الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 695
- بتاريخ: 28 - 10 - 1946
هذه هي الأغلال
للأستاذ عباس محمود العقاد
المسلمون في حاجة إلى جرعات قوية من قبيل هذه الجرعة التي ناولهم إياها صاحب الفضيلة الأستاذ عبد الله على القصيمي في كتابه (هذه هي الأغلال).
لأن الذين يحجمون عن مساعي الحياة اعتقاداً منهم بتحريمها إنما يخرجهم في هذا الوهم عاملان ضروريان، وهما عظة الحوادث وعظة المرشدين، وأحق الناس بإسداء هذه العظة إليهم من يصححون لهم الوهم بإسناد من الكتاب والسنة النبوية، ومن يرشدونهم لأنهم متدينون يفهمون الدين على وجهه المستقيم، لا لأنهم ينكرون الأديان فلا يلتقون بهم في أصل من أصولهم التي يتقبلون منها الحجة والدليل
والكتاب بحق كما وصفه مؤلفه الفاضل (ثورة في فهم العقل والدين والحياة) لأنه يهجم على سلطان غشوم هو سلطان الجهل، ومعقل حصين هو معقل العادة، وجحفل مجر هو جحفل الغوغاء وأشباه الغوغاء، فيرفع السيف والمعول بغير رهبة ولا هوادة، ويعتمد سيفاً واحداً ومعولاً واحداً في هذه الثورة الجريئة، وهما سيف اليقين ومعول البرهان
فهو يشن الغارة الشعواء على من يقدسون البلاهة ويوجبون على الناس الكسل باسم الاتكال على الله، ويحرمون تعليم المرأة وتدريبها على فرائض الأمومة والرعاية الاجتماعية، ويوهنون ثقة الإنسان بنفسه، وينكرون الحكمة القديمة والعلم الحديث، ويزعمون أن الزمن يتأخر ولا يرجى فيه من أبناء اليوم والغد رجاء يضيفونه إلى تراث السلف ومآثر المتقدمين
وقد استند في كثير من معارض النقد على آيات من الكتاب وأمثلة من سير الأنبياء، وأسانيد من المنطق السليم، ولم يبال بالسمعة الموروثة ولا بالأنصاب المرفوعة ولا بالأكاذيب المتواترة، فهاجم أناساً يحسبون من الأئمة المقدسين عند العامة وأشباه العامة، وذب عن فلاسفة غير مسلمين لم يشهدوا عهد الأديان الكتابية مثل أرسطو وأفلاطون
فلما روى هذه الأبيات:
من أنت يأرسطو ومن
…
أفلاط قبلك (يا مبلد)
ما أنتمو إلا الفرا
…
ش رأى السراج وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه
…
ولو اهتدى رشداً لأبعد
مهد لها قائلاً (قالوها في مذمة أولئك الرجال الذين حاولوا في عصور سحيقة أن يضعوا اللبنات الأولى في بنيان هذه الحضارة. .). وعقب عليها مستنكراً أن يكون هؤلاء الرجال الباحثون (حكمهم حينما أرادوا الدنو من المعرفة ومن العلم حكم الفراش الذي يرى النور المتوقد فيثب عليه)
ثم استطرد بعد صفحات فقال: (ومن البلاء حقاً أنهم لم يقصروا عند امتداح الجهالة بل قاموا - بلاهة كثيفة - يمتدحون الجنون والبله والمجانين. . . وهنالك قسم كبير من الأولياء كتبوا في الطبقات يسمون بالمجاذيب أو بالأولياء المجاذيب، وقد أورد الشعراني في كتابه طبقات لأولياء الكبرى أسماء طوائف كثيرة من هؤلاء المجذوبين. وكذلك صنع غيره)
أما الفصل الذي تناول فيه موضوع المرأة بعنوان: إنسان هي أم سلعة - فقد قابل به بين أقوال المتطرفين في الحجر عليها وأقوال المتطرفين في تخويلها حقوق العمل والحرية، ووقف بين الطرفين وسطاً يعدل بين هؤلاء وهؤلاء، ولكني أحسبه لو خير بينهما لآثر الإطلاق على التكبيل بقيود الحجر والجمود
ونحن نوافق الأستاذ القصيمي على الهدف الذي يرمى إليه، وعلى الآفة التي يشكو منها، ولكننا نخالفه في بعض الآراء كما نخالفه في بعض العبارات، ولا نخص منها بالذكر هنا إلا جانباً واحداً يلتبس فيه الرأي ويبدو فيه الظاهر على وجه غير وجه الباطن، أو وجهه الذي نطلع عليه بعد المراجعة والموازنة بين الحقائق المتقبلة. فرب حقيقة تقابلها حقيقة أكبر منها، ورب ناحية نراها وحدها فإذا هي مستنكرة، ونراها في مكانها من مجموعة النواحي المختلفة، فإذا هي لازمة لا غناء عنها
هذا الجانب الذي نخصه بالذكر في هذا المقام هو كلام الأستاذ على فلسفة التصوف إذ يقول: (إن وجه الخطأ في هذه الفلسفة أنهم اعتقدوا أن الروح والجسد عالمان مستقلان متعاديان، وأن كلاً منهما حرب للآخر، وأن كلاً منهما أيضاً إنما ينمو ويزكو على حساب الآخر. فإذا أهين أحدهما وعذب نما الآخر وترعرع وقام بوظيفته خير مقام، وإذا أكرم وأريح وأجم أصاب الآخر بالعكس. . وهذه فلسفة عقيمة لا تقف أمام الحقائق. فإن الروح
مهما اختلف في حقيقتها وفي تفسيرها تزكو وتقوى وتقدر على أداء وظيفتها إذا صح الجسم وقوى واستراح، وتضعف وتخبو وتعجز عن القيام بعملها إذا مرض الجسم أو تعب أو تعجز. . . وهذه حقيقة هي اليوم فوق مذاهب الشك، وفي استطاعة الرجل العادي أن يعلم صدق هذا بالملاحظة والاستقراء. . .).
ونحن نقول إن هذه حقيقة لا شك فيها.
ولكننا نقول إنها ليست كل الحقيقة، أو ليست بالحقيقة التي تستغني عن الرجوع بها إلى جملة الحقائق في الملكات الروحية والجسدية.
ولعلنا نستعجل الغاية التي نرمي إليها بالإشارة إلى حقيقة أخرى مجسمة لا شك فيها. فما القول مثلاً في الإنسان الذي يقبل على الجسد وحده فيجعله أصلب من الفولاذ وأقدر على حمل الأثقال وجرها من الفرس والبعير؟ أيقال إن هذا الإنسان قد زاد قوة الروح بزيادة قوة الجسد؟ أيقال إنه مثل يحتذيه كل إنسان ولا يصيب الأمة نقص في الملكات إذا اقتدى به كل فرد من أبنائها؟
لا يقال ذلك، ولا يقال مع ذلك إنه مثل ضار وخيم العاقبة على أبناء الأمة، بل يقال إنه لازم ومطلوب ومعقول، وأن (القصد الحيوي) في تربية الإنسانية يسمح للرياضة البدنية أن تصطفى لها أفراداً من هذا الطراز، ويسمح للرياضة الروحية أن تصطفى لها أفراداً من طراز آخر، ولا تسمح لهذه ولا لتلك بتعميم حكمها على جميع الآحاد.
هذا (القصد الحيوي) هو الحقيقة الكبرى التي تقابل تلك الحقيقة المبسوطة في كتاب الأستاذ.
فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد.
ولكنها ينبغي أن تنال. فكيف يمكن أن تنال؟
إنها لا تنال إلا بالتخصيص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعاً في التحصيل، وألزمنا كل أحد أن تكون له أقساط منها جميعاً على حد سواء.
ولا يقتصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكننا نعم به هذه الملكات ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس.
فهذه الملكات الجسدية - فضلاً عن الملكات العقلية والروحية - قابلة للنمو والمضاعفة إلى الحد الذي لا يخطر لنا على بال ولا نصدقه إلا إذا شهدناه
وقد رأينا ورأى معنا ألوف من أبناء هذا البلد رجلاً أكتع يستخدم أصابع قدمه في أشياء يعجز الكثيرون عن صنعها بأصابع اليدين: يكتب بها ويشعل عيدان الثقاب ويصنع بها القهوة ويصبها في الأقداح ويشربها ويديرها على الحاضرين، ويسلك الخيط في سم الإبرة ويخيط الثوب الممزق، ويوشك أن يصنع بالقدم كل ما يصنع باليمين أو باليسار.
ورأينا ورأى معنا ألوف من هذا البلد لاعبي البليارد في المسابقات العامة يتسلمون العصا ثم لا يتركونها إلا بعد مائة وخمسين إصابة أو تزيد، ولعلهم لا يتركونها إلا من تعب أو مجاملة للاعبين الآخرين، وهم يوجهون بها الأكر إلى حيث يريدون، ويرسلونها بين خطوط مرسومة لا تدخل الأكر في بعضها، ولا تحسب اللعبة إذا لم تدخل في بعضها الآخر. بحيث لو قال لك قائل إن هؤلاء اللاعبين يجرون الأكر بسلك خفي لجاز لك أن تصدق ما يقول.
ورأينا من يقذف بالحربة على مسافات فتقع حيث شاء، ورأينا من ينظر في آثار الأقدام فيخرج منها أثراً واحداً بين عشرات ولو تعدد وضعه بين المئات، ورأينا من يرمي بالأنشوطة في الحبل الطويل فيطوق بها عنق الإنسان أو الحيوان على مسافة أمتار.
هذه هي الملكات الجسدية المحدودة، وهذه هي آماد الكمال الذي تبلغ إليه بالتخصص والمرانة والتوزيع.
فما القول إذا حكمنا على الناس جميعاً أن يكسبوا أعضاءهم ملكة من هذه الملكات؟
إننا نخطئ بهذا أيما خطأ ونعطلهم به عن العمل المفيد.
ولكننا نخطئ كذلك كل الخطأ إذا عاقبنا إنساناً لأنه أتقن ملكة من هذه الملكات الجسدية، ولو جار في نفسه على ملكات أخرى يتقنها الآخرون.
فإذا كنا جاوزنا بالقوى الجسدية حدودها المعهودة بالمرانة والتخصيص فما الظن بالقوى الروحية أو العقلية وهي لا تتقارب في الناس ولا تعرف الحدود.
وإذا كان طالب القوة الروحية يجوز على جسده فلماذا نلومه وننحى عليه ونحن لا نعاقب اللاعب إذا جار على روحه أو عقله في سبيل إتقان لعبة أو تدريب عضو أو تزجية فراغ؟
إذا لمنا من يجور على جسده لأنه يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين فمن واجبنا أن نلوم كل ذي ملكة وكل ذي عمل وكل ذي ملكة وكل ذي فن وكل ذي رأي من الآراء. . فما من واحد بين هؤلاء إلا وهو يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين.
ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر عن بعض الحقائق الاجتماعية فضلاً عن الحقائق الكونية المصفاة.
ومما لا جدال فيه أن شواغل العيش وهموم الأسرة عائق عن بعض مطالب الإصلاح في الحياة اليومية، فضلاً عن الحياة الإنسانية الباقية على مر الدهور.
ومما لا جدال فيه أن طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية له حق كحق المصارع، والملاكم، وحامل الأثقال في استكمال ما يشاء من ملكات الإنسان، ولسنا على حق إذا أخذنا عليه أنه جار على جسده أو لذات عيشه، لأننا لا نلوم المصارع إذا نقصت فيه ملكة الفن أو ملكة العلم أو ملكة لروح.
لو أصبح كل الناس مصارعين لفسد كل الناس.
ولكن لابد من المصارعة مع هذا، ولا بد من المتفرغين لها إذا أردنا لها البقاء.
ولو أصبح الناس كلهم متصوفين معرضين عن شواغل الدنيا لفسدت الدنيا وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد في الحياة.
ولكن لابد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلا قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح، وفقدنا ثمرة (التخصص) أو ثمرة (القصد الحيوي) الذي ينظم لنا ثروة الأرواح وثروة العقول وثروة الأبدان.
فنحن لا نفند الحقيقة التي بسطها الأستاذ التي بسطها الأستاذ القصيمي في كتابه الجريء على الباطل.
ولكننا نقابل حقيقته بالحقيقة التي توازنها وتتمم لها موازينها ونقول إن الإفراط في العناية الروحية كالإفراط في العناية الجسدية بلاء إذا عم جميع الناس، ولكن البلاء الذي هو أعظم منه وأقسى على الناس جميعاً أن يبطل فيهم (الاختصاص) ولو كان الإفراط من مستلزماته، لأن (الإنسانية) كلها تستفيد من زيادة ملكاتها، وهي لا تزيد إلا بنقص في بعض الآحاد المعدودين.
عباس محمود العقاد
على الطريق في سوريا ولبنان
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
أثبت في هذا المقال طرفاً مما شهدت في طريقي أثناء تجوالي في سوريا ولبنان في سفرتي الآخرة
لا أعرض لما شهدت وسمعت في المجامع والمجالس من آيات الحب والود بين البلاد العربية وإكبار إخواننا في سوريا ولبنان لمصر أهل مصر، ولكن أسجل حوادث طارئة، وإمارات عابرة شهدتها على الطريق لم تصدر عن إعداد أو احتفال أو تكلف بل ترجمت به الأنفس عما فيها ترجمة صادقة خالصة:
سارت بنا باخرة صغيرة اسمها القاهرة من الإسكندرية تؤم بيروت. وكان ركبان الباخرة قليلين أشتاتاً ألف بينهم سفر قصير، ولم أحاول أن أختلط بهم أو أتعرف إليهم، وتركت نفسي على سجيتها، والأمور على إذلالها
رأيت شاباً أسمر عربي السحنة يتكلم لهجة عذبة بين العامية والفصيحة.
قال: أنا من زحلة، وأقيم مع أسرتي في نيكارجوى من أمريكا الوسطى، وهناك بيتان من العرب فقط؛ ولكنا نحفظ لغتنا ونحرص على تعلمها والتكلم بها.
قلت: ولكن لغتك عربية خالصة تعلو على العامية.
قال: هذا أثر الدرس والقراءة
قلت: لقد نطق وجهك قبل لسانك بأنك عربي. فسرّ معتزاً
ورأيت كهلاً يقيم في دكار من بلاد السنغال وقد غاب عن بلده سنين كثيرة زهاء ثماني عشرة فيما أذكر.
حدثني الرجل عن مهاجري العرب في دكار وعن تجارتهم ومكانتهم وعن العرب من أهل البلاد والمستعربين، وأفادني كثيراً من أخبار تلك البلاد وحالاتها. ومن طريف ما أخبرني أن أهل السنغال شجر بينهم وبين الفرنسيين خلاف، وامتد بينهم نزاع على بعض الأمور؛ فقال السنغاليون يهددون فرنسا: نحن عرب، وسنعمل للانضمام إلى الجامعة العربية
وسمعت عجوزاً من زحلة أو ما يصاقبها من القرى تقول وقد سمعتنا نتحدث عن اللغة
العربية وحرص العرب عليها حينما ساروا وأينما ساروا. قالت: أيترك الإنسان أمه إلى جارتها!
شرحت صدري، وأضاءت نفسي هذه الأحاديث وأشباهها وكم أصخت إلى صاحبي القادم من دكار يحدثني في ضوء القمر، ونحن نساير الساحل الشرقي من البحر الأبيض، ونرى جباله ومناراته وأضواء بلاده بعيدة خافتة.
ونزلت من الباخرة صباح السبت لعشرة من شهر أب، وفي سحنتي ولهجتي ما ييسر لي الأمور في الميناء
وأخذت سيارة إلى دمشق، فلما بلغنا أول مخفر في سورية وقف عليه السائق وتقدم شرطي ينظر في السيارة. قلت: أتريد جوائز السفر؟ فضحك وقال: عرفناك بلغتك. أهلاً وسهلاً، مع السلامة مع السلامة. يعني أنه عرفني مصرياً.
ودخلنا مدينة حماة بعد ظهر الاثنين سادس شوال أنا ورفيقي الأستاذ عبد المحسن الحسيني فطعمنا واسترحنا في فندق أبي الفداء ثم خرجنا نتفرج ونرى النواعير الهائلة على نهر العاصي، ونستمع لحنينها الدائم. وكنا على نية زيارة ملك حماة أبي الفداء صاحب التاريخ. فقلت لصاحبي: نرجع إلى الفندق فلن نعدم من يتعرف بنا ويدلنا على أبي الفداء. فلما بلغنا الفندق رأينا عربة تقف على الفندق، فقلنا نركب هذه العربة إلى مزار أبي الفداء، ورأينا رجلاً ينزل من العربة وطفلاً يبقى فيها، فانصرفنا عنها، وإذا الراكب الذي نزل يتقدم إلينا ضاحكاً قائلاً: أأعجبكما صورة العلم المصري على ظهر الحصان. وأن هذا الهلال والأنجم تصور العلم المصري. قلنا: بارك الله فيك. وسألناه عن الطريق إلى أبي الفداء فعرفنا نفسه وعرفنا، فإذا هو من وجوه المدينة ولا أريد ذكر أسماء في هذا المقال. قال: شرفوا ودعانا إلى الركوب. قلنا: معك طفل، وقد خرجت للتنزه، أو جئت للجلوس في هذه الحديقة، فلا نصدك عما خرجت له. فأبى إلا أن نركب معه. فأجبنا دعوته وسرنا إلى ضريح أبي الفداء في ظاهر المدينة؛ ولجنا باباً فرأينا إلى اليمين حجرة صغيرة عليها قبة، فدخلنا إلى ضريح قديم كتب عليه أسم أبي الفداء وتاريخ وفاته. ثم هبطنا درجات إلى صحن فيه أنبوب يستخرج الماء من نبع ويستقي منه جيران المسجد. وتقدمنا شطر الجنوب إلى مسجد صغير قيل لنا إن العامة تسميه مسجد الحيايا (أي الحيات) لأن فيه عمداً
على صورة الحيات. فدخلنا إلى مصلى في جداره القبلي إلى جهة الشرق نافذتان بينهما عمود من الرخام نحت نحتاً عجيباً، وصورت عليه حبال متداخلة مجدولة كأنها حيات التف بعضها على بعض
وأبى كرم السيد الذي شرفنا بصحبته إلا أن يرينا بعض الدور الأثرية في حماة. فقلنا: قد رأينا دار العظم في مهرجان أبي العلاء. فسار بنا إلى حي قديم فيه دار كبيرة جليلة مشرفة على العاصي، هي دار الكيلاني، فأستأذن لنا من أهلها فدخنا فرأينا من نظام بيوتنا العتيقة وجمالها وجلالها ما راقنا وسرنا.
وأمر مضيفنا السائق أن يتوجه تلقاء داره. فسرنا إلى دار نزهة خارج المدينة على منحنى العاصي مشرفة على النهر يزينها وتزينه، وجلنا في الحديقة إلى النواعير الخمس التي ترفع الماء إلى البساتين المجاورة، فكان مشهداً عجيباً جميلاً. وكان لأصوات النواعير وخرير المياه بين الأشجار ومجرى النهر وأشعة الأصيل الشاحبة على النواعير العالية جمال ورهبة وسحر.
ثم جلسنا في حديقة الدار مطلين على النهر في حفاوة صاحب الدار وكرمه.
فلما أستأذنا أبي إلا يعود بنا إلى الفندق، ولم يستجب رجاءنا إذ أشرنا عليه بالاستراحة في داره، وكان يشكو ألماً يقطع عليه حديثه بين الحين والحين. ورجع بنا إلى الفندق وجلس معنا في المقهى حيناً، وقام ليذهب إلى الطبيب معتذراً إلينا. وقد ألح علينا أن نبقى إلى الغد، فعرفناه أنا أزمعنا السفر ليلاً إلى حلب
فهذه حفاوة سيد من سادات حماة بمصريين قابلاه على الطريق دون معرفة سابقة. بارك الله فيه وفي طفله بشار الذي آنسنا بصحبته وراقنا بمخايله وبما قص والده من أحاديث ذكائه.
وليس هذا إلا مثلاً كريماً مما يلقاه المصري في الشام حيث توجه!
وأزمعنا السفر إلى حلب بالقطار، وعلمنا أنه يبرح محطة حماة والساعة ثلاث ونصف بعد نصف الليل، فلم يثن هذا عزمنا وتركنا الفندق والساعة اثنتان ونصف.
وبينا نحن في انتظار القطار تقدم نحونا شرطي عرفنا بوجوهنا أو لهجتنا، فتحدث إلينا وتلطف. وساق الحديث إلى ثورة سورية وبلاء أهل حماة، وأفاض الرجل في الحديث، ثم تكلم عن الجامعة العربية، وعن عبد الرحمن عزام فأثنى عليه. ثم نظر إليّ وقال: أرى فيك
والله شبهاً منه. فضحكت وقلت: هل رأيته؟ قال: رأيت صورته. ومازال الرجل يتعهدنا حتى أركبنا القطار وودعنا.
فهذا شرطي في محطة صغيرة في أخريات الليل لم يشغله عمله وتعبه عن الحديث والمودة. ولم يقصر علمه عن معرفة البلاد العربية والجامعة العربية ورجالها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
فتح عكا
(690 هجرية - 1291 ميلادية)
للأستاذ أحمد رمزي بك
جاء في نهاية المقال القيم الذي كتبه الأستاذ محمود عزت عرفة بعدد الرسالة رقم 693 أن سقوط عكا بيد المسلمين كان في عهد الملك الظاهر بيبرس، والحقيقة أن الفتح تم في عهد لشالملك اهيد الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور سيف الدين قلاووين في سنة 690 هجرية 1291 ميلادية، وقد تم على يده فتح صور وصيدا وبيروت وغيرها من مدن الساحل فأعادها إلى الإسلام، وأطلق على هذه الحروب أسم الفتوحات الأشرفية، واستمر المسلمون قروناً بالساحل والجبل يؤرخون بهذا الفتح فيقولون تم هذا في أيام الفتح الأشرفي أو بعده أو قبله. وفي بيروت حي مشهور اسمه حي الأشرفية نسبة إلى ملك مصر الشهيد الأشرف خليل بن قلاووين، وقد ذكر جيبون المؤرخ الإنجليزي نهاية هذه الحروب وهذا الفتح فقال:(ساد سكون محزن على امتداد ذلك الساحل الذي ظل أزماناً طويلة ميداناً تسمع فيه قعقعة سيوف نضال العالم).
وهذا الفتح من أهم الفتوحات الإسلامية التي من الله بها على مصر الإسلامية في أزهى عصورها بل جعل منها دولة مهيبة الجانب يخشاها العدو ويرهبها الصديق، وبقيت موضع رعب أوربا حتى موقعة امبابة أيام نابليون.
ويقول أبن الفرات في كتابه إن سلطان مصر لما عزم على التوجه إلى حصار عكا أمر بجمع العلماء والقضاة والأعيان والقراء بتربة والده الملك المنصور وهي لا تزال بالقاهرة إلى اليوم وتعد تحفة من تحف الفن الإسلامي العربي ومفخرة من مفاخر ذلك العصر. أرجو أن تذهب لرؤيتها وإشباع النظر بها.
قال إنهم اجتمعوا في ليلة الجمعة الثامن والعشرين من صفر من هذه السنة وباتوا بالقبة المنصورية يقرأون القرآن الكريم، وحضر الملك الأشرف إلى التربة في بكرة نهار الجمعة وتصدق بالهبات وفرق على القراء والفقراء أموالاً كثيرة غير الكسى والهدايا التي وزعها على أهل المدارس والرباطات والزوايا. كأنه كان يودع والده حينما عزم على التوجه للجهاد.
وفي الثامن من ربيع الأول نزل السلطان من القلعة وتوجه بالعساكر المنصورة إلى دمشق وسار منها حتى نزل على عكا وحاصرها وسد الطرق عليها، وكان الفرنجة لما بلغهن مسير الجيوش الإسلامية المصرية وعزم السلطان على محاصرة مدينتهم في قلق زائد، ولذلك كتبوا إلى ملوكهم وسألوهم النجدة. فاجتمع لديهم جموع من مختلف مللهم ونحلهم. ويقول السير وليم موير (إن جزيرة قبرص بعثت بنجدة إليهم)، ولكن الذي يظهر من كلام المؤرخين المعاصرين أن أكثر النجدة أتت إليهم من الأرمن المقيمين بالمشرق.
وليس في عزمي شرح المعارك التي ظهر بها المسلمون على الصليبيين في آخر عهدهم، ولا ذكر القتال يوماً بعد يوم وتتبع الشهداء والقواد وأهل الرياسة من جند مصر والشام فتلك ملحمة من ملاحم الإسلام أجمع لها المواد ليوم قريب بإذن الله؛ كما أنه ليس في العزم أن أكتب عن الملك الشهيد الأشرف خليل وحياته، ولذلك نمر على ذلك مراً، ونكتفي بشهادة بعض المعاصرين نقلاً عن صاحب النجوم الزاهرة.
قال النويري: (كان ملكاً مهيباً شجاعاً مقداماً جسوراً جواداً كريماً).
وقال الذهبي: (لو طالت أيامه لأخذ العراق وغيرها. فأنه كان بطلاً شجاعاً مقداماً مهيباً عالي الهمة).
وقال صاحب النجوم (وجمهور الناس على أنه أشجع ملوك الترك قديماً وحديثاً بلا مدافعة، ثم من بعده الملك الناصر فرج أبن الملك الظاهر برقوق، وشهرتهما في ذلك تغني عن الإطناب في ذكرهما).
ولقد كان الأمير بيبرس المنصوري شاهد عيان لمعركة عكا، ولذلك أطنب في وصفها ووضع ذلك في كتابه (زبدة الفكرة) وقال أن هذا الفتح العظيم جاء في يوم الجمعة المبارك السابع عشر من جمادى الآخرة من سنة 690، وإن عكا انتزعت من يد المسلمين في عهد صلاح الدين سنة 587، وبقيت بيد الصليبيين103 سنة وختم كلمته بقوله:(لله الحمد على انتصار المسلمين واستظهار الموحدين بهمة أولى الهمم العلية، والعزمات المنصورة المنصورية (نسبة إلى المنصور قلاروين) الأشرفية (نسبة إلى الأشرف خليل)، ولا شك في أن هذه الطائفة أربت على الأول ونالت بها الدولة من النصرة والنضرة ما لم تنله الدول).
ويصف السير وليم موير في كتابه (تاريخ دولة المماليك) سقوط آخر معقل إلا معقل الصليبيين بالمشرق والحقد يأكل قلبه فهو لا يترك نقيصة إلا ألصقها بالمسلمين وملكهم فيقول: (حتى الفرسان الذين وعدوا بأن يفسح لهم طريق النجاة أمر السلطان بقطع رقابهم جميعاً بدون رحمة، وأن ما لاقاه أهل بيروت من إهدار دمائهم وقتلهم صبراً لا يقل فظاعة عم وقع في عكا). يسوق كل هذا ولا يبين لنا أسباب هذا الغدر من الجانبين.
ولقد احتفلت العاصمتان مصر ودمشق بهذا الفتح الأشرفي العظيم، ولما دخل الأشرف مدينة دمشق زينت له الشوارع وأقيمت القباب وأقواس النصر، ودخل وبين يديه الأسرى من الإفرنج تحت الخيول وفي أرجلهم القيود وأعلامهم منكسة، ولما دخل مصر وشق المدينة من باب النصر إلى باب زويلة، وأقيمت له الاحتفالات الشائقة.
ولما كثرت الأقاويل والروايات عن هذا الفتح، وصرح كثيرون أنهم تنبأوا به قبل وقوعه، وقال بيبرس المنصوري:(ولما أتاح الله هذا الفتح وسهله وأباحه وعجله قرظه الشعراء، وذكره الفضلاء).
وقد اطلعت في كتاب أبن الفرات على الكثير من القصائد التي قيلت أعجبني منها بعض الأبيات أنقلها لقراء (الرسالة).
فمن قصيدة الشيخ بدر الدين محمد بن أحمد بن عمر المنجي التاجر المقيم بالقاهرة:
بلغت في الملك أقصى غاية الأمل
…
وفُت شأو ملوك الأعصر الأول
ونلت بالحول دون الناس منفرداً
…
ما لم تنله ملوك الأرض بالحيل
وهي طويلة فيها العربية السهلة وبعض الألفاظ العامية ومن الغريب أن تأتي بعد خمسة قرون من ينحو نحوها ويقول:
ماذا أقول وكيف القول في ملك
…
قد فاق كل ملوك الأعصر الأول
وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر أظنه صاحب سيرة الملك الظاهر:
يا بني الأصفر قد حل بكم
…
نقمة الله التي لا تنفصل
قد نزل الأشرف في ساحلكم
…
فابشروا منه بصفع متصل
وكتب القاضي شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي كاتب الإنشاء قصيدة أطول من كل هذا نحا فيها نحو صاحب قصيدة (السيف أصدق أنباء من الكتب)، وقلّد عباراته وتشبيهاته
جاء فيها:
بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت
…
بك المماليك واستعلت على الرتب
فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها
…
مدت إليك نواصيها بلا نصب
أدركت ثأر صلاح الدين إذ غضبت
…
منه لسر طواه الله في اللقب
إن عكا مدينة عزيزة على القلب بذكرياتها، أقلب صفحات الفتح الأشرفي فاقرأها بجانب صفحات من عاصر صلاح الدين وعاين قلقه على جنوده المحاصرين بقلعتها. أمضيت أياماً أسجل من سيرته تنقلاته في التلول المقابلة لسهول عكا، وأتابع تلك النفس العظيمة، ولذلك كنت كلما مررت بهذه الجهات يخفق قلبي وتهتز نفسي شوقاً إلى أرواح الشهداء الذين ماتوا على تلك البقعة التي تجمع مع الطهارة الخلود في نفس كل مسلم.
أحمد رمزي
من صميم الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
هذه قصة شاب مدرس في ثانوية من ثانويات البنات في بلد من بلاد الله حديث السن لم يجاوز إلى الآن الرابعة والعشرين، معتزل متفرد عاكف على كتبه ودفاتره، لا يخالط الناس، وليس ممن يبتغي الظهور فيهم والحظوة لديهم، فلا يحاول أحد من القراء أن يبحث عنه أو يسعى إلى معرفته، وليكتفوا من قصته التي قصها عليّ بمكان العبرة منها، إذا كان قد بقى في القارئين من يفتش على العبرة، أو يسعى إلى الاعتبار. .
وهذا الشاب أبن صديق من أدنى أصدقائي إلى قلبي، وكان في صباه تلميذاً لي، وكان من أذكى الطلاب قلباً، وأطهرهم نفساً، وأمتنهم خلقاً، وأتقاهم لله في سر وفي علن، وكان على صغره جاداً بعيداً عن المزاح، مجتنباً الهزل، باراً بأمه وأبيه، لا يعرف إلا مدرسته وبيته، لم ير قط واقفاً في طريق، أو ماشياً إلى لهو، وثبت على ذلك حتى شب وأكمل الدراسة، وفارق المدرسة، وهو لم يدخل قهوة ولا سينما، ولم يصاحب أحداً أبداً، ولم يجالس امرأة غير أمه ولم يكلمها. .
وكان لذلك بمنزلة الأخ الأصغر مني، أحبه محبة الابن، ويجلني إجلال الوالد، وكان ينفض إلي دخيلته، ويكشف لي سريرته، وكان من مزاياه انه صادق اللهجة، ولم أجرب عليه في هذه المدة الطويلة كذباً قط. . .
وانقطع عني مدة طويلة، ثم رأيته فأخبرني أن والديه قد توفيا بالتيفويد في شهر واحد، وأنه غدا وحيداً فاحترف التعليم، وبعثت به الوزارة، لما تعلم من عظم أخلاقه، إلى مدرسة ثانوية للبنات، فثار وأبى وطلب نقله إلى غيرها من مدارس البنين، فما زالوا به يداورونه ويقنعونه بأنه إن كان معلم البنات رجل مثله، فذلك خير لهن من أن يدخل عليهن فاسق خبيث، وإن قبوله التدريس في هذه المدرسة قربة إلى الله، فخدع المسكين وقبل!
قال: وبت ليلة افتتاح المدرسة بليلة نابغية لم ينطبق فيها جفناي، من الفكر والوساوس والمخاوف، فلما أصبح الصباح ذهبت أقدم وأؤخر أخرى، حتى دخلت المدرسة، فما راعني عند الباب إلا أن فتاتين كاملتي الأنوثة ليستا بالصغيرتين ولا القاصرتين قد دخلتا أمامي، فلما صارتا من داخل ألقتا عنهما الخمار، فعادتا كأنهما في دارهما، وتلفت حولي فإذا ملء
الساحة فتيات نواهد نواضح الأجساد، قد حسرن ورحن يلعبن ويمشين وهن بالثياب الحريرية الزاهية، شعورهن مهدلات على الأكتاف، والسواعد عاريات والسيقان، فأحسست كأنما قد صب علي دلو من الماء الحامي، فاحترقت منه أعصابي، فاستدرت راجعاً ونفضت يدي من الوظيفة، وقلت: الرزق على الله!
وقصدت بيتي فما وسعني والله البيت، ووسوس إلى (لا أكتمك) الشيطان، وزين لي تلك المتعة بمعاشرة أولئك الفتيات، والحياة بينهن، فاستعذت بالله، وأعرضت عنه، وذهبت أفتش عن عمل غير هذا، فسدت في وجهي الأبواب إلا هذا الباب، ولاحقتني الوزارة وإدارة المدرسة حتى عدت مكرهاً. .
وأنا رجل رضت نفسي على العفاف، وأخذتها بضروب الرياضات حتى سكنت شرتها، ولكنها مع ذلك كانت تثور بي كلما سبقت عيني وأنا غافل إلى فتاة في الشارع كاشفة، أو سمعت أذني حديثاً من أحاديث الشبان سقط إلي وأنا لا أطلبه، أو قرأت (وقلما أقرأ) قصة خليعة، أو نظرت (ونادر أن أنظر) مجلة من هذه المجلات الداعرة الخبيثة وما المرأة التي يفتش عنها الشبان ويتحدثون عنها إلا هذه النصف التي تصلح ما أبلى منها الدهر بالثياب والأصباغ وما عند العطار، والتي تقاذفتها الأيدي حتى صارت كالغصن الذاوي وكالثوب الخلق، فما بالك بشاب كتب عليه أن يعاشر النهار كله فتيات كزهرة الفل، أو كالغلالة الجديدة، لم تمسسهن يد بشر، ولم يعرفن من تجارب الحياة ما يتقين به شباكها، ويطلب منه أن يكون عفيفاً شريفاً، وأن يكن هن أيضاً عفيفات شريفات، وله في نفوسهن مثل الذي لهن في نفسه؟
يا أستاذ! إن الخطر أشد مما تتوهمون أنتم معشر الكتاب المعتزلين في بيوتهم أو في أبراجهم العاجية، كما يقولون عن أنفسهم، الخطر أشد بكثير. . شباب وشابات، يصبي كلاً منهما أن يشم ريح الآخر من مسيرة فرسخ، يجتمعون على دروس الأدب وقراءة أشعار الغزل. . تصور (يا أستاذ) المدرس يلقي على طالباته حديث ولادة وأبن زيدون، وأنها كتبت كما رووا (كذباً أو صدقاً) على حاشية ثوبها:
أمكن عاشقي من صحن خدي
…
وأمنح قبلتي من يشتهيها
ويمضي يشرح لهن ذلك ويفسر لهن. . حالة فظيعة جداً يا أستاذ. . . ولو كن كبيرات
مسنات، أو كن مستورات محجبات، أو لو كن صائمات مصليات يخفن الله، لهان الأمر، ولكنهم يجتمعون بهن على سفور وحسور وتكشف، وتنطلق البنت حرة تزور معلمها في داره، وتمشي معه إن دعاها إلى السينما أو المتنزه، كذلك يرى الآباء اليوم بناتهم فلا ينكرون ذلك عليهم. .!
أنا لا أقول إن الآباء كلهم لا يهمهم أعراض بناتهم، وأن كل أب قرنان، معاذ الله أن أقول ذلك، ولكن هؤلاء الآباء قوم مغفلون، أعمى أبصارهم بريق الحضارة الغربية فحسبوا كل شيء يجيء من الغرب هو خير وأعظم أجراً، ولو كان ذهاب الأعراض والأديان والأبدان! إن هؤلاء كالنعامة يلحقها الصياد فتفر منه حتى إذا عجزت أغمضت عينيها ودست رأسها في التراب لظنها أنها إذا لم تبصر الصياد، فإن الصياد لا يراها! إن هذا الأب يحسب أن كل رجل ينظر إلى بنته بعينه هو، وطبيعي منه ألا ينظر هو إليها بعين الشهوة، فلذلك يطلقها في الشارع، ويبعث بها إلى المدرسة على شكل يفتن العابد، ويحرك الشيخ الفاني. .!
دخلت يا سيدي ودرست، وكنت أغض بصري ما استطعت وأحافظ على وقاري، ولا أنظر في وجوه الطالبات إلا عابساً، ولا أقول كلمة في غير الدرس المقرر، وكنت مع ذلك أداري من أثرهن في أعصابي مثل شفرة السيف الحديد، وإذا قرع الجرس خرجت قبلهن مهرولاً حتى لا أماشيهن ولا أدنو منهن، فذهبت مسرعاً إلى داري أصلي وأسأل الله أن يصرف عني هذه المحنة، وأن يجعل رزقي في غير هذا المكان، وكنت أصوم وأقلل الطعام لأطفئ هذه النار، فإذا مشيت إلى الفصل وسمعت كلامهن، وسبقت عيني إلى بعض ما يبدين من أعضائهن وزينتهن زادت ضراماً واشتعالاً. .!
وكان فيهن طالبة هي. . لا. . لست أصفها ولا ينفعك وصفها، وحسبك أن تعلم أنها زكية ومتقدمة في رفيقاتها، وأنها من أسرة من أنبل الأسر، وأنها فوق ذلك جميلة جداً. . جداً. . إنها تمثال، هل رأيت مرة تماثيل الجمال والفتنة. .؟ وكانت كلما نظرت إليّ قرأت في عينيها كتاباً مفتوحاً، ورسالة صريحة لي أنا وحدي، وأحسست منها بمثل شرارات الكهرباء تخرق قلبي. . فكنت أزداد عبوساً وإعراضاً، فلا يردها عبوسي ولا يثنيها إعراضي، وأسرعت مرة ورائي وأنا خارج وهي تناديني (سؤال يا أستاذ). . ولها في
صوتها رنة. . يا لطيف. .! فوقفت لها فجعلت تدنو مني حتى شعرت كأني ألامس. . ألامس ماذا؟ لا أجد والله شيئاً أشبهها به، لأنه ليس في الدنيا شيء آخر له مثل هذا التأثير. . فهربت منها وأسرعت إلى الدار، وحرصت على ألا أدعها أو أدع غيرها تفعل مثل هذا!
وكنت أكتب الدرس في كراس وأدفعه إليهن لينسخنه، فهو يدور عليهن، فلما كانت نوبتها عاد إلي الكراس وفيه هذه الأبيات لعلي بن الجهم:
نطق الهوى بجوى هو الحق
…
وملكتني فلينهك الرق
رفقاً بقلبي يا معذبة
…
رفقاً وليس لظالم رفق
وإذا رأيتِك لا تكلمني
…
ضاقت عليّ الأرض والأفق
مكتوبة بخطها منقولة من (المنتخب)، فمحوتها وكتمت الأمر، وعقدت العزم عقداً مبرماً على ترك التدريس، وخرجت من الفصل بهذه الهزيمة، وكان في الساحة تلميذات فرقة أخرى في درس الرياضة، وقد اصطففن بالشلحات، كاشفات الأفخاذ والأذرع، راسخات النهود، يقفن كذلك بين الرجال (والمعلمون كلهم رجال). . فكبر رأسي وأسرعت إلى الشارع، وقد حلفت ألا أعود ولو مت جوعاً، وبعثت بكتاب الاستقالة!.
ومرت أيام وكنت وحدي في الدار - وأنا وحدي دائماً ليس لي زوجة ولا قريب - فإذا الباب يقرع، فقمت ففتحت وإذا بها تدخل علي، وتغلق الباب وراءها، وترفع الغشاء عن وجهها، وتلقي المعطف عن منكبيها، وكأن تحت جلدها الأبيض المورد الناعم انهاراً من الدماء تجيش الرغبة. . مثل الشلالات المتحدرة، وجلست أمامي كما تجلس أمام زوجها. . وقعدت تحدثني تطلب درساً خصوصياً، وعيناها تحدثانني تطلبان غير الدرس. . ولست يا أستاذي رجل سوء ولا أليف دعارة، ولكني رجل على كل حال. . فلما رأيتها في داري. . وتحت يدي. . والباب مغلق. . وهي تريد. . ملكني الشيطان. . ورأيت الدنيا تدور بي، ولما حاولت أن أتكلم اختنق صوتي ثم خرج وفيه بحة غريبة كأني أسمع معها صوت إنسان آخر غيري، وهممت يا أستاذ. . ولكن صوت الدين رن في أذني، ينادي لآخر مرة كما يصرخ الغريق آخر صرخاته. . فاستجبت له. . ولو أعرضت عنه لحظة لضاعت هذه الفرصة إلى الأبد، ولخسرت أنا والبنت الدنيا والآخرة من أجل لذة لحظة واحدة. . ولم أتردد بل قلت لها بصوت بارد كالثلج، قاطع كالسيف، خشن كالمبرد: (يا آنسة، أنا آسف،
إن هذه الزيارة لا تليق بطالبة شريفة، فاخرجي حالاً!). . . وفتحت الباب وأغلقته خلفها، وتم ذلك كله في دقيقة!
ولما خرجت ندمت. . نعم ندمت. . وعاد الشيطان يوسوس لي، وضاق بي المنزل حتى كأني فيه محبوس في صندوق مقفل، ولم أعد أدري ماذا أصنع، وأحسست أني أضعت كنزاً وقع إلي، وتغلبت غريزتي، فأخفت صوتها صوت الدين والعقل، وأحسست توتراً في أعصابي، حتى وجدت الرغبة في أن أعض يدي بأسناني، أو أضرب رأسي بالجدار، وعدت أتمثل حركاتها ونظراتها. . . فأراها أجمل مما هي عليه، وأحس بها في نفسي، فكأني لا أزال أشم عطرها، وأرى جمالها، بل لقد مددت يدي لأمسك بها، فإذا أنا أقبض على الهواء، وخيّل لي الشيطان أن هذه البنت لم تعد تستطيع البصر بعد أن أذكى هذا النظام المدرسي نار غريزتها، وأنها ستمنح هذه الـ. . هذه النعمة رجلاً غيري. . فصرت كالمجنون حقاً، وحاولت أن أقرأ ففتحت كتاباً فلم أبصر فيه شيئاً إلا صورتها، وأردت الخروج فرأيتني أنفر من لقاء أي من أصحابي كان ولا أريد إلا إياها، وحسدت إخواني المدرسين الذين لم يتربوا مثل تربيتي الصالحة، فتمنعهم من الانطلاق في هذه اللذائذ انطلاق الذئب في لحم القطيع الطري!
والعفو يا أستاذ إذا صدقت في تصوير ما وجدت، فأنت أستاذي أشكو إليك، وأنت الرجل الأديب قبل أن تكون الشيخ والقاضي، فقل الآن ماذا أصنع؟ إني تركت التدريس واشتغلت بغيره، ولكني لم أستطيع أن أنساها، ولو أنا أردت وصالها لقدرت عليه ولكني لا أريد، فماذا أصنع يا أستاذ؟ لقد حاولت الزواج، فرأيت الأب الذي لا يكاد يمنع أبنته حراماً لا يمنحها حلالاً إلا بمهر وتكاليف يستحيل دفعها على مثلي، فأيست من الزواج، فماذا أصنع؟
ماذا يصنع يا أيها القراء؟ قولوا، فأني لم أجد والله ما أقول!
() دمشق)
علي الطنطاوي
زورق الأحلام.
. .
للأستاذ عبد المنعم خلاف
هذه السفينة الجوية الجبارة التي طارت في أربعين ساعة من هونولولو إلى القاهرة في مرحلة واحدة، مصعدة إلى جزر ألوشيان وشبه جزيرة ألاسكا ومنطقة القطب الشمالي، ثم حادرة إلى جزر جرينلند وأيسلند والجزر البريطانية والقارة الأوربية والبحر المتوسط، مخترقة أجواء مختلفة ومناطق متضادة، حاملة عشرة رجال من طلائع الإنسانية الحديثة. . إنها زورق أحلام حقاً تطير به الإنسانية كلها من أمسها إلى غدها في غزوة من غزواتها للطبيعة
أجل، ليس الذين طارت بهم عشرة وحسب، وإنما هم الإنسانية كلها عبرت حاجزاً، وكسرت قيداً، وتخطت عقبات، وكشفت مجهولاً، وأدخلته في رحاب المعلوم، وصححت أخطاء، ومهدت طريقاً لنفسها في سعيها الحثيث نحو صوب مجهول. . .
وإنه لزورق أحلام حقاً عاشت به الإنسانية الواعية الراصدة في حلم سعيد ما لبث معبر الزمان أن أوله وعبره مع فلق صباح جميل على أرض النيل. . .
وقد أحسست قلبي يرافق هؤلاء العشرة حين علم بانطلاق ذلك الزورق من قيود الأرض هناك في هونولولو، فأن فيهم سر نوعه الذي توثق به وآمن بمستقبله ودعا إلى ذلك. . .
وإنها للحظة فرح عميق سجلت على لوح الأرض حين بلغ هذا الزورق مرساه في غزوة من غزوات الإنسان لحصون الزمان والمكان. . .
ولو قيل للناس: إن ملكاً أو جناً سيطير إليكم من هونولولو إلى النيل لخرجوا إليه في يوم مشهود مجموع له ليزودوا فضولهم ونهمهم بحديث متاع لا يزالون يجترونه ويذيعون سيرته مدى أعمارهم. . . ولكن الذين طاروا كانوا عشرة من الناس ذوي الوجوه المألوفة والأجسام المحدودة المعروفة، ولذلك قل من أبه لهم من هذا الجنس الذي لا يزال ذاهلاً عن قيمة ما يصنع في فتوح العلم وقيمتها في عقائد الحياة. . .
إن فرحي بوصول زورق الأحلام في هذا الأوان الذي يجادلني فيه المجادلون في قيمة الإنسان لا يعدله إلا فرحي يوم طالعت الإعلان عن كتابي (أومن بالإنسان) في جريدة الأهرام منشوراً تحت خبر الوصول إلى سر القنبلة الذرية الذي أعلنه ترومان واتلي،
فشعرت أن هذا التوافق المصادف إشارة موافقة من الأقدار على فكرة الكتاب! ولقد ظل هذا الإعلان ينتظر في الأهرام دوره في النشر ما يزيد على شهر حتى أتى ذلك اليوم. ولو خيرت ما اخترت غير هذه المناسبة للإعلان ولو تأخر شهوراً أخرى. . . ولو طولبت بأجر على ذلك التأخير وتلك الموافقة التاريخية لدفعته عن طيب خاطر؛ فإنه ليس بالقليل أن ترى الأقدار تؤنسك بلفتة من لفتاتها وتتطوع لتصديق رأيك بتقديم دليل جديد يؤيدك وأنت في شك مما سيقابلك الناس به غداة الإعلان على رؤوس الأشهاد عن قضيتك: (أومن بالإنسان)!
وحسبك من جزاء على التبشير بمستقبل الإنسان في زمن الشك والجحود به أن ترى أو تسمع كلمة تصديق وتشجيع ينطق بها ناطق الزمان فجأة وعلى غير انتظار!
وإنه لنصر في أول الطريق يثير الشجاعة إلى المضي إلى آخره حيت تحس أن الكون معك بهتافاته وإرهاصاته!
وإن القضية التي يعلن عنها وتدخل إلى الأذهان مع صدى ذلك الطارق الجبار العنيف الذي تنسف القدرة الإنسانية به مدينة في لحظة تترك عاليها سافلها، لقضية ينبغي أن تكون أسلوباً جديداً من أسلوب تجديد الدعوة الدينية، دعوة إقرار القيمة العليا التي للوجود ورب الوجود وخليفته في الأرض!
إن خطوات الفكر الإنساني في مجالات العلم السرية والجهرية خطوات متلاحقة تطالعنا بها الصحف والمجلات مع كل صباح، ولكن طي الأبعاد والمسافات الشاسعة في سرعة بالجسم البشري الثقيل، رهين الأحباس والقيود بطيران يخترق حجاباً وراء حجاب، ويركب طبقاً عن طبق فوق الباب والسحاب والتراب، وبين المناطق المتضادة الجواء، وعند قمة الأرض في قطبها الشمالي، حيث البقاع التي يعمرها السكون الموحش والصمت المطبق والمناطق البكر والسهوب الثلجية التي تتجمد فيها الحياة وتضل فيها خطرات الظنون والأوهام - يجعل أمر اليوم الذي حمله زورق الأحلام أمراً خطيراً كبيراً يراه العوام قبل الخواص، فيشعرون جميعاً أن هذا هو المجال الأصيل للجهد الإنساني كله لو عقل الناس!
أيها الزورق العابر مناطق الجو وفضاء النفس البشرية! القاهر لما في الآفاق من سدود وعوائق، ولما في النفس من شكوك وقيود تقعد بالإرادة البشرية عند العجز القديم الذي يقعد
ببني الإنسان عن أن يبلغوا غايتهم من السيادة التي أرادها لهم خالقهم حين ينبههم كل يوم إلى أنه ليس هناك باب في الطبيعة مكتوب عليه (ممنوع الدخول) إذا ما كان في أيديهم المفتاح!
لقد كانت حمولتك أيها الزورق من أحلام البشرية العالمة الراصدة أضعاف حمولتك من ثقل الحديد والفولاذ الوقود وأجسام ملاحيك!
ولقد سلمت تلك الأحلام من الارتطام بصخور العجز والشك والوهن والكسل عن الاقتحام حين سلمت أثقالك من الارتطام بصخور الأرض!
وأن اليد الإلهية التي حملتك وسددتك إلى غايتك من غزو المجهول وكشف المستور وتصحيح المغلوط، إنما هي يد تشير بالموافقة وتلوح للقاعدين على التراب أن هبوا ويحكم أيها النوّام إلى السحاب، ولا تقعد بكم عقائد الجهل ومثبطات الهمم عن محاولة الانطلاق وراء أحلامكم الطليقة ما دامت لا تبطل حقاً ولا تحق باطلاً
وما كانت عبثاً تلك الطاقات المذخورة التي عشتم بها أيام العجز القديم، ورفرف بها خيالكم حول عالم القدرة والحرية. .
أجل، ما كان ذلك عبثاً، وإنما كان إعداداً لهذا الحاضر، وتدريباً باللعب على مستقبل حياة الجد والاكتمال، وإرهافاً للعزائم والإرادات، ودفعاً لها إلى أن تحاول تحقيق الأحلام في عالم اليقظة!
أيها الزورق! لقد ألقيت بحمولتك من الأحلام التي حملتها من تلك الجزيرة التي كانت مجهولة غائبة في المحيط الأعظم إلى أرض النيل التي عرفت في دفاتر التاريخ إنها أول أرض حاول الإنسان فيها تحقيق الأحلام وتجسيم الآمال، وحبت الإنسانية على عتباتها ودرجت وخطت إلى بعض غاياتها الآلاف الأربعة قبل الميلاد، فكأن هذه الرحلة عبور لطريق الحضارة الإنسانية من آخرها في أمريكا إلى أولها في مصر. .
وكم ذا من الآماد بين الأمس البعيد واليوم! وكم من جثث الرواد الذين عبدوا هذا الطريق مطروحة على حافتيه! وكم رأى هذا الطريق من وجوه تطلعت في نهاياته البعيدة فهالها بعد الشقة فقعدت حيث ولدت إلى أن ماتت ودفنت في حفر وأغواره! وكم قرعته أقدام القافلة الإنسانية في وقع رهيب وزحف ودبيب، وصلصلة قيود وأصفاد جعلتها تسير ثقيلة
الخطى، محرومة الهدى مطموسة الأفق!
واليوم أيها الزورق الحالم، تأتي طائراً في أربعين ساعة من أقصى الأرض، وفي هبوة من هبوات الرياح تثير غباراً في أثرك هو لا شك رفات مسحوق من عظام أولئك الرواد الذي ماتوا على الطريق ودفنوا فيه!
وحسبهم عزاء أنهم رأوا ذواتهم غباراً يلحق ذيلك الجرار. . وأن رأوا أحفادهم يمتطونك في خيلاء القوة، وعزة الحديد وقبضة العلم كأنهم ركب من الجن في زي ناس. .
وهل تملك الجن الحمراء أن تطير في عالم الثلوج البيضاء؟!
أفتنا يا سليمان! فأنك أعلم الناس بعالم الريح، وصاحب البساط ومسخر الجن وملهب ظهورها بالسياط!
وعليك السلام، فقد كنت ثمرة مبكرة في شجرة الإنسانية مدت أحلامها وغذت آمالها وأفهمتها أن أحلام القدرة والانطلاق في حيز الإمكان، فلم تيأس حتى وصلت إلى تلك (الكرامات) العامة بعد تلك (الكرامات) الخاصة التي صنعها الله لبعض أصفيائه ليشير للنوع بهم إلى طريق التحرر والقدرة والانطلاق!
عبد المنعم خلاف
خاتمة فلسفية.
. .!
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
تلك هي الخاتمة التي انتهى الأستاذ عباس محمود العقاد.
ولم تكن هذه الخاتمة غريبة على هذا الكاتب الذي بدأ حياته أديباً، ناقداً، شاعراً، وكل شيء إلا الفلسفة. فقد يبدو للقارئ العادي أن معالجته الفلسفة الحقيقة مما يتنافى مع مظاهر كتاباته وكتبه، ومطالعاته في الكتب والفنون، غير أن الناظر في أعماق آثاره القلمية، أو القارئ ما وراء السطور، يلمح ولا ريب فكراً نافذاً عميقاً يتخطى الظواهر القريبة المألوفة، ويذهب إلى الأصول الأولى والغايات البعيدة. وتلك هي النظرة الفلسفية، رد الكثير إلى الواحد، والبحث عن العلة الأولى والغاية النهائية.
ولهذا السبب كان جمهور القراء يجدون مشقة في فهم آرائه، لأنه لا يحفل بالتوافه ويمضي إلى الأعماق، ولأنه كاتب لا ينزل إلى الجماهير بل يأخذ بأيديهم إلى مستواه.
وكتاب (في بيتي) الذي صدر في سلسلة (أقرأ) ينبئ عن هذه الخاتمة الفلسفية، ولو أن صاحب الكتاب تجنب الإعلان في العنوان.
أما كتاب الشيخ الرئيس أبن سينا، الذي صدر بعد ذلك بعام، فقد أسفر وأبان، وكشف فيه العقاد عن حقيقة نزعاته الفكرية، واتجاهاته العقلية.
غير أن نزعة الأدب التي ألتزمها خلال سنوات طويلة من حياته لم يتخل عنها، فهي منه بمنزلة الطبيعة. وبتعبير فلسفي: أصبحت (مادة) فكره فلسفية، و (صورة) فكره أدبية. وأعني بالصورة الأدبية أنه ينحو منحى ذاتياً شخصياً في التعبير، في مقابل النزعة العلمية التي عبر فيها صاحبها تعبيراً موضوعياً. لا تحس فيه بالتأثيرات الشخصية.
أو هكذا أفهم الأدب، ولعل فريق الأدباء يفهمون منه شيئاً آخر.
وقد تسأل نفسك: ما المادة وما الصورة، هذان الاصطلاحان اللذان وضعتهما بين أقواس؟.
ليس غريباً على من درس الفلسفة أن يعرفهما، فهما خلاصة مذهب أرسطو في الفلسفة، حين يقول: إن كل جسم طبيعي مركب من هيولي أو مادة، وصورة. ولا مادة بغير صورة كالتمثال مادته النحاس، وصورته هيئته التي هو عليها. ولست تجد نحاساً بغير صورة، مهما تكن.
لقد تعرض العقاد، حين تحدث عن فلسفة أبن سينا، لأفلاطون وأرسطو، وأفلوطين، والكندي والفارابي، بل وصل إلى فلسفة العصر الأخير الذي نعيش فيه، فكأنه اتخذ من الشيخ الرئيس محوراً تدور حوله الآراء من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب.
وهو منهج سليم، لأن الفلسفة هي تاريخ الفلسفة.
وقد رأى أن يصنف المشكلات الفلسفية التي سوف يعالجها حتى يمضي في ترتيب ووضوح، فلخصها في مسائل أربع: وجود العالم، وجود النفس، وجود الشر، حرية الإنسان، ثم نظر إلى حلول الفلاسفة القدماء لهذه المشكلات العسيرة الحل، وأثبت رأي أبن سينا فيها، وهي على كل حال مشكلات لا تزال قائمة، تعالجها الفلسفة، وأكبر الظن أن الآراء سوف تظل متضاربة في شأنها، لأنها تفوق نطاق العقل وحدوده، على الرغم من تقريب العلم الحديث لبعض تفصيلاتها.
وإذا أردت أن تعلم رأي العقاد الشخصي في هذه المشكلات فاقرأ تعقيبه في آخر الكتاب، فهو يذهب إلى أن المادة والعقل شيء واحد. فيضع بذلك حداً حاسماً للمشكلة التي أثارها الأقدمون مشكلة الثنائية في الموجودات، أو الفلسفة المادية والفلسفة الإلهية، كما يقول العقاد في تقسيمه لمشكلات الفلسفة، وبين المادية والروحية كما يذهب إلى ذلك بعض المفكرين.
وفي ذلك يقول ما نصه في آخر الكتاب (فصورة المادة في أذهاننا باطلة. فكيف نعلم ما ي} ثر فيها وما لا يؤثر فيها على وجه التحقيق؟
(والذي يثبت في روعنا أن الكائنات خلق واحد يدور حول (الوحدانية)، ولا فرق بينهما غير الفرق بين التعميم والتخصيص.
(فالتعميم مظهر المادة، والتخصيص مظهر العقل والحياة.
(فالمادة في أبسط صورها شعاع (عام) لا فرق فيه بين مكان ومكان من الفضاء).
ولقد ميز ديكارت من قبل بين المادة والفكر، وجعل في العالم ثنائية يصعب الجمع بينهما بعد ذلك. غير أن اسبينوزا بالذانت وهو من المدرسة الديكارتية، اضطر للتوفيق بينهما إلى القول بوجود ما يسميه الامتداد العقلي
مهما يكن من شيء فإن اهتداء العلم الحديث إلى أصل المادة وأنها ذرة أو جزء لا يتجزأ، وأن هذه الذرة هي في النهاية إشعاع أو طاقة، كل ذلك لا يحل مشكلة المادة والعقل، لأن
العقل ليس إشعاعاً. . من يدري لعله كذلك ولكننا لا نستطيع أن نجزم بشيء.
والعبر التي نأخذها من كتاب العقاد كثيرة، منها أن اتجاه مفكرينا وجهة فلسفية دليل على الرقي العقلي، والسمو إلى عالم المعاني، ومنها أن استساغة الجمهور لهذا النوع من التأليف، بل إقباله عليه. دليل على رقي الجمهور بل على انتقاله من طفولة الفكر إلى شبابه.
والخاتمة الفلسفية هي نهاية التقدم.
أحمد فؤاد الأهواني
الحلم والتحلم.
. .
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة)
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعضه،
ومن يتوق الشر يوقه) حديث شريف
تماحي الرذائل:
قال طرفة في شعر له: حنانيك، بعض الشر أهون من بعض! وتلك جملة موجزة في لفظها وفي معناها، ولكنها تنطوي على حكمة بليغة، وتكن نظرية في الأخلاق عظيمة النفع إذا نحن حاولنا أن نفهمها وأن نحسن تطبيقها، ومؤدي هذه النظرية أن يتقبل الإنسان الشر والشرور، ويحتمل غضاضة الرذيلة من الرذائل، تخلصاً بهما من شر ورذيلة أبلغ ضرراً وأوخم عاقبة وتعد هذه مرحلة - لابد منها - نتحول بها من وضع إلى وضع، فنخلص بأنفسنا من غياض الشر إلى غياض الخير، وننتقل بجوهر أخلاقنا من مناقع الرذيلة إلى منابع الفضيلة.
ذلك أن الخير (كالحلال) بيّن، والشر (كالحرام) بيّن، وبينهما أمور متشابهة، يلتبس فيها حق بباطل، ويلتقي صباح بممنوع. .
وتحذير الرسول عليه الصلوات، في حديثه المعروف، من هذه المواطن التي يشتبه فيها الحرام بالحلال إنما يتجه إلى الأخيار الذين أحرزوا من الفضيلة القسط الوافر. لأن تلبس أحدهم بالمتشابهات يعد انتكاساً له بعد عافية، وانحداراً لنفسه بعد ارتقاء، أما من ران الشر على قلوبهم، وملكت الرذيلة عليهم وردهم وصدرهم، فهؤلاء سبيلهم إذا أرادوا الخلاص لأنفسهم أن يحاولوا (الترقي) أولاً إلى درجة المتشابهات، لأنها الطريق المفضي بهم فيما بعد إلى الخير والفضيلة خالصين من كل شائبة. ويعد هذا الترقي إلى المتشابهات في حقهم فضيلة وتقدماً، وإن عد في حق الفضلاء من غيرهم شراً وارتكاساً، لا غرو فحسنات العاصين سيئات المطيعين!
وقد ذكرنا قبل من دواعي (التحلم) ما يعد وسائل إلى بلوغه وتحصيله، وضروباً من
ترويض النفس وإغرائها على الأخذ منه بنصيب.
ونضيف هنا إلى ما سبق هنالك أن التحول بالنفس من معرة الغضب والحدة، إلى كمال الحلم وفضيلة الإسجاح، قد لا يتم دفعة؛ وإنما يكون على مرحلة أو مراحل نساير فيها النفس التي نعالجها من حال إلى حال. فقد نستطيع مثلاً أن نفثاً من حر غضبها وشدة بادرتها بنوازع - نجعلها تستريح إليها مؤقتاً - من الكبر والاستهانة بالمسيء وتحقير شأنه.
ونحن لم نعد في هذا أن تحولنا بها من رذيلة إلى رذيلة، ولكن إذا مرنت النفس على ذلك، وتزحزحت عما استولى عليها من الغضب والحدة إلى خلق طارئ من الأنفة والاستكبار أمكننا أن نعالج هذه الحالة الأخيرة بوسائل علاجها، ثم لا نزال ننتقل بالنفس من وضع إلى وضع حتى تخرج عن حد الرذائل والمتشابهات جملة، وتنتهي إلى الخير المحض الذي نتوخاه لها. وقد نص الغزالي على هذه الوسيلة من العلاج في مؤلفاته غير مرة فهو يقول مثلاً في كتاب (رياضة النفس وتهذي الأخلاق) من سفر الإحياء: من لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأساً أو بترك صفة أخرى، ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله - أي المرشد - من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه؛ كالذي يغسل الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء، إذا كان الماء لا يزيل الدم. وكما يرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه، ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه، ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة. هـ.
وفي (ربع المهلكات) من سفر الإحياء إشارات متعددة إلى هذا العلاج يدرجها الغزالي في أعقاب كل خلق مرذول عند النص على أوجه علاجه. ففي كتاب ذم البخل وذم حب المال يقول: ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالسخاء، فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعاً في حشمة الجود؛ فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل واكتسب لها خبث الرياء. ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه. ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال، كما قد يسلي الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير وغيرها، لا ليخلي واللعب، ولكن لينفك عن الثدي إليه ثم ينقل
عنه إلى غيره. فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض. هـ.
وهذا العلاج الذي وضعنا له عنوان (تماحي الرذائل) ينطوي على خطر غامض دقيق يستوجب ألا يتعرض لمزاولته وأخذ المريد به إلا كل طب خبير بأدواء النفوس، عارف بالعلل الخلقية دقيقها وجليلها، وأيها أصعب علاجاً، وأيها أيسر تحولاً. . وإلا تفاقمت العلة بمريضه وهو يحاول شفاءه، أو مات بين يديه وهو يريد إحياءه. . .
وقد سبق الغزالي إلى توضيح هذه الخطورة وإلى التحذير منها - وكم للغزالي من سبق إلى مثل هذه الحقائق النفيسة الخالدة - فهو يقول بعد ذكر علاج البخل (بتكلف السخاء على قصد الرياء): إلا أن هذا مفيد في حق من كال البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء، فيبدل الأقوى بالأضعف، فإن كان الجاه محبوباً عنده كالمال فلا فائدة فيه، فإنه يقلع من علة ويزيد في أخرى مثلها!
ويضرب لنا الغزالي في موضع آخر مثالاً حسياً عجيباً لتناحر هذه الرذائل واصطراعها في النفس حتى تضعف فتفني جميعاً، وتحل محلها الفضيلة التي جعلناها هدفنا من العلاج، فيقول: مثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال إن الميت تستحيل جميع أجزائه دوداً، ثم يأكل بعض الديدان البعض حتى يقل عددها، ثم يأكل بعضها بعضاً حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين، ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب أحدهما الأخرى فتأكلها وتسمن بها، ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت. فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها ويجعل الأضعف قوتاً للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة، ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة. هـ.
خاتمة:
الحلم كسائر الفضائل وسط ممدوح بين طرفين مذمومين. فإذا نحن (تحيّفنا) منه متجهين إلى أحد طرفيه كان ذلك تفريطاً في الحلم يتحول بنا إلى الحدة وإلى السفاه وسرعة الغضب. وإذا نحن (تزيدنا) فيه متجهين إلى طرفه الثاني كان إفراطاً يفضي إلى الضعف والخور وفقد الحمية، وكلا الطرفين مذموم. أما الأول فحاله معروف، والتحذير من الغضب كثير، لأن النفوس إليه أسرع، فكان التخويف منه أوجب وأولى.
وأما فقد الحمية فآفة أقل - في سواد الناس - من الغضب انتشاراً، ومع ذلك يتردد ذمها
كثيراً، لأنها الإفراط المتناهي في الحلم الذي يتحول به من ممدوح الفضائل إلى مقبوح الرذائل.
يقول الغزالي في هذا المعنى: (لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر؛ فلذا كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف، وإن كان العنف في محله حسناً، كما أن الرفق في محله حسن. فإذا كان الواجب هو العنف، فقد وافق الحق الهوى، وهو ألذ من الزبد بالشهيد!)
هذا، ومن المشاهد الذي يستحق التسجيل أن السفه قد يكون مستحسناً في بعض المواطن، وربما يبدو في بعض الظروف واجباً حتى ليذكر في معرض المدح. ومن هنا يقول عمرو بن العاص: أكرموا سفهاءكم فإنهم يقونكم العار والشنار! ويقول مصعب بن الزبير: ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا! ويقول الشافعي ناصحاً للفقهاء: ينبغي للفقيه أن يكون معه سفه ليسافه عنه!
وانظر بعد إلى قول أبي تمام في مدح أسحق بن إبراهيم المصعبي:
إن المنايا طوع بأسك، ولوغى
…
ممزوج كأسك من ردىً وكلوم
والحرب تركب رأسها في مشهد
…
عُدل السفيه به بألف حليم!
…
وهو الحكيم_لكان غير حكيم
وفي حديث شريف: خير أمتي إحداؤها (من الحدة) الذين إذا غضبوا رجعوا. ومن مأثور قول الشافعي: من استغضب فلم يغضب فهو حمار. قال الغزالي: (فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً. وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية فقال: أشداء على الكفار رحماء بينهم. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم. . وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية، وهو الغضب).
على أن الغزالي يحدد لنا صفة الغضب في موضع آخر فيقول: (المطلوب من صفة الغضب حسن الحمية، وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعاً، وبالجملة أن يكون في نفسه قوياً، ومع قوته منقاداً للعقل)
فليس يغني المرء إذن أن يعرف بالحلم في موضعه ما لم يعرف بالغضب كذلك في
موضعه؛ وإذا قلنا (الغضب في موضعه)، فقد جعلناه فضيلة وحكمة، إذ ليست الحكمة إلا وضع الأمور في مواضعها. بل لو قّرنا ذكر أية رذيلة بقولنا (في موضعها) لأصبحت فضيلة يحث عليها ويشاد بذكرها. فالكذب في موضعه فضيلة وقد نسميه: حسن التأتي، واللباقة، وحسن التصرف. والجبن في موضعه فضيلة، نسميه: الحرص، والتوقي، والحذر. . . وهكذا.
المقياس الصحيح إذن أن نوائم بين تصرفنا - بالقول أو بالعمل - وبين الموقف الذي نكون فيه؛ وبقدر اختلاف المواقف يكون اختلاف التصرفات. والخطأ في التطبيق هنا يتأتى من الخلط بين كل موقف وما يلائمه من تصرف. وأحسب أن النعمان بن المنذر كان أحد من اخطئوا على هذا الوجه. فقد روى أنه أتى برجلين قد أذنب أحدهما ذنباً عظيماً فعفا عنه. والآخر أذنب ذنباً خفيفاً فعاقبه. ثم أنشد يقول:
تعفو الملوك عن العظيـ
…
م من الذنوب بفضلها
ولقد تعاقب في اليسيـ
…
ر، وليس ذاك لجهلها. .
لكن ليُعرَف حلمها
…
وتُخافَ شدة ذحِلها!
وهذا سوء تصرف منشؤه الخلط بين مواطن العفو ومواطن العقوبة
نعم، كان من حق النعمان أن يعرف الناس حلمه، وأن يخوفهم شدة ذحله، لكن على أن يجعل لكل من الحالين موضعاً لا يعدوه، وشرطاً لا يخل به. فأما وقد فاته ذلك فقد صير حلمه تفريطاً وعقوبته إفراطاً. . . وكلا الأمرين وضح في جبين الحق، وانحراف في ميزان الحكمة والعدالة.
(- تم الحديث - جرجا)
محمود عزت عرفة
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . . .
(القيثارة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 30 -
البطل الضرير:
وكان ينتاب الشاعر الحزن على فقد بصره الحين بعد الحين وذلك كلما أحس الوحدة قاسية موحشة بعد فقد زوجته الثانية والظلمة محيطة به وبنياته لا يملكن لأبيهن ولا لأنفسهن عوناً ولا نفعاً، ولقد كان يتمهن وهن زغب الحواصل وأبوهن ضرير، لا يرى في وجوههن رضاءهن إذا رضين ولا ألمهن إذا ألمن، من أكبر بواعث حزنه وغمه. .
ولكنه كان يعتصم بالحكمة أن يهن أو يتخاذل عزمه أو يتزايل وقاره، وكان يلوذ بالشعر فيجد فيه ما ينشد من عزاء لروحه، بل لقد كان والظلام والغم يعتورانه يجد فيه الأنس ما يكاد يحس معه مثلما يحس الناس في الحياة لنفوسهم من بهجة؛ وبحسب المرء أن يذكر هذا، وأن يذكر كيف بلغ مع ذلك بقصيدته الكبرى مبلغاً تتقطع دونه الآمال، وقد توالت عليه ألوان غير هذه من الشدائد، ليرى مقدار أصالته في الشعر ومبلغ تعلقه بفنه ومدى إخلاصه له؛ والحق أنه إن كان ثمة رجل له مما حاق به أكبر المعذرة عن القعود عما نهض له فلن يكون هذا الرجل إلا ملتن، ومن لقي من الحياة مثلما لقي؛ ولكنه لم يقعد بل لم تزده المحن إلا صبراً وإقداماُ. فدل بذلك على أنه من الأفذاذ القلائل الذين تتضاءل الدنيا في نظرهم وتتحاقر تلقاء ما يسعون إلى بلوغه من نبيل الغايات. .
وضايقه يومئذ من ابني أخته أن سارا على نهج غير نهجه في الأدب والفن وسلكا سبيلاً غير سبيله، بل لقد كان ذلك يكربه أحياناً إذ يحس الفشل حتى في هذا، فلقد قام على تربيتهما بنفسه وتوجيههما الوجهة التي يريد، فلما كبرا كرها التزمت والمزيد من الجد والاحتشام، وبرما بالبيوريتانية الجافة التي تبدو لهما كالشجرة جردت من كل ثمرة وكل زينة وإن بقيت قوية الجذع والأغصان فما ترى العين من معاني الشجرة فيها إلا القوة
والصرامة
وأقبل الفتيان يستمتعان بالحياة كما يستمتع الفتية في المدينة وكان الناس قد سئموا البيوريتانية في نزعتها الاجتماعية وضاقوا بالحياة خالية من المرح والزينة. فتهافت الشباب على الموسيقى والشعر، ورأت الحكومة ألا مناص من مماشاة هذه النزعة مخافة أن يؤدي التشدد في صدها إلى ازدياد الدعوة إلى إعادة الملكية؛ فسمحت بنشر بعض الكتب الخفيفة التي تطلب للتسلية واللهو أكثر مما تطلب للمنفعة؛ وكانت المسارح جميعاً مغلقة تحول الشرطة دون فتحها؛ ولكن واحداً استجد فسمحت الحكومة بأن يستمتع فيه الناس بالموسيقى، وبعض المسرحيات من النوع الغنائي، وأحس أهل لندن بشيء من المرح والأنس يدب في الحياة التي ألقت عليها قيود البيوريتانية كثيراً من الوحشة والجهامة.
وتطرف الفتيان في مسايرة النزعة الجديدة، وعلى الأخص أصغرهما جون فيلبس فقام على نشر كتاب احتوى على غير قليل من الاستهانة والمجون. ثم نشر كتاباً آخر جعل عنوانه:(سخرية من المنافقين) وهاجم فيه البيوريتانية هجوماً عنيفاً، وأما أكبر الأخوين فكان لا يزال يغلب عليه التحفظ والتحرج وإن شايع الاتجاه الجديد كما تجلى في كتابه:(أسرار الحب والفصاحة).
وفي أوائل شهر سبتمبر سنة 1658 قضى كرمول نحبه، وذهب بذهابه الرجل الذي طالما عقد ملتن عليه الرجاء؛ وحزن الشاعر للنبأ العظيم وازدادت من المستقبل مخاوفه، وإن كانت حماسته لكرمول قد مسها الفتور قبل مماته بسبب سياسته الدينية
ولسنا نعرف على وجه اليقين هل كانت ثمة صلة شخصية بين الرجلين؟ ولقد ذهب فريق من المؤرخين إلى أن مثل هذه الصلة كانت قائمة بينهما، ولكن لا يسوقون حادثة واحدة تؤيد زعمهم هذا وقصاراهم الاستنتاج والظن، فقد كان كرمول يحب النابهين ويحسن جزاءهم ويقربهم إليه فما يفوته أن يصطفي رجلاً مثل ملتن وضعته الحكومة في مثل ذلك المنصب الخطير، وما ينسى له نضاله عن الجمهورية وبلاءه في رد كيد الكائدين، ويحاول هؤلاء أن يجدوا في مقطوعته التي امتدح بها كرمول دليلاً على صلة شخصية بينهما. .
ولكن فريقاً آخر من رجال الأدب ينكر هذه الصلة، ويقولون إن رضاء كرمول عن ملتن لا يستلزم أن تكون له به معرفة شخصية، وما دامت تعوزنا الحوادث المعينة التي تثبت ذلك
فلا قيمة للظن والاستنتاج والاعتماد على قرائن واهية، فما كل من ينظم مقطوعة أو قصيدة لملك أو حاكم يكون ذا صلة بذلك الملك أو ذلك الحاكم، وأنا أميل إلى هذا الرأي وأزيد عليه أن ملتن رجل ذو كبرياء، وقد عرف عنه أنه كان قليل الصلة برجال الحكومة أنفة منه وتعففاً أن يقال به حاجة إلى أحد، كما أنه كان شديد الاعتداد بنفسه والحرص على كرامته، فلم يك لذلك حديث مجالس ولا كان ممن يحسنون فن التقرب والتودد الذي هو في حقيقة الأمر ضرب من الملق وإن تعارف أهله على تسميته بالكياسة أو اللباقة، ولذلك لم يتقرب ملتن ولم يتودد وأن كان في دفاعه عن الحكومة بكتبه شديد التحمس فياض الثناء؛ ولم يك تحمسه وثناؤه إلا شعوراً وطنياً من ناحية وأمراً يقتضيه الدفاع والمغالبة من ناحية أخرى. وكان ملتن شاعراً ولم يك للشعراء عند رجال الحكومة من البيورتانز ما ينبغي أن يكون لهم من رفيع المنزلة إن لم يضعهم الشعر في موضع الكراهية لهم والاستخفاف بأمرهم، هذا إلى أنه كانت للرجل آراء في الطلاق وفي الدين عده الناس فيها مسرفاً أو به جنُّة، وكان يحس ملتن كثيراً من الفتور والبرود عند من تضطره الظروف إلى لقائهم من كبار رجال الدولة، وهو رجل في أنفه ورم وفي نفسه أشد من الكبر على كل ذي كبر، ولذلك تجافى هؤلاء الكبراء، ومن كان هذا شانه معهم كانوا خليقين أن يصرفوا بحيلهم نظر كرمول عنه إن أتجه إليه أن لم يعملوا على الكيد له والوقيعة له، أما هو فلم يسع من جانبه إلى التقرب أو تودد؛ قال ملتن يرد على رجل التمس وساطة في أمر (يؤسفني أنني غير قادر على أن أفعل ذلك، فإن معرفتي ضئيلة بأولئك الذين في أيديهم القوة تناسب في ضآلتها حرصي على أن ألزم بيتي في الأكثر، وأني لأوثر أن ألزمه).
وظل ملتن بعد موت كرمول في منصبه يعينه فيه مساعد، ولكنه كما قلنا كان فيما يشبه العزلة فقلما شغله من ناحية منصبه عمل وإنه ليطيب بذلك نفساً لأنه يستطيع أن ينصرف اليوم إلى بغية شبابه ويعكف على تحقيق ذلك الحلم الذي أنشغل عنه دهراً طويلاً. . .
ومن عجيب أمره أن همه يومئذ لم يك منصرفاً إلى الشعر وحده على شدة ولوعه به وتحرقه إليه؛ بل لقد كتب باللاتينية رسالة طويلة في العقائد المسيحية ضمنها آراءه في الله وفي غرضه من خلق الناس وفي أصل الوجود وفي الحياة والموت وفي خطيئة آدم وخروجه من الجنة، وفي علاقة المرأة بالرجل ومنزلتها في المجتمع وفي السياسة والدولة
والحرية. وفي مسائل القضاء والقدر وما يتصل بها. .
ولكن كتابه هذا لم يعثر عليه إلا سنة 1823 أي بعد قرابة قرن ونصف من وفاته، وقد عثر عليه مصادفة ضمن إضبارة من الورق كانت تحتوي كذلك على صور مراسلاته اللاتينية الرسمية التي كتبها وهو في منصبه؛ وليس يعرف على وجه اليقين متى بدأ كتابة هذه الرسالة، وأكبر ظن المؤرخين أنه كتبها ما بين سنتي 1655 - 1660، وكذلك لم يعرف غرضه من كتابتها؛ ويرى النقاد من تقسيمها وتبويبها أنه يقصد بها أن تكون رسالة يدرسها الناشئون. ويقرؤها غيرهم من المثقفين ويرى آخرون أنه ضمنها خلاصة فلسفته لتكون مرشداً وهادياً لمن يقرأ قصيدته الكبرى فأكثر آرائه في القصيدة يتمشى مع ما ذكر في رسالته اللاتينية، وكلا العملين الفني منهما وغير الفني يلقي من الضوء على الآخر وما يكشف عن دقائقه ويوضح كثيراً من أسراره، ولعل هذا هو غرضه الحقيقي من كتابة هذه الرسالة، ولذلك نميل إلى أن نرجئ الكلام عنها حتى يأتي ذلك عند دراسة فلسفته في قصيدته الكبرى، ونكتفي الآن بأن نذكر أن ملتن اعتمد على الكتاب المقدس فيما أورد من آراء كما ذكر ذلك، ولكنه لم يتقيد بأقوال المؤولين والمفسرين قبله، بل اعتمد على تأويله هو تفسيره. فأتى بكثير من الآراء التي لا يتفق معه أحد فيها؛ ويعنينا ذكر هذا لأنه يدل على ناحية من نواحي شخصيته وهي حرية فكره ورغبته في التخلص من كل قيد، ولقد تجلت هذه النزعة فيه من قبل أيام كان يجادل القساوسة وأيام كان يدافع عن الطلاق. .
وما كان يظن أحد ممن حوله أنه سوف ينصرف عما أقبل عليه من شعر ومن دراسة؛ ولكنه ما لبث أن أنصرف عنهما سنة 1659 وعاد إلى كتيباته! ففي أوائل تلك السنة قدم للبرلمان رسالة عنوانها: (حول السلطة المدنية في الأمور الدينية لبيان أنه ليس من المشروع لأية قوة على الأرض أن تتبع الإكراه في مسائل الدين)؛ وأخذ يدافع عن الحرية الدينية ويعلن أشد سخطه على الاضطهاد الديني وإكراه الناس على غير ما يعتقدون، ولم يقتصر سخطه على غير البروتستنت، بل شمل البروتستنت كذلك، لأنه يمقت الاضطهاد والقهر أياً كان مصدره؛ ومعنى ذلك أنه يجب أن يقبل أن تتاح الحرية للكاثوليك، وإلا فكيف يحل لنفسه ما يحرم على غيره ويدعي مع ذلك أنه طالب حرية؟ ولكنه يناقض نفسه في هذا الأمر فيحاول أن يفلت من التناقض فيأتي برأي عجيب عن الكاثوليكية، فهي ليست
ديناً، ولكنها بقية باقية من حكومة روما، وعلى ذلك فلا تسامح معها في انجلترة خوفاً على سلامة الدولة، فما يضطهد الكاثوليك لمذهبهم، وما عوقبوا من قبل لإلحاد أو زبغ ولكن لخيانة؛ ومهما يقل ملتن فلن يستطيع أن ينفي عن نفسه ما يكرهه من غيره من اضطهاد وإكراه؛ وألح ملتن في هذه الرسالة في مطالبة البرلمان بما طالب به كرمول من قبل، وهو ألا تكون هناك كنيسة للدولة.
ونشر في أغسطس من السنة نفسها كتيباً عنوانه (نظرات في أمثل الطرق لطرد المأجورين من الكنيسة). وعنده أن أمثل هذه الطرق أن تتخلص الدولة من هؤلاء القساوسة جملة؛ فإطعام هؤلاء يمكن أن يوكل إلى من يقومون على رعايتهم وهديهم؛ وفي استطاعة القساوسة أن يجدوا لأنفسهم عملاً آخر وذلك خير لهم؛ وفي رأيه أنه ليس ثمة ضرورة لهؤلاء القساوسة، وأن المال الذي يعطي للكنيسة يمكن إنفاقه في أوجه كثيرة هي خير مما ينفق فيه، كأن تبني مدارس وتنشأ مكتبات تلحق بهاتيك المدارس، حيث يتعلم الناس اللغات والفنون بغير أجر تعليماً شعبياً لا يعوقهم عن مزاولة أي عمل يكسبون منه أقواتهم فتستنير بصائرهم ويرتفع مستواهم الثقافي فتنتشر المدينة في أنحاء الدولة.
وينبغي ألا يذهب رجال الدين إلى الجامعات، فما يتركون فيها إلا أسوأ الآثار، فهم كطلاب يكونون في الأكثر ضيقي الأفق أغبياء وليسوا أحسن حالاً وهم رجال، وخلاصة القول أنه يجب أن تتخلص المسيحية من هؤلاء المأجورين لتتحقق لها السعادة، فإن إفساد الدين على يد السلطة الزمنية يكون بإحدى وسيلتين القوة أو المال، وإفساده بالمال أشد من إفساده بالقوة، لأن القوة ممثلة في الاضطهاد قد تؤدي إلى ازدياد الاستمساك بالدين، ومن ثم تمتد جذوره وتسمق فروعه؛ أما المال فبه تشتري الضمائر وبه تستأجر الضعاف والجهلاء من المرشدين والقائمين على أمر الدين، ومن هنا يكون التدهور والفساد الحق
ولم يعد ملتن بطائل من وراء هاتين الصيحتين، فقد كان البرلمان في شغل بما هو أخطر من المسائل الدينية، فقد أخذت تصطرع الأهواء في عهد ريتشارد حامي الجمهورية الثاني، وتزايدت الدعوة إلى إعادة الملكية، وقل أنصار الجمهورية في البرلمان، وعاد إلى البرسبتيرينز شيء من قوتهم فرغبوا في الثأر من المستقلين وتفرق الناس على هذه الصورة شيعاً وأحزاباً، فلا غلبة إلا لمن يثبت أنه أقوى جنداً أو أكثر نفراً
وكان يدرك ملتن أنه كمن يصرخ في واد قفر من أهله فلا سميع ولا مجيب ولا صدى لصوته؛ ولكنه على الرغم من ذلك - كما يقول - مطمئن إلى أنه يفعل ما يجب عليه فعله وأن يفعله في وقته لا يبتغي إلا الخير لدينه ولوطنه
إن المرء ليمتلكه العجب من إصراره على هذا النحو ودأبه على محاربة رجال الدين، لا يدع فرصة ولا يدركه سأم؛ فها هو ذا يرسل عليهم سهامه في عهد ريتشارد مؤملاً أن يجد عنده من القبول ما لم يجده عند أبيه، ويميل بعض من كتبوا حياة ملتن إلى رد هذه الصرامة إلى حنقه عليهم وعلى الأخص البرسبتيرنز لما نال من أذى على أيديهم ولأنهم أعلنوا طرده من الكنيسة، ويرى غير هؤلاء أن مرد قسوته عليهم إلى عقيدة في نفسه لا يتحول عنها وهي أن تسلط رجال الدين مهما يكن مذهبهم على شؤون الدولة هو سبب كل طغيان وكل خنق للحرية، ولما كان يكره الاستبداد من أعماق قلبه بقدر ما يحب الحرية فقد انصبت كراهيته على هؤلاء الذين يرى فيهم رمز العناد الغبي، والتسلط الأحمق، وزاده إيذاؤهم إياه يقيناً بأنهم أصل كل شر، وسبب كل رجعية لأنهم خاصموه من أجل مبادئه في الزواج والطلاق، وهو لم يرد بهذه المبادئ إلا الخير للإنسانية جميعاً، وما ساوره شك في أن ما دعا إليه إنما هو الحق.
(يتبع)
الخفيف
حول بيت لأبي نواس.
. .!
للأستاذ عباس حسان خضر
مات أبن الحجاج وأخوه في يوم واحد، وكان اسم كل منهما محمداً، فقال:(يا الله! محمد ومحمد في يوم!) فكرر محمداً، ولو قال:(محمدان في يوم) لما أدى المعنى الذي أداه التكرار، فأحد المحمدين أبنه والآخر أخوه، وهو بالتكرار يفصل الفاجعة فيهما، وما تقوم التثنية بنقل هذا الشعور إلى السامع، أو قل ما شئت في التعليل، ولا أشك في أننا متفقون على حسن التكرار هنا، وأن التثنية لا تغني شيئاً.
وقال أبو نؤاس:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
…
بها أثر منهم جديدُ ودارسُ
مساحب من جر الزقاق على الثرى
…
وأضغاث ريحان جنىّ ويابس
حبست بها صحبي فجددت عهدهم
…
وإني على أمثال تلك لحابس
ولم أدر من هم غير ما شهدتْ به
…
بشرقيّ ساباط الديار البسابس
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً
…
ويوماً له يوم الترحل خامس
أفترى التكرار في البيت الأخير حسناً كذاك، أم تراه معيباً لا غناء فيه؟
وقع نظري في كتاب (البلاغة الواضحة) لمؤلفيه الأستاذين علي الجارم بك ومصطفى أمين بك على هذا البيت (أقمنا بها. الخ) مسبوقاً بهذه العبارة: (بيّن ما تراه في الأبيات الآتية من العيوب البلاغية) ومتلوَّا بأبيات أخرى. تأملت هذا البيت المتهم بالعيوب البلاغية وهو ماثل في قفص التمرينات المطلوب حلها. . فلم أر به ما يريب، ثم رجعت إلى نفسي وكدت أتهم عقلي بالقصور، وتخيلت أني طالب ألقي إليه بهذا لسؤال في الامتحان، فهالني الصفر الأحمر يسقط عليّ من قلم الممتحن المهيب. . ثم لمحت رقماً بين قوسين على آخر البيت، فتبعته إلى الهامش حيث وجدت به:(يريد انهم أقاموا ثمانية أيام، عد منها ثلاثة في الشطر الأول، ثم أضاف إليها خمسة في الشطر الثاني، لأنه يقول إننا أقمنا بعد ثلاثة الأيام الأولى يوماً له يوم الرحيل خامس أي خمسة أيام أخرى) فذهب عني الفزع وقلت: وهذه مسألة أخرى أرى الخطأ فيها ظاهراً، مما يطمعني في تبرئة البيت مما يراد لصقه به من العيوب البلاغية.
ويلحق بهذا الكتاب القيم - رغم ما نحن بصدده - كتاب أسمه (دليل البلاغة الواضحة) لنفس المؤلفين، يشتمل على حل التمرينات التي تضمنها كتاب (البلاغة الواضحة). فلا بد أن يكون به بيان (العيوب البلاغية) الموجهة إلى بيت أبي نؤاس، وهناك رأيت (في هذا البيت تكرار غير مفيد، فإن أبا نؤاس يريد أن يقول إننا أقمنا بها ثلاثة أيام، فكرر كلمة (يوماً) تكراراً معيباً لا غرض فيه، ولا قصد منه، والتكرار إذا لم يورث اللفظ حلاوة، ولم يكسب المعنى طلاوة كان ضرباً من السخف والعيّ، والعجب لأبي نؤاس يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش مع أبيات عجيبة الحسن تتقدم هذا البيت).
ووجدت بالهامش تعليقاً على ثمانية الأيام ما يلي: (في المثل السائر أن أبا نؤاس يريد أن يقول إنهم أقاموا بها أربعة أيام).
وفي كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) قال مؤلفه الشيخ ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد بن محمد أبن عبد الكريم الموصلي الشافعي في باب التكرير: (وعلى هذا الأسلوب (يشير إلى ما سماه التكرير في اللفظ والمعنى غير المفيد) ورد في قول أبي نؤاس:
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً
…
ويوماً له يوم الترحل خامس
ومراده من ذلك انهم أقاموا بها أربعة أيام، ويا عجباً له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن التي تقدم ذكرها في باب الإيجاز وهي: ودار ندامى عطلوا وأدلجوا. . .).
ولقد وددت لو وافق صاحبا (البلاغة الواضحة) مؤلف (المثل السائر) في عدد أيام الإقامة بدار الندامى، وخالفاه في تهجين البيت، ورميه بالسخف والعي. . ولكنهما عكسا، فعارضاه في الأولى، وأخذا بالثانية، وإن كان أدق منهما في عجبه من وقوع هذا البيت في ضمن أبيات عجيبة الحسن وعجبهما من وقوعه بعد أبيات عجيبة الحسن، لأن الأبيات التالية له لا تقل حسناً إن لم تزد عن التي تتقدمه، وها هي ذي:
تدور علينا الكأس في عسجدية
…
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
…
مهاً تدريه بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبهم
…
وللماء ما دارت عليه القلانس
قال الجاحظ: نظرنا في شعر القدماء والمحدثين، فوجدنا المعاني نقلت، ورأينا بعضنا يسرق من بعض إلا قول عنترة:(وخلا الذباب بها فليس ببارح) وقول أبي نؤاس: (قرارتها كسرى. . الخ).
وأرجع إلى جادة البحث فأقول: إنني أخالف مؤلف المثل السائر وصاحبي البلاغة الواضحة في الزراية على بيت أبي نؤاس ورميه بالتكرار المعيب، وأخالف الأخيرين في أن أبا نؤاس وصحبه أقاموا بدار الندامى ثمانية أيام؛ وأقدم الكلام على المسألة الثانية لأفرغ للأولى.
الشطر الأول: (أقمنا بها يوماً ويوماً ثالثاً) يدل على ثلاثة أيام قطعاً، أما الشطر الثاني (ويوماً له يوم الترحل خامس) فيقول صاحبا البلاغة الواضحة إنه يدل على خمسة أيام أخرى، وإني لأعجب كيف يقولان ذلك وهما معدودان في الصف الأول من رجال اللغة العربية في هذا العصر، وهل يستقيم في العربية أن تقول - على رسم ذلك -: أقمت يوماً في الإسكندرية له يوم السفر خامس؟! إنهما يعلمان أن صيغة (فاعل) من العدد لا تكون في مثل هذا الاستعمال إلا مصيره ما تحتها بدرجة واحدة مساوياً للعدد الذي اشتقت منه، أو دالة على بعض العدد الذي اشتقت منه، فيقال خامس أربعة وخامس خمسة، ولا يقال خامس واحد أو اثنين أو ثلاثة. وعلى أن هذا لا يدل قوله (ويوماً له يوم الترحل خامس) إلا على أن هذا اليوم هو الرابع ويوم الرحيل خامسه؛ فالبيت يدل على أنهم أقاموا أربعة أيام وسافروا في اليوم الخامس.
أما الحملة العنيفة التي حملها الشيخ ضياء الدين على التكرار الوارد في بيت أبي نؤاس وتابعه فيها صاحبا البلاغة الواضحة، إذ عّدوه تكراراً معيباً سخيفاً، وعجبوا من الإتيان به في ضمن أبيات عجيبة الحسن - فإني أرد هذه الحملة عن البيت، وأريح العاجبين من عجبهم الذي لا محل له، لأن البيت نفسه عجيب كالحسن كأخوته، وما كان لأبي نؤاس - وهو أبو نؤاس وقد واتاه الإبداع في سائر الأبيات - أن يسف هذا الإسفاف بحيث يكون كل ما يريد أن يؤديه بهذا البيت أنهم أقاموا بالدار أربعة أيام أو ثمانية ويرتكب لتأدية هذا المعنى التافه ذلك التكرار الذي لا غرض فيه ولا قصد منه!
إنما يقول أبو نؤاس إن هذه الدار التي غادرها أهلها مخلفين بها آثاراً تدل على ما كان لهم
بها من لذات الشراب وطيب العيش عرجنا عليها لنجدد عهد الراحلين عنها، فأقمنا بها يوماً كان العزم أن نرحل بعده، ولكن طابت لنا الإقامة فمكثنا يوماً آخر، وحلا لنا التمادي في التمتع بلذة الشراب بهذا المكان فتلبثنا يوماً ثالثاً، واستمرأنا الإقامة على هذه الحال فتراخينا يوماً رابعاً، وفي اليوم الخامس اضطررنا إلى الرحيل.
فهل كان يمكن أن يؤدي هذا الشعور بغير ذلك التكرير! وأن العائبين عليه ليريدون أن يقيموا من البيت جداراً مسموكاً لا تنفذ منه أشعة ذلك الإحساس المعهود في الحالات التي تستطيبها النفس وتتمنى دوامها. وأي تكرار يورث اللفظ حلاوة، ويكسب المعنى طلاوة إن لم يكن هو هذا التكرار. .؟
ولقد أتى أبو نؤاس بنوع آخر من التكرار إذ قال في وصف صاحبته جنان:
والحسن في كل عضو
…
منها معاد مردَّد
فليس هذا التكرار في اللفظ ولا في المعنى، بل المكرر الجمال يرى معاداً مردداً في كل عضو من أعضائها، وهذا التكرار ليس كمثله إلا (تكرير) السكر. . .
ويجرنا حديث التكرار إلى بعض المفارقات العجيبة في هذا الباب، فبينما تجد نسقاً منه لم يدفع إليه إلا العي والحمق، إذا أنت ترى ما يشبه هذا النسق مقبولاً مستساغاً قال الجاحظ في باب العي من (البيان والتبيين):
(وتزعم بنو تميم أن صبرة بن تيمان قال في حرب مسعود والأحنف: إن جاء حتات جئت، وإن جاء الأحنف جئت، وإن جاء جارية جئت، وإن جاءوا جئنا، وإن لم يجيئوا لم نجئ!)
وأنت تعرف التكرير الذي أحلولي به أسلوب الدكتور طه حسين بك، والعجيب أن نحواً منه يشبه الكلام المعزو إلى صبرة بن تيمان. وهناك أمثلة من مقال له عن كتاب (نابليون) تأليف إميل لودفيج في مجلة الكاتب المصري الصادرة في أول أكتوبر الحالي:
(ولست من المعجبين بإميل لودفيج وفنه إعجاباً شديداً. ومصدر هذا في أكبر الظن أني لم أقراه في نصه الألماني، ومصدر هذا في أكبر الظن كذلك أن بين خياله الألماني البعيد وتفكيره الألماني الملتوي وبين خيالي القاصر وعقل العربي الذي يواجه الأشياء أكثر مما يدور حولها، أمداً بعيداً، ومصدر هذا في أكبر الظن كذلك أني حاولت أول ما حاولت أن أعرف لودفيج عن طريق كتابه عن حياة المسيح، ومن طريق كتابه عن حياة جوت، فلم
أستطيع أن أمضي في الكتابين إلا قليلاً، ومصدر هذا آخر الأمر أني لقيت لودفيج في القاهرة حين زار مصر مهنئاً لإنشاء كتابه عن النيل، فلم أحمد لقاءه ولم يحمد لقائي)، وفي نفس المقال:(يظهرنا لودفيج على هذا كله وعلى أكثر جداً من هذا كله، في هذا الكتاب الذي لم يخلص للتاريخ ولم يخلص للقصص، وإنما كان مزاجاً منهما).
على أن بعض الناس لا يرتضون هذا التكرار الذي تشتمل عليه كتابة الدكتور طه حسين بك، وغيرهم يعجبون به، ويعدونه حلواً طلياً.
عباس حسان خضر
لا أدري.
. .
للأستاذ حسين الغنام
أسائل شاطئ البحر
وأسأل نجمة الفجر:
إلى مَ يلجُّ في الهجر
ويُمعن ساحري نأيا؟
وضاق بنأيه صبري
فمالت، وهي لا تدري
وعدت أسائلُ البحرا
ورحتُ أخاطبُ البدرا
هناك، بمهجةٍ، حَرّي:
ألم تَرَيا هنا ظبيا
أغنَّ وفتنةً كبرى؟
فقالا: نحن لا ندري
وقال البحر في إرغاءْ
لكم مرّتْ عليَّ ظباءْ
وقال البدرُ في ُخيَلاءْ:
وإني لستُ معنيا
فكم مرت هنا حسناءْ
فمن فيهن؟ لا أدري
وقال البدرُ في عتْبي
إليكَ عرائسَ الحبَّ
فِشمْ فيهن من ُتصبي
هواك، أمهد اللقيا
يظلي الوارِف الرحبِ
تكلمْ! قلت: لا أدري
فظَبي، إنه حسبي
لقد أسكنتهُ قلبي
وكم من ريقه العذب
نهلت، ولم أجد رِيَّا
سواه لقلبي الصَّبّ
فأين؟ فقال لا أدري!
وسرت أسائل الليلَا
ومرَّ الليلُ وانسلاَّ
فعد أسائل الطَّلاّ
وظلْتُ أُسائل الدنيا
لأيةِ بقعةٍ ولي
غزالي الحلوُ، لا أدري!
(المندرة - الرمل)
حسين الغنام
البريد الأدبي
حرية الكتابة:
اطلعت على مجلة (الرسالة) عدد 692 فقرأت فيها موضوعاً عنوانه (مقالات في كلمات: للأستاذ علي الطنطاوي) لفت نظري فيه فقرة حول (حرية الكتابة) تعرض فيها إلى موضوع نشر في مجلة (الثقافة) الغراء التي تصدر في دير الزور عن (الموازنة بين الأدب والأدب الفرنسي)، وقد أسعدني الحظ أني أنا أيضاً اطلعت على الموضوع نفسه في المجلة نفسها، فإذا هو لا يخرج عن كونه مقارنة تحليلية طيبة بين الأدبين، حاول فيها الكاتب أن يكون باحثاً موضوعياً جهد المستطاع. فاستغربت جد الاستغراب أن يتجاوز السيد علي الطنطاوي حدود النقد النزيه القائم على المناقشة العلمية الهادئة التي لا علاقة لها بالعاطفة والمزاج الشخصي.
يذكر الناقد فكرة (السكون والحركة) التي وردت في المقال، ويعلق عليها بأنه لم يفهم منها شيئاً. ولو رجع - حفظه الله - إلى فلسفة اليونان لوجد أن فكرة السكون والحركة قد لعبت دوراً كبيراً من المدرسة (الأيلية) إلى المدرسة (هرقليط) على أن فكرة السكون ليست مأخذاً على الأدب العربي، فالطمأنينة النفسية هي غاية ما يتوخاه المؤمن المتعبد، بدليل الآية الكريمة (يا أيتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك. .).
أما حملته على (حرية الكتابة) فنحن نرفضها جملة وتفصيلاً فإنما تحت ظلالها الوارف أينعت المدينة الإسلامية، كما أينعت المدنيات القديمة والحديثة من العهد اليوناني إلى العصر الحديث. وإذا كنا نفخر بشيء فإنما نفخر بحرية الكلام وحرية الفكر وحرية الكتابة التي شع نورها في بغداد والقاهرة ودمشق، والتي أثمرت تلك العلوم والفنون التي لا نزال نتغنى بها فيما نتغنى بأمجاد الماضي والتهمة التي ألصقت بنا في حرق مكتبة الإسكندرية قد نجمت عن ضيق بعض العقول التي كانت تتصور في وهمها بأن العرب أعداء الفكر والعلم والأدب الأجنبي. فلم تنشأ البذرة الأولى للعلوم في العهد العباسي إلا بعد أن أدرك العرب أن عند غيرهم من الأمم علوماً وفلسفة يجب أن يطلعوا عليها وأن يتأثروا بها.
(لا إكراه في الدين)، هذا هو المذهب العربي الصميم. فليس من الضروري أن توافق الآراء بعضها بعضاً، ولا أود أن أبدي رأيي الشخصي في الموضوع، ما دام الناقد
الطنطاوي لم راع في نقده مبادئ النقد الأولية. فله رأيه إذا كان مخالفاً لصاحب المقال، شريطة مع ذلك أن يكون جارياً على أصول المنطق والذوق والتهذيب، وعدم مزج المهاترة والألفاظ النابية في البحث العلمي، وإني مثلاً لا أفهم ما هو مكان النزعة السياسية في النقد الأدبي!. .
ويدخل في هذا الباب أيضاً مزج الأخلاق بالأدب، فليس غرض الكاتب صاحب المقال في (الثقافة) أن يدعو إلى الإباحية. . . وقد عرفناه في جميع ما يكتب بعيداً عنها بعد الأرض عن السماء. فهو لا يبتغي كما يوحي مقاله إلا بيان خصائص الأدبين العربي والفرنسي، على حسب ما وصل إليه جهده ونزاهته، فإن لم يصب المرمى على رأى الناقد، فحسبه أن أجتهد (وللمجتهد أجره وإن أخطأ).
أما قولك يا سيد على بأن الكاتب لا أخوات له ولا بنات، فلا ينطبق على الحقيقة، ولا دخل له في موضوع النقد الأدبي. أما إذا كان في النية بيان تأثير الأدب في الأخلاق، وما ينجم عن ذلك من فضائل ورذائل، فلذلك طريقة خاصة في البحث غير الطريقة التي سلكتها. . .
وأختم كلمتي بالرجاء إلى السيد علي الطنطاوي أن يتقبل ملاحظاتي المتواضعة بصدر رحب، كما أني أرجو جميع الناقدين أن يلتزموا حدود البحث العلمي، والحيادية، والتجرد عن النزعات الشخصية، وعن الطعن البعيد عن الروح الموضوعية، كي تثمر مناقشاتنا الثمرات المؤملة، والسلام.
(حلب)
الدكتور محمد يحيى الهاشمي
من أساليب النقد عندنا:
إن القارئ المنصف ليأخذه العجب حين يطالع تلك الفصول التي يكتبها النقاد المحدثون؛ فأكثرها يمليه الهوى، ولا يصدر من رأى خالص لوجه الحق، ولا سيما ما يكتب مقدمات لكتب المؤلفين، ودواوين الشعراء، ولكن العجب الذي لا يكاد ينتهي ما يلاحقك حين تقرأ لناقد واحد لكتاب واحد في أسبوع واحد كتابين متناقضين.
كتاب (نفحات من سيرة السيدة زينب) وضعه الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي ونقده الأستاذ كامل السيد شاهين في مجلة (الرسالة) بتاريخ 12 من ذي القعدة سنة 1365، وفي مجلة الإسلام بتاريخ 16 من الشهر نفسه فبين الكلمتين أربعة أيام فقط، ولكن هذه المدة القصيرة غيرت رأي الناقد. ولو كانت إحدى المجلتين تصدر في أمريكا أو في الصين، ولو كان بين النقدين زمن طويل لالتمسنا للناقد عذراً، ولا يمكن أن يحمل كلامه في (الرسالة) إلا على أنه مجاملة لزميله وصديقه، ولكن كان يجب أن يفهم أن (الرسالة) ومثيلاتها من المجلات التي تكتب للخاصة ليست موضعاً للمجاملات.
ولنسق جملة من كلتا الكلمتين ليعرف القارئ إلى أي مدى تكون المجاملة. وفي مقال الرسالة ص1122 (والكتاب بعد ذلك عرض تاريخي أنيق لحياة هذه السيدة الكريمة. فللوعاظ والمرشدين والمؤرخين المعنيين بتحقيق الشخصيات الإسلامية البارزة لهؤلاء جميعاً وضع هذا الكتاب جامعاً بين دقة البحث وطلاوة الأدب. . الخ). فالكتاب إذن للمؤرخين الذين يعنيهم التحقيق والتدقيق وصاحبه قد بذل فيه جهداً جباراً حتى جاء دقيق البحث، فما له يصبح في مجلة الإسلام عارياً عن التحقيق جامعاً بين الغث والثمين والطم والرم، حتى في أخص ما يجب فيه التحقيق وهو تأويل آيات الله الكريمة قال الناقد ص 18 (نحا المؤلف في تأويل الآيات القرآنية منحى شيئاً، وذلك يذكرنا بشر ما يقع فيه إنسان أن يكون كتاب الله الكريم خاضعاً في تأويله لمجارى الأهواء، وقد انساق كثير من المفسرين في هذا التيار عن غفلة وثقة بمن يأخذون عنهم، وما كنا نحب من المؤلف أن يأخذ مما قاله الرواة والمفسرون بدون تحقيق ولا تمحيص). وإذا كان في هذه الفقرات يعيب على صاحبه عدم التحقيق في تفسير الآيات القرآنية، فهو في موضع آخر يعيب عليه عدم التحقيق في الروايات التاريخية وهي ما قام الكتاب عليها، فلا مندوحة لمن يقرأ كلماته أن يعتقد أن المؤلف لم يحقق ولم يدقق في أصول كتابه أو فروعه. قال الناقد في مجلة الإسلام ص18 أيضاً (وآخر ما أذكر به المؤلف أن يراجع ما كتب، ولا يأخذ من أفواه المؤرخين والمفسرين أخذاً لينظر فيما قيل ويعرضه على شك عقله، وحقيقة دينه، فأما أن يجمع بين الغث والسمين فذلك غير ما نأمل فيه)، وقد تلفت القارئ هذه الكلمة من الناقد (وحقيقة دينه) ولا عجب فإن الناقد يرى المؤلف بعيداً عن روح الإسلام في بعض ما
كتب، قال بع أن ذكر تأويل المؤلف لآيتين من كتاب الله، وذكر هو تفسيرهما:(هذه هي روح الإسلام الصحيح ولا ينبغي أن يبتعد عنها رجل يبتغي بعلمه وجه الله ورسوله، فإن كنت يا سيدي تؤمن بأن الله اصطفى طائفة من نور، وجعل طائفة من نجس فذلك عن روح الإسلام بمعزل).
والناقد يشير بقوله: (ولا ينبغي أن يبتعد. . الخ) أن المؤلف قصد بما ساقه عن آل البيت تملق العامة وابتغاء ما عندهم ثم ترى أن الأستاذ شاهين يذكر لصاحبه في مجلة (الرسالة) أنه تناول التربية الشعبية (بروح جديدة هي روح عالم النفس الحاذق)، ولكنه في مجلة الإسلام يقول:(ولا أنسى أن ألوم الحسين، فأن هذا الكتاب للعامة ولا يصح أن تساق هذه الأشياء وأمثالها فيتخذها العامة ذريعة لاستحلال ما حرم الله. والحرام حرام مهما كانت مكانة فاعله ومنزلته).
(وبعد) فإن القارئ يتبين بما نقلته مدى التناقض بين كلامي الناقد، وإنه بصنيعه هذا في المجلتين، وما ساقه امتداحاً لصاحبه ثم ما عقب به من هذا النقد الذي يهدم كل ما بناه ليذكرنا بما قاله المرحوم شوقي بك على لسان أحد أبطال روايته مجنون ليلى يخاطب منازلاً غريم قيس في حب ليلى:
منازِ بابن العم ما هذا الخبر
…
رفعت قيساً فجعلته القمر
والآن أغربت بقتله الزمر
…
كفعل جزار اليهود بالبقر
برأها من العيوب وعقر
أما رأيي فخلاصته أن المؤلف - على ما نعهد فيه من علم وفضل - كان في هذا الكتاب خاطب ليل، وأنه استهدف لنقد عنيف محق وأمكن الرامي من صفاء الثغرة كما يقول العرب في أمثالهم.
علي العماري
إلى الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي:
ذكرتم في النقلة 697 قصة عن محمد بن الحسين اللخمي وتلميذه، وفي ختامها هذه الأبيات:
رب ما أقبح عندي عاشقاٌ
…
مستهاماً يتفقَّا سمنا
قلت من ذاك؟ أنا؟ فاستضحكت
…
ثم قالت: من تراه؟ فأنا
قلت زوريني فقالت عجباً
…
أنا والله إذن قارئ منى
إذ يصلي وعليه زيتهم
…
أنت تهواني وآتيك أنا؟
فمن هو قارئ منى الذي يصلي بالناس وزيتهم عليه؟ وهل هذه القصة حقيقية؟
(البصرة)
محمد حسين إسماعيل
في إرشاد الأريب:
كنت أراجع مقالات الأستاذ إسعاف النشاشيبي في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب فعرض لي في العدد (655) من (الرسالة) الغراء ما أردت إثباته، وبالله العون.
جاء في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ج 9ص8: فكتب إليه المهلبي: وصل كتابك يا أخي. . المتضمن نفيس الجواهر من بحار الخواطر، الحاوي ثمار الصفاء من منبت الوفاء وفهمته، ووقع من نظم ونثر. . موقع الري من ذي الغلة، والشفاء من ذي العلة، والفوز من ذي الخيبة، و (الأدب) من ذي الغيبة، وجاء في الشرح: الأدب التأديب.
ورأى العلامة النشاشيبي في تحقيقاته أن المهلبي قال: (والغنم منذي الغيبة) ويعزي إلى أمرئ القيس:
لقد طوفت في الآفاق حتى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
وأظن أن الصواب هو (والأوب من ذي الغيبة) والبيت الذي أورده الأستاذ لامرئ القيس دليل يظاهر ما أوردته في سياق المعنى المراد.
هذا، وفي الختام إلى أستاذنا المحقق تحياتي، والسلام.
(الزيتون)
عدنان أسعد
أبو شاس ليس هو أبا نؤاس:
رأى الأستاذ شكري محمود أحمد في (الرسالة) الغراء (688) أن أبا شاس الشاعر هو أبو نؤاس نفسه وإنما صحفه النساخ، وقد أيد رأيه بأبيات منسوبة لأبي شاس وهي موجودة في ديوان أبي نؤاس.
وإني أقول للأستاذ إن لفظة أبو شاس قد وردت لعلمين من أعلام الأدب العربي كما في معجم الشعراء للمرزباني وهما أبو شاس التميمي وأبو شاس الطبري.
فأما التصحيف الذي ذكره الأستاذ فلا يمكن أن يقع على مثل هذه الكلمات لبعد الشبه بينها.
وأما الأبيات التي استشهد بها فيمكن أن تكون لأبي نؤاس وإنما وجدت منسوخة عند أبي شاس من غير أن تعزى إلى أحد فظنها من وجدها عنده أنها له فأذاعها بين الناس باسمه فنسبت له.
كما أن أبا نؤاس لم ينفرد بهذه الكنية بل هناك أبو نؤاس آخر هو أبو السرى سهل بن يعقوب المكنى بأبي نؤاس قيل إنما كنى بذلك لأنه كان يظهر التطيب والتخالع مع الناس فسمي أبو نؤاس لتخالعه وقد كان محدثاً فقيهاً.
(كر بلاء)
م. ع. ك
رجاء:
لاحظت أن كثيراً من الأدباء ينشرون المقالة في (الرسالة) ثم بعد ذلك ينشرونها في الثقافة، ومن هؤلاء العلامة الدكتور محمد البهي في مقالة (الدين الصناعي)، والأستاذ الشاعر محمد رجب البيومي في قصيدة (مقبرة ريفية) والأديب الفاضل أحمد عبد المجيد الغزالي في مقاله (الصراصير). . . ومن المعلوم أن قراء (الرسالة) في الغالب - هم قراء الثقافة فما الداعي إلى ذلك؟ مع أننا معشر القراء - نريد الطريف الجديد لا المكرر المعاد!!. . .
سعاد كامل
رسالة النقد
القافلة الضالة. . .
تأليف الأستاذ محمود كامل المحامي
(منشورات دار الجامعة)
للأستاذ شاكر خصباك
للأستاذ محمود كامل المحامي باع طويل في القصة القصيرة، فقد أخرج منذ أن اقتحم هذا الميدان حتى الآن ما يقارب الخمسة عشر مؤلفاً، ضمت بين دفتيها عشرات الأقاصيص والقصص. هذا عدا الروايات الطويلة والقصص المسرحية التي احتوتها ثمانية مؤلفات. فكتابه (القافلة الضالة) إذن ليس ألو محاولة قصصية يقوم بها، وفي هذه الحالة يترتب علينا عدم الإغضاء عن أي ضعف في أسلوب أقاصيصه الحديثة، أو تشويش في حوادثها، أو ركاكة في لغتها. إذ لو وقع في مثل هذه الأغلاط التي تفتقد القصة بعض مميزاتها الفنية قصاص مبتدئ لتسامحنا معه بعض المسامحة. أما والأستاذ محمود كامل قصاص قديم فسنلجأ إلى التشدد والصرامة في محاسبته على ما اعتور مؤلفه من أغلاط فنية كثيرة.
- 1 -
فلنتصفح الكتاب ولتناول قصصه قصة قصة؛ فقد افتتحه بقصة (موسيقار الطريق)
وملخصها: (أن نادية - وهي مدرسة للموسيقى في إحدى المدارس الثانوية - سافرت في الصيف إلى (عتاقة)، فأحبت هناك موسيقاراً شاباً وأحبها، وتوثقت بينهما عرى الصداقة، وقويت أواصر الود، ولكن ما كادت تمضي على اجتماعاتهما ثلاثة أيام حتى فرت نادية عائدة إلى القاهرة. . لماذا؟! لأنها خشيت أن يتمكن حب هذا الموسيقار في قلبها، في حين انه قد يكون شاباً من هؤلاء الشباب الذين يقضون فترة خاطفة من الوقت على شاطئ البحر ليقتنص أثناءها فتاة من المصادفات يخدعها ويلهب عاطفتها، ثم يفترق عنها ولا يعود يسعى إليها أو يسمع بها كأن أحداً لم ير الآخر!!
غير أن هذا الموسيقار تبعها إلى القاهرة وهو لا يعرف عنوانها غير الشارع الذي تسكن
فيه، فلجأ إلى أسلوب غريب (وغريب جداً) في البحث عنها: وهو أن يحمل أكورديونه ويجوب في ذلك الشارع ليلاً متغنياً بقطعة غنائية كان قد غناها لها آخر مرة. واستمر على ذلك بضع ليال دون أن يبالي بصحو الجو أو اكفهراره، حتى أن الماء كان يتساقط من كتفيه في بعض تلك الليالي الماطرة. وأخيراً شاءت له المصادفة أن يعثر عليها فتم بينهما الزواج)
وهكذا تنتهي من القصة!!
وبعد، فهل سمعت من قبل أو من بعد أن محباً حمل آلته الموسيقية وانطلق يجوب بها الشارع الذي تسكن فيه حبيبته، وهو يغني ويعزف كيما يستجلب انتباهها؟! قد تكون سمعت بمثل هذا في أقاصيص العجائز الخيالية البعيدة عن الواقع، أو في أقاصيص بعض القصاصين الكلاسيكيين أمثال شكسبير وبوكاتشيو وسرفانتيس. وأما أن تقرأه في كتاب قصصي لمؤلف مصري معاصر؛ يقول في مقدمة كتابه إن:(أقاصيصه عبارة عن مجموعة صور منتزعة من الحياة الاجتماعية المصرية). فالحق معك إن استغربت من ذلك وأغرقت في استغرابك. إذ أن مثل هذا التصرف الشاذ بالنسبة لعادات وحياة المجتمع المصري بعيد عن الوقوع كل البعد. وبما أننا نعني ب (الصور الاجتماعية) الحوادث التي يتكرر وقوعها حتى تصبح من سمات المجتمع؛ فهذه القصة إذن قد فقدت طابعها الفني - باعتبارها قصة اجتماعية واقعية - ببعدها عن الحقيقة وإغراقها في الخيال، وأقصد ببعدها عن الحقيقة عدم واقعية تكرر حدوثها في المجتمع المصري ذاته، ولا علينا أن يحدث لأحدهم أن يحمل أكورديونه ويعزف عليه ويغني وهو يجوس في ظلمات الليالي في الشارع الذي تسكن فيه حبيبته في بلاد أخرى أو لا يحدث ما دامت القصة مصرية وليست أجنبية!
ويكفي هذا السبب للحكم على هذه القصة بالفشل، لأن تجوال صاحبنا جمال في شارع يلبغا بشبرا وغناءه وعزفه كيما تسمعه حبيبته نادية وتخرج له. حادث رئيس في القصة ترتكز عليه حوادث مهمة ونتائج خطيرة. ومن هنا أطلق المؤلف عليها أسم (موسيقار الطريق). ولما كان هذا الحادث فاشل - لافتقاره إلى الصدق والواقع - فإن ما ارتكز عليه من حوادث ونتائج فاشلة بالطبع، فالقصة فاشلة إذن
- 2 -
ونفرغ من القصة الأولى فنتناول القصة الثانية وهي (رسائل حب). وفي ظني أنك لو قرأت يا عزيزي القارئ هذه القصة لما خرجت منها بشيء. وهذا ما حدث لي بالضبط عند قراءتها فاستمع الآن إلى ملخصها علك تجد شيئاً من الصحة فيما ذكرت:
ف (ممدوح صادق طالب في كلية الهندسة: سافر مع أسرته في الصيف إلى الإسكندرية، فالتقى هناك بسنية في أحد الملاهي، وكانت هذه في صغرها تسكن في نفس الشارع الذي تسكن فيه أسرته، لكن والدها التاجر أفلس أخيراً فانتقل إلى حي آخر، ولم ير سنية منذ ذلك اليوم، فلما رآها الآن تملكه شعور قوي جذبه إليها، واضطر إزاء ذلك الشعور أن يتعرف إليها، ثم جلسا حول مائدة يتحدثان عن الماضي والحاضر، فعلم أنها قد أصبحت ممثلة، وعلمت أنه طالب في كلية الهندسة، ومن ثم اتفق معها على أن يبعث لها برسائل غرام عندما تعود إلى القاهرة، وذلك لأن أحد ناشري الكتب أوصاه أن يكتب رسائل غرام حقيقية لينشرها له - وهنا يجدر بي أن أشير إلى أن لممدوح صادق ميلاً إلى القصة، وقد نشر في بعض المجلات أقاصيص قصيرة - ولكنه لم يوف بوعده بعدئذ، بل كتب الرسائل بها لنفسه عملاً بوصية الناشر.
ومضت الأيام سراعاً، وإذا بخطاب يصله من سنية ذات يوم تبلغه فيه أن رسالته الغرامية التي بعث بها إليها مدهشة جداً، وأنها حازت إعجابها، وأنها تأمل أن تراه قريباً. فدهش لأنه لم يبعث لها بأية رسالة، وظل فريسة للقلق والاضطرابات إلى أن عاد إلى القاهرة مع أسرته. فسأل عن سنية وعلم أنها سافرت إلى إحدى قرى الريف لتصوير مناظر فلم جديد.
وقصد ذات يوم إلى حلاق قريب من داره، فبدأ صبي الحلاق يؤدي عمله، وفتح الدرج الذي أمامه ليخرج (المسن) الجلدي، فلمح ممدوح صورة لسنية متقطعة من صحيفة من الصحف ومحاطة بإطار رشيق، وسأل الصبي عن أسمه ولقبه، فإذا هو (ممدوح أسعد). وسأله عن علاقته بسنية فأخبره أنه رآها مرة في حياته فأعجب بها أشد الإعجاب. وقد بحث عن صورتها طويلاً فعثر عليها في إحدى الصحف واقتطعها منها، وأنه يكتب لها كلما شاء أن يفضي إليها بشيء. وأخبره أيضاً أنه يكتب في المجلات بعض القصص والأزجال!
. . ومضت أيام على اجتماعه بذلك الصبي، وإذا ببرقية من بور سعيد تصله من سنية:
تطلب منه فيها أن يوافيها إلى محطة القطار. وبعد تردد طويل أجاب طلبها. وما كاد القطار يبلغ المحطة حتى قفزت سنية من العربة وتعلقت به، وانطلقت تطري مقدرته الأدبية، ثم قدمت له مجموعة من الرسائل الأنيقة (الزرقاء) التي كانت موقعة بتوقيع (ممدوح أسعد). ثم سألته عن سر هذا التبدل في أسمه، فأخبرها أن (ممدوح صادق) الاسم الذي يعرف به في المدرسة، و (ممدوح أسعد) أسمه الحقيقي، والذي يعرف به في عالم الأدب
وبعد المقابلة عاد إلى المنزل مهدم الأعصاب، وقد فهم السر. وفتح الدرج الذي اعتاد أن يحفظ به رسائله التي كتبها لسنية، وانطلق يتلوها في خيبة أمل ومرارة، وقبل أن يتم تلاوتها سمع صراخاً وصوت احتشاد أقدام في الشارع. فلما استطلع الخبر علم أن الترام قد قتل الصبي ممدوح أسعد الحلاق. فاستغل هذا الحدث لصالحه ومزق رسائله وألقاها في الموقد، وذهب برسائل ممدوح أسعد إلى مجلة معروفة نشرتها له في أعداد متسلسلة. وبعد بضعة أسابيع قرأ في نفس المجلة خبراً يتعلق بسنية التي كانت قد سافرت مع فرقة تمثيلية إلى مراكش وفاس مفاده أنها تزوجت بأحد تجار الجلود في فاس، وأنها اعتزلت التمثيل. ومنذ ذلك اليوم لم تعد إلى مصر، ولم يسمع عنها ممدوح شيئاً)
(البقية في العدد القادم)
شاكر خصباك