الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 697
- بتاريخ: 11 - 11 - 1946
لغة عالمية
للأستاذ عباس محمود العقاد
تجدد في هذه الأيام نشاط الدعاة العالميين إلى تعميم لغة واحدة بين أمم الحضارة، لتصبح في يوم من الأيام لغة النوع الإنساني كله، أو لتصبح - على الأقل - لغة إضافية يتفاهم بها أبناء الأمم جميعاً، إلى جانب لغاتهم القومية، إذا تعذر الأنفاق على لغة واحدة تغني عن جميع اللغات
وهذه الدعوة تتجدد في أيام الدعوة إلى السلام، وهى أرفع ما تكون صوتاً وأبعد ما تكون صدى في أعقاب الحروب العالمية؛ لأن الناس يشعرون في هذه الأوقات بعواقب التفرق والانقسام، ويستمعون إلى كل نصيحة يرجون منها منع الحروب وتقريب الشقة بين بني الإنسان، في اللغة والعقيدة والعصبية القومية
ومن تقديرات هؤلاء الدعاة أن التفاهم بلغة واحدة يقضى على سبب من أسباب سوء التفاهم بين الأمم، فلا يقع بينها هذا التنافر الذي يثير الفتنة وينفخ في نيران العداوة، ويفرق الناس شيعاً في القلوب كما تفرقوا شيعاً في الألسنة واللغات
ومن البديه أنهم يقدرون إمكان النجاح في هذه المحأولة، ولا يسلكونها في عداد المستحيلات الممتنعة على جميع المحاولات
ونشاطهم اليوم أقوى من نشاطهم في السنوات الماضية، فقد شهدوا أمم العالم تجمع مندوبيها في صعيد واحد، وقد بلغوا في عهد عصبة الأمم المنحلة أن تعترف العصبة (سنة 1927) بأشهر اللغات العالمية وهي (الاسبرانتو) التي سمعنا عنها كثيراً في البلاد العربية. فإذا بلغوا في عهد الأمم المتحدة أن يتكلم المندوبون بهذه اللغة، أو يتكلم أحدهم بها ويفهمه بعض زملائه، فهي خطوة مفلحة في سبيل التعميم، وقد تتبعها خطوات تشترك فيها الحكومات وتنتظم فيها الشعوب
فالمجلات التي كانت تطبع بلغة الاسبرانتو ثم احتجبت في السنوات الماضية تعود الآن إلى الظهور، والمجلات التي ضاق نطاق انتشارها توسع هذا النطاق جهد ما تستطيع، ولا تكتفي الجماعات الدولية بمطبوعات هذه اللغة فتعقد الاتفاقات بينها وبين المجلات المشهورة على تخصيص أقسام منها لتعليم (الاسبرانتو) ونشر المترجمات إلى هذه اللغة مع
أقسام المجلة الأخرى التي تنشر بلغتها القومية، وتتوالى الدعوات إلى عقد المؤتمرات السنوية كما كانت تنعقد منذ أربعين سنة بغير انقطاع فيما عدا أيام الحروب. وقد كانت للاسبرانتو مؤتمرات سنوية شهدها أربعة آلاف مندوب من أرجاء العالم في بعض السنين، ولهم أمل في ازدياد هذا العدد خلال السنوات المقبلة، ولهم أمل أهم من ذلك واجدي على اللغة بين أمم الحضارة، وهو أن يظفر كتاب أدبي من كتب الاسبرانتو بجائزة (نوبل) أو بجائزة من قبيلها، ولا يسمحون بترجمة بعد ذلك إلا إذا اقترنت الترجمة بنصوص الكتاب الأصيل
ومما لا شك فيه أن الاتفاق على لغة عالمية إضافية مفيد في عالم السياسة والمال، ومفيد في السياحات والمقابلات بين الغرباء.
ولا شك كذلك في سهولة الاسبرانتو على المتعلم بالقياس إلى جميع اللغات التي عرفت إلى الآن، لأن كلمات اللغة تكتب كما تنطق، وقواعد النحو فيها قليلة لا يعرض لهل شذوذ، ولا يعسر على قارئ من القراء أن يحفظ جذورها جميعاً وأن يتصرف في الاشتقاق منها على حسب القواعد المعدودة بغير مشقة وبغير حاجة إلى مراجعة، فهي لغة على المتعلم بلا خلاف
ولكن الشك كل الشك في الأساسين اللذين يقوم عليهما بناء اللغة والرجاء في جدواها، وهما إمكان التعميم ومنع الخلاف بهذا التعميم
فموضع الخطأ الأكبر في تقدير هؤلاء الدعاة حسبانهم أن اللغة وسيلة تفاهم وكفى، ولا شأن لها قبل ذاك ولا بعد ذاك.
