الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 692
- بتاريخ: 07 - 10 - 1946
بين جِيلَين.
. .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
انتفض شعر المتنبي فرمى إلي بهذين البيتين، وهما على بساطة لفظهما كالجبلين الشامخين في تاريخ الحياة الإنسانية:
سُبِقنا إلى الدُّنيا فلو عاش أهلها
…
مُنعنا بها من جَيْئة وذُهوبِ
تملَّكها الآتَي تملّك سالبٍ
…
وفارقها الماضِي فِراق سَليبِ
أفليس لمَلك الموت من عَملٍ إلا إخلاء الطريق للقادم، حتى يتاح له أن يغدوَ ويروح في الأرض التي ورثها عن السابق الفاني الذي مهَّد له بمواطئه سبيل الحياة!! ولعلّ ملك الموت يحارُ أحياناً حْيرَة تديرُ رأسه في الأمر الذي حمل أوزاره، وكُلَّف بقضائه، ولعله يرى أحياناً أنه يزيلُ خيراً كثيراً ليخَلُفه شرُّ كثير، فهو يتردّد تردُّد المتحسّر على ذاهبٍ هو أولى بالبقاء من قادم، ولكنه يقضي قضاءه الذي لا يجد عنه مندوحة ولا مهرباً؛ وهو ككل صاحب صناعة قد أَلفها ودرِب عليها ولا يجيدُ سواها؛ فهو يعيش بها على الرضى وعلى السخط، وعلى الفقر والغنى، وعلى الفتور والنشاط؛ وهو كسائر الخلق ميسَّرٌ لما خُلق له، ولو تُرك له أن يختار لاختار قديماً كثيراً على جديد كثير، ولآثر ناساً على ناس وحياةً على حياةٍ. ولقد أرثي أحياناً لهذا المخلوق البائس الذي يسَّرهُ الله لصناعة الإفناء والإهلاك، فإنه ولا ريب يرى ما لا نرى ويحس ولانحس، ولربما كلَّف أن يقبض الروح من زهرة ناضرة لم تكد تستقبل الحياة. فهو يذوب لها رقة وحناناً لما سوف تتجرّعه من غُصصه وسكراته وحشرجته ومكارهه، فكيف يقسو على من هو بالرحمة أولى، وبالبقاء أخلق من أخرى لم يبق فيها العمر المتقادم إلا الأعوادَ والأشواك والجذور التي ضرَبت فيها الأوقات، وبَرِم بها البِلَى من طول مُرَاغمتها له على العيش!
وكيف يفعل هذا البائس حين يعلمُ أنه قد دنا أجلُ عقل عبقريّ لم يتمّ عملة لخير هذه الحياةِ الإنسانية، فهو مأمور أن يطفئ نوره ليخلُفَه عقل دَجُوجيّ لا يأتي إلا بالسواد والإظلام؟ أترى أنامله ترتجف من الإشفاق والضنّ والبُقْيا على هذا السراج الذي أمر أن يقطع عنه أسباب الحياة؟ أم تُراه يفعل ذلك وهو مسلوب العقل والإرادة والإحساس كأنه قائد من رجال الحرب الحديثة، لا عقل له إلا الحرب، ولا إرادة له إلا الحرب، ولا إحساس له إلا
الحرب، فهو كله حرب على الجنس البشري شِيبه وولدانه ورجاله ونسائه، لا يرحم صغيراً، ولا يوقَّر كبيراً، ولا يشفق على أم ولا ذات جنين! أم تراه يعلمُ ما لا نعلمُ من خبئ هذه الحياة الدنيا، وأن جليلها الذي نجُّله ونوقره، هو أولى الشيئين بالمهانة والتحقير، وأن الحقير الذي نزْدريه كأن أولاهما بالتجلّة والتوقير؟ فهو إذن يؤدي عمله راضياً عن نفسه وعما يعمل، لا تزعجه الرحمة لما لا يستحق رحمة، ولا يُمسك يده الإشفاق عما لا يستأهل إلا الإرهاق والتعذيب. وكأننا نحن إنما نحبُّ ونبغض ونرضى ونكره على قدر إدراكنا وما بلغ، لا على منطق الحياة المتطاولة الآماد والآباد، فنرى الأشياء متصلة بمصالحنا ومنافعنا، ومحصورة في حاجات أنفسنا وآمال قلوبنا، لا متماسكة ممتدَّة في كهوف الأمس السحيق، وسراديب الغد العميق.
فلو أن هذا المَلك كان ميسَّراً لإدراك الحياة ومعانيها بمثل العقل الذي ندركها نحن به، وكان كمثلنا في تقدير الأقدار على قياس الحاجات والآمال الراهنة محجوباً عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لرأيناه يحرص أحياناً على أن يُبْقي على بعضنا ويعجل أحياناً في القضاء على بعضٍ آخر نظنُّ، ويظنُّ معنا، أنه لا معنى لبقائه في هذه الدنيا ليكون زِحاماً من الزِّحامِ لا عمل له إلا أن يَعُوق المتقدم، ويعثُر به الماشي، ويتفلَّل من جرائه حدُّ الماضي المتعجل، ولكان الناس يومئذ يأتون إلى الدنيا ليجدوها ممَّهدة من نواحيها لا يلقى لاحقٌ عَنتاً من وجودِ سابق؛ ولا يصادف إلا طريقاً خالياً لا يضطره إلى جهاد ولا حيلة ولا حذر، ولا يحمله على النظر والتأمل والهمة في إصلاح الفاسد والفكر في أسباب الفساد، وبذلك يتعطل العقل وتقف الإرادة ويستنيم المرءُ إلى الراحة حين يرضي عن عمل من سبقه من الذين أبقى الموت عليهم لأنهم أهلٌ للحياة. وكذلك تنقطع مادة الحياة، ويتفانَى الخلق بالرضى والقناعة كما يتفانون اليوم بالسُّخط والطمع. بيد أن موت الرضى والقناعة شرٌّ كله لأنه عقيم لا ينتج، أما موت التسخُّط والطمع فهو إلى الخير أقرب، لأنه يبقي البقية الصالحة التي تستمرَ ٌّ بها الحياة متجددة على وجه الدهر.
ومن أجل ذلك قُدّر للآتي القادم على الدنيا أن يأتي منذ يولد وفي إهابه حبْ التملك والتسلط والأثرةِ والعناد واللجاج في صغير الأمر وكبيره، وكذلك الطفل. وقُدّرِ للذاهب الراحل عن هذه الدنيا أن يدلف إلى الغاية، وقد نَفضَ عن نفسه أحبَّ أشيائها إليه فهو يؤثر الزُّهد
والإيثارَ وسعة العقل وقلة المبالاة في كبير الأمر وصغيره، وكذلك الشيخ. فإذا الآتي متمَلَّك سالب، وإذا الماضي مفارق سليب.
فهذا هو تاريخ الصراع بين أجيال الناس كلهم، والأمم جميعها، والآراء بأسرها، والمذاهب برُمَتها؛ إلى آخر هذا الحشد مما يقع عليه الخلاف في هذه الحياة الدنيا، وليس يكون فيها شيء إلا كان مظنّة للخلاف. وهذا الصراع المُفنى هو نفسه سرْ القوة المحْيية، وهذا الجهاد المتواصل في طلب الغلبة والظهور، والنصر بين السالب والمسلوب، هو الحياة. وهذا العناء الشديد الذي يلقاه الشباب حين يحتدم الصدام بينهم وبين أهل السنِّ من قدماء الأحياء هو تكملة الإنسان الجديد الذي يريد أن يتملك مواطئ أقدام الإنسان القديم الذي كتب عليه أن يرحل ويُفسح الطريق لمن هو أولى منه بالعيش وعليه أقدر.
وقديماً قال القائل:
لكلّ جديد لَذَّةٌ، غيرَ أنني
…
وجدت جديدَ الموت غير لذيذ
فيأتي الآتي إلى جديد الحياة، فإذا هو بها مشغوف لهيفٌ، وإذا هو نفسه جديد، فهو معجب بجديد نفسه ساخرٌ من قديم غيره؛ وإذا سرُّ كل (آت) هو جدته الموفورة، وسرُّ الضعف في كل (ماض) هو جدّته البالية. وللجديد نخوة ونشوة وإرباء على القديم، وفي القديم هيبة وذهول وتقصير عن الجديد، والصراع بين القديم والجديد هو صراع على الحياة وعلى البقاء وعلى الخلود، ولذلك لم يخلُ وجه الأرض قط منِ نزَال دامِ مفزع بشِع بين هذين الجبارين: الجبار الآتي الذي يريد أن يستأثر بالحياة، والجبار الراحل الذي يلتمس لجبروته الخلود: ولا تزال الدنيا دنيا ما اصطرع هذان الجباران، فإذا سكن ما بينهما فقد انطفأت يومئذ جمرة الحياة، ولم يبق إلا رمادها.
ونحن اليوم أحوج ما كنا إلى حدّة الصراع بين الجبارين: جبار الشباب وجبار الهرم، لأن الحياة التي حولنا تريدنا على ذلك، إذا أغفلنا مطالب الحياة الإنسانية نفسها، والتي لا بقاء لها إلا مكاره النزاع والنزال والمصاولة. ولكن يخّيل إلى أن جبارنا هذا الشابَّ لم يعرف بعْدُ أن اتخاذ الأهبة للقتال شيء لا غنى عنه لمن يريد أن تكون له العزة والغَلبة، وأنه ينازل جباراً سبقه إلى الدنيا فعرفها وخبرها واستعدَّ لها، وصرف همه إلى درسها وتمحيصها، وأنه قد بذل في إبان شبابه من جُهد التحصيل والاستعداد، ما غفَل هو عن مثله
بين اللهو والعبث والآراء غير الممحصة، وأخْذ الدنيا على أهون وجهيها وأيسرهما، وعلى أن الصدق فيما قاله أسخف قائل:(اضحك يضحك لك العام)!!
ليس معنى الصراع بين الجديد والقديم: هو أن ينازل أصغر الخصمين وأقلهما تجربة، أكبرهما وأوفاهما تجربة، وهو يضمر له في نفسه الإزْراءَ به والتحقير له والاستهانة به وبسابقته في الحياة، كلا، بل هو يحرص أشد الحرص على فهم خصمه، وعلى معرفة حيله، وعلى درس قوته ومواطن الضعف فيها، وعلى أساليب معالجة للأشياء التي حازها بالنصر والغلبة على من سبقه. وذلك يقتضيه أن يجعل صدر أيامه وريِّق شبابه وقفاً على الدرس والتحصيل ورياضة النفس، وتربية القُوَى، وتعهُّد نفسه في مراشدها وتجنيبها مغاويها، فإذا فعل كان أهلا لمن ينازله، وكان خليقاً أن يكتب له النصر عليه، ولكن شاء الله أن يسلك جبارنا الشاب أضلَّ الطريقين.
فماذا كانت العقبى؟ بقينا إلى زمن نرى فيه الشيوخ الذين أكلَ الدهر جِدَّتهم، وأبلى هممهم، وأفنى حوافزهم، وقطع دابر الحماسة من نفوسهم، هم الذين يتولون تصريف الأمر في غدِنا تصريفَ العاجز، ويدبرون سياستنا للمستقبل تدبير الذاهل، ويسيرون بهذا الشرق كله إلى رَدَغةٍ موحلة يرتطم في أوحالها الشيب والشبان جميعاً. وإلا فأين الشباب المبشر بالخير المهدى إلى طريق الرشاد، ليكون لشيوخنا إذا عجزوا عضداً، وإذا قصِّروا باعاً، وإذا سقطوا خلفاً؟
إني لأفتح عيني حين أفتحها
…
على كثير، ولكن لا أرى أحدَا
ومعاذ الله أن أكون ممن يُخْلي هذه الأمم من رجال شبان يدخل في أطواقهم أن يغيروا وجه هذا الغد الذي نستقبله، ومعاذ الله أن يلمّ بي اليأس ويتداخلني القنوط، فإني لأرى فيهم رجالا لوهم صرفوا عاماً أو عاملين في التأهب لصراع الغد، أي لصراع الحياة، أي لإنقاذ بلادنا من خوَرالشيخوخة، وجبن الهرم، وعجز السنِّ، وضعف الكِبرَ الطاحن، ومن غرور هذه جميعاً بسالف تجربتها واحتناكها، لأدركنا البغية التي يظن شيوخنا أنها محال، وأنها طَفْرة، وأنها جرأة وتقحم، وارتماء في مهاوي الهلاك.
أو ليس من أكبر العار في هذا الزمن أن يكون الشرق الذي بلغ بفتيانه قديماً ما بلغ، هو اليوم مبتلى بفتيانه أشد البلاء؟ أليس من الخزي أن يعرف أحدنا كيف تعاون شبابنا قديماً
وكهولنا وشيوخنا على فتح الدنيا، فإذا خَلَفهم يتعاونون جميعاُ شيوخاً وشباباُ وكهولا على ترك بلادهم وأرضهم لقمة سائغة لكل طامع، ولحماً ممزقاً بين يدي كل جزَّار وإن هان؟
إن علينا نحن الشباب أن نوقر شيوخنا ونجلَّهم ونستفيد من تجاربهم، وعلينا أن ننازلهم ونصارعهم، ونأخذ من أيديهم المرتعشة ما يستقرُّ في راحاتنا الثابتة التي لا تخافُ ولا تتهيب. علينا أن نأخذ حقنا أخْذ الكريم المقتدر، من أقران نصارعهم ليموتوا موت الكريم البذَّال. وعلى هذا الصراع بين جيلينا يتوقف أمر الخير الذي نبتغيه، والاستقلال الذي نجاهد في سبيله، والعزة التي نسعى إلى اقتحام أهوالها.
وعلى شيوخنا أن يعلموا أنه لا بد لهم من شباب شديد الأسر يشد أزرهم إذا ضعفوا، ويخلفهم إذا هلكوا ولكنهم غفلوا زماناً فتركوا النشء ينشأ بين أحضانهم، فلم يسدّدُوه ولم يعاونوه ولم يعدُّوه لغدهم، وقلبوا آية الحياة وبدَّلوا معناها، فكانوا هم الصبيان حين تخلقوا بأخلاق الصبيان، وأصرُّوا على حبّ التملك والتسلط والأثرة والعناد واللجاج في كبير الأمر وصغيره!
هذه الأيام تمضي بنا سِراعاً، فلنقدّر لغدٍ، فإن مستقبل الشرق معقود بنواصي شبابه، فإذا نَفضَ عن نفسه غبار الكسل والمجاتة واللهو، كان إلى النصر أسرع ساعٍ، وعلى الدنيا الجديدة أكرم وافد.
محمود محمد شاكر
مقالات في كلمات
للأستاذ علي الطنطاوي
المذهب الرمزي كما أفهمه:
يقف الشاعر على الطريق فتمر به مائة امرأة، ما فيهن إلا جميلة فتانَة تستهوي القلب وتستميل الفؤاد، وما واحدة منهن تشبه في جمالها الأخرى، فلكل (جمال) طعم في الذوق، وأثر في النفس، ومعنى في الحسّ. ويسمع مائة صوت ما فيها إلا مطرب يهز ويثير، ولكنّ للبيات (طرباً) ليس للرصد، وفي الصبا ما ليس في النهاوند. ويشمّ عشر زهرات فلا يجد فيهن إلا طيباً وعطراً، ولكن أثر الياسمين في النفس غير أثر الورد، وفي الزنبق ما ليس في البنفسج؛ وربما رأى المرأة أو سمع النغمة في حال، فأثارت في نفسه عواطف لا تثيرها في حال أخرى، فإذا جاء يصورها بالألفاظ هذا العالم الزاخر من (المشاعر) والخواطر لم يجد لهذه الآلاف المؤلفة، من (المشاعر) المختلفة، والخواطر المتباينة، إلا ألفاظاً قليلة لا تقوم لهذه الكثرة، ضيقة لا تتسع لشيء من هذه التفاصيل، ميتة لا تستطيع أن تجاري هذه القافلة الحية المتوثبة من الخواطر والأحلام الإنسانية. . .
ويقرأ القصة من القصص، أو الأبيات من الشعر، فتنقله إلى دنيا أخرى يرى فيها ما لا تراه عيون أكثر الناس، ويدرك من جمالها وسحرها ما لا تدركه قلوبهم، فإذا عمد إلى حصر هذه الدنيا في نطاق من الألفاظ تفلتت منه ومضت، كما يمضي عبق الزهر إذ ينبثّ في الجو، وهبط من بعدها إلى أرض الحقيقة الصلدة، كما هبط آدم من جنته إلى الأرض. . .
ويسمع الأغنية الحالمة تخرج من قلب عاشق مشوق، فتطفو على وجه النسيم العليل، في الليل الساجي، ينادي بها الليل، والليل معرض لا يجيب، فتَهز الأغنية إذ يسمعها (شاعريته) فتسقط أنضج ثمارها وأحلاها؛ فإذا راح يجمعها ليودعها ظروف الألفاظ، طارت من بين أصابعه كأنها حباب الخمر، أو خيوط النور. . .
ويحلم نائماً أو مستيقظاً فيجد لهذه الرؤى والأحلام متعة وجمالا يملأ جوانب نفسه، ويصل إلى قرارة قلبه، ويصحو منها ولذتها في حسّه، وأثرها في نفسه، وبقاياها في ذاكرته، فإذا أراد أن يضع وصفها على لسانه، خانته الألفاظ ساعة الشدة، وفرّت منه ولم تسعفه. . .
فماذا يصنع الشاعر؟
أيقنع من الشعر بوصف الحالات النفسية الواضحة الدانية، ويدع كل سامٍ منها رفيع، أو غامض معقد؛ وتصوير مشاهد الطبيعة الجامدة دون أن يفيض عليها أفكاره وأحلامه وذكرياته؟ إنه إن فعل كان كمن يأخذ الأصداف والديدان من شاطئ البحر مجتزئاً بها عن كل ما في البحر من لآلئ وأسماك، فماذا يصنع؟
فكر في ذلك ناس من شعراء أوربة فرأوا أن الخصلة من شعر الحبيب، تذكر المحب بأيام الغرام، وتتلو عليه وهي خرساء لا تنطق تفاصيل أحداثها حتى كأنه قد رجع إليها؛ والنشيد الحربي يقص على الجندي الهرم أنباء معاركه التي خاضها؛ وصورة برج إيفل يعيد للباريسي النازح ذكريات بلده الذي فارقه، وما خصلة من الشعر وما النشيد وما الصورة؟ إنها رمز تستدعي في الذهن صوراً وحقائق على طريق (تداعي الأفكار) كما تذكر صورة الكعبة بالحج، و (جون بول) بإنكلترا، والأهرام بمصر. . . فلماذا لا نرمز لكل حالة نفسية غامضة برمز يذكر القارئ بحالة مثلهاكان وجدها، اعتماداً على (تداعي الأفكار) وعلى أن نفوس البشر متشابهات في الجملة في حالاتها الكبرى؟
وقد حاولوا أن يفعلوا ذلك فنشأ ما ندعوه بالمذهب الرمزي فليس الشعر عند الرمزيين أن تصف الحبيب بل ما يثير في نفسك الحبيب من عواطف، ولا أن تصور مشهد الطبيعة بل ما يبعث المشهد فيك من خواطر. وإذا كانت هذه العواطف والخواطر غامضة، فليكن الشعر غامضاً مثلها، على أن يثير في السامع أمثالها، ويحضر له نظائرها. وأول شرط للشعر عندهم هو أن يكون وقعه في الأذن جميلا بارعاً، وأن يكون لألفاظه رنين اللحن الموسيقي. والشرط الثاني هو أن يعلو بسامعه، ويحمله إلى أسمى الحالات النفسية. قال عميد الرمزيين بول فرلين (الشعر ما انبعث من قرارة النفس، ورفَع إلى ذروة السماء، وكان موسيقياً قبل كل شيء).
وهذي غاية ما نظر إلى أبعد منها أديب، ولكن هل بلغ الأدباء الرمزيون هذه الغاية؟
الجواب: لا، وإن نهاية ما وصلوا إليه أن جاءوا بشعر في ألفاظه موسيقية وجمال، يلوح من ورائها معنى فيه من (تلك) الحالات النفسية غموضها، ولكن ليس فيه سموّها ولا عظمتها، ولا يدني منها ولا يوصل القارئ إليها.
هذا ما عندهم؛ فما الذي عندنا؟
الذي رأيناه عندنا إلى الآن: أفكار مهوّشة مضطربة في رؤوس أحب أصحابها التعبير عن أفكارهم بالشعر، ولم يؤتوا ملكته، ولا أعدّوا له عدته، ولم يعطهم الله (شعور) الشاعر، ولطف حسّه، وصفاء نفسه، فاستعاضوا عن ذلك كله بالانتماء إلى المذهب الرمزي. . . ولا يكلف ذلك من يريده إلا أن يكتب في رأس قصيدته. . . أو مصيبته التي يحب أن ينزلها بالقراء، كلمة (من الشعر الرمزي) وأن يلقى صحفياً أحمق ينشرها له. . .
وكل الذي قرأناه إلى الآن من هذا الشعر. . . الرمزي، قطع هي أبعد عن الموسيقى من بُعد الأرض عن السحاب، وبُعد أصحابها عن الشعر، وهي تنزل بقارئها إلى أحظ دركات الاشمئزاز و (القرف. . .) بدلا من أن ترفعه إلى السماء التي ينظر إليها (فيرلين) عميد الرمزيين الأصليين لا القردة المقَّلدين. . .
لا. لا هذه ولا تلك، فالرمزية الحقيقية حلم جميل ولكنه منافٍ لطبائع الأشياء فلا يتحقق أبداً، ورمزية أصحابنا. . .
(تهريج) ثقيل، وتقليد بشع، وعدوان على الفن، فلا تدخل حرم الشعر أبداً. . .
إنها رطانة بحروف عربية، و (شعر. . .) ولكن لا شعور فيه ولا موسيقى ولا حياة.
عوَدة إلى (حرية الكتابة):
دفع إليّ أمس صديقي الأستاذ مظهر العظمة عدداٍ ً من مجلة الثقافة فقال:
- أنظر ما في هذا العدد.
فنظرت فإذا أناألقى أسماء جديدة لم أسمع بها قط قبل اليوم، فلا أحمد أمين، ولا فريد أبو حديد، ولا أحمد زكي؛ ولكن صدقي إسماعيل (؟)، وخالد حمد (؟)، وعمر كركوتلي (؟) فأنعمت النظر فإذا هي (ثقافة) أخرى، غير (الثقافة) المصرية المعروفة، تصدر في (دير الزور) من أعمال الشام، وإذا أصحابها قد سرقوا أسم مجلة الثقافة وحجمها وشكل غلافها وترتيبها حتى ليظن القارئ أنها هي، مع أنها منها كخريطة مصر بالنسبة إلى مصر. . .
فرددتها إليه، وقلت له:
- ألم تسمع أن المكتوب يقرأ من عنوانه، فدعني بالله منها لا أريد أن تَغْشي نفسي.
قال: لا والله، إلا أن تقرأ هذا.
وأشار إلى فقرة قرأت فيها ما نصه بحروفه:
(أيها السادة! الممعن في الأدب العربي من إنتاج العصور وجماع الفنون يلمح خطاً واحداً تنتظم فيه كل الألوان والأغراض هو خط السكون، والممعن في الأدب الفرنسي يلمح خطاً واحداً يناقض ما تقدمه هو خط الحركة).
قلت له:
لقد قرأت، فقل لي ماذا تريد من رجل جاهل بالأدب العربي وبالأدب الفرنسي، ويريد مع ذلك أن يتعالم وأن يتشبه بالباحثين؟ أيمكن أن يفتح عليه إلا بهذا الهذَر الذي لا معنى له أبداً إلا (الدعاية) المضحكة لفرنسة التي قطع رأسها في بلادنا، وبقيت أذنابها تتحرك كما يتحرك ذّنب (سام أبرص) بعد دعسه بالحذاء؟. . . وهذه ثمرة (حرية الكتابة)، فمادام كل دعيّ في الأدب أحمق يستطيع أن يكتب ما توحيه إليه حماقته، ومادام كل رجل معه ثمن الورق وأجرة المطبعة يستطيع أن ينشئ صحيفة أو مجلة تنشر كتابات الأدعياء والحمقى، فارتقب العجب العجاب، من هذا (الأدب. . .) الجديد، وهذه (المجلات. . .) المحدثة التي لا آسف على شيء إلا على أنها لم تلحق الأديب الكبير أبا العبر الذي كان يقف على جسر بغداد فيكتب كل ما يسمع من كلام المجتازين في صحيفة معه، ثم يشقها ويخالف بين أجرائها ويقرأ ما تحصل معه، فيأتي بالأعاجيب، إذن لكانت تنشر له، وتقدمه وتفضله على سائر الكتاب، لأن مقياس الجودة عند أصحاب هذه المجلات الجدّة والمخالفة، وآثار ابن العبر هذا جديدة لم يسبق إليها، مخالفة لكلام العقلاء جميعاً.
قال: أرجو أن تتم المحاضرة.
قلت: أعوذ بالله، ماذا عملت معك حتى تعاقبني بقراءتها؟
قال: لابد.
وأخذ يتلو عليّ تتمة هذا الهذر:
(السكون والحركة هذا هو كل ما استطعت الحصول عليه من وراء دراستي للأدب العربي والأدب الفرنسي).
قلت: يظهر أن هذا الرجل قد أطال الدراسة للأدبين، وسهر فيها الليالي مادام (كل) ما استطاع الحصول عليه (من وراء. . .) هذه الدراسة، هو السكون والحركة، وما السكون
والحركة؟ العلم عند الله، فهذا شيء يدق عن إفهام أمثالنا من عباد الله المساكين، ويعلو عن مداركم. . .
وجعل يقرأ أشياء من هذا الباب، وأنا لا أكاد أفهم منها إلا مفردات الألفاظ، أما الجمل وما يراد من إيرادها، فكان يخفى عنى، حتى وصل إلى قوله:
(. . . وفي أزهارشرْ (بودلير) و (لاأخلاقية) أندره جيد، وإباحية فيكتور مرغريت الأدب الحر والفن الثائر).
فقلت له: وصلنا. هذا هو المقصد! إنه ينقم من الأدب العربي خلوّه من هذه (ألا أخلاقية) وهذه (الإباحية) مع أنه لم يخل منها، ولكن هذا الجاهل لم يسمع كما يبدو باسم بشار وأبي نواس، وأبو نواس هو أمام أندره جيد في (مذهبه. . .).
هذا هو مقصد هؤلاء الذين سماهم الأستاذ سيد قطب أولاداً لا أعراض لهم، كما جاء في إحدى مقالاته العظيمة التي جعل عنوانهم (من لغو الصيف) وهي والله الجدّ كل الجد، ليست باللغو ولا باللهو، وهي من خير ما جرت به الأقلام في هذا العصر. هذا هو مقصدهم: الإباحية!
إنه لا يغيظهم شيء ما يغيظهم أن يكون في الكتاب من يدعو إلى الأخلاق ومن يحارب الإباحية. . .
إننا نحاربها يا أولاد، لأن لنا أعراضا، وأن لنا بنات وأخوات، أما أنتم فلا بنات لكم ولاأخوات، ولو كنَّ لكم لما باليّم والله بأعراض بناتكم وأخواتكم، ولكشفتموهنّ على البلاج ولجعلتموهن (مرشدات). إنكم تؤثرون لذة الإباحية والانطلاق على شرف العفاف والحرمان، ثم إنكم جاهلون تقولون ما لا تفهمون، وتهرفون بما لا تعرفون، أفسدتم بكتاباتكم هذه ملكة البيان في نفوس النشء، وأفسدتم خلق العفاف في قلوبهم، وأفسدتم ميزان المنطق في رؤوسهم، وتلقون مع ذلك مجلات تنشر لكم ما تكتبون. . .
إني أعود مرة ثانية فأقول: إن المصيبة ليست بهذا الدعي الجاهل ذنب فرنسا صاحب هذا الهذيان ولا بأمثاله، ولكن المصيبة في (حرية الكتابة) فمتى يصحو رجال الحكومات، ويتنبه العقلاء، فيكفوا هؤلاء الأولاد الذين لا أعراض لهم، عنا وعن أعراضنا؟
متى؟ متى؟ أبعد خراب البصرة؟!
علي الطنطاوي
الحضارة المصرية في عهد الدولة الوسطى
بحث للعلامة الأثري أربيك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
عهد الإقطاع:
يطلق عادة على الدولة الوسطى - وتشمل بمعناها المحدود الأسرة الثانية عشرة (2000 - 1788 ق. م) - عهد الإقطاع أي أن نظام المجتمع كان يشبه ذلك النظام الذي ساد في أوربا في العصور الوسطى - فهناك على رأس الحكومة يقوم الملك، وهو لا يزال نظرياً مصدر السلطات كلها، والكاهن الأكبر لكل الآلهة، والمشرَّع الوحيد - ويليه عدد كبير من الأمراء المحليين يتسلمون أراضيهم منه، ويدينون له بالولاء، ولكنهم مستقلون عنه في إماراتهم استقلالا يكاد يكون تاماً. على أنه لا ينبغي أن نغالي في الفرق بين هذه الأحوال وتلك التي سادت في عهد الدولة القديمة. فالفرق كان فرقاً في الكمية أكبر منه فرقاً في الكيفية.
ففي أواخر الأسرة السادسة سقطت مصر في فوضى شديدة نظراً لعجز الملوك عن الإشراف على الأمراء الأقوياء وضبطهم، ثم لإغارة قبائل (عامو) الأسيوية على الدلتا. فاستقل أمراء المقاطعات وصاروا يتنازعون فيما بينهم، فاضطرب الأمن واختلت أحوال البلاد؛ لذلك كان تاريخ تلك السنوات مظلماً، وعندما ينبثق النور نجد الحكم في يد أسرة من الأمراء مقرها هيراقليوبوليس في مصر الوسطى - وقد ذكر مانيتون أنهم كونوا الأسرتين التاسعة والعاشرة - ونجد في الجنوب أسرة أخرى تقوم بالحكم في طيبة. هذه هي الأسرة الحادية عشرة، وقد عاصرت الهيراقليوبوليسيين مدة ما، ولابد أن نزاعاً شديداً قام بين هاتين الأسرتين ثم انتهى بانتصار الجنوب انتصاراً حاسما.
ولما تولى الحكم الطيبيون ملوك الأسرة الثانية عشرة، واجهتهم حالة تختلف كل الاختلاف عن تلك التي صادفت الملك مينا عندما وحد القطرين - فقد انتهز الأمراء المحليون سنوات الاضطراب وعادوا إلى توطيد سلطتهم، وتقوية نفوذهم حتى تجرأ أمراء (مقاطعة الأرنب) على قطع المرمر من محاجر حاتنوب، وكان هذا الحق مقصوراً على الملك وحده، وزيادة
على ذلك أخذوا يؤرخون نقوشهم التذكارية هناك بتاريخ سنوات حكمهم الشخصي - قد وحد أوائل ملوك هذه الأسرة الجديدة تلك العناصر المتفرقة، ولكنهم لم يستطيعوا التغلب عليها فقبلوا حلاَّ وسطاً وذلك أنهم مقابل الولاء الذي طلبوه من هؤلاء الأمراء سمحوا لهم أو على الأقل لم ينكروا عليهم درجة كبيرة من الاستقلال المحلي.
إخضاع أمراء الإقطاع:
ولم يشعر الطيبيون أنهم في مركز قوي يسمح لهم بإخضاع أولئك الأتباع المشاكسين حتى تولى الحكم سنوسرت الثالث - كما يتبين ذلك من توقف الأمراء فجأة عند بناء مقابرهم الصخرية في عهده بجهات البرشة وبني حسن ومير - ثم عاد الأمراء إلى تقوية نفوذهم في عهد أمنمحيت الرابع. فعادت الفوضى الداخلية إلى البلاد مرة أخرى، ووقعت فريسة في أيدي الغزاة الأسيويين المعروفين بالهكسوس.
وبمقتضى هذا النظام الإقطاعي كانت سلطة الأمير في إقطاعيته تكاد تكون هي السلطة العليا. أجل كان بديهياً أنه عندما تخلو إقطاعية من أميرها تعود أسميا لفرعون كي يهبها مرة أخرى، ولكن لعله كان من الصعب عليه أن يرفض الوارث الشرعي حقه فيها، وقد وضح أحد أمراء أسيوط في العقود الكثيرة التي عقدها مع كهنة المعبد المحلى - كي يتولوا تقديم القرابين لمقبرته بعد موته - الفرق بين ميراثه عن أبيه، وبين أملاكه بحكم وظيفته كأمير فالأولى يتصرف فيها بلا قيد ولا شرط حتى عن المستقبل، والثانية لا يستطيع أن يتصرف فيها بعد موته - وظل للملك كما كان الحال في عهد الدولة القديمة - حقوق مالية في كل أقليم، وكان موظفو الخزينة العليا يجمعون الضرائب.
القانون:
كان الوزير ساعد الملك الأيمن في كل المسائل الإدارية والقضائية، ولا نعرف عن نظم القضاء نفسها أكثر مما نعرفه عنها في عهد الدولة القديمة؛ بل ولا نستطيع أن نقول إلى أي حد كانت هناك مجموعة من القوانين التي تعالج الجرائم الجنائية - بيد أن معلوماتنا عن القانون المدني أحسن وأوفر، فنجد بين نقوش مِتِن سلسلة من الوصايا تنتسب إلى حكم سنفرو أحد ملوك الأسرة الثالثة، وهي على رغم قدمها تدل على الدرجة الراقية التي
وصلها قانون العقار إذ ذاك، وبين النقوش الواردة على جدران مقابر الأسرة الخامسة وصايا كثيرة عن أراض نظير خدمات جنائزية يقوم بها الموصى إليه لصاحب الوصية - كذلك تحوي أوراق البردي التي عثر عليها في اللاهون عدداً من العقود والوصايا مكتوبة بأسلوب راق وتعبيرات فنية تدل على أن كتابها محامون فنيون ولو أن هؤلاء لم يتمتعوا بلقب غير لقب الكاتب وهو بالهيروغليفية (سش).
وأهم الوثائق كلها هيالواردة في نقوش مقبرة الأمير حبفظا أمير أسيوط السالف الذكر، وفيها يعقد بصفته رئيس كهنة معبد ابْواوِت إله أسيوط المحلي عشرة عقود مع الكهنة يتنازل فيها عن جزء من نصيبه الحالي في القرابين التي تقدم إلى المعبد مقابل خدمات يقوم بها الكهنة له بعد موته، وهنا نجد التمييز القانوني بين ما يملكه الشخص بصفته الفردية وما يملكه بصفته موظفاً، وبين هذه العقود واحد يعقده الأمير بين نفسه بصفته الفردية وبين رئيس كهنة أبْواوِت بصفته موظفاً، وغني عن الذكر أن رئيس الكهنة هنا هو حبفظا نفسه
تدل هذه الوصايا والعقود على أن قانون العقار كان موجوداً ومحترماً في مصر في عهد الدولة الوسطى. والغالب أن القانون الجنائي لم يكن أقل تقدماً. ولا غضاضة علينا في أن نجرؤ فنظن بأن الأربعين درجاً التي حوت هذا القانون والتي كانت تبسط أمام الوزير في محكمة في أيام الأسرة الثامنة عشرة كانت موجودة بشكل ما أيام الأسرة الثانية عشرة.
الديانة والأخلاق:
ما مبلغ دلالة هذا النظام القانوني على وجود قانون خلقي؛ ثم إلى أي حد كان لهذا - إن وجد - أساساً دينياً؟ هذه أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها، وإن الصورة الناقصة التي لدينا عن الديانات المصرية أيام الدولتين القديمة والوسطى تمثلها كأنها شيء شكلي غير شخصي، فمعبود الشمس (رع) الذي علت منزلته حوالي بداية الأسرة الخامسة، وكان مندمجاً مع المعبود حوريس في شكل (رع حوريس الأفق) اندمج مرة أخرى بالإله آمون إله طيبة لما ارتقت منزلته بارتقاء الأسرة الثانية عشرة الطيبية الحكم، وسمي (آمون رع).
ولكن مما لا ريب فيه أن كان هذا الإله للمصري العادي شيئاً بعيداً غامضاً؛ فقد كان اهتمامه الديني مركزاً في إله مدينته أو إقليمه. بل وهنا أيضاً كانت الديانة مجرد احترام
للتقاليد والطقوس أكثر من كونها صادرة من الضمير، فالنقوش التي دونها الأمراء على جدران مقابرهم، وتباهوا فيها بأعمالهم في حياتهم قلما تشير أو قد لا تشير بالمرة إلى أداء العمل الطيب لذاته أو لأن الآلهة تحض عليه. كذلك تعطينا أوراق البردي التعليمية الفكرة نفسها فحيثما تحث على اتباع الأمانة تحض عليها لمجرد أنها (تفيد) صاحبها.
وفي الوقت نفسه يمكننا أن نتتبع في الدولة الوسطى بداية ظهور مقياس خلقي واعتقاد الحساب في الآخرة، وهذا راجع إلى حد ما إلى انتشار عقيدة أوزيريس الذي اعتقد فيه أهل الدولة الوسطى أنه يسكن أبيدوس كإله الموتى، فنرى في النقوش الواردة على توابيت هذه الفترة أول إشارات إلى هذا الإله بأنه القاضي الذي يعرف الحق من الباطل، وهذه فكرة لم تبلغ تطورها التام إلا في عهد الدولة الحديثة فقط؛ فلم تكن هناك في الدولة الوسطى قائمة الآثام المعروفة التي كان يتبرأ منها الميت أمام محكمة أوزيريس بالاعتراف السلبي.
ولكن ما مقدار هذا الخوف من حساب الآخرة؟ أليس من المرجع أن القوم في الدولة الوسطى اعتقدوا كما اعتقد خلفهم في الدولة الحديثة بصحة التعاويذ السحرية التي كانت تدفن مع الميت سواء أكانت في شكل نقوش على تابوته أم كانت لفة من ورق البردي، واعتبروها حامية كافية له ضد عواقب حياة أثيمة؟ وإذا فرضنا أن نشأة الاعتقاد في الحساب في الآخرة تدل على نهوض وازع خلقي ألا يظهر كأن السحر سرعان ما قدم مسكنا دفع ذلك الرادع الثائر إلى النوم مرة أخرى؟
الواقع أن هذه أسئلة يصعب الإجابة عليها نظراً لقلة الأدلة التي لدينا فمن الصعب أن نقرر شيئاً حاسماً في هذه المسألة في حالة أمة تعيش الآن ناهيك بشعب مضى فإن هذا عادة يكاد يكون من المستحيل.
العناية بنظام الري:
وإذا انتقلنا من هذه الناحية الخلقية من الحياة المصرية إلى الناحية المادية واجهتنا مسألة أسهل. فهنا مع أن أحوال المعيشة العامة لم تتغير في بعض نواحيها عما كانت عليه أيام الدولة القديمة إلا أنه من الممكن أن نذكر تقدماً جد عليها، ويرجع هذا التقدم إلى أمرين أولهما: نمو التجارة الخارجية، وثانيهما: تحول الفراعنة عن تسخير الرعيّة في أعمال لا فائدة منها أي في بناء الأهرام، إلى العمل النافع الذي يعود على البلاد بالخير وهو تحسين
نظام الري. وسنبحث هذا الموضوع الآن، أما الأمر الأول فسنؤجل التكلم عنه إلى مكان آخر في هذا البحث.
لما كانت واحة الفيوم في منخفض عن سطح البحر كان فيضان النيل يعمها كل عام ويحولها إلى بحيرة عظيمة، وفطن ملوك الأسرة الثانية عشرة إلى خزن كمية عظيمة في تلك الجهات، وتصريفها وقت التحاريق كي تطول مدة ري الوجه البحري - أي إن الفكرة كانت تشبه الفكرة الخاصة بخزان أسوان الحديث. ولا يعرف بالضبط مَن مِن فراعنة الأسرة الثانية عشرة نفذ هذا المشروع، وإن كان قد جرى العرف على نسبته إلى أمنمحيت الثالث - وقد عمل المشروع على كسب أراض شاسعة للزراعة من تلك المساحات الهائلة التي كان يغمرها ماء الفيضان عند مدخل الفيوم، وذلك ببناء سور عظيم.
الحالة الاجتماعية:
الرقيق: سرعان ما ظهرت نتائج هذه الإصلاحات في زيادة رفاهية البلاد. نعم إن الرفيق لم تتغير حاله عما كانت عليه أيام الدولة القديمة، والواقع أنها قلما تغيرت طول عصور التاريخ المصري.
الأشراف:
أما النبيل المصري فقد عاش عيشة الترف والمتعة، واقترن بها في بعض الأحوال عناية طيبة وشفقة بأولئك الذين يخضعون لسلطته. هذا طبعاً إذا صدقنا النقوش الواردة على مقابر الأشراف. ففيها نقرأ أن النبيل كان يطعم الجوعان ويكسو العريان، وينقل في سفينته عبر النيل من ليست له سفينة - وفي وقت المحن كان يمد إقليمه بالغلال، ولعل دعواه في أنه لم يسلب أرملة أو يغضب حق يتيم لم تكن مجرد عبارات تقليدية ترددها النقوش - قد أولع الأشراف بالرياضة فكان النبيل يخرج على قدميه لصيد ما يجده من حيوان في الصحراء؛ أو يركب قارباً من البردي يمخر به المستنقعات لصيد السمك بالحراب أو وحش الطير بعصا صغيرة.
ظهور الطبقة الوسطى:
كان ظهور طبقة متوسطة وفيرة العدد من أهم المميزات الاجتماعية للدولة الوسطى، ولهذه
الطبقة مقابر كثيرة في أبيدوس حيث تخيل المصريون وجود قبر الإله العظيم أزيريس وتمنى كل مصري صالح أن يدفن على مقربة منه. وكان إذا أدرك استحالة ذلك قام على الأقل بالحج إليه أو أوصى بأن تحمل جثته بعد تحنيطها إلى أبيدوس لتحضر احتفالاً دينياً قبل أن ترقد في مقرها النهائي في مدينته أو إقليمه - وهكذا كانت أبيدوس مركزاً دينياً في القطر المصري.
(للبحث بقية)
أحمد نجيب هاشم
فرويد ونظرية التحليل النفساني
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
مذهب فرويد أو فلسفته من المذاهب التي لقيت رواجاً عظيماً في العصر الحاضر، وأحدثت انقلاباً في علم النفس، وانقسم العلماء بالنسبة لآرائه إلى فريقين: معسكر الأنصار والمحبذين والتلاميذ، ومعسكر المنكرين والناقدين. ومن تلامذته الذين خرجوا عليه وكونوا مذاهب جديدة في تفسير الحياة الإنسانية (أدلر ويونج).
ويرمي فرويد - كما يرمي غيره من علماء النفس - إلى تفسير الأعمال الصادرة عن الإنسان، فليس هنالك عمل نفسي مهما خيل إلينا أنه تافه يخلو من معنى. فإذا بدا لنا أخذ هذه الأعمال عبثاً، فواجبنا أن نسعى إلى كشف العلة في حدوثه، والغرض الذي يرمي إليه، والنزعة التي دفعت إليه.
ونضرب مثلا لما قدمنا يوضح ما يذهب إليه فرويد قبل أن ندخل في صميم نظريته: دخلت خطيبة إلى الحمام وخلعت خاتم الخِطبة ونسيت أن تلبسه ثانياً، ثم أخذت تبحث عنه ولم تهتد إلى مكانه. نسيان الخاتم سلوك صدر عن الفتاة قد يفسره البعض أنه راجع إلى الشرود أو الانشغال أو الصدفة. وكثير من الناس لا يجدون تعليلا لهذا العمل. أما فرويد فيجعل السبب في ذلك رغبة الفتاة عن خطيبها وعدم رضائها عن الزواج، فتحركها هذه الرغبة الباطنة التي لاتشعربها، لأنها موجودة في اللاشعور إلى نسيان الخاتم، وهو رمز الزواج.
هذه النظرة إلى الأعمال الإنسانية علمية وديناميكية.
فهي علمية لأن فرويد يحاول ربط المظاهر بالأسباب كما يجرى في عالم الطبيعة. فهي نظرة جبرية وليس هذا مما يعاب على فرويد، بل على العكس مما يمدح به محاولته هذا التفسير الجبري الذي بدونه لا يستقيم العلم الصحيح، بل يخرج علم النفس من ميدان العلوم.
وهي نظرة ديناميكية، لأنه يجعل للنفس الإنسانية قوى متحركة يصدر عنها السلوك. وفي ذلك يقول في كتابه (مدخل إلى التحليل النفساني) ما يأتي:
(ليس غرضنا أن نصف ونرتب المظاهر فحسب، بل نريد أيضاً أن نراها علامات على
حركة القوى العاملة في النفس، كأنها مظاهر ميول لها غرض محدود، سواء أكانت هذه الميول تعمل في اتجاه واحد أم في اتجاهات متعارضة. إننا نسعى وراء تكوين نظرة ديناميكية للمظاهر النفسية)
وقد أوردت هذا النص لعلة، ذلك أن أحد الباحثين في علم النفس، وهو الدكتور يوسف مراد المدرس بكلية الآداب قال في كتابه (شفاء النفس) ص95 ما يأتي:
(تمتاز فلسفة فرويد بكونها ميكانيكية جبرية، فإنها تنظر إلى الإنسان كأنه آلة عديمة الحرية خاضعة كل الخضوع لقوى خفية لا يمكن التغلب عليها إلا بالحيلة). وقال في مكان آخر: (أما فلسفة ادلر، فهي على نقيض فلسفة فرويد، تمتاز بكونها غائية اختيارية تفاؤلية. ونعلم أن المذهب الغائي على نقيض المذهب الميكانيكي) ص97 - 98. فهو يجعل مذهب فرويد ميكانيكياً
ويقول الطبيبان ريجي وهسنار في كتابهما التحليل النفساني ص15: (إن نظرية فرويد تمثل الحياة النفسية في نظرة موضوعية على طريقة النظر إلى الوقائع العلمية، كما تمثلها مذهباً يتطور باستمرار، يحتوي على قوى أولية متعارضة أو مكونة أو منتجة. ونستطيع تطبيق اصطلاح علم النفس الديناميكي على هذه النظرة الديناميكية للعقل)
وقد أخطأ الدكتور يوسف مراد خطأ آخر ص97: (وأخيراً يجب أن نشير إلى الشجاعة التي واجه بها فرويد المشكلة الجنسية وإلى الدقة الفائقة التي حلل بها مختلف مظاهر الوظيفة الجنسية، غير أنه أسرف، وخاصة تلامذته، في إرجاع كل ظاهرة سلوكية إلى الغريزة الجنسية)
وليس الأمر كذلك عند فرويد، لأنه لا يرجع كل شيء إلى الغريزة الجنسية، بل بعض تلامذته، وأولئك الذين كتبوا عنه كتابات شعبية تحمل معنى التعميم والتبسيط. وقد دافع فرويد عن نفسه ضد الذين يخطئون فهمه فقال:(لقد كررت وأعلنت بكل وضوح ما استطعت إلى ذلك سبيلا، بمناسبة الأمراض النفسية الانتقالية، أنني أميز تماماً بين الغريزة الجنسية وبين الغريزة النفسية وأن اللبيد يعني نشاط الغريزة الجنسية. إنه يونج - لا أنا - الذي يجعل من اللبيد مساوياً للدافع الغريزي لجميع القوى النفسية).
وقال فرويد في موضع آخر: (لم يغفل التحليل النفساني مطلقاً وجود ميول غير جنسية،
وقد أقام التحليل النفساني بناءه على مبدأ الفصل التام الواضح بين الميول الجنسية والميول المتصلة بالذات أو الأنا وقد أثبت التحليل دون انتظار الاعتراضات الموجهة إليه، أن الأمراض النفسية ليست نتيجة الغريزة الجنسية، بل نتيجة الصراع بين الأنا والغريزة الجنسية
وهنا نجد أن الدكتور يوسف مراد في خطأ ثالث إذ يقول: (إذ ليس هذا رأي فرويد كما رأينا، لأن المرض قد يقع نتيجة الصراع بين الغريزة الجنسية والأنا في حالة الشعور، وقد يكون الصراع في اللاشعور فقط. فالعنين الذي يشعر بعجزه عن مباشرة المرأة يضطرب نفسانياً لشعوره بالضعف).
والغريب أن الدكتور يوسف مراد أنصف نظرية فرويد ص86 بقوله: (والواقع أن المشكلة النظرية التي أثارها التعارض بين فرويد وادلر لا تزال حتى الآن متعلقة. بل يبدو أن النزاع بين الفريقين يزداد عنفاً ويتجاوز حدود المناقشة العلمية الهادئة إلى أساليب التهكم والتحقير). ثم عاد وحقر نظريته بما يخرج عن الأسلوب العلمي.
وأذكر الآن حالة مريض عالجته على طريقة فرويد لأثبت صحة نظريته. جاءني شاب يشكو ضيقاً وقلقاً وتبرماً وانصرافاً عن الاستذكار، وتبلغ سنه اثنين وعشرين عاماً، يعيش مع أخيه الأكبر، يتناول من والده مرتباً لمصروفه الشخصي أربعة جنيهات في الشهر. سألته عن أحوال الجنسية فقال: إنه يتصل بالعاهرات، ولكنه لا يستطيع الزواج نظراً للظروف الاجتماعية إذ لا يزال طالباً، ولا يستطيع الصبر عن المرأة. وبالبحث اتضح أن ضميره يؤنبه على هذه الصلة غير الشريفة، فهناك صراع بين الغريزة الجنسية وبن نفسه الخلقية، وكلاهما كان في مستوى الشعور، وحلت المشكلة بتعليمه التسامي بالغريزة الجنسية نحو الموسيقى التي برع فيها.
وحيث كان فرويد يجعل للغريزة الجنسية أهمية كبيرة في حياة الإنسان، ويجعل لتجارية الماضية المسجلة في اللاشعور أثراً في سلوكه الحاضر، فقد بحث في الحياة الجنسية للفرد منذ ولادته، حتى دور المراهقة، وافترض أن الرضيع يشعر بلذة جنسية من امتصاص ثدي أمه ومن إخراج الفضلات ومن الملامسة مما لا يتسع تفصيله الآن
وإنما نذكر أهم الاعتراضات العلمية التي توجه إلى نظرية فرويد لتكون ماثلة بالبال
وأولها أن نسبة لذة جنسية إلى الرضيع والصغير فيها شيء كثير من الإسراف والغلو بل الجرأة. ثم إن فرويد يقيم بناء نظريته على دراسة المرضى والشواذ، ويتخذ من هؤلاء سبيلا إلى أحكام عامة يصدرها على سواد الناس وهم الأغلبية، فيحكم بالخاص على العام، وبالشاذ على السليم. كما أنه لا يعني أن تفسر شخصية الإنسان في ضوء الغريزة الجنسية، ولو عكسنا لأصبنا الحق، فتصبح الغريزة الجنسية وما يتبعها من مظاهر إحدى وظائف الفرد التي تدخل في حسابنا، وليست كل وظائفه على رأي المغالين في مذهب فرويد.
أحمد فؤاد الأهواني
الخائبون.
. .!
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
إن أولئك الذين يقسمون الحياة إلى قسمين: ملهاة، ومأساة، قصيرو النظر؛ فالحياة أكبر من هذين، وهي تحويهما لأنها أوسع من أن تحِد بحالتين فقط، وإن كانت هاتان الحالتان تمثلان طرفي نقيض
وحيث تنتهي الملهاة تبدأ المأساة في حياة كل فرد أو مجموع، كما أن نهاية المأساة قد تكون بداية لملهاة جديدة. . . وهكذا
والناجحون في الحياة هم أناس رأوا منها جانباً واحداً فقط. وبينهم وبين أن يدركوا معنى الحياة بصورة شاملة عبور الجانب الآخر. .
ولا يضير هذه القاعدة أن يعيش في الدنيا أناس جربوا النجاح حتى آخر لحظة من حياتهم، أو أن يكون هناك آخرون لم يصادفوا غير الفشل. فالواقع أن هؤلاء هم الشذوذ الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها.
ويجب أن نفسر ما نرمي إليه من النجاح أو الفشل في الحياة الفردية، فقد يفهم كثير من الناس من النجاح جانباً واحداً مثلا، وقد يكون هذا الجانب هو الثروة عند الفقراء، أو الصحة عند المعلولين، أو سواء الخلقة عند المشوهين.
ولكن النجاح الذي نرمي إليه هو قدرة الفرد أو المجموع على بلوغ مثل أعلى لا يتقيد بحاجات الفرد الزمنية أو المادية، وينطوي على فكرة سامية وهدف مقصود.
والخائبون في بلوغ هذا الهدف، مع استمرار كدهم، هم الذين يستحقون العناية، لأنهم بذلوا جهدهم كله، وما زالوا يبذلون. . .
قيل إن غادة جميلة لم يأسر قلبها حب، ولم تجرب بعد زكامه، اختصم حولها رجلان كان كل واحد منهما يظهر لها أقصى غاية الحب والتضحية. . . فحارت في أمرها، ولم تجد في قلبها هوى معيناً نحو أحدهما على التخصيص فصممت على أمر!
قالت لهما: إنها لا تشعر بميل قطعي إلى أحدهما، ولكنها ستهب نفسها للفائز منهما في صراع ينشب بين الاثنين، يقرر الغلبة لواحد منهما!
واصطرع العاشقان وتمت العملية بفوز الفائز. . .!
والتفت هذا مفتوح الذراعين ليحتضن أمنيته في الحياة. . . فما راعه إلا أن رآها منكبة على العاشق المصروع، تضمد له أوجاعه، وتهب له قلبها!!
فلما سئلت: لماذا غيرت رأيها؟ أجابت بأنها لا تستطيع إلا أن تحترم ذلك الذي أفنى كل جهده في سبيل الحصول عليها، ولم يبق لديه بعد ذلك شيء يغنيه!!
وهذه المرأة سليمة الشعور، قويمة العاطفة، وهي خير مثال يضرب لفكرة تقدير (البطل الخائب)، وإن كان هو في هذا المثال قد خرق القاعدة فنال ما تمناه بسهولة. . .
والنجاح السهل الذي يخيل لبعض الناس أنه ميزة يمتاز بها بعض من حبتهم الطبيعة ما يسمونه (الحظ)، وقد شوه الواقع تشويهاً، وأصبح من جملة الشرور البشرية التي يكابد منها كل فرد في كل مجموع!
النجاح السهل هو ما يريده كل الناس في كل الأزمان، لأنه خير اختصار للمجهود الشاق الذي ينبغي على الحي أن يبذله في سبيل حياته!
وأسطورة (الحظ) هي الحلم الذي يطرق أخيلة الطامحين بعد كل كابوس!
وليس معنى هذا أن ليس هناك (حظ) في الدنيا، ففيها كثير من الحظوظ والمحظوظين، ولكنهم - هنا أيضاً - القلة التي تثبت القاعدة ولا تنفيها.
ومن هذه الأسطورة نشأت شرور (الحياة الحالمة) التي تبدأ بالمراهقة، وقد تنتهي بالسجن والعذاب، أو بشفاء المسؤوليات التي لا يستطيع الفرد أن يضطلع بها.
والحالمون هم أولئك الناس الذين يريدون أن يختصروا الطريق إلى غاية معينة لكي ينصرفوا - من بعدها - إلى المثل الأعلى الذي يسعون إليه، فلا تنتهي حياتهم قبل أن يقطعوا الطريق، وتلتاث أفكارهم في الصراع على الآونة الحاضرة، ويصبح المستقبل عندهم أبعد من الماضي.
والمقامرون هم خير مثال لذوي الحياة الحالمة إذ كان مثلهم الأعلى هو الثروة! والموسوسون هم خير مثال لأولئك الذين يريدون السعادة الطهرية من أقرب طريق!
أما شر ما يمكن أن يصنعه (الحالم) في الدنيا، فهو بعد أن يتحقق حلمه الأول
فليست هناك قوة تقنع الإنسان بعد تحقيق أول حلم له بأنه غير موهوب وذي رسالة ينبغي عليه أن يؤديها
ومن هنا يبدأ النزاع الأبدي بين المنطق والواقع، ويشتد الصراع بين قوة دافعة، وبين واقع واقف كالجدار
ونحل النكبة عند اختراق أول جدار، لأنه يفك أسر جميع ما في الفرد من قوات مخزونة لكي يندفع إلى الأمام
ولا تنتهي حياة كهذه إلا بكارثة، وأهون الكوارث في هذا المضمار هي الكارثة تقتصر على الشخص الفرد نفسه، ولا يشترك معه آخرون
وما هذه الحرب التي نكابد شرورها إلا نتيجة كابوس طويل لرجل حالم تحقق حلمه الأول!
الخيبة مرحلة من مراحل الحياة يجب أن يتخطاها الفرد لكي يكون ذا تجربة
ولا يضير هذه القاعدة قول (أوسكار وايلد) إن: (التجربة هي اللفظة التي اصطلح الناس على تسمية أخطائهم بها)
فالواقع أن الخطأ كالخطيئة، وكما أن الخطيئة عمل إيجابي قائم بذاته، فكذلك الفضيلة، وكل فضيلة مبنية على السلب فهي شق ينبغي تكملته
وكل نجاح سهل يحصل عليه الإنسان، فهو الشق الناقص من حياته، وينبغي تكملته
ومن لم يصطرع في حياته تهشم عند أول صراع بعد نجاحه
وليس انتحار الموسرين والأصحاء والموهوبين إلا لأنهم حازوا أكبر نجاح بأقل خذلان، ولأنهم اصطدموا بالواقع لأول مرة في حياتهم، جاءت الرجة أقوى مما يتحملون
ولهذا فلن يكون مما يضير الإنسان الكامل الإنسانية أن يكون (خائباً)!
عبد الوهاب الأمين
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 27 -
في ميدان السياسة:
ورضيت حكومة كرمول عن ملتن أعظم الرضاء وأصبح لديها المكين الأمين، ورفع كتابه ذكره في أنحاء أوربا، ومما ساعد على ذلك أن كثيرين كانوا يضيقون بترفع سلامسيس وصلفه ونظرته إلى الكتاب والأدباء جميعاً نظرة الزعيم الذي لا يرضي منهم بغير الإذعان له، وساعد عليه كذلك أن الناس عادة ينجذبون إلى الكاتب الجديد الذي يظهره موقف كهذا الموقف. هذا إلى أن ملتن كان يتغنى بالحرية ويدافع عن حق الشعب فتشيع في عبارته حرارة الوطنية، وهو إنجليزي يناضل عن بني جنسه، بينما يرى الناس سلامسيس يعمل لحساب غيره في قضية لا يربطه بها رباط إلا استجابة لشارل الثاني، وشتان بين موقفه وموقف خصمه. . .
وأصبح مقر ملتن في ديوان الحكومة كما أصبح بيته قبلة الزائرين من ذوي المكانة وأعلام الأدب من الإنجليز وغير الإنجليز من الأجانب الذين يهبطون إنجلترا، ولا ريب أن هذا قد أثلج فؤاده وأبهج نفسه، فما أشد ولوعه بنباهة الشأن وبعد الصيت!!
ويزعم جونسون أن ملتن قد نال جزاءاً على صنيعه ألف جنيه صرفت له بإذن من البرلمان، ولكن بايتسون ينكر هذا الزعم ويقول: إن جونسون هو المسؤول عن شيوعه في كل ما كتب عن ملتن من تراجم، فهو خالق هذا الزعم؛ والحق أني لم أجد فيما زعم جونسون برهاناً لزعمه ولا فيما أنكر بايتسون دليلا لإنكاره، ولعل جونسون تأثر بما قاله سلامسيس إذ أنه اتهم ملتن فيما اتهمه به بأنه مأجور يكتب ما يكتب لاعن عقيدة ولكن عن
رغبة في الكسب، ويعتمد بايتسون في نفيه هذا عن ملتن على مجرد استبعاد حدوثه، فما يتفق هذا وما طبع عليه ملتن من كبرياء واعتزاز
على أن ملتن في الواقع قد ثمن ما كتب، ودفع ذلك الثمن غالياً لا يقوم بمال ولا بشيء من أعراض هذه الحياة، وأي شيء أغلى عليه من ناظريه؟ لقد كان ذلك المجاهد الحر يشكو العلة في عينيه منذ بضع سنين، وكانت تنتابهما غشاوة من حين إلى حين؛ وفي سنة 1650 ذهب النور من عينه اليسرى، وحذره الطبيب ملحاً، وما برح يكرر عليه أنه إذا أجهد عينه اليمنى، فهي ذاهبة كأختها لا محالة، ولكنه جاد على وطنه بما بقي من بصره، قال في ذلك بعد أن وقعت الكارثة بسنتين أي سنة 1654:(لقد كان علي أن أختار بين أن أنكص عن واجب سام أو أفقد بصري، وفي هذه الحالة ما كنت لأستطيع أن أصيخ إلى الطبيب. . . ولم يك في وسعي إلا أن أستجيب إلى ذلك المرشد القائم في داخلي، ذلك الذي لست أدري ما هو، والذي تحدث إليّ من السماء، واعتبرت في نفسي أن كثيرين قد اشتروا ما هو أقل خيراً من هذا بضر هو أعظم مما يتهددني من ضر، كهؤلاء الذين يبذلون نفوسهم مثلا ليشتروا المجد فحسب؛ وعلى ذلك فقد جمعت عزمي على أن أبذل ما بقي من بصري على قلته في أداء أعظم ما في طوقي أداؤه من خدمة للصالح العام)
ولقد أقبل المجاهد المصمم لم ينكص عن جهاده، وإنه ليعلم أن ذهاب بصره هو عقباه التي لامحيص عنها؛ وما دخلت سنة 1652 حتى حلت به الكارثة وا أسفاه، فحيل بينه وبين النور، وغشيته الظلمة، وهو لا يزال من عمره في الثالثة والأربعين وباتت عيناه اللتان كانتا أجمل ما في محياه الأبلج الحلو أقوى دواعي الحزن والألم لكل من تطلع إلى ذلك المحيا الكريم؛ وكانت الأرض يومئذ تأخذ زخرفها وتتزين للربيع، ولكن الشاعر الذي عشقت روحه الجمال لن يرى بعد اليوم جمالا لربيع!
وما نحسب أن في تاريخه على ما يزخر به من الشواهد على شجاعته شاهداً هو أجل من هذا أو أصدق منه أو أبعد أثراً في النفوس، وإنا لنحس حياله مثل ما نحسه حيال فارس ترك في الميدان شلوا من أشلاءه: أو سقى أرض وطنه بفيض من دمه!
ولأن فقد البصر يحول بين عامة الناس وبين متع الحياة، فذهاب بصر الشاعر أو الكاتب معناه الحيلولة بينه وبين طلب الحكمة، وهذا أوجع في نفسه وآلم لخاطره من حرمانه من
اللهو ومن زينة الدنيا؛ ولنا أن نتصور وقع هذا في نفس كنفس ملتن، ذلك الذي ما انصرف يوماً عن القراءة والدرس على الرغم من كثرة شواغله وتعدد مشاكله!
البطل الضرير
أحاطت الظلمة بالشاعر العظيم، فهل ذهبت نفسه حسرات على ما أصابه؟ كلا، بل تماسك للخطب وقد أُنْذِرَ قبل وقوعه، وتذرع بالصبر، وإنه لذو كبرياء حتى على الدهر وأرزائه؛ وما كان لروح مثل روحه أن تهن مهما كرثته الأهوال ونزل به ما يعيا به الرجال!
وراح البطل يتلمس العزاء لنفسه، فكان عزاؤه الذي اطمأنت إليه روحه أنه أدى لوطنه صنيعاً جليل القدر بكتابه الذي رد به على سلامسيس، فليس ضاره بعد ذلك أن يذهب في سبيل صنيعه بصره. . .
وثمة عزاء آخر يدلنا على شدة اهتمام ملتن بنفسه وفرط اتجاه فكره إلى ذاته، وعظم انطواء شعوره على ما عسى أن يكون شعور الناس نحو شخصه لا في جوهره فحسب، ولكن في مظهره كذلك؛ وذلك ما أحس به من ارتياح، إذ علم أن ذهاب بصره لم يؤثر في مظهر عينيه؛ عبر عن ذلك الارتياح في قوله:(إن عيني لم يمسسهما في مظهرهما ضر، وإنهما لتلتمعان بضوء لم تحجبه غشاوة، ومثلهما في ذلك مثل عيني من يبصر بصراً تاماً، وهذه هي الناحية الوحيدة التي أجدني فيها على الرغم مني منافقاً)؛ وفي إشارته إلى ما عده نفاقاً منه سخرية عذبة وتهكم لا يخلو من مرارة. . .
ولندع ملتن نفسه يفصح عما جال في خاطره نتيجة لما أصابه، فقد عبر عن ذلك أبلغ تعبير وأصدقه في مقطوعة من مقطوعاته؛ وأشار إليه إشارة رائعة في مقطوعة أخرى، قال في الأولى: (إذا أنا تفكرت كيف انطفأ من حولي الضوء قبل أن أقضي نصف أيامي في هذه الدنيا الواسعة المظلمة، وكيف عطلت فيَّ تلك الملكة الوحيدة التي يعد تعطليها موتاً من الموت، بينما أجد نفسي أكثر نزوعاً لأن أخدم بها خالقي وأن أقدم حسابي الحق بين يديه، خشية أن يحق عليَّ لومه؛ إذا أنا تفكرت في ذلك تساءلت في حماقة: هل جعل الله النهار للعمل، بينما أحرم هكذا من الضوء؟ ولكن الصبر كي يقضي على هذه الشكوى لا يلبث أن يجيبني: إن الله غني عن عمل الإنسان وعن مواهبه فإن الذين يذعنون لسلطانه الرحيم خير إذعان هم الذين يخدمونه خير خدمة، وإن مكانته لهي مكانة الملك المهيمن،
يجرى بأمره الألوف في البر والبحر دائبين، وكذلك يخدمه من هم واقفون لأمره منتظرون). . . وقال ملتن في المقطوعة الأخرى يخاطب صديقه سيريك سكنر:(أي سيريك، منذ ثلاث سنوات وهاتان العينان وهما من النور سليبتان، ولو أنهما سليمتان في مظهرهما الخارجي من العيب ومن الغشاوة قد نسيتا إبصارهما، ولا يقع في مقلتيهما المكفوفتين منظر لشمس ولا لقمر ولا لنجم خلال العام ولا لرجل ولا لامرأة، ومع ذلك فلست أشكو يد الله ولا مشيئته، لا ولا ينقضي شيء من حماسة القلب ومن الأمل، بل أحتمل وأمضي قدماً، ولعلك تسأل: ماذا يعينني؟ إلا إنه شعوري أيها الصديق بأني فقدتهما مرهقاً بالعمل في سبيل الدفاع عن الحرية، ذلك العمل النبيل، عملي الذي ترن به أوربا من جانب إلى جانب؛ وإن هذا الخاطر لخليق أن يقودني في متاهة هذه الدنيا، فأسير به رضيَّ النفس، ولو أنني أعمى ولم يتح لي غيره رائداً أسمى)
واختير له في أبريل سنة 1652 مساعد يصرف شؤون وظيفته بأمره، ويقرأ له ما يقتضيه عمله من قراءة، ويكتب ما يميله عليه مما يستدعي العمل أن يدون؛ وأقبل ملتن على عمله كأن لم يعقه عنه عائق، يشعر من يدانيه أنه رخي البال مطمئن الخاطر، لا يفتر اهتمامه بالسياسة، ولا يتخاذل عزمه أو تتطامن كبرياؤه. . .
وفي مايو استطاع ملتن ولم يمض شهر على مصيبته أن ينظم مقطوعة وجهها إلى كرمول عنوانها (إلى اللورد جنرال كرمول) ولم يك كرمول يومئذ قد سمي حامي الجمهورية بعد، وإنما كان بسبيل أن يحمل هذا اللقب، إذ كان ينظر إليه كأعظم رجل في الدولة، وألزم شخصية لسلامتها إذ ذاك، وقد نجاها بعد هزيمة الملك مما كان يتحيفها من مهالك، فأعاد النظام إلى أيرلندة سنة 1649، وهزم الملكين في إسكتلندة سنة 1650 والتي تليها وأجبر شارل الثاني على الفرار إلى فرنسا؛ وبذلك قبض على أزمة الحكم في المملكة جميعاً، ولم يبق يستدعي حكمته وهمته إلا ما يتصل بالناحية الدينية، فقد كثرت الفرق والطوائف التي يخشى من اختلافها بعضها مع بعض، فهناك قساوسة شارل الأول، وهناك البرسبتيرينز ثم المستعلون؛ وتركت بعض الكنائس بغير رعاة من هؤلاء ولا من هؤلاء؛ ودعا فريق إلى أشراف الدولة على الكنيسة بحيث يتمشى النظام السياسي الجديد مع نظام ديني يشاكله، ورغب فريق آخر إلى القضاء على الكنيسة الإنجليكانية، أي كنيسة الدولة الباقية من عهد
شارل، واقترح بعض المستقلين وضع نظام جديد لكنيسة لا يقبل فيها رجل من رجال الدين إلا إذا أقر خمسة عشر مبدءاً أساسياً وضعها هؤلاء، وإذ ذاك لم يرض ملتن عن هذه القيود، واهتاجه الحنين إلى الدفاع عن الحرية، وتخالجه السخط على هؤلاء الذين يريدون شراً بالحرية الدينية في عهد الحرية السياسية، فنظم مقطوعة يناشد ملتن أن يتجه من شؤون الحرب إلى شؤون السلم ليدافع عن الحرية الدينية في مهارة وجدارة، كما دافع عن الحرية السياسية!
وكأنما كان بين ملتن وبين القدر ثأر، فلم يكد يفيق مما غشيه ويذهب عنه روعه، حتى روع بموت وحيده الطفل فأرمض جوانحه الحزن، وكان لا يذكر ولده أو يقع في سمعه إشارة إليه من قريب أو من بعيد إلا تبادر دمعه فامتلأت به عيناه الكفيفتان فما استطاع - وهو القوي الجلد - أن يحبسه! وضربه الدهر ضربة أخرى ولما يرقأ دمعه، إذ ماتت زوجته بعد ابنها بشهر وبعض شهر في يونيو سنة 1652، وقد وضعت له أنثى فتركتها في سرير الوضع ووسدت التراب وهي بعد في السادسة والعشرين وقد مضى على زواجها بملتن تسع سنوات، وعاشت معه نحو سبع سنوات بعد أن صلحت ذات بينهما
وهكذا تتوالى عليه المحن وتتنوع صروف الدهر فتمحصه وتثبت فؤاده، ويجمع في حياته بين وجهي الشجاعة، فله إلى جانب إقدامه وحميته عظم صبره وصرامة عزيمته!
وحق له أن يستريح من السياسة ومتاعبها، وأن يطلب العزاء في قيثارة وله في هوميروس من قبله أسوة، وما يكون له بعد ما حاق به عزاء إلا الشعر، لعله يقضي منه مأرب صباه ومنزع هواه بعد أن شغلته عنه الحوادث سنوات طويلة
ولكن البطل الضرير لم يكد ينزع إلى الراحة ويستثني نسائم الشعر، حتى انبعثت صيحة جديدة من نفس المكان الذي انبعثت منه الصيحة الأولى، فنشر في هيج كتاب جديد باللاتينية سماه صاحبه (استصراخ دم الملك السماء على الخائنين من الإنجليز) وأخذ مؤلفه يسخط على كرمول وجنوده في عبارات شديدة تجد مثالا لها في قوله:(إن جريمة اليهود بصلب المسيح ليست شيئاً مذكوراً إذا قيست بإعدام شارل الأول)؛ ثم راح يمتدح سلامسيس ويطنب في مدحه ويغلو في ذلك غلواً كثيراً؛ وبقدر ما أسبغ على سلامسيس من مدح كانت سهامه التي قذفت بها ملتن، فهو عنده دودة تدب من كومة قمامة، وهو أحط من
القرد وأكثر ضآلة من البقعة، وهو أرنب فاتر وصعلوك جائع هزيل، وإنه لجاهل طرد من كمبردج لاستهتاره وتبذله. وفر إلى إيطاليا لما لحقه من عار إلى غير ذلك من عبارات أقل ما توصف به أنها البذاءة في أشنع صورها وأرذلها.
(يتبع)
الخفيف
الحلم والتحلم.
. .
للأستاذ محمود عزت عرفة
- 2 -
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه)
حديث شريف
معاوية بن أبي سفيان:
استبد معاوية بأمر الشام بعد إذ جنح إليه سواده، وقامت بنصرته أجناده؛ فناوأ بهم (علياً) على عرش الخلافة، وأضرم على أهل البيت وأبناء العراق من شيعة أمير المؤمنين نار حرب عوان أعادت أيام الجاهلية جذَعة بعد أن عفَّت على تراثها أخوة الإسلام، ومسحت جراحها يد الشريعة السمحة. ومهما يكن من شأن معاوية فلقد كان صحابياً جليلا عامر القلب بالإيمان، زاخر النفس بالورع والتقوى، أشدَّ ما يكون خليفة حدباً على الإسلام والمسلمين، وأعظم ما يكون خشية على هذه البنَّيِة الناهضة أن تتصدع وتنهار، وهو يرى جوائح الحرب تعصف بقوائمها وتتحيف من دعائمها.
ولعله كان بسبيل أن يراجع أمر نفسه، ويتدبر السبيل للخروج بالمسلمين من هذا المأزق الذي التاثوا فيه عندما قُتل (علي) بيد ابن ملجم، فاستقر زمام الأمور بيد معاوية، وتدلت إليه قطوف النصر ثمراً جنياً.
ولم يصعب عليه بعد ذلك أن يعالج أمر الحسن بن عليّ بما يكفيه مؤنة قتاله ويدفع عنه شرَّ خلافه؛ فالتأمت صفوف المسمين وأغمدت سيوفهم، وسمى معاوية هذا العام عام الجماعة وكانت مسرته بالغة بما آل إليه أمر هذا الخُلْف، وثقته في مستقبله عظيمة عظَم قوته في حاضره، ثابتة ثبات كفاحه في ماضيه؛ حتى لأقبل غداة النصر على أعدائه من بني هاشم باسط اليدين بالمنحة وبالعفو وهو يقول:
يا بني هاشم: والله إن خيري لكم لممنوح، وإن بابي لكم لمفتوح، فلا يقطع خيري عنكم
علة، ولا يوصد بابي دونكم مسألة.
سلك معاوية نهجاً من التسامح امتلك به القلوب، وبقدر اطمئنانه على ملكه كان تسامحه وإغضاؤه، وعلى حسب مقدرته على الأخذ كان جنوحه إلى الإهمال والترك. يقول في خطبة له مشهورة ألقاها بالمدينة عام الجماعة:(والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك دَبْر أذني وتحت قدمي).
وكأنما كان يخجل معاوية أن يحول بين أعدائه وما يتشهَّون من تناوله بألسنتهم؛ بعد إذ تناولهم هو وجنوده غير راحمين طعناً وضرباً بأطراف الرماح وأسنة السيوف. ولقد دخل وهو خليفة على صعصعة بن صوحان العبدي - وكان سجيناً عنده - فقال له صعصعة في حوار بينهما غير راهبٍ منه ولا خاش: أما والله مالك في يوم بدرٍ مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل:(لا حلّي ولا سيري) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنى تصلح الخلافة لطليق؟
فقال معاوية: لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلتُ جهلهُمو حلماً ومغفرة
…
والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
. . . لقتلتكم!
ولقد أسبغ معاوية عطفه على أهل الشام لسابق مأثرتهم عنده، وزادهم على العفو واسع العطية وجميل الإقبال، حتى لأفضل مرة بمائة ألف على أبي جهم بن حذيفة حين قال له: نحن عندك يا أمير المؤمنين كما قال عبد المسيح لابن عبد كلال:
نميل على جوانبه كأنَّا
…
نميل - إذا نميل - على أبينا
نقلَّبه لنخبرَ حالتْيِهِ
…
فنخبر منهما كرماً ولينا
وقسم مرة قُطُفاً (جمع قطيفة) فأعطى شيخاً من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه، فحلف أن يضرب بها رأس معاوية فأتاه فأخبره، فقال له معاوية: أوفِ بنذرك، وليرفق الشيخ بالشيخ!
كان تحلّم معاوية إذن تكفيراً لما سبق من ضروب الأذى أو وفاء لما مضى من سوالف الجميل. . . ولقد أراب ذلك كثيراً من المؤرخين - ممن سجلوا حوادث عصره - حتى لاتَّهموه في هذا الحلم المتصنع، ولم يثبتوه له كفضيلة يحمد عليها؛ وكان ذلك إما حقداً عليه
وغمطاً لحقه، وإما توسعاً في استنباط سريرة نفسه، واستكناه بواعث تصرفه؛ جرياً على سنة المتفلسفين والنقدة من أمثال الجاحظ؛ فقد ورد في كتابه البيان والتبيين إنه قيل لشريك بن عبد الله: كان معاوية حليما! فقال: لو كان حليما ما سفه الحق ولا قاتل علياً، ولو كان حليما ما حمل أبناء العبيد على حرمه، ولما أنكح إلا الأكفاء. ثم يقول الجاحظ: وأصوب من هذا قول الآخر: كان معاوية يتعرض ويحلم إذا أسمع، ومن تعرض للسفيه فهو سفيه. وقال الآخر: كان يحب أن يظهر حلمه؛ وقد كان طار اسمه بذلك، فكان يحب أن يزداد في ذلك.
وكيفما كان الرأي في حلم معاوية فقد وطد بهذا الخلق الكريم ملكه، ومسح ببلسمه الجراح التي أسال دماءها؛ ولم يكن ليلومه على هذا التصرف إلا غِرٌّ مأفون، أو نزق أرعن سفيه، وكذلك كان ابنه يزيد الذي عتب على أبيه يوماً فقال: لقد أفرطت في الحلم حتى خفتُ أن يعد ذلك جبناً (!!) فأجاب الوالد الحصيف: ليس مع الحلم ندامة ولا مذمة. . .
أبو جعفر المنصور:
يعد الناس أبا جعفر مؤسساً لملك بني العباس، بما بذل في ذلك من همة وأنفق من جهد. . . لكن سبقه إلى تبوَّئ عرش الخلافة أخوه أبو العباس السفاح، ومن ثم يصطلح المؤرخون على تلقب أبي جعفر بالمؤسس الثاني للدولة العباسية، ولقد أفضي اللواء إلى يده بعد أخيه فنهض بأعباء الكفاح وحده، وعنف على مناوئيه عنفاً مزق به أديمهم وفلَّ حدهم، إذا كانوا من القوة ومن الكثرة - وهو الضعيف بجدة ملكه القليل بعدة أنصاره - بحيث لا تجدي مع مثلهم المهادنة، أو تدفع من بأسهم المطاولة والمصانعة. كان ملك بني العباس كنبتة غضة لا تكاد تنهض على ساقها لتأخذ حظها من الغذاء والنماء؛ إلا أن يحيطها بسياج متين من القوة والبطش يرد عنها كيد الموتورين من بقايا آل مروان، وثورة الحاقدين من شيعة آل هاشم، وسائر من يتربصون به الدوائر من العرب. ولم تكن قد تهيأت بعدُ لخلفاء بني العباس تلك القداسة التي حظوا بها على تطاول السنين، وإنما كانت أكثر العيون تنظر إليهم كدهماء ارتفعوا على ظبات السيوف إلى تلك المكانة العلية التي بلغوها، فلا غرو إذن أن تكون ظبات السيوف وحدها هي التي تحفظ عليهم هذه المكانة، وتقرها فيهم وفي أحفادهم من بعدهم. قال عبد الصمد بن علي العباسي للمنصور يوماً: لقد هجمت بالعقوبة
حتى كأنك لم تسمع بالعفو. فقال المنصور: لأن بني مروان لم تَبْلَ رمحهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء. فليست تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة!
تلك كانت سياسة المنصور التي أخذ نفسه باتباعها مواجهة منه للمخاطر التي تتهدد ملكه؛ ولقد بعثته الريبة على أن يبسط يده بالعدوان إلى أقرب الناس إليه، من وزرائه وخاصته وأعوانه فضلا عن أعدائه والخارجين عليه. فاستقام للمنصور الأمر، وعنتْ له لوجوه رغبة منها أو كرهاً، حتى لعادت إلى نفسه بعد حين تلك الطمأنينة التي تفئُ معها النفوس إلى جانب من الحلم والإسجاح. . .
وكأنما كانت نفس المنصور قد غثيت لمنظر هذه الدماء التي أفاضها أنهاراً؛ أو عادت إليه ثقته ووقاره بعد أن طاحت بهما رهبة الحوادث، أو هو قد بلغ من نفسه هذا الزجر والتقريع الذي كان يلقاه به أمثال عبد الصمد بن علي من فضلاء أصحابه، وذوي الرأي والنصيحة فيهم؛ أو كأنما استشعر المنصور قلق الرعية من هذا الكابوس الجاثم فوق صدورها، ورأى مرجل الحفيظة والسخط يغلى في قلوب الناس فمال إلى شيء من التحلّم بقدر ما استراحت إلى ذلك نفسه، وكان عجيباً - عند النظرة غير الدقيقة - أن يصدر مثله عن مثله!
ولعله كان لا يزال يعالج هذا الأمر من نفسه، ويتكلف الدربة عليه، ويتجرعه ولا يكاد يسيغه. . . عندما اعترضه المعترض في خطبة له وهو يذكّر بالله تعالى فقال: أذكرك من ذكَّرتنا به يا أمير المؤمنين!
فكان من جوابه أن هشَّ للاعتراض وبش، وذكر الله واستعاذ به ثم قال: وما أنت يا قائلها فوالله ماالله أردتَ بهذا، ولكن ليقال قام فلان فقال، فعوقب فصبر، وأهونْ بها من قائل لو كانت. وأنا أنذركم أيها الناس أختها! فإن الموعظة الحسنة علينا نزلت وفيما ثبتت. . . ثم أخذ بقائم سيفه وقال: إن بكم داء هذا شفاءه، فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به، فما بعد الوعيد إلا الإيقاع؛ وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله.
كان المنصور - وقد ظفر برؤوس أعدائه - لا يضيره أن يعفو عن أذنابهم، وأن يضفي ثوب حلمه على من نهض مع الرؤساء من أوشاب الناس وعامتهم، لأن إشمال العقوبة لا
يخلو من الظلم، والعفو عن العامة - وهم سريعو النفرة سريعو الفيئة - أقوم بأسباب الملك وأجمع لشمل الرعية، وأكفل بتقدم الحياة وانتظام العمران.
قال المنصور يوماً لجعفر الصادق: قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربي - يعني عند ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي فيهم - وقد رأيت أن أبعث إليهم من يعور عيونهم ويجمر نخلهم. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين! إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف قدر فغفر، فاقتد بأنهم شئت، وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون. فقال أبو جعفر: إن أحداً لا يعلمنا الحلم، ولا يعرفنا العلم! وإنما قلتُ هممت ولم ترني فعلت. وإنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم. . .
وتحقيقاً لهذه الأغراض البعيدة نفسها كان عفو المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، فإنه كان ممن شق عصا الطاعة، وداهن في شأن إبراهيم بن عبد الله العلوي. فلما صار إلى المنصور أمر الربيعَ فخلع سواده، ووقف به على رؤوس اليمانية في المقصورة في يوم الجمعة، ثم قال: يقول لكم أمير المؤمنين، قد عرفتم ما كان من إحساني إليه وحسن بلائي عنده، والذي حاول من الفتنة والغدر والبغي وشق العصا ومعاونة الأعداء. . . وقد رأى أمير المؤمنين أن يهب مسيئكم لمحسنكم، وغادركم لوفيكم!
وحمل إلى المنصور عبد الحميد بن ربعي بن خالد بن مِغْداق فقال: لا عذر فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى. قال: لست أقتل أحداً من آل قحطبة بل أهب مسيئهم لمحسنهم وغادرهم لوفيهم.
وعفا المنصور عن عمه عبد الله بن علي بعد أن تمت هزيمته على يد أبي مسلم الخراساني، واكتفى باعتقاله حتى مات في محبسه.
وهكذا بدا المنصور قاسياً شديد القسوة، ثم تكلف من التحلّم ما أفضى به إلى قريب من الحلم، عندما استتب له الأمر وبلغت الطمأنينة من نفسه مبلغها.
(يتبع)
محمود عزت عرفة
علوم البلاغة بين القدامى والمحدثين
للأستاذ كامل السيد شاهين
مدرسة الرسالة، لها طابعها الخاص، في المساجلة والنقاش على هذا أسست، وامتحنتها الأيام بضروب من المحن، فثبتت على الزعازع، وانتصرت على الأغراض والأهواء. يعلم ذلك من تابع (الرسالة) منذ مولدها الميمون إلى حاضرها الزاهر.
فالرسالة للجميع بلا تفضيل ولا إيثار. لأن البحث والدرس يلدان الحقيقة التي كانت نشدة أصحاب العقول منذ خلقت الفلسفة وبهما تقررت الحقائق وثبتت، ولم يسفها التضليل مع السافيات.
إذا تقرر هذا، فليسمح لي الزميلان: الطنطاوي والعماري، أن ألفت نظرهما في رفق إلى مزالق ما كنت أحب لهما أن يتورطا فيها، أو ينحدرا إليها فقد راع الأول أن يقول أستاذ البلاغة في الجامعة (الله يقول لنبيه: يا أخي أنت حارق نفسك ليه؟). وراح يزعم أن هذا إشراك وكفر، ويستعدى على الجامعة والجامعين، ويثير الناس ليداركوا أبناءهم أن يجرفهم تيار الشرك والإلحاد!
بالله هوِّن عليك يا علي!، فليس ثمة شرك ولا كفر، وأنت أخبرُ الناس بذلك، وأدراهم أن هذه الكلمة قد فقدت حقيقتها في أفواه الناس، ألم تسمع إلى الفلاح يهز حماره، ويقول يا أخي سِرْ! أفتراه قصد أخوة النسب أو الرضاع، أو الآدمية، أو الحمارية. لا: إنما هي كلمة تحننٍ وتعطف! وشبيه بهذا قول السائق لحصانه: يا شيخ! والنظائر في هذا أكثر من أن تحصى.
فلا تُرَعْ، ولا تستنفر وأبق على الجامعة والجامعيين، ودَعْ حديث الكفر والإلحاد فقد جنت مصر ثمراً مراً في دهر طويل، كانت حَرِيّة أن تصرفه فيما يفيد ويغنى!
ثم اللغة العربية، ليست لغة الإيمان والإسلام، فقد سبقت الإيمان والتوحيد بقرون طويلة، فإن أبيْتَ إلا أن تخرُج لغة مؤمنة مسِلمة موحدة، فدونك فامنع دراستها في كلية اللغة ودار العلوم بمصر، ودار العلوم ببغداد، وأنشئ لك اللغة المباركة التي ولدت مسلمة وشبت مسلمة، ثم أدعنا، وأنا - إن شاء الله - لمستجيبون! وأظن هذه لمحة دالّة في علاقة اللغة بالإيمان والإسلام. فإن غُمْت فسنفرد لها مقالا خاصاً يضم الشتيت ويجمع المتفرق.
وأما أنت يا عماري، فكنت بمنجاة من اللوم، إذ عرضت للأسلوب الذي تدرس به البلاغة في الجامعة فلكل امرئ فيما يحاول مذهب، وما كنت أحب أنه سيغريك نقدد الأسلوب بنقد الآراء، فأما إذا انحدرت إلى هذا فهُلمّ!:
(1)
تقول: (إن الفكرة المتسلطة علي في هذا الفن أن يجعل لكل عبارة من عباراته منبعاً لمعان نفسية).
إي نعم، يا علي، أأنت قرأت تعريف البلاغة؟ إن الذي لا يخلف فيه اثنان هو أن البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال ولا أزيد بياناً ولا بسطاً، ولكن هذه المطابقة لا تكون إلا إدراك المتكلم لنفسية السامع وما تحوي من ملابسات، فهذا هو فحوى كلام الأستاذ الخولي، أفتماري في هذا؟ إذن فهات تعريفك أنت لعلم البلاغة فأنا منتظرون!.
(2)
تقول: (أن الأستاذ لا يؤمن بالماديات الصرفة، ولايستحسن تشبيه الفرس بالثلج في البياض)؛ فهو ذاك يا صاح! فإنه لا يجمل إلا حيث يكون للبياض مزية كالمساعدة على الاختفاء، وعدم ظهوره في آل الصحراء، فأما إذا لم تعتبر هذه المزية فلا فضل لأبيض على أبلق أو كميت! وذلك هو ما قصد إليه الأستاذ من تنبيهه على تفاهة التفضيل المقتضى للتشبيه في بيت ابن الزَّبير الأسدي.
(3)
عاب أستاذ الجامعة البيتين:
ولازوردية تزهو بزرقتها
…
بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها بين قامات ضعفن بها
…
أوائل النار في أطراف كبريت
وخلاصة العيب أن الشاعر شبه صورة بصورة في الوضع واللون، ولم يلتفت إلى ما وراء ذلك من إيحاءات وأفاعيل، ينتظرها السامع من شاعر!
وقد خالف عليه الأستاذ العماري بأن الفن يوجد في المعاني كما يوجد في الماديات.
وليس هذا بالكلام يصغى إليه، فالماديات بحتة لا تأثير لها وإنما التأثير لما يتعلق بها من مِعانٍ، أفإن قلت: إن تمثال الزهرة كالزهرة كنت مشبهاً تشبيهاً مصيباً مؤثراً، لا إنه لاعتبار إلا لما يوحيه ويستلزمه هذا التشبيه من دقة الصناعة والمهارة في المشاكهة بين زهرة الورق أو الصلصال وأختها الطبيعية الحية.
يا سيدي: إن مثل التشبيه في البيتين في خلوه من الروح كمثل من يرى بقعاً من دم قتيل
أو طائر منثورة على الرمال، ثم يسير فيجد خرزات حمراً مستديرة فيفاجأ السامع: أتدري؟! إن بقع الدم التي رأينا كهذه الخرزات احمرارها احمرارها، واستدارتها استدارتها، وحجمها حجمها، وانتثارها على غير نظام انتثارها! أفيعجبك هذا ويكون تشبيهاً غريباً عجيباً مصيباً مستحقاً للإطراء والثناء؟!
أحسب أن لا!.
ذلك أن السامع حين يُذكر الدم تعتريه الرهبة والإشفاق والرثاء لصاحب الدم المطلول، وحب التشفي ممن سفكه، ولا يخطر له ببال أنه مستدير أحمر منثور على غير نظام.
فمثل هذا التشبيه عبث ولغو وشعبذة، وسقوط بالقيم الفنية للشعر إلى حد سخيف!.
وهمسة أهمسها، لا بل مجلجلة أعلنها لا متردداً ولا هائباً، تلك: أن الثقة بأذواق النقاد القدامى يجب ألا تطرد، وأن استشهادهم يجب أن يكون موضع نظر جديد، وأن الاستشهاد بآرائهم يجب أن يعرض على محك التمحيص. ذلك بأنهم - على جلالتهم - قد شملهم ذوق العصر ولم تستقم في أذواقهم اللغة غضة طرية، عطلا من زينة وحلية، وأثر البيئة أثر جليل في الأذواق والعقول، ومن ثم كانت تفاهة الإستشهادات، والتخريجات، وكان لجوءهم إلى الفلسفة والناحية العقلية هرباً من الناحية الذوقية، فقاسوا بالشبر والقيراط، واتخذوا المبالغة أساساً للتفضيل، ولم تظهر لهم الزينة في القوة والعذوبة والسلاسة والنغم فطلبوها بالصّيغ والألوان والشعبذة اللفظية. إذا ثبت هذا فأعفني - عافاك الله - من استحسان البلاغيين، وعدم استحسانهم، فنحن نسأل الذواقين من أمراء البيان. فطه حسين والزيات، والعقاد، وأحمد أمين، وخليل مطران، أولئك المحكَّمون ترضى حكومتهم. فأما السعد والخطيب فلا نعيبهما ولكن نقول غلبت عليهما شقوة العصر وفساد الذوق، وقوة الفلسفة!.
فكلام عبد القاهر في أن التباعد كلما زاد كان موجباً لارتياح النفس ليس مطرداً، وليس أدل على هذا مما سقته لك مثلا من تشبيه الدم بالخرز الحمر.
(4)
وأما حسد جرير لعدي بن الرقاع العاملي عندما أنشد:
تزجى أغن كأن إبرة روقه
…
قلم أصاب من الدواة مدادها
فناحيته أنه أعرابي لا يعرف التحبير، ولم يخبر من المدنية ما يطوع له أن يعرف قراطيسها، ومحابرها وأقلامها، فظن جرير أنه لن يهتدي إلى شيء يشبه به رُوق الأغن،
فلما أصابه حسده جرير. ألا تراه يقول: (قلت: قد وقع! ما عساه يقول؟ وهو أعرابي جلف جاف!).
فأنت قد وقعت - يا علي - في سِرّ حسَد جرير، ولم تدره فظننت أنه إنما حسده لأنه كان تشبيهاً بارعاً مصيباً له تأثيره وجماله، وما هو بذاك.
(القاهرة)
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية
جنازة.
. .!
للأستاذ عثمان حلمي
ولقد تبعتُ ضحىً جنازة راحل
…
لمنازل في القفر غيرِ أواهلِ
ووقفت فيمن شيَّعوه بساحة
…
لم تخفَ وحشَتها على متجاهل
الراقدون بتربها تحت الثرى
…
ما بين أحجار وتحت جنادل
والنائمون بها ولا من موقظ
…
يُرجى ولا صبح يلوح لآمل
ستر التراب عن العيون بلاءهم
…
وأظلهم تحت البلاء الشامل
وسرى البلى فيهم فلم يترك لهم
…
غير العظام عليهمُ كدلائل
فعجبت للإنسان كيف يغرُّه
…
بحياته محضُ الغرور الباطل
لما نظرت إلى اللحود وكم طوت
…
من عالِم جمَّ الذكاء وجاهل
أو ذي يسار جنب عاف معدم
…
أو عاشق دفنوه جنب العاذل
ضم التراب شتاتهم فأواخر
…
يمضون فيمن ضمَّ إثر أوائل
لم يُجزع الأضدَاد قربُ مباين
…
فيه ولا الأشباه بعدُ مُشاكل
خلطوا فتلك على الزمان جماجم
…
من فوقها أقدام جيل زائل
وتفتتوا حتى تخال جميع ما
…
في الأرض دمّ مفاصل وأنامل
وقرأت ما كتب الألى فوق الألى
…
دفنوهمو من خلة وشمائل
أحست أني قد دفنت بجنبهم
…
ما كان بي من غيرتي ودخائل
ومضى الذي قد كان أثقل مهجتي
…
من كلّ هّمٍ بالتوافه شاغلي
أنظر فهذا دون طرفك ثاكل
…
يبكي ابنه واعذر فؤاد الثاكل
وابن هنا يبكي أباه وأمه
…
وبدمعه معنى الغرور الشامل
ولسوف يتلوا نعيُه نعْيَيهما
…
في ذات يوم للنعاة مماثل
وتقرِّب الأيام بينهم إذا
…
وصلوا تباعاً نحو هذا الساحل
من مات هذا اليوم ساوى من قضى
…
في موته أيام دهر كامل
أنظر فهذا القبر كاد لطول ما
…
هجروه يبدي لهفة المتسائل
أين الذين بكوا عليه وما لهم
…
شحّوا فما زاروه زورة باخل
محتْ الليالي كلَّ وجد منهمو
…
والبينُ أبرأ كلَّ حزن قاتل
عثمان حلمي
الكتب
القاهرة الجديدة
للأستاذ نجيب محفوظ
بقلم الأستاذ ثروت أباظة
قصة رائعة من صميم الحياة المصرية وضعها الفنان الموهوب الأستاذ نجيب محفوظ، وقد استهدف فيها عدة آراء عالجها بأسلوب يتفق وكل رأي، فهو ساخر حيناً؛ جادٌّ حيناً آخر، رائع في الحينين. وللأستاذ نجيب ريشة لا تخطئ النأمة الخالجة في شخصياته، وهو واثق من فنه فتراه لا يقصر هذه الريشة على شخص واحد بل يطلقها على أشخاص كثيرين يرسمهم فتعرفهم وتعيش معهم وتحس إحساسهم فتصبح شريراً مع الشرّير خيّراً مع الخير مندفعاً متأججاً مع المندفع المتأجج.
وشخصيات الرواية مركَّزة في أربعة شبان وفتاة. أما الشبان فتجمعهم رابطة الدراسة في الجامعة فهم جميعا في الليسانس كما يجمعهم اتحاد السكن. ثم تنشعب بهم مسالك الخلق فلا مواءمة ولا انسجام؛ فأحدهم - وهو من طارده الأستاذ نجيب وجعله بطلا لقصته - شاب في الرابعة والعشرين من عمره ذو منبت يابس وتربية وضيعة تأصلت في نفسه، واجتمع الفقران، فغدا ولا أصل يتكئ عليه، ولا مال يتستر به. فكفر بالأخلاق، وأصبح مثله الأعلى (طظ) التي يلجأ إليها كلما اكفهرت الحياة وأغلقت شعابها دونه. (فطظ) في الأخلاق، (وطظ) في الفضيلة (وطظ) في القوم، وليس (طظ) في شيء واحد هو نفسه، وعلى هذا النهج سار، وعن طريقه وصل إلى زوجته وهي فتاة القصة، وعن سببها تم تعيينه. فهي عشيقة موظف ضخم، زلّ وأراد أن يتمادى فاتخذ من (الطظ) ستاراً. فقبل قائلاً: طظ. . .
وهذه الفتاة هي ابنة بائع سجائر مواجه للجامعة ذات أم عاهرة، ووالد من حزب الطظ محتاج إلى المال فحرض ابنته لتأتي له به. فتمنعت أول الأمر، وانصاعت لحب عفيف بينها وبين أحد الشبان الأربعة هو علي. . . شاب جميل ذو أصل ليس بالهين، ومال يكفيه ذلة السؤال، له آراؤه الملحدة، ولكن عن عقيدة، وله أيضاً مثله العليا التي يسعى لتحقيقها؛ فهو اشتراكي يفخر بغناه واشتراكيته، ولا يمنعه الإلحاد ولا الاشتراكية من أن يكون عفيفاً
في حبه، قوياً في خلقه ذا نجدة عند الشدة، وهو بعدُ صافي القلب لا يحمل ضغينة ولا موجدة على عكس زميله محجوب طظ. . . أحبت إحسان علياً وإن لم يملك الحب لها، وأحبها هو وتمكن الحب منه، ولكن ما لبث أن فجع في حبه حين تعرض لفتاته الموظف الضخم الذي أغرى بماله. . . فطمع والدها، وشجع ابنته ودفعها فسقطت وحاولت أن تقنع نفسها أنها إنما تضحي من أجل والديها واخوتها. . . سقطت ووجدت زوجها شاباً ساقطاً لا ضمير له؛ عرفته أيام كان تلميذاً. فهو صديق لعلي، وهو بعينه الأستاذ محجوب طظ الذي لا مانع لديه من أن يغذي قرنين ينبتان في رأسه مادام في الأمر منفعة له، وطظ في الكرامة. . . تزوجت محجوباً وعُين وارتفع ومازال في ارتفاع سادراً عن كل شيء غير معني بأبيه مدقع الفقر الذي أعياه المرض فقعد عن العمل، ومحجوب مادام لا يهمه الوالد فالأصدقاء لا قيمة لهم، ولتتقطع وشائج الزمالة، وليغضب مأمون للأخلاق ماشاء، وليحزن علي على حبيبته مادام محجوب يرتفع كل يوم. . . وفي نشوة الارتفاع ركل محجوب سالماً الأخشيدي، وهو الذي قدمه إلى الموظف الكبير، وقد كان أثيراً عنده قبل أن يأتي محجوب فانتقم الأخشيدي لنفسه، ودبر المؤامرة فعصفت بالموظف الكبير، وكان قد أصبح وزيراً، وعصفت بمحجوب وزوجه فذهب وكأنما أراد الأستاذ نجيب أن يهمس في أذنه:(طظ في طظك، ولتحيى الأخلاق!).
أما مأمون فشاب ملؤه الإيمان بالدين وبالقضية العربية أخره المرض وهو طفل عن الالتحاق بالمدرسة، وعندما التحق أخذ نفسه بالشدة، فكان الأول دائماً، وكانت حياته سائرة على نظام رتيب، وإنك لتجده كل خميس ذاهباً إلى مصر الجديدة حيث خطيبته التي تزوجها بعد حصوله على الليسانس وسافر معها إلى باريس في بعثة علمية.
وأما الرابع فهو أحمد طالب صحفي لا يلعب كثيراً على مسرح الرواية، ولا نعرف له رأياً لأنه صحفي والصحفي في رأيه - ولعل هذا هو رأيه الوحيد الذي أذاعه - لا يصح أن يقول رأياً، وهكذا اجتمع هؤلاء الأصدقاء وليس من يجمعهم سوى درس في الصباح ومسكن في المساء.
ولا يقتصر الأستاذ نجيب على هؤلاء بل هناك أشخاص كثيرون غيرهم كوالدي محجوب وحمد يس بك وأسرته ذات الماضي المتواضع، والحاضر الأرستقراطي، وإن لمحجوب
معها لشأناً في حالي فقره وغناه، وهناك أيضاً جامعة أعقاب السجاير التي أبرز الأستاذ لها صورة واضحة تلمسها في وصفه لها وحديثها هي مع محجوب فتسمعها تقول: وجب، وغير ذلك من ألفاظ تكمل الصورة وتوضحها، وهناك عفت وغيره من أصدقاء محجوب في أيام العز. . . تمر الريشة على كل هؤلاء فتبرز معارف وجوههم وخلجات نفوسهم نابضة بإحساسهم غير مغفلة شيئاً.
وتدور حوادث القصة في سنة 1930، والناحية القصصية فيها أبرز منها في قصة خان الخليلي وقد كانت هذه الأخيرة أشبه بمعرض صور رائع منها بقصة، وإن لم يفقدها هذا شيئاً من روعتها وقوتها. . .
وواضح أن الأستاذ نجيباً أوجد علياً ومأموناً وأحمد في قصته الجديدة ليثبت أن الأخلاق وإن هتكت عند محجوب فهي مصونة عند أصدقائه، وقد تعرض الأستاذ نجيب في قصته هذه لنواح اجتماعية عديدة يغض من رونقها كثرة تردادها إذ نحن الآن ففي حاجة إلى العلاج أكثر من حاجتنا إلى الشكوى، وإن بالقصة لفتات فنية رائعة ننتظرها من الأستاذ نجيب الذي خطا بالقصة المصرية خطوات واسعة نحو الكمال، وهذا أمر لا نستغربه عليه فهو فنان موهوب بفطرته جشع في القراءة العربية والغربية. . . وعسى أن لا يتأخر إنتاجه القادم. فنحن في شوق منتظرون. . .
ثروت أباظة
نفحات من سيرة السيدة زينب
إن أعصى ما يتكاءَدُ المصلحين، تلك العادات التي امتزجت بدماء العامة، والقصائد التي أشربتها نفوسهم، فتمكنت فيها على مر الأيام.
وإنه لمن الجهل والسفاهة، تجدي هذه العادات العقائد ومهاجمتها في عنف، بل الواجب علاجها بالحكمة، والاحتيال لاقتلاعها؛ أو توجيهها وجهة نافعة.
وقد أتخذ الأستاذ أحمد الشرباصي في كتابه (نفحات من سيرة السيدة زينب) خطة جديدة في (التربية الشعبية) ودرج على غير المنهج المتبع في الثورة بعقائد الناس. بل تناول مسألة الموالد، والأذكار، والتوسل، والتشيع، والتمسح بالأضرحة، والنذور، بروح جديدة، هي
روح عالم النفس الحاذق، هي روح (الإعلاء) التي تعالج بها الغرائز وتهذب، ويحد من جموحها وطغواها، وتجعلها أداة صلاح وخير!.
والكتاب بعد ذلك عرض تاريخي أنيق لحياة هذه السيدة الكريمة، وتوجيه نافع للشباب الذي يريد أن يحيا حياة طيبة، ولا يستخذى أمام القوى الطاغية ومثل عال في التضحية والجهاد.
فللوعاظ والمرشدين وللمؤرخين المعنيّين بتحقيق حياة الشخصيات الإسلامية البارزة، ولمن يريد أن يهتدي بهدى جديد في التربية الشعبية، ولمن يبتغي الأسوة والقدوة في حيوات عترة النبي الكريم.
لهؤلاء جميعاً وضع هذا الكتاب، جامعاً بين دقة البحث، وطلاوة الأدب، وتأثير الوعظ واستخلاص العبر.
كامل السيد شاهين
القصص
لا قدر الله. . .!
للروائي الإنجليزي أوسبرت سيتويل
لست أعرف بعد كيف ستنتهي هذه القصة، فإن ما سأقصه عليك إنما حدث صباح أمس، قبل أن أغادر السفينة في السويس.
جلست على كرسي طويل من القماش، وإلى جانبي أكداس من الكتب وصحفة حساء فارغة، أتطاول ببصري إلى الفضاء المكلل بالغمام، الفضاء الخاوي الذي لم يخفف من وطأته على الصدر سمك يتواثب فيسلي المسافرين. بدا كل شيء دفيئاً رطباً بالغ الرطوبة. وكانت حافة السماء تتدلى منها أعلام مهلهلة من السحب، وقد ذابت فيها حافة البحر. وكان الرجل الجالس بجواري قد بسط على حجره كتاباً مفتوحاً، وإلى جانبه أيضاً عدة كتب، وكان هو الآخر يحملق بنظرة ثابتة إلى المنظر المائي الخاوي. كان البحر يثير روحاً من الكآبة والاغتمام، لا يساعد على احتمالها إلا ما تبعثه في النفس من الفتور والكسل، وأنها تولج اليوم في اليوم فتحمل أناسا كثيرين على الاعتقاد بأنهم لابد قد تمتعوا بالرحلة مادام الوقت قد مر بهذه السرعة. كان من الواضح أن هذه الروح الكئيبة المغتمة تخيم علي وعلى جاري أيضاً. كان جاري طويل القامة نحيفاً دقيق اليدين، وكان يبدو على خلقته حساسية بالغة الارهاف، وساءلت نفسي من تراه يكون. . . لم تكن الكتب التي بجواره تساعدني على إجابة هذا السؤال، إذ كانت متنوعة: ترجمة لمجموعة شعر إغريقية، ورواية عصرية، وكتاب علمي، ودراسة لسيرة أحد السياسيين، ومجموعة من القصص القصيرة الحديثة. ثم لاحظت معها كتاباً من كتبي، وهو ذلك المسمى (الرجل الذي فقد نفسه) وبغتة حوَّل عينيه عن الماء وخاطبني قائلا:(أتحب البحر؟). فأجبت: (نعم أنا أحبه، نوعاً من الحب، على الرغم من ملاله، وما يبعث في لسوء الحظ من الرعب. أنني بحار ماهر، ولكن حين يتمدد الآخرون في فرشهم الخشبية يتمنون لو أنهم يغرقون، أتمدد أنا على فراشي الخشبي، مرتدياً جميع ملابسي، أبتهل إلى الله ألا أغرق، وأفكر في الخضم الشاسع من المياه الذي يتلاشى فيه رأس الإنسان فلا يكاد يكون شيئاً. ذلك هو السبب في أنني أفضل البحر الأبيض المتوسط، حيث نكون عادة على مرأى من البر. . . لكن يبدو أنه قد
اختفى كلية في هذا اليوم. . . بل ليتني أبلغ قناة السويس، فإني أرتقب أن أحظى بوقت ممتع).
قال: (نعم أنا أعرف هذا الشعور، فإنه يداخلني أنا أيضاً بعض الشيء. وما دمت أنت كاتباً، فسأقص عليك قصة عنه ولكن أرجو ألا تكون ممن يؤمنون بالطيرة والفال
ربما لا تستحق هذه القصة أن تسمى قصة في واقع الأمر. هي شاهد أكثر منها قصة، أو هي برهان على إحدى النظريات. . . هذه النظرية، أو المغزى، هي تلك النظرية القديمة البديهية التي شغف أحد الروائيين المحدثين بترددها، وهي أن ما تشعر به يكون أشد صدقاً، ولا بد أن يكون دائماً أشد صدقاً، من مجرد الفكرة التي تدور بخلدك. أو بعبارة أخرى، اعتمد في حكمك على اللمس، لا على البصر. ولكن الناس في هذه الأيام تعوزهم الشجاعة التي تجعلهم يعملون كما يشعرون، فهم يعملون طبقاً للعقل، ثم يحاولون أن يخترعوا تفسيراً منطقياً فيما بعد، يفسرون به الأشياء الفذة التي تحدث لهم. لكن لا جدوى من وراء هذا مطلقاً
كانت السفينة مبحرة إلى أمريكا الجنوبية. غادرت تلبري في عصر يوم ممطر من أيام ديسمبر، ولكن في اليوم التالي كان البحر هادئاً كأنه بركة زرقاء في فصل الصيف. واستمر كذلك ثلاثة أيام، حتى عندما عبرنا خليج بسكاي. ولكن برغم هدوء البحر تأخرنا عن الوصول إلى لشبونة، حتى إذا وصلنا إليها اخذ موظفو الميناء يتجادلون جدالا لا ينتهي، كأنهم عقدوا العزم أن نتأخر عن الإقلاع من الميناء. وقفت أرقب المسافرين النازلين وأستمع إلى المشاجرة البرتغالية الصاخبة تعلو وتتناثر كأنها صواريخ مبتلة، بين وكيل السفينة وأحد موظفي الجمرك. . . لم يكن بين المسافرين الجدد من يلفت النظر إلا امرأة إنكليزية وزوجها. كانت جميلة حقاً، ولكن جمالها كان من نوع عجيب، كأنها إلهة القدر الإغريقية. كانت عيناها واسعتين ذواتي زرقة عميقة، يمكن أن تقرأ فيهما معاني كثيرة، أحدها صادق وكثير منها كاذبة. كانت قسماتها المذعورة الحجرية كأنها تمثال كلاسيكي، يكمن فيه شيء من المأساة. ثم إني ظننت أو الأحرى أن أقول أحسست أن بقسماتها شيئاً من حورية البحر. إذ انتمت عيناها إلى البحر. . . كان زوجها إلى جانبها يبدو عادي المظهر. لكن منظرها الفذ كان مقتصراً على محياها، أما ملابسها فكأنها
اختيرت بحيث تمحو الأثر الذي يخلفه جمالها العجيب، وتحط من سموه وتجعله عادياً مألوفاً.
في الصباح التالي كنت جالساً على ظهر السفينة، كما أنا جالس الآن معك، فوجدتني مجاوراً لهما. وبعد أن بعثنا برهة بكتبنا عبثاً يشابه في اضطرابه حركة السفن واهتزازها - حقاً إن هناك رابطة قوية بين دوار البحر والكتب المطبوعة - بدأنا نتحدث قليلاً. وحين تحدثا لم يتركا في النفس أثرا غير عادي، وكان صوتها هادئاً مليئاً بالاهتمام ثابت النبرات وإن كان فارغاً بعض الشيء، ولم يكن به أي عنصر غريب من المأساة أو من النبوءة. ولكن برغم ذلك عرفت، بل شعرت وأحسست، بأنها كانت تصلها بتلك العناصر الغريبة صلات وثيقة. تجاذبنا أطراف الحديث ساعتين أو أكثر، وكان البحر قبل ذلك هادئاً كالبساط، ولكنه بدأ في خلال محادثتنا تظهر عليه علائم التغير الأكيدة. وكأنه كان يحاول اختبار قواه ليستخدمها في مناسبة مقبلة. فصفرت في جنباته رياح هينة، وأخذت السفينة هزةٌ أثارت المزاح والضحك المعهودين بين الشبان من المسافرين الذين كانوا يتنقلون على ظهر السفينة في جلبة، وضاعفت من حماسة اللاعبين في لعبهم المختلفة، فازدادوا مرحاً، حتى يخفون ما شعروا به من بداية التقزز والغثاثة. . . تسألني عم كنا نتحدث؟. . . قد نسيت، ولكنها كانت أشياء مختلفة، من السياسة، والأسفار، والكتب الكتب البريئة المملة.
ولكن كلما مرت دقيقة ازداد التحدث صعوبة، إذ ارتفعت بين آونة وأخرى أصوات الأشياء المتصادمة، ازدادت الريح دوياً، وإن كان الركن الذي انتحيناه محمياً هادئاً بعض الشيء. . . أخبرتني أنهما كانا ذاهبين إلى بونس أيرس، حيث يمكثان أسبوعاً، ثم يعودان إلى وطنهما مباشرة. فإن المستر روفني - وهذا اسم زوجها - كان مريضاً، وقد نصحه الطبيب بالقيام بهذه الرحلة البحرية. وقال الزوج:(لقد حاولت أن أثني زوجتي عن المجيء، ولكنها ألحت. أنا لم أغرك بالمجيء يا حبيبتي، أليس كذلك؟ لقد بذلت كل جهدي لمنعك).
كلا، لست أستطيع أن أتذكر كل المحادثة بجلاء، وإنما أتذكر شيئاً أو شيئين من هذا القبيل. أتذكر المسز روفني تقول، بصوتها الحازم الذي لا يقبل أي سخف أو عبث، والذي كان مع ذلك فارغاً بدرجة عجيبة، ذلك الصوت الذي نطق بالأشياء كأنه لا يعنيها - أتذكرها تقول:
(مهما يكن من شيء. فأنا مؤمنة بالقضاء والقدر. أنت لن تستطيع النجاة مما سيحدث لك فهذا هذا، وما عليك إلا أن تتقبله بأحسن ما في استطاعتك. لن يستطيع ثعلب أن ينجو إلى الأبد، إذا كانت كلاب الصيد تطارده). . . أنا أتذكر ذلك جيداً، فإن هذه الملاحظة، برغم أنها شيء معهود طالما سمعناه على الرغم منا، ضايقتني إذ ذاك أشد مضايقة، حتى كدت لا أكتم سخطي؛ إذ وجدتها لا تنسجم مع ذلك الجمال العجيب، أو ذلك الوجه الذي كان يبدو مترقباً لحد الانفعالات العاطفية العظمى - وكنت واثقاً أن هذا الانفعال هو الخوف - فما يجئ هذا الانفعال حتى يصير ذلك الوجه آية رائعة من التعبير. . . ولكن ما أكثر ما ينطق الناس في هذا المجال بأفكار تخيب ظن المرء إذ لا يجدها تنسجم معهم. . . ثم إنها استرسلت تتحدث عن الأسواق في مقاطعات إنكلترة، وأسلمت نفسها إلى نوبات طفيفة من الاعتداد بالذات لم تنسجم معها أيضاً.
ولكني ساءلت نفسي في ذلك الوقت: أكانت حقاً نوبات من الاعتداد بالنفس؟ لقد شعرت بأنها أدخلتها في الحديث لا لتحدث وقعاً على نفسي بل لتدخل الراحة والاطمئنان على نفسها هي. فإن مثل هذا الاعتداد بالنفس يرتبط بالحياة اليومية، والحياة اليومية هي عادة خالية من البطولة والبسالة ومن النكبات والمآسي، كما أن الأفكار التي عبرت هي عنها كانت أفكار الحياة اليومية العادية. وقد تشبثت هي بهذه الأفكار لأنها كانت تتوق أشد توق إلى أن تقنع نفسها بأن حياتها ليست في حقيقتها إلا من ذلك النوع العادي، وأنه ليس من وجود فعلى لتلك النكبة العظيمة والمأساة القديمة التي ترتبط بها والتي هربت منها. فكل فكرة عبرت عنها، وكل مناسبة أشارت إليها، كانت كأنها تقرص نفسها لتتأكد من أنها صاحية ومن أن الكابوس المخيف قد زال. . .
ازداد الطقس اضطراباً، ولم أرهما بعد ذلك في ذلك اليوم. فقد تضاعفت حدة الزوبعة فلم يعد أحد ليجد متعة في الرحلة البحرية. بل لم يعد من المستطاع أن ينام المرء، وإن كانت الزوابع في العادة تجعلني أستغرق في النوم. فإن طرق عينك السبات لحظة واحدة في الليل فلا بد أن يوقظك في الحال صوت الأبواب تنفتح وتنصفق وتتصادم، أو يوقظك إحساس عجيب بأن الروح نفسها، تلك الذات النفسانية التي بني حولها الجسد، قد تنقلت من مقرها بعض الشيء. . . يسائل المسافرون أنفسهم، كعادتهم في خلال رحلة بحرية: (لم قمت بهذه
الرحلة؟) ولكني لم أشعر إلا بشعور واحد، شعور طالما أحسست به في المحيط الأطلنطي، وإن كنت قد قمت فيه برحلات كثيرة لم يكن عنها من محيد، ذلك الشعور هو الرعب. لم يغلبني دوار البحر، وإنما شعرت بالرعب من تلك الأودية الباردة في أعماق المياه تحت سطح البحر، تلك الأودية اللانهائية المتعرجة التي أخبرنا بأنهافي عمقها تماثل جبال البر في علوها. . . (وبهذه الناسبة (سامحني لقطعي حبل قصتي) ألم يزد الطقس اضطرابا منذ بدأنا حديثنا، أم ليس هذا إلا وهماً من أوهام مخيلتي؟)
فاضطررت إلى أن أعترف بأن الطقس قد تغير؛ فقد بدأت السفينة تترنحبصورة غير منتظرة.
(لقد ظننت كذلك) قال ذلك وتوقف برهة، ثم استرسل:(على أية حال ستكون القناة هادئة. . . ولكن لأستمر في قصتي: من حسن الحظ أنني كنت سأغادر السفينة في ماديرا، ولم يكن دونها إلا رحلة يومين. ولكن كم تشوقت إليها في ذينك اليومين، تلك الدرة البديعة المستقرة في وسط المحيط تحت غطاء سحاب الأطلنطي). .
كان اليوم التالي سيئاً للغاية، بحيث لم يعد المرء يهتم بشيء ما لا بالطعام ولا بالشراب ولا بالنوم ولا بالمسافرين: ولكني لاحظت مع ذلك أن المستر روفني جلس إلى طعام الغداء وحيداً. . . وفي الصباح التالي بدا كأن الزوبعة قد هدأت قليلاً، وفي أثناء تجوالي على ظهر السفينة قابلته.
صحت بحماسة كاذبة: (صباح الخير. . .! كيف أنت في هذا الصباح. . . يؤسفني أن أراك وحيداً).
فأجاب: (نعم إنه شيء مقلق. كم تمنيت أن يكون الطقس لطيفاً. . . فإننا نقترب من ماديرا الآن، وينبغي أن لا يكون الطقس هكذا. . . إنني أصارحك بأنه يزعجني. . . ليس ذلكلن زوجتي غير متعودة على الأسفار البحرية - فإنها الآن لا تشعر بالدوار - بل الحق أن الرعب يتملكها في أي سفينة!)
قلت: (ليس هذا شيئاً مخجلاً، فأنا أيضاً مرتعب. . . وأعتقد أن كثيرين جداً من الناس هم أيضاً كذلك، لو أنهم اعترفوا بالحقيقة!)
أجاب: (قد يكون هذا صحيحاً. . . ولكن الأمر مختلف بالنسبة إليها فإن آخر رحلة بحرية
قامت بها كانت في (التيتانيك) وقد غرق أخوها التوأم مع تلك السفينة، ولم تنج هي إلا بمعجزة. . . ولسنين عديدة رفضت أن تركب على سطح سفينة على الإطلاق، بل إنها أبت أن تقوم برحلة القناة الإنكليزية التي لا تستغرق إلا ساعة واحدة، مع إنها قبل ذلك كانت مغرمة بباريس. . . وسأذكر لك شيئاً غريباً: قد يكون البحر هادئاً بالغ الهدوء، ولكن ما تكاد تضع قدمها على سطح السفينة حتى تبدأ الزوبعة، بداية لا شك فيها. لقد شاهدت ذلك يحدث في القناة الإنكليزية عشرات المرات، حتى إنني كثيراً ما تمنيت إني لم أحملها على تغيير عزمها والمجيء معي، حتى لتلك المسافة القصيرة. . . ما كان ينبغي أبداً أن أسمح لها بالمجيء في هذه الرحلة. . . كان ينبغي أن أحظر ذلك حظراً باتاً، من البداية. . . ولكنها كانت قلقة البال علي - فقد كنت مريضاً زمناً طويلاً، وأولئك الأطباء الملاعين قالوا أن رحلة بحرية طويلة هي الشيء الوحيد الذي يرد إليّ العافية - فألحت هي وأصرت. ولم أستطع منعها، فقد بدا كما لو كان من المحتم أن تجيء، وإن ارتاعت هي من ذلك، لو كنت تفهم ما أعني. . .)
وإذن فهذا هو السر! لا غرابة إذن أن تكون مرتاعة، حتى على أشد المياه ضحولة. تذكرت تلك السفينة الفاخرة في رحلتها البكر، وتذكرت اليدين اللاعبتين، والاصطدام المفاجئ الرهيب، والسكون الشامل، حين وصلتها رياح التدمير، ثم تذكرت الاضطراب والفوضى في الماء، والتلاقي الغريب الصامت في الدروب العميقة الخضراء بين الأمواج، حين ترنح القادرون على السباحة إلى أعلى وإلى أسفل، أو اصطدموا الواحد بالآخر كأنهم سدادات الفلين، ولكن لم يستطيعوا تخاطباً، إذ كانت أصواته قد ضاعت تحت صوت المحيط، فبدوا وكأن بعضهم لبعض عدو. . . إذن فهذا هو السر. . .! هذا هو معنى تينك العينين الواسعتين، كعيني تمثال في ضياء الشمس الباهر، ذلك هو المعنى المختفي تحت كلماتها العارضة، السخيفة الجادة معاً:(لن يستطيع ثعلب أن ينجو إلى الأبد، وإذا كانت كلاب الصيد تطارده). كلا، ولا الإنسان يستطيع النجاة، إذا كانت قطعان الشر والهلاك تصاحب مجيئه وذهابه.
في عصر ذلك اليوم وصلنا إلى ماديرا. فودعت المستر روفني وزوجته. وعلى رغم أنهما كانا مشغولين مع أهل الجزيرة الذين هاجموها يريدون أن يبيعوا لهما ما يحملون من
الأقمشة المطرزة والزهور والنعال والصناديق المصنوعة من خشب النخل، ونماذج العربات التي تجرها الثيران، وملابس سكان الجزيرة - فأنهما لوحا لي بأيديهما - إذ غادرت السفينة في زورق إلى البر. ولاحظت مرة أخرى خلو وجهها من التعبير خلواً عجيباً، وذلك شيء إن أنعمت النظر فيه تجلى لك رعب أشد من الرعب. ثم ظننت أنها نظرت إلى البر نظرة المتلهف المشتاق، ولكني كنت أبعد من أن أرى بوضوح. . . مهما يكن من الأمر فأنهما الآن سالمان، فإن بقية الرحلة، خصوصاً في هذا الوقت من السنة، هادئة في المنطقة الحارة، تتجلى فيها الحدائق العميقة الزرقاء المتألقة تحت المياه، وتقفز الأسماك الطائرة فوقهما كما تثب العصافير فوق أرض البستان.
مضى أسبوعان، قبل أن أقرأ في صحيفة هذا الخبر:(إعصار في المحيط الأطلنطي الجنوبي. أمواج المد تطغي على المدن الساحلية. باخرة بريطانية تغرق على مقربة من (ريك). غرق جميع المسافرين). وفي الحال تذكرت المسز روفني. . . إذن قد انتهى الأمر الآن. . . إنها كانت تنتمي إلى البحر بكيفية ما. . . ولا بد أن يستردها البحر إلى أحضانه. لقد كانت تعرف ذلك دائماً، وإن لم يستطع عقلها تصديق ذلك أحياناً. مهما يكن من شيء، فقد انتهى الأمر، كائناً ما كان مغزاه. انتهى طراد طويل، لا يستطيع المرء أن يتعرف على بدايته، أو لعله ليس إلا الفصل الأوسط في درامة تستغرق عدة قرون، أو عدة أحقاب. . . ساءلت نفسي: ترى كيف كانت هيئة ذلك الوجه الجميل في النهاية، وإلى أي حد جعلت صوتها هادئاً عملياً وهي تحدث زوجها للمرة الأخيرة، عارفة ما يخبئ لها القدر. . . ولكن الواقع كثيراً ما يختلف عن النبوءة، وهذا ما حدث في هذه الآونة. . . فأنني عاودت قراءة الصحيفة، فقرأت في أخبار آخر ساعة:(إنقاذ أحد المسافرين. اتفاق غريب. . . المسز روفني التيأنقذت عصر أمس في حالة إنهاك، يتحقق أنها أحد الذين نجوا من التيتانيك، حين غرق أخوها التوأم مع تلك السفينة. ويخشى أن المستر روفني، المشهور في عالم الرياضة، وجميع المسافرين الآخرين والبحارة، قد غرقوا). . . إذن فالبحر لم يستردها بعد، والثعلب قد نجى مرة أخرى، يا للمسكينة! لم يتم الفصل الأخير بعد.
لعلك تعتقد أنني من المؤمنين بالخرافات إذ أشعر بما أشعر الأن؟ ولكن الحياة تبدو أقرب إلى الفهم حين يؤمن المرء بالخرافات. . . على أية حال، قد حدث ذلك منذ ثلاث عشرة
سنة. . . وأستعيذ بالله، أنها فوق هذه السفينة، مسافرة إلى سيلان لترى أبنها. لقد تحدثت إليها هذا الصباح، هي كأنها لم تكبر يوماً واحد. ولكن ماذا ينبغي أن يفعل المرء:(أيجيب غريزة الإيمان بالخرافات أم يتحداها؟. . . إنني أجبن من أن أرتكب سخف مغادرة هذه السفينة من السويس).
توقف عن الحديث، واستغرق في الصمت والتفكير ولكنني جاهدت حتى نزلت إلى قاع السفينة، متشبثاً بكل ما وقعت عليه يدي حتى لا أفقد توازني، وهناك أرسلت رسالة برقية.
(عن مجلة الأدب والفن الإنجليزية)
أوسبرت سيتويل