها أيام عيد، رأيتها في دمشق بلدي، ورأيتها في الأعظمية في بغداد، ورأيتها في البصرة ذات الشط والنخيل، وفي الحرش من بيروت، وفي القاهرة أم الدنيا، ولكني لم أعد أجد في ذلك كله تلك البهجة التي كانت للصرماية الحمراء والعقال المقصّب، والعربة ذات الشراع الأحمر والجلاجل والثياب الملونة الزاهية التي تحكي زهر الربيع؟ أفتغيرت الدنيا أم قد أضعت عيدي؟

ص: 17

أتغيرت الدنيا يا ناس أم الناس قد فقدوا فرحة العيش حينما تركوا تلك الحياة السمحة القانعة الطاهرة المبرأة من أدران حضارة الغرب؟ تلفتوا أيها السادة حولكم، واسألوا من تلقون من الكهول عن ذلك الزمان. . . تجدوا في عيونهم عَبْرة، وفي قلوبهم حسرة، وعلى ألسنتهم جوابا واحدا: رحم الله تلك الأيام لقد كانت أيام انشراح. . .

كانوا لا يعرفون دسائس السياسة، ولا التزاحم على الرياسة، ولا شبه العلم، ولا رذائل الحضارة، لا يختلفون على مذهب اجتماعي ولا يقتتلون لمصلحة حزب سياسي، ولا يقرعون أبواب الوظائف، إن تعلموا العلم تعلموه لله لا للشهادات، وان طلبوا المال طلبوه من التجارة لا من المضاربات والاحتكار والرشوات، وإن ارادوا تسلية ولهوا، قصدوا الربوة أو الميزان أو الشاذروان، ينصبون سماورات الشاي، وسماط الآكل، وبساط الصلاة، لا يعرفون سينما ولا ملهى ولا ماخورا ولا (نادي دمشق)، المساجد ممتلئة بهم، ومدارس العلم حافلة بأبنائهم، والعلماء هم الأمراء؛ طلبوا الآخرة لا الدنيا فأعطاهم الله الدنيا والآخرة، والبيوت جنان الأرض، والنساء حور تلك الجنان لا يعرفن التبرج ولا التكشف ولا يراهن أحد في الطريق؛ إلا خارجات لضرورة لابد منها، ومعهن الزوج أو الأب، يسبقهن وهن يتبعنه، لا يعرفن بيوت الفجور، ولا أماكن العصيان، ولا (دوحة الأدب)، ولا يخطر على بالهن إن الدنيا ستبلغ من الفساد أن سيكون فيها (فرق مرشدات). . .

كذلك كانوا فكانت أيامهم كلها أعيادا؛ فأين أعيادنا نحن؟ أربحنا من هذه المدنية. . . وهذا العلم. . . أم خسرنا؟ سلوا هذه الحرب عما صنعته علومهم بسعادة البشر، وسلوا التاريخ عما صنعت بها علومنا وشريعتنا؟

يا سادة:

إننا صرنا اليوم نلبس (البذلة) بدل (القنباز)، وننام على السرير، ونأكل بالشوكة والسكين، ونقرأ أخبار أمريكا واوربا، ونتكلم في الجغرافية والكيمياء وفي السياسة، ونركب السيارة والطيارة، ونسمع الرادّ ونبصر أفلام السينما، هذا الذي ربحناه ولكنا خسرنا التقى والعفاف والاطمئنان، لقد كان أجدادنا ابعد عن حضارة اوربا، ولكنهم كانوا أرضى لله منا، واقرب إليه، وكانوا أقوم أخلاقا، واطهر قلوبا، وأصفى سرائر، واصدق معاملة وكانوا أسعد منا في الحياة. . .

ص: 18

لا يا سادة: أنى لم أعد أجد للأعياد بهجة، فردوا إلي ماضي، أرجعوني إلى عيد الصرماية، والمقبرة، والمسجد، فإني لم الق السعادة إلا فيه، أنقذوني من هذا العلم وهذه الحضارة، فأنا جامد، أنا رجعي، رجعي، رجعي!!

والعفو يا سادة: لقد نقصت عليكم بهذا الحديث القاتم المضطرب عيدكم لقد نسيت قواعد الآداب الاجتماعية فكدرتكم يوم الصفاء، وكنت عندكم فاسد الذوق سيئ الاختيار، فلا تؤاخذوني. . . واقبلوا على عيدكم وسروركم، ودعوني ابكي يوم العيد ماضيات أيامي. وكل عام وأنتم بخير!

علي الطنطاوي

ص: 19

‌مدارس للسخط.

. .؟!

للأستاذ سيد قطب

قال لي صاحبي: أما تفتأ هكذا ساخطا على جميع المظاهر والأوضاع؟ أرح أعصابك يا أخي، ودع الخلق للخالق. انه لا فائدة. لا فائدة من كل هذه الصرخات!!!

قلت لصاحبي: أما أنا فسأظل ساخطا، أعلن سخطي على كل شائه من المظاهر والأوضاع. ولن أدع الخلق للخالق، لان الخالق هو الذي يقول:(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) ويصف قوما ضعفوا واضمحلوا فيقول عن سبب الاضمحلال: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون!) وأما انه لا فائدة هناك، فأنا لست يائسا ولا متشائما، واعتقادي الكامل إن هذا الكون الوسيع لا يضيع صوتا واحدا ينطلق فيه بدعوة الحق، ولا بد أن يردد صدى هذا الصوت في يوم من الأيام، طالت أو قصرت به الأعوام.

وقلت لصاحبي: إنه لو وكل إليّ الأمر لأنشأت ضعف هذه المدارس التي تنشئها الدولة لأعلّم فيها هذا الشعب شيئا واحدا هو السخط! السخط على الأوضاع والمظاهر الشائهة التي تسيطر على حياة هذا الجيل في كل اتجاه. فالسخط هو دليل الحيوية الكامنة، والرضى بهذه الحال المائلة هو نوع من اليأس والتشاؤم يقتل الأمم أو يؤدي بها إلى الاضمحلال.

أجل، لو وكل إليّ الأمر لأنشأت مدرسة للسخط على هذا الجيل من رجال السياسة في هذا البلد، أولئك الذين يتخاصمون فيتشاتمون، ويتهم بعضهم بعضا بكل كبيرة: بالخيانة. بالرشوة. بفساد الذمة. . . إلى آخر هذه الجعبة من الشتائم والتهم النكراء، حتى إذا ارتفعت لهم تلك العصا السحرية، عصا دار الحماية التي هي دار السفارة، أو دار السفارة التي هي دار الحماية، نسوا كل ما قيل، واتحدوا وائتلفوا، وصافح بعضهم البعض، وابتسم بعضهم لبعض، وأثنى بعضهم على بعض، والشعب ينظر ويعجب: أما أن يكون الجميع كاذبين في الماضي، أما أن يكون الجميع كاذبين في الحاضر، وهم في كل الأحوال لا يؤمنون على مصير هذا الوطن، وتلك ذممهم وهذه ضمائرهم. . . كلهم جميعا بدون استثناء!

ومدرسة للسخط على أولئك الكتاب والصحفيين، الذين يقال عنهم انهم قادة الرأي في البلاد،

ص: 20

وانهم أباء الشعب الروحيين، أولئك الذين يسخرون أقلامهم وذممهم وضمائرهم لهذا الجيل من الساسة، فيضربون بأقلامهم ذات اليمين وذات الشمال، وينهشون سمعة هذا السياسي أو ذاك، ثم يعودون فيبيضون ما سودوا وقد يقفون مادحين في حفلات تكريم تقام لأولئك الساسة الذين قالوا عنهم من قبل: انهم مجرمون قذرون منحطون منخوبو الضمائر فأسدوا الذمم، لا استصلاح لهم بحال من الأحوال! والشعب ينظر ويعجب: أما أن يكون هؤلاء القادة الروحيون كاذبين في الماضي، وأما أن يكونوا كاذبين في الحاضر. وهم في كل حال لا يؤمنون على قيادة الشعب الروحية، وتلك ذممهم وهذه ضمائرهم بين حال وحال!

ومدرسة للسخط على أولئك الوزراء الذين تطول ألسنتهم وتطول أقلامهم وهم يتطلعون إلى الكرسي المسحور، فتتفتق قرائحهم عن خطط وبرامج للإصلاح الاجتماعي، وللنهضة الفكرية وللقضية الوطنية، ولإصلاح أداة الحكم، ولتطهير الدواوين، ولمكافحة اللجان. . . إلى أخر ما تهديهم إليه اللهفة على ذلك الكرسي المسحور، حتى إذا جلسوا في ذلك الكرسي، ند عنهم جميع ما اعدوا من خطط، وما نسقوا من برامج، ونفث فيهم ذلك الكرسي اللعين سحره الذي يعمى ويصم، ويفسد الذمة، ويكبت الضمير. . . ثم يطيح به الكرسي اللعين فيصحو من سبات، ويجد له بعد ذلك عينا يفتحها ولسانا يديره لإعادة الاسطوانة من جديد! والشعب ينظر ويعجب: أما أن يكون هؤلاء كاذبين في الأولى، وأما أن يكونوا كاذبين في الثانية. وهم في كل حال لا يؤمنون على مصالح هذا الشعب، وتلك ذممهم وهذه ضمائرهم في جميع الأحوال!

ومدرسة للسخط على أولئك الباشوات وغير الباشوات الذين يلحقون بعضوية الشركات ليكونوا ستارا لهذه الشركات في استغلال الشعب واستغفاله، ثم يدعون أن الشركات إنما قدرت فيهم الكفاية الممتازة (ما يأكلون في بطونهم إلا النار)!

ومدرسة للسخط على أولئك (الارستقراط) الذين يعلمون من هم، ويعرفون ينابيع ثروتهم أو ثروة آبائهم وأجدادهم، ونصفهم يعلمون إن أصلهم القريب جارية أو معتوقة، ونصفهم الآخر - إلا عددا يعد على الأصابع - يعرفون انهم هم أو آباؤهم أو أجدادهم على أكثر تقدير أدوا ثمن هذا الثراء أعراضا أو خدمات لا يقوم بها الرجل الشريف للاحتلال ولغير الاحتلال. . .