والواقع كما نشهده أن اللغة (كائن عضوي) يمتزج بكيان الأمم في ماضيها وحاضرها، ومستودع حيوي لما يجيش في نفوسها وعقولها من فكر وأمل وعاطفة واعتقاد
ومهما يبلغ من أنصاف الدعاة المشغولين بالسلام وتوحيد الشعوب، فلن يستأصلوا من نفوسهم تمييز على جنس ولسان على لسان، وآية ذلك أنهم قصروا جذور اللغة العالمية على مصادر اللغة اللاتينية ومشتقاتها، فليس فيها حساب للعرب مثلا ولا لأهل فارس أو الهند الصين
ونحسبهم لو استطاعوا أن يلحظوا اللغات كافة في جذور لغتهم لما ضمنوا بذلك توحد اللغة،
ودوام التوحيد فيها مائة سنة متوالية، ولا نقول بضع مئات
وتاريخ اللغة العالمية شاهد على ذلك يغنينا عن ترقب حكم المستقبل البعيد أو القريب
فقد ظهرت أول لغة عالمية في سنة 1879 قبل إعلان الاسبرانتو بنحو تسع سنوات
وقد وضع تلك اللغة قس ألماني يسمى وأطلق عليها اسم (الفولبك) منحوتاً من كلمات إنجليزية وجرمانية معناها لغة العالم
فلم تمض 1887 حتى أعلن الدكتور الروسي لغة عالمية أخرى هي لغة (الاسبرانتو) التي كان لها من الذيوع في أوربة وأمريكا أو في نصيب
ولم تمض سنة 1900 حتى رأى بعض أنصار الاسبرانتو أنها محتاجة إلى تعديل؛ وادخلوا عليها هذا التعديل في النطق والهجاء فعرفت باسم لغة (الايدو) وهي الكلمة التي وقع بها مقترح التعديل اسمه عند جمع الأصوات
حاول أصدقاء الفريقين أن يرابوا الصدع بينهما، فاقترحوا توحيد اللهجتين باسم (الاسبرانتو) تركيباً مزجياً من الاثنتين، فلم يفلحوا في التوفيق، وأسفرت المحاولة في اقل من أربعين سنة عن ثلاث لغات أضيف إلى اللغات المتفرقة، فزدات ولم تنقص بمحاولة التوحيد
ويحدث هذا في كل محاولة يراد بها جمع البشر كافة إلى لغة واحدة أو عقيدة واحدة أو تفكير واحد، وشوهد ذلك عندنا في الشرق المعروف، وفي العصر القريب
فالباب قد أراد في القرن الماضي أن يفسر الكتب الدينية تفسيراً يقبله المسلمون والمسيحيون واليهود ويجمع به الأديان الثلاثة إلى كلمة واحدة ينحسم فيها الخلاف، فلم يمض على دعوته عمر رجل واحد منها حتى كانت (البابية) نفسها ثلاث شعب لا تدين واحدة منها بإمامة الشعبة الأخرى، فلم تتوحد العقائد بل زادت عقيدتين مع الدين الجديد
وحاول القادياني في الهند مثل هذه المحاولة فلم يسلم الروح حتى اصبح الأحمديون شعبتين متنازعتين تدين إحداهما بنبوة الإمام وتنكر الأخرى عليه النبوة وتنعته بلقب الاجتهاد والإمامة وافترض اتباعه قبل أن يوحدوا الاديأن، وقد تنقسم الفرقة إلىفرق والشعبة إلى شعب. دون أن يتحقق المقصد الذي نزعوا إليه.
والاسبرانتو على هذا القياس ستصبح لهات ولهجات قبل أن نتفق على لغة واحدة إلى
جانب اللغات القومية. أما أن تزول هذه اللغات القومية جميعاً فذلك تقدير بعيد، بل جد بعيد.
والخطأ في التقدير الأخر أن نرجع بأسباب الحروب إلى تعدد اللغات، وأن نعتقد أن توحيد اللغة يزيل تلك الأسباب، أو يزيل سبباً قوياً منها أن لم يزل جميع الأسباب.
فإن الحروب التي وقعت بين أبناء اللغة الواحدة لا تقل عن الحروب التي وقعت بين أبناء اللغات المختلفة، وأمثلة ذلك ظاهرة في تواريخ الرومان واليونان والعرب والصقالب والجرمان والإنجليز، وأبناء الهند والصين.
ونحن إذا رجعنا إلى الحروب بين أبناء اللغات المتعددة لم نستطع أن نردها جميعاً إلى انقطاع التفاهم بين أمة منها وأمة، أو بين زعماء الأمة الذين يقودونها إلى الحرب وزعماء الأمم التي يحاربونها. فربما فهم كل فريق منهم ما يريده الأخر ووقعت الحرب بينهم لأنهم (يفهمون) لا لأنهم لا يفهمون.
فإذا خطر لنا أن تعميم (الاسبرانتو) يعمم الوفاق ويقضي على أسباب الشقاق فليس في حوادث الماضي ولا في حوادث الحاضر ما يعزز هذا الخاطر بدليل.
وغاية ما يرجي من تعميم لغة إضافية بين أبناء النوع الإنساني أن تتيسر بينهم المعاملات ويستفيد العارفون بتلك اللغة من سهولة قواعدها فينقلون تلك القواعد شيئاً فشيئاً إلى لغاتهم القومية التي تحتاج إلى تعديل.
أما امتناع الحروب فليس سبيله توحيد الكلام، بل توحيد البواعث التي يعبر عنها الكلام، وتوحيد هذه البواعث مستطاع في ناحية واحدة على وجه التقريب لا على وجه الشمول والإطلاق، وهذه الناحية هي ناحية المثل العليا للأخلاق والقيم والأقدار. فإذا أعجب الناس بفضيلة واحدة واشمأزوا من رذيلة واحدة وتكلموا بألف لغة فذلك ادعى إلى التقارب بينهم من لغة واحدة يتكلمونها وليس بينهم وفاق في مواطن الاستحسان والاستنكار، وليس لهم مقياس واحد يقيسون به أعمال الدول والرجال.
وآية ذلك أن اتجاه الناس إلى وحدة المقاييس الخلقية يطرد في مراحل التقدم والحضارة، ولم يكن تفرقهم في مذاهب اللغة والرأي مناقضاً لا تجاه التقدم والحضارة في عصر من العصور.
عباس محمود العقاد
من أحاديث الإذاعة:
شهيد العيد. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
كلفتني محطة الشرق الأدنى أن اكتب قصة لتذاع عني أول يوم من عيد الأضحى، وهذا هو العيد قد حل وحلت عليكم فيه البركات والخيرات، ولكن القصة لم تكتب. . . أن لها قصة يا سادة، فاسمعوا قصتها. . .
أنا رجل من طبعه التأجيل والتسويف، أؤخر الأمر ما دام في الأجل فسحة، وأرجة إلى أخر لحظة منه، ثم أقوم كالمجنون أنط قافزاً مثل الأرنب الذي زعم (أخونا. . .) لافونتين أنه نام حتى سبقته السلحفاة، وأن لم أكن قد رأيت في عمري سلحفاة تسبق أرنباً. . .
