المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 696 - بتاريخ: 04 - 11 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٩٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 696

- بتاريخ: 04 - 11 - 1946

ص: -1

‌على الطريق في سورية ولبنان

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

- 2 -

وعدنا من حلب بالطريق الحديدي في مركبة كالمركبة الديزلية تسمى (أوتومتريس) وقد سميتها المستارة. وتذاكر الدرجة الأولى في هذه المركبة تخول لحاملها القعود في المقاعد الأولى من السيارة الحافلة التي تنقل مسافري السكك الحديدية بين حمص ودمشق. وهذه الحافلة تقبل غير ركاب السكة الحديدية، ولكن هؤلاء أولى بها إن لم تتسع لغيرهم، ولما تركنا محطة حمص إلى هذه السيارة ألفينا ركاباً قد شغلوا المقاعد الأمامية، وكان الجو حاراً فبدا لي أن اتركها وأستأجر سيارة خاصة ورجعت إلى المحطة آوياً إلى الظل من وهج الشمس،، وثار جدال بين بعض من رافقونا في المستارة ومن شغلوا المقاعد الأمامية. فسمعت أحد هؤلاء الرفقاء يجادل عن نفسه وعنى أنا بعيد عنه، وما حسبته رآني؛ ولكنه تطوع بالدفاع عن حقي كما دافع عن حقه، ودعيت أنا ورفيقي المصري إلى الركوب وخلى لنا المكان. وجاء أحد من حجزوا المقاعد الأمامية في ضجة يقول:(قد حجزت مكاني ومعي رقمه، والأرقام تتكلم) فأشار إليه أحد الراكبين، وهو مشتد في جدله متحمس في الدفاع عن حقه؛ وما زال الرجل يشير إليه ليقترب منه، فلما دنا قال له: انهم مصريون. فسكت غضبه، وهدأت ثورته بغتة وقال: مصريون؟ على رأسي أذن. ولم نكن نحن المصريين أخذنا مكانه بل أخذه أحد من شاركنا في المطالبة بالمقاعد الأمامية، ولكن الذي أراد أن يسكن غضب الرجل لم يجد أجدى عليه من أن يقول انهم مصريون؛ وقد تمادى الرجل في مروءته بعد أن آثر المصريين بمكانه فعم الراكبين جميعاً وقال نحن حمصيون وهذا بلدنا. نؤثر كل راكب على أنفسنا.

كانت كلمة مصريين قاطعة لكل جدل، ذاهبة بكل غضب، نضر الله وجوه إخواننا في حمص وغيرها، وجزاهم عن مودتهم ومروءتهم خيراً.

ونزلنا في النَبْك نستريح قليلاً، فأوينا إلى حديقة هناك يجري فيها جدول تدور به ناعورة،

ص: 1

وكنا جلسنا في هذه الحديقة أيام مهرجان أبى العلاء في طريقنا إلى حلب وفي رجوعنا إلى دمشق وفي سفرتنا الأخيرة من دمشق إلى حلب، فجلسنا فشربنا القهوة، فإذا أحد رفقاء السفر ممن يعرفنا ولا نعرفه تطوع بأداء ما علينا إذ وجدها فرصة للإعراب عن مودته وإكرام إخوانه وضيوفه على الطريق بأية وسيلة، وما زال يرتقب الفرص ليسرنا بكلمة أو فعلة حتى افترقنا.

وخرجنا من دمشق يوم الجمعة 24 من شوال (19 أيلول) نؤم حيفا لنركب منها قطار مصر. وكان بجانب السائق رفيق لم يصلنا به تعارف ولا تحادث. فلما بلغ بنا المسير الحدود الموهومة التي تفصل سورية وفلسطين - تلك الحدود لم يخلقها الله ولم يقرها الحق، ولا عرفها تاريخ البلاد، ولا اعترف بها سكانها - نزلنا ننتظر الإذن بدخول فلسطين بعد رؤية جوازات السفر والأعمال المعتادة على الحدود، ورأينا دكاناً أمامه كراسي فأخذنا سجاير وجلسنا لنشرب القهوة أنا والأستاذ محمد خلاف بك، ووجد ذلك الرفيق الذي لم يحادثنا ولا تعرف إلينا فرصة للتودد إلينا والأعراب عما يضمره من مودة فأصر على أن يؤدي ثمن القهوة وأبى أن يستمع لقولنا، وان يلين لإلحاحنا.

ثم اجتزنا الحدود وواصلنا السير حتى مررنا بعين عذبة باردة يجري عنها الماء في جدول وفي أنابيب من الحديد. فنزلنا هناك لنشرب من العين ووجدنا دكاناً فتقدمنا لنشتري فاكهة وقلنا حبذا فاكهة مبردة في ماء هذا النبع. فلما اشترينا ما أردنا غافلنا هذا الرفيق وأصر إصراره الأول على أن يؤدي ثمن الفاكهة.

ليس شيئاً ثمن القهوة ولا ثمن الفاكهة ولكن مقصد هذا الشاب كان عظيماً، ومعنى هذا العمل جليل. فهذا شاب من نابلس عرفنا مصريين فأراد أن يحيينا بما تهيأ له على الطريق، أو عرف شخصينا فبالغ في الإيناس والإكرام.

ولما دخلنا حيفا، وعلمنا أن المحطة التي نسافر عنها نسفت قبل دخولنا المدينة بقليل، وحسبنا أن السفر لا يتيسر يومنا، جاء رفيقنا هذا معه سيارته يدعونا إلى المضي معه إلى نابلس إلى أن يمكن السفر على السكة الحديدية، فشكرنا له وانتظرنا حتى تسنى لنا السفر.

وجاءنا في القطار بعض الموظفين يسألوننا عن جواز السفر ثم سلما وتحدثا إلينا وقال إنما تعللنا بطلب الجواز لنتحدث إليكما فقد رأينا في أحدكما شبهاً من أمين الجامعة العربية

ص: 2

فأردنا أن نعرف جلية الأمر وسألا عن الأمين ودعوا له واثنيا عليه.

هذه الأحداث يراها المسافر في سورية ولبنان وفلسطين في بلاد إخواننا وجيراننا الأدنين، وهي على صغر ظاهرها كبيرة المعنى عظيمة الدلالة. تنطق بان المصري حيثما توجه في بلاد العرب فهو بلده بين إخوانه، إلا انه يحظى بكرامة الضيف، وان العربي لا يغترب أيان سار في بلاد العرب، يشعره بهذا الخاصة والعامة، ومن يعرفه ومن لا يعرفه.

وأما الخاصة من الأدباء والعلماء، وأما الحكومات ومعاهد العلم والهيئات المختلفة التي تعمل للجامعة العربية، وتشد الأواصر بين بلاد العرب، وما يقال في هذا، وما يكتب، وما يعمل، وما يدبر، فله حديث آخر طويل.

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌بعض الذكرى.

. .!

للأستاذ محمود محمد شاكر

كان ذلك منذ عشرين سنة، وكنت فتى لا يمل الدؤوب والسعي، وكانت أول مرة ادخل فيها بيت ذلك الشيخ الضئيل البدن المعروق اللحم، الذي ينظر إليك أبداً كالمتعجب. وكان الذي سعى بي إليه حب قد ملأ قلبي له، وإجلال قد أخذ علي العهد أن أفي لهذا الشيخ ما حييت وفاء الذكرى ووفاء العلم ووفاء الاقتداء؛ وكنت يومئذ قد حضرت بعض دروسه في مسجد البرقوقي، وقرأت عليه شيئاً من كتاب أبى العباس المبرد، وكان يعدني كبعض ولده لسابق معرفته بابي رحمهما الله. وكنت يومئذ سقيم الجسم خفيف اللحم نحيل التجاليد ثائر الشعر، فإذا لقيته فربما كان يقول لي:(كأنك آيب من سفر بعيد أيها الفتى). فكنت افهم عنه، فإذا انقلبت إلى الدار عدوت إلى المرأة لأرى ماذا حمل الشيخ على مقالته التي لم يزل يقولها لي ويدي على يده أو في يده، فما أرى سوى وجه شاحب ضامر، وعينين غائرتين كأنهما تنظران إلى شيء بعيد في جوف وادي سحيق عميق. فأقول لنفسي: هذا جهد التحصيل وكد النفس في قراءة هذه الأسفار القديمة التي تباعدت معانيها وتقادمت عهودها.

طرقت بابه في ذلك اليوم على غير ميعاد، ففتح لي صغير من حفدته وقادني إلى غرفة الشيخ، فإذا هو جالس على حشية على بساط كالح من تقادم الأيام، وعلى يمينه خزانة كتب مطوية من جوف الجدار، وأمامه صينية صفراء من نحاس فيها أداة القهوة، وعلى يساره كتب مركومة، وفي يمناه قلم يكتب. فلما سمع حسي رفع إلي بصره وسكن، وظل كذلك ساعة وأنا بين يديه يأخذني ما قرب وما بعد من هيبته، وجعل ينظر إلي فأطال النظر؛ ثم لم يلبث أن قال بصوت خافت ما كنت لأتبينه لولا أني عرفت الذي يقول وكنت احفظه، وهي هذه الأبيات من شعر بعض الأعراب:

رأت نِضْوَ أسفارٍ، أميْمة، شاحباً

على نضو أسفارٍ، فجنَّ جنونها

فقالت: (مِن آيَّ الناس أنت؟ ومن تكن؟

فإنك راعي صِرمْةٍ لا يَزينُها!)

فقلت لها: (ليس الشُّحوبُ على الفتى

بعارٍ ولا خيرُ الرجال سمينها.

(عليك براعي ثَلَّة مُسْلَحِبَّةٍ

يَرُوحُ عليه مَخْضُها وحَقِينُها

وانعم_أبكارُ الهموم وعُونُها)

ص: 4

وكان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرؤه، فيقف حيث ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرؤه فهمته على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض، فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج بعده إلى شرح أو توقيف، وكان في صوت الشيخ معنى عجيب من الثقة والاقتدار، وفي نبراته حين ينشد الشعر معنى الفهم للذي يتلوه عليك، فلا تكاد تخطئ المعاني التي ينطوي عليها، لأنها عندئذ ممثلة لك في صوته. والصوت الإنساني هو وحده القادر على الإبانة عن المعاني الخفية المستكنة في طوايا النفوس أو في أحاديث النفوس.

ورب رجل أو امرأة تسمع كلامه أو كلامها وأنت لا تعرف عن أحدهما شيئا، فيخيل إليك وأنت تسمع انك قد نفذت على نبرات هذا الصوت إلى اعمق الأعماق المدفونة في هذه النفس الإنسانية التي تحادثك، وهذا شيء لا يكون إلا في ذوي النفوس الصادقة الصافية البريئة من حشو الحياة وسفسافها، وهذه النفوس وحدها هي القادرة على أن تجعل الصوت بمجرده لغة مبينة عن اغمض المعاني التي تعجز لغات البشر عن حملها وأدائها.

وأنت محتاج حين تسمع (لغة الصوت) أن تكون يقظ النفس حي الإحساس، نفاذاً إلى المعاني المتلفعة بالغموض، حسن التيقظ للنبرات التي تدل على ضمير اللفظ، سريع الخاطر في إدراك هذا الموج المتلاحق من الحركات المختلفة. فإذا كان الذي تسمعه كلاما يتلى أو ينشد كالشعر مثلا، وكان الذي ينشده قد عاش ساعة في معانيه حتى تلبس بها ونطق لسانه معبراً عن لسانها وعن لسان قائلها الأول - كان عليك أن تكون ليناً طيعاً سريع التبدل جرئ النفس في غمرات العواطف، حتى يتاح أن تعيش أنت نفسك في هذه المعاني ساعة تتلى عليك. وعندئذ تغشاك غمرة لذيذة تدب في غضون نفسك، فتحس كأنك تبعث بعثاً جديداً في حياة جديدة حافلة بالصور التي قلما يدركها العقل إلا مشوهة مشيأةً متخالفة التركيب، فلا يزال يجهد في تلفيق أجزائها حتى لا يبقى من أصولها الحية الصريحة الصادقة شيء البتة. فإن استطعت يوماً أن تجد في نفسك انك مستطيع أن تكون على هذه الصفة، فقد فهمت الشعر ونفذت إلى أغواره، وإن عجزت عن بيان ما فيه.

وفي الناس ناس، وقليل ما هم، قد أجادوا (لغة الصوت) إجادة بارعة، وان كانوا في أكثر الأحيان لا يدركون أنهم يحسنون منها شيئاً، وذلك لطول ما انطووا على أنفسهم حتى

ص: 5

غمروها في بحر النسيان. وربما سمعت أحدهم وهو يتكلم، فما يكاد ينطق حرفاً أو حرفين حتى تحس كأن كل معاني نفسه تتسرب في نفسك واضحة بينة، وانك قد عرفت منها ما يكاد يخفيه عن الناس جميعاً؛ لأنه متكبر أو قانط أو هياب جزوع. وهذا الضرب من الناس هم اشد خلق الله حرصاً على إخفاء آلامهم، وأبعدهم رغبة في الاستمتاع بالعذاب الذي يقاسونه، لأنهم يظنون انهم بذلك قد حازوا النصر على آلامهم، وعلى الناس أيضاً؛ إذ استطاعوا أن يواروا عنهم خبئ ما في نفوسهم الحزينة المعذبة. . .

لما سمعت الشيخ رحمه الله ينشد تلك الأبيات، تمثلت لعيني تلك المأساة الخالدة بين الرجل الصادق والمرأة التي احبها، وكانت تطمع أن يكون لها كما خيلت لها أوهامها، وان يأتيها بتحقيق أحلامها - أي أحلام حواء منذ كانت حواء، على اختلاف العصور وتباين الحضارات. فهذا أعرابي محب لصاحبته (اميمة) التي ذكرها في شعره، فدارت به الأيام في فيافي الحياة ملتمسا ما يحقق به أماني هذه المرأة المحبوبة، ثم عاد إليها وقد أذابت البيد منه ما أذابت بظمئها وشمسها وجوعها ومخاوفها. فلما رأته شاحباً مهزولا رثا أسوأ حالا مما عهدته، أنكرته وقد أثبتته معرفة، فجن جنونها لأنها محبة قد أخطأت في الرجل الذي تحب كل ما كانت تؤمله، وخانها ما كانت تتمثله في أحلامها من صحة وشباب وأناقة وجمال. وما أسرع ما تتنكر المرأة إذا خاب ظنها وتبددت أحلامها، وفاجأتها الحقيقة العارية بالشيء الذي يخال ما كانت تتوهم!

كانت المفاجأة صارخة في نفس اميمة، فلم تلبث أن غلبتها تلك الطبيعة المتقلبة الغدارة التي طال عهد المرأة بها، فأظهرت كأنها لا تعرفه ولم تلقه ساعة من دهر. وجرى على لسانها ذلك الحديث الذي يرويه لنا المحب، فقالت: من أي الناس أنت؟ ولم تقف عند هذا فأبدت الفزع منه لئلا يخونها ما في حنايا ضلوعها فيظهر على لسانها فعادت تقول: ومن تكن؟ ولكن أنى للمرأة الضعيفة التي زلزلت المفاجأة بنيانها أن تكتم حقيقة نفسها؟ لقد كانت منذ هنيهة تسأله سؤال الجاهل من هو ومن يكون، فإذا بها تنهار من شدة ما تعاني من اهتزاز كيانها، فتقول له مقالة الناقد الساخر، محاولة أن تبدي عن احتقارها وازدراءها لما ترى، فزوت عنه وجهها وهي تقول: لو كنت راعي ابل لكنت خليقاً أن تنكر النفوس والأعين ما ترى من حقارتك وبذاذتك، فكيف ترجو أيها المحب المغرور أن تكون حسناً في عين من

ص: 6

تحب، وان تكون زيناً لامرأة احبتك؟ وهكذا المرأة - إلا من عصم الله. . .