ص: 21

ومع هذا كله يزمون أنوفهم اشمئزازا من (الفلاحين) ومن (أبناء الشعب) على وجه العموم، لأنهم ليسوا من (أولاد الذوات) وليسوا (ارستقراط)! والشعب ينظر ويعجب: أكان حتما على هذا الشعب كله أن يكون أبناء جواري ومعاتيق، أو أن يقوم بخدمات لا يقوم بها الشرفاء للاحتلال وغير الاحتلال؟

ومدرسة للسخط على أولئك الذين ليسوا (ارستقراط)، إنما هم من أبناء الشعب، علمهم الشعب، وارتفع بهم إلى مقاعد الوزارة وغير الوزارة، وقد يكونوا ممن تعلموا بالمجان لضيق ذات اليد والعجز عن أداء نفقات التعليم، ثم هم بعد ذلك يتسخطون على (مجانية التعليم)، لأنها تزحم المدارس بأولاد الفقراء، ولأنها تمزج بين أبنائهم وأبناء الفقراء، ولأنها تعلم أولادهم أخلاق الفقراء!

(يا دم)! باللغة العامية الفصيحة! شيئا من الحياء يا هؤلاء! شيئا من الاعتراف بالجميل للشعب صاحب الجميل!!

وتنشئ الدولة مدارس خاصة لأبناء الأغنياء ومن يتشبهون بالأغنياء. . . لماذا؟ لأنهم مالوا بأبنائهم إلى المدارس الأجنبية فرارا من أبناء الشعب في المدارس المجانية!!

وماذا على الدولة وماذا على الشعب حين يذهب هؤلاء إلى الجحيم لا إلى المدارس الأجنبية؟ أنه لا خير فيهم لهذا الشعب هنا أو هناك! انهم خوارج عليه لأنهم يتبرءون منه، فليذهبوا حيث يشاءون، ولتسر الدولة في الطريق المرسوم لتعميم المجانية، فهو طريق إجباري مهما عارض فيه المعارضون، لان المستقبل لن يسمح بفوارق الطبقات!

ومدرسة للسخط على محطة الإذاعة، تلك المحطة التي تنقل ما في المواخير والصالات، وما في الأفلام السينمائية، وهي لا ترتفع عن المواخير والصالات، تنقله إلى كل بيت، والى كل سمع، شاء من في البيوت أم أبوا، ورضى الناس أم كرهوا، ولا تدع هذا الهراء القذر محدودا في الصالة أو الفيلم يراه من يشاء، ويذهب إليه من يشاء، بل تفرضه فرضا على البيوت، حتى إذا كان فيها بقية من إنسانية أو حياء، قضت على هذه البقية الباقية من الإنسانية ومن الحياء، وهي تصنع كل يوم هذه الجريمة وتنفق عليها من جيب هذا الشعب الذي تفتت كيانه في كل لحظة من اللحظات!

ومدرسة للسخط على تلك الصحافة الداعرة، التي تسمى نفسها (صحافة ناجحة) لأنها تنادي

ص: 22

الغريزة الحيوانية وتستثيرها في كل سطر وفي كل صورة، وهو عمل رخيص لا يحتاج إلى براعة صحفية، عمل يقوم به مديرو المواخير فيطاردهم بوليس الآداب في كل مكان! ودع عنك ما يقوم به بعض هذه الصحف من دعاية للاستعمار ولخدام الاستعمار، وما يثبطون به عزائم المصريين كلما هموا للجهاد في سبيل قضيتهم الكبرى. وما كانت هذه الصحف في حاجة إلى تلك الدعاية السافرة أو المستترة، فهي بما تنشر من صور داعرة، وبما تثير من غرائز هابطة، تقتل في الأمة كل نخوة وكل شرف وكل قوة، وتهيئها للاستغراق في لذائذ حيوانية، لا تسال بعدها عن وطن ولاعن استقلال!

وأخيرا مدرسة للسخط على هذا الشعب الذي يسمح بكل هذه (المساخر)، ويتقبل كل تلك الأوضاع، دون أن ينتفض فينبذ هؤلاء وأولئك جميعا، وينفض يده من رجال السياسة المضللين، ورجال الأدب والصحافة المأجورين، ورجال الحكم المدلسين، ومن الاستقراط والمتسقرطين! ومن دعاة المواخير: في محطة الإذاعة، وفي السينما، وفي الصحف، وفي المواخير!

مدارس للسخط! ما أحوج الشعب منها إلى الكثير، انه لأحوج إليها من الطعام والشراب. . . فمن ينشئها؟!

أينشئها هذا الجيل من الشباب المائع المسترخي إلا النادر القليل؟. . . كلا! إنما تنشئها الأقلام المخلصة، الأقلام التي تواجه الحقائق، ولا تنفر منها، ولا تخشى عاقبة الجهر بها، الأقلام التي لا تيئس ولا تمل، ولا تؤمن بأنه لا فائدة!

وأنها لفريضة على كل صاحب قلم، ولن تضيع صرخة واحدة في الهواء، فالهواء احفظ للأصداء، والأجواء حفية بالدعاء، ومن لم توقظه الدعوة، فلتوقظه الصيحة. . .

ولا يأس مع الحياة!

سيد قطب

ص: 23

‌الحلم والتحلم.

. .

للأستاذ محمود عزت عرفة

(إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،

ومن يتوق الشر يوقه) حديث شريف.

لا ينهض رواج الرذيلة في هذا العصر المادي دليلا على رجحان كفتها في ميزان الأخلاق، إذ ما يزال للفضائل القدح المعلى، ولا يزال الفضلاء - على قلة فيهم وضعف - اقدر الناس على الجهر بالدعوة إلى مذهبهم، وأقومهم بالحجة في الإنابة عن صحة مأخذهم. . . وحسب الرذيلة من ضعة إنها مقرونة أبدا بالتواري، محجبة بقناع التخفي، لا تحيا إلا في مدلهمٍّ من الظلام، ولا تنشط إلا على غفلة من العقل، وغفوة من سلطان الضمير.

والخلق النفسي قسمان: فطري وكسبي. وليس لنا من أمر الخلق الفطري شئ ألا أن نشكر واهبة على ثمرات خيره، ونستعيذ به من بائقات شره. أما الثاني، وهو ما تنهيا النفس لاكتسابه من صفات خلقية، فذلك الذي يتسع معه مجال الحديث، بل من اجله سن الباحثون قوانين الأخلاق وقواعد السياسة والتربية، وسائر علوم الاجتماع.

ولا يكاد يتصور لهذه العلوم وجود إلا مع الاعتراف بأهمية الصفات الكسبية للنفس كدعامة من دعامتيها، وعنصر - بالغ الأهمية - من عنصريها.

ولقد أخذ ابن مسكويه على منكري (التطبع) قولهم، وأبلغ - ولم يبالغ - في تقدير الخلق الكسبي، وما تتهيأ له النفس من قبول التحول، والانصياع إلى ضروب التأديب والتهذيب. يقول في فصل من كتابه (تهذيب الأخلاق): اختلف القدماء في الخلق فقال بعضهم: الخلق

خاص بالنفس غير الناطقة. وقال بعضهم: قد يكون للنفس الناطقة فيه حظ. ثم اختلف الناس أيضاً اختلافا ثانيا فقال بعضهم: من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه. وقال آخرون: ليس شئ من الأخلاق طبيعيا للإنسان، ولا نقول انه غير طبيعي. وذلك أنّا مطبوعون على قبول الخلق، بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا أو بطيئا. وهذا الرأي الأخير هو الذي نختاره لأنا نشاهده عيانا، ولان الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل، والى رفض السياسات كلها وترك الناس همجا مهملين، والى ترك الأحداث

ص: 24

والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدا - انتهى قول ابن مسكويه.

ويقول الغزالي في مثل هذا المعنى: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسنوا أخلاقكم! وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن، إذ ينقل البازي من الإستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأديب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد؛ وكل ذلك تغيير للأخلاق؟

وإذا نحن أدركنا هذا القول تسنى لنا أن نفهم الحكمة الجليلة التي ينطوي عليها قول الرسول عليه الصلوات: إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه، ومن يتوقَّ الشر يوقه. فلتحلم والتعلم والتبصر والتوقي والتورع والتصبر والتكرم والتعفف وغيرها من هذه الصفات التي تنطوي في صيغتها على معنى التكلف إنما هي معدودة من أهم مقومات الخلق النفسي ومن اخطر العناصر في تكوينه. وهي إلى ذلك وسيلة ميسورة إلى ترقي النفس في مدارج الفضيلة واكتسابها ما حرمته بالفطرة من أسباب الخير. ثم هي مقوية للفضائل ومتقوية بها، لما هنالك من واشج العلاقة بين القسيمين. يقول أبو علي القالي في أماليه: العقل عقلان: فعقل تفرد الله بصنعه، وعقل يستفيده المرء بأدبه وتجربته. ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلا بصحة العقل المركب، فإذا اجتمعا في الجسد قوى كل واحد منهما صاحبه تقوية النار في الظلمة نور البصر.

الحلم والتحلم:

قال ابن مسكويه: الحلم فضيلة للنفس تكسبها الطمأنينة فلا تكون شَغِبه، ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة.

وواضح أن الحلم - كخلق فطري - يؤدي إلى طمأنينة النفس. على أن هذه الطمأنينة من ناحيتها تكسب النفس صفة الحلم وتمكِّن لها منه، والحلم المكتسب هو (التحلم) نفسه.

فطمأنينة النفس نتيجة للحلم وسبب للتحلم، ومن هنا يصعب الفصل بين الخلقين ولكنه لا يستحيل، لان الحلم إذا جاء عفو الطبع، وبدون تكلف له ولا تحامل على النفس فيه، فالتحلم لا يكون إلا نتيجة مران وثمرة ممارسة ومعاناة. وليس من شك في أن الأول يفضل

ص: 25

الأخير، كما يفضل الأصل الفرع، ويشأو السابق اللاحق.

والغزالي يردف التحلم (كظم الغيظ)، فهما عنده شئ واحد يقل في الرتبة عن الحلم، ولكنه يتحول إلى الحلم نفسه بطول المجاهدة التي تفضي إلى الاعتياد. فهذا الفيلسوف لا يكاد يتصور للحلم وضعا إيجابيا أو مظهرا مستقلا، إلا إن يكون صورة كاملة استوفت خطوطها وألوانها من مظاهر للتحلم توالت على النفس وتعددت صورها حتى استوفت فيها خلقا كاملا تصقله المجاهدة وتهذبه الدربة وفرط المعاناة؛ واليك عبارته:(اعلم أن الحلم افضل من كظم الغيظ، لان كظم الغيظ عبارة عن التحلم (أي تكلف الحلم)، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا فلا يهيج الغيظ، وان هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفا.).