فلما ورد علي كتاب المحطة نظرت فإذا بيني وبين موعد الإذاعة أمد طويل فاطمأنت ونمت، حتى إذا كانت ليلة العيد، ولم يبق أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة وألحق بها البريد الجوي، أخذت قلمي وصحيفتي لأكتب فسدت على أبواب القول ومنافذه وكواه. . . وعدت مرتجاً علي محبوساً لساني كأني ما مارست الكتابة قط، كذلك نفس الأديب يا سادة تتفتح تفتح الينبوع الدفاق، ثم تشح شح الصخرة الصماء ما تبض بقطرة ماء، ولكن الناس لا يصدقون ذلك: أنهم يحسبون الكاتب يخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه، ولا يدرون أن هذا الكلام يجئ أحياناً حتى ما يقدر الأديب على ردة، ويعزب حينا حتى لا يلقاه، وأنه يعلو ويصفو وينزل ويتعكر، وما عجزت الليلة عيا ولا فهاهة، فأنا اكتب في الصحف من عشرين سنة، ولكن الكتابة بالأجرة بيع وشراء، ولكل مبيع ثمن، وأنا احب أن أنتصف وأنصف الناس من نفسي، لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة، فتركته وفتشت عن أغلى، وكلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى، حتى كاد يمضي الوقت ولم أصنع شيئا، ونزل بي ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لما كلفوه أن يضع حواراً للفلم وجعلوا له جعلا ضخماً، فحصر فيه فكره، وحشد له قواه، وفر لأجله من داره. ثم انتهى به الأمر أن ألف كتاب (الحمار) ولم يضع الحوار.
عند ذلك أيست ولبست ثيابي، وهربت إلى الأسواق.
جلت في الأسواق، وأسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر، قد أوقدت فيها المصابيح، وفتحت المخازن، وأنتشر الباعة، وتدفق عليها أهل البلد والفلاحون، بالأزياء المختلفة واللغات المتباينات، وكل بائع ينادي برفيع صوته، وكل مشتر يصيح، وكل مجتاز يتكلم، والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومفروش ومنظور ومشموم، وكل يريد أن يعد الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه. . .
وكنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن، نازح الفكر، أعمل عقلي في هذه القصة. . . التي وعدت بها المحطة، فأعلنت عنها وبشرت بها، ثم لم أستطع أن اكتبها، حتى وصلت إلى (باب المصلى)؛ فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر، فأقبلت ادفع الناس بكتفي، وأشق طريقي بيدي كلتيهما وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم، وأصغي إلى هذا الفيض العجيب من. . النثر الفني. . الذي جادت به قرائحهم، فتدفق علي من ألسنتهم، حتى بلغت المشهد، ونظرت. . . .
نظرت، فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان، أما أحدهما فكان مسكيناً قميئاً اعزل عاجزاً، وأما الأخر فكان ضخما طوالا كالح الوجه، مفتوح العضل، وسخ الثوب، قد حمل سكيناً في يده طويلة النصل، حديدة الشفرة، وهجم بها على صاحبه والناس ينظرون ولا ينكرون، وصاحبه المسكين يصرخ ويتلفت تلفت المذعور، يطلب الغوث فلا يغيثه أتحد، ويبتغي المهرب فيسد عليه الناس طريق الهرب. . .
وأني لأفكر ماذا اصنع. . . وإذا بالخبيث العاتي يذبحه والله أمامنا ذبحاً، ويتركه يتخبط بدمة، ويوليه ظهره ويمضي إلى دكانه متمهلا، فيعالج فيها شأنه على عادته، كأنه لم يركب جرما، ولم يأت الأمر النكر جهاراً!
وكدت اهجم عليه، وأسلمه إلى الشُّرَط. ثم ذكرت أن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهور وحماقة، وأن المجرم بيده السكين لا يمنعه شيء أن يجأ بها من يريده بشر، وطمعت يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه واشد أزره، فلا والله ما تحرك أحد منهم، ولا جَرُؤ على ذلك؛ بل لقد تكلم واحد منهم، فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه رأيته يجزع منه ويفزع، ويقول له بصوت مضطرب متلجلج:(الله يسلم يديك)!
وحرت ماذا اعمل: أأبلغ الشرطة، أو أدعهم وأمضي إلى داري لا عليّ ولا لي؟ ثم رأيت
أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت، وأبعث به ليذاع ويعرفه الناس.
وهأنذا أتهم هذا الرجل بالقتل، وادعوا الحكومة إلى القبض عليه حتى يعاقب ويكون عبرة لمن يعتبر. ولا يحسبن أحد أنه فر، أو أن القصة متخيلة أو مكذوبة، أو أنها من أساطير الأولين، أو من أخبار العصور الخوالي، فالقاتل موجود في دكانه، يغدو ويروح إلى بيته، والقصة صحيحة رأيتها بعيني رأسي وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه، متيقظ غير نائم ولا حالم، صاحٍ غير مخدر ولا سكران، ثم أني رأيتها الليلة البارحة!
هذه هي الحادثة الفظيعة التي كتب الله أن تكون هي موضوع قصتي التي فكرت فيها وأطلت التفكير فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يأبهوا لها؟ أفسدت الأخلاق، وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر النكر، أم خارت العزائم، وانخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم؟ وهل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق؟
لقد سكت الجميع، حتى أن أنسباء القتيل قد ناموا عن دمه، وقعدوا عن الثأر له، ولم يتقدم أحد منهم شاكياً ولا مدعياً لأن القاتل كما قالوا، عازم على ذبحهم كلهم أن قدر عليهم، وماضيه حافل بأمثال هذه الجرائم.
فما سر هذا السكوت؟
لقد علمت السر بعدُ يا سادة. . .
ذلك أن المسكين الشهيد كان خروفاً من خرفان الضحية، وأن القاتل كان جزار الحارة، وأن الناس شاركوه في جرمه، فأكلوا لحم الذبيح مشوياً ومقلياً ومطهياً، وأكلت معهم ونسيت من طيب اللحم هذا المشهد. . .