فهم الشاعر المحب مرمى كلامها فأنف لنفسه، فانطلق يسخر منها بعد أن تكشف له ضمير المرأة الغادرة. فقال لها: ليس الشحوب على الفتى بعار، ولا خير الرجال سمينها، وإذا كان شحوبي قد ساءت وآذاك حتى أنكرت مني ما تعرفين، فنعم ولك العتبى علي. عليك بمن يزينك. اطلبي لنفسك راعي غنم قد اطمأنت به وبها الحياة، فعاش خافضاً وادعاً لا هم له إلا بطنه، حتى امتلأ وتضلع وغدا سميناً بضاً جميلًا كأحسن ما تأملين، فأنتن أيها النسوة إنما تحببن من الرجال الزينة وحدها، كأنكن إنما تتخذن الرجال حلياً لا أصحاباً ولا أزواجاً. وهكذا المرأة، هي لضعفها تؤثر لحياتها كل ظاهر يدل على القوة فهي تؤثر البدن القوي على البدن الضعيف، وتؤثر اليسر على الخصاصة، وتؤثر القناعة على الطموح، وان كان قلبها يؤثر بالحب ذلك الضعيف الفقير الطماح الذي اضر به الكدح، ولكن قلب المرأة هو آخر ما تهتم له إذا جاءها بمن لا ترضاه لحياتها؛ فالمرأة مفتونة بكل ما يدل على القوة الظاهرة، ولا تكاد تبالي شيئاً بالقوة المستكنة كالعلم والعقل والجهاد والصبر؛ لأنها تريد أن تحيا حياة مطمئنة محفوفة بما يحسدها علية النساء سواها لا أن تحيا مجاهدة في عذاب حبيب مجاهد.

ومنذ سمعت الشيخ ينشد تلك الأبيات، وقفت على كلمة في هذا الشعر لا أزال اعجب لها وهي:(أبكار الهموم وعونه)(أبكار الهموم)! يالها من كلمة عبقرية! أن مزية هؤلاء الأعراب البداة على سائر من نطق بالعربية هي هذه الجرأة العجيبة التي تنقض على اللغة فتنفضها نفضاً وتختار من ألفاظها كلمة تضعها حيث تشاء، فلا تراها تقلق في مكانها أو تضطرب، وهم بذلك يختصرون المعاني كلها في كلمة واحدة يخبئون فيها أحلامهم وخيالهم وأحاسيسهم وأسرار قلوبهم، كما خبا هذا الأعرابي كل ما كان في نفسه في (أبكار)، ودل بها على المعاني التي كانت تضطرم في قلبه حتى أضنته ومسحت وجهه بالشحوب،، وعرقت لحمة بالهزال، وصيرت إنساناً منكراً في عين من يحب.

فهذا الأعرابي الجريء، والمحب المزدري، الساخر المستخف عندئذ بالناس وبالنساء وبالحياة، قد أراد أن يعلم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمراً غضاً ناضراً ناعماً لم تؤرقه هموم النفس ولم يضر به الكدح في بوادي الأحلام والآلام والآمال، فانه غني

ص: 7

عنها، وعن سائر نساء العالمين - وأن أمثالها لسن له بهم، وأن له من حاجات نفسه وهمومها (أبكاراً) كأبكار النساء و (عوناً) كعونها، فهو راض بها وبما يلقي في سبيلها من ارق وسهاد. وأراد أن يعلمها انه لا يأسى على ما فاته من بكر ولا عوان، فإن للنفس الشاعرة هموماً (أبكاراً) لم تمسسها يد ولا فكر ولا حلم، تجد النفس المحبة فيها ما يجد المحب في العذراء الحيية العصية من فتنة وجمال ونظرة وشباب، ولا يزال يداورها ويحاورها ويشقى بالسعي في طلابها شقاءً لذيذاً له في القلب نشوة أو سعار. وهي (أبكار) لا تزال عذراء على وجه الدهر لا تغير منها الأيام شيئاً، ولا تنيل الطالب المحب إلا متاع الجب المجرد من شهوات الأبدان، بل هي تغتدي بالأبدان فتضنيها وتنهكها لتبقى هي أبداً أبكاراً.

وللنفس أيضاً هموما (عون) قد أصاب الناس منها أصابوا، ولكن بقيت منها للنفوس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند الإمكان، ونبل في الخضوع والتسلم عند العجز، فهي تداور صاحبها وتحاور حتى تشقيه شقاء لذيذا ثم تنيله ما يشاء حتى يرضى.

ولقد عجبت للشيخ يومئذ وهو يكرر: (لم تؤرقه ليلة، - وانعم - أبكار الهموم وعونها) فقد كان في صوته ما جعلني أنسى أني لم أزل واقفاً أنصت لدبيب هذه الحياة في جو الغرفة، ثم خرجت من عنده ولا يزال صدى صوته يردد في نفسي تلك الكلمات المصورة المبدعة:(أبكار الهموم وعونها).

محمود محمد شاكر

ص: 8

‌على هامش النقد:

مواضع النقد الأدبي

للأستاذ سيد قطب

التعبير في الفن للتصوير والتأثير. التصوير للتجربة الشعورية التي مرت بالفنان، والتأثير في شعور الآخرين بنقل هذه التجربة إلى نفوسهم في صورة موحية مثيرة لانفعالهم، وهذه هي غاية العمل الأدبي.

ولما كان العمل الأدبي مؤلفاً من عنصرين هما التجربة الشعورية والتعبير عن هذه التجربة، فإن مواضع النقد الأدبي تنحصر في هذين العنصرين.

ولكن التجربة الشعورية لا تبدو لنا - في العمل الأدبي - إلا من خلال التعبير. فهو وسيلتنا الوحيدة لإدراك هذه التجربة التي مرت بالأديب فحركته للتعبير عنها. وإذا نحن فقدنا هذه الوسيلة لم نستطع بحال أن ندرك ما جاش بنفسه، ولا نوع إحساسه به، ولا درجة انفعاله كذلك.

ومن هنا يستمد التعبير قيمته في النقد. فليس هو ألفاظاً وعبارات؛ ولكنه العمل الأدبي كاملا باعتبار ما يصوره من التجارب الشعورية.

وهذا التعبير يدل على التجربة الشعورية بخصائص ثلاث مجتمعة وهي:

1 -

الدلالة اللغوية للألفاظ والعبارات.

2 -

الإيقاع الموسيقي للكلمات والتراكيب.

3 -

الصور والظلال التي يخلعها التعبير من خلال الكلمات والعبارات.

ونزيد خاصة أخرى مشتركة بين الشعور والتعبير تدل على طبيعة التجربة الشعورية ونوعها ودرجتها وعلى سمة الأديب التعبيرية أيضاً. هذه الخاصية هي طريقة التناول أو طريقة السير في الموضوع أو ما نسميه الأسلوب.

ومعروف أن لكل أديب أسلوبه المعين. وكثيرا ما يطلق بعضهم الأسلوب على العبارة اللفظية، ولكنه في الحقيقة اشمل، فهو طريقة الإحساس بالموضوع والسير فيه وطريقة تنسيق العبارات واختيار الألفاظ.

يقول عمر الخيام:

ص: 9

طوت يد الأقدار سفر الشباب

وصوحت تلك الغصون الرطاب

وقد شدا طير الصبى واختفى

متى أتى؟ يا لهفا! أين غاب؟

فما المعنى العام الذي يريد أن يبلغه لنا في هذه الشطرات؟ انه يريد أن يقول: أن شبابه قد ولى، وقد جف عودة سريعاً، وانتهى صباه عاجلاً، فما كاد يبدأ حتى انتهى.

ولكن الأمر لم يكن معنى في ذهنه، بل شعورا في نفسة، وهو لا يريد المعنى بل يريد ما وراء. ولهذا اثر أن يسلك طريقة أخرى في التعبير غير التي سلكناها، فعرض علنا صورة ليد الأقدار تطوى كتاب الشباب، وصورة بجوارها للغصون الرطاب تصوح وتجف، وهما صورتان توقعان في النفس الكآبة والأسى، وتغمرانها بالحسرة والوجوم، وتخلعان على المشهد ظلالا كابية حزينة. ثم شاء أن يشعرنا انه لم يحس بشبابه ولم يستمتع فلم يقل لنا هذا المعنى مباشرة. بل رسمة لنا صورة متحركة، فقد شدا طير الصبى واختفى، وأنه لواقف يتلفت في لهفة ويتساءل في وجيعة: متى أتى؟ متى غاب؟ ومن هنا ينقل إلينا شعوره نقلاً حياً موحياً فنكاد نتلفت معه على هذا الطائر - طائر الصبى الجميل السريع - الذي ما كاد يظهر حتى اختفى، وترك وراءه اللهفة والأسى!

طريقة السير في الموضوع أذن هي التي جعلتنا نزداد شعورا بما يخالج نفس الشاعر في الأسى والكآبة، وفي اللهفة والحسرة، دون أن يقول لنا: أنه مكتئب أس ملهوف حسير. وهذه الطريقة هنا هي نظام عرض الصور واحدة بعد الأخرى، فتخلع كل صورة ظلا، وتجتمع الظلال وتتناسق فتثير في نفوسنا انفعالا خاصا، هو الانفعال الذي عاناه الشاعر أو ما يشبه.

وبطبيعة الحال لقد اشترك في أحداث هذا الأثر كل من المعاني اللغوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقي للتراكيب، والصور والظلال التي يخلعها التعبير.

انتهينا إذن إلى أن العمل الأدبي يبلغ غايته وهي التأثير بتوافر عناصر الكمال في خصائص التعبير، وهي طريقة الأداء والدلالة اللغوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقي للكلمات والتراكيب والصور والظلال التي يخلعها التعبير، وهي زائدة على المعنى العام للتعبير

ولكن التعبير بعناصر هذه انما هو وسيلة لغاية هي إبراز التجربة الشعورية وتجليتها.

ص: 10

وعلى هدى هذا البيان يظهر أن مواضع النقد الأدبي هي:

أولاً: التجربة الشعورية أو الشعور كما يبدو من خلال التعبير

ثانياً: التعبير بخصائص التي أسلفنا عنها الحديث

ونقد التعبير وخصائصه والحكم عليها سهل نوعا إذا قيس بنقد الشعور والحكم عليه، لان إخضاع خصائص التعبير لقواعد عامة آمر مستطاع - مع ما هذا من حرج - ما دمنا نملك وضع قواعد للنقد الأدبي فيها سماحة كبيرة وشمول، بحيث تسمح بظهور الخصائص الشخصية كاملة في كل أديب، ولا تقيده باتباع (مشق) معين في طرق الأداء أو طرق التعبير!

أما إخضاع خصائص الشعور لقواعد معينة فتحكم في النفوس والطبائع والمشاعر غير مأمون، والحكم على الشعور الإنساني مسالة ليست من حقنا على إطلاقها، فقد يطرق الأديب عوالم من الأحاسيس والخطرات والانفعالات لم تتهيأ لنا من قبل لأنه هو إنسان ممتاز غير مكرور!

ولكن ماذا نصنع؟

ترانا نقبل كل شعور ونعده في صف واحد مع كل شعور آخر من حيث قيمته الفنية، مادام صاحبة قد عبر عنه بطريقة صحيحة من ناحية التعبير؟

إننا بهذا نبخس العمل الأدبي قيمته، لأننا نعده صوراً وألفاظاً خارجية، لا رصيد لها في عالم النفس والشعور.

ولحسن الحظ أن لدينا حقيقتين واقعتين في هذا المجال: أولاهما أن التجارب الشعورية الإنسانية مشتركة في مساحة واسعة من النفس الإنسانية؛ وثانيتهما أن الناقد هو الذي يستطيع أن يعلل لنا حكمه.

وفي الحقيقة الأولى ضمان بان عدداً كبيراً من الناس سيدركون قيمة التجارب الشعورية التي يصورها الأدب، لأن لها صدى في نفوسهم على كل حال، وإذا لم يتحقق هذا في جيل، فإن تتابع الأجيال كفيل بتحقيقه، فركب الإنسانية متصل المواكب، والتجارب الشعورية ملك للجميع.

وفي الحقيقة الثانية ضمان بان الحكم على قيمة شعور ما لن يلقى مجرداً كإشارات الصم

ص: 11

البكم، بل ستتبعه أسبابه، وبيان الأسباب يتيح للآخرين أن يقتنعوا بها أن وجدوا لها في نفوسهم صدى، أو لا يقتنعوا، ولهم ما يشاءون!

لهذا كله نرى انه لابد للنقد الأدبي أن يتناول طبيعة الشعور الذي يصوره التعبير، فيصفه - على الأقل - كما يبدو من خلال الصورة التعبيرية، ويحكم على قيمته في عالم التجارب الشعورية.

ونضرب هنا بعض الأمثال:

يقول شاعر حديث في قصر أنس الوجود:

قف بتلك القصور في اليم غرقى

ممسكا بعضها من الذعر بعضا

كعذارى أخفين في الماء بضا

سابحات به وأيدين بضا

وكل بيت بمفردة جميل من ناحية التعبير والإيقاع والأداء، ولكنهما مجتمعين يكشفان عن اضطراب في الشعور، أو عن تزوير في هذا الشعور، ذلك أنا حين نستعرض البيت الأول:

قف بتلك القصور في اليم غرقى

ممسكا بعضها من الذعر بعضا

نجد أنفسنا أمام مشهد غرق، والغرقى مذعورون يمسك بعضهم من الذعر بعضا، فالشاعر أذن يرسم لنا مشهداً مثيراً لانفعال الحزن والأسى، مشهداً يظلله شبح الفناء المتوقع بين لحظة واخرى، ونفهم أن هذا هو الانفعال الذي خالج نفسه وهو يتملى ذلك المشهد الذي يثير الذعر ويقبض الصدر.

ولكنة ينتقل بنا فجأة ونحن أمام لمشهد نفسه لم نزايله، فيقول:

كعذارى أخفين في الماء بضا

سابحات به وأيدين بضا

فأي شعور بالانطلاق والخفة والمرح يوحيه مشهد العذارى، ينزلن الماء سابحات، يخفين في الماء بضا ويبدين بضا؟!

هنا ظل لا يتسق مع الظل الأول، ولا تفسير لوجوده هنا إلا بأن الشاعر زور لنا تجربة شعورية لم تمر بنفسه، لأنه لو كان قد انفعل حقيقة بالمنظر لغمره شعور نفسي واحد إزاءه في اللحظة الواحدة، أو غمرته مشاعر مختلفة، ولكن في جو واحد.

فحكمنا هنا ينصب على شعور الشاعر لا على تعبيره، ولكننا انما نحكم على هذا الشعور

ص: 12

من خلال التعبير، ومن حقنا أن نحكم هذا الحكم لان التعبير المعروض علينا يصور لنا شعوراً مزوراً، والفن شعور صحيح. ولو أنه في بيته الثاني رسم لنا ظلالا تتسق مع ظلال البيت الأول، ولكان هذا دليلا على صحة الشعور وصدق تأثره بالموقف.

ويقول شاعر قديم في وصف زهرة حمراء على عود اخضر: أنها مثل (أوائل النار في أعواد كبريت)

فنحس حين نقرا البيت أن شعوره بالزهر والطبيعة كان شعوراً (من الظاهر) ولم يتصل حسه بالطبيعة أي اتصال، فاقتصر بصره على تشابه الأشكال، ومسخ الطبيعة الحية شكلاً جامداً لا حس فيه ولا شعور، ولا تعاطف بينه وبين قلب الشاعر ولا منافذ له إليه عن أي طريق.

وفي الناحية الأخرى نجد شاعراً كالبحتري يقف أمام إيوان كسري المهجور، فتجيش نفسه بانفعال صادق يغشي الجو كله بغشاء واحد، غشاء الأسى وشجون الذكرى.

فهذا الإيوان:

يُتظنَّى من الكآبة إذ يب

دُو لعينيْ مصبّح أو ممسىّ

مُزعجاً بالفراق عن أُنس إلفٍ

عزَّ أو مُرهقاً بتطليق عِرْس

فهو يبدي تجلداً وعليه

كلكل من كلاكل الدهر مرسى

فهو يحس بالإيوان المهجور كئيباً حتى ليظنه من يراه مزعجا بالفراق عن أليف عزيز، أو مرهقاً بتطليق عرس، وهو يبدي التجلد، ولكن كلكل الدهر ينيخ عليه ويرسي بثقله. . . وهي صور حية موحية، تشعر بالانفعال الصادق العميق.

ونجد شاعراً كابن الرومي ينظر إلى مشهد في الطبيعة فيحسه (من الباطن) حياً، ويتجاوب معه ويتعاطف كالأحياء: ذلك حين هبت ريح الشمال:

هبت سُحَيْرا فناجى الغصن صاحبه

موسوساً وتنادى الطير إعلانا

ورق تغنى على خضر مهدلة

تسمو بها وتشم الأرض أحيانا

تخال طائرها نشوان من طرب

والغصن من هزه عطفيه نشوانا

وهكذا يحس الغصن حيا ذا نفس يناجي صاحبه موسوسا، والطير تنادى إعلاناً، والورق تتغنى على الأفرع الخضر المهدلة، وكأنما هذه تداعبها وتؤرجحها (تسمو بها وتشم الأرض

ص: 13

أحيانا) والطائر يخال نشوان من الطرب، والغصن يشاركه فيهز عطفيه وهكذا يحس الطبيعة حية، وكأنما هي في مرقص تميل النشوة وتتغنى من الفرحة. . .

وهكذا يعاطف الطبيعة وتعاطفه، ويتصل حسه بحسها. وذلك معنى الصدق في الإحساس بالتجارب الشعورية!

سيد قطب

ص: 14

‌الحركة الفكرية في العصور الحديثة

للأستاذ رفيق التميمي

1 -

الحركة الأدبية:

لقد ظهر في أوائل القرن السابع عشر ثلاثة من كبار الأدباء كانوا النجم اللامع في سماء الأدب العالمي الأوربي وهم شكسبير وسرفنتس، ولوب دي فيغا. والأول شاعر الإنكليز الأشهر. أما الثاني والثالث فقد ظهرا في أسبانيا.

والحركة الأدبية في فرنسا لم تتبوأ مكانتها الرفيعة إلا اعتباراً من انتهاء الثلث الأول من القرن السابع عشر.

لقد ظهر في إنكلترا خلال القرن السابع عشر رجلان عظيمان هما شكسبير وملتن. أما شكسبير فقد تبؤ مكانته الأدبية الرفيعة في عصر الملكة اليصابات، وظل يغذي الأدب الإنكليزي بإثارة الخالدة في أيام الملك جيمس الأول. ويقول أساتذة الأدب العالمي انه ليس بين الشعراء المتقدمين والمتأخرين من ابرز مثله معارف واسعة في جميع أدوار الحياة وأطوارها، ولا أبدى سواه مثل اطلاعه على ظواهرها واسرارها؛ فقد كتب في موضوعات يدخل فيها كل وجه من وجوهها. وبحث في كل مطلب من مطالبها، وكان في جميع هذه الأبحاث أستاذاً كبيراً وحكيماً وخبيراً حتى يكاد الناس اليوم لا يعمدون إلى درس موضوع منها ما لم يساقوا بطبيعة الحال إلى درسه في مخلفات شكسبير، فهو كراوية لا مضارع له، أما كشاعر فلا يذكر بجانب اسمه إلا واحد أو اثنان، وكفيلسوف حكيم لا تكاد تفكر في معضلة حيوية إلا تراه قد طرقها وحلها، ولا تطلب مطلباً إلا تجده بين كنوز التي لا تحصى ولا تثمن.

والألمان أول من ترجم شكسبير إلى لغة أجنبية وقام نقاد كبار منهم يوضحون مزاياه الرائعة ومراميه السامية حتى انفتحت أعين العالم على معينه الفياض فاخذوا يغترفون منه ما لذ وطاب؛ وهكذا تحول اعظم شاعر في إنكلترا إلى اعظم شاعر في العالم كما يقول علماء الأدب.

ولشكسبير أثار خالدة: منها الزوبعة وحلم ليلة في منتصف الصيف ومكبث وروميو وجوليت وهملت وتاجر البندقية والبطل وقد ترجمت هذه الكتب باللغة العربية.

ص: 15

وظهر في أيام الملك شارل الثاني شاعر كبير هو ملتن، وقد كان على المذهب البيوريتاني وألف باللاتينية بعد إعدام الملك شارل الأول كتاباً دافع فيه عن العدالة في قتل الملك. فلما عاد آل استوارت إلى عرش إنكلترا اضطر ملتن إلى أن يعتزل العالم أربع عشرة سنة، وفي خلال ذلك وضع في عزلته وعماه قصائده الخالدات الأثنتي عشرة وهي التي سماها الفردوس المفقود والفردوس المردود.

ونبغ في أيام ملتن أديب بيوريتاني آخر هو يوحنا بنبان كان سجن بعد عودة آل استورات اثنتي عشرة سنة لأنه لم يكن على المذهب الانجليكاني، وفى وحشة سجنه وضع كتابا سماه (سياحة المسيحي) وهو من اعجب الرمزيات - في الأدب الإنجليزي.

وفي خلال القرن الثامن عشر ازداد عدد الكتاب والشعراء والروائيين والمؤرخين. ولا شك أن لظهور طائفة من أمهات الجرائد والمجلات الإنكليزية حينئذ علاقة كبرى بذلك الازدهار الأدبي والعلمي نذكر هنا على سبيل المثال (أدباء البحيرات) الذين خلدوا جمال الطبيعة في أشعارهم، والروائي الذائع الصيت (ولتر اسكوت) وبه يبدأ الدور الإبداعي في الأدب الإنكليزي، وجون كيتس، والمؤرخ ادورد جيبن. وظهر في ألمانيا خلال القرن الثامن عشر الكاتب الكلاسيكي (كلوبستوك)، والاديب (وايلند) والروائي (لسينغ) و (هردير)، وكان هؤلاء الأدباء ينقلون عن الأدب الفرنسي ويقلدون المؤلفين فيه.

وفي الثلث الأخير من القرن الثامن عشر نشأ في ألمانيا طراز جديد للتأليف بفضل أدباء عظام يأتي في مقدمتهم لسينغ، وغوته، وشيلر. وقد وضع هؤلاء منهاجاً جديداً يختلف عن المنهاج الكلاسيكي الذي كان شائعاً آنئذ في فرنسا، وسمي هذا الدور في الأدب الألماني بدور العاصفة أو الهجوم.

لقد اتجهت عناية هؤلاء الأدباء الكبار إلى تحسين أداء المعاني التي تثير العواطف دون الالتفات إلى إرضاء الناس بإجادة معاني الكلام وتنميق العبارات، وفي خلال هذه الحركة الأدبية الجديدة بات الكتاب والشعراء والأدباء ينطقون بما توحيه إليهم أفكارهم ومشاعرهم وينتقون من الحوادث اليومية مواضيع لكتاباتهم. فإذا اختاروا حادثاً قديماً فانهم يجعلون رجاله من بين الألمان القدماء المعاصرين أمثال وليم تل وولنشتين، وقد انصرف همهم إلى أن يكتبوا بلغة يفهمها الناس ويألفها القراء، وبذلك اصبحوا يخاطبون سواد الشعب ولا

ص: 16

يعنون أبناء الطبقة الممتازة.

وكان نابليون وصف غوته، أحد رجال المذهب الأدبي المتقدم ذكره، بأنه رجل، وهو في الحقيقة رجل عبقري استطاع أن يستغل مواهبه الرفيعة، وان يسمو في أعماله وأدبه إلى الذروة، ويطلق العنان لتفكيره فيذهب في مختلف الشعاب، ويبلغ به أقصى الأغراض. وامتاز غوته بعقله الخصب وإحساسه المتقد وخياله الخصب الواسع، وكان يستوحي من حياته الطويلة التي كادت تمتد إلى قرن كامل كل العظات الجسام التي حفلت بها، ويستخلص من حوادثها دروساً جليلة في الفن والأدب والفلسفة والاجتماع، ومن آثاره الخالدة (فاوست) و (آلام فرتر).

وظهر في فرنسا خلال القرن السابع عشر من الكتاب والروائيين العظام (كورناي) و (ديكارت) واضع الفلسفة الحديثة و (بسكال) المعجزة في الرياضيات، وعدو اليسوعيين. وظهر في النصف الأخير من القرن المذكور الروائي الكبير (موليار) والشاعر (بوالو) والروائي العظيم (راشيل) وواضع الأمثال الشعرية الخلابة (لافونتين)، و (بوسويه) الواعظ ببلاط الملك لويس الرابع عشر، و (لابروبار) الروائي والوصاف للأخلاق والآداب المعاصرة، و (فنلون) الأسقف والكاتب. ولقد اتصف هؤلاء الكتاب والأدباء والشعراء بمعرفتهم التامة لنوابغ اليونان والرومان وبتقليدهم إياهم في جميع آثارهم الخالدة التي ازدان بها الأدب الفرنسي الحديث.

وفي بدء القرن التاسع عشر أخذت مبادئ الحركة الأدبية الجديدة تنتشر في ألمانيا على يد كبار الأدباء وفي مقدمتهم غوتة، وشيلر، ولسينغ، وسميت تلك الحركة بالمذهب الإبداعي (الرومانيتك)، ومع أن هذا المذهب كان دون المذهب الكلاسيكي كما لا فإن الألمان وجدوه العب بالألباب، وأكثر تأثيراً في العواطف واقرب إلى طبيعة القارئ واستقبلوا بالإعجاب والتقدير.

وما لبث المذهب الأدبي الجديد أن انتشرت مبادئه وقواعده في سائر البلاد الأوربية وبات البيان الألماني نموذجا لكتاب أوربا منذ بداءة القرن التاسع عشر. وقد رفع لواء المذهب الإبداعي الجديد في ألمانيا كل من شليكل، وتيك، وبرنتانو وهموفمان، وحينما كانت ألمانيا ترزح تحت السيطرة الفرنسية أيام عظمة نابليون ألف فريق من الشباب المتحمسين جمعية

ص: 17

(ألمانيا الفتاة) واخذوا ينشرن مبادئهم القويمة بمختلف الطرق وينبهون بني قومهم إلى وجوب تخليص وطنهم من الحكم الأجنبي، ودعم هذه الحركة الوطنية فريق من الأدباء والشعراء ووضعوا لذلك مؤلفات قيمة، ويأتي في مقدمة هؤلاء من الأدباء:(غوتزكو) و (لوبه) و (بورن) و (هنري هين) و (شنكندورف).

وفي أواخر القرن الثامن عشر دخلت مبادئ المذهب الإبداعي إلى إنكلترا غير أنها لم تكن في بادئ الأمر إلا عبارة عن (بدعة مخالفة للشعر المألوف) كما كانوا يقولون عنها. فحاول بعض الشعراء نظم القصائد والأشعار باللغة العامية واحيوا ما كاد يندرس من قصائد العصور المتوسطة.

وظهر في الربع الأول من القرن التاسع عشر الشاعران الغنائيان (بايرون، وشيلي) الأرستقراطيان وأضافا إلى الأدب الإنكليزي صفحات خالدة من الشعر الرقيق، ومات الاثنان في سن الشباب. وذهب الأول ضحية الحمى في مدينة (ميسو لونكي) حين ذهب إليها ليشارك الثوار اليونان في ثوراتهم ضد الدولة العثمانية، وكان بايرون لا يبحث في شعرة إلا عن نفسه، وقد فصل فيه مغامراته وآلامه وملذاته وغرامه وحقدة وشدة شغفة بالابتعاد عن الناس وضجره من الحياة، واحتقر بوقاحة أبناء الطبقة البورجوازية.

وامتاز الكاتب الكبير (ولتر سكوت) برواياته التاريخية التي نالت إعجاب الجمهور وتقديره، وأما (تشارلز ديكنز) فلم يعن بالحوادث التاريخية في رواياته بل انصرف بكليته إلى وصف الظروف والبيئة الاجتماعية التي وقعت قصصه فيها فجاءت كتبه مرآة صافية انعكست فيها أخلاق القوم وميولهم وعاداتهم وبرع الكاتب الفكه (ثكري) في دقة الوصف وقوة التعبير في كتابيه: أغنياء الجيل، ومعرض الأباطيل

وامتاز النصف الثاني عشر بوفرة الإنتاج الأدبي واتصاله الوثيق بالفنون الجميلة، وظهر من الأدباء والشعراء في إنكلترا من كان له باع طويل في الرسم والنحت مثل: روسني الرسام، ووليم موريس النقاش، وجون رسكين الذي مثل عصره خير تمثيل بكتاباته التي تزخر بحماسة غير مفتعلة، وبلاغة ساحرة، وامتاز رسكين بتفكير سليم مكنه من أن يتناول اعقد الأمور واخطر المواضيع في الأخلاق والاجتماع، ويناقشها بسهولة عجيبة، وقد اشتهر أسلوبه بالبهجة والرشاقة رغم طول الجملة في كتاباته وتزاحم الأدلة والبراهين فيها، وقد

ص: 18

كان لرسكين اعمق الأثر في ترقية الفنون الجميلة وتنسيق الجهود الرامية إلى تدعيم الأخلاق وتقويتها.

وخلف راسكين في ترقيه الفنون والأدب في انكلترة طائفة من الشعراء والفلاسفة والرسامين وكتاب القصص ومنهم (مريديث) و (رديارد كبلينغ) و (أتش. جي. ويلز)، وامتاز مريديث بدقة الملاحظة وإتقان التحليل النفسي؛ أما كبلينغ فقد سجل في كتبه عظمة الشعب البريطاني وقوة تفكيره، ومتانة خلقة وسلامة ذوقه. ورمى ويلز بمؤلفاته المختلفة الأدبية والاجتماعية إلى وجوب القيام بإصلاحات عميقة في حياة الأمم الاجتماعية والسياسية.

واشهر من ألف روايات تمثيلية (أوسكار وايلد) و (برنارد شو). وانصرف وايلد إلى وضع روايات هزلية امتازت بشدة الحوار والتعمق في البحث والنقد إلا انه اغضب طائفة كبيرة من الشعب بنقده اللاذع ومجونه. أما برنارد شو الايرلندي الاشتراكي المتطرف فقد ادخل إلى مسارح إنكلترا روايات هزلية ذات طابع خاص فلسفي، وانصرف بكليته إلى نقد المجتمع المعاصر نقداً لاذعاً وإلى وصف النواحي العوجاء فيه وصفاً مؤثراً طالب فيه بوجوب القيام بإصلاح اجتماعي عاجل. ويحمل كتبه كلها طابعاً اشتراكياً متطرفاً.

وفي خلال القرن الثامن عشر ظهر في فرنسا عدد من الكتاب البارعين سموا أنفسهم فلاسفة على انهم لم يبدوا رأياً جديداً في القضايا التي كانت محط نظر رجال الفلاسفة وإنما صوبوا أنظارهم إلى المسائل العلمية فدرسوا العقائد والسنن القائمة في عصرهم. وكانوا إذا ظهر لهم منها ما يخالف العقل طفقوا يحملون عليها بأقلامهم ويفضحون معايبها. فهم والحالة هذه كانوا منشئين أكثر منهم فلاسفة.

وكانت الهيئة الاجتماعية يومئذ في بلاد أوربا قائمة على دعائم متشابهة هي السلطة المطلقة للحكومة، وكان الشعب قد اعتاد على الطاعة للملوك، وكانوا يقولون أن سلطة الملك مستمدة من الله تعالى فللملك حق الحكم وعلى شعبة واجب الطاعة وهكذا كان شأن المؤمنين مع الكنيسة سواء أكانوا في البلاد البروتستنتية أم الكاثوليكية؛ فلقد كان من حقوق الكهنة تقرير العقائد الواجب اتباعها وتعيين الاحتفالات وكانوا لا يطيقون أن يكون في الدولة الواحدة أكثر من مذهب واحد، وكانت الكنيسة تتعاون مع حكومة الملك المستبد في تنفيذ المبادئ

ص: 19

المتقدم ذكرها فكانت الحكومة تقتص من الهراطقة، وتوجب على الشعب إطاعة الكنيسة، وقد جعل الكهنة مقابل ذلك إطاعة الملك فرضاً دينياً لا يجوز إغفاله.

وقام فريقان من الفلاسفة المصلحين في فرنسا: الأول في النصف الأول من القرن الثامن عشر وقوامه فولتير ومنتسكيو، والجيل الثاني في النصف الأخير من ذلك القرن وقوامه جان جاك روسو، ودريدرو، وجماعة العلماء المعروفين برجال الموسوعة.

أما منتسكيو وفولتير: فكلاهما من أهل الطبقة العليا، وكان فولتير عدو الأديان الموضوعة ولا يعترف إلا بالدين الطبيعي القائل بوجود الله وخلود النفس. وقد بشر بالتساهل ودافع عنه في جميع كتبه وطالب بديانة خالية من العقائد والرموز والأسرار، ومقتصرة على تعاليم أدبية واجتماعية شعبية، وقلما خاض فولتير في مسائل الحكومة، وكان تلاميذه الكثيرون يبتعدون عن السياسة ويكتفون بمهاجمة الكهنة وأنظمة الكنيسة تحت عنوان العقل أو الإنسانية.

أما منتسكيو فقد وضع مبدأ توزيع السلطات وهي التشريعية والقضائية والتنفيذية وحض على فصل هذه السلطات بعضها عن بعض ليتسنى للشعب حكومة عادلة، ودافع منتسكيو عن مبدأ استخدام النبلاء في مناصب الدولة وعن عدالة توزيع الضرائب على جميع أفراد الشعب بلا استثناء، ووجوب إلغاء التعذيب والعقوبات القاسية واحترام حرية الفرد.

وكان كتاب الجيل الثاني يعتنقون مبادئ ثورية ويحرضون الشعب على نقض التشكيلات الاجتماعية والسياسية والدينية القائمة، وكان روسو يعتبر أن الإنسان صالح بالطبع إلا أن التشكيلات الاجتماعية القائمة في عصره قد حرمته من خيرات الطبيعية وان حق التملك جائر، وأن الحكومة أكثر جوراً لأنها تستبد بالناس وتنشر بينهم مبادئ شريرة؛ فيجب والحالة هذه القضاء على التشكيلات الاجتماعية القائمة وإبادة حق التملك والحكومة المستبدة ثم الرجوع إلى الطبيعة ليتفق الناس حينئذ على شكل من أشكال الحكومة يستحسنه الجميع ويساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات، ويستعاض به عن سلطة الملك بسلطة الشعب ويصبح الوطنيون كلهم سواء، تخول الحكومة التي يختارها المواطنون السلطة المطلقة لتدير وتنمي ثروة البلاد وتنتشر العلوم وتشرف على مبادئ الدين ومعابده. وقد فصل روسو هذه المبادئ الثورية في كتابه الشهير (العقد الاجتماعي). وحينما كان روسو ينشر

ص: 20

تعاليمه كان الأستاذ (ديدرو) ينشر موسوعته الشهيرة، وقد جمع فيها خلاصة المعارف الإنسانية بعنوان الانسيكلوبيديا، واشترك في تأليفها جماعة من رجال الأدب والعلم والفلسفة، وهي في ثمانية وعشرين مجلدا ضخماً انتشرت في جميع أنحاء أوربا، ونقلت معها أفكار الفلاسفة الإصلاحيين في إصلاح المجتمع من الوجهات السياسية والدينية والاجتماعية والأدبية.

وانتشر المذهب الإبداعي بفرنسا في أيام نابليون، وذلك بفضل الأديبة مدام دي ستايل التي كانت تنشر مقالات متتابعة عن الحركة الأدبية الجديدة في ألمانيا.

وفي أوائل التاسع عشر ظهر الكاتب الفرنسي العبقري (شاتوبريان) فغذى الأدب الفرنسي بمؤلفاته القيمة التي حافظ فيها على قواعد المذهب الكلاسيكي إلا انه اقتبس مادتها من الكتب الدينية والحياة العصرية خلافا لما كان متبعا في العصور السابقة.

وحين نبغ شاعر فرنسا الأكبر فيكتور هوغو انتشرت مبادئ المذهب الإبداعي التي تحض على تنويع مادة الكتابة، وعلى نقل مؤلفات الكتاب الكبار في الأمم الأجنبية إلى اللغة الفرنسية. وامتاز الابداعيون عن سواهم بالبحث عن الفرد إلى جانب مجموع الأمة وانصرفوا إلى التوسع في وصف المناظر والأشخاص والأشياء وصفاً دقيقاً حتى باتت كتاباتهم كأنها مرآة صافية انعكست فيها ما كان يقع تحت بصر الكتاب من الأمور والمناظر المختلفة.

وحمل لواء هذا المذهب الجديد من الأدباء والشعراء لامارتين وفيكتور هوغو، وجورج ساند. ثم تبعتهم طائفة كبيرة من الشبان، وحين نشر فيكتور هوغو روايته (كرومول) اعتبرت مقدمتها بمثابة منهج للمذهب الإبداعي. واخذ الكتاب يخاطبون الشعب بلغته الدارجة دون أن يتحروا الأسلوب العالي في الإنشاء وبات الابداعيون يعرفون بأنهم يرمون فيما يكتبونه إلي جعل فن الكتابة أكثر وضوحا واقرب إلى مباهج الطبيعة ومناظرها الجميلة بخلاف مبادئ المذهب المدرسي (الكلاسيكي) الجافة المملة.

وفي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر قام فريق من الكتاب يناهضون الإبداعيين ويدعون الدفاع عن الحقيقة وعن الطبيعة كما هي دون طلاء أو تزويق، ثم انصرفوا إلي وصف مشاهد الحياة المختلفة وصفاً دقيقاً مع إسهاب في ذكر الجزئيات وقد دعي أرباب

ص: 21

المذاهب بالواقعيين الطبيعيين واتصفوا بدقة التعبير ووفرة المفردات اللغوية وجمال الأسلوب. ومن اشهر هؤلاء الكتاب (غستاف فلوبير) و (الكونت دي ليل) و (اميل زولا).

وفي فجر القرن العشرين ظهرت طائفة من الأدباء والكتاب والشعراء في مختلف الممالك أسدت للبشرية خدمات قيمة في تنويع الأدب العالمي وزخرفته. ومن هؤلاء الأديب الفرنسي بيارلوتي الذي وصف البلاد الحارة والشرقية احسن وصف، والروائي النرويجي (ايبسن) الذي درس جهود الأمم الراقية التي تستهدف هدم الأوهام والتقاليد البالية والقضاء على العوائد السخيفة.

وامتاز بأدب القصة كتاب روسيون أشهرهم (تولستوي) و (دستويفسكي). وظهر في السنين الأخيرة مذهب جديد في الأدب هو المذهب الرمزي وقد أهمل اتباعه القيود البيانية القديمة، ونهجوا مناهج جديدة في النثر والشعر اعتقدوا إنها أخف وقعاً في النفوس وارق بياناً واحكم أعراباً عن مختلف المشاعر والأحاسيس، وترأس هذه الحركة الأدبية بفرنسا الأديب (ملارميه) ثم تبعه كل من (بودلير) و (فرلين).

رفيق التميمي

ص: 22

‌الأدب في سير أعلامه:

ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 31 -

البطل الضرير:

أيقن ريتشارد ولم يكن له شيء مما كان لأبيه من قوة العزم وصدق العبقرية أن الجيش قد غلبه على امره، بعد أن اثر الانحياز إليه وطرد من اجل ذلك البرلمان الذي اجتمع في عهده لكثرة أنصار الملكية فيه، فلم يعد له وهو حامي الجمهورية بعد أبيه من السلطان شيء، ففضل أن يركن إلى الدعة وان يفلت من الحكم إذ لا طاقة له بالنضال والاقتتال في وقت اضطربت فيه شؤون الدولة وتصارعت أهواء الرجال، فترك (هويت هول) إلى داره قبل أن تكرهه الحوادث إكراهاً على ذلك. . .

وأصبح الحكم لرجال الجيش، وكان على رأسهم في إنجلترا لامبرت، ولكن لامبري فوجئ بهجوم منك قائد كرمول في اسكتلندة فنهض لملاقاته، وتهددت البلاد حرب جديدة، ولكن فيرفاكس ذلك الذي مجده ملتن بمقطوعة من مقطوعاته - كما رأينا - انذر لامبرت بأنه منضم إلى منك، فاستخذى لامبرت وتفرق أصحابه وتم الأمر لمنك، فدعا مؤتمراً لينظر ما إذ ينبغي فعله، فجاءت الكثرة فيه من الملكيين والبرسبتيرينز الذين أذعنوا على رغمهم سنين للجيش: واجتمعت كلمة المؤتمر على إعادة الملكية، وذلك في مايو سنة 1660.

وكان ملتن في ذلك الجو المليء بالعواطف لا يزال يشغل نفسه بالدفاع عن الجمهورية، فنشر في مارس سنة 1660 آخر كتيباته السياسية، وجعل له عنواناً طويلًا هو:(الطريقة العاجلة السهلة لإقامة جمهورية حرة وما يترتب على ذلك من حسنات إذا قورن بالأخطاء وعدم التلاؤم المترتبين على السماح بإعادة الملكية في هذه الأمة).

ص: 23

وحسب القارئ عنوان الكتاب وحده للدولة على مبلغ ملتن من الشجاعة؛ وليس مصدر شجاعته التهور ولا الجهل بما يحيط به كما قد يخيل إلى بعض حسدته وكارهيه، وإنما كان مثله مثل الجندي في مدينة محاصرة، إذ تأبى عليه نفسه إلا أن يطلق آخر ما في كنانته وان يبذل أقصى ما في طوقه أنفة منه وحفاظاً وان علم انه هالك لا محالة!

ولم يقف ملتن وحدة للدفاع عن الجمهورية الذاهبة وتخويف الناس وتحذيرهم من الملكية العائدة، وإنما حذا حذوه طائفة من أنصار الحكم الجمهوري، فكان هو بكتيبة هذا ترجمانهم القوي الأمين، ولكن هؤلاء الجمهوريين كانوا في الحق أشبه بعلماء بيزانطة الذين اشتد بينهم وبين خصومهم الجدل، بينما كان محمد الفاتح يقرع عليهم أبواب مدينتهم، وقد سوى جنده واعد للأمر عدته!

وان المرء ليتملكه العجب حقاً إذا قرأ ما جاء في كتيب ملتن، وقد نشر قبل مجيء شارل الثاني بنحو شهرين. أقرا مثل عبارته هذه وانظر أي مبلغ بلغت شجاعته. قال:(حقا أن الناس قد أصابهم الجنون، أو أطبقت عليهم الغفلة، فهم يعلقون أكبر آمالهم في الطما نينة أو الأمن على رجل واحد، لا يصنع أكثر مما يصنعه أي رجل غيره إن جاءت به المصادفة طيباً، ولكن له القوة ما يصنع به من الشر أكثر مما يصنع ملايين الناس إن كان خبيثاً، وليس يصده عن وجهه أحد؛ إن سعادة الناس لا تتحقق إلا في مجلس حر يختارونه كله بأنفسهم حيث لا يتحكم فرد واحد ولكن يسود العقل وحده؛ وأي جنون هذا الذي يبلغ بقوم يقدرون على أن يديروا شؤونهم في نبل حتى يلقوا تدبير هذه الشؤون على كاهل رجل واحد، ويفعلون ذلك في ضعف واستخذاء، فيكونون أشبه بصبية لم يبلغوا سن الرشد إذ يتركون كل شيء لرعايته ومطلق تصرفه في حين انه لا يستطيع أن ينهض بما تعهد به، وهو في الوقت نفسه إذ يؤجر على تعهده لا ينظر إلى نفس نظرة خادمهم، بل يعد نفسه سيدهم المطاع!)

ويقترح ملتن أن يكون للمجلس الذي يشير إليه حق الاجتماع مدى الحياة، فلا يتغير رجاله كل مدة معينة إلا من مات أو تركه لأمر ما؛ ويقول ملتن أن هذا المقترح يبدو عجيباً لأول وهلة عند قوم ألفوا البرلمانات، ولكنة ضائق بهذه البرلمان المتغيرة، وعنده أن مثل هذا المجلس الدائم يكون أجدى على الدولة، لأنه يكتسب الخبرة بطول الامد، ويقف على حقيقة

ص: 24

ميول الناس، وما يتطلبه إصلاح أمورهم وتتوثق صلاته بهم، كما تعظم خبرته بالأمور الخارجية، ولكي تضمن الدولة صلاحية من يختارون وصلاحية من اختيروا، ينبغي أن تصلح نظام التعليم وتغرس في نفوس الناس حب الفضيلة والإيثار والتواضع والاعتدال، فلا يغترون بالمظاهر، ولا يخضعون لذوي المال والجاه، ويجب أن يعلموا مبادئ الحرية، ويعلموا كيف يسمون بأرواحهم وعقولهم ولن يحقق هذا للناس إلا جمهورية رائدها الخير للجميع.

ولكن ملتن يائس من بني قومه، انهم لن يستمعوا له فيقول:(أني على يقين انه كان على أن أتحدث إلى الشجر والحجارة فحسب، فليس ثمة من اصبح به، ولكني اهتف مع النبي: أيتها الأرض. . . أيتها الأرض. . . أيتها الأرض. . . لأني التربة نفسها ما يصم أبناؤها المخالفين آذانهم عنه)!

ويتحسر ملتن على الأمل الضائع فيقول (أين ذلك البرج الشاهق الطيب؟ أين الجمهورية التي افتخر الإنجليز بأنهم يقيمونها لتغشي الملوك بالظلمة وتكون روما أخرى في الغرب؟. . إذا عدنا إلى الملكية ووجدنا المساوئ القديمة تعود شيئا فشيئا. . تلك المساوئ التي لا بد أن تنجم عن الملك والقسيس مجتمعين، فربما اضطررنا إلى أن نحارب مرة ثانية كل ما حاربناه من قبل، وكلما اعتبرت في هذه الأشياء الواضحة السهلة المعقولة!)

ولكن هذه الصيحة على قوتها وبلاغتها وما تنطوي عليه من حرارة الأيمان وجراءة القلب، ما لبثت أن ضاعت في ضجيج الناس وأفراحهم بالملك العائد وذهبت في المواكب الهاتفة وفي رعود المدافع القاصفة، كما تذهب حفنة من الماء يلقى بها في عباب دافق، فها هو شارل الثاني يهبط إنجلترا في اليوم التاسع والعشرين من شهر مايو سنة 1660، وهو يوم عيد ميلاده، فاصبح كذلك عيد عودته، وكان له من العمر يومئذ ثلاثون عاماً.

وكانت عودة الملكية وبالا على ملتن والجمهوريين جميعاً؛ فقد فَقد منصبه بالضرورة، ولكن فَقد المنصب خطب هين إذا قيس إلى ما بات يتهدده وأصحابه، ولم يك ملتن يتوقع اقل من الشنق نكالا به وبمن ذهب مذهبة من الجمهوريين، وكان اسمه ابغض الأسماء إلى الملكيين بعد اسم كرمول وحده، ولم يعف كرمول الموت من التنكيل برفاقه. فقد بلغ الحنق بالعائدين أن نسوا إنسانيتهم فاخرجوا رفاته من القبر وشنقوا ما تركه البلى من عظام كما يشنق

ص: 25

الأحياء في حفل شهده الناس؛ ولن يصل الحقد والحنق فيما نرى إلى ابعد من هذا، ولن يكون في السخف ما هو اسخف من هذه الفعلة التي نحار كيف نصف شناعتها، وأي نعت ننعتها به، وإذا كان هذا موقف الحانقين من الموتى فكيف بموقفهم من الأحياء ومن ملتن على الأخص ذلك الذي دافع عن إعدام شارل والذي ناصر حكومة كرمول بكل ما في طاقته من جهد، والذي لم يأل جهداً في السخرية من أسرة ستيوارت وأطلاق قلمه فيهم بكل عيب، والذي ظل عدواً للملكية يرى فيها شراً محققاً ويدعو الناس إلى كراهيتها بكل ما في وسعه من أوجه القول ووسائل الإقناع إلى ما قبل عودتها بنحو شهرين. . .

ولم يك يشك أحد من أعدائه انه يتحدى الموت، وإلا فما باله يريد أن يسمع الشجر والحجارة ما لا يريد الناس أن يسمعوا، وما باله يظل على عناده لا يتزلزل ولا يتحول، وأيقن أصدقاؤه أن الموت لا محالة جزاؤه، فحملوه إلى سمنفيلد حيث أخفوه أربعة اشهر من مايو إلى أغسطس 1660.

وفي أواخر أغسطس اصدر الملك عفواً عاماً عن أعدائه السياسيين إلا من جاءت أسماؤهم في قرار العفو، فهؤلاء حق عليهم العقاب، وهم الذين كانت لهم صلة وثيقة بمحاكمة شارل الأول وإعدامه، وقد اعدم من هؤلاء عشرة وألقى في السجن عدد غيرهم، ولم يك ملتن من هؤلاء ولا من هؤلاء، إذ لم يدرج اسمه فيمن استثني من العفو. . .

وكيف تأتي ذلك؟ كيف نجا ملتن من حبل المشنقة وهو الذي برر إعدام شارل في كتاب أذاعه في أوربا لا في إنجلترا وحدها؟ هل أنجاه الاختفاء؟ كلا؛ فلم يك يمنع اختفاؤه أن يجئ اسمه فيمن يقتلون أو يسجنون حتى يعثر عليه.

لقد ذكرت آراء حول نجاته، ولكن مردها جميعاً إلى الظن، إذ لم يقف المؤرخون على حقيقة مقررة في هذا الأمر؛ فمن قائل أن أصدقاءه في البرلمان الجديد بذلوا قصارى جهدهم لينجوه، كان له في البرلمان بضعة نفر من المعجبين به منهم صديقه الحميم مارفل؛ وثمة رواية رواها ريتشارد سون في مذكراته وهو أحد من كتبوا عن ملتن في أوائل القرن الثامن عشر، وقد استمد من الشاعر بوب الذي يعزوها إلى بترتون أحد مشاهير الممثلين في الفترة التي أعقبت عودة الملكية، والذي يرجح انه أخذها بدوره من الشاعر الملكي دفنانت، ومؤداها أن دفنانت هذا قد ألقى به في السجن أثناء النزاع بين شارل الأول

ص: 26

والبرلمان، ولكن ملتن عمل على نجاته وما زال يسعى حتى أطلق سراحه، فلما دارت الأيام دورتها ووقع ملتن في مثل ما كان فيه دفنانت، رد هذا الشاعر له الجميل فعمل على خلاصه؛ وهناك رأى غير هذين يميل إليه كثرة النقاد ومنهم دكتور جونسون وخلاصته أن مرد نجاته إلى شيء من القدر وشيء من العطف، فإن رجلا مثل ملتن كان خليقاً أن يحمل بعقوبته كثيراً من أولى الرأي والبصيرة على أن يقدروه حق قدره فيطلقوه لما هو عسى أن يأتي به في الشعر والفن مما يكون من مفاخر بلاده؛ كذلك كان ملتن خليقاً أن يحمل الظافرين على الرحمة به لما أصابه، فهو اليوم ضرير فقير وحسبه ما أنزله به الدهر من حزن وما ناله به مكن عقوبة؛ ولقد كانت كلمة واحدة من شارل كفيلة أن تفقده حياته، ولكنها كانت تفقد أدب إنجلترا وأدب الدنيا كلها (الفردوس المفقود) و (الفردوس المستعار) و (سمسن اجنستس)، تلك الآثار الخوالد التي ما كانت تجود بمثلها أو بما يقرب منها عبقرية غير عبقرية ملتن.

وشمل العفو ملتن، لكن كان الناس عجباً بعد ذلك أن يأمر البرلمان به فيلقى في السجن، حيث أحرقت كتبه أمامه، وان لم يرى شيئاً حوله، فإن ما يحيط به من ظلمة لن يمحوها ألف نار كالنار التي أوقدتها كتبه؛ ولا يزال أمر حبسه على هذه الصورة غامضاً، ولكن (ماش)، وهو من اشهر من كتبوا عنه يفسر ذلك بأن البرلمان كان قد اصدر هذا الأمر بمسعى أصحابه ليجنبوه الكارثة الصحيحة، وهي إدراج اسمه في المستثنين من العفو! ومهما يكن من الأمر، فانه لم يلبث إلا قليلا حتى أمر بإطلاقه، ولإطلاقه قصة نوردها كشاهد جديد على عناده واستكباره، حتى في مثل هذا الظرف، فقد طلب إليه القائم على أمر السجن أن يدفع أجرة أقامته حسب المتبع، ولكن ملتن رأى انه غالى فيما طلب، وأحس في ذلك جوراً ظن انه مقصود به فرفض أن يدفع - وفي يده المال المطلوب - فما يطيق أن يتحكم فيه رجل مهما لقي من عنت الأيام، وتقدم أصحابه فأدوا عنه المال المطلوب على غير علمه، وجاء بعضهم فأخرجه من السجن، وكان ذلك في نهاية سنة 1660، وله من العمر اثنتان وخمسون سنة.

ولولا ما كان يحيط بالشاعر العظيم من أسباب الشقاء والأسى لجاز أن يتطرق شيء من الفرح إلى فؤاده، وقد نجا من الموت واسترد حريته، ولكن أين هو من الفرح، وإنه ليذوق

ص: 27

مرارة الفشل ويجرر أذيال الخيبة؛ ففي اشهر ذهبت جهوده التي بذلها في عشرين سنة من عمره هباء، وخر صرح آماله من قواعده ورأى أصحابه يساقون إلى الموت، كما سمع بالقبور تفتح فيحمل إلى المشنقة من طوتهم يد المنون! وبلغ من نفسه كل مبلغ أن يجد الكنيسة وقد عادلها سلطانهم في ظل الدولة، وان البرلمان يقيد حرية النشر بقيود غليظة، وان الحياة يشيع فيها الفجور والفسوق، ويتسلط على سياسة الدولة النساء والمتعصبون والأذلاء من المتملقين والماجنين.

وترك ملتن الحي القريب من هويت هول، واتخذ له مسكناً بعيداً في المدينة أو فيما جاورها. ويقول ريتشارد سون إنه لبث أياماً ينتابه الرعب أن يؤخذ غيلة بيد متعصب من أنصار الملكية، وذلك كان قليلا من الليل ما يهجع، وكان خوفه على بناته اشد من خوفه غلى نفسه!

وقل حظه من الثراء قلة كبيرة، فقد فقدَ مرتبه كما فقدَ ألفين من الجنيهات تعادل سبعة آلاف من جنيهاتنا اليوم كان قد أودعها في مأمن حكومي أثناء الجمهورية، فصودرت كما صودر بعض ما اشتراه من أملاك؛ على انه على الرغم من ذلك ظل يعيش عيشة مرضية لا هي إلى الرغد ولا هي إلى العوز.

وأصابه النقرس، فكان يلقى من الآمة ما يتضاءل عنده ما يعاني من عمى، وظل هذا المرض ينتابه من حين إلى حين، فيضيف آلامه إلى ما ترشقه به الأيام من سهام!

وكان اوجع هاتيك السهام ما كان يلقاه على أيدي بناته، وكانت كبراهن سنة 1661 في الخامسة عشرة من عمرها، ووسطاهن في الثالثة عشرة، وصغراهن في الثامنة؛ وهن بناته من زوجته الأولى التي ماتت سنة 1652؛ وكان يتمل أبوهن أن يكن انسه وسلوت نفسه في وحدته وشقائه، ويكن له عوناً على الأيام، وهو الضرير الذي زال عنه جاهه وألح المرض على بدنه، وهجره إلا قليلا ابنا أخته، إما انشغالا بما ملأ قلبيهما من لهو أو تهرباً مما يكلفهما به من قراءة ومراجعة، ولم يذكرا يده عليهما وقد رباهما في بيته صغيرين ولبثا في رعايته من عمريهما سنين.

ولكن عقوقهما لم يك شيئاً مذكوراً تلقاء عقوق بناته، فقد كان أسوا ما لقي من دهره هذا العقوق الذي ذاق معه اعمق الحزن، وهو الشاعر الذي تتأثر نفسه بالمعاني أضعاف ما

ص: 28

يتأثر بها غيره من الناس، ولعقوق بناته إياه قصة يحسن أن نأتي بها على سردها. . . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 29

‌النهضة العلمية

للأستاذ علي عبود العلوي

(ظلت الحياة الأدبية في حضرموت برهة من الزمن وهي

تحت السير اقتفاء السمة التي كانت متغلبة على الآداب في

القرون الماضية، وما زالت كذلك إلى أن أتاح الله لها من

يوجهها الوجهة الصادقة فنهضت من كبوتها نهوضاً تجلى

آثره في أدب الكهول اليوم كما اتشح به أدب الشباب. والفضل

في ذلك يعود إلى زعيم النهضة الأدبية السيد أبو بكر ابن عبد

الرحمان شهاب العلوي الموجود سنة 1262هـ والمتوفى

سنة1341 هـ.

وهذا ما حدا بنا لدراسة أدبه دراسة مفصلة وهذه الكلمة من إحدى لبنات هذه الدراسة أخص بها (الرسالة) الغراء).

ما اهتزت ربوع الوطن الحضرمي كاهتزازها للثورة الفكرية التي امتد سناها على وادي ابن راشد أن لم نقل تجاوزته إلى الأماكن الأخرى.

اجل هكذا انبعثت في حضرموت روح النهضة العلمية في القرن الثالث عشر الهجري فسطع تاريخها بإعلام لهم فوق مكانتهم العلمية المرموقة مكانة الزعامة السياسية والاجتماعية والإصلاحية والاقتصادية، وكل هذه قيم عظيمة تستدعي من المؤرخ المنصف الوقوف أمامها وقفه الخاشع ليتهيأ له إصدار الحكم عنها بعد نفاذ الفكر والتحليق به فوق مراميها، وبذلك ينير السبيل للتاريخ، وهو في أمان من أن يطغي الحكم في ناحية فيمس النواحي الأخرى.

ومن شأننا في هذه الكلمة أن نلم بالموضوع إلمامه وجيزة ندرك بها تاريخ العصر الذي نشأ فيه شاعرنا الشهاب العلوي ومعرفة مقدار الأثر الذي تركه في أدبه وميوله.

ص: 30

امتدت الثورة الفكرية في حضرموت امتدادا لم يسبق له مثيل فيما قرأناه من تاريخ حضرموت وسير اعلامها؛ إذ انبعثت منها روح فياضة ترمي إلى محو الأمية، وتنوير الأفكار والقيام بنشر العلم قياماً يرتكز على أن تتخطى الدعوة إليه المدن والقرى التي تزدان معاهدها ومساجدها بالدروس العلمية الخاصة والعامة إلى نشره بين جميع الطبقات حتى التي تسكن الجبال من البادية بإرسال المرشدين إليهم تلو المرشدين.

ومرد هذا فيما نعتقد انه من قبيل رد فعل. فقد أنفت حضرموت من الظلم الذي طال عهدها به والعبودية والتسخير التي فرضها كل من له أي قدرة إلى حد العامة الذين تناط بهم الدارة الحياة الاجتماعية فقد كونوا لهم رابطة تساعدهم على الإضراب عن العمل وأداء الواجبات أن لم تمنح لهم الإتاوة المفروضة بحسب رائيهم.

ومما شجع هؤلاء الفوضويين على العبث بالأمن ضعف الحكومية الحضرمية - استغفر الله - بل فقدها بالكلية وتلاشي أمرها ولم تبق لها سمة معروفة ولم يذكر التاريخ إلا تعدد الحكام ما بين كل ريعة وأخرى بل في البلد الواحدة.

لا نستثني من هذه الفوضى إلا ما كانت تنعم به بعض القرى التي يناط الحكم فيها لبعض السادة العلويين - المناصب أو القرى التي يحكمها بعض أبناء بيوتاتها ممن كانت لأجدادهم مكانة علمية وصلاح وفضل ويسمون أيضاً (بالمناصب).

من اجل هذا فكر أكابر علماء القطر الحضرمي وقادة الرأي فيه في الوسيلة التي يمكن القضاء بها على هذه الفوضى.

وأي وسيلة بيدهم اعظم من نشر الدعوة الإسلامية بصورة أوسع نطاقا مما كانت قبلها.

وأني تلاقي دعوتهم أذاناً صاغية أن لم تتجاوز المحيط الذي طالما تاق إلى وجود قيام الوالي العدل من كثرة ما أصيب به من الظلم؟

فلا بد إذاً من توسيع نطاق الدعوة بصورة أكبر مما عرفتها حضرموت في الماضي ليضمنوا بها بعض الفائدة أن لم تحققها كلها.

وما دام مصدر الفوضى آتيا من قبل البادية التي تروع القطر بما تصبه على البلاد من ويلات تلو الويلات. فلا بد إذاً من غزوها في عقر دارها بالدعوة الإسلامية وتعريفها بعض الواجبات وإرشادها إلى ما فيه الخير والصلاح.

ص: 31

وهذه دعوة عظيمة لابد من تدعيمها بقوة الروح والأيمان الصادق، وصدق العزيمة وبذل الأموال ولا شك إنها أصابت في قائدها المحنك وزعيمها الممتاز من اسبغ الله عليه الفضل الواسع وأهله بجميع المؤهلات التي تخول له قيادة مثل هذه الحركة العظيمة بما أوتيه من نباهة الذكر والسعة العلمية، والفطنة، وقوة الأيمان، والعزيمة الصادقة ما هيأ لدعوته أن تجوب القطر الحضرمي ويتردد صداها بين الخافقين.

فمن هذا الزعيم الذي أسندت إليه حضرموت قيادة هذه الحركة الإصلاحية؟

هو العارف بالله السيد أحمد بن عمر بن سميط العلوي المتوفى سنة 1257هـ.

نشأ هذا السيد الأمام في محيط يشع بالسؤدد والمكارم، وزحابة الأخلاق؛ تحيط به حالة من النور والفضل والنبل والعلم وسراوة التقوى فكان من هذه المكونات فذاً في التاريخ.

وعلى نبعة العلم والده السيد عمر بن زين تثقفت ثقافته

الأولى؛ وكان السيد عمر مشغولاً بالثقافة ليلاً ونهاراً، وحينما

استطاع السيد أحمد الاندماج بالصف الذي يصله بركب والده

العلمي اصبح هو الذي يروي ظمأ والده بالقراءة عليه ليلاً

ونهاراً. وبالطبع تهيأ له من الاتصال بوالده ما لم يتهيأ لغيره،

وهذا له اثر عظيم في تكوينه العلمي، وكان هذا شأنه إلى أن

لحق والده بربه في 2431207هـ فاتصل بابن عمه السيد

عبد الرحمن بن محمد زين، وامتد اتصاله بعد هذا بأكابر

رجال عصره وهم من الكثرة بحيث لا يمكن الإلمام بهم في

مقام يقتضي أن نسير فيه بالإيجاز.

وما أن ترعرع في الطلب حتى تم له من التفوق ما لا يدركه إلا الصفوة المختارة من أمثاله.

ص: 32

وما كانت نشأته إلا في عصر مضطرب اشد الاضطراب تعصف به الناحية السياسية القلقة من جانب، والحياة الاجتماعية المريضة من الجانب الآخر كما تتجاوب فيه الموجة العلمية الفياضة.

وليس بمستغرب أن يدوي صيته في القطر الحضرمي تجاه التموجات التي كان يذيعها من على منبر الإصلاح نحو التوجيه العام، ومن كان في مثل مكانته العلمية خليق أن ينهل من نبع علمه الفياض الراغبون في المعارف والثقافة العالية.

وحسبك أن تعلم أن حضرموت لم تتوان عن الاتصال بهذا السيد الإمام. بل اندمجت فيه وكرعت من حياض علمه الزاخر وانتشت بدعوته الإصلاحية وتبارت في القيام بتنفيذها.

كيف كانت حضرموت في عصره؟

وعلى ماذا تنطوي في دعوته؟

أما حضرموت من الناحية السياسية فقد تمزقت أوصالها وأصبح النفوذ لمن عز كما في المثل. ولبحث هذه الناحية موضوع آخر.

أما ما يتصل بوشائج البحث إلى هذه الناحية فلا بأس من أن ننير السبيل فيها ولو قليلا لكي نتصور اثر النهضة العلمية تصوراً تاماً

1 -

كان من اثر قسوة الظلم والفوضى التي سادت في هذا العصر أن تمزقت أوصال الحياة الاجتماعية فنتج عن هذا ازدياد الهجرة ازدياداً خيف من عواقبه الوخيمة بان تصبح البلاد ولم يبق بها من السكان أحد.

وكادت الحال تصل إلى هذه النتيجة؛ فقد جرفت الهجرة عدداً وافراً من أبناء الوطن بل بلغ بها الحال أن سافرت بعض الفخائذ العلوية بأكملها، وإلى اليوم لم يبق بحضرموت منهم أحد. والهجرة وأن تكن قديمة وقد برم بها الأمام الحداد اذو يقول:

مشتتون بأطراف البلاد على

رغم الأنوف كما تهواه حساد

إلا أنها في هذا القرن بلغت أقصى ما يتصوره العقل.

2 -

كان من جراء الفوضى أن خربت البلاد وقلت حاصلاتها، ولم تبق لدى الزراع رغبة في الزراعة على ضعفها لأنهم يتعرضون للضرائب الفادحة من ناحية الحكام المتعددة أسماؤهم، ولعبث البادية من الناحية الأخرى.

ص: 33

وكذلك ضعفت التجارة فكسدت الأسواق وكادت تتعطل الحياة الاجتماعية والاقتصادية من كل ناحية.

ضاق بهذه الحالة أعيان القطر الحضرمي وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن عمر بن سميط، ونظر إلى الوسيلة التي يمكن بها القضاء على ما آل إليه الأمر: فرأى إنها تنحصر في الأمور الآتية:

1 -

نشر العلم بين جميع الطبقات.

2 -

تنظيم الحياة الاقتصادية بما يكفل للبلاد الخير والصلاح.

3 -

الدعوة إلى إيجاد والٍ عدلٍ، وبذلك تنتعش الآمال ويسود ما بين الناس الهناء والطمأنينة.

دأب مجاهداً في سبيل إعلاء هذه الفكرة السامية أربعين سنة وهو لا تفتر له عزيمة ولم تقعد به همة.

ومن اجل هذا (كان يشدد على كل عالم ومتعلم ويلومه اشد اللوم في ترك الدعوة ولا يتركه حتى يأخذ عليه العهد بالدعوة فإذا جاء ثانياً سأله عما فعل).

(اخذ يرسل الدعاة إلى القرى قرية فقرية وطلب لهم المعاونة المالية من أربابها كما كان يفيض عليهم من ماله الخاص. فكان الدعاة يجوبون بها طرقها وينادون من على رؤوس المنابر وبعد الصلوات، وقد يطلع منهم جماعة على منارة جامع القرية فيدعون الناس إلى الله ويتداولون ذلك فيجتمع الناس قياماً وقعوداً في سطوح بيوتهم يستمعون إليهم ويتعلمون منهم، ومنهم من يشرف من طاقته منصتاً لذلك).

ثم ألقى نظرة نحو الناشئة فأخذ في تعميم الكتاتيب ووضع لها نظاماً خاصاً، ولم يقصر الأمر على تعليم البنين بل أمر بتعليم البنات.

وكان يقول: (إن البنت التي لم نعلمها أمر دينها ولم نمكن الأيمان من قلبها لا تأتينا بنجباء، ولا تربي أولادها على محبة الخير. فاجتهد في تعليم طائفة منهن ثم نشرهن للتعليم فلم تمض مدة وجيزة حتى كانت البيوت تحن بالتعليم والقراءة كأنها بيوت النحل.

وكان الرجال من قبل لا يسمعون لفظة تعيير منهن على التقصير أو الخطأ بل ربما يحبذنهم عليه.

ص: 34

فلما تعلمن كن مهمازاً لهم إلى الخير، وطالما عيرنهم على ظلمهم وقبحنهم على ما يرتكبون منه فلم يعلم إلا الله كم كففن من يد ظالمة وأنهضن من همة نائمة).

ثم التفت نحو البوادي، وخصهم بمزيد عنايته وقال:(لا ينبغي لنا أن نلومهم على ما يفعلون إذا لم نعلمهم فإن تعديهم الحدود نتيجة جهلهم. فعلينا أن نزيل السبب الذي هو الجهل فيزول المسبب وهو الظلم).

وألقى نظرة نحو البوادي المتنقلة وهم الذين لا قرى لهم أو لهم قرى بعيدة لا تبلغها أقدام الدعاة فجعل لهم ليالي تعليم ودعوة إذا جاءوا إلى بلدة (شبام) بقوافلهم وجلبهم فكان الدعاة يأتونهم ليلا فيسمرون عندهم وهم في محطاتهم خارج البلد على الرمل. فكان الأعرابي يأتي وأنفه في خزامة الشيطان وينقلب مبصراً بنور الإيمان.

وفي مسئولية أهل العلم يقول:

معاشر أهلِ العلم قوموا جميعكم

قيام امرئ في دعوة الخلق تؤجروا

ونوبوا عن المختار في نشر ما أتى

إليكم به عن ربه لا تقصروا

ولا تخذلوا شرع الرسول فإنه

عزيز عليه ما عنتم بل انصروا

فمن نصر الشرع الشريف فنصره

تكفل مولاه به فتدبروا

وما دام مناط الدعوة ونجاحها يرتكز على سمو أخلاق الدعاة والمرشدين وابتعادهم عما يتنافى ومكانتهم الأدبية ودعوتهم لذلك وجه إليهم إرشاداته فقال:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً

إذ عبت فيهم أموراً أنت تأتيها

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً

والموبقات لعمري أنت حاويها

ودعوة مثل هذه تستدعي نفقة عظيمة ومن اجدر بالتسابق والإنفاق عليها من ذوي السعة والمال، ولذلك عرض بالحث على الإنفاق والمباراة فيه فقال:

لا ينفع المرء إلا ما يقدمه

لنفسه عند مولى الخلق باريها

ما للحريص على الدنيا سوى كفن

ولو أتاه من الأموال غاليها

لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة

فليس إنفاقها في الخير يفنيها

ولا تضن بها في حال جفوتها

فليس إمساكها بخلا بمبقيها

(يتبع)

ص: 35

علي عبود العلوي

ص: 36

‌من عيون الأدب الغربي:

محاورات خيالية

لولتر سافيج لاندور

للأستاذ بولس سلامة

- 3 -

الخصوم النبلاء

تمهيد:

(كانت رومة وقرطجنة في كفاح دام مرير حول السيادة على

البحر، هذا البحر الذي يفصل بين قارتين ويصل بينهما والذي

كان ولما يزل موضع النزاع بين الدول الكبرى حتى حربنا

هذه. ذلك أن الذي يسود هذا البحر يسود البر والبحر معاً.

وكان هينيال ومرسيل قائدي الجيشين المتحاربين

وفي هذا المقال من مقالات (لاندور) نرى مرسيل وقد خر صريعاً في الميدان ووقف بجانبه خصمه هينيال يريد أن يبتهج بالنصر ولا يستطيع. ثم نسمع هذا الحوار النبيل بين القائدين أحدهما جريح مقهور والآخر ظافر منصور

تأمل هذه الصورة الرائعة ثم الق نظرة على ما يجري حولنا الآن من محاكمات ثم قارن بين الحالين واسأل نفسك كما سألت نفسي: هل تقدمت الإنسانية أو تقهقرت في مدى هذه القرون الطوال).

(مارسيل القائد الروماني ملقى على الأرض أمام هينيال)

هينيال: هلا أجد فارساً نومادياً سريعاً! مرسيل مرسيل. إنه لا يبدي حراكا. أظنه قد مات.

ص: 37

ألم يحرك إصبعه! أيها الجند تنحوا. دعوه يستنشق شيئاً من الهواء. أعطوه قليلا من الماء. اجمعوا هذه الأوراق والأعشاب وضعوها تحت رأسه. اخلعوا شكته، وارفعوا عنه خوذته. ها هو ذا يتنفس. يخيل إلي أنه فتح عينيه ثم أغمضهما. ولكن من الذي لمس كتفي (يلتفت وراءه) هذا فرس مارسيل. لا يمتطيه من بعده أحد. إيه حتى هؤلاء الرومان بدءوا يتذوقون النعيم. ما هذه الحلي الذهبية (مشيراً إلى الفرس).

قائد غالي: يا لَلِّص. إن هذه السلاسل كانت قلادة مليكنا. وقد انتقمت منه الآلهة.

هينيال: سوف نتكلم عن الانتقام بين أسوار روما. ابحث عن طبيب الآن فالسهم يجب أن ينزع مهما كان عميقاً. أرسلوا السفن إلى قرطجنة وقولوا لها إن هينيال على أبواب رومة وإن قاهر سيراقوسة قد وقع مقهوراً. لقد سقط مارسيل الذي كان يحول بيني وبين روما. (مخاطباً مرسيل) أيها الرجل الشجاع. أني أحاول أن ابتهج ولكني لا أستطيع. هذا المحيا أي جلال فيه! وهذا القوام أي عظمة تحتويه! إنها لعظمة أولئك الذين سمعنا عنهم في أرض النعيم. أولئك الذين جاهدوا وخروا على الأرض المضمخة بدمائهم ثم تأمل: ما أبسط سلاحه وعدَّته!

قائد غالي: لقد قتله أصحابي. بل أغلب الظن أني قاتله. إن هذه السلاسل الذهبية وقد كانت لمليكي يجب أن تكون من نصيبي. إن شرف بلادي يقضي أن لا يأخذها غيري.

هينيال: يا صاحبي إن عظمة مرسيل كانت في غنى عن هذه السلاسل، فلما قتل مليككم لم يحتفظ بها لنفسه ولا للآلهة ولكنه وضعها على فرسه. .

قائد غالي: اسمع لي يا هينيال.

هينيال: ماذا تقول؟ أفي هذه اللحظة التي يرقد فيها مرسيل أمامي مثخناً بالجراح وهو بين الحياة والموت، أفي هذه اللحظة التي قد تعود فيها حياته إليه فيساق في موكب النصر إلى قرطجنة، أفي الوقت الذي تنتظر فيه إيطاليا وصقلية واليونان تلبية أوامري، أفي هذا الوقت تسألني أن أستمع لك؟ ولكن هوّن عليك! سوف أعطيك سرجي هذا المرصع بالجواهر، وهو أثمن من هذه السلاسل عشر مرات.

قائد غالي: لي أنا!

هينيال: نعم لك أنت.

ص: 38

قائد غالي: وهذه الجواهر؟

هينيال: نعم.

قائد غالي: إيه هينيال الذي لا يقهر، وما أسعدك يا بلادي بهذا الحلف العظيم! إني مدين لك بالشكر، بالحب، بالولاء إلى الابد.

هينيال: نحن عادة نحدد الوقت في المحالفات. عد الآن إلى مركزك. إني أريد أن أرى الطبيب وأعرف رأيه، حياة مرسيل، انتصار هينيال. وماذا في العيش بعد ذلك. رومة، وقرطجنة، ولا شئ.

مرسيل: أموت الآن، للآلهة الحمد. فالقائد الروماني لا يؤخذ أسيراً.

هينيال: (للطبيب) ألا يقوى على السفر بحراً. انزع منه السهم.

الطبيب: إذا نزعته قضى نحبه.

مرسيل: إنه يؤلمني، انزعه.

هينيال: يا مرسيل إني لا ألمح ظلا للألم في محياك. وإني أكره أن أتعجل منيتك وأنت خصمي في يدي. ومادام شفاؤك عسيراً فأنت - كما تقول - لست أسيراً.

هينيال: (للطبيب) أليس لديك ما يخفف هذا الألم الذي يمضه وإن كان يخفيه؟

مرسيل: يا هينيال أعطني يدك. لقد حبوتني بعطفك، وآسيت جرحي بلطفك. (للطبيب) اذهب يا صاحبي فهناك كثيرون محتاجون إليك؛ كثيرون وقعوا بجانبي.

هينيال: يا مرسيل هل لك أن توصي بلادك بالصلح وتخبر مجلس الشيوخ بتفوق قواتي التي لا تجدي معها المقاومة. اللوح معد، وهذا ختمك دعني أنزعه من يدك لتختم. كم يسرني أن أراك تستطيع أن تتكئ قليلا وتبسم

مرسيل: بعد ساعة أو بضع ساعة سوف تلقاني الآلهة غاضبة وهي تقول يا مرسيل: هذه كتابتك. لقد فقدت روما رجلا فقدت مثله رجالا من قبل؛ ولكن لما يزل في روما رجال.

هينيال: ماذا تقول؟ أتخشى الكذب؟ إنه ليخجلني أن أعترف لك بأن رجالي متوحشون والمراكز القريبة يقوم عليها غاليون موتورون، والنوماديون ليسوا بأقل وحشية. وإني لا أستطيع البقاء بجوارك إذ أحتاج أن أكون بعيداً، وأخشى أن ينالك سوء في غيابي إذا علم هؤلاء أنك أبيت أن تنصح بلادك بالصلح فمنعتهم العودة إلى بلادهم التي طال عنها

ص: 39

غيابهم.

مرسيل: يا هينيال أنت لا تجود بأنفاسك كما أجود.

هينيال: ماذا تعني!

مرسيل: أعني أنك تخشى أشياء كثيرة ولكنني لم أعد أخشى شيئاً. إن قسوة جنودك لا تضيرني وجنودي لا يكونون عليَّ قساة. إن هينيال تبعده مهام عمله فتبتعد في أثر جواده سلطته، وعلى هذه الحشائش بقايا قائد مجروح ولكن لا يزال هو روح الجيش وقوته. أتستطيع أن تتنازل عن سلطان منحته لك بلادك؟ أو تستطيع أن تقول إنك بأخطائك قد جعلته دون سلطان خصمك؟ لقد تكلمت كثيراً. دعوني أستريح. إن هذه العباءة تضايقني.

هنيبال: لقد وضعتها على رأسك لتقيك الشمس لما خلعوا عنك خوذتك. دعني الآن أضعها تحت رأسك وأن أعيد هذا الخاتم إلى إصبعك.

مرسيل: بل خذه لك. لقد أعطتنيه امرأة لاجئة في سيراقوسة غطته بخصلة من شعرها وقالت لي خذه هبة مني فهو كل ما أملك. ولم يخطر ببالي يوم ذاك أن سيأتي علي يوم يكون فيه حالها حالي ومقالها مقالي. ما أعجب القدر! في لحظة تتحول مصائر البشر! خذه يا هينيال، وليكن وهذه العباءة التي وسدتنيها هدايا ضيفين يفترقان. قد يأتي يوم تجلس فيه تحت سقف بيتي ظافراً أو غير ظافر فتجد هذه الهدايا ذات نفع ففي شدتك قد يذكر أبنائي أن فوق هذه العباءة جاد أبوهم بأنفاسه فيكافئونك على جميلك؛ وفي رخائك قد يسرك أن تحميهم غوائل الدهر، وهي أقرب ما تكون إلى الإنسان حين يظن أنه بنجوى منها، ولكن هناك شيء واحد.

هينيال: ماذا؟

مرسيل: هذا الجسم.

هينيال: أين تريد أن تحمل؟ الرجال معدون.

مرسيل: لست أعني هذا. قوتي تزايلي، ويخيل لي أني أسمع ما بداخلي ولا اسمع ما حولي. نظري وحواسي تضطرب. أريد أن أقول إن هذا الجثمان بعد أن تفارقه روحي لا يستحق اهتمام أحد، ولكن نبلك يأبى عليك أن تضن به على أهلي حناناً وعطفاً.

هينيال: هل عندك شيء آخر تسأله، فإني أحس رغبة مكبوتة فيك.

ص: 40

مرسيل: الواجب والموت يذكراننا بالوطن أحياناً.

هينيال: أجل فإلى الوطن تتجه أفكار المنصورين والمقهورين على السوء. .

مرسيل: هل عندك أسرى من حرسي.

هينيال: كثيرون. رأيتهم مطروحين على الأرض يموتون فليموتوا، إنهم توسكانيون. ورأيت آخرين هاربين، إلا شاباً رومانياً رايته يكر علينا وهو مجروح. أحاطوا به وأنزلوه من فوق فرسه وهم يطعنون الفرس بالسيوف، ولكن هؤلاء الرومان الشجعان يعرفون كيف يملكون زمام شجاعتهم وكيف يستردونها في نبل. ولكن لماذا تفكر فيهم يا مرسيل؟ أو لك أمنية أخرى وما الذي يزعجك؟

مرسيل: لقد كتمتها طويلا. . . ابني. . . ابني العزيز.

هينيال: أين هو. لعله هو، وهل كان معك؟

مرسيل: لو كان معي لشاركني نصيبي، ولكنه نجا. حمداً للآلهة التي رفقت بي حياً، وكانت بي في مماتي رفيقة. أشكر لك صنيعك.

(الخرطوم - السودان)

بولس سلامة

ص: 41

‌أمنيات.

. .!

للشاعر إبراهيم محمد نجا

يا ليتني كنت العبير إلى ورودك ينتمي

يا ليتني كنت الغدير على ظلالك يرتمي

يا ليتني كنت الهزار بدوحك المترنم

يهدي إلى دنياك أغنية المحب المغرم!

يا ليتني كنت الندى وافى زهورك في الصباح

فاستضحكت وتمايلت نشوى بأحضان الرياح!

يا ليتني كنتِ الفراش يرفّ عربيد الجناح

يهفو إلى العطر المحبب، والرحيق المستباح!

يا ليتني كنت الشعاع سما بأجواز الفضاء

كالموجة العذراء تسبح بين موجات وِضاء

بالشوق يصعد للذرى. . . بالحب يرقى للعلاء

يهفو إليك، وأنت نجم قد تناءى في السماء!

يا ليتني رؤيا منام في العيون النائمة

يا ليتني ذكرى غرام في القلوب الحالمة

يا ليتني نجوى العيون أو الشفاه الناعمة

يا ليتني الفرج الطليق مع الأماني الهائمة!

يا ليتني يا واحة الأيام نبع في حماك

يا ليتني يا كعبة الأحلام حلم في صباك

يا ليتني يا قبلة الأشواق شوق في هواك

يا ليتني يا مبعث الإلهام إلهام حواك!

يا ليتني أحيا - وأنت معي - على قمم الجبال

نرنو إلى الأفق الموشّح بالضياء وبالظلال

والبحر جياش كأشواق المحب إلى الوصال

ص: 42

ونظل نسبح في الفضاء على مويجات الخيال

يا ليتني - وأنا المحب عواطفي نار ونور -

أسمو بأشواقي إلى الأفق المحجّب بالستور

فأظل أسمعه شكاياتي؛ ليأذن بالعبور

فإذا عبرت، فقد خلصت إلى اللباب من القشور!

ياليتني شدو البلابل في الليالي المقمراتِ

يا ليتني إشراقة الآمال في ليل الحياة

يا ليتني. . . أواه من تلك الأماني الضائعات!

كيف العزاء، وكل شيء ضاع. . . حتى أمنياتي؟!

لو كنت يا دنياي في الغيب المحجّب لا أزال

كنت استرحت، فليس لي قلب يحن إلى الجمال

وسلمت من لهف إلى النبع الموشح بالظلال

وتركت أيامي تمر كأنها رؤيا خيال!

إبراهيم محمد نجا

ص: 43

‌البريد الأدبي

طه الراوي:

كنت منذ ساعتين من احتفال للجامعة العربية فلقيت صاحب الفخامة السيد جميل المدفعي فوقفت معه أحدثه، ورأيت أن نتحدث عن العراق. فبدأت بأحب الذكريات إلى نفسي، وأقربها إلى قلبي. فقلت: كيف السيد طه الراوي؟ فأجاب بصوت لا أكاد أسمعه: (لا أقدر على أن أخبرك خبره) وأشار إشارة لم أتبينها. فحسبت أنه يعني ما عرفت من قبل من ضعف بصر الأستاذ الراوي. فقلت: قد لقيته في القدس منذ ثلاث سنوات وفي دمشق منذ سنتين، وكان يشكو ضعف بصره. ولكن كيف هو؟

فقال السيد جميل والأسى يملك عليه صوته: قد مات. وسكتّ وسكت.

وا أسفا! وا حسرتا على الصديق الحميم، السيد النبيل، العالم الجليل، الأديب المتبحر. وا حسرتا للخلق الكريم، والنفس الزكية، المحبَّبة إلى كل من عرفها، والقريبة إلى كل من سمع عنها.

والله ما ذكر في مجلس من معارفه إلا اجتمعت القلوب على حبه، والألسن على مدحه، وما ذكرته عند من يعرفه في مصر والشام بل العراق إلا كان الجواب ثناء عليه، وإعجاباً بعلمه وأدبه، وإكباراً لخلقه.

عرفت الأستاذ الكريم - أوسع الله له في رحمته، وأجزل لآله وإخوانه وتلاميذه الصبر والعزاء - منذ عشر سنين ولقيته في بغداد، والقاهرة، والقدس، وفي مدائن من سورية ولبنان، وراسلته على البعد، وجالسته طويلا، وتحادثنا في العلم والأدب والسياسة والاجتماع والأخلاق وفي أمور شتى. فما عرفته إلا ذكياً عالماً أديباً فاضلا، لا يتكلم في موضوع إلا أفاض فيه إفاضة المحيط بأطرافه، المتمكن منه، المتثبت فيه، وكم قلت في حضوره وغيبته اعترافاً بالحق:(ما يجلس أحد إلى الأستاذ طه إلا استفاد من فلسفته) وأشهد أني ما حضرت مجلساً له في داره أو غير داره؛ إلا فرحت بمجلسه، وأنست به، وأصخت إلى حديثه وهو يصرف الكلام في شجونه، وينقل الحديث في معارفه الواسعة، وتجاربه الجمة.

وكنت أصغى إليه، واعجب به فيما أوافقه فيه وما أخالفه. وندر أن خالفته، وما اذكر أني

ص: 44

جادلته أو ماريته قط. بل كنا نلتقي التقاء صديقين تقاربت قلوبهما وعقولهما، ومعارفهما، وعواطفهما، وآراؤهما.

وما لقيته أو كتبت إليه، أو حملت أحداً إليه رسالة، أو بلغت عنه قولا أو خبراً إلا فرحت وهششت، والتمست السرور في ذكراه، وحاولت أن أسره بكلمة من الجد أو المزاح يسمعها أو يبلغها.

وقل أن صادفت أحداً فوثقت به، وسكنت إليه، وأنست به حاضراً، وبذكره غائباً كالصديق الكريم العزيز المفتقد السيد طه الراوي.

وقد أردت هذا العام أن أحقق مقصد الجامعة العربية في تزاور الأساتذة في البلاد العربية، وفكرت في أن أدعو بعض أدباء العراق والشام لزيارة جامعتنا، والمحاضرة فيها. فكان الأستاذ الراوي أول من ذكرته وأول من ذكره لي من استشرته في الشام ومصر.

وما قدرت أن الموت يسبقنا إليه، ويستأثر به، ويحرمنا منه ويصيبنا فيه.

أي خسارة للأدب! وأي رزء للاخوة، وأية حسرة للصداقة. وأي مصيبة للخلق الكريم.

أي نعي فادح، ونبأ قاصم نعي السيد الراوي إلى أصدقائه وإخوانه وتلاميذه ومعارفه.

يا صديقي العزيز لك رحمة الله، وإخوانك اللوعة والحسرة، والأسى والحنين والافتقاد والبكاء عليك؛ ثم لهم الصبر والتأسي.

يا صديقي النبيل! هذه كلمة يدفعها الحزن ويصدها، ويمدها الأسى ويقبضها، وتطيلها اللوعة وتقصرها. ففي النفس معان تستعصي على اللفظ، وعلى اللسان ألفاظ ينوء بها القلم، وفي القلم اضطراب لا يقره واقفاً، ولا يتركه سائراً، فليجف المداد، ولتسل الدموع يا صديقي.

وقفت الحيرة بقلمي هنا. فرحمك الله. رحمك الله.

عبد الوهاب عزام

حماتي تحبني:

سالت (الاثنان) الغراء الأديب الكبير الأستاذ أحمد رامي الشاعر الناثر المشهور عن هذا المثل (حماتي تحبني)، وقد روته تلك الصحيفة (حماتك تحبك) فأملي على الأستاذ أدبه

ص: 45

المستنبط في اصله ومعناه ما أملاه، وفي الجواب تفنن وبراعة، وقد يضيف سهم الرامي. والذي نراه أن اصل المثل لا يدريه إلا أهل القرن الذي نجم فيه، وهو القرن السابع حسب المظن. وأما معناه فقد أظهره العلامة الخفاجي في كتاب (شفاء الغليل) قال:

(حماتي تحبني) هو من أمثال العامة، يقوله من صادف نعمة لم تكن على خاطره، قال ابن نباته مورياً:

كلما عجت في حما

ة على خير موطن

أجد الأكل والندى

فحماتي تحبني

قلت: صاحب هذين البيتين هو (المصري) لا (السعدي) معاصر (المتنبي) ونون نباته عند ناسي الشاعر إلى جده القديم (عبد الرحمن بن نباته) صاحب الخطب المشهورة - مضمونة، أو الضم في هذا العلم أكثر واثبت كما قال (المجد) وعند ناسي (جمال الدين) إلى ما ذكره شيخ صاحب (التاج) مفتوحة، وهذا قوله كما روى شارح (القاموس):

قال شيخنا: وأما الجمال محمد بن نباته المصري الشاعر فانه بالفتح كما جزم به أئمة من شيوخنا لأنه كان يورى في شعره بالقطر النباتي، يعمل منه قطع كالبلور شديد البياض والصقالة، والظاهر انه فارسي حادث، وكان أولى بالمضيف - يعني صاحب القاموس - أن ينبه عليه ولكنه أغفله.

قلت: الضم خير مع حلاوة هذا القول. . .

السهمي

طيرتاناذ:

نقل الأستاذ شكري محمود أحمد في العدد 682 من (الرسالة) النيرة تعليقاً على نقل الباحث الفهامة محمد إسعاف النشاشيبي المنشورة في العدد 678 من (الرسالة) الغراء: أن الخبر المنسوب إلى محمد بن مسروق في هذه النقل النشاشيبية هو من أخبار الحسن بن هاني، كما رواه ابن منظور في الصفحة 302، 203 وان الاسم في البيت الأول هو (طيزناباذ) وليس (بطور سيناء) ثم نقل في الحاشية عن كتاب مسالك الأبصار. أن هذا الاسم:(هو موضع بين الكوفة والقادسية على حافة الطريق على جادة الحاج الخ)

ص: 46

والذي أروم عرضه على الأستاذ - وعلى غيره من جهابذة (الرسالة) - هو رواية ثالثة لهذا الاسم تختلف عن (طور سينا) و (طيزناباذ). . . فقد ذكر أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد الفريد المتوفى 328هـ في الجزء الرابع من عقده الثمين (الطبعة الأولى 1913 المطبعة الأزهرية بالقاهرة) - عند كلامه على ضروب العروض شعرا - ذكر أبياتاً ذالية، يظهر من فحواها أن هذا الاسم يدعى (طيرتاناذ) - بالراء المهملة والتاء المثناة بعدها الألف ثم النون يليها الألف أيضا - وانه محلة من محلات اللهو والشرب والأنس، انظر قوله:

أذكرتني طيرتاناذ

فقرى الكرخ ببغداد

قهوة ليست ببارقة

لا ولاتبع ولا ذاذى

أفيكون أن (طيرتاناذ) هذه هي محلة من محلات بغداد أم هي طور سيناء ابن مسروق أو طيزناباذ ابن منظور؟ ولكن حروف المطابع حولتها من طيرناباذ - إلى طيزناباذ - إلى طور سينا؟ كما حولت غيرها من الأسماء والألفاظ والمحلات والكلمات؛ فعملت بها تصحيفاً وتحريفاً وغيرت مواضع الحروف تأخيراً وتقديماً.

وإني لأرى في لفظ الاسم على روية ابن منظور وصاحب مسالك الأبصار بعض النبو والسماجة، وان الصحيح هو صاحبنا ابن عبد ربه، وخصوصا في لفظ المقطع الأول، ولو إنها كانت في عصر ابن هاني، ذلك العصر الذي لاءم بين عفاف العرب، وحشمة الإسلام من جهة، وخلاعة الترك ومجون الفرس من الجهة الثانية؛ وان هذا الاختلاط لا بد وان يكون مدعاة لكل بدعة غي السلوك الأخلاقي ولو بالأسماء والكنى. فأرجو من الأستاذ - وغيره من أدباء العصر أن لا يظنوا علينا بطرائفهم الأدبية وأخبار مصادرهم العلمية في تحقيق أمثال هذه الأسماء، وتعيين مواضعها - وله منى اجمل الثناء، وافضل التحيات.

(العراق - القرنة)

حسين السيد جمعة الجابري

في الأدب التحليلي:

في صيف سنة 1921م خرج جبران خليل جبران ونسيب عريضة وميخائيل نعيمة وعبد

ص: 47

المسيح حداد، وهم من أدباء المهرج المشهورين كي يتمتعوا بمناظر الطبيعة والخلاء في مزرعة (كاهونزي) بأمريكا، ولما دنا المساء وغابت الشمس، اخذوا يسيرون الهويني على الطريق العامة، وهم في حديث متواصل، وبينما هم كذلك إذ خطر لميخائيل نعيمة هذا البيت:

أسمعيني سكينة الليل لحناً

من نشيد السكينة الأبدية

فألقاه على مسامع رفاقه الثلاثة، فوقع من نفسهم موقعاً حسناً، وجعل كل واحد يتبعه ببيت أو بنصف بيت، والأخر يزيد على ما قال سابقه، حتى نتج عن ذلك الأبيات التالية:

أسمعيني سكينة الليل لحناً

من نشيد السكينة الأبدية

وافتحي يا نجوم عينيْ علَّى

أن أرى بينك الطريق الخفيه

واجعلي يا رياح منك بساطاً

واحمليني إلى الرياض العليه

واخطفي يا نسائم الليل روحي

وخذيها مني إليك هديه

ودعيني هناك أسرح حراً

إنما العبد يشتهي الحريه

طال سجني وطال في الأسر يأسي

واحتمالي لحالتي البشريه

أنا مالي وللورى، فارفعيني

ودعيهم في بؤسهم والرزيه

ملّ قلبي بغضاءهم وهواهم

ملّ قلبي سبابهم والتحيه

ولساني قد صار يخشى لساني

وجناني أضحى علىّ بليه

وفراشي شوكا، ونومي ارتعاشاً

ويقيني شكا، وبرى خطيه

وشرابي تعللا وأواما

وطعامي مجاعة روحيه

ولباسي رماد فكري تذريه

رياح تثيرها الأمنيه

تلك حالي. حرب عوان، فإن

أظفر فنفسي قتيلة أو سبية!

والقصيدة على صغرها زاخرة بالمعاني حافلة بالآراء الفلسفية والفكرية. وإنا لنتسأل: أتصور هذه القصيدة نفسية واحدة، وتنبئ عن ذهن فرد من أفراد منشئيها، فنقول إن أفكار ذلك الفرد كانت ساعة الإنشاء للقصيدة وقوية وذهنه متوقداً، فاستطاع أن يفرض شخصية وطريقة تفكيره على زملائه، فقلدوه وتابعوه في هذه الساعة، أم أن الرفاق الأربعة وهم من مشهوري الأدباء قد اتفقت أراءهم وأحاسيسهم، فهم كالشخص الواحد ، كما يحدث كثيراً في

ص: 48

مثل هذه اللحظات التي يتجرد فيها الإنسان من أثقال الحياة ويتعبد في محاريب الطبيعة والجمال الإلهي الخالد، فالقصيدة حينئذ تعبر في مجموعها عن رأيهم جميعاً؛ أم أن القصيدة ليست ذات وحدة مطردة وطابع خاص شامل؛ بل إن فيها أشتاتاً من الآراء والأفكار، ولكل واحد من الرفاق بعض هذه الأفكار؛ وفي استطاعة أدباء التحليل ودراسة الشخصيات والآثار الأدبية أن يعرفوا بوسائلهم الفنية أن هذا البيت لهذا الرفيق، وذاك لذاك، وذلك لذلك، وهكذا؟!. . .

لا يستطيع أن يتحدث بجدارة في هذا المجال إلا من درس هذه الشخصيات الأربع المشورة، ووقف على آثرها الفكرية وقفة الدارس البصير؛ وأظن لو أن أحد هؤلاء الخبراء قام بتحليل هذه القصيدة وتشريحها وذكر مجهود كل من الأشخاص الأربعة فيها، مستعيناً في ذلك بأصول البحث الأدبي المشهورة، وإيراد الدلائل الكافية لنعمنا بطرفة تحليلية رائعة!. . .

أحمد الشرباصي

رجاء وشكوى:

مما يلاحظ - مع الأسف الشديد - أن بعض الأساتذة الكتاب يبدأن في نشر مقالات ممتعة ذات فصول، ثم يتركون الموضوع بدون أن يتم بعد كتابة فصل أو أكثر، وإنا لنذكر بعض هؤلاء رجاء أن يتداركوا الأمر ويعملوا أن من حق القارئ أن يقرا الموضوع كاملا. . . فمنهم الأستاذ فخري قسطندي في مقاله (حول الاتباعية والابتداعية) آخر ما نشر منه العدد 689 والأستاذ محمد رجب البيومي في مقاله (من أخلاق البحتري) كتب البحث الأول في العدد 690 ثم انقطع البحث بعد ذلك. والأستاذ محمد سليم الرشدان في مقالة (الأدب في فلسطين) آخر ما كتب منه في العدد 689.

وبرغم أن هذا العدد رقم 696 - اي أن حوالي شهر ونصف أو يزيد قد مضى على بعض المقالات ولم تتم بعد فصولها.

وإنا لنرجو من أصحاب هذه المقالات مراعاة حق القراء وإتمام فصولهم بدون مباعدة بينها

(المنصورة)

ص: 49

ليلى عبد السلام

المدرسة

ص: 50

‌رسالة النقد

القافلة الضالة

تأليف الأستاذ محمود كامل المحامي

(منشورات دار الجامعة)

للأستاذ شاكر خُصْباك

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ومن ثم تنتهي القصة! فبالله عليك أيها القارئ خبرني: أي شيء استنتجته من هذه القصة المملة؟! لاشك انك ستجيبني بـ (لا شئ)! إذاً ما قيمة تلك الحوادث التافهة ليصاغ منها قصة تستغرق ثماني عشرة صفحة؟! ثم ما علاقة تلك الخاتمة التي تنتهي بها القصة، واقصد بها زواج سنية من تاجر الجلود بحوادثها المتواترة الاخرى؟! كأنى بالمؤلف تورط في سوق الحوادث بغير حساب، ولم يدر كيف سينهيها، ثم عن له أخيراً أن يختمها على تلك الصورة الغريبة ففعل! وما هذه المصادفات العجيبة المسيطرة على جو القصة، والتي لا تحدث في الواقع إلا نادراً؟! فتلك الصدف تدفع ممدوح صادق مثلا أن يخبر سنية أنه سيبعث لها برسائل غرام، ولكنه يضرب عن هذا العمل، وتجعل من ممدوح أسعد محباً لسنية أيضاً حيث يبعث لها برسائل غرامه فتعتقد أنها من ممدوح صادق؟!!

أنظر إلى تلك المصادفات وأعجب، إذ يجعل منها قصاص قدير حوادث قصة منتزعة - على ادعائه - من صميم حياة مصر الاجتماعية!!

إن المصادفات في هذه القصة لتتوارد وكأن المؤلف قد أقحمها إقحاماً، بل كأن أبطال القصة شخصيات آلية يحركها المؤلف بدلا من أن تتحرك هي نفسها! وبهذا فقد فقدت القصة عنصراً مهماً من عناصرها الفنية هو عنصر إظهار حيوية الشخصيات!

وأخيراً، دعني أسألك يا عزيزي القارئ قبل أن أغادر هذه القصة: إن كنت قد ضحكت أم لا عندما أخبرتك في ملخصها أن الصبي ممدوح أسعد (الحلاق) الذي تخرج من صف الثالث الابتدائي أديب موهوب يكتب قصصاً وأزجالاً ينشرها في مجلات معروفة. ويكتب

ص: 51

رسائل غرام تجعل من ممثلة تحتقر الأدب تقدس كاتبها غاية التقديس؟!

- 3 -

وقصة الكتاب الثالثة (تمثال يتحطم) قصة تحليلية ممتازة ولا أود التعرض لها بشئ، فليس فيها نقيصة، بل إن من واجبي إن أشركك يا صديقي القارئ بإعجابي بتحليلها النفسي الملذ الذي توفق فيه المؤلف أعظم التوفيق!

- 4 -

ولأنتقل الآن سريعاً إلى القصة الرابعة التي كانت بعنوان (المعلم حنفي). والواقع أن جو هذه القصة فاتر الفتور كله. ولعلك تتبين هذا من الملخص الذي سأسوقه لك الآن:

ف (رفيق حامد طالب في الجامعة، ولكنه لا يشبه رفاقه ممن اعتادوا في مثل هذا السن أن ينشئوا علاقات غرامية مع النساء، بل كان منصرفاً إلى قراءة المسرحيات الفرنسية ليكون في المستقبل كاتباً مسرحياً. وكان يتحاشى الاختلاط برفاقه الطلاب الآخرين حتى قيل عنه إنه متوحش. وقد اعتاد أن يتردد على مقهى (فينيكس) في شارع عماد الدين، فينتبذ مقعداً منعزلا - من جهة الزقاق الذي تجتمع فيه سيارات وعربات الأجرة - فأشيع عنه أنه يعتز بصداقة الحوذية والسواقين. ولكنه لم يهتم بكل تلك الإشاعات ومضى يطبق برنامجه حتى إنه كتب قصة بعنوان (المعلم حنفي) استوحاها من شخصية معلم من معلمي عربات النقل في (الجيوشي) إمعاناً في العناد.

ثم إنه نال ليسانس الآداب وتوظف في إحدى المدارس الثانوية فأبعدته مشاغله عن مقهى فينيكس وأقصته عن الجو الأدبي نوعاً ما.

وبدأ يسترد لونه الطبيعي - بعد أن كان (صفراوي) من كثرة الجهد الذي يبذله في المدرسة - ثم بدأ يعني بهندامه ويخيط ملابسه لدى خياط شهير. وتقدم خطوة أخرى في ميدان حياته الجديدة فاشترى سيارة.

ثم إن الأستاذ علي عبد السلام - ناظر مدرسته - دعاه ذات يوم بمناسبة عيد ميلاد ابنته سعاد وقدمه لها على أنه قصصي فسألته عن قصصه؛ وعندما اخبرها بقصة (المعلم حنفي) هزت كتفيها احتقاراً؛ وأشارت إلى أنها تفضل قراءة القصص الغرامية على قراءة قصة

ص: 52

عن حوذي. فعاد إلى منزله وقد صمم أن يكتسب إعجاب ابنة رئيسه. وأعد هيكل مسرحية تدور حول حادثة حب عنيف. وبعد أسبوع (!!) تمت الرواية؛ ومثلتها إحدى الفرق التمثيلية فنجحت نجاحاً باهراً (!!) وتناقلت خبرها الصحف المصرية والأجنبية بإعجاب (!!).

وعاد رفيق في الليلة الأخيرة لتمثيل روايته إلى داره؛ ففوجئ بدقات التلفون؛ وإذا بفتاة تخبره أنها شاهدت تمثيل روايته أسبوعاً كاملاً وأنها معجبة به كل الإعجاب.

وتطور هذا الإعجاب من جهة الفتاة وجهته فأصبح حباً عنيفاً. وانطلقا يتواعدان على اللقاء باستمرار دون أن تعلم أسرة الفتاة بتلك العلاقة الغرامية. ولكن علاقتهما انكشفت ذات يوم لسائق سيارة الاسرة؛ فبينما كانت الفتاة تهبط من سيارة رفيق أمام منزل من المنازل وإذا بالسائق السوداني العجوز يبصرها. فثار لكرامة ابنة سيده، واعترض سيارة رفيق؛ ورفع يده ليهوي بها على راسه، ولكن رفيق دفعه دفعة ألقته على الأرض وأسرع بسيارته هارباً.

ووقف عند مقهى فينيكس فاختار مقعداً منفرداً وجلس يفكر بما صنع مع السائق العجوز وقد شعر بالندم يتسرب إلى نفسه. وفي أثناء ذلك اجتمع حوله السواقون والحوذية يسائلونه عن سر تلك الغيبة الطويلة. فرحب بهم ودعاهم إلى تناول أقداح الشاي

ولما عاد إلى منزله لبث ليلته ساهراً حتى الصباح وقد انهمك في كتابة قصة جديدة عن سائق عجوز لأسرة من الأسر كان أكثر وفاء لإبنة الأسرة وحرصاً عليها من أهلها.

ومنذ تلك الليلة فضل أن يستعيد لقبه القديم الذي عرف به فيما مضى على أن يقوم بعمل مشابه للعمل الذي قام به في تلك الليلة المشئومة!

وبهذا انتهت القصة. . .!! وبانتهائها تسنح لي الفرص لإبداء رايي فيها.

فأول نقطة لاحظتها عليها هو الفتور الذي صبغ به المؤلف جو القصة. يبدو هذا الفتور في حوادثها الاعتيادية المجردة من عنصر الحركة والنشاط. وفي ذات الوقت فهي تفتقر إلى عنصر مهم من عناصر القصة الفنية هو عنصر اللذة أو التشويق. إذ أن القارئ قد يترك هذه القصة في أي قسم منها دون أن يشعر بجاذبية تربطه بها كيما يتمها. تلك الجاذبية التي يخلقها عنصر اللذة أو التشويق في القصة الفنية.

والملاحظة الثانية هي أن الصورة التي انتهت بها القصة قد أقحمت إقحاماً. وإلا فما وجه

ص: 53

الندم في دفع سائق عجوز وإلقائه على الأرض؟؟!! أهذا الحادث التافه يقلب حياة شاب رأساً على عقب؟!! أهذا الحادث البسيط يبدل أفكار رجل وآراءه ويوجهها وجهة جديدة؟!! اللهم هذه نفيسة شاذة ولا قياس على الشاذ. .!!

ولكن رويدك يا أستاذ. ما هذه الغلطة الفظيعة؟!! أيمكن لقصاص مبتدئ أن يكتب مسرحية في ظرف أسبوع وأن لا يطول مدى تفكيره في هيكلها أكثر من ساعة أو ساعتين؛ ثم تنجح نجاحاً باهراً؟!! إن هذا النجاح الذي لقيته تلك الرواية التي كتبت في أسبوع والتي تناقلت أخبارها المجلات والصحف المصرية بإعجاب ونقلتها عنها المجلات الأجنبية المحلية لا تلقاها إلا رواية كاتب كبير ذو مران طويل؛ لا كاتب ناشئ ليس له - حسب تحليلك - المقدرة القصصية.

ثم إن الرواية التي ترفع كاتبها إلى مرتبة كبار كتاب المسرح - على حد قولك - لا يفكر في هيكلها ساعة ولا تسجل في ظرف أسبوع يا أستاذ بل يحتاج إلى مدة طويلة ليعاد تهذيبها مرات ومرات.

ودع عنك كل ذلك، ولكن ما هذا التحليل السطحي يا سيدي؟!! إنه لا يفوق تحليل أقل كاتب ناشئ إطلاقاً. أين هذا التحليل - ولا أدري كيف أسميه (تحليلا)!! - من نفسيات شخوص قصتك (تمثال يتحطم)؟!! ولكن صبراً فهناك ما هو أدهى من ذلك وهي. . .

قصة (شبح اللقاء). إنها قصة مفككة الحوادث باردة الأسلوب عادية المعنى. ولا أغالي إن قلت إنها أتفه ما في الكتاب من قصص. وهي تتلخص فيما يلي:

ف (الأستاذ حمدي يحب فتاة اسمها راجية. وينافسه في حبها ابن عم لها اسمه سامي. إلا أن الفتاة لا تحب سامي بل حمدي على الرغم من أن أهلها يعارضون في ذلك الحب.

ثم إنهما اتفقا على الزواج، ولكن حمدي سافر إلى باريس لقضاء عطلته ولكي يمتع نفسه بمباهجها قبل أن يربط حياته بحياة راجية. وهناك تعرف براقصة فرنسية كانت قد اتفقت مع إحدى الملاهي في الإسكندرية على العمل فيه.

فلما أراد أن يعود إلى الوطن صحبته تلك الفرنسية. وعند عودته علم أن راجية قد عقدت خطبتها على ابن عمها سامي، فقرر أن ينتقم منها: وقد اغتنم ذات يوم فرصة وجودها في أحد المطاعم مع خطيبها فدخل إليه مصطحباً الراقصة الفرنسية معه. فتعشيا معاً، ثم

ص: 54

انقضت فترة قصيرة وعزفت الموسيقى تدعو للرقص فأما راجية فقد أحجمت عن الرقص لئلا يتألم حمدي. وأما حمدي فقد نهض وتبعته الراقصة إلى حلقة الرقص ومضيا يرقصان. وكان هذا هو الانتقام الذي أعده لها (!!).

وفي صباح اليوم التالي تلقى حمدي من راجية رسالة تخبره فيها بانقطاع العلاقة بينهما إلى الأبد. . .) وبذا انتهت القصة. .!

أتمعنت في حوادثها الخطيرة يا عزيزي القارئ؟؟!! تلك هي الصورة المنتزعة من صميم المجتمع المصري. .!!

ولا حاجة بي أن أكرر الحديث عن ضعف أسلوبها وركاكته مرة أخرى. ولا حاجة بي أن أكرر الإشارة إلى حوادثها الاعتيادية - وأقصد بالاعتيادية تلك التي تصلح أن تكون مادة لقصة من القصص - وموضوعها التافه. والحق أنني أعجب لقاص شهير كالأستاذ محمود كامل المحامي أن يكتب أمثال هذه القصة. والواقع أننا يجب أن نطلق على مثل هذه القصص اسم (حكايات العجائز) لا اسم (قصص اجتماعية). وكان الأحرى بالمؤلف أن يطلق عليها ذلك الاسم كي لا يكلف نفسه مئونة نقد النقاد. فبالله عليك أيها القارئ خبرني أي فائدة جنيتها من مطالعة تلك القصص؟!! وأي عبرة اعتبرتها من قراءتها؟!! ومع ذلك فالمؤلف يفخر في مقدمة كتابه بأن قصصه هذه عبارة عن مجموعة صور اجتماعية انتزعت من صميم حياة مصر الاجتماعية

- 6 -

والقصة السادسة هي قصة (الجارة الراحلة). وهي قصة نفسية جيدة وإن كان فيها شيء من الاستخفاف بنفسية المرأة لا نصيب له من الواقع.

ولكنها على كل حال قصة فنية من طبقة قصة (تمثال يتحطم).

وأختتم نقدي لهذا الكتاب بالإشارة إلى ضعف لغته فهي إن لم تكن في الدرجة المتوسطة فأقل منها. وقد لاحظت أن المؤلف قد استعمل كلمات في غير موضعها أمثال كلمة (الحياكة) - في قصة (موسيقار الطريق) - بدل (الخياطة)، و (الحائك) - في قصة (المعلم حنفي) بدل (الخياط).

العراق - الحلة

ص: 55

شاكر خصباك

رد على رد

للأستاذ كامل السيد شاهين

كتب الأستاذ العماري في عدد (الرسالة)(694) بعنوان (مع البلاغيين) رداً يزعم فيه:

1 -

أن التشبيه الذي يقصد منه بيان حال المشبه تشبيه معتبر معدود، ويمثل له بقول العرب (أسود كحنك الغراب) وقولهم (أحمر كالدم القاني).

وتلك عثرة بطيئة الإقالة، فإن أغمار التلاميذ في المدارس الثانوية يميزون بسهولة بين التشبيه الذي يراد به بيان الحال، والآخر الذي يراد به بيان مقدار الحال، ولنسق عبارة عبد القاهر في هذا المقام لعل فيها مقنعاً للأستاذ الكبير. قال:

(قد يحتاج الوصف إلى بيان المقدار فيه، ووضع قياس من غيره يكشف عن حده ومبلغه في القوة والضعف والزيادة والنقصان، مثال ذلك قولهم هو أسود كحنك الغراب، فالقصد إلى التعريف بمقدار الشدة لا التعريف بنفس السواد على الإطلاق).

وأما الآية الكريمة (وجفانٍ كالجواب) فهي تدل على مقدار الاتساع لا اصل الاتساع، وذلك ما لا يصح أن يقع فيه جدل أو مماراة.

2 -

انه لا يأخذ كلام المتقدمين قضايا مسلمة دائما ولكن هذا - يا سيدي - لا يتفق مع ما جئت به وسقته من كلام عبد القاهر في تحسين التشبيه بين البنفسجة وأوائل النار في أطراف الكبريت فما كان لك من حجة إلا هذا الكلام الذي ساقه، أفبعد أن تطعم على مائدتهم وتتوكأ مغمض العينين على عصاهم تزعم أنك لست كلاًّ عليهم؟

3 -

أن بيت امرئ القيس:

كأن ثبيراً في عرانين وبله

كبير أناس في بجادٍ مزمل

لا معنى وراءه، وليست هذه الدعوى بالتي يستمع لها، فإنه لما صور الجبل وقد أصابه الوَبْل بعث في نفس السامع الرهبة وأشاع شيئاً من البرودة التي يقتضيها المطر، فشبهه رجلاً مَهيباً مُزَمَّلا في بجادة فأصاب مل أراد من المعنى الذي أحاط به المشبه.

وأما قول طرفة:

ص: 56

كأن حدوج المالكية غدوة

بقايا سفين بالنواصف من دد

فإن الحدوج حينئذ لها اعتبار خاص فهي ليست ملقاة في الفناء أو خارج الخيمة، ولكنها متأهبة للرحلة مشدودة على البعران، مهيأة للسفر، فمن ثم أصاب القصد فيما تصيبه العين من بقايا السفين المقلعة بعد أن أبعدت عن مرساها، وفيه إبراز للإشفاق والحنين والتخوف من الوحشة، وذلك لا يدركه إلا قلب شاعر!

4 -

أنني أخطأت في تعريف البلاغة ونقصتها قيدا، وأنه كان ينقد في البيان فلا يحتج عليه بتعريف المعاني.

أما القيد الذي ذكره فقد تركته لأنه ليس محط الإجابة، واقتصرت على ما به أداء الغرض حتى لا يضل عن القصد فتكثر شطحاته.

وأما أنه يتكلم في البيان فلا يحتج عليه بتعريف المعاني فهذا ما كنت اجل الأستاذ عن أن يقع فيه، وكأنه يريد بذلك أن من التراكيب تراكيب ينظر إليها علم المعاني وأخرى ينظر إليها علم البيان، فتركيب القصر، والإنشاء مثلا لا ينظر إليهما من ناحية أنهما استعارة أو كناية، و (مكر الليل والنهار) لا ينظر إليهما على أنهما إيجاز أو إطناب. إن كل جملة - يا سيدي - خاضعة للنظرين فلا تقل بعد اليوم: إن هذا التركيب خاص بعلم البيان، وذاك خاص بعلم المعاني. فهذا عن الصواب بمنأى.

5 -

أن حسد جرير لابن الرقاع إنما كان لروعة التشبيه ولكن قول جرير (ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف) مما يفيد أنه إنما حسده لاستطاعته وهو بدوي جلف أن يصل إلى تشبيه مدني حاضر. فلا تزال شجاً مؤلماً وغصة مانعة من إساغة تأويل الأستاذ.

كامل السيد شاهين

المدرس بالمدارس الأميرية

ص: 57