ويبدو أن ابن مسكويه كان أدق فهما من الغزالي لحقيقة الحلم وموضعه من التحلم، عندما جعل الحلم خلقا أساسيا في بعض النفوس، ثم أوضح إمكان اكتسابه بالمعالجة فيسمى حينئذ تحلما. وهو يقول في الكشف عن حقيقة الحلم: متى كانت حركة النفس العصبية معتدلة، تطيع النفس العاقلة فيما تقسطه لها، فلا تهيج في غير حينها، ولا تحمي أكثر مما ينبغي لها، حدثت عنها فضيلة الحلم، وتتبعها فضيلة الشجاعة، ثم بين السبيل لبلوغ فضيلة التحلم عند فقد الحلم بقوله: من أنكر من نفسه مبادرة إلى غضب في غير موضعه، أو على من لا يستحقه، أو زيادة على ما يجب منه، فليقابل ذلك بالتعرض لسفيه يعرف بالبذاء، ثم ليتحمله، وليتذلل لمن يعرف بالخيرية ممن كان لا يتواضع له قبل ذلك.

على أن من الإنصاف للغزالي أن نقول: انه كان فيلسوفا (عمليا) في مقارنته بين الحلم والتحلم، فهو لا يكاد يعترف ألا بالتحلم أصلا وفرعا، لأنه محله التجربة ومظهر المجاهدة والمعاناة، وفلسفة الغزالي الخلقية كلها تقوم على هذا الأساس. أما ابن مسكوية ففيلسوف (نظري) عميق الفكرة، يجرد الحلم أصلا قائما بذاته، ثم يلتقي مع الغزالي في بسط قضية التحلم، وبيان السبيل إلى بلوغه تكلفا.

فمن المجاز إذن - لا الحقيقة - أن نقول مع الغزالي: إن كظم الغيظ واعتياد التحلم يصبح

ص: 26

(حلما طبيعيا) - وان كانت هذه العبارة هي افضل ما يجري على لسان مربٍّ يعني بتهذيب الأخلاق وهداية الناس إلى سبيل الفضائل، بتيسير وسائلها لهم، وتهوين مشقة إحرازها عليهم.

فضيلة الحلم:

بان الحلم إذن بفضل له ومزية، وطال على التحلم قدر ما يطول اصل على فرع، وأول - في الكون - على أخير. وما ثمة شك في أن الحلم أثنت على تتابع المثيرات، وابلغ في الدلالة على كرم النفس، وصفاء موردها من نبع الفضيلة.

وليس يتصل الحلم بنفس إلا وقد تم لها إلى جانبه حظها من التحلم، إن لم يكن في الأول الغناء كله عن الثاني. والنفس بعد من نتيجة التحلم على شك، تسعى إليه فتبلغ حينا وتقصر أحيانا، وأنها لتلقى فيه من البلاء ما يضجرها منه مرة، وقد يصرفها عنه أخرى.

وأين في الناس مثل عمر الذي كان يبلغ بالتحلم حد الحلم دون مجهود، حتى ليلقى الرجل السكران مرة فيزمع أخذه وتعزيره، ويشتمه السكران فيرجع عنه، ثم يسأل عن ذلك فيقول: انه أغضبني، ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي، ولم أرد أن اضرب مسلما حمية لنفسي؟!

وفي كتاب الأحياء أن اشجَّ عبد القيس وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأناخ راحلته ثم عقلها، وطرح عنه ثوبين كانا عليه، واخرج من العيبة ثوبين حسنين فلبسهما، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ما يصنع. ثم اقبل يمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: إن فيك يا اشج خلقين يحبهما الله ورسوله. قال: ما هما بابي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة! فقال: خلتان تخلقتُهما، أم خلقان جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقان جبلك الله عليهما. فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله. فقد كان رسول الله عليه الصلوات إذن اعلم الناس بفرق ما بين الحلم والتحلم، وبعد ما بين الطبيعة والتطبع، وانه ليمتدح صاحبه - فيثلج قلبه، ويستحمده ربه - حين يجيبه عن سؤاله بقوله: بل خلقان جبلك الله عليهما!

هذا، والحلم سيد الأخلاق - كما يقولون - لأنه السجية النبيلة التي لا تليق ألا بالملوك والأمراء، ولا تأخذ أروع زينتها إلا حين يصطنعها السَّراة والوجوه وأعيان الناس. روى

ص: 27

أن عليا (عليه الرضوان) سأل رجلا من أهل فارس عمن كان أحمد ملوكهم سيرة. قال: أنو شروان. فقال علي: أي أخلاقه كانت اغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال علي: هما قوام الملك، نتيجتهما علو الهمة!

ولقد بلغ بعض الملوك والرؤساء من الحلم مبالغ تثير الدهشة وتستخرج العجب؛ وليس يعزى هذا إلى طبيعة فيهم بأكثر مما يعزى إلى الظروف التي أحاطت بهم. ونحن نحب أن نقف قليلا عند بعض من طارت شهرتهم بالحلم، وأخذوا من التحلم بأسباب قوية، فنتبين مظاهر هذين الخلقين فيهم، ونلمس البواعث عليهما، والمقاصد الخفية أو الظاهرة الدافعة إليهما. . .

(يتبع)

محمود عزت عرفة

ص: 28

‌الأدب في سير الأعلام

ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .).

للأستاذ محمود الخفيف

في ميدان السياسة:

وعاب خصوم ملتن عليه قبوله منصبا في حكومة مغتصب جمع السلطة كلها في يده، وقالوا كيف يفعل هذا نصير للحرية، واستخرجوا من ذلك أن دفاعه عن الحرية لم يكن إلا زعما فحسب؛ بل وذهبوا إلى أكثر من هذا فرموه بالتبجح أو بالغفلة إذ يحل لنفسه من التعصب ما يحرم مثله على غيره فهو في منصبه يرد على مخالفي الحكومة، ويعنفهم ويسخر من آرائهم، وماذا يكون التعصب إن لم يكن فعله هذا تعصبا؟ ويزيدون على هذا انه إن جاز ذلك من ذي جهالة ضيق الأفق فهو لا يليق من رجل يزعم انه يتحلى بالأدب وينتسب إلى الفن. . .

وهذا كلام يشبه بادي الرأي أن يكون حقا، ولكنه لا يلبث عند رده إلى الواقع والاعتبار في أحكامه أن تتزايل عنه شبهة الحق؛ فأما عن التعصب في ذاته عيبا، بل إن التعصب للرأي محمدة ما دام يؤمن المرء بما يقول، ويشعر انه يدافع عن حق، والمعول هنا على نيته لا على خطئه أو صوابه، فإن لم يتبين حقيقة ما ينتوى فمدار الحكم على القضية المتنازع فيها، ويستحيل أن يخفى وجه الحق في قضية يتناولها متخاصمان يبذل كلاهما أقصى جهده في إثبات ما يحاول الأخر نفيه، أو نفي ما يعمل خصمه على إثباته. طالما إن الوقائع غير خافية، وكان الأمر أمر اعتبار وتدبر ورد إلى قواعد مقررة؛ فإن جهل الخصمان بعض الوقائع أو جهلاها كلها انتفى التدليس عنهما جميعا، وان غابت عن أحدهما كان الثاني هو المدلس، وان لم يمكن اتهامه بالتعصب حتى يتبين تدليسه؛ وإنما يكون التعصب مذمة إذا أصر المرء على رأيه وهو يعلم كما يعلم خصمه انه باطل. أو إذا تبين له وجه الحق فكبر عليه أن يرجع أليه وتمادى فيما انساق فيه أول الأمر بجهالة.

ص: 29

وكان ملتن يؤمن أن حكومة كرمول تنصر الحق والحرية فالدفاع عنها دفاع عنهما، ولا عبرة عنده بشكل الحكومة الاستبدادي، وقد تحقق له ما كن يتمناه من نتيجة، وطالما كان يؤمن ملتن دون أن يعميه غرض خاص بعدالة كرمول، وبعده عن المطامع الذاتية، وإباحته الحرية للناس فليس يعيبه أن يتعصب له، وإنما يلحقه العيب إذا تبين له تحرف كرمول عن الصواب في أمر وتحيزه لرأيه وظل على ولائه له؛ وما فعل ملتن شيئا من ذلك. بل لقد عارض كرمول، وأنكر من تصرفاته ما سيأتي بيانه في موضعه. . .

واتخذ ملتن أهبته للدفاع عن الحكومة في كل موقف تحتاج فيه إلى الدفاع، وكانت أول خطوة له في هذا المضمار الطويل ذي المسالك الوعرة ما كتبه بعنوان (ملاحظات) في صدد صلح كِلْكِنِي الذي عقده كرمول مع الأيرلنديين، فاخذ يمن عليهم ملتن بما يلقون من عدالة وتسامح ما كانوا ليظفروا بمثلها على يد شارل، وقد حسن وقع هذه الملاحظات في نفس كرمول، ونفوس أعضاء حكومته وأنصاره.

وكانت حكومة كرمول في اشد الحاجة إلى مثل هذا الثناء فهي في الواقع تستند إلى أقلية الشعب، وتعتمد في بقائها على الجيش المنتصر، وعلى شخصية كرمول الذي لقب حامي الجمهورية وان كان ملكا في حقيقة الأمر ينقصه التاج؛ وكانت أغلبية الشعب قد أسخطها القضاء على الملكية، وبات الناس يتوجسون خيفة من انفراد كرمول بالسلطة على هذا النحو دون البرلمان، واخذ البرسبتيرينز في داخل البلاد يكرهون هذه الحكومة إلى الناس خفيه، بينما كان الرأي العام في أوربا يعلن استنكاره وسخطه عليها. . .

وفي شهر أغسطس سنة 1649 نشر في الناس كتاب غفل من اسم مؤلفة عنوانه (أيكون باسِلَيِكْ - صورة جلالته المقدسة في عزلته وآلامه)؛ وتلقفت الأيدي هذا الكتاب، وكان الناس قد أحزنهم وآلمهم إعدام الملك على الرغم مما كان من طغيانه وعقد ألسنتهم الرعب والدهشة؛ وسرعان ما نفدت طبعته فأعيد طبعه وأعيد حتى لقد بلغ خمسين مرة في تلك السنة، وذهبت الظنون بالناس كل مذهب من يكون مؤلف هذا الكتاب، وشاع فيهم انه من وضع الملك نفسه كتبه قبيل إعدامه؛ وقد ادعى تأليفه فيما بعد أحد رجال الدين واسمه دكتور جودن وتقرب به إلى الملكية العائدة، وزعم انه اعتمد في تأليفه على مذكرات كتبها شارل بخطه في أخريات أيامه؛ وخلاصة الكتاب إن الملك ذهب ضحية العدوان والبطش

ص: 30

وقد ظل مؤمنا بربه صابرا حتى قتل مظلوما.

ومهما يكن من أمر تأليفه فقد ذاع الكتاب في الأمة على نحو لم يعرف الناس له شبيها من قبل، وهال الحكومة الأمر فتلفتت تبحث عمن يرد عنها هذه الموجة العاتية، وفكرت في أول الأمر في سِلْدِن وكان من اشهر رجال عصره مهارة وعلما، ولكنها اتجهت أخيرا إلى ملتن.