هذه هي سنة الحياة، يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة. فكلوا منه أنتم أيضاً هنيئاً، واشربوا عليه مريئاً، واشتغلوا بالأكل عن مطالبتي بالقصة، وكل عام وأنتم بخير!
علي الطنطاوي
الذي عطل الدين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ما رأيت شيئاً أضر الحياة وأضر الدين وحال دون شيوعه في الناس مثل ما عطله الإيغال فيه والاستغراق في معانيه حتى يصير بعيداً عن متناول عقول أكثر الناس ومتناول جهدهم المحدود وإحساسهم بالحياة. . .! وينبغي لقواد الاجتماع ألا يخطوا خطوة عامة في رحاب الفكر الاجتماعي إلا وهم مقدرون أن جمهور الإنسانية يستطيع أن يخطوها وراءهم.
وقد كان نتيجة ذلك الإيغال أن حياة أكثر الناس انفصلت عن حياة الدين واتجهت إلى مجرى المادية الصماء - وهو المجرى الظاهري وحده - من غير أن يصحبها الروح السامي الذي يليق بعظمة تفرعاتها المادية وتشقيقاتها.
ولو أن الدين نظر إليه على أنه موقف لازم من مواقف الحياة كالأكل والنوم والرياضة والعلم الخ. . . وساير حياة المجتمع، وفهم على أنه (ركن مادي) فيها لا بد أن تقوم عليه كما تقوم على غيره من دعاماتها كالقانون وحفظ الأمن مثلا، ولم تلتصق به نزعات التصوف والانطلاق الشعري المغرقين، وتصوير موقف الإنسان فيه موقف الفناء والإنكار للنزعات المادية التي تستلزمها الحياة بالجسد، والخروج من الدنيا بالسهر والجوع والزهد واستمراء الآلام قبل الخروج منها بالموت. . . إذاً لسارت الحياة الإنسانية في تناسق بين جانبيها الروحي والمادي.
ولو علمنا أن الحياة صادقة أصدق من تلك النزعات الشاذة التي تجلت في أفراد من المتشائمين، من كل من طلق الدنيا ألماً منها أو زهداً في لذاتها، لتغير الموقف العام، فأن الحياة الإنسانية في مجراها العام أخذت الإنسانية كلها، ونقلتها إلى رحاب الكرامات والتسلط والتسخير عنطريق العلوم الموضوعية ومكارم الأخلاق العملية لا الاستغراقات الذاتية الضيقة.
ولا يغرننا من شذوذ كل أولئك الصوفيين المغرقين ما تركوه من كلام شعري مزوق جميل في طيوف وأشباح وأصداء لوجداناتهم المحرومة المولهة التي تركت طرق الحياة الواضحة، وأرادت أن تدرك الله الأعلى بعقولها المحدودة، فكانت النتيجة الحتمية لذلك المطلب هي بلبلة الخاطر وخفاء البيان واضطراب السير. . .
أن الحياة المادية العلمية الظاهرة هي الحكم لصالح حياة الجماعة، وهي الأفق الأول الذي أراد الله العظيم أن تتجلى فيه أسرارنا ونتائج خلقتنا، ونتائج جهادنا فيها نتائج دائمة ثابتة، يراها أطفالنا وجهالنا كما يراها علماؤنا وفلاسفتنا.
وأنا مؤمن بالإنسانية ذات المنطق الواقعي المستمد من الطبيعة، ناشد كمالها عن طريق تكميل سيطرتها على الطبيعة وإدراكها للنفس إدراكاً علمياً وتحكمها في العمل تحكماً صالحاً.
ومن الذي سار وراء الشذوذ من الصوفية والمتشائمين وأخذ أخذهم في الحياة؟ أنهم أقل عدد، ومن صالح الأرض أن يكون ذلك كذلك، إذ لو طاوعهم الناس لعطلت الأعمال في الأرض، ولم تتحقق الأعمال البارعة التي للإنسان في المادة وأسرار الحياة
غير أن الإنسانية أن كانت طبيعية بسيرها هكذا فقد أساءت بإهمال جانب الروح فيها باعتباره دعامة أساسية في الحياة ذلك الإهمال الشنيع.
وربما يكون ذلك الأمر محتملا في العصور السالفة، عصور القصور والطفولة، ولكن الآن يجب أن تدرك أنها بلغت دوراً لا يصح أن تسكت فيه على إهمال الجانب الروحي في حياتها، باعتبار أنه (ركن حيوي) ودعامة نظامية لحياتها المادية ذاتها، والحمد لله قد تحول كثير من أحلام الروحيين القدماء إلى أخلاق عملية عامة.
والتصوف بمعناه العملي شيء سام عظيم في رياضة الخلق وتطبيع الأعصاب على السمو والخير وإيقاظ الضمير، ولكنه بمعناه الشعري الذي نراه في شعر بعض القوم ليس أخلاقاً، وإنما هو أحلام وتأملات مستغرقة حادة للخلاص من الجسد لرؤية الحقيقة العظمى والخروج من نطاق الأرض لرؤية ما وراءها، وهؤلاء لا يهتمون بالإعمال والأخلاق كالحلاج وغيره؛ فواجب أن ننظر إليهم لا كرجال دين يسنون طرقا ليسير الناس عليها، وإنما كشعراء استهوتهم المعاني الدينية فأسرفوا فيها، واستغرقوا وأنطلق وجدانهم فيها كما استغرق أبو نواس في الخمر وبشار في الملذات الحسية. . .
وقد ينظر إلى معانيهم على أنها انطلاقات في (فن الدين) أو موسيقى في جوه ليست ذات محصول. . . وقد ينظر إليهم رجل الدين العالم العملي على أنهم صناع أحلام استهوتهم إلى غير الطريق الجمعي. وكل فتح عظيم لهم وتستطيع الإنسانية أن تنتفع به ينتهي إلى
(صواب الأحكام) عن طريق البيأن؛ لأنهم أطالوا التأمل وأدمنوا تقليب النظر في وجوه الأشياء المختلفة. وهذا لا يتيسر لكثير غيرهم.
ولم يأت وصف لله تعالى على لسان أي مخلوق بما يخرج عن نطاق عمله تعالى وصفاته الممثلة في الطبيعة التي تدرك بالقوى الواعية وبالحواس.
نعم قد تشرق عليهم لمعات من الأذواق الغريبة عن الحياة ومن المشاهد الغيبية، ولكن لا يستطيعون إظهارها، لأنها يضيق عنها نطاق النطق كما يقرر الغزالي.
وأني ما قرأت بيان صوفي إلا وجدته خيالا شعرياً جميلا، أن كان صاحبه قديراً، ورديئاً أن كان صاحبه قاصراً كليل الذهن، وكثيراً ما أظفر بمثله من بيان أهل الدنيا السائرين على ظاهرها.
وتظهر قيمة القرآن العظيم حين أراه يأخذ المجتمع كله بمنطق وسط صالح للجماعات، وحين أراه كتاب العدل والاتزان والاعتراف بالحياة المادية والحياة الروحية كأساس واحد لازم للحياة الإنسانية.
والعمل هو روحه، لا الأماني الشعرية، ولا الأغاني الدينية ولا التماس (حسن التعليل) ولا الأماديح التي تتملق ويتهرب بها صاحبها أو يتشفع بها ويعتذر في مسئولية إهمال الأعمال، كتلك المعاذير التي يتخذها الناس مع رؤسائهم الدنيويين.
والثواب والجنة الحسية والحسنى والرضا والرحمة والاحترام والخير لذي الخير هي من أدواته كذلك في الدعوة ومجازاة الفضائل والطبائع الكريمة لأنها منطق الغرائز الصالحة والأخلاق المثلى. وكل أخلاق القرآن هي أخلاق أبناء الحياة بجزأيها العاجل والآجل، الصالحين لعمارة الأولى ونموها والعاملين لحيازة الأخرى والرفعة والرفاهة الخالصة فيها.
وكل عقائد القرآن واضحة مأخوذة من منطق الانفصال بين الإنسان والله تعالى؛ فلا حلول ولا وحدة ولا اتحاد، وبين الله والطبيعة، ومن موقف الخلافة في الأرض خلافة واسعة والتدخل في شئونها جميعاً، لا التقليل من شأنها والهرب من مجابهة فتنتها كدار امتحان وكفاح وابتلاء. موقف الاعتراف بقيمة الجسد الإنساني وسمو الروح الإنساني ووجوب الجمع بينهما لصلاح الحياة والفكر.
فلندن لله بالحياة، ولنتعبد بها هي ذاتها، ولنتخذ منطقنا من سننها التي لا تتبدل وحقائقها
التي لا تلتوي، لأنها منطق الله ربنا وربها، وما عرفنا الله إلا منها. فكيف نهملها؟ وكيف نجهلها أو نجهل عليها؟ فيها قِوامها، ومنها دينُها!.
ولنعرض أقوال الرجال على موازينها قبل الأخذ بها في تسليم وغرور. . . ولنحذر أن نعكس الأمر فنعرض أمر موازينها على أقوال الرجال، فأن أقوال الرجال متغيرة متناقضة وأقوالها هي ثابتة لا تتبدل!
ولكل عقل موهوب الحق في الاتصال بها والاحتكاك بقوانينها ليكون من وراء ذلك اتصال مباشر بعقل الوجود، وقلب الطبيعة. . .!
وقد صارت الحياة تغرز بصدقها قلب الإنسان وتستهويه وتبعده عن الخوف والوجل من القرب منها، وجعلت أبناءها المجاهدين الشجعان هم السادة، وتركت الفارين منها في خوف ووجل يئنون تحت أثقالها وهم يحبسون أن أنينهم هذا شعر ونشيد وحكمة. . .! وما ظفر فيها بالحق إلا من أحس بها وتقرب إليها وبعد عن أساطير الأولين من المرضى والفارين الذين حرموا من الإحساس بعنفوان شبابهم يفيض في كيانهم. . .
عبد المنعم خلاف
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
- 4 -
انتهينا في المقال السابق من مناقشة آراء الأستاذ الخولي فيما يتعلق بعلم البيان، وقد أغضينا عن أشياء استكثرنا على علم الأستاذ وفضله أن تكون من آرائه وتوجيهاتة، نفحن هنا لا ننقد إلا ما يتأكد عندنا أنه من رأيه بمراجعة النسخ المختلفة لمذكرات الطلاب، أو بأن يشيع الرأي في فصل من الفصول فيتكرر فيه مرات. ولقد عملنا بالحكمة المأثورة (ما استقصى كريم قط) فأنكرنا بعضاً وأعرضنا عن بعض. وحديثنا اليوم عن آرائه في باب القصر، وهذا باب تعرض منه لثورة عنيفة فناله من حرائها شر مستطير، نرى من الحتم علينا أن ننصفه، وأن نرد إليه كرامته، فأن مسائل العلم عند دارسيها كرامة تعلو على كرامة عظماء الرجال، والأستاذ بدأ أولا فمزق هذا الباب إرباً إرباً، ورمى بكل شلو منه في ناحية. فذهب بقطعة إلى علم النحو، ومضى بثانية إلى علم البيان، أما سائره فأبقاه في علم المعاني ولكن بعد أن هاض جناحه، وتحيف أطرافه، ورأيه أن القصر الجدير بأن يبحث عنه البلاغي هو القصر الادعائي، أما القصر الذي يعبر عن الواقع فيجب أن يبقى في علم النحو لأنه يؤدي به أصل المعنى المراد فقط، والبلاغي إنما تعنيه المعاني الثابتة، وهي المعاني التي يومئ إليها الكلام وراء المعنى الأصلي:(القصر صيغة من صيغ التعبير العربية التي يحتاج إليها في أداء المعاني الأصلية، وتأتي المرحلة الثانية وهي أن القصر الحقيقي ما دام حقيقياً بمعنى أنه مطابق للواقع فهو مرحلة لا تتجاوز أصل المعنى وصحته، أي أن معناه النحوي هو دائما معناه الوحيد ولا يخرج عنه إلى أغراض أخرى. أما القصر الادعائي فبخلاف ذلك له وراء المعنى الأول لصيغة القصر معان أخرى يرمي إليها المتكلم ومن اجلها لجأ إلى هذا الادعاء فأسقط من حسابه كل شيء غير المتكلم فيه وأثبت المعنى الذي عنده له).
ثم يقول: (القصر الادعائي إذا توسعنا قليلا في فهمه وتطبيقه فأننا نستطيع نقله من باب المعاني إلى أسلوب من أساليب التعبير الأدبي، فلا نقصر المسألة على البحث اللفظي والدلالة على جزء المعنى الذي هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال. إذن نخرج من باب
القصر بأسلوب يدخل في البيان لا في المعاني)، ويؤكد هذا الرأي في موضع آخر: (القصر عندي معنى نحوي لا بلاغي، أي أنه من الصيغ العربية لازم لصحة المعنى لا لحسنه؛ فهو يساق لتقوية المعنى لا لجماله، وأنه لا احتراز فيه ولا نفي فيكون معناه أنه تعبير قوي، يتلخص من هذا أن للقصر استعمالات ثلاثاً:
1 -
القصر طريق من طرق التعبير العربي فهو صيغة نحوية لأصل المعنى.
2 -
القصر صنيع بلاغي قوي لتقويه المعنى.
3 -
القصر أسلوب من الأساليب البيانية).
هذا كلامه. ولأناره هذه المسألة نقول: أن بعض العلماء يرى أن مباحث النحو يجب أن تفصل عن مباحث البلاغة، والحد الفاصل بينهما أن البلاغي لا بد أن يكون له ملحظ وراء المعنى الأصلي، فإذا لم يكن له غرض من الكلام غير أداء المعنى الأصلي فلا يدخل أداؤه في مباحث البلاغة. مثال ذلك ذكر المسند إليه فأنه إذا قامت قرينة تجوز حذفه كان المتكلم بالخيار بين أن يذكره أو يحذفه، والحال هو الذي يرجح عنده أحدهما فالشاعر الذي يقول:
بالله يا ظبيات القلاع قلن لنا
…
ليلاي منكن أم ليلى من البشر
كانت له مندوحة أن يحذف المسند إليه (ليلى) ولكنه آثر ذكره بعد دلالة القرنية عليه لو حذف لغرض في نفسه، فإذا لم تكن قرنية تدل عليه أن حذف كان الذكر واجباً، وحينئذ لا يعلل هذا الذكر بغرض بلاغي وهكذا.
على هذا الضوء ننظر فيما ذهب إليه الأستاذ الخولي فنرى أنه غفل عن أمور أربعة حين رأى أن بعض القصر يجب أن يبعد عن دائرة البلاغة، ويبقى في مباحث علم النحو:
1 -
فاصل الجملة الواحدة في العربية أن تؤدي حكماً واحداً مقصوداً لا تتعداه سواء أكانت حقيقة أو مجازاً، وغالباً ما يتبع هذا الحكم غرض يسمونه وأمثاله مستتبعات التراكيب، وهذه الأغراض هي التي يلاحظها المتكلم ويقصدها من كلامه. فإذا أدت الجملة حكمين مختلفين خرجت عن أصل الجمل العربية، وكان هذا الاختصار من المقاصد التي يلجأ إليها المتكلم، وهو مقصد وراء الأداء الأصلي. يقول الشاعر:
وليس أخي من ودَّني رأي عينه
…
ولكن أخي من ودني وهو غائب
فنجد هذا المعنى أدى على طبيعة الجملة، فأن أردت أن تسوقه في أسلوب مختصر قلت:
ما أخي إلا من ودني وهو غائب، فتلجأ إلى القصر لغرض الاختصار.
2 -
من المعروف لدى كل من يشدو شيئاً من علوم البلاغة أن القصر في كل حالاته يفيد التوكيد والتقوية، والأستاذ لا يخالف في هذا ولا ينفعه بل يذكره في غير موضع من مذكراته ويراه أدل على إفادة التوكيد من الاختصاص فيقول أن ما نعبد إلا إياك أكد من إياك نعبد، وبدهي أن التوكيد ليس غرضاً أول بل هو من أوليات الأغراض البلاغية.
ولهذين الأمرين المتقدمين لم يعد العلماء من أدوات القصر الألفاظ تدل عليه من مثل اختصر وقصر وما إلى ذلك؛ فمثل قوله تعالى والله يختص برحمته من يشاء، وقوله: حور مقصورات في الخيام لا يعد من القصر؛ لأن الجملة لم تؤد غير معنى واحد مقصود ولا اختصار فيها؛ فلا يرتبون شيئاً من أحكام القصر على هذه الألفاظ، ولذلك نحن لا نرى رأى أستاذنا الشيخ سلمان نوار حين يرى أنه يجب أن نعد من القصر كل أسلوب ينحدر منه الذهن إلى معنى القصر وأن لم توجد أداة من أدواته المعروفة، ويعرف القصر بأنه دلالة جملة واحدة على اختصاص أمر بآخر سواء كان منشأ تلك الدلالة الوضع أم العقل أم الذوق فيشمل نحو:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
ونحو:
أروني أمة بلغت مناها
…
بغير العلم أو حدَّ اليماني
ثم يعجب قائلاً (لماذا يجعلون شبه ومشبها من صيغ التشبيه ولا يجعلون نحو احتص من صيغ القصر) وأظن الفرق واضحاً بين دلالة شبه على التشبيه ودلالة اختص على القصر الذي رتبوا عليه الأحكام البلاغية الكثيرة؛ والذوق شاهد عدل في هذا. فأين قولك قصرتك على الشعر من قولك: إنما أنت شاعر؟ وكذلك لم يجعلوا من صيغ القصر الاستثناء التام المثبت لأنه يؤدي معناه الأصلي لا غير. قال صاحب الأطوال: (إذا الاستثناء من الإيجاد ليس القصد فيه إلى الحصر بل إلى تصحيح الحكم الإيجابي، فهو بمنزلة تقييد طرف الحكم؛ فكما أن جاءني الرجال العلماء ليس قصراً كذلك جاءني الرجال إلا الجهال ليس قصراً بخلاف نحو ما جاءني إلا زيد، فأن المقصود منه قصر الحكم على زيد لا تحصيل الحكم فقط وإلا لقيل جاءني زيد)
ونحن نريد أن نبسط القول في أدوات القصر لنقطع كل حجة على من يتهم العلماء بأنهم ضيقوا دائرته، وأنهم غفلوا عن مزاياه، وأنهم وضعوا في علم البلاغة ما كان يجب أن يوضع في علم النحو، وسنقتصر على الطرق الأربعة التي ذكرها الخطيب القزويني في الإيضاح وهو الكتاب الذي يشرحه الأستاذ في الجامعة ويعلق عليه.
(التقديم) قد كفأنا الأستاذ مؤونة القول في هذا الطريق وأنه لا يؤدي به أصل المعنى فحسب بقوله: (أما التقديم فمادام الأصل فيه التأخير أي أن الحالة الطارئة هي التقديم فلا يكون إلا لملحظ بلاغي).
(العطف) ومن المسلم به عند العلماء والذي لا يعارض الأستاذ فيه أن هذا الطريق لا يؤدي به إلا القصر الإضافي، وأنه (لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب) وهذه عبارته، وطبيعته القصر الإضافي تقتضي ذلك فهو إما لبيان خطأ المخاطب في اعتقاد الشركة بين الأمرين أو في اعتقاد العكس، وإما لإخراجه من ظلمة التردد والحيرة في قصر التعيين، فهذا الطريق أيضاً لا بد يلاحظ فيه حملظ بلاغي.
(النفي والاستثناء). (إنما) قد فات الأستاذ فيهما أن يرجع إلى الشواهد العربية، ونظر إلى الموضوع من ناحية القواعد الجافة مجردة عن شواهدها، ولو أنه نظر من هذه الناحية لرأى عجباً، كما يرى أن المرجع الأول للبلاغة وهو كلام العرب يدل بوضوح على أن هذين الطريقين لا يجيئان حين يراد أصل المعنى أبداً، وإنما يجيئان حين يقصد المتكلم غرضاً من الأغراض. فالأصل في الأول أن يجيء فيما بجهلة المخاطب وينكره، فإذا جيء به فيما يعلمه لوحظ تنزيل العالم منزلة الجاهل أو تنزيل المعترف منزلة المنكر (وأما الخبر بالنفي والإثبات فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه، فإذا قلت ما هو إلا مصيب قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته، وإذا كان الأمر ظاهراً لم تقله كذلك فلا تقول للرجل ترققه على أخيه وتنبهه للذي يجب من صلة الرحم ومن حسن التحاب: ما هو إلا أخوك. ومتى رأيت شيئاً هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي لذلك لتقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه).
وأما (إنما) فتجئ فيما يعلمه المخاطب ولا ينكره ولكن مع ملاحظة غرض غير ما تضمنه أصل الكلام (أعلم أن موضوع (إنما) على أن تجئ لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع
صحته أو لما ينزل هذه المنزلة، تقول للرجل إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم، لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته ولكن لمن يعلمه ويقر به إلا أنك تريد أن تنبهه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب. وأما مثال ما ينزل هذه المنزلة فكقوله:
إنما مصعب شهاب من اللَّ
…
هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ادعى في كون الممدوح بهذه الصفة أنه أمر ظاهر معلوم للجميع على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنها ثابتة لهم وأنهم قد شهروا بها وأنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يجهله أحد. واعلم أنه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق).
لعل القارئ يتبين بعد ذلك أننا نخطئ الخطأ الأكبر حين نعتمد على القواعد جافة مجردة عن شواهدها، أو نلجأ إلى الشواهد التي وضعها المتأخرون ثم نحاول هدم القواعد جملة. والذي قلناه في هذه الطرق المشهورة يمكن أن نقوله في كل طرق القصر، وبذلك نجد أن العلماء حين وضعوا القصر في علم المعاني لم يخطئوا.
4 -
أجاب بعض العلماء عن مثل هذا الاعتراض بما أعده (أضعف الإيمان) ولكنه على كل حال جواب صالح. وذلك أن المتكلم قد تدعوه الحال أن يؤدي الكلام مقتصراً على المعنى الأصلي، وما زال العلماء يرون أن خالي الذهن يجب أن يلقى إليه الكلام مجرداً عن التوكيد، وبذلك يطابق الكلام مقتضى الحال. قال التفتازاني في المطول:(أن المقتضى أعم من الواجب والمرجح، ولا نسلم المنافاة بين وجوب الذكر وكونه مقتضى الحال، فأن كثيراً من مقتضيات الأحوال بهذه المثابة) وهو جواب عن المسألة التي ذكرناها في أول هذا المقال.
أما الذهاب بالقصر الادعائي إلى علم البيان فأمره أشد غرابة. وذلك أن علم البيان وضع ليحترز به عن التعقيد المعنوي، فهو يبحث في الجملة من حيث أداؤها للمعنى، فينظر في ألفاظها ومدلولاتها وتركيبها، فمرجع مباحثه إلى اللفظ التركيبي ومدى تأديته للمعنى، فلتشبيه والمجاز والاستعارة والكناية كلها طرق يمكن البحث في صورها من حيث دلالتها على ما سيقت له، وليس كذلك القصر الادعائي فأن المزية التي فيه ليس لها مظهر في صورة الكلام، وإنما مظهرها في اعتبار المتكلم، فتناسى المتكلم لكل حالة غير الحالة
المتكلم فيها أمر في نفسه هو ولا مظهر له في أجزاء تركيب الجملة، وإنما جعلت الجملة مشيرة له، ففرق بين أن تقول: ما شوقي إلا شاعر، وبين أن تقول: شوقي بلبل غرد ثم سكت، فأنت تبحث في الثانية عن الكلمات وأدائها للمعنى، وأما في الأولى فأول مرجعك قصد المتكلم وغرضه، والحال التي ألجأته إلى هذا التعبير، وهذا هو مبحث علم المعاني. على أن العلماء قالوا أن الجملة يمكن النظر إليها من جهات مختلفة فهي من حيث مطابقتها لمقتضى الحال تكون من مباحث المعاني، ومن حيث أداؤها للمعنى تدخل في مباحث البيان، ولا شك أن القصر بجملته يلاحظ فيه الأحوال الداعية. وقد يمكننا على هذا أن ننقل كثيراً من الأساليب إلى علم البيان؛ فالالتفات بأقسامه الكثيرة، والتعبير بالخبر عن الإنشاء، والأسلوب الحكيم، والتعبير عن الأمر بطريق الاستفهام وما يتصل به من هذه المباحث الطويلة العريضة كل أولئك مما يمكن التلمس لها فتدخل في مباحث البيان، ولكن أهي غريبة عن علم المعاني؟
أهناك داعٍ إلى هذا التمزيق؟ لا.
المسألة يجب أن تقتصر على التجديد في قواعد الفن والزيادة عليها أو النقص منها؛ أما أن نجدد فننقل قطعة من مكان إلى مكان ثم لا نفعل شيئاً أكثر من ذلك فلا.
وأحب أن أهمس هنا همسة في آذان الذين ينتقصون القدماء من غير مبرر وهي أن علماءنا الأعلام لم يكونوا أصحاب أذواق مريضة، ولم يضعوا القواعد وهم مغمضو الجفون عما وراءها من الشواهد، ولكنهم درسوا تراث العرب الأدبي وفهموه وتذوقوه ثم وضعوا بعد ذلك قواعدهم - أليس السكاكي وهو مقَعِّد هذا الفن ومفلسفة هو صاحب الرأي القائل بأن إعجاز القرآن لا يدرك إلا بالذوق. وفي ذلك يقول:(واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة، ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا). ويقول في موضع آخر بعد أن ذكر وجوهاً أربعة للأعجاز (يخمسها ما يجده أصحاب الذوق من أن وجه الإعجاز هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة ولا استبعاد في إنكار هذا الوجه ممن ليس معه ما يطلع عليه فلكم سحبنا الذيل في إنكاره ثم ضممنا الذيل ما أن ننكره). أو ليس السكاكي هو الأعرج الثاني الذي قيل فيه وفي صاحبه الزمخشري: (لولا الأعرجان لضاعت بلاغة القرآن)؟ أفبعد هذا يقول قائل
أننا لا نثق في ذوق المتقدمين (وأنهم شملهم كغيرهم ذوق العصر، ولم تستقم في أذواقهم اللغة غضه طرية عطلا من زينة وحلية، ومن ثم كانت تفاهة الاستشهادات والتخريجات، وكان لجوئهم إلى الفلسفة هرباً من الناحية الذوقية، فقاسوا بالشبر والقيراط، ولم تظهر لهم زينة في القوة والعذوبة والسلاسة والنغم فطلبوها بالصبغ والألوان والشعبذة اللفظية).
بخ. بخ. . . لقد قال شوقي على لسان أحد أبطاله:
تهددني زياد وأنت ظل
…
لمجنون وراوية لهاذى
وتزعم أنني نِدُّ لقيس
…
رضيت من المصائب غير هذى
فهل كان يقول على لسان السكاكي والخطيب وغيرهما من أساطين البالغة والأدب؟!
(يتبع)
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة
من غرائب النسيان.
. .!
للدكتور أحمد فؤاد الأهوساني
كنا جماعة نتحدث في شتى الشئون، فأطلعنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن على كتاب فرنسي طبع حديثاً نقل فيه صاحبه مقتطفات من الشعر العربي إلى اللغة الفرنسية، وكانت إحدى هذه القصائد بعنوان (تحت الشراع) للأستاذ عبد الغني ترجمها الناقل عن مجلة (الرسالة) عام 1940. وتتبعنا الشعر الفرنسي محاولين رده إلى أصله العربي فعجزنا، وهنا طلبنا من صاحب الشعر - أي الأستاذ عبد الغني - أن ينشد شعره الذي نظمه، فأجاب: لقد نسيت! قلنا: ألا تذكر مطلع القصيدة؟ قال: لا. قلنا: ولا بيتاً واحداً؟ قال: لا. وهنا بلغ منا العجب مبلغه. . . كيف ينسى صاحب الشيء شيئه هذا النسيان الغريب!
ومن المعروف أن كثيراً من الشعراء يحفظون شعر أنفسهم ولا ينسونه وينشدونه في المناسبات. ومن هؤلاء على سبيل المثال صديقنا الشاعر غنيم. غير أن السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو: لماذا ينسى المرء أعماله وآثاره، وبمعنى آخر: لماذا ينسى نفسه؟!
قلت في تعليل ذلك - وسكت الأستاذ عبد الغني عند هذا التعليل دون تعليق -: أن الشاعر شخص مبدع خالق مبتكر قبل كل شئ، مثله في ذلك مثل الفنان الذي يبدع آثاراً فنية، كالتماثيل التي يصنعها النحات، أو اللوحات الزيتية التي يرسمها المصور، والشعر كالتمثال أو اللوحة الزيتية، يتركب من شيئين: من المعنى الحائر في الذهن، أو الفكرة المبتدعة في صفحة الخيال، ومن مادة يصوغ منها الفنان هذه الفكرة؛ فمادة التمثال الرخام أو النحاس، ومادة اللوحة الألوان، ومادة الشعر الألفاظ. وكثيراً ما يسخط الفنان على عمله فلا يرضى عنه، وعندئذ يحطم النحات تمثاله ويكسره ويأبى أن يظهره، أو يمحو المصور لوحته، وقد يتركها دون أن يتمها، أو يأبى وضع اسمه عليها. تعرفت بمصور في مدينة المنصورة كان يشتغل مدرساً بها، اسمه الأستاذ حلمي، ثