الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 693
- بتاريخ: 14 - 10 - 1946
الضد والنقيض في الفلسفة المادية الثنائية
للأستاذ عباس محمود العقاد
تناولت في كتابي الأخير عن ابن سينا خلاصة الفلسفة المادية الثنائية فقلت في تلخيصها إن (من قوانينها اجتماع الأضداد فيها ريثما يتغلب ضد منها على ضده بغير انقطاع لهذه المغالبة الدائمة، وإن الصفة الكمية فيها تتحول إلى الصفة (الكيفية) فتنشأ الحياة كما ينشأ العقل من هذا التحول، إما على التدريج وإما طفرة كما يظهر بعض أنواع النبات من الأنواع الأخرى، فلا توجد كيفية إلا وهي نتيجة التغير في الكمية، ولا توجد حالة قط إلا وهي تنطوي على ما يتاقضها، فلا تبلغ تمامها إلا ظهر منها النقيض الذي تنطوي عليه. . .)
وقد كانت هذه النبذة موضع ملاحظة بين بعض المشتغلين بالمباحث الفلسفية، لأنهم وهموا أن إيراد النقيض والضد في عبارة واحدة يدل على استخدامها بمعنى واحد. وهما مختلفان
وتصحيح هذا الوهم أن النقيض يأتي بمعنى الضد، لأن كل نقيض لشيء من الأشياء فهو ضده بلا استثناء، ولا خطأ إذن من الوجهة العامة في الجمع بين الكلمتين في سياق واحد، ولا حرج من التخصيص بعد التعميم على الإجمال
نقول هذا من الوجهة العامة التي لا ترتبط بالفلسفة الثنائية المادية أو بغيرها من الفلسفات
أما إذا رجعنا إلى مصطلحات الفلسفة المادية الثنائية فهنالك يبدو جلياً أن أصحاب تلك الملاحظة لم يطلعوا على بحث واحد من بحوثها المطولة في مراجعها المعتمدة؛ لأن شرائح الفلسفة المادية الثنائية قد استخدموا في هذا الباب كل مصطلح يخطر على البال في معنى المخالفة والمباينة
فاستخدموا معنى التناقض في كل شرح من شروحهم المطولة
واستخدموا معنى التضاد (أو التقابل)
واستخدموا معنى
واستخدموا معنى
واستخدموا في جميع هذه الأحوال كلمة التنافي أو التناسخ أو التناقض في أقوى
فمن أمثلة استخدامهم لمعنى التناقض شعارهم الذي اقتبسوه من هيجل حيث يقول بالنص
الإنجليزي:
وترجمتها: (أن التناقض هو جذر كل حركة وحيوية)
ومن أمثلته قانونهم الثالث الذي يقولون فيه بالنص الإنجليزي:
وترجمته: (إن كل حال أو وجه من أحوال التطور ووجوهه يعتبر تركيبة تقرر النقائض المطوية في التركيبة السابقة)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى التضاد قانونهم الأول الذي نصه
وترجمته: (قانون الاتحاد والتنازع في الأضداد)
ومن أمثلته قول لينين في شرح هيجل بنصه الإنجليزي:
وترجمته: (إن التطور في الواقع إنما هو التنازع بين الأضداد)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى التقابل قول كارل ماركس في شرح نشأة رأس المال:
وترجمته: (إن المركب ينقض المقرر كما ينقض ما يقابله ويتغلب عليهما)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى المغايرة كلام الفيلسوف الشيوعي شرح هيجل: (إن الثنائية هي تغاير أبدي في الصور)
أما التنافي أو التناسخ أو التناقض، فأكثر من أن يؤتى له بشاهد أو بضعة شواهد، وحسبك منه نص القانون الثالث، وهو قانون نفي النفي أو نسخ النسخ أو نقض النقض كما يسمونه: يخلو مبحث واحد من مباحث شرائحهم من تكرار هذه الكلمة عشرات المرات في كل سياق
فنحن قد لخصنا مذهب القوم بعباراته، ولم تأت بكلمة من عندنا في معناها اللغوي أو معناها المنطقي أو اصطلاحها الفلسفي الذي أرادوه، وقد ذكرنا النقائض والأضداد لأنهم أكثروا من ذكرها في أمهات كتبهم ومطولات شروحهم، ولم يدعوا لوناً من ألوانها في التعبير الفلسفي والتعبير اللغوي إلا ذكروه وكرروه
ولم يخطئ القوم في استخدام هذه المصطلحات، أنها تلزمهم جميعاً في مواضعها وتفيدهم في تفسير أطوار المادة وأطوار المجتمع الاقتصادية على اختلافها وتعاقب مظاهرها وصفحاتها
ولكنهم إذا استغنوا عن بعض هذه المصطلحات فهم أحوج ما يكونون إلى مصطلحين منها، وهما النقائض والأضداد
فلا يخفى أن مذهب القوم يدور على الحتم واللزوم، وقد سماه بعضهم بالحتمية المادية لأنه لا يسمح بفكرة المشيئة الإلهية التي تقضي بالإرادة والاختيار في تدبير هذا العالم
فالحالة المادية تخرج نقيضها على سبيل الحتم واللزوم لا على سبيل المشيئة والتدبير، ولهذا وجب عندهم أن تخرج نقيضاً واحداً لا اختيار فيه، ولو كانت تخرج شيئاً في طبيعية الأضداد المتعددة لاقتضى ذلك مشيئة تميز بين الأضداد وترجح بعضها على بعض في التطور من حال إلى حال. ولا يخفى أن الشيء قد تكون له أضداد كثيرة غير أضداد التقابل ولا يكون له غير نقيض واحد ليس يقبل التعدد والتكرار
فذكر النقيض في مذهبهم لازم على قدر ما في هذا المذهب من الحتم واللزوم
أما الأضداد فلزومها عندهم أن الحالة اللاحقة تنقض الحالة السابقة، ولكن السابقة لا تنقض اللاحقة ولا تبطلها ولا تنفيها. فهي مضادة لها وليست ناقضة لها أو واقفة عندها موقف النقيض من النقيض
ومثال ذلك في مذهب القوم أن طور الصناعات البخارية ينقض طور الصناعات اليدوية لأنها تأتي بعدها. ولكن الصناعات اليدوية لا تنقض الصناعات البخارية التي تعقبها، وكذلك عصر المدن التجارية ينقض عصر الإقطاع، ولكن عصر الإقطاع لا ينقض عصر المدن التجارية، وقس على ذلك جميع الأدوار في ترتيب التطور الاقتصادي، أو ترتيب التطور في مادة الكون على التعميم.
فإذا تعددت هذه الحالات، فالأصح أن تسمى كلها أضداداً بعضها لبعض، لأن هذه الصفة تصدق عليها جميعاً بلا استثناء، ولكنك لا تسمي السابق منها ناقضاً لما يأتي بعده ولا مناقضاً له إلا في عالم العقل دون عالم الواقع الذي يفسره الماديون الثنائيون.
وبعد، فهذه همسة في الآذان المفتحة، وعركة في الآذان المغلقة، وقد يفتح العرك ما استغلق
من الآذان!!
عباس محمود العقاد
بين الفكر والعمل
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كلما استعرضت ما يقال في الأندية الثقافية والمعاهد العلمية، وما يكتب في الصحف والمجلات حول الأخلاق والمثل العليا، ووازنت بينه وبين حياة الواقع وما تندفع إليه مراكب الحياة العملية من الانحدار والسوء. . . كدت أميل إلى أن الكلام في المثل العليا ليس إلا لإدراكها في عالم الفكر فقط، وأننا لا نملك قدرة عملية على تحقيقها، وأن الكلام فيها ليس إلا لحملنا على الإيمان بأن هناك عالماً للكمال الذي في آجل حياتنا، فيجب أن نؤمن به للآجل لا للحاضر. وكدت أميل إلى أن الكلام في تلك المثل ليس إلا صناعة اتخذناها للارتزاق كما اتخذنا صناعة الأحذية ودبغ الجلود للارتزاق أيضاً. . . لما رأيته من أن كثيراً من المتكلمين يؤجرون كما يؤجر الراقصون والمغنون وغيرهم من محترفي الفنون الذين يستعان بهم للترويح عن النفس وللزينة وتجميل الحياة، و (للاستعراض) والترف الذهني واستعمال ما يسمونه (حرية الفكر). . .
ولكن. . . هل هذه الظاهرة - ظاهرة بعد حياة الواقع عن حياة الفكر - مطردة في جميع الأمم؟ إننا نعلم أن هناك أمماً أدركت في حياة الواقع كثيراً من أحلام الكمال، أو اتجهت نحو الكمال أو سددت وقاربت إن لم تكن أدركت، وأن العزيمة الصادقة والإرادة القوية والإخلاص للجمال والنظام صفات جديرة أن تنزل بعض سماء ما في عالم النفس والفكر من أحلام الكمال إلى عالم الواقع وتجسيمها.
والحق أن كثيراً من حقائق الأخلاق اليوم في بعض الأمم كانت أحلاماً بالأمس، وأن ضمير تلك الأمم قد صقل بالخير واقتنع به وارتاح إليه وبني حياة الاجتماع عليه.
والحق كذلك أن تعاليم الخير صار ينادى بها الآن - ولو نظرياً - في معاهد جميع الأمم.
وانظروا: هل في الأرض إلا أمم وأفراد ترفع رؤوسها نحو الحريات والكرامات تطلبها لنفسها بالدم والرأي والسلم والثورة؟ وهل فيها صرخات وهتافات بكلمات الحق والعدالة يطلبها المستضعفون لأنفسهم وللناس، ويتشدق بها الأقوياء والمتسلطون كحلية يزينون بها صوالج دولهم، ويجملون بها الأحاديث عن سلطانهم، ويزعمون أنهم حماتها وأساتها والمجاهدون لها في مجال سطوتهم؟
فماذا يدل عليه ذلك غير أن (سطح الحياة الإنسانية) ابتدأ يغلي ويفور ويشتد ويقذف وينضج؟ إن كل وحدة إنسانية تطلب الآن لنفسها ولقومها حقوق الحياة الكريمة الطيبة، لأنها تريد أن (تعيش) في عصر أصبحت فيه الحياة جديرة بأن (تعاش) بعد أن فتح العلم آفاقها ومهد مسالكها ووسع رحابها وأمدها بروح من قدرة الله وجدد ديباجتها وملكها مفاتيح كنوز الصحة والثروة ومقامع المرض والفقر والجهالة، وأفاض عليها بركات من السماء والأرض، وإنما يسيء إلى الحياة شيء واحد يشوه وجهها ويطمس سحرها، وهو أنانية بعض الأقوام!
هو الاستعمار الجشع: سواء كان استعمار طبقة لطبقة أم قوم لقوم أم فرد لفرد. فهو الشيء الوحيد الكافر بروح هذا العصر والناشز في انسجامه والمشوه لوجهه!
ولو أحسنا الإدراك والتفريق بين الأفكار التي للعمل والأفكار التي للترف الذهني، وعرفنا كيف نقدم الاستفادة بأفكار العمل في الأمم الشارعة في النهوض على غيرها من الأفكار لأنها أساس حياة الاجتماع ووسيلة بعث الثقة في نفوس الأفراد وتأمين حياتهم وحل مشكلات (عيشهم) لوفرنا على أنفسنا أزمات وشدائد تثير في نفوسنا الشك في حديث المثل العليا وتوهي عوامل الثقة والطمأنينة إلى الحياة.
وأعنى بأفكار العمل الأفكار التي هي أمهات الأخلاق والعلوم والأعمال الصالحة، وهي الأفكار التي درَّجت الإنسانية ونقلتها من طفولتها وأقامت الحرمة والقداسة حول أصول حياتها، وهي تشمل أيضاً العلوم والمعارف الطبيعية التي تمهد الحياة المادية تمهيداً يسمح باستقرار العيش ورفاهته والإقبال على الحياة في ثقة بها واستمتاع بطيباتها
وهي أفكار يجب الحرص عليها دائماً في كل عصر لحفظ الاجتماع واحترام حرمات الإنسان والاستمساك بقيم الحق والخير في حياته، وهي أيضاً أفكار لا يجوز مطلقاً أن يعفى من العلم بها والعمل بمقتضاها أي فرد في الدولة، بل والمحيط الإنساني، لأنها (القاسم المشترك) في جميع النفوس، والميراث الواحد الذي انحدر إلينا جميعاً من تاريخ جهاد الإنسانية في سبيل الحق والكمال والألفة والوحدة.
فنحن لا يؤكل بعضنا بعضاً في الأسرة، ولا يجامل بعضنا بعضاً في القبيلة والأمة، ولا نتراحم بالمعنى الواسع في الإنسانية، ولا نسعى لترقيها وإسعادها بالعلوم والمعارف إلا
تحت تأثير القديم العميق لمواريث هذه الأفكار العلمية التي هي في مبتدأ أمرها فيض من روح الخير في الطبيعة البشرية ومن هدى (الدين) الذي قاد هذا الطبع الخيّر في ظلمات التاريخ، حتى وصل الإنسان إلى عصر رشده وقدرته.
وقد يعتري نفوسنا بعض الانقباض والاستثقال لتلك الأفكار العلمية وما يتابعها من تكليف نظراً لما يلابسها من قيود ومضايقات تقيد حرية الطبع والهوى الذي لا يعرف إلا الانطلاق وإشباع الشهوات، ولكن هذه القيود نفسها لازمة لتحقيق حرية الطبع وحرية الفكر في حدود المعقول؛ لأن القيود التي تفرضها الجماعة في الواقع إنما هي لحفظ الحريات الفردية في حدود خاصة غير مختلطة، ولن تتحقق لأي فرد حريته الضرورية إذا أطلقنا لكل فرد حريته الطبيعية؛ لأن الحريات عندئذ تتصادم وتتنازع، ويتغلب قوىّ واحد يسلب الجميع حرياتهم ويستعبدهم، ويتمتع هو وحده بإشباع هواء الطليق الذي لا حدود له، ويترتب على هذه النتيجة السيئة جميع الحالات السيئة في حياة الاجتماع، والتي كانت طابع عصور الاستبداد والمظالم والجهالات والضياع في مجرى التاريخ.
أما أفكار (الترف الذهني) فمرتبتها بعد تلك، وخاصة في بدء النهضات كما قدمنا؛ ولكن مع الأسف قد ذهب كثير من رواد الفكر والإصلاح في مصر من عصر إسماعيل للآن إلى أن جلبوا لأمتهم الأزهار وتركوا الثمار، وفتنوا بالألوان والأضواء وتركوا جواهر الأشياء.
وكان إدراك (محمد علي) الكبير أصح من إدراكهم، وجهده أقرب إلى طبيعة الأشياء من جهدهم. إذ عنى ببناء أساس النهضة المصرية العمليةعلى الأفكار العلمية قبل أن يعنى بالترف الذهني. فأسرع الخطى بمصر، وبعث الثقة في نفوس أبنائها، والخوف في قلوب أعدائها.
وكذلك فعلت اليابان في بدء نهضتها؛ إذ كانت تكثر من إرسال البعوث إلى المصانع والمعامل الأوربية وتقلل من البعوث النظرية للآداب والفنون والفلسفات.