وما أهل أكتوبر حتى كان ملتن على الرغم مما كان يعاني من ضعف بصره قد رد بكتاب بلغ نيفا ومائتين وأربعين صفحة، سماه (أيكون اوكلاستسي) أي محطم الأيقون؛ وفيه استعراض ما جاء في ذلك الكتاب فصلا واخذ يفند كل رأي فيه ويسفه كل حجة في بلاغة وتحمس وتدفق على نحو ما فعل في خصوما ته وردوده السالفة. . .

وقد افتتح ملتن كتابه بقوله انه مما يجمل بالمرء أن يتعقب مساوئ رجل هوى من مثل تلك المنزلة العليا التي تبوأها شارل وبخاصة بعد أن دفع ثمن ما اقترف، ولكن كتابه على الرغم من هذه الفاتحة لم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما فعل شارل إلا أحصاها، ثم راح يعيب على هؤلاء الذين يمجدون ذكرى هذا الملك الذي صنع بحرية بلاده ما لم يصنعه في إنجلترا ملك قبله، ورأى إن الذين يفعلون ذلك إنما يبرهنون به على انهم غير جديرين بالحرية التي حاربوا من اجلها واخلق بهم أن يعودوا إلى الأغلال فمثلهم كمثل عدد من الوحوش الثائرة المقتتلة لا تسكن حتى تكبل أرجلها وتغل أعناقها، وتنم هذه اللهجة القاسية عن مقدار حنقه على من أحزنهم إعدام شارل، والكتاب في جملته وفي روحه العامة لا يعدو عن كونه مجادلة حزبية وخصومة جامحة لا كما تكون الخصومات في الرأي بين العلماء ولذلك فهو لا يشرف رجلا مثل ملتن إن لم يك كفيلا بان ينتقص من قدره. . .

من أجل هذا لا يسع المرء ألا أن يحس آسفا عميقا لانصرافه عن الشعر والفن فذلك ما خلق له، إما هذه الخصومات السياسية وما ينفق فيها من جهد ويحتمل من عناء فما اقلها عودا إلا على الذين طلبوها ليحتموا بها، وما أثقلها وأرذلها وقعا في نفوس الذين يقدرون ملتن حق قدره كشاعر، والذين تهفو قلوبهم إلى أمثال ما غنى من قبل من الحان بلغ بها ذروة الإجادة، وتجاوز بها أقصى ما بلغه شاعر من سحر الفن.

ويحلوا الخصوم ملتن أن يأخذوا عليه مأخذين يتصلان بالآداب والفن في كتاب أيكون

ص: 31

اوكلاستسي، فأما أولهما فقد نسبوا أليه انه تهكم على شارل أن جعل وليم شكسبير قرينه المقرب في عزلته آخر حياته، وأما ثاني المأخذين فقريب من الأول وخلاصته إن ملتن تزمت البيوريتانز خصوم الفن إذ يعيب على الملك انه اخذ فقرة من قصيدة اركاديا لسير فيليب سدني فجعل هذه الفقرة صلاته، ويرى انه مما يشين الملك أن يتخذ صلاته من قصيدة كهذه وان كانت لها في ذاتها قيمتها وبراعتها في ساعة عصيبة كالتي كان فيها، ويصف ملتن تلك القصيدة كأثر فني بأنها من قصائد الحب العابثة.

ويرى مارك باتيسون أن المأخذ الأول لا أساس له وإنما جرده إلى سوء الفهم، فما سخر ملتن من شارل وإنما كان يقتبس ملتن فقرة من مسرحية ريتشارد الثالث لشكسبير يوضح بها معنى يريده. فذكر في صدد ذلك انه لا يقتبس من كاتب ممن لا يحسن الملك مصاحبتهم، وإنما يقتبس ممن يعرف الجميع انه كان رفيقه المقرب في عزلته ألا وهو وليم شكسبير.

ولكن باتيسون لا يعفى ملتن من المآخذ الثاني، ويقول إن فيه شاهدا على أن مؤلف الأليجروا قد تأثرت الناحية الفنية فيه تأثرا غير قليل بما اندفع فيه من الخصومات الدينية والسياسية وألا فكيف يحقر قصيدة كهذه فينسبها إلى العبث واللهو.

وما كاد يستريح ملتن من عناء رده حتى وجد نفسه كما وجدت الحكومة نفسها تلقاء هجوم آخر لا يقل عنفا عن سالفة ويزيد عليه في سعة انتشاره، وما احدث في أوربا وفي إنجلترا من قوة الأثر وشدة الدوي، وقد انبعثت هذه الصيحة من هولندا هذه المرة في كتاب ألفه باللاتينية علم من أعلام الأدب الأفذاذ هو الأستاذ سلامسيس أحد رجال جامعة ليدن وجعل عنوانه:(دفاع عن الملك شارل الأول).

وبيان ذلك أن شارل الثاني كان يعيش في مدينة هيج، وكان على مقربة منه سلامسيس في جامعة ليدن، وكان هذا الأستاذ اقدر معاصريه على الكتابة باللاتينية لغة العالم يومئذ كما هو الحال في الفرنسية اليوم، فاستعانة شارل ليدافع عن أبيه، وقبل سلامسيس ذلك عن طيب خاطر لأنه كره إعدام الملك في إنجلترا كرها شديدا.

وكان الأدباء القادرون على الكتابة، وعلى الأخص كتابة اللاتينية عدة الملوك والأمراء وذوي المكانة في ذلك القرن، وكان لبضاعتهم سوق يعظم فيه الربح، وكان لهم قدرهم

ص: 32

وعظيم خطرهم لا عند الجمهور ولكن عند الحكام. فبهم يجتذب الرأي العام ولأقلامهم المشروعة مثل ما للسيوف من اثر أو كانت ابعد من ذلك شانا، وكان المتبع أن يستأجر الحكام هؤلاء الكتاب ليصنعوا ما تصنع الصحافة اليوم من دفاع وتهيئة للأذهان، ونشر لما يراد نشره من الآراء.

وكان سلامسيس قمة من القمم الشوامخ تتنازعه الجامعات والعواصم ويحب البابا أن يستأثر به فيبقيه عنده في روما، بينما يعمل الملوك على إغرائه بزيارتهم والإقامة عندهم، وكان هذا الرجل واسع الأفق، قلما وجد ند له فيما قرأ ودرس من الكتب؛ لذلك كانت استجابته لشارل الثاني كسبا عظيما لهذا الذي يهمه الدفاع عن أبيه، وقد كتب دفاعه ولم يأخذ عليه أجرا كما يرجح أكثر المؤرخين، ونستطيع أن نتصور مبلغ ما أحدثه كتاب مثل كتابه من أثر في إنجلترا وفي أوربا، كما نستطيع أن نتصور فداحة العبء الذي ألقي على عاتق ملتن وان المرض ليخترم جسمه يومئذ وإن العمى ليتهدد ناظريه.

وصل كتاب سلامسيس إنجلترا في أواخر سنة 1649، وسرعان ما اصدر مجلس الدولة قرارا يحرم تداوله، وفي يناير سنة 1650 انتدب ملتن ليكتب ردا على هذا الكتاب فما أهل شهر مارس حتى نشر ملتن، وهو لا يقوى على فتح عينيه كتابا عنوانه (دفاع عن الشعب الإنجليزي)، وقد ازدادت بهذا الكتاب شهرة ملتن في أوربا جميعا وعظم قدره في الأوساط الأدبية كلها، وكانت دهشة الناس من شجاعته أكثر من إعجابهم بوطنيته فانه لم يحجم عن منازلة ذلك المارد الأوربي سلامسيس، وان يجعل عدته اللاتينية، وقد حسب خصمه إن لن يقدر عليه أحد، فإذا به حيال قوة لا ريب فيها، وفصاحة لا يستطيع أن ينكرها إلا الجاحدون.

احتشد ملتن لكتابه وبذل قصارى جهده على الرغم من إلحاح العلة عليه وطغيان الغشاوة على ناظريه، ليظهر لأوربا انه أعلى من سلامسيس في اللاتينية كعبا وأطول منه باعا؛ ولقد بلغ في كثير من مواضع الكتاب غاية ما تمنى، ولكنه كان في مواضع أخرى كالمغنى الذي يكلف نفسه ما لا تطيق ليأتي بخير ما عنده، فما يعود من ذلك الجهد إلا بانقطاع نفسه واحتباس صوته؛ ولقد وجد ملتن في الرد على سلامسيس العظيم فرصة يلفت فيها أوربا إلى مقدرته ويقنعها بضلاعته وتمكنه واتساع أفق ثقافته، لذلك أسرف في التحمس وبالغ في

ص: 33

سوق العبارات الضخمة وتأنق وتعمق وتعالى وحلق، وكان في بعض المواطن إلى الخطيب الذي نسى نفسه اقرب منه إلى الكاتب الذي حذق فنه.

على أن ما بذل من طاقة في هذا السبيل قد سبب له كثيرا من الضعف في نواحي القياس والبرهان والاستيعاب والشمول والإحاطة بموضوع الدفاع وحسن ترتيبه وتسلسل سياقه؛ هذا إلى أن اهتمامه بأطهار عيوب سلامسيس وتصيد أخطائه وتعقب متناقضاته والسخرية منه قد صرفه كثيراً عن غايته، ثم إن توجيه المطاعن الشخصية إلى خصمه وإسرافه في ذلك إلى مدى من الفحش بعيد البس كتابه كثيرا من السخف والحق به غير قليل من الفسولة.

ولم يعف ملتن شارل الأول في هذا الكتاب كذلك من التحقير والإهانة وهو في لحده، فشبهه بنيرون طاغية روما، ونسب إليه كثيرا من الفجور والفسوق واتهمه بتهمة نكراء هي دسه السم لأبيه، إلى غير ذلك مما يبعد كل البعد عن اللياقة. . .

وأنكر ملتن ما ادعاه الملوك لأنفسهم من حق الهي، فليس يستند هذا الزعم إلى أساس معقول، ولا هو مما يتفق مع ما يتصف به الله من عدالة وحكمة، فالله عدو الظلم ونصير الحرية، وهو يحب الأحرار من عباده ويرفع منزلتهم؛ وقد جاء المسيح لنصرة الحرية، وإلا فهل يرضى الله أن تقوم الحكومات لتكون كل منها أداة للطغيان، وكيف يقبل أن يفرض على الناس طاعة هذه الحكومات ويقر خضوعهم للظلم والبطش؟ وما فعل الشعب الإنجليزي أكثر من ثورته على الطغيان وتقريره مبادئ الحرية ليعيش الناس في كنف هذه المبادئ آمنين مطمئنين لا يأتيهم الخوف من أي مكان. .

ويمجد ملتن حكومة كرمول وما فعلت في سبيل الحرية وما ظفرت به من نصر لن يظفر بمثله إلا الأنجاد الميامين أولو العزم والبطولة، ولكنه يصارحها انه لا يزال أمامها ما يقتضيها جهودا وبطولة ليست اقل مما بذلت، فعليها أن تقضي على ما يتهدد كيان البلاد من المساوئ الداخلية كالجشع والطمع وأنانية ذوي الثراء وبغيهم، حتى يتمتع بالسلام والأمن في كنف الحرية؛ وتنطوي عباراته هذه على شئ من الوعيد يتهدد به خصوم الحكومة من طرف خفي، فقد كان ملتن ضيق العطن بهؤلاء الخصوم شديدا عليهم يتمنى لو ابتلعتهم الأرض وسعيهم وما يمكرون!

ص: 34

وسخر ملتن من شارل الثاني وسماه شارل الصغير وبالغ في تحقير دعوته سلامسيس للدفاع عن أبيه ونعت من التفوا حوله بأنهم حفنة من الصعاليك يتصايحون ولاهم لهم إلا التصايح والعواء.

إما ما قذف به سلامسيس من مطاعن، فقد تجاوز في ذلك كل حد، فلم يتورع عن شئ مما يمس العرض والشرف، ونال بسهامه زوجته وسخر منها كما سخر من زوجها ووصفه بأنه مطية لهذه الزوجة التي تملك زمامه فلا يملك لنفسه بين يديها ضرا ولا نفعا؛ هذا إلى ما رماه به من الجهل والغباء والغرور والادعاء والحمق والعبودية وما أليها من ألفاظ السباب ومرادفاتها مما نعجب كيف تسنى أن يصدر مثله من رجل كملتن فضلا عن أن يعد هذا دفاعا عن قضيته، ولكنها فيما يبدو طريقة ذلك العصر وأسلوبه في الجدل والخصام. . .

وبلغ الغضب كل مبلغ بسلامسيس، ونال من نفسه فرح حاسديه لما أصابه أكثر مما نالت مطاعن ملتن، فقد اشمت ملتن به الأعداء وأضحكهم منه، وكان يبالغ هؤلاء الحاسدون في إعناته فيثنون على ملتن ويعجبون بعبقريته وضلاعته في اللاتينية وآدابها، وانبرى فريق من محبيه يسفهون هؤلاء ويوجهون المطاعن إلى ملتن؛ وبرز لهؤلاء أنصار ملتن فكالوهم صاعا بصاع، وهكذا تشعبت المعركة إلى معارك حتى كاد ينسى الدفاع عن شارل والدفاع عن الشعب الإنجليزي.

ونفّس سلامسيس عن نفسه بكتاب ثان بلغ ثلاثمائة صفحة ولكنه مات سنة 1654، ولم ينشر كتابه إلا سنة 1660 بعد عودة الملكية إلى إنجلترا، وقد نسى الناس هذا الموضوع، ومن شاء إن يقف على مبلغ حنق سلامسيس على خصمه، فليقرأ ما جاء في هذا الكتاب من مطاعن، فقد كال لملتن بنفس كيله فهو عنده الأحمق المفتون الذي يظن في نفسه الملاحة، وما هو إلا وحش قذر، وان خير ما يجب أن يصنع به هو أن يشنق على أعلى مشنقة ثم يوضع رأسه فوق برج لندن، وأباح سلامسيس لنفسه أن يعير ملتن بما أصابه من عمى كأنما هو أمر يدخل في مسئوليته، ومما قاله في هذا الصدد نعته ملتن بأنه الرجل الذي لم تكن له بصيرة، حتى فقد بصره كذلك، وان من اقبح الأمور وأرذلها أن يعيب المرء على خصمه عاهة لحقته ولا يد له فيها وليس وراء ذلك سخف فيما نعتقد، وما نظن إلا أن سلامسيس قد مسه الخبل من فرط ما ملأه من غيظ فطوعت له نفسه أن يقول هذا

ص: 35

الكلام، وهكذا احتدمت الخصومة بين الرجلين حتى قال هوبز: انه عاجز عن أن يقطع أيهما كان احسن لغة وأيهما كان أسوأ جدلا؛ ويرى دكتور جونسون على الرغم من شدة وطأته، إذ ينقد ملتن انه كان ابلغ من سلامسيس. ويرى مثل هذا الرأي مارك باتيسون، ويزيد عليه أن ملتن كان أقوى فهما وارجح عقلا من خصمه وان كان على سعة اطلاعه اقل منه قراءة ومعرفة بالكتب. . .

وقد مات سلامسيس بعد رد ملتن عليه بنحو ثلاث سنوات، ومع ذلك فقد أذاع أنصار ملتن ومنهم ابن أخته انه مات كمدا، ومن اعجب الأمور وادعاها إلى الأسف أن يقر ملتن هذا الزعم ويجعله من دواعي فخره، وأنها لسقطة تحسب على الشاعر العظيم، وكم نود لو أن تاريخه قد خلا منها، فهي لا تقل عن سقطة خصمه، إذ عيره بفقد ناظريه. . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 36

‌بريطانيا وممتلكاتها الحرة

للأستاذ عبد الفتاح البارودي

لا تزال شركات الأنباء العالمية توافينا بآراء غريبة لساسة البلدان التي تسمى ممتلكات بريطانيا الحرة حول المسائل السياسية الكبرى. ووجه الغرابة - ولو في إذهابنا وتصوراتنا - هو أن وجهة نظرهم لا تتقيد مطلقا بوجهة نظر ساسة إنجلترا ذاتها، أي قد تختلف معها، وهذا مما قد يتنافى منطقيا مع مجرد تبعيتها لها. لذلك يبدو من المهم لنا ونحن في فترة نضج سياسي أن نلقى بعض الضوء على النظام البرلماني في الإمبراطورية البريطانية من هذه الناحية:

من المصطلح عليه أن النظام البرلماني البريطاني من أكثر نظم الحكم السائدة الآن نجاحا بدليل انه في خلال الثلاثة قرون الأخيرة لم يحدث أي انقلاب برلماني في الإمبراطورية الشاسعة الأرجاء، بينما حدثت انقلابات كثيرة، بل ثورات دموية أحيانا في كثير من أقطار العالم، ومن بينها أقطار صغيرة المساحة والممتلكات والشعوب. ولا شك إن معظم هذا النجاح راجع إلى الصلات السليمة الوثيقة بين بريطانيا وممتلكاتها الحرة لسببين بسيطين:

الأول: إن شعوب هذه الممتلكات تمت غالبا إلى اصل بريطاني، ولذا تهدف بالفطرة لغرض واحد هو الصالح الإمبراطوري العام.

والثاني: أن إنجلترا تفهم معنى الحرية الرأي بين شعوبها، فأتاحت لها حكومات نيابية لا تقل قوة وقيمة وممارسة عن حكومة الدولة، وتشرف عليها جمعيات عمومية منتخبة على هيئة برلمانات تشبه مجلس العموم كذلك، وتقوم بأعمال مماثلة لأعماله ولها وسائلها الخاصة وأغراضها وذاتيتها المستقلة عنه، ولا ترتبط معه إلا بعلاقات استشارية متبادلة.

غاية ما في الأمر أن هذه العلاقات وطيدة ومحترمة، واهم من ذلك انهم يعملون جميعا على رعايتها وصيانتها وتنميتها بإخلاص لا حد له.

وليس أدل على ذلك من انهم - تحقيقا لهذا - انشئوا لجنة دائمة تمثل كل أطراف المملكة المتحدة اسمها الجمعية البرلمانية الإمبراطورية تسير طبقا للائحة عامة وهي المرجع الوحيد لكل ما يتصل بالممتلكات الحرة. ومن الغريب أن هذه اللائحة التي تنظم الروابط بين وحدات الإمبراطورية ليس لديها القوة التنفيذية التي تجبر أي وحدة منها على

ص: 37

عدم الانفصال عن الإمبراطورية إذا رغبت في ذلك! ومع هذا لم تتولد مثل هذه الرغبة بشكل جدي حاسم في أي جزء من الأجزاء، لا لشيء إلا لأن اللائحة أولا تتجنب كل ما يتعارض مع مبدأ المساواة التامة بين الجميع. وثانيا توجه المجموعة بأكملها توجيها عاما مركزا حول الضرورات فقط، ولا شأن لها بالتفاصيل التي قد يتشعب منها خلاف ما. وهذا هو السبب في أن كل جزء من أجزاء الممتلكات الحرة يخضع لنفوذ هيئة خاصة به تدير شؤونه وحدها كاتحاد أمريكا الشمالية في كندا والاتحاد الأسترالي العام في استراليا، وهكذا في جنوب أفريقيا ونيوزيلندة أكثر من هذا، فإنه عند وضع (اللائحة) أصرت كل وحدة على إثبات رغبتها في الاحتفاظ دائما بحقوقها كقوة خارجية تكاد تكون أجنبية لا يربطها بالتاج ألا حق الولاء. وآذن لا نستغرب حين نعلم إن كل ما يربط بين نيوزيلندة وبين الإمبراطورية مثلا اتفاقية تسمى لتنظيم الملاحة التجارية لا غير. وهكذا في سائر الأجزاء، لكل جزء رابطة خاصة به على حدة.

ويحسن هنا أن ننوه بأن كثيرا من البريطانيين حاولوا إدماج هذه المجموعات في (بريطانيا ألام)، أو ما يطلقون عليه وكانت أهم محاولة عملية في عام 1910 عندما ألقى المستر إمري محاضرة خاصة بذلك على مسمع من ممثلي الجمعية الإمبراطورية الملكية ودعا إلى الاتحاد الشامل من جميع الوجوه، وانتهز فرصة حفلات التتويج التي كانت تقام في ذاك الحين، وطالب بتمثيل البرلمانات الحرة فيها تمثيلا له صبغة رسمية، وفعلا حظيت دعوته بنجاح يذكر كان من نتائجه عقب ذلك إنشاء لجنة تنسيق خاصة ظلت تعمل على تسهيل الاتصالات وتقريب وجهات النظر بدرجة محسوسة النفع.

وبعد الحرب الكوكبية 1914 - 1918 نمت الدعوة نموا كبيرا إلى أن عقد لتنسيقها أول مؤتمر للممتلكات الحرة فيما وراء البحار في مقر اتحاد جنوب أفريقيا عام 1924. ثم عقدت بعد ذلك عدة مؤتمرات في مختلف أنحاء الإمبراطورية ، وأسفرت عن اتفاقيات ذات قيمة كاتفاقيات (إتاوة) المعروفة باسمها

ولكن يظهر أن فكرة الاتحاد التام قد وصلت عند هذا الحد إلى نهايتها القصوى، أي دون أن يحدث الاندماج المنشود، بل بقيت كل الممتلكات الحرة محافظة تماما على استقلالها التقليدي، وان كانت وجهات النظر قد وضحت وتقاربت تقاربا يضمن عدم الانفصال

ص: 38

ويضمن حتى عدم احتماله.

هذه هي على وجه الإجمال علاقة بريطانيا بممتلكاتها الحرة، وهي علاقة يمكن اعتبارها انفصالية بمقدار ما هي اتصالية، ومع هذا يتبادلون الرأي بإخلاص وثقة فيما يتعلق بمصالحهم المشتركة ويعملون معا وقبل كل شئ على صيانة الإمبراطورية.

عجيب جدا هذا النظام، واعجب منه نجاحه الرائع. ولعله لا عجب إلا في أدمغتنا المتأثرة بشر أنواع الحزبية والفردية في الشرق المنكود.

وليس معنى ذلك انه نظام مثالي لا وجه لنقده. . . فلكم تعرض في إنجلترا ذاتها لمهاجمات كثير من المفكرين أمثال (كارليل الذي كان يتساءل متهكما عما إذا كان من المستطاع تصوره عقلا إن حوالي 600 إنسان مهما بلغوا من الحكمة والحنكة والخبرة يمكنهم وحدهم أن يحكموا ويتحكموا في أكبر إمبراطورية بنزاهة وعدم انحراف!

غير إن الواقع الذي لا تجدي فيه المكابرة قد اثبت نجاح هذا النظام نجاحا يعتبر نموذجيا إذا قيس بفشل معظم النظم الأخرى وانهيارها، حتى في البلاد التي أحكمت وضعها وتطبيقها كألمانيا وإيطاليا وغيرهما.

عبد الفتاح البارودي

ص: 39

‌مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

للأستاذ خليل جمعة الطوال

- 4 -

دعوى باطلة:

ويظن بعض المتدلين من المتعصبين على العرب انه لم يكن للمسلمين من فضل على الحضارة إلا ما كان من حفظهم للثقافة اليونانية. فهم لذلك حفظة أكثر منهم مبتكرين؛ والفساد في هذا الظن ظاهر كل الظهور. فإن المسلمين وان نقلوا الكتب اليونانية، وحفظوا الثقافة الإغريقية من الضياع حتى تسلمتها منهم أوربا في العصور المتأخرة الحديثة، واعتمدوها في بناء ثقافتهم؛ فقد كان لهم إلى جانب ذلك كله مناح ثقافية خاصة بهم، لم يعتمدوها بها على غيرهم، وهم من ناحية ما انشئوا وابتكروا قد عجلوا في سير الحضارة الأوربية الحاضرة. حتى لقد قال فيهم برناردشو:(لو لم يكن المسلمون في التاريخ لتأخرت الحضارة عدة قرون، ولما قطعت هذا الشوط العظيم إلا بعد أجيال طويلة والحق في هذا القول بين جلي؛ فقد اتصل الأوربيون بالمسلمين في الأندلس اتصالا عظيما، وتتلمذوا على فلاسفتهم وعلمائهم؛ وتأثروا بأساليبهم الفكرية إلى حد كبير، حتى إن (ريموند) الذي كان مطرانا لطليطلة قد أسس في القرن الثاني عشر جمعية لنقل أهم الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللغة اللاتينية وما زالت جامعات باريس حتى اليوم تدرس تلامذتها وطلابها منطق أسطو المترجم من العربية إلى اللاتينية، وتعتمد إلى حد كبير على شروح العرب وتعاليمهم على جميع الكتب الفلسفية الهامة التي ترجموها، ولقد كان فردريك الثاني يعرف اللغة العربية فاطلع لذلك على الفلسفة العربية في مصادرها الأصلية، وبلغ به حد التعجب بفلاسفة المسلمين أن انشأ سنة 1224 مجمعا في نابولي لنقل العلوم العربية والفلسفة العربية إلى اللاتينية والعبرية ليطلع عليها جمهور المثقفين في أوربا وبأمره أيضاً سافر ميخائيل سكوت إلى طليطلة وترجم شروح ابن رشد على أرسطو.

(وما كاد ينتهي القرن الثالث عشر إلا وجميع كتب هذا الفيلسوف المشهور قد ترجمت إلى اللاتينية، وقبل ذلك بقليل: كانت قد نقلت إلى اللاتينية جمهرة من كتب ابن سينا لتدرس في

ص: 40

باريس. ومما لا مريه فيه أن قادة الفكر الأوربي الذين قاموا بحركة الثورة الفكرية العظيمة قد تأثروا بهذه الكتب تأثرا عظيما، واستفادوا منها مادة جزلة، وتدل التحقيقات الهامة أن روجر بيكون قد تثقف بالثقافة الأندلسية الإسلامية، ودرس فلسفة ابن رشد واعتمد ابن الهيثم في تأليف كتابه (البصريات).

وسنحاول في الفقرات التالية إن نبين مواطن الابتكار في الثقافة الإسلامية في كل مبحث من بحوث العلم. فذلك اقرب إلى الإقناع، وأوضح حجة في دفع مفتريات الخصوم.

في علم الرياضيات والفلك:

لقد أدى العرب إلى العلوم الرياضية خدمات جلى ليس من ينكرها إلا أن يكون مجانفا للحق. فهم الذين وضعوا أساس حساب المثلثات، ولولا العرب لبقى علم الجبر مجهولا في العالم الأوربي؛ إذ وضعوا مبادئه وأقاموا أساسه، وما تزال بحوثهم فيه حتى اليوم هي القاعدة الأساسية التي قام عليها، وما زال الأوربيون حتى ألان يعتمدون تأليف الخوارزمي الجليلة في العلوم الرياضية إلى حد كبير، ولقد عدل العرب كثيرا من كتب اليونان الهندسية والحسابية؛ ولم يكتفوا في ترجمتها بمجرد النقل الحرفي، بل انهم علقوا عليها شروحا إضافية قيمة، وما زال (الصفر) و (الكسور العشرية) و (نظرية الأسس) تحمل طابع العبقرية الإسلامية، وتشهد بطول باعهم في الابتكار والإبداع، ومهما يفاخر الغربيون بعلمائهم؛ فلن يجدوا فيهم من يدانى الكندي بغزارة علمه وكثرة بحوثه. فقد ألف هذا العالم الجليل ما يناهز المائتين والثلاثين (230) كتابا في مختلف البحوث الرياضية، والطبيعية، والهندسية. يقول سيديليو:(إن مؤلفات الكندي تصطبغ بطابع العبقرية العجيبة)، وقد عده (كاردانو الإيطالي) من اشهر عباقرة العالم المشهورين.

ولقد جمع العرب بين مختلف العلوم الرياضية، واحسنوا تبويبها تبويبا علميا صحيحا، وطبقوا الهندسة على المنطق، واعترف بفضلهم على الجبر العالم المشهور (كاجوري) فقال:(إن العقل ليحار حيال مآثر العرب في الجبر. . . وان حل المعادلات التكعيبية بواسطة قطع المخروط لمن اعظم الأعمال التي قام بها العرب. . .).

ويعد ابن البناء المراكشي في الطراز الأول من مفكري العالم الرياضيين. فقد ألف أكثر من ثمانين كتابا في الرياضيات وعلم الهيئة، وقد شهد بفضله معظم علماء أوروبا وخاصة

ص: 41

(لالاند) و (سارطون)، ومن كتبه المشهورة كتاب:(الحصار الصغير) و (رفع الحجاب)، وقد ظلت أوروبا حتى نهاية القرن السادس عشر تدرس كتابه (تلخيص أعمال الحساب) في مدارسها، وقد حاز هذا الكتاب أيضاً اهتمام العلماء في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ ويقول فيه سارطون:(انه من افضل الكتب التي وضعت في الحساب)، وقد بحث فيه الجذور الصماء والكسور المتسلسلة بحثا وفيا، وجعل العقل يقرب من فهمها بعد أن كانت عليه طلاسم وألغازا. ومن مشاهير العرب أيضاً (البيروني) وقد شهد بنبوغه وتفوقه العالم الألماني (شاد) فقال:(إن البيروني اعظم عقلية عرفها التاريخ).

وأما في تاريخ علم الهيئة والفلك فللعرب فيه صفحة مشرقة وأثار جليلة. يقول لامبرو: (أننا إذا أحصينا راصدين أو ثلاثة من الروم رحنا نعد الكثيرين من العرب في هذا الفن) وأول من اعتنى من الخلفاء بهذا العلم الجليل وحض الناس عليه هو أبو جعفر المنصور.

قال الأستاذ نللينو: (وما اقتصر الخليفة المنصور على مجرد أحكام النجوم؛ بل انه منذ تأسيس بغداد بسنين قليلة قد بادر إلى إحياء علم الهيئة المحض)، وبلغ من شغف المنصور بهذا العلم أن كان يصطحب معه دائما المنجم الفارسي المشهور (نوبخت) واشتهر في زمنه المنجم الذائع الصيت (ما شاء الله) الذي ألف في الإسطرلاب ودائرته النحاسية (وأحمد بن محمد ألنهاوندي) صاحب الزيج (المستقبل)، وفي زمن المأمون اشتهر يحيى بن أبي منصور صاحب الزيج المشهور، وعلي بن عيسى، وعلي بن البحتري وفي زمنه أيضاً أصلحت غلطات المجسطي لبطليموس، أنشئ أول مرصد على جبل قيون في دمشق، وأخر في الشماسية في بغداد.

ومن علماء الفلك العرب المشهورين: ثابت بن قره، والمهاني والبلخى، وحنين بن اسحق، والعبادي، والبتاني الذي عده (لالاند) من العشرين فلكيا المشهورين في العالم؛ ولو شئنا أن نحصي جميع علماء العرب الفلكيين لضاق بنا المقام، وطال بنا الحديث، وليست هذه الكلمة العجلى بالتي تتسع لذلك.

والعرب أول من أوجد بطريقة علمية صحيحة طول درجة من خط نصف النهار، وأول من عرف كيفية الرسم على سطح الكرة وقالوا بكروية الأرض واستدارتها وبدورانها على محورها بعد أن كان يظن أنها منبسطة وثابتة، وقد استطاعوا بفضل ما كان لديهم من

ص: 42

الأدوات أن يحققوا طول محيط الأرض ومقدار ارتفاع القطب، ودورة كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر كما حققوا أيضاً طول البحر المتوسط الذي حققه بطليموس بـ12 درجة فأرجعوه إلى 54 أولا ثم إلى 42 أي إلى مقداره الصحيح تقريبا، وعملوا الازياج الدقيقة والعظيمة النفع، كما ضبطوا حركة أوج الشمس، وتداخل فلك هذا الكوكب في داخل أفلاك أخر، واكتشفوا بعض أنواع الخلل في حركة القمر واخترعوا الإسطرلاب والمربع ذا الثقب، ورسموا خرائط للنجوم المنظورة مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية، ووضعوا جداول للجاذبية النوعية وعرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة وقرروا طول السنة وعرفوا الاعتدالين وسبقوا غيرهم إلى اختراع (الموار) واستعمال الساعة الرقاصة، وحسب ألبتاني الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية، وميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجده 23 درجة و35 دقيقة، ودقق في حساب طول السنة الشمسية وفي حساب أهليليجية فلك الشمس، فاستطاع أن يجد بعد الشمس عن مركز الأرض في بعديها الأبعد والأقرب، وحقق مواقع كثير من النجوم، وقال بعض علماء العرب بانتقال نقطة الرأس والذنب للأرض، ورصد الاعتدالين الربيعي والخريفي، وكتبوا عن كلف الشمس، وأوحت بحوثهم في علم الفلك إلى كبلر أن يكتشف الحكم الأول من أحكامه الثلاثة الشهيرة وهي اهليليجية أفلاك السيارات وبالجملة (فقد طهروا هذا العلم من ادرأن المنجمين والخزعبلات وأرجعوه إلى ما تركه علماء اليونان علما رياضيا مبنيا على الرصد والحساب والفروض التي تعلل الظواهر والحركات الفلكية).

(يتبع)

خليل جمعة الطوال

ص: 43

‌البريد الأدبي

لا غير:

إلى الأستاذ الشيخ عبد الرحمن القلهود في طرابلس الغرب. إذا لحن إمامان (لاغير) - ودع علة التلحين - فقد غنى به وأجازه أئمة سميت طائفة منهم في تلك (الجريدة) الطويلة وسردت مقالاتهم.

وإذا لم أجد نصا عربيا قديما تطمئن النفس إليه كل الاطمئنان فقد اطلع أولئك الإثبات الثقاة على ما لم اطلع عليه أو رأوا - وكل واحد منهم أكبر من (مجمع لغوي) رجاله أربعون أو مائة - رأوا أن يقولوا فقالوا. وفي هذا اللسان القوي الجريء المتقدم السائر مع الزمان ألوف من الكلمات والتراكيب المولدة. وأبناء العرب عرب وان غير الدهر والبيئة سحنتهم. . . وتلحين الإمامين (السيرافي وابن هشام) أورده صاحب التاج ثم قال:

(. . . فلا يكون - يعني لا غير - لحنا، وهو الصواب الذي نقلوه في كتب العربية وحققوه).

وبعد فها هو ذا الأمام ابن الحريري الذي اعتاد - سامحه الله - تخطئة الصحيح يقول في (الدرة) ص 15: (ويقولون اجتمع فلان مع فلان فيوهمون فيه، والصواب أن يقال اجتمع فلان وفلان، لان لفظة اجتمع على وزن افتعل، وهذا النوع من وجوه افتعل مثل اختصم واقتتل، وما كان أيضاً على وزن تفاعل مثل تخاصم وتجادل يقتضي وقوع الفعل من أكثر من واحد، فمتى اسند الفعل منه إلى أحد الفاعلين لزم إن يعطف عليه الأخر بالواو لا غير).

وروي الإمام الرازي في (مفاتيح الغيب) ج4ص424 عند تفسير القول الكريم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا اله إلا هو، سبحانه عما يشركون) هذه الفائدة:

(قال أبو عبيده: الأحبار الفقهاء، واختلفوا في واحدة فبعضهم يقول حبر، وقال الأصمعي: لا ادري اهو الحبر أو الحبر، وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير، وينكر الكسر، وكان الليث وابن السكيت يقولان: حبر وحبر للعالم ذميا كان أو مسلما بعد أن يكون من أهل الكتاب).

ص: 44

وفي آمالي الأمام القالي ج3ص142:

(إبراهيم بن عثمان العذري وكان ينزل الكوفة قال: رأيت عمر بن ميسرة وكان كهيئة الخيال، كأنه صبغ بالورس، لا يكاد يكلم أحدا ولا يجالسه، وكانوا يرون انه عاشق، فكانوا يسألونه عن علته فيقول:

يسائلني ذو اللب عن طول علتي

وما أنا بالمبدي لذي اللب علتي

سأكتمها صبرا على حر جمرها

واسترها إذ كان في الستر راحتي

صبرت على دائي احتسابا ورغبة

ولم اك أحدوثات أهلي وخلتي

فما اظهر أمره، ولا علم أحد بقصته حتى حضره الموت، فقال: إن العلة التي كانت بي من اجل فلانة ابنة عمي، والله ما حجبني عنها، والزمني الضر إلا خوف الله عز وجل لا غير، فمن بلى في هذه الدنيا بشيء فلا يكن أحد أوثق بسره من نفسه، ولولا إن الموت نازل بي الساعة ما حدثتكم، فأقرئوها مني السلام، ومات من ساعته.

واختتم هذه الأسطر بالثناء على أدب الأستاذ القلهود وشكره على حسن ظنه بهذا الضعيف وسؤال حضرته للاستفادة من فضلها عن هذه الفاء في جواب الشرط في هذه الجملة: (وأنها إن اقتنعت أمثالي من المقلدين فلم تقنع أمثال السيرافي وابن هشام من زعماء النحو المجتهدين) وعن معنى هذه الجملة: (فيا حبذا لو أن الأستاذ أعاد الكرة واستظهر دواوين العرب ورسائلهم فربما يعثر فيها على شواهد أخرى) وعن ورود مثل هذا التركيب (فيا حبذا لو أن الأمر كذا وكذا) في كلام قديم أو مولد متقدم أو متأخر.

قد ذكرتني (حبذا) بقول الشاعر:

يا حبذا جبل الريان من جبل

وحبذا ساكن الريان من كانا

محمد إسعاف النشاشبي

إلى الأستاذ علي الطنطاوي:

أشكر لك أيها الكاتب الألمعي ما وجهته آلي من لطيق كلماتك، واراني مضطرا إلى أن ارجع إلى أسلوب الأستاذ الخولي - وان كان المقال الثالث عند صاحب الرسالة وأظنه ينشر في هذا العدد - أعود إلى أسلوبه لتعلم أنت وليعلم قراء (الرسالة) إني ما تجنيت، وما

ص: 45

كان لي أن أتجنى، بل حرصت الحرص كله على توخي الأمانة والدقة فلم أزد حرفا على كلماته، وإنما نقلتها بنصها وفصها كما يقولون.

وإذا كنت تستبعد أن يتوهم الأستاذ إن الله سبحانه وتعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم (يا أخي) فاعلم إن الله - في لسان الشيخ - قال لعيسى عليه السلام (يا سيدي) واليك نص عباراته (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) هذه الآية وما قبلها وما بعدها تدور على شكل حوار خيالي بين عيسى وبين الله سبحانه وتعالى. المقصود بهذا الكلام من يعتقدون بألوهية المسيح وكان المسالة هكذا: انتم تعتقدون إن المسيح اله وتعبدونه فمن أمركم بذلك؟ هذا هو عيسى. أأنت قلت للناس انك إله؟! أبدا لم اقل لهم ذلك. طيب قولهم يا سيدي إياك ينكسفوا).

ولعل أهون من ذلك شرحه لكلام سيدنا أبي بكر بعد وفاة رسول الله، وما كان من قراءته آية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) قال الأستاذ (وكان أبو بكر يريد أن يقول: يا سي عمر الدنيا بخير، والأمانة لا تزال في أعناق الموجودين ومحمد يموت زيه زي غيره).

ولعل مما يؤسف ويمض ألا يخلو فصل من هذه المذكرات من عبارة أو عبارات عامية ركيكة كأن من الحتم لإفهام طلاب الجامعة اللجوء إلى اللغة العامية، وأني لأعرف أن إدارة الأزهر حظرت على المدرسين إلقاء الدروس باللغة العامية، ومازال التفتيش في الأزهر بعد هذا من اقبح عيوب المدرس.

على أني - يا صاحب القلم الفاضل - أطلعتك واطلعت قراء (الرسالة) على عامية مبكية لأنها تتصل بكتاب الله واحب أن أطلعك على عامية مضحكة، يقول الأستاذ ممهدا للكلام في الفصل والوصل:(تقول للخادم مثلا خد تعريفه، وهات بنكلة شقة عيش وبمليم كرات وبمليم سلطة قوطة وبمليم طعمية بل أكثر من هذا تعد له على أصابعك ليفهم هذه الأشياء، وان كنت حدء (يريد حدق يعني متنبهيها) تقول هات العيش الأول لأنه حايقابل بتاع العيش أول ما يخرج وبعدين تحود على شمالك تلاقي بتاع الطعمية هات منه بمليم سلطة، وبمليم طعمية، وهكذا تسرد الحوادث، وتشير إليها في كلامك فمن الجائز أن تراعى القرابات والمناسبات إذا كان حدء. فإذا كان بتاع الكرات فريح (يريد بجانب) بتاع الطعمية

ص: 46

يقوم يذكره بعده على طول علشان الواد ما ينساش. . وهكذا).

وأني لاعتذر إلى صاحب (الرسالة) من نشر مثل هذه التفاهات في مجلته، غير إن الانتصاف للغتنا العربية يدعونا إلى ذلك.

وليس شينا - كما أشرت إلى ذلك في مقالي السابق - أن يأمر الأستاذ طلبته عند المراجعة أن يمروا بالقلم على بعض هذا فأنَّا نعيب عليه أولا أن تدرس البلاغة العربية بهذا الأسلوب وثانيا أن يدون مثل هذا في مذكرات، ومعروف إن طلبة الجامعة يدونون مذكراتهم مما يلقفونه من أفواه أساتذتهم.

أما عن ظرف الفقهاء فأني قد ذكرت حينذاك أنني إنما اذكر نماذج ولا أريد الاستقصاء والحق إن الاستقصاء يحتاج إلى زمن طويل والى مجهود قد لا تسمح به شواغل الدرس، وحسبك أن تقرأ كتابي الأغاني ونفح الطيب لترى فيهما كل طريفة مستحبة من ملح علمائنا وفقهائنا، وربما استطاع الكاتب أن يتحدث عن أشخاص من الفضلاء الذين شهروا بالظرف فأبى السائب المخزومي وابن آبي عتيق، أما أن يستقصي هذا الفصل في العربية، فذلك شأو بعيد. والى الأستاذ تحياتي.

علي العماري

مدرس بالأزهر

ص: 47

‌محطة

الشرق الأدنى للإذاعة العربية

تذيع على أربع موجات قصيرة طولها

25 ر 44و62 ر 48و36 ر 90 متراً

خمس مسابقات أدبية جديدة:

يسر محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية أن تعلن افتتاحها باب المسابقات الأدبية الجديدة التي ستفصل فيها لجان مؤلفة من كبار رجال الأدب في العالم العربي.

وستكون هذه المسابقات شهرية تتناول في كل شهر ابتداء من نوفمبر موضوعا خاصا، وذلك حسب الترتيب التالي: -

مسابقة الأحاديث - مسابقة القصة - مسابقة الزجل - مسابقة الشعر - مسابقة الترجمة.

شروط مسابقة الأحاديث:

أولا: مواضيع الأحاديث المتسابقة - تقتصر الأحاديث على معالجة المواضيع الخمسة التالية: الأدب، الاجتماع، الثقافة، الفنون والعلوم.

ثانيا: أن يكون الحديث قد كتب خصيصاً لهذه المسابقة، وإلا يكون مقتبساً عن أية مجلة أو كتاب، أو أية مخطوطة أخرى أو مترجما، أو سبق أن نشر أو أذيع.

ثالثا: أن يستوعب الحديث ما لا يقل عن صفحتين عاديتين (فولسكاب) مطبوعتين على الآلة الكاتبة، وألا يزيد على ثلاث صفحات.

رابعا: موعد إذاعة النتائج: آخر موعد لقبول الأحاديث المتسابقة في العاشر من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1946. أي إن الحديث إذا وصلنا في العاشر من الشهر المذكور فسندرجه في مسابقة هذا الشهر (نوفمبر)، وإن جاء متأخراً عن التاريخ المذكور أدرجناه في مسابقة الأحاديث التالية.

خامسا: تختار المحطة لجنة خاصة للفصل في الأحاديث المتسابقة، واختيار ثلاثة أحاديث فائزة.

ص: 48

سادسا: الجوائز: خمسة عشر جنيها فلسطينيا جائزة الحديث الفائز الأول. وعشرة جنيهات فلسطينية جائزة الحديث الفائز الثاني وخمسة جنيهات جائزة الحديث الفائز الثالث.

سابعا: تعقد لجنة التحكيم جلستها أمام الميكرفون، وتذيع النتيجة التي توصلت إليها يوم الجمعة 29 نوفمبر (تشرين ثاني) سنة 1946 الساعة 00ر6 مساء حسب توقيت فلسطين.

شروط مسابقة القصة:

أولا: موضوع القصة مطلق. ولكن يشترط أن تكون القصة نفسها قد كتبت خصيصاً للإذاعة وان لا تكون مترجمة أو مقتبسة أو منشورة من قبل.

ثانيا: تبقى القصة ملكا للإذاعة مدة ثلاثة اشهر من تاريخ إعلان نتيجة المسابقة، وبعد ذلك، يحق لصاحبها التصرف بها.

ثالثا: يجب أن لا تزيد القصة على أربع صفحات عادية حجم (فولسكاب) وان لا تقل عن ثلاثة.

رابعا: ترسل القصة مطبوعة على أربع نسخ على أن لا يذكر الكاتب أسمه على إحدى هذه النسخ، بل يرفق اسمه وعنوانه مكتوبين على ورقة منفصلة.

خامساً: تقبل القصص حتى اليوم الخامس والعشرين من نوفمبر 1946 وكل قصة تصل بعد 25 نوفمبر 1946 تؤجل للمسابقة التالية.

سادساً: ترسل القصص إلى (محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية) يافا - فلسطين برسم (مسابقة القصة).

سابعا: تعلن اللجنة القصص الفائزة في جلسة مذاعة يوم

الجمعة 27121946 الساعة 00ر6 مساء حسب توقيت

فلسطين.

ثامنا: ينال الفائز الأول جائزة مالية قدرها ثلاثون جنيها فلسطينيا والثاني ينال جائزة مالية قدرها خمسة عشر جنيها فلسطينيا والثالث ينال جائزة مالية قدرها عشرة جنيهات فلسطينية.

تاسعا: ترسل الجوائز على أثر إذاعة النتائج.

ص: 49

شروط مسابقة الزجل:

أولا: يجب أن تعالج المقطوعة أحد المواضيع الأربعة التالية: -

الراديو 2 - الريف 3 - القنبلة الذرية 4 - نهضة المرأة في الشرق.

ثانيا: أن لا يقل عدد الأبيات عن خمسة وعشرين بيتاً، ولا يزيد على أربعين بيتا.

ثالثا: أن ترسل المقطوعة مطبوعة على أربع نسخ وان لا يذكر الناظم اسمه على هذه النسخ بل يرفق اسمه وعنوانه مكتوبين على ورقة منفصلة.

رابعا: تقبل أزجال هذه المسابقة حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1946.

خامسا: ترسل الأزجال إلى محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية - يافا فلسطين - برسم مسابقة الزجل.

سادسا: تعلن اللجنة الأزجال الفائزة في جلسة مذاعة يوم الجمعة 31 يناير سنة 1947.

سابعا: تحكم في هذه المسابقة لجنتان واحدة للزجل المصري والثانية للزجل اللبناني والسوري وما كان قريبا منه.

ثامنا: توزع الجوائز كما يلي:

الجائزة الأولى ثلاثون جنيها فلسطينياً وتقسم إلى جائزتين متساويتين كل منهما خمسة عشر جنيها فلسطينيا تعطى الواحدة للفائز الأول في نوع الزجل المصري، وتعطى الثانية للفائز الأول في نوع الزجل اللبناني أو السوري أو ما كان قريبا منه.

الجائزة الثانية خمسة عشر جنيها فلسطينيا وتقسم أيضاً إلى جائزتين متساويتين كل منهما سبعة جنيهات ونصف الجنيه الفلسطيني، تعطى الواحدة للفائز الثاني في نوع الزجل المصري وتعطى الثانية للفائز الثاني في نوع الزجل اللبناني أو السوري أو ما كان قريبا منه.

الجائزة الثالثة عشرة جنيهات فلسطينية وتقسم إلى جائزتين متساويتين أيضا، كل منهما خمسة جنيهات فلسطينية تدفع إحداها للفائز الثالث في نوع الزجل المصري والأخرى تدفع للفائز الثالث في نوع الزجل اللبناني أو السوري أو ما كان قريبا منه.

تاسعا: ترسل النتائج على اثر إذاعة النتائج.

ص: 50

عاشرا: يحق للمحطة أن تلحن وتذيع ما تشاء من الأزجال الفائزة دون مقابل.

أحد عشر: تبقى الأزجال الفائزة ملكا للإذاعة مدة ثلاثة اشهر من تاريخ إعلان نتائج المسابقة، وبعد ذلك يحق لأصحابها التصرف بها.

اثنا عشر: ستقام مسابقة أخرى يعلن عنها فيما بعد لنوع الزجل العراقي الحجازي أو ما كان قريبا منه.

شروط مسابقة الشعر:

أولا: يجب أن تعالج القصيدة أحد المواضيع الأربعة آلاتية:

1 -

نهضة الشرق العربي 2 - ملهمتي 3 - اليتيم 4 - الطبيعة الغاضبة.

ثانيا: أن لا يقل عدد أبيات القصيدة عن خمسة وعشرون بيتا ولا يزيد عن أربعين بيتا.

ثالثا: أن ترسل القصيدة مطبوعة على أربع نسخ وان لا يذكر اسم الناظم على هذه النسخ بل يرفق اسمه وعنوانه كاملين مكتوبين على ورقة منفصلة.

رابعا: تقبل قصائد هذه المسابقة حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر يناير سنة 1947.

خامسا: ترسل القصائد إلى محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية - يافا - فلسطين، باسم مسابقة الشعر.

سادسا: تعلن اللجنة القصائد الفائزة في جلسة مذاعة يوم الجمعة 28 فبراير سنة 1947.

سابعا: توزع الجوائز كما يلي: -

الجائزة الأولى 30 (ثلاثون جنيها فلسطينيا).

الجائزة الثانية 15 (خمسة عشر جنيها فلسطينيا).

الجائزة الثالثة 10 (عشرة جنيهات فلسطينية).

ثامنا: ترسل الجوائز على اثر إذاعة النتائج.

تاسعا: يحق للمحطة أن تلحن وتذيع ما تشاء من القصائد الفائزة من دون مقابل.

عاشرا: تبقى القصائد الفائزة ملكا للإذاعة مدة ثلاثة اشهر من تاريخ إعلان نتائج المسابقة، وبعد ذلك يحق لأصحابها التصرف بها.

شروط مسابقة الترجمة:

ص: 51

أولا: يجب إن تكون القطعة الترجمة نثرية أما من الأدب الإنجليزي أو من الأدب الفرنسي، وان تكون من أدب القرن التاسع عشر، أو أدب القرن العشرين.

ثانيا: يذكر اسم المؤلف والمرجع الذي اخذ منه المترجم، ترسل نسخة مطبوعة من الأصل المترجم عنه.

ثالثا: يجب أن لا تزيد الترجمة العربية على آلف وخمسمائة كلمة وان لا تقل عن ستمائة كلمة.

رابعا: ترسل المقطوعة مطبوعة على أربع نسخ على أن لا يذكر المترجم اسمه على هذه النسخ بل يرفق اسمه وعنوانه مكتوبين على ورقة منفصلة.

خامسا: تبقى القطعة المترجمة ملكا للإذاعة مدة ثلاثة اشهر من تاريخ إعلان نتائج المسابقة، وبعد ذلك يحق لصاحبها التصرف بها.

سادسا: تقبل القطع المترجمة حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر فبراير سنة 1947.

سابعا: ترسل هذه القطع المترجمة إلى محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية - يافا - فلسطين، باسم مسابقة الترجمة.

ثامنا: تعلن اللجنة القطع الفائزة بالترجمة، في جلسة مذاعة يوم الجمعة 28 مارس (آذار) سنة 1947.

تاسعا: توزع الجوائز كما يلي:

للفائز الأول 30 (ثلاثون جنيها فلسطينيا).

للفائز الثاني 15 (خمسة عشرة جنيها فلسطينيا).

للفائز الثالث 10 (عشرة جنيهات فلسطينية).

عاشرا: توزع الجوائز على اثر إذاعة النتائج.

ملاحظة هامة - لا يجوز للمشترك أن يشترك بأكثر من قطعة واحدة أو موضوع واحد في المسابقة الواحدة.

ص: 52