وكان من نتائج الاتجاه إلى الترف الذهني أن وجدنا في مصر الطبقة المثقفة الأولى طبقة أوربية أو أمريكية بالفكر والسلوك الظاهري وهم مصريون باللون والجنس والانتساب، وقد انفصلوا بأفكارهم وحياتهم عن أمتهم، وضاقوا بالمتخلفين منها ذرعا، ووجدت بينهم وبين السواد الأعظم هوة واسعة سحيقة، وحين يحاولون إصلاحها يكون أول ما يتوجهون
إليه أن يجلبوا لها آخر ألوان الإصلاح والترف في الأمم العريقة في النهضة والرقي، قبل أن يقيموا أسباب الحياة الصالحة على قواعد بسيطة عريضة تتسع للشمول. فصاروا يهتمون بالقرى النموذجية، والمناظر الاستعراضية وفنون الحياة الأمريكية والأوربية، ويتحدثون عن أحدث ألوان الحياة ويتركون الحديث عن قراهم ودساكرهم التي كان سكانها من آثار الأزل السحيق والماضي الواغل في القدم!
وبديهي أن إصلاحا على هذا الأسلوب يكون كإلقاء قطعة من السكر في بحر من الملح!
وكل يوم يمر على أمة بدون أن تعلم ما استجد في العالم من الكشوف والمخترعات يجعلها أمة بائدة ضعيفة متخلفة وراء الأمم العالمة. . .
فما بالنا بالأمم الواقفة عند خطوات آبائها الأولين من آلاف السنين كالمستنقعات الآسنة التي تزيدها حرارة شمس كل يوم جديد عفونة!
عبد المنعم خلاف
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
- 3 -
وماذا يقول الأستاذ في قول الله تعالى: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)؟ لقد ذكر أن تشبيه زرقة البنفسج بأوائل النار في أطراف الكبريت ليس شيئاً لأنه ينقلنا من جو الزهر والجمال إلى جو اللهب والاختناق، ولم ينظر إلى فنّية التشبيه، ولا إلى ندرته. فهل يقول في هذا التشبيه في الآية الكريمة إنه ليس شيئاً أيضاً؛ لأن القمر مسكنه في السماء والعرجون مسكنه في الأرض، والقمر من فصيلة الكواكب، والعرجون من فصيلة النبات، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه حقير لا تكاد تظهر له فائدة؟ وهل تخسر البلاغة القرآنية شيئاً إذا وقف الأمر عند حد تشبيه القمر حين يحتضر في آخر الشهر فيدق وينحني ويصفر بالعرجون المحول الذي دق وانحنى واصفر، ولا يلاحظ شيء وراء ذلك مما توجبه صورة العرجون وبيئته وتفاهته؟
لابد إذن أن نكون مع علماء البلاغة حين يرون أن القصد من التشبيه ليس فقط إثارة جو عام بين المشبه والمشبه به أو أنه منبع لمعان تتداعى يجب أن نتلمس آثارها في النفس، ويكفي أن نقول معهم إن التشبيه بالمحس المشاهد يحدث نوع اطمئنان، وأن السامع قبل أن تذكر له التشبيه قد يكون الكلام عنده غامضاً مضطرباً حتى إذا شبهت استقر القول في نفسه، وأنت قد تبالغ في القول ولا تدع مزيداً في الإسراف فلا يكون ما يكون حين تشبه بشيء مُحَسّ فتقول مثلاً: يوم بلغ في القصر نهايته، وليس وراء هذا القصر قصر، وما علمت يوماً أقصر منه، ولكن هذه العبارات مجتمعة لا تفيد ما يفيده قول الشاعر:
ظللنا عند باب أبي نعيم
…
بيوم مثل سالفة الذباب
(سالفة الذباب: ناصية مقدم العنق).
وكما أن للتشبيه هذا الأثر فكذلك التمثيل، فحين يقول ابن الرومي:
وإذا امرؤ مدح امرءواً لنواله
…
وأطال فيه فقد أطال هجاءه
تأخذ السامع موجة من الشك في صدق هذا المعنى، ولكنه حين يسمع قوله بعده:
لو لم يقدر فيه بُعد المستقى
…
عند الورود لَما أطال رشاءه
ويرى أنه شبهه بالبئر فيها الماء كلما كان أبعد احتاج أن يطيل المانح حبله. حينئذ تتبدد الشكوك من نفسه، ويذهب الاستغراب عن وعيه وحسه. وإنما سقت هذه الجملة من القول لأطيل التعجب من الأستاذ كيف ينكر على البيانين أن يجعلوا من أغراض التشبيه بيان إمكان المشبه أي بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود، وذلك إذا كان أمراً غريباً يمكن أن ينازع فيه، فيعلق على قول المتنبي:
فان نفق الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال
بقوله: كلامهم في أن الغرض من هذا التشبيه بيان أن وجود المشبه ممكن: مرفوض؛ لأن الأديب لا يضع نفسه موضع المناقش، ولكنه يفرض نفسه على الناس، وكل ما هنالك أن الناس من طبيعتهم إنكار هذا الامتياز، والمعنى فيه شيء من الغرابة في أنه واحد منهم وفاق عليهم. فقال هذا لا غرابة فيه؛ لأن له نظائر وشواهد. اه.
وهذا كلام غريب جداً ووجه غرابته أمران:
أحدهما أنه ينفي الشيء ثم يثبته في وقت واحد وسطر واحد؛ فهو يرفض كلامهم بدعوى أن الشعراء قوم متغطرسون يفرضون أنفسهم على الأجيال وعلى الأذواق وعلى الطبائع، ولكنه يحس أن من طبائع الناس إنكار هذا الامتياز؛ فالشاعر يقول لا غرابة. ولا يقصد العلماء من إمكان ثبوت المشبه أكثر من أن المتكلم يأتي بقضية تقرب إلى الأذهان أن هذا جائز ما دام شبيهه واقعا. وربما كان من الخير أن نسمع للشيخ عبد القاهر الجرجاني يحدثنا في أسرار البلاغة عن هذا الغرض من التشبيه فقد يكون في كلامه مقنع. (فان قلت إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر إنما يكون لزوال الريب في الأكثر، أتقول إن التمثيل إنما أنس به لأنه يصحح المذكور والصفة السابقة، ويثبت أن كونها جائز حتى لا يكون تمثيل إلا كذلك. فالجواب أن المعاني التي يجيء التمثيل في عقبها على ضربين: غريب بديع يمكن أن يخالف فيه ويدعي امتناعه نحو قوله: فان تفق. . . البيت، وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام إلى حد بطل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة بل صار كأنه جنس برأسه، فإذا قال: (فإن المسك بعض دم الغزال) فقد احتج لدعواه وأبان أن لِما ادَّعاه أصلا في الوجود. والضرب الثاني ألا يكون المعنى الممثل غريباً يحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بينة. نظير ذلك أن ينفى عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة
ويدعى أنه لا يحصل منه على طائل ثم يمثل في ذلك بالقابض على الماء والراقم فيه، وليس بعجيب أن يخيب سعي الإنسان حتى يستشهد على إمكانه، وتقام البينة على صدق المدعي لوجدانه).
ولنخرج قليلاً عن مناقشة الآراء العلمية لنتحدث في شيء من البساطة عن دقة الشيخ في تعبيراته، والمعلوم لكل من يدرس كتب المتقدمين أنهم يدققون كل التدقيق في وضع الألفاظ، وهم في ذلك أشبه برجال القانون لا يدعون لفظة تؤدي غير معناها ولا فوق معناها، ولعلهم أفادوا كثيراً في هذه الناحية من دراسة المنطق، ولذلك نجد الشرائح وأصحاب الحواشي من المتأخرين عنوا عناية خاصة بنقد التعابير والألفاظ. والحق أن العلوم المقعدة في حاجة إلى هذه الدقة حتى تكون التصاريف والمصطلحات وافية بالغرض. عرض لي كل ذلك حين ابتدأت أقرأ مذكرات الأستاذ في علم البيان فما كدت أنتهي من السطرين الأولين حتى وجدت أغلاطاً أربعاً، وليست هي أغلاطاً لغوية ولا أغلاطاً نحوية حتى يمكن التسامح فيها، ولكنها أغلاط علمية لو فهمها الطلاب على ما هي عليه لفهموا حقائقها مغلوطة محرفة قال:
(هم يقولون إن بعض التعابير أوضح من بعض. فعلم البيان هو الذي يبين درجات هذا الوضوح. فالجملة تتكون من أجزاء سليمة وهذا ما يكفله علم النحو؛ صالحة للسكنى، وهذا ما يكفله علم المعاني. هذه الجملة ذاتها يمكن أن تعرض عرضاً متنوع الأنماط، وهذا ما يكفله علم البيان).
فأولاً - ليست وظيفة علم البيان البحث في درجات وضوح التعابير، وإنه لمن تنقص هذا العلم أن نقول إن مباحثه تقتصر على معرفة أن مهزول الفصل أوضح من كثير الرماد في الدلالة على الكرم، أو أن التشبيه والاستعارة مختلفان في وضوح الدلالة؛ ولكن هذا العلم له أبحاث كثيرة قد يكون البحث في وضوح الدلالة أقلها.
وثانياً - قوله: (الجملة تتكون من أجزاء سليمة، وهذا ما يكفله علم النحو). فالنحوي لا يبحث في سلامة المفردات وإنما يبحث هذا علم التصريف، ووظيفة النحوي سلامة التراكيب.
وثالثاً - كون الجملة صالحة للسكنى ليست وظيفة علم المعاني، ولكن صاحب المعاني
يعنيه إذا أردنا أن نلجأ إلى التعبير بالمبنى أن يعرف هل هذا البناء مطابق للمواصفات التي وضعها المهندسون، أو غير مطابق، كما يعنيه أن يعرف هل هو ملائم للمكان والبيئة أو غير ملائم.
أما الغلطة الرابعة - فقوله: إن هذه الجملة يمكن أن تعرض عرضاً متنوع الأنماط. والذي يدقق في هذا الكلام يجده عليلاً؛ ذلك أن الجملة نفسها لا تعرض وإنما يعرض المعنى فإذا عبر شاعر عن طول الليل بقوله:
أضلَّ النهار المستنير طريقه
…
أم الدهر ليل كله ليس يبرح
وعبر الآخر بقوله:
حدثوني عن النهار حديثاً
…
أوْصِفوه فقد نسيت النهارا
وعبر الثالث بقوله:
فيالك من ليل كأن نجومه
…
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
فهذه التعابير كلها ليست عرضاً لجملة واحدة، وإنما هي عرض لمعنى واحد.
ينكر الأستاذ على علماء البلاغة جعلهم أداة التشبيه ركناً، ويرى أن ذلك إغراق منهم في الماديات، ومتابعة مسرفة للتصوير العقلي أدى إلى نسيان الناحية الأدبية في التشبيه، وهي أن أفضل التشبيه ما يقوم على إيهام أن المشبه هو المشبه به، وهذا لا يكون إلا بحذف الأداة.
ولا معنى لهذا الكلام إلا أنه كلام فحسب، علماء البلاغة وضعوا لها ضوابط، ورأوا أن من أحكام هذه الضوابط أن تكون أداة التشبيه ركناً من أركانه لمّا رأوا أنها لا تنفك عن التشبيه مطلقاً، فهي إما مذكورة وإما مقدرة، والتشبيه البليغ لم يبن على نسيان الأداة أو إعدامها، وإنما بني على حذفها في اللفظ، وهذا الحذف اللفظي كاف في إيهام أن المشبه هو المشبه به.
وإذا كان التشبيه إلحاق أمر بأمر، وكانت اللغة وضعت أداة لهذا الإلحاق فلا يمكن أن يتخلى الإلحاق عن أداته مطلقاً ما دامت طبيعة اللغة تأبى هذا التخلي بل وطبيعة الناس كذلك. فأنت عندما تسمع كلمة تشبيه يتبادر إلى ذهنك أول ما يتبادر أن هناك أداة ألحقت شيئاً بشيء وشبهته به، والحمل لا يمكن إلا أن يكون كذلك. تقول محمد كريم فتحمل كريماً
على محمد لأنه صفة، ولكنك إذا قلت محمد حاتم تريد تشبيهه به في الكرم لا يمكن إلا أن تلاحظ أن هنا أداة صححت الجمل، وإلا كنت حاملاً ذاتاً على ذات وطبيعة اللغة تأباه. وقد فطن علماء البيان لمكان الأداة في التشبيه، ورتبوا عليها أحكاماً هي في غاية الدقة والضبط؛ فرأوا أنه إذا لم يمكن تقديرها مطلقاً كان الكلام استعارة، وإذا أمكن بسهولة دار الأمر بين كون الكلام تشبيهاً أو استعارة، وهو ما يسمونه التشبيه البليغ. فإذا أمكن تقدير بعض الأدوات دون بعض كان إطلاق التشبيه على الكلام مقبولاً؛ فان غمض مكان الكاف وكأن بأن يوصف الاسم الذي فيه التشبيه بصفة لا تكون في ذلك الجنس وأمر خاص غريب كقوله:
شمس تألق والفراق غروبها
…
عنا وبدر الصدود كسوفه
فهو أقرب إلى أن نسميه استعارة؛ فإنه قد غمض تقدير حرف التشبيه فيه إذ لا تصل إلى الكاف حتى تبطل بنية الكلام، وتبدل صورته. وقد يكون في الصفات التي تجيء في هذا النحو ما يختل به تقدير التشبيه فيقرب حينئذ من القبيل الذي تطلق عليه الاستعارة من بعض الوجوه كقوله:
أسد دم الأسد الهزبْر خضابه
…
موت فريص الموت منه يرعد
لا سبيل لك إلى أن تقول هو كالأسد وهو كالموت لما يكون في ذلك من التناقض.
وأيا ما كان فلا معنى لأن ننكر شيئاً يقره المنطق والعقل واللغة والذوق. ولا أحب أن أختم قولي فيما كتبه الشيخ تعليقاً على بعض مباحث البيان حتى ألفت نظر القارئ إلى ما يلجأ إليه الأستاذ من تكلف الشطط في تأويل النصوص الأدبية وبيان مواضع البلاغة فيها. مثل يقول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ويقول الأستاذ: (التركيب يفهم على أنه صورة ملونة. الغبار تكاثف حتى أظلم ووصل إلى السواد القاتم، وليس تشبيه مثار النقع بالليل لمحض القتام، وإنما ملحوظ فيه أيضاً الحيرة والظلام والخطورة والاضطراب وهذا ما يطلب في القتال بالسيوف؛ فإذا أضفنا إلى هذا الحالة النفسية لمن يقاتل بالسلاح الأبيض نجد أنه يعتقد أنه معرض للموت بشهاب ممزق، ولذا قال في السيوف ليل تهاوى كواكبه).
فهذا كلام يقوله من لا يحسب لعقول الناس حساباً فمن أين له أن بشار لاحظ في تشبيه الغبار بالليل الحيرة والظلال والخطورة؟! ومن أين له أنه لاحظ أن المقاتلة يتوهمون أنهم معرضون لشهاب ممزق؟! ومتى فكر القاتل في رجم السماء وهو مشغول عنها برجم الأرض؟
المسألة بسيطة جداً: يريد الشاعر أن يمثل جماعة يقاتلون وقد عقد الغبار فوق رؤوسهم ظلاماً كما يقول أبو الطيب:
نثرت سنابكها عليها عثيرا
…
لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا
ثم تصور سيوفاً بيضاً لوامع مستطيلة تعلو وتهبط وتجيء وتذهب، تتلاقى وتتداخل ويقع بعضها في بعض. فالتمس لذلك شبهاً فوجده في ليل مظلم تتساقط كواكبه، وما أظنه خطر على باله شيء ممّا يقول الأستاذ، ولكنها دعوى التجديد.
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة
الحلم والتحلم.
. .
للأستاذ محمود عزت عرفة
- 3 -
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه)
حديث شريف
المأمون:
يرتفع الستار بعد موت الرشيد عن مشهدين متنائيين - أحدهما في بغداد والثاني في مرو - بينهما متسع من الأرض فسيح تخب الدسيسة فيه وتضع.
ولم يكن هذا النزاع بين الأمين والمأمون إلا مظهراً لنزاع أشد وأروع بين حاشيتيهما في حاضرتي العراق وخرا سان، وكان على رأس الأولى الفضل بن الربيع يشد أزره فريق من دعاة السوء وأرباب المطامع. . . وعلى رأس الثانية الفضل بن سهل يكتنفه الشيعة من أهل خرا سان، وقد وطدوا عزمهم على تقويض العرش العباسي ببغداد وإسناد الخلافة إلى العلويين، (والعجيب أن المأمون أصبح يرى هذا الرأي. بل هو يضعه موضع التنفيذ كما سترى).
ولم يكن بين الأخوين من العداوة الشخصية ما يبلغ حد القتال، ولكنَّ بُعد ما بينهما أفسح المجال للدسائس والوشايات، وكان الأمين ضعيف المنَّة فاشل الرأي يصيخ لإغراء وزيره، ودسِّ رجال حاشيته، فنادى بخلع أخيه من ولاية العهد وجعلها لابنه موسى (الناطق بالحق).
وكان خليقاً بالمأمون أن يرفض هذا التبديل، وأن يأبى التنازل عن حق كفله له أبوه الرشيد بإشهادين أودعهما البيت الحرام. . . وكان قد أزالهما الأمين عن موضعهما بإشارة خبيثة من الفضل.
تحركت جيوش جرارة من بغداد منذ عام 195 هـ بقيادة: علي بن عيسى، وعبد الرحمن
بن جبلة، وابن مزيد، وابن قحطبة على التوالي. فانبرى لقتالها رجلا المأمون: طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين.
وبعد حروب امتدت ثلاثة أعوام وطئت عساكر المأمون أرض بغداد، وقتل الأمين بأيدي الخراسانيين، وحمل رأسه إلى أخيه مع بقية شارات الملك، وكان هذا القتل على غير رغبة المأمون. . .
تولّى كبرَه رجال طاهر من الفرس حين أسلم الأمين نفسه إلى هرثمة بن أعين. وليس من شك في أن الأمين أيضاً كان يظنّ بأخيه أن يقتل فيما لو أظفره الله به. وآنا لنراه يوصي. قائد جيوشه (علي بن عيسى بن ماهان) يوم وجّهه من بغداد إلى خراسان فيقول:
إذا شخصته - يعني عبد الله المأمون - فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فان غره الشيطان فناصبك العداء فاحرص على أن تأسره أسراً!
وتقول زبيدة أم الأمين في وصيتها للقائد (علي): اعرف لعبد الله حق والده وأخوُّته، ولا تجبهه بالكلام فإنك لست نظيرهَ، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غلّ. . . ولا تركب قبله، ولا تستقل دابتك حتى تأخذ بركابه، وان شتمك فاحتمل منه، وان سفه عليك فلا ترادِّ. . . ثم هي ترفع إليه قيداً من الفضة وتقول: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد!
فلمّا تمّ النصر للمأمون، واستولى على عرش بغداد قال لجلسائه مرة وهو يثلب الفضل بن الربيع ويعدد مخازيه: كان صغوه إلى المخلوع، فحمله على أن أغراه بي ودعاه إلى قتلي، وحرّك الآخر ما يحرك القرابة والرحم الماسّة فقال: أما القتل فلا أقتله، ولكن أجعله بحيث إذا قال لم يُطع، وإذا دعا لم يُجب. فكان أحسن حالاتي عنده أن وجّه مع علي بن عيسى قيد فضة بعد ما تنازعا في الفضة والحديد؛ ليقيدني به، وذهب عنه قوله تعالى:(ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه، لينصرنّه الله).
كان المأمون يعرف عن أخيه فسول الرأي وسهولة الانقياد لمن أحاط به من بطانة السوء، ولعله لو وقع في أسره لكان أقصى ما يفعله معه أن يقيده بهذا القيد من الفضة الذي أعدّه له، ثم يحمله حتى يطرحه عند أمه زبيدة فيقول لها: - أدّبي ولدك يا أماه بما أساء، فلقد خان عهد أبينا الرشيد، وأصاخ إلى من يريدون بأسرتنا وبملكنا شراً. . .
ولكن جرت الأمور بغير ما قدّر هؤلاء جميعاً، وطاح رأس الأمين على مذبح هذه الفتنة
الغشوم، والتفت المأمون حوله فإذا سكون شامل وصمت رهيب؛ وإذا أعداؤه ما بين قتيل قد كُفي شرّه، أو هارب يتلمس التخفّي ويطلب أسباب النجاة، ولم تنشط نفس المأمون إلى ورود بغداد واعتلاء عرشها الدامي إلا بعد انطواء ست سنين على مقتل أخيه (من 198 إلى 204 هـ)، وكأنّما كانت نفسه قد ملّت القتل وبرمت بالقتال، وامتلأ قلبه بالسكون وبالطمأنينة، وبالفلسفة والتأمل الصامت؛ فجنح إلى العفو والمسامحة، وشغل عن كثير من مطامع الحياة وأهواء السياسة والمجتمع، ولنصرف بجهده إلى العلم ومدارسته وتشجيع المشتغلين به، وحثّهم على التوفّر عليه، كما هو معلوم من سيرته. . .
وكان عفوه عمّن دخلوا في فتنة الأمين شاملاً، واتبّع ذلك عفوه عن عمّه إبراهيم بن المهدي الذي ادّعى الخلافة (عام 201 هـ) قبل مقدم المأمون إلى بغداد، وكان سبب قيام ابن المهدي في بغداد ما أجمع عليه العباسيون من خلع المأمون عندما اختار لولاية عهده علياً الرضي بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق من العلويين وظهر الفضل بن الربيع وقتئذٍ - وكان مختفياً منذ مقتل الأمين - فانظم إلى ابن المهدي متحدّياً المأمون للمرة الثانية، وكان من العجيب أن يشمله العفو رغم كل ذلك. ولما مثل بين يدي المأمون في ذلّته وانكساره قال له: يا فضل، أكان من حقّي عليك وحقّ آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك، أن تثلبني وتسبني وتحرض على دمي؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلته بي؟ فقال: يا أمير المؤمنين: إن عذري بحقدك إذا كان واضحاً جميلاً، فكيف إذا حفّته العيوب وقبّحته الذنوب؟ فلا يضق عنّي من عفوك ما وسع غيري منك، فأنت كما قال الشاعر فيك:
صفوح عن الإجرام حتى كأنه
…
من العفو ولم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى
…
إذا ما الأذى لم يغش بالكُره مسلما
فأسبل المأمون عليه توب عفوه. . .
وعفا عن اسحق بن العباس، وكان ممن أجلب مع ابن المهدي، وعفا أيضاً عن ذوي قرابته من آل عبد الملك بن صالح بعد أن كان قبض ضياعهم. فردّها عليهم وقضى حوائجهم.
بل لقد هجاه دعبل الخزاعي الشاعر بداليته التي يقول فيها:
أيسومني المأمونُ خطة خسفِهِ
…
أو ما رأى بالأمس رأس محمد؟
فلم يمدّ إليه يداً بسوء. ثم عمل دعبل أبياتاً في إبراهيم بن المهدي بعد العفو عنه، أوّلها:
نعَر (ابن شكلة) بالعراق وأهله
…
فهفا إليه كل أطلسَ مائق
فشكاه إبراهيم إلى المأمون. فقال له: لك أسوة أبي، فقد هجاني واحتملته، وقال في: أيسومني المأمون. . . وأنشده الأبيات. فقال إبراهيم: زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً، فما ينطق أحدنا إلاّ عن فضل علمك، ولا يحلم إلاّ اتباعاً لحلمك.
وهجا الحسين بن الضحاك المأمون بقصائد، ثم دخل عليه في بغداد مادحاً، فعاتبه ووبخه؛ ثم عفا عنه، وقال: جعلت عقوبة ذنبك امتناعي عن استخدامك.
كانت فتنة الأمين والمأمون شديدة الوقع في نفوس العباسيين جميعاً، وضاعف من وضعها مقتل الأمين الذي يعدّ الحادث الأول من نوعه في تاريخهم، وقد تلا ذلك فترة سكون وسلام داخلي زينها المأمون بعفوه وتسامحه، وبلغ من تماديه في هذا الخلق الكريم أن كان يقول: أما لو عرف الناس ما لنا في العفو عن اللذة لتقربوا إلينا بالجنايات!
وكأنما كان يسمع كلامه هذا أحد البغداديين حين أثنى عليه بقوله:
مازلتَ في البذل والنوال وإط
…
لاق لعانٍ بجرمة غَلقِ
حتى تمنّى البراء انهموا
…
عندك أسرى في القيد والحلق
ولقد أتى على المأمون حين من الدهر كان لا يثق فيه بالسلامة من أعدائه فضلاً عن التغلب عليهم. فلمّا توطّد له الأمر وتمّت عليه نعمة ربه؛ جعل من العفو عن أعدائه شكراً يتقرب به إلى الله
وقد ألم بهذا المعنى في كلامه غير مرة. . . كان في مجلسه من أصحابه يوماً حين أنهلت عيناه بالدمع، فلمّا سُئل عن سبب بكائه قال: ما ذلك من حدث، ولا لمكروه همت به لأحد، ولكنه جنسٌ من أجناس الشكر لله لعظمته، وذكر نعمته التي أتمها عليَّ وعلى أبويَّ من قبل. أما ترون ذلك الذي في صحن الدار - يعني الفضل بن الربيع - كان في أيام الرشيد، وحاله حاله، يراني بوجه أعرف فيه البغضاء والشأن؛ وكان له عندي كالذي لي عنده، ولكني كنت أداريه خوفاً من سعاته وحذراً من أكاذيبه. فكنت إذا سلمت عليه فرد عليّ، أظل لذلك فرحاً وبه مبتهجاً. . .
وعفا المأمون عن سعيد الخطيب وقال عنه - وقد وقف على رأسه يمدحه ويشيد بسيرته -: هذا الخطيب كان بالأمس يقف على المنبر الذي بازائي مرة، وعلى المنبر الغربي مرة،
فيزعم أني المأفون ولست بالمأمون!. . . ثم هو الساعة يقرضني تقريضه المسيح ومحمداً عليهما السلام!
صلاح الدين الأيوبي:
يُعد صلاح الدين النموذج الكامل للحليم يجني عليه حلمه، ويورده وقومه موارد الضر والأذى. فهو قد نهض بهذا السلاح النبيل في وجوه قوم لم يتخذوا سوى الغدر والخيانة عدة لهم وسلاحاً، وكانوا بما دس في عقولهم رهبان القرون الوسطى لا يرون في الحملات الصليبية إلا وسيلة لإبادة المسلمين بالمشرق والاستيلاء على تراثهم المادي فيه.
وهكذا كانت خرافة بيت المقدس وتطهيره من الكفار) تخديراً - ليس أكثر - لأعصاب الملايين من طغاة أوربا، واستثارة للعصبية الدينية المقيتة في نفوسهم، ولم يكن ليسع البابا أوربان الثاني وهو يرسل صيحاته المفتعلة - في كليرمونت في فرنسا عام 1095 - إلا أن يقرنها بذكر الباعث الحقيقي على شنّ هذه الحروب فيقول: إنها ليست لاكتساب مدينة واحدة؛ بل لامتلاك أقاليم آسيا بجملتها مع غناها وخزائنها التي لا تحصى. فاتخذوا البيت المقدس حجّة، وخلّصوا الأراضي المقدسة من أيدي المختلسين لها، وامتلكوها أنتم خالصة لكم من دون أولئك الكفار، فهذه الأرض كما قالت التوراة:(تفيض لبناً وعسلاً).
وكان سواد الجيوش الصليبية يتألف من رعاع أوربا الذين طمست الجهالة بصائرهم، فساقهم رجال الدين سوق السائمات لتحقيق مآربهم السياسية وأطماعهم المادية. يصفهم المستشرق الإنجليزي سير وليم موير بأنهم (الطبقة الدنيا. . . خرجوا في جموع غفيرة متبعين بطرس الناسك وغيره من القواد، مدفوعين بالتعصب الشديد؛ ولكن لم يلبثوا أن ظهروا عبيداً للشهوات والميول الدنيئة).
ويقول عنهم في موضع آخر: (أما البارونات والفرسان مهما كانت طبقتهم، فلم يكن همّهم غير التنازع على السيادة. والواقع أنه قضى عليهم الشره والغيرة والخصام والمبالغة في الترف وهؤلاء الرجال الدنسون هم حماة الأرض المقدسة!).
ويصف من شرهم يوم فتحوا بيت المقدس أنهم سفكوا دماء سبعين ألف مسلم لم يراعوا فيهم حرمة لشيخ أو امرأة أو طفل. ثم يقول: (وبعد أن أشبع جنود الصليب شهواتهم الوحشية أوفوا بنذورهم وقبلوا الحجر الذي كان يغطي المسيح الذي قال: إن مملكتي ليست
من هذا العالم وإلا لما قاتل أتباعي).
هؤلاء هم الأعداء الذين قدّر لصلاح الدين أن يلقاهم في ميدان الجهاد. . . فكيف لقيهم؟
لسنا نعدو هنا الإشارة إلى بعض مواقفه حيالهم، غب كل انتصار كان يتم له عليهم، ففي ذلك وحده ما يكفي في الدلالة على ما نريد.
أسر السلطان صلاح الدين في موقعة حطين: جاي دي لوزينان (جوي) ملك بيت المقدس، وبليان صاحب الرملة، ورينولد أمير الكرك والشوبك. فلم يهدر إلا دم الأخير منهم وفاءً ليمين كان أقسمها أن يضرب عنقه بيده جزاء ما تطاول به على مقام النبوة، ولسوء غدره، وكثرة تعرضه لقوافل المسلمين المجتازة على الكرك.
أما بليان صاحب الرملة فقد استأذن من صلاح الدين - كما يستأذن الحر الشريف! أن يتركه يمضي إلى القدس فيحمل زوجه وأولاده قبل أن تدهمها جحافل السلطان وأقسم ألا يتجاوز مكثه بها الليلة الواحدة. فلما بلغها التف حوله القوم ضارعين، واستماله البطريق إلى أن يقيم معهم ليضطلع بقيادة الحملة الصليبية وأباحه كنوز الكنيسة يتناول منها ما يشاء. فجنح الأمير إلى الغدر، ونسى يمينه ووعده فما ذكَّره بهما إلا صلاح الدين وهو يدق عليه أبواب بيت المقدس، ثم يفتحه على القوم صلحاً؛ ومن العجيب أنه خرج مع سائر من خرجوا - وفق شروط الصلح - معافى موفورا. . .
وأما جاي دي لوزينيان بيت المقدس فقد احتمله السلطان معه في تنقلاته فترة ما، فلما كان في (أنطرطوس) أطلق سراحه بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أن يغادر الشام إلى أوربا نافضاً يده من القتال. فحنث هذا الملك بعهده؛ ومضى إلى صور حيث أبى عليه كونراد صاحب حاميتها أن يتولى معه زمام أمر. فأتجه إلى طرابلس وحشد بها الحشود، ثم ذهب إلى عكا - وكانت في يد المسلمين - فضرب حولها الحصار عامين، يعاونه فيليب ورتشارد ملكا فرنسا وإنجلترا، وقد قتل في هذا الحصار ستون ألفاً من المسلمين، ثم جرت يوم فتحها مذبحة رهيبة ذهب فيها ألفان وسبعمائة مسلم. ويقول المؤرخون إن ملكي الإنجليز والفرنسي مرضا في أثناء هذا الحصار فأرسل إليهما صلاح الدين ألطافاً من ثلج وشراب بارد وفاكهة وغيرها.
لقد كان صلاح الدين في الحقيقة أسداً باسل الهمة كريم النحيزة، يلقى ذئاباً ضاريات حشو
جلودها الخسة والمكر، والخديعة والجبن، وأشباهها من دنيئات الأخلاق.
ولقد أفضى سقوط عكا عام 1191 م في أيدي الصليبيين إلى نتيجة مؤلمة رهيبة هي - في أوجز تعبير - امتداد الحروب الصليبية (مائة عام) أخرى يسجلها التاريخ بمداد من الدم الصبيب!
فقد اتخذ الصليبيون عكا حصناً لهم عوضاً عن بيت المقدس، وضلوا يناوئون منها المسلمين في الشام وفي مصر؛ حتى كان سقوطها على يد السلطان الظاهر بيبرس (1291 م) خاتمة لهذه المذابح الفظيعة التي انتهت بطرد الصليبيين من المشرق بعد أن لطّخت سجل تاريخ العصور الوسطى بدماء لا تبلى ولا تجف. فما أبهظ الثمن الذي دفعه المسلمون من دمائهم ومن مدنيتهم - خلال مائة سنة (إضافية) من الحرب - لقاء هذه اللحظة العابرة التي تحركت فيها مشاعر صلاح الدين فأطلق سراح ملك بيت المقدس جاي دي لوزينان! حقاً إنها للحظة حاسمة من لحظات التاريخ؛ تركت على وجه الأرض أثرها الذي لا يمحى.
(يتبع)
محمود عزت عرفة
عناصر الاستقلال.
. .!
(مهداة إلى شباب العرب)
(لأستاذ فاضل)
ليست هناك فكرة جلية لدى الأمة وفريق من خاصتها، عن الاستقلال
الحقيقي؛ بل إنهم يفهمون من - الاستقلال - الاستقلال السياسي
فحسب! وقليلون أولئك الذين يفهمون الاستقلال على حقيقته، والعلة في
ذلك قلّة ما صدر حتى اليوم من الكتب التي تعالج القضية الوطنية،
على أنها محدودة الشمول، أو سطحية الخ.
والاستقلال بمفهومه العام يقوم على أركان ثلاثة أساسية، وفقدان أحدهما يُعدّ ثلماً في الاستقلال، إذ يؤثر على الآخرين. وإذا كنا لا نفيد كثيراً من المفاضلة بينها إلا أنه يهمنا أن نقرر أن كلاً من هذه الأركان خطير الأهمية.
وبعد، فما هي عناصر الاستقلال وأركانه التي يقوم عليها؟ هذه الأركان الثلاثة هي:
الاستقلال السياسي.
الاستقلال الاقتصادي.
الاستقلال الفكري.
ولا يعزب عن البال أن العرب حتى اليوم لم يعيروا الركنين الأخيرين ما يستأهلانه من العناية والاهتمام. ولعلّ مرد ذلك إلى أن الأجنبي هو الذي حال دون ذلك حتى اليوم.
كذلك لا يعزب عن البال ما للركن الثالث من أهمية (خاصة) لأن علاقتنا مع (أجنبي) جنى (ويجني) فوائد عظيمة من ثلم الاستقلال الفكري، بل هذا هو سلاحه الفتّاك، أعني (الدعاية) بمفهومها الواسع التي توفر عليه إراقة الدماء ومر العناء، مما لم يُثبت أجنبي غيره قدرته على الاستفادة من هذا السلاح. . .
ولما أصبح مفهوم الاستقلال السياسي وقضية الحرية من البدائه التي لا يختلف فيها اثنان فسوف نقصر كلامنا على الركنين الأخيرين، إجمالا.
أولا: ما هو الاستقلال الاقتصادي وأهميته وأثره؟
هو أن يكون للبلد زراعة ثم صناعة ثم تجارة مزدهرة، بحيث يكون ميزانه التجاري وميزانه الحسابي سليمين، فلا يعتمد في شيء من حاجاته على بلدٍ أجنبي ما لم ينتج ما يسدّ النقص. وعلى ضوء هذا التعريف البسيط الموجز نتساءل هل نحن مستقلون اقتصادياً؟؟ الحق أننا لم نجتز بعد الخطوة الأولى في مضمار التقدم الاقتصادي، وما نزال مستعبدين اقتصادياً، فكثير من المشاريع المنتجة العظيمة في بلاد العرب، تُستغلّ برؤوس أموال أجنبية ولا يصيبنا منها إلا نصيب الأيتام على مأدبة اللئام!
ولم تغب بعد من الأذهان والخواطر تلك الحالة الاقتصادية البائسة التي فرضت علينا طيلة الحرب العالمية الثانية، وما تزال، حيث تمكن الأجنبي من تحطيم كيان العرب الاقتصادي بين عشية وضحاها، فأحصى علينا حركاتنا وسكنانا، ووقعنا تحت رحمته إساري، وازدهرت الأندية والملاهي والخلاعة. . . وسهل عليه أن يستعمل جيشاً لجباً من رجالنا. . . كمرتزقة. . .!! الخ. . . الخ. . . الخ. . .
(وأبقى لنا جلداً رقيقاً وأعظما) أورثنا الطبلاوي أفندي هذا الحيوان الذي أتخيله وحشاً يخرّب ويدمّر. . . ويبتلع الأخضر واليابس. . . وأورثنا التضخم النقدي. . . وسرق الرغيف منا سراً وعلانية، وابتلع نتاج أرضنا من بترول ومعدن. . . وذهبت الدماء التي أريقت منا هباءً منثوراً. . . ولئن عادت تلك الظروف عدنا نحن والهنود وغيرهم. . . ندفع الثمن!!!
إذن ما نزال تحت رحمته، ولم نخط خطوات محسوسة في سبيل الاستقلال الاقتصادي، وهذا يعني - وهو حقيقة مرة - أن الوضع الحاضر المقيت سيمتد إلى أجل غير مسمى في بلاد العرب. . . وسيبقى الاستقلال السياسي - إذا أتممناه - عديم الفائدة.
ثانياً: ما هو الاستقلال الفكري وأهميته؟؟
هو ألا نجري وراء الآخرين بل نجاريهم في كل شيء!
هو ألا نصدق بكل ما يرد إلى بلادنا من أفكار ومذاهب وآراء على علاّتها.
هو ألا نشعر بأننا قاصرون، وأقل جدارة، وأحط أهلية من الآخرين. ففي مضمار السياسة والوطنية يجب أن نعمم الأفكار العربية الصحيحة، وأن تكون لنا فكرة أو عقيدة ثابتة لا
نخرج عن حدودها.
وأن نميز بين الآراء الصحيحة والمغشوشة التي تُبث في وسطنا، فنفضح الموضوعة بقصد التمويه والتضليل. . . فكثير من المفتريات والأباطيل تلعب دوراً خطيراً في عقول عامة الناس وفريق من الخاصة.
ولنضرب مثلاً: لنفرض أنها حدثت ثورة في بلد عربي في وجه الطغيان. . . وقد حدثت فعلاً. . . وكانت النتيجة المعروفة. . . وذهبت الأمة في آرائها مذاهب شتى! لماذا؟ لأن الأجنبي سمم الأفكار وألبس الباطل بالحق. . . بأبواق دعايته المنظمة. . . ونجح أخيراً في تفريق الكلمة وصدع الشمل، وتشتيت الجماعة، ورد الكيد إلى النحر. . . وباتت الأمة تئن أحراراها. . . وتخبط في دياجير العمى جهلتها. . . وكانت الطامة الكبرى والعياذ بالله!.
وفي مضمار المعرفة: يجب أن يكون لنا منبع علمي عربي تنهل منه ناشئتنا، فلا نشعر بالنقص على الدوام، وبعقم عقليتنا.
وفي اللغة: (وهي الأمة. . . والأمة هي) كما يقول الحكماء لغتنا الخالدة يجب أن نؤمن بعبقريتها، ونفخر ونعتز.
ولابدّ من زيادة الإيضاح حول (الاستقلال الفكري) لكي ندلل على أهميته وأثره:
قضت البلاد العربية حيناً من الدهر طال وهي تتلقى صنوف المصائب من غفوة طبيعية في ظلام العهد العثماني. . إلى غفوة صنعية الكراهية في هذا العهد الأسود الأبيض المميت، حيث تتلقى كل يوم بل كل ساعة بل كل لحظة؛ ضربة صامتة في صميم الاستقلال والكرامة - يوجهها عبدة المادة وإخوان المطامع. لقد توطنت النفوس على الشعور بالنقص، وضعف الثقة بالذات مع مرور الزمن. . . وصرنا نسلك مسلكاً عجيباً، يندى له جبين التاريخ العربي. لنذكر كل أولئك لنعرف مدى حاجتنا إلى الاستقلال الفكري!
وصفوة القول: لا استقلال صحيح إلا بهذه الثلاثة.
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 28 -
البطل الضرير:
وكان ملتن في جنوحه إلى الراحة يفكر فيما عسى أن يرد به سلامسيس على رده هو عليه، ويدير في خاطره ماذا يصنع وماذا يعد من رد؛ حتى جاء هذا الكتاب فاستأثر بفكره، وطلب إلى ملتن أن يرد فيدفع عن وطنه ما يتهم به كما فعل حيال صيحة سلامسيس، وما كان في حاجة إلى أن يطلب إليه ذلك، ففي هذا الكتاب تهجم وقح على قوم يجلهم وعلى حكومة يعتز بها فضلاً عما فيه من مطاعن شخصية كفيلة بأن تثيره وتسخطه على صاحبه أعظم السخط.
ومن عسى أن يكون صاحب هذا الكتاب؟ ذلك ما أخذ يتساءل ملتن عنه؛ فليس على غلافه إلا أنه طبع بإشراف ألكسندر مورس، وفطن ملتن آخر الأمر أن مورس هذا هو مؤلف الكتاب ولكنه يتواري. والواقع أن مؤلف الكتاب كان يعيش في إنجلترا ما بين أكسفورد ولندن، وهو بيير دي مولان، ولم يجرؤ بالضرورة أن يلقي بكتابه إلى مطبعة في إنجلترا فأرسله إلىفي هييج، وهو من سلالة اسكتلندية ولكن أباه نزح إلى هولندا؛ ونشر مورس الكتاب وقدم له، وظن ملتن وشايعه في ظنه أكثر الناس أن الناشر هو المؤلف، وكتم مورس حقيقة الأمر كتماناً شديداً فيما يتعلق بمؤلف الكتاب، ولكنه أنكر أنه مؤلفه؛ إلا إن إنكاره لم يزد الناس إلا اعتقاداً بأنه هو فحلت عليه لعنة ملتن وأصحابه أجمعين، وبالغ مورس في كتمان سره وكان شديد الوعي؛ فلو بدرت منه كلمة أو إشارة تنم عن صاحب الكتاب لحاق به وهو على مقربة من كرمول، ومن ملتن سوء العذاب. . .
وتنزي ملتن تنزي الليث الجريح يريد أن يتعجل الرد، ولكن المرض يقعده والعمى يحوجه إلى من يكتب له؛ ولم يك أعون له يومئذ من ابن أخته جون فيليبس، ولكن فيليبس كان في شغل يرد كلفه به عمه على هجوم آخر صغير وجه إليه؛ لذلك لم يكن بد من التمهل. فتمهل ملتن على رغمه وإن جوانحه لتتقد حقداً على مورس ومن دفعه من الكائدين.
وظل ملتن يرصد أنباء مورس ويتسقط معايبه، ويرسل من يتجسس عليه ويجمع ما يستطيع جمعه مما عسى أن يكون حوله من أمور تشينه في حياته العامة وفي حياته الخاصة.
وكان ملتن حرياً أن يترفع عن هذا فلا يكف نفسه مثل هذا العناء من أجل إمعة من النكرات يعد ازدراء ملتن إياه لما في ذلك من مجرد الاكتراث له شرفاً يلحق به، وحسبه أن يرد على ما ينسب إلى الحكومة من مثالب مقيماً الدليل إن أمكنه على بطلانها وحقيقة الدافع إليها.
وإنه لمما يؤسف حقاً أن يتنزل رجل مثل ملتن على جلالة قدره وسمو أفقه إلى ما لا يخرج في جوهره عن كونه مغالبة ومجادلة حزبية لقوم يعكفون عليها غدواً وعشياً لا يبتغون إلا الكيد ولو أنه أعرض عنهم واستصغر لكانوا هم المكيدين. . .
وجاء رده بعد سنتين أي سنة 1654 إذ نشر باللاتينية (الدفاع الثاني)، وأن المرء ليتملكه الأسف كلما فكر في فيما كانت تجدي على الشعر مثل هذه الطاقة من جانب شاعر أقترن أسمه بالسمو في ذلك الفن، وجاوز بلسان قومه في شعر الغناء والملاحم أسمى درجة أمكن أن يبلغها شاعر من قبله وبعده بحيث صار له في الشعر الإنجليزي أفق يشرف أقوى الشعراء بعده تحليقا أن يدنو منه فيتشرف له، وفي شعر الدنيا قاطبة مكانة تسلكه في القلائل الأفذاذ.
على أن كتاباته النثرية منها والإنجليزية لم تخل من فائدة وأهمية فمنها وقفنا على كثير من آرائه في الدين والسياسة والاجتماع، ومنها لمحنا بعض خلاله ونزعات وجدانه وخلجات شعوره، هذا إلى أنه كان يبلغ أحياناً في نثره كما سبق القول درجة لا تتقاصر عن مستوى شعره، بلاغة عبارة، وإشراق ديباجة وقوة أداة، وروعة فن. مما جعله يعد فيمن لهم على اللسان الإنجليزي عظيم فضل. . .
ويستبين كثير من صفاته ككاتب أحسن ما تستبين في كتابه هذا (الدفاع الثاني) فالرأي مجتمع على أنه من خير ما كتب ملتن إن لم يكن خير ما كتب جميعاً، ويقول ذوو الخبرة باللاتينية ممن تحدثوا عنه إن ملتن أشرف على ذروة البلاغة فيه، وقد ضمنه جانباً من حياته الشخصية، وتعرض فيه لأقوى شخصيات الحكومة الجمهورية وأورد طائفة من آرائه الأساسية في السياسة والحكم، وأنذر في ختامه بما يخاف، وأفصح عما يتوقع إن لم يأخذ بنصحه المعاصرون.
أسرف ملتن في التفاخر بحكومة كرمول وما أدته إلى إنجلترا من صنيع، وما كان لها في قضية الحرية من مواقف مشهودة، وما أتيح لها من نصر فيها لم تشهد الدنيا مثيلا له، وما كان إلا مردداً بكلامه هذا ما سبق أن ذكره في الرد على سلامسيس، وكذلك شأنه في امتداح رجال ذلك العهد وما قدمت أيديهم من خير، وأمعن ملتن في الذهاب بنفسه وكان شعوره بأنه قاهر سلامسيس يدفعه إلى الغلو في ذلك حتى لقد أشبه أن يكون غلوه شططاً، وكان كلما تذكر ما رماه به خصمه من مطاعن يعظم غلاؤه فينسى أنه بذلك يبدي ما كمن في نفسه من غيظ.
يقول لمن ظن أنه خصمه: (تتساءل من أكون ومن أين جئت وتزعم أني في ذلك يحيط بي الشك، كذلك أحاط الشك بهوميروس من يكون وأحاط بديموستين. . .) ثم يسرد ملتن تاريخ حياته ويعدد مآثره ومفاخره، ويدفع عن نفسه ما نسب إليه، حتى ما عير به من فقد بصره فلم يدع هذا بغير رد فأشار كما سلف القول إلى براءة عينيه في مظهرهما مما يعيبهما حتى ليخالهما من يراهما مبصرتين كأحسن ما يكون الأبصار وأتمه، ونجد فيما يقول ملتن عن نفسه مثلاً من أحسن الأمثلة لما يلحق الرجل القوي من ضعف إذا عنى من الأمور بما لا يتفق وسامي منزلته وعظيم خطره؛ والحق إن شدة إحساس ملتن بذاته هو الذي يجره إلى مثل هذه المواقف. . .
ويرضى ملتن لنفسه فضلا عن هذا أن يوجه المطاعن إلى مورس وكان خليقا أن يدرك وهو المسرف في كبريائه وغلائه أن الجملة من مثله على مورس وأشباهه إن هي إلا ضرب من المهانة وإلا جاز أن يتداخل المرء إعجاب بقوة النسر أو الصقر إذا انقض على عصفور وديع، أو ببطولة الفارس إذا جندل غلاماً لم يدر ما الدرع بعد ولا ما السيف!
ومن عجب الأمور حقاً أن يهتم ملتن اهتماماً كبيراً بالعيب على مورس كأنما كان له نداً يحرص أن يظهر عليه، وأن يأتي في مهاجمته بأمور حسبه فيها من إساءة إلى نفسه أن يكون هو قائلها؛ فهو يتجسس على علاقاته بالنساء ويستعرضها متهكماً ساخراً وينعت مورس أثناء ذلك بما يشاء خياله من نعوت ويعنف عليه ويغلظ غلظاً كبيراً حتى ليكون للمرء عذره إذا ظن أن ملتن إنما يباهي بمقدرته على الطعن والكيد. . .
ولكن (الدفاع الثاني) على الرغم من هذا كله يعرض أحسن ما كتب ملتن كما ذكرنا، ومرد ذلك إلى صفات فيه بيناها، ونزيد عليها صفة أخرى جديرة بالإعجاب حقاً وخليقة أن تجعل للكتاب ذلك الأثر الحسن في نفوس قرائه وتلك هي هواجسه وقلقه على الحرية؛ فقد أحيطت حماسته لكرمول بما ألقى عليها الفتور من التحذير والنصح والإبانة عما توسوس به نفسه من مخاوف.
وكان كرمول قد استغنى عن البرلمان وأصبح يلقب بحامي الجمهورية، وإنه في الحق لملك مستبد بالأمر لا ينقصه إلا التاج، وأحس ملتن أن الحكومة القائمة حكومة أقلية متحكمة تعتمد على الجيش، ولا سند لها من الشعب إلا أقلية تدين لها طوعاً أو كرهاً، وعلى ذلك فلا بد أن يكون لها من المبادئ ما تستغني به عن الكثرة المؤيدة فحياتها في استمساكها بما يميزها من غيرها قدراً فضلاً.
ولم يك ملتن راضياً عن مسلك كرمول في المسألة الدينية كما ذكرنا، وكذلك لم يعجبه تنكر كرمول لبعض الرجال ممن قام على كواهلهم عهده، وأزعجه تشدد كرمول والتجاؤه إلى العنف وعد ذلك نذيراً بخنق الحرية بأيدي أوليائها؛ وغمزت على قلبه المخاوف أن يمنى بخيبة جديدة كتلك التي مني بها من القساوسة أولاً ثم من البرسبتيرينز؛ فها هو ذا رأس الدولة يميل إلى القائلين بإشراف الدولة على الكنيسة أعنى بإقامة كنيسة للدولة، وهكذا يجد ما كان يحلم به من حرية العبادة وحرية النشر وحرية الطلاق تتهادى جميعاً صرعى في عالم ما أبعد أهله عن الفطنة والمدنية في رأيه وما أبعده في جملته عما وصف به من السمو، وما علق عليه من آمال. . .
وتتجلى لباقة ملتن فيما اصطنعه لبيان معايب كرمول فهو يسوق كلامه ساق النصح فينهاه عن أمور ويطلب إليه فعل غيرها فيتضمن نهيه وطلبه أن كرمول فعل ما لا يصلح فعله
وقصر فيما يجب أن يفعل. . .
يقول ملتن إن الدولة مكين الدعائم إذ أنه يسيطر عليها رجل عظيم ويعينه مجلس يتكون من عظماء أماثل، وهي بذلك خير مما تكون عليه لو وجد البرلمان وفساده وسخافاته؛ ولكن لابد من الحرية، ولابد أن تكون الحرية آمنة مطمئنة لا يأتيها خوف ولا يمسها عنف. فإنها إن مسها العنف من الرجل الذي تكفل بحمايتها كان ذلك بمثابة ذبح الفضيلة؛ ويتجه بالخطاب إلى كرمول طالباً إليه أن يمسك عليه ذوي الرأي والمشورة من رجاله ويذكر له بعض الأسماء؛ ثم يسأله ملحاً أن يدع الكنيسة للكنيسة ويعظه ألا يزيد القوانين وقد رأى عدداً كبيراً منها يشرع حديثاً وألا يحظر شيئاً لا يصح أن يحظر، وأن يعنى بالتعليم ونشر الثقافة وأن يكافئ المجتهدين في هذا السبيل، وينصح له أن يطلق حرية الفلسفة، وأن يدع كل ذي رأي ينشر رأيه بغير رقابة فلا يأتي العلم على أيدي الجهلاء؛ ثم يدعوه أن ينصت إلى كل شيء وألا يخاف من استماع أي رأي خطأ كان أو صواباً إلا رأي من يدعو إلى الوقوف في وجه الحرية. . .
وفي ذلك الذي يقوله ملتن أبلغ رد على الذين اتهموه بممالأة كرمول بالحق وبالباطل؛ ونعجب أن يكون رجل مثل الدكتور جونسون ممن اتهموه بهذا. قال جونسون في كتابه عن ملتن: (وكان كرمول قد طرد البرلمان معتمداً على السلطان الذي قضى به على الملكية، وأخذ يتملك بنفسه تحت اسم حامي الجمهورية، ولكن كانت له قوة ملكية بل وأكثر من قوة ملكية؛ أما أن سلطانه كان مشروعاً فذلك ما لم يقل مدع به، ولقد أقام هو نفسه أساس حقه على الضرورة، ولكن ملتن وقد ذاق حلاوة استخدامه هكذا في صورة عامة لم يكن يرضى أن يعود إلى الجوع والفلسفة فخان الحرية التي دافع عنها وأسلمها إلى قوته، بينما كان يؤدي وظيفته في عهد اغتصاب واضح، وليس في الآراء أحق وأعدل من الرأي القائل بأن الثورات لابد أن تنتهي إلى العبودية، وأن الذي برر قتل مليكه بسبب أفعال عدها غير قانونية يُرى الآن وهو يبيع خدماته وضروب ملق لطاغية، لا يمكن كما هو واضح أن يجد عنده عملاً قانونياً).
وما خان ملتن الحرية ولا أسلمها إلى قوته وسلطانه، وإنما خاف على الحرية منذ أن لاحت له إمارات تخيفه عليها من شخص أفرط في حبه، وليس يدل ذلك إلا على أنه يجعل
الحرية فوق كل شيء وأنه في سبيلها يضحي بكل شيء، والحق أننا لا نجد فيما سلف من مواقفه في جانب الحرية موقفاً أكثر من موقفه هذا دلالة على صدق حبه للحرية وصدق إخلاصه في كل ما ينهض له من دفاع عنها، وما نجد كلام جونسون إلا مثلاً لما تكون عليه الكتابة عن غرض أو عن جهل.
ويختم ملتن كتابه فيعود إلى الإنذار والتحذير قائلاً إنه فعل ما يجب عليه فعله وعلى مواطنيه أن يتدبروا في أمرهم، وإلا ساءت العاقبة، ومهما يكن من شيء بعد ذلك فمرده إليهم فعليهم تبعة كل خير أو شر. يقول في ذلك (لقد أديت شهادتي، وأكاد أقول إني قد بنيت تمثالاً لا يسهل هدمه يقوم شاهداً على تلك الأعمال الفريدة التي تسمو على كل مدح؛ وكان مثلي مثل شاعر الملاحم الذي يحرص على قواعد هذا الضرب من النظم، فلا يعنى بأن يصف حياة بطله الذي يمجد كلها، وإنما يقتصر على بعض أفعال خاصة من حياته كآخيل إذ كظم ما في نفسه تلقاء طروادة وكعودة أوليس وكمجيء إينياس إلى إيطاليا؛ وكذلك فعلت فحسبي مبرراً لموقفي أو عذراً عنه أني مجدت كما تمجد البطولة على الأقل فتحاً من فتوح بني قومي ومررت بغيره مراً، إذ من ذا يستطيع أن يسرد أعمال أمة بأسرها؟ فإذا تنكبتم طريق الفضيلة بعد هذا الذي أظهرتموه من البساطة والحمية وفعلتم ما لا يخلق بكم وما هو دون قدركم. فإن أعقابكم سوف يحكمون على أخلاقكم؛ ولسوف يرون أن الأسس أحكم وضعها وأن البداية كانت مجيدة، ولكن يحزنهم أن لم يوجد من يرفع القواعد ويتم البناء).
هذا هو ملخص (الدفاع الثاني) أو رد ملتن على مورس، ولقد بذل هذا المسكين أقصى ما في وسعه قبل أن ينشر ملتن كتابه ليقنعه بأنه ليس صاحب الكتاب الذي يريد أن يرد عليه فلم يعد من ذلك بطائل إذ أصر ملتن على أنه هو، وتلك خلة من خلال الشاعر العظيم فما تتجه نفسه إلى أمر أو تتعلق بفكرة إلا اشتد تمسكه بها فصعب زحزحته عنها أو استحال ذلك، ومن السهل أن نرد هذه الخلة إلى شدة اعتداده بنفسه أولاً ثم إلى ثقته ويقينه من أنه لا يفعل شيئاً عن هوى ولا يريد إلا الحق. . .
ولما نشر كتابه هالت مورس تلك العاصفة التي أرسلها عليه، وعاد ينفي عن نفسه أنه كتب شيئاً، ولقد كان يستطيع أن يفشي السر فيدل على الخصم الحقيقي لملتن ولكنه آثر أن
يتحمل الأذى وهذه محمدا ومكرمة منه ولا ريب. . .
وتعاظم مورس الأمر فما يدري ماذا هو فاعل حيال، وأول ما خطر له هو شراء ما ورد هيج من نسخ الكتاب وإعدامها جميعاً ولكن ما حيلته فيما نشر من النسخ في القارة وفي إنجلترا؟ وأعد رداً على ملتن لم يعد كونه دفاعاً عن نفسه ونفياً لما رمى به من تهم وبخاصة ما يتصل بعلاقاته بالنساء، تلك التهمة التي جعلت الأمهات في كل بيت يجفلن من دخوله عليهن وعلى بناتهن الأمر الذي أحزنه وأزعجه حتى كاد يذهب بصوابه.
ولم يشأ ملتن أن يسكت حتى على هذا الكتيب الذي رد به مورس، فبادره بكتيب سماه (الدفاع عن نفسه) وعاد يسخر فيه من مورس، ويضيف إلى ما رماه به من مطاعن شخصية مطاعن جديدة ليست دون سآلفها إفحاشاً وإقذاعاً، وعقب مورس على هذا محاولاً أن يبرئ نفسه من كل ما رمى به، ولكن ملتن يأبى إلا أن تكون له الكلمة الأخيرة ولذلك لقيه برد ثالث آثر بعده مورس الصمت فلا طاقة له بهذا الذي يرسل الصواعق عليه لا يني ولا يفتر ولا يريد أن يسمع دفاعاً ولا استغفاراً.
هذه هي قصة النزاع بين ملتن وبين سلاميس ومورس وهي قصة كما رأينا حوت الكثير مما يكشف لنا عن جوانب شخصيته ويرينا جانباً من آرائه وموقفه من كرمول وحكومته ورجال عصره.
(يتبع)
الخفيف
الحضارة المصرية في عهد الدولة الوسطى
بحث للعلامة الأثري أريك بيت
للأستاذ أحمدنجيب هاشم
الرفيق:
أحدث الغزو الأجنبي تغييرات في المجتمع، فأصبح الرقيق الأجنبي طائفة خاصة، وكان أغلبهم من الشام وقليل من النوبة، ولذا أصبحت لفظة (عام) مرادفة لرقيق في عهد الأسرة الثانية عشرة - ولم يكن هؤلاء الأرقاء ملحقين بخدمة الأفراد فقط، بل كان الكثيرون منهم يلحقون بخدمة المعابد كنصيب الآلهة في غنائم الحرب. على إن نصيب المعابد لم يقتصر على الرقيق، بل كان ينالها عدد كبير من الماشية ومقدار عظيم من الغلال، وكثير من الغنائم المختلفة التي تعود بها الحملات الخارجية - وقد أدى ذلك بطبيعته إلى زيادة ثروة طائفة الكهنة وعددهم، فقويت هذه الطائفة حتى استطاعت بعد ألف سنة أن تخلع الفراعنة من عروشهم.
مركز النساء:
ولم يكن مركز النساء في هذا المجتمع حقيراً بأي حال، ولكن مجال السيدة كان في البيت، ولذا كان لقبها (بنت بر) أي ربة المنزل، ونراها في النقوش ممثلة بلون أصفر خفيف. أما الرجال، فكانوا يمثلون بلون نحاسي داكن نظراً لقضائهم أغلب وقتهم في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس - وكانت السيدة تقوم بالأعمال المنزلية المختلفة من خبز وعمل الجعة وغزل ونسيج، وقد يساعدها الرجل في كل ذلك أحياناً - وكان الزوج يحب زوجته، ونراها في النقوش الظاهرة على جدران المقابر جالساً وقد وضعت ذراعها وراءه، أو مرافقة له في نزهاته للصيد في المستنقعات، وكانت ترسم عادةً في هذه الظروف بشكل أصغر، ولعل ذلك دلالة على أنها كانت تأخذ بنصيب أقل في هذه الرياضة
ولا نعرف عن الطقوس الخاصة بحفلات الزواج شيئاً ما، وجرت العادة أن يكتفي الرجال بزوجة واحدة، ولكن هناك أمثلة كثيرة لرجال اتخذوا زوجتين أو أكثر. والظاهر أن القانون لمن يمنع تعدد الزوجات، وقديماً أيام الأسرة الخامسة أوصى الحكيم بتاح حتب وزير الملك
إسيسي بمحبة الزوجة، فقال نصائحه المشهورة:(كون لنفسك منزلاً، وأحب زوجتك، وأكفها حاجتها من الطعام والملبس، وقدم لها العطر، فإنه دواء لها، وأدخل على قلبها السرور مدة حياتك، إن المرأة حقل نافع لزوجها إذا أحسن معاملتها!)
الزواج من الأخت:
كثيراً ما يقال إن الملوك المصريين كانوا يتزوجون من أخواتهم، ولا جدال في أن البطالسة فعلوا ذلك، بل هناك أمثلة أقدم منهم عن هذا النوع من الزواج، ولكن ليس لدينا ما يدل على أنه كان قاعدة عامة، فإن إشارات القصائد الغرامية إلى الصديقة بلفظ (أختي) جعلت البعض يعقدون أنها تشير إلى وجود هذه العادة، ويجب أن نشك في صحة هذا الاعتقاد، لأن التعبير في هذه الأحوال ق يكون مجرد لفظ تقدير وإعزاز
كذلك يعتقد البعض أن الوراثة كانت تؤول عن طريق الابنة الكبرى، ولكن الأمثلة التي ضربت لتأييد ذلك تدل على أن الميراث آل إلى البنت ونسلها في حالة موت أبناء الرجل دون أن يتركوا وريثاً.
النساء الكاهنات:
وقد لعب النساء دوراً هاماً في نظام الكهنة، فكان يعهد إليهن - بصفة خاصة - الحفلات الموسيقية التي كانت تقام للآلهة من ذكور وإناث؛ وفي عهد الدولة الحديثة أصبح أولئك الكاهنات الموسيقيات محظيات للإله آمون رع، وكانت تعرف رئيستهن بزوجة الإله؛ والظاهر أن هذه الحالة وجدت في عه الدولة الوسطى أيضاً.
المنازل وهندستها:
نعرف تفاصيل الحياة المنزلية من الرسوم الكثيرة الواردة على جدران المقابر، بيد أننا لا نعرف إلا الشيء القليل عن البيت العادي، إذ لم يبق من بيوت الدولة الوسطى أو القديمة سوى بيوت مدينة صغيرة بنيت خصيصاً في اللاهون للعمال الذين اشتغلوا ببناء هرم الملك سنوسرت الثاني؛ وأغلب هذه البيوت أكواخ للعمال والبيوت القليلة التي أعدت لمراقبي العمل كانت أكبر حجماً، واختلفت اختلافاً كبيراً عن منازل الدولة الحديثة التي نعرفها جيداً من آثار تل العمارة
أجل، لقد كانت مادة البناء واحدة في الحالتين، فاستعمل اللبن والخشب؛ كذلك حوى كل بيت بهواً بأعمدة يقوم السقف عليها ويدخل إليه النور من نوافذ في أعلى الجدران فوق مستوى أسقف الحجرات المجاورة؛ ولكن بينما نجد في منازل تل العمارة نافذة للبهو الأوسط مفتوحاً نصفها نحو السماء إلى الجهة الشمالية والغربية، نرى البهو الأوسط في بيوت اللاهون يتقدمه حجرة فسيحة بعرض البيت، ويتقدم هذه بهو ذو أعمدة
الأزياء:
والآن، فلنحاول أن نتخيل سكان هذا البيت هناك. أولا: رب الأسرة، ويرتدي في الأحوال العادية إزاراً قصيراً من نسيج الكتان الرقيق يصل إلى ما بعد ركبتيه بقليل، وقد يلبس في مناسبات أخرى فوق هذا الإزار قميصاً أطول يصل إلى عقبيه - وقد يكون في بعض الأحوال لحمايته من البرد، ولذا كان يصنع من نسيج أكثر سمكاً - ولكن لم يكن ذلك شرطاً أساسياً، فكثيراً ما كان يصنع من كتان رقيق جداً، فيظهر القميص القصير الذي تحته
ومن الملابس النادرة التي تلبس في الحفلات، ويلبسها الملك بصفة خاصة، قميص الصيد، وهو قميص من الكتان ذو ثنيات يربط جانباه إلى الأملم، وبينهما مبدعة مثلثة الشكل مصنوعة من نسيج القميص نفسه؛ ويلبس رب الأسرة في قدميه نعالاً مصنوعة من البردى، أو من الجلد، وتلبس زوجته ملابس بسيطة من الكتان الأبيض، هي مهلهل ضيق غير مكمم، كاس للجسم من الثديين إلى القدمين ومثبت فوق الكتفين بشريطين من النسيج نفسه، وكانت تلبس فوقه في الحفلات والولائم قميصاً آخر به خيوط من الخرز. وهكذا كانت الملابس في الدولة الوسطى تمتاز ببساطتها، أما في الدولة الحديثة فقد تعددت الأزياء
واعتاد صاحب البيت أن يقص شعره قصيراً أو يحلقه بالموس وأن يضع على رأسه في الحفلات الرسمية قلانس شعرية، وهذه القلانس نوعان: أحدهما قصير الشعر أجعده، والآخر شعره طويل ناعم مفروق في الوسط، وكانت الزوجة تترك شعرها مرسلاً إلى الأمام في ضفيرتين على كتفيها، وليس لنا أن نفرض أنهما من الشعر الطبيعي، لأن هناك رسوماً كثيرة عن نساء راقيات وفتيات صغيرات لا يثقلون أنفسهم بالملابس، أما الكبار منهم فكانوا يتشبهون بوالديهم، فالأولاد يلبسون قميصاً قصيراً، والبنات يلبسن مهلهلاً طويلاً، ويضع الأولاد خصلة طويلة من الشعر، ويكتفي البنات بخصلة قصيرة.
الحياة المنزلية:
وليست الحياة في البيت حياة كسل أو خمول، فنجد في إحدى الحجرات الخدم يغزلون الكتان على مغازل أولية لا تزال تستعمل في الأمم المتأخرة، بينما يشتغل آخرون على النول الأفقي أو العمودي بنسج أنسجة تيلية تختلف خيوطها من حيث الدقة والمتانة، ولا تزال بعض هذه المصنوعات موجودة، وهي لا تقل جمالاً وجودة عن أجمل الحرائر الحالية - ولا نعرف إلا الشيء القليل عن استعمال الصوف في الدولتين القديمة والوسطى - بيد أن المعاطف الثقيلة التي نراها ممثلة أحياناً على التماثيل أو فوق النقوش، لابد أنها كانت مصنوعة منه
ونرى العمل قائماً على قدم وساق لإعداد الطعام في مطبخ البيت، ونجد النساء يطحن القمح بقطعة من الحصى على لوح كبير من الحجر، ويعجن الأرغفة في أشكال مختلفة من الشعر والشوفان ويخبزنها في فرن أسطواني من الفخار أو أفران من اللبن، ونلاحظ أن هذه الأفران كانت منخفضة ومفتوحة في عهد الدولة القديمة ومرتفعة ومقفلة بعدها
كذلك نجد صناع الجعة يأخذون الكعك المصنوع من الشعير أو حبوب البيشة ويكسرونه في الماء، ثم يضغطونه بعد أن يتخمر في مناخل رفيعة، ويعصرونه في أوان كبيرة، ويعبئ غيرهم العصير الناتج في قدرين طويلتين. أما النبيذ، فالراجح أنه لم يكن يصنع في المطابخ، بل قرب الكروم نفسها، فكان العنب يحمل في سلال، ثم يوضع في مكبس، هو لوح كبير من الحجر له سطح مجوف، ثم يدهسه خمسة رجال أو ستة ممسكين بحبال مربوطة إلى عمود أفقي مثبت فوق رؤوسهم، وبعد أن يصب النبيذ في قدر تحته يوضع العنب المدهوس في قطعة من القماش أو في زكيبة يلف طرفاها لفاً عكسياً بقطعتين من الخشب يمسك كل واحدة منهما رجل، وبهذه الطريقة يعصر العنب عصراً جيداً، ثم يوضع هذا العصير الأخير في قدر، وينقل العصير كله إلى قدر ليختم كل منها بالطين كما يفعل الفلاح اليوم بقدر عسله وجبنه، ويبصم الغطاء بخاتم أسطواني، أو في شكل جعران عليه اسم صاحب الكرم أو الموظف المسؤول عنه
وسائل التسلية:
وقد اعتقد المصري أن الغرض من النبيذ هو إدخال السرور على نفسه، كما أولع بإقامة الولائم فكان الجار يدعو جيرانه ليقضوا معاً (يوماً سعيداً). ونرى في الرسوم الضيوف من رجال ونساء جالسين في هدوء يشاهدون ما أعد لهم من وسائل التسلية والسمر يشمون أزهار اللوتس ويحتسون النبيذ من الطاسة عندما تقدم لهم، وفي أثناء ذلك تعزف فرقة موسيقية على العود والقيثارة أنغامها الشجية، ويقوم المغنون بدورهم ويصفقون بأيديهم تصفيقاً منتظماً، ويعرض الراقصون والراقصات حركات بسيطة بالأذرع الأرجل والجسم. ويجب أن نذكر أن الموسيقى والرقص لم يكونا وسائل للتسلية فحسب، بل استعملا بكثرة في الحفلات الدينية والجنائزية.
ويظهر من الرسوم التي وصلتنا أن المصارعة كانت أكثر الألعاب الرياضية انتشاراً، ولم تقتصر الرياضة على الرجال، بل أخذ النساء بقسطهن فيها، ولدينا رسم واحد لسيدات يلعبن الكرة، ورسوم كثيرة عن سيدات يقمن بحركات بهلوانية، ولاسيما الشقلبة إلى الخلف. فإذا أراد القوم تسلية هادئة، لجئوا إلى ألعاب منزلية شتى يلعبونها بقطع ولوح خشبي أشبه بالشطرنج ومن أبسط الألواح التي عثر عليها وأقدمها لوحة عليها رسم في شكل ثعبان ملتف حول نفسه. ونرى ألواحاً أخرى مقسمة مربعات عددها أربعة وعشرون أو ثلاثون، تتحرك عليها القطع طبقاً لقواعد نجهلها، ولعلها اللعبة المعروفة اليوم باسم (السيجة) والتي لا يزال يلعبها كثيرون من أبناء الصعيد.
أحمد نجيب هاشم
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للدكتور خليل جمعة الطوال
في العلوم الطبيعية:
ولم يعتمدوا في دراسة العلوم الطبيعية والميكانيكية والسوائل والبصريات على مجرد النظر؛ بل اعتمدوا على فرض الفروض واستخراج النتائج منها بالمراقبة والامتحان. ولقد كان الحسن ابن الهيثم الذي ظهر في القرن الخامس للهجرة؛ علماً فذاً في هذه العلوم، ولئن تجاهله المسلمون فقد عرف فضله الغربيون، وقدروه قدره وأوفوا كتبه حقها من الدراسة العميقة وأحاطوا شخصه بما هو أهل له من الاحترام والإكبار. فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية: إن ابن الهيثم قد أوحى بكتابته في الضوء إلى اختراع النظارات، وأن علماء القرون الوسطى كروجر باكون العالم الإنكليزي المعروف، وبول واتيلو، وليوناردفنشي، وكوبرنيكس وكبلر، وغيرهم، قد اعتمدوا على كتاباته، واقتبسوا منها معظم بحوثهم في مختلف المواضيع. وقد جاء في دائرة المعارف البريطانية أيضاً ما نصه:(كان ابن الهيثم أول مكتشف ظهر بعد بطليموس في علم البصريات).
وجاء في كتاب تراث الإسلام: (إن علم البصريات وصل إلى أعلى درجة من التقدم بفضل ابن الهيثم). ويقول الأستاذ سارطون: (إن ابن الهيثم أعظم مؤلف ظهر عند العرب في علم الطبيعة؛ بل هو أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى، ومن علماء البصريات المعدودين المشهورين في العالم كله. . .)، وجاء عن العالم الفرنسي (لوتيرتياردو) بأن (كبلر) قد استمد معلوماته في الضوء وانكساره في الجو من كتابات ابن الهيثم.
وإلى ابن الهيثم يرجع الفضل الأول في معرفة قانون الانعكاس وزاويتي السقوط والانعكاس، وهو الذي أثبت أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة في الهواء وفي أي وسط آخر، وأنه إذا سار من وسط إلى وسط آخر انكسرت أشعته، وقاس كلا من زاويتي السقوط والانكسار، وأظهر خطأ بطليموس في بحثه عنهما. وقد اخترع آلة لبيان العلاقة بين زاويتي السقوط والانكسار؛ فبنى علماء الغرب فيما بعد آلتهم الحديثة على أساسها. وقد علل كثيراً من الظواهر الجوية التي تنشأ عن الانكسار تعليلاً علمياً صحيحاً، واصلح خطأ رأي أقليدس القائل بأن شعاع النور يخرج من العين إلى الجسم المرئي، وقال بأن النور
يأتي من الجسم المرئي إلى العين، وقد بحث كثيراً في العدسات وحاول استعمالها في إصلاح أمراض العين، وكتب في الزيغ الكري وفي تعليل الشفق وهو إلى جانب ذلك أول من رسم العين، وبين جميع أجزائها، وكيفية تشريحها، ووضع أساس آلة الاسترينسكوب.
على أننا لسنا في صدد تدوين تاريخ ابن الهيثم أو بيان مآثره فذلك أمر لا تفي المقالة، ولا المقالات حقه، ولهذا فإننا نكتفي بهذه اللمحة الموجزة عنه؛ لنتقدم بفقرة أخرى موجزة نشير بها إلى مواطن ابتكار العبقرية العربية في هذا العلم الجليل الشأن.
يقول درابر: (لقد قرر العرب في الميكانيكا نواميس سقوط الأجسام وطبيعة الجاذبية، وعللوا القوات الميكانيكية، واصطنعوا في نقل المائع وموازنتها الجداول الأولية للجاذبية النوعية، وبحثوا في طفو الأجسام وغرقها في الماء. . . وأثبتوا أننا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب، ومما قال أيضاً: والذي يدهش كثيراً أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من ابتكارنا ثم لا نلبث أن نراهم قد سبقونا إليها. فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم وحقاً إنهم وصلوا إلى الأشياء الآلية وغير الآلية فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية)
وقال جوتيه: (لقد علمنا العرب صنع البارود، وعمل إبرة السفينة؛ وعلينا أن نقدر دائماً مدى الشوط الذي كانت تقطعه مدينتا لو لم تقم على مخلفات المدينة العربية، ولقد عرف العرب قبل غيرهم آلة الظل، والمرايا المحرقة بالدوائر، والمرايا المحرقة بالمقطوع وقطعوا شوطاً بعيداً في علم الميكانيكيات) وجاء عن سيد ليو: (أن هارون الرشيد الخليفة العباسي قد أهدى إلى شارلمان ساعة دقاقة، فلما أطلع عليها حاشيته تعجبوا كثيراً من أمرها، وحاروا في معرفة تركيب آلاتها).
وقد حاول حكيم الأندلس عباس بن فرناس الطيران، وأخترع صناعة الزجاج من الحجارة، وكتب في الموسيقى، ووضع آلة المثقال التي يعرف بها الوقت على غير حساب، ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلاًيقرب من الحقيقة، وقد سبق العرب إلى معرفة الطباعة فألف أبو بكر القدسي كتاباً في الخواص، وصنعة الآمدة وآلة الطبع غريب في معناه.
الطب والكيمياء:
يقول ويلز: (لقد أزدهر علم الطب والتداوي عند العرب على حين كان الأوربيون يجهلون هذا العلم الشريف ويحتقرون أربابه، إذ أن الكنيسة قد حرمته عليهم، وحصرت التداوي بزيارة الكنائس، والاستشفاء بذخائر القديسين، وبالتعاويذ والرقي التي كان يبيعها رجال الدين، ولقد كان لعلم الجراحة عند العرب أهمية كبرى؛ فقد كان جراحوهم يزاولن العمليات الجراحية الكبرى بطريقة علمية فنية، وساعدهم على ذلك ابتكارهم للمخدرات والمطهرات التي تشغل المكان الأكبر في علم الطب الحديث؛ على حين كان الأوربيون ينظرون إلى الجراحة كعمل منكر، ويستنكفون من النظافة لأنها تشبه الضوء عند المسلمين).
ونذكر من السابقين في هذا الميدان من أطباء العرب: طبيب طليطلة المشهور ابن الوافد (997 - 1074) صاحب كتاب (الأدوية البسيطة) الذي ترجم إلى اللاتينية أكثر من أربعين مرة، وقد وصف فيه أنواع من العلاجات، ترتكز على النظم الغذائية، وما زالت جهود العلماء حتى الآن منصرفة في هذا السبيل. أي بناء العلاجات على الأسس الغذائية.
ونذكر من الذين سموا بعلم الجراحة إلى مكان العلوم الراقية الجراح الكبير أبو القاسم خلف عباس الزهراوي، صاحب كتاب (التعريف لمن عجز عن التأليف) وقد شهد بنبوغه وتفوقه الجراح الكبير (فورج) فقال: لا شك في أن الزهراوي أعظم طبيب في الجراحة العربية، وقد أعتمده وأستند إلى بحوثه جميع مؤلفي الجراحة في القرون الوسطى. . . ويستحق كتابه في الجراحة أن يعد اللبنة الأولى في علم الجراحة)، وقد سبق الزهراوي إلى أشياء كثيرة، ومبتكرات عظيمة في علم الطب، فهو أول من بحث في علاج الأقواس الضرسية، ومعايب الفم، وضغط الشرايين، وهو أول من وصف عملية تفتيت الحصى في المثانة، واستخراجها بعملية جراحية، وعالج الشلل، ووصف كيفية استخراج الأجسام الغريبة من الإذن، وداوى الجراحات الكبيرة، ووضع أساساً لمعالجتها بالطرق الجراحية، ووصف علاج الباسور بالكي، وتكلم في فن الولادة، وهو أول من أستعمل خيوط الحرير في العمليات الجراحية، وعالج النزف بالكي، وما تزال أوربا حتى الآن تدرس نظرياته الطبية في جميع معاهدها.
ومن عباقرة العالم في هذا الباب أيضاً (أبو بكر الرازي) المعروف بأبي الطب العربي؛ ولكتب الرازي أهميتها العظيمة في علم الطب، فد وصف الجدري والحصبة، وعرف
أعراضهما، ومعالجتهما، وطرق الوقاية منهما؛ وكان أول من أستعمل (الفتائل) في العمليات الجراحية، وكذلك الأنابيب التي يمر منها الصديد والقيح والإفرازات السامة، وقد ألف في الطب ما يناهز (200) كتاب وقد ترجمت جميعها إلى اللغة اللاتينية.
وكان الطبيب مروان بن زهر الأشبيلي مستفيض الشهرة في العالم الأوربي، فهو أول عالم بالطفيليات، وفي معرفة مكروب الجرب، وأول من وصف شلل البلعوم، والتهاب الأذن الوسطى، ووصف لبن الماعز في علاج الدرن.
وقد كان أبن رشد إلى جانب تفوقه في الفلسفة طبيباً لا يجاى، وما زالت كتبه تدرس في أرقى جامعات العالم، فهو أول من أشار وعلل الدورة الدموية كتابه (الكليات) الذي استمد منه وليم هارفي معظم نظرياته وبنى عليها. ومن أطباء العرب الأعلام موسى بن ميمون وله شهرة واسعة في عالم الطبابة.
وقد سبق العرب إلىمعرفة مرض النوم، وسموه النوام، ووصفوا علاجه وصفاً علمياً دقيقاً، وسبقوا أيضاً إلى استعمال الحجامة في أمراض الصرع، واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة وقرح العين واستخراج الجريم العدسي الشفاف منها، وهم أول من عرف الطاعون وكيفية علاجه، وانتقال العدوى عن طريق الملابس والأوعية والحلي.
ومن آثار العرب التي سبقوا إليها، تأسيس البيمارستانات لمعالجة الأمراض العقلية؛ ويعزى إليهم الفضل الأول في إقامة المستشفيات، وكان نظامها وتجهيزاتها في غاية من الكمال والإبداع، وكانت إمبراطوريتها الواسعة تغص بآلاف من المستشفيات الراقية، وقد ذكر العلامة الأمريكي فكتور روبنصن أنه كان في طليطلة وحدها ما يزيد على أربعمائة مستشفى.
وقد برع العرب أيضاً في فن الصيدلة، ويشهد كتاب (الجامع في الأدوية المنفردة) لأبن البيطار بعلو كعبهم في هذا الباب فقد جمع فيه ما يناهز الألفين وصفة من أوصاف العقاقير المشهورة، ويعتبر هذا الكتاب اليوم في العالم الأوربي مرجعاً أساسياً في الوصفات الطبية والعلوم الغذائية وقد سبق العرب الأوربيين في وضع الأواني الزجاجية الكبيرة التي تحتوي على السوائل الملونة عند مدخل الصيدليات، وقد ميزوا بين مخازن العقاقير و (الأجزخانات) وإلى العرب يرجع الفضل في إدخال التمر الهندي، والمسك، والسنامكي،
وجوز الطيب، والرواندي، والتمر، وعرق السوس، والكافور، والقرنفل، والزعفران في تركيب الأدوية، والوصفات الطبية. وقد تعلم الأوربيون من العرب أيضاً طريقة طلاء الحبوب العقارية بالورق المذهب، وتقطير ماء الورد، واستعمال المقيئات.
وأما في علم الكيمياء. فللعرب مكانة لم ينازعهم عليها أحد فهم الذين اكتشفوا الحامض الكبريتيك. وقد اكتشفه الرازي وسماه (بزيت الزجاج) وقد اكتشف أيضاً هذا العالم الجليل الكحول، وذلك باستقطار المواد النشوية والسكرية المختمرة، وألف في استخراج الذهب من المعادن الأخرى.
ومن أفذاذ العرب في هذا العلم أيضاً (جابر بن حيان)، ويقول المسيو برتيلو في الجزء الثالث من كتابه (الكيمياء في القرون الوسطى):(إن كتاب جابر بن حيان في الكيمياء هي غاية ما وصل إليه العقل العربي من الابتكار، وإن كل المشتغلين بهذا العلم من بعده كانوا عالة عليه نقلاً وتعليقاً).
وقد حاولوا كيمائيو العرب العثور على إكسير الحياة، وعلى اكتشاف حجر الفلاسفة، وكتبوا كثيراً في خصائص الفلزات واللافلزات، وعملوا لها جداول علمية دقيقة، وعرفوا ماء الفضة والقلي، وطرق إذابة الذهب وملح النشادر، وحجر الكي، والسليماني، وصنع الصواريخ، والنترات الفضية، والغول، وكيفية استخراج المعادن كالذهب والفضة، والنحاس والبرونز، والفولاذ، وعرفوا أيضاً طرق الصباغة الفنية، وعمل الأواني الفخارية، وتحضير الورق من القش، وعمل الأشياء الجلدية الثمينة، واستخرجوا السكر من القصب والألوان من الأعشاب.
(يتبع)
خليل جمعة الطوال
وحي فيضان سنة 1946
للمهندس فؤاد السيد خليل
سارَت على الطوفان وهو جِبال
…
ورَستْ على اُلجودىَّ وهي جَمال
ونجت من الهول العظيم بحكمة
…
جُلى وفنَّ ما له من أمثال
أخذتْ من الفيْض المدِّمر خْيره
…
ومشتْ على طُغيانه تختال
مصر الحبيبة للقلوب جميعها
…
وإذا اشتكت يوماً تهبُّ رجال
من كل شهم للبلاد مجاهد
…
هو الكفاح مهندس رئبال
إن لمَ يسرْ في المشرقين كلمه
…
يوم النزال فإنه فعَّال
أو غاب عن سَمْع الأنام وحسَّهم
…
فأعلم بأن وجودهم أعمال
ليس الشجاعة إذ تقاتل فتْيَة
…
مثل الشجاعة إن دهىَ زلزال
والموت أهوَنُ بالمدافع في الخلا
…
من أن تموتَ وفوقك الصلصال
ما الُّنبل تَقْتيلُ العباد وإنما
…
تحمي رجال من أذى وعيال
يَنْسَى غداة الروع كل محبة
…
وتكون مصراً وحدها الآمال
تتنكر الأيام والساعات في
…
شُغل ويخَفى العيدُ والآصال
تتشابه الأوقات وهي عصيبة
…
وتعمُّها الأحداث والأحوال
ولكم تَقِيلُ الجنُّ وهو مثابر
…
ولكم رآه كوكبٌ وهلال
ولكم رأتهُ الشمس في حَّمامها
…
بالنيل يحرسُها سناً وجلال
لما أتى النِّيل العظيم بخيله
…
لا هُدنةٌ منه ولا إمهال
يُزجى المياه كتائباً وجحافلا
…
تَرِدُ البلاد كأنها أغوال
قام المهندس للدفاع بفنَّه
…
وبنفسه، وحياته أهوال
يحذوه واجبه العظيم وحبُّه
…
لا تزْدَهِيه عقوبة ونوال
وأتاه من أهل الإدارة نخبه
…
مشكورة والجند والعمال
قاموا جميعاً للجهاد بهمة
…
لا يَعْتَرِيها في الجهاد كلال
وعمادُها الفلاح وهو علاج كل
…
مُلمَّة. لم يهتضمه نضال
إن قَّلدُوه السيف وهو بطولةٌ
…
أو قلدوه الفأس فهو غِلال
قوَّى الجسور بقوة وعزيمة
…
لم يُثنه مرضٌ بهِ قَتَّال
فلاح مصر ذخيرة مطمورة
…
وجلاؤها التعليم والأعمال
ابن الفراعنة العظام وطالما
…
آتاهُ في شتَّى الفنون كمال
لو عَّلموه فأطعموه وعالجو
…
هُ لكان منه عباقرٌ وغزال
ولَحلَّ بالدستور كلَّ صعوبة
…
إن العليم لِصَعْبِه حلاّل
أرأيت في التاريخ طرّا أمة
…
ترقى بشعب جُله جهال
بالعلم عزَّتْ في الزمان ممالك
…
وصَلتْ لما لم يبتدعه خيال
خزان أسوان العظيم تحيَّة
…
من إليك كأنها تِمثال
حمَّلت مصر وأهلها لك منَّة
…
عُظمى ستذكرها لك الأجيال
ودفعت عنها شرَّ أرعن مُزبدْ
…
بحرٌ خَضِمُّ دافق هطال
وجدتْ بحصنِك في المهالك والأسى
…
ما لم تجده (بروسِيا) و (الغال)
يا قوم هيا عزّزوه بآخر
…
في حِفظِ مصر تُنفق الأموال
لا تتركوه على الحوادث (مأرباً)
…
فإذا أصيب دَهَى البلاد وبال
أيجوز أن الماء وهو حياتنا
…
يُلقى سدىً في البحر أو يغتال
في خزن ماء الفيض كل رجائنا
…
والاعتماد على الجسور محال
يا مصر حبُّك في القلوب عقيدة
…
يحيا بها الأبَوانِ والأشبال
لكن بنوك تفرقوا في حُبِّهم
…
حتى قَسَوْا وتقطعت أوصالا
ماذا عليهم لو تكاتف جمعهم
…
في رد عادية الأُلى قد مالوا
يستكثرون على الشعوب حياتها
…
وحياتها الحسنى والاستقلال
ويرون أن الشرق ظلَّ بضاعة
…
يشْرونها وتَغُرُّهُ الأقوال
في الشرق قوم لا تَلين قناتهم
…
يجلو الفناء لهم ولا الإذلال
كم ظالم في مصر أظهر بأسه
…
سَخرتْ به الفتيات والأطفال
مصر الكنانة والإله نصيرها
…
والحق والأملاك والأبطال
فاروق عهدك آية قدسية
…
تَسْمو بها الألباب والآمال
أكثرت في مصر المآثر والهدى
…
وأشعت فيها العلم فهو حلال
الشمس أنت على المدائن والقرى
…
منك السَّنا والمخلصون ظلال
حاربتَ أدواء الرعيّة كلها
…
وعلى يديك تحطم الأغلال
عصر به حكم الزمان لأهله
…
طُرَّا بأن شعوبهم أعدال
والنيل مِلْكك لا مرد لحكمه
…
وعلى جوانبه يعيش الآل
شعبُ يحبك بالفؤاد وبالنُّهى
…
ويذود عن واديكَ من يغتال
فاسلم ودم للمشرقين منارة
…
ويحفُّك التوفيق والإجَلال
فؤاد السيد خليل
البريد الأدبي
الثفات:
كان هذا الضعيف إذا وجد في مكتوباته أو منسوخاته في (الرسالة) الغراء تطبيعاً بادر إلى إصلاحه، ثم هجر طريقته هذه، وفوض أمره إلى الله (تعالى) متكلاً عليه، وعلى الظن الكريم الحسن لقراء (الرسالة) بخادم قرآنهم ولغتهم. فمثل التطبيع في (آمالي الإمام القالي) و (المسيح بن مريم) في كلمة (لا غير) في (الرسالة) 691 - يروح في سبيل التفويض بيد أن (الثقاة) بهذه الهاء أو التاء المقصرة التي تبدو بهذه الصورة المنكرة في كل جريدة ومجلة - يدعو تطبيعها في كلمة (لا غير) إلى غير التفويض والاتكال إشفاقاً من أن يضعف ذلك الظن الحسن أو يزول إن لم يكن قد ضعف أو زال. . .
وإذا كنت لم أصل بعد في (علم العربية) إلى درجة التلاميذ لتلاميذ الأمام ابن خالويه فإني أقدر - بحول الله - أن أفرق بين المكسر والصحيح فلا أجمع (الثقة) إلا على (الثقات) ذات التاء المطولة، ولا أحسبها مثل (القضاة والدعاة والرعاة والسعاة والبغاة والشراة والأباة والرماة) ف (الثقاة) جمع صحيح سالم، وهنا الجمع المكسر حين تجمع به.
في اللسان: (ورجل ثقة وكذلك الاثنان والجميع، وقد يجمع على ثقات، ويقال: فلان ثقة وهي ثقة وهم ثقة، ويجمع ثقات في جماعة الرجال والنساء) ومثله في مستدرك التاج.
وقد استوى في الثقة المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع لأنه في الأصل مصدره في المصباح المنير: (وهو وهي وهم وهن ثقة لأنه مصدر، وقد يجمع في الذكور والإناث فيقال: ثقات كما قيل: عدات).
وأول من نبه على ذلك الخطأ هو العلامة اللغوي الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلته الضياء في سنة من سنيها لا أتذكرها اليوم، ولا أتذكر رقم الصفحة فيها، ثم أغار على نقد الشيخ مغير، أعزو الفضل إلى صاحبه لن يضع من عازاه ولن يضير.
ذكرني بالإمام ابن خالويه هذا الخبر:
(جاء رجل إلى ابن خالويه وقال: أريد أن تعلم من العربية ما أقيم به لساني. فقال: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو فما تعلمت ما أقيم به لساني)
محمد إسعاف النشاشيبي
أبو شاس أيضا: ً
علق الأديب زكي الحافظ الفيومي في العدد690 من الرسالة الزاهرة على ماكتبناه في تحقيق ما ورد في الشابستي والعمري والزيات عن أبي شاس، وقلنا إنه تصحيف أبي نواس، وأوردنا الأدلة الكثيرة على ذلك، وذكرنا أننا لم نعثر لأبي شاس على ذكر في أي مصدر آخر غير ما ذكرناه، لكن الأديب الفيومي ذكر أننا تسرعنا في الحكم، وأنكر علينا حكمنا، وقال: لو رجع الأديب إلى مظان أسماء الشعراء لتحقق أن هناك شعراء يكنون بأبي شاس، منهم أبو شاس التميمي، وأبو شأس الطبري المذكوران في معجم الشعراء للمرزباني. ثم قال: هنالك شعراء يتسمون بأبي شأس منهم شأس بن نهار بن الأسود بن عبد القيس.
أقول:: لا أزال على رأيي الأول من أن هذا الاسم أبو شاس الذي مر ذكره في الشابستي والعمري والزيات هو تصحيف أبي نواس، وهذه الأدلة:
1 -
طريقة الشابستي في كتابه الديارات أنه يعرف بالشاعر أولاً، ثم يذكر أخباره ونوادره وما له علاقة بموضوع كتابه، فذكر أبا شاس وعرف به، ثم ذكر أخباره، وفي كلامه على دير فيق ذكر شعراً لأبي نواس دون تعرف به، وكذلك فعل معه في الكلام على دير سرجس ودير هند.
2 -
إن هذا الشاعر الماجن الخليع الذي كان - على رأي الشابستي - أطبع الناس، مليح الشعر، كثير الوصف للخمر، لازم الديارات وتطرح بها، وفتن برهبانها ومن فيها، هو أبو نواس نفسه لا أبو شاس، لأن هذه النعوت التي وصفه بها تنطبق على أبي نواس، ولم يرو عن أبي شاس المزعوم مثل هذه النعوت أبداً.
3 -
ذكر الشابستي والعمري والزيات شعراً وجدته بنصه في شعر أبي نواس.
4 -
الممزق العبدي شاعر جاهلي واسمه شأس بن نهار، لم يرو عنه في الخمرة، وإنه تطرحفيالحانات، وإنه فتن برهبانها ومن فيها، وهو الذي يقول:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي
…
وإلا فأدركن ولما أمزق
وهذا البيت سبب تسميته
5 -
أما أبو شاس التميمي وأبو شأس الطبري، فلم يرو عنهما في كتب الأدب والسير أنهما شربا الخمرة ووصفاها، بل لم يرو عنهما خبر له قيمة، كما لم يرو أنهما كانا أطبع الناس شعرا. . .
6 -
ارتجل حبيب زيات اسماً لأبي شاس هذا فأسماه أبو شاس منير، ولم يرد ذكر لهذا الاسم في جميع كتب اللغة والسير.
(بغداد)
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية
القصص
المليونير النموذجي. . .!
للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد
إن لم يكن الإنسان ثرياً فلا جدوى من كونه فاتناً، لأن الشعر والحب من ميزات السراية وليسا شأناً من شؤون المتعطلين، وعلى الفقراء أن يكونوا رجالاً عمليين عاديين. وخير للإنسان أن يملك دخلاً ثابتاً من أن يكون ذا فتنة أخاذة.
تلكم أعظم حقائق الحياة الحديثة التي لم يفطن إليها (هوفي ارسكاين) المسكين. فلم تكن قواه الذهنية خارقة للعادة ولم تند عنه قط فكرة متألقة أو غير عادية؛ ولكنه كان مشرق الطلعة بشعره البني المجعد وعينيه الرماديتين، مما حبب فيه الرجال والنساء جميعاً، وكان يتمتع بكل وسائل الحياة إلا وسيلة كسب النقود.
ولم يخلف له أبوه سوى سيفه الذي علقه (هوفي) فوق مرآته، وكتاب تاريخ في خمسة عشر سفراً وضعه وسط مجموعة من المجلات. ثم قنع بالعيش بمبلغ يسير منحته إياه عمة شمطاء بعد ما أخفق في كل عمل مارسه. فقد تردد على البورصة ستة أشهر، ولكن ما حيلة فراشة بين ثيران وذئاب؟ واتجر بالشاي مدة أطول، ولكنه سرعان ما عزف عن التجارة. ثم زاول بضع مهن أخرى لم يفلح فيها. وأخيراً أصبح لا شيء؛ أصبح شاباً مرحاً عقيماً ذا وجه صبوح بلا عمل. . .
ومما زاد الطين بلة أن (هوفي) كان متيماً بحب (لورا مرتون) كريمة ضابط متقاعد فقد أعصابه وخسر معدته في الهند ولم يستعدهما. وكانت (لورا) تحب (هوفي) حباً يكاد يصل إلى العبادة، وكان يسعده أن يلثم سيور حذائها، وشهدت لهما لندن بأنهما أجمل حبيبين وأوفاهما فيها لأن المال لم يعترض حبهما. وكان الضابط ولوعاً بهوفي؛ بيد أنه أبى أن يعقد خطبة ابنته له، وجرى على أن يقول له (عد إليّ يا بني عندما تملك عشرة آلاف جنيه وسنتدبر الأمر حينذاك) فيكتئب (هوفي) ويبدو عليه الوجوم ويقصد إلى (لورا) طلباً للسلوى.
وبينما كان (هوفي) ذاهباً إلى (هولاند بارك) حيث تقطن أسرة (مرتون) ذات صباح عرّج على صديقه (آلن تريفور) الرسام. وكان (آلن) فناناً متفرداً إلا أنه كان جافاً غريب
الأطوار؛ طفح النمش على وجهه وأرخى لحية حمراء شعثا؛ أما حين يمسك بالفرشاة فإنه يثبت أنه سيد فنه حقاً، وكان يجد في البحث عن أمثلة صوره بشوق وتلهف. وما جذبه إلى (هوفي) في بدء الأمر إلا إشراق وجهه، ولا غرو فكان دائماً يقول (ما على الرسام أن يعرف من الناس سوى البسطاء الوجهاء الذين تجد في النظر إليهم لذة فنية، وفي التحدث معهم راحة الذهن. فالوجهاء من الرجال والحسناوات من النساء يحكمون العالم، أو يجب أن يفعلوا ذلك على الأقل) وكلما زاد معرفة بشخصية (هوفي) زاد إعجابه بروحه المرحة الخفيفة، وطبيعته الكريمة الطائشة، حتى فتح أبواب مرسمه على مصراعيها أمامه في كل وقت.
وعندما دخل (هوفي) وجد (تريفور) يجمّل صورة رائعة لشحاذ بالحجم الطبيعي، وكان الشحاذ نفسه واقفاً على ربوة مرتفعة في زاوية من زوايا المرسم، وهو رجل عجوز تبدو الحكمة على وجهه المتغضن الكئيب الداعي إلى الشفقة. وكانت على كتفه عباءة رثة من قماش داكن، وكان حذاؤه الغليظ قديماً مرقعاً. واتكأ الكهل بإحدى يديه على عصا غليظة بينما مدّ يده الأخرى بقبعته البالية يتكفف الناس.
وصافح (هوفي) صديقه وقال همساً (يا له من مثال رائع!) فصاح (تريفور) بأعلى صوته (نموذج رائع؟ أعتقد ذلك، لأنه لا يُلتقي بأمثال هذا الشحاذ كل يوم! إنه كنز يا عزيزي)
- مسكين هذا الرجل! يا له من بائس! ولكني أظن أن وجهه بالنسبة إليكم معشر الرسامين هو كل ثروته؟
- بلا شك. إنك لا تريد الشحاذ يبدو سعيداً؛ أو تريد؟ فسأل هوفي (وكم يتقاضى النموذج مقابل هذه الجلسة؟) واقتعد مقعداً مريحاً.
- شلناً في الساعة.
- وكم تتقاضى أنت عن الصورة يا آلن؟
- آه! عن هذه أتقاضى ألفين.
- من الجنيهات.
- نعم يا عزيزي.
- فصاح (هوفي) ضاحكاً (هذا حسن! ولكن يجب أن يظفر النموذج بنسبة مئوية لأن عمله
لا يقل مشقة عن عملك).
- كيف ذلك؟ انظر إلى مشقة توزيع الألوان والوقوف طيلة اليوم أمام منصة الرسم! كل هذا يروقك أنت يا (هوفي) ولكني أؤكد لك أن هناك لحظات يكاد يصل فيها الفن إلى منسوب العمل اليدوي. والآن أوجز ولا تثرثر لأني جد مشغول؛ فدخن سيجارة والزم الهدوء.
وبعد فترة من الزمن دخل الخادم وأخبر (تريفور) أن صانع الإطارات يريد مقابلته. فقال (تريفور) وهو خارج (لا تجر يا (هوفي) فسأعود بعد لحظة).
وانتهز المتسول فرصة غياب (تريفور) ليستريح على مقعد خشبي وراءه، وكان يبدو عليه البؤس والشقاء حتى أشفق عليه (هوفي) فبحث في جيوبه ليعرف ما عنده من نقود، وكان كل ما وجد جنيهاً وبضعة سنتات، ثم فكر في نفسه (هذا الزميل العجوز المسكين يفتقر إليها أكثر مني) وذرع الأستوديو ونفح الشحاذ بالجنيه.
تحرك الرجل العجوز وعلت شفتيه اليابستين ابتسامة صفراء وقال (شكراً يا سيدي، شكراً).
ولما عاد (تريفور) استأذن (هوفي) في الخروج ووجهه محمر لما فعل. وقضى ذلك اليوم مع لورا، وقبل الإياب إلى منزله ظفر منها ببعض التأنيب والتقريع لتبذيره.
وفي مساء ذلك اليوم بينما كان (هوفي) يتجول في نادي (الباليت) في الساعة الحادية عشرة وجد (تريفور) جالساً وحده في غرفة التدخين فقال له مشعلاً سيجارته: (أأتممت الصورة على ما يرام؟).
- تمت ووضعت في الإطار يا بني. ولئلا أنسى لقد قمت بغزو، فذلك النموذج يدين لك بالإخلاص الشديد، وقد أطنبت له في الحديث عنك - من أنت، وما هو دخلك، وما هي آمالك -
- (يا عزيزي آلن) صاح هوفي (ربما وجدته في انتظاري عند عودتي إلى المنزل؛ ولكنك تمزح بدون شك. مسكين هذا العجوز البائس! وددت لو استطعت مساعدته. إنه لشيء مرعب أن يصل إنسان ما إلى هذا الدرك من البؤس. أتعتقد أنه يحفل بشيء مما عندي من أكوام الملابس القديمة؟ وكيف لا! فإن أسماله كانت تتساقط قطعاً).
- ولكنه يبدو بديعاً في هذا النوع من الملابس. وأنا لا أرسمه بملابسه الرسمية السوداء مقابل أي ثمن؛ لأن الذي تدعوه أنت خرقاً بالية أسميه أنا خيالاً رائعاً، وما يبدو لك فقراً مدقعاً هو ما يستحق التصوير عندي. وعلى كل حال سأخبره باستعدادك لمنحه بعض الملابس.
فقال (هوفي) جاداً (آلن! أنتم معشر الرسامين لا قلب لكم).
- قلب الفنان رأسه، وعلاوة على ذلك لا تنس أن عملنا تصوير العالم كما نراه لا كما يجب أن يكون؛ ولكل عمله، والآن أخبرني كيف حال لورا فالنموذج العجوز أظهر اهتمامه بها.
- إنك لا تعني أن تقول إنك حدثته عنها؟
- بل فعلت بلا ريب. فهو يعرف كل شيء عن الضابط القاسي الفظ و (لورا) الحلوة والعشرة آلاف جنيه.
فصاح (هوفي) محمراً من شدة الغضب (أتخبر ذلك المتسول العجوز عن جميع شؤوني الخاصة؟).
وقال تريفور مبتسماً (يا ولدي العزيز! ذلك المتسول العجوز، كما تدعوه؛ من أثرى رجال أوربا. فهو يستطيع شراء لندن غداً دون أن يسحب أكثر من رصيده، وهو يملك قصراً في كل عاصمة، ويتناول الطعام في أطباق من ذهب، ويستطيع أن يمنع روسيا من دخول الحرب عندما يرغب في ذلك).
- ماذا تعني بالله عليك؟
- إن الرجل الذي رأيته في الأستوديو اليوم هو (بارون هوسبرج) وهو صديق حميم لم يبتاع جميع صوري، وقد أعطاني جعلاً في الشهر الماضي لأرسمه في زي شحاذ! ماذا ترجو من أهواء مليونير؟ ولكن يجب أن أعترف أنه بدا مثالاً رائعاً في خرقه، أو في ملابسي أنا، لأن ما كان يرتديه إن هو إلا عباءة قديمة لي اقتنيتها من أسبانيا.
فصاح هوفي (بارون هوسبرج! يا الله! فقد نفحته جنيهاً!) وغاص في المقعد المريح مرتعباً فزعاً.
وانفجر تريفور في الضحك (منحته جنيهاً! لن تراه ثانية يا ولدي العزيز، فما أعماله إلا
مستمدة من نقود الآخرين).
وقال هوفي عابساً (أظن أنه كان يجب أن تخبرني يا آلن، ولا تتركني أخدع نفسي إلى هذا الحد).
- في الحقيقة لم يتصور عقلي أنك توزع الصدقة بتلك الطريقة الطائشة. إني افهم تقبيلك نموذجاً جميلاً، ولكن إعطاءك جنيهاً لنموذج قبيح - لا، بالله، لا! فهذا مستحيل. وعلاوة على ذلك فالحقيقة أني أنكرت وجودي في الأستوديو لكل طارق اليوم، فعندما دخلت أنت لم أعرف هل يحب (هوسبرج) أن يذكر اسمه، فأنت تعرف أنه لم يكن يرتدي ملابسه الرسمية.
- لابد أنه حسبني شيخ البلهاء في هذا البلد.
- لا، أبداً. فقد كان مسروراً بعد خروجك، وكان يحدث نفسه ويمسح يديه المجعدتين؛ ولم أستطع أن أستنتج سبب شغفه بمعرفة كل شيء عنك، ولكني فهمت كل شيء الآن.
- (إني شيطان عديم الحظ) زمجر هوفي (خير ما أستطيع عمله هو الإيواء في مخدعي. ويا عزيزي آلن يجب ألا تخبر أحداً بما حدث، فإني لا أستطيع أن أواجه المجتمع)
- ولم ذلك؟ إن عملك هذا لأقوى دليل على حبك لخير البشر يا هوفي. والآن خذ سيجارة أخرى وتحدث عن (لورا) بقدر ما تحب.
بيد أن (هوفي) لم يطع وذهب إلى منزله حزيناً مكتئباً، وترك (آلن تريفور) يقهقه من شدة الضحك.
وفي الصباح التالي في أثناء تناول (هوفي) طعام الإفطار حمل إليه الخادم بطاقة كتب عليها (المسيو جوستاف فودان من طرف البارون هوسبرج) فأمر الخادم بدخول الزائر ودخل الحجرة رجل عجوز بمنظار ذهبي وشعر رمادي وقال بلهجة فرنسية (هل لي شرف التحدث مع المسيو أرسكاين؟).
فانحنى هوفي.
وقال الرجل: (جئت من عند البارون هوسبرج، والبارون. . .).
تلجلج هوفي (أرجو يا سيدي أن تقدم للبارون أصدق اعتذاراتي).
فقال الرجل العجوز مبتسماً: (كلفني البارون أن أحمل إليك هذه الرسالة)، وقدم له مظروفاً
مختوماً.
وكتب على خارج المظروف: (هدية زفاف لهوفي أرسكاين ولورا مرتون، من متسول عجوز)، وكان بداخله صك بمبلغ عشرة آلاف جنيه.
ولما تزوجا كان (آلن تريفور) شاهد العروس، وألقى (البارون هوسبرج) كلمة في حفلة الزفاف.
وتعجب آلن قائلاً: (إن من أندر الأمور الظفر بنموذج مليونير. ولكن أندر منه الظفر بمليونير نموذجي).
بولس عبد الملك
بمعهد الصحافة بالجامعة الأمريكية
1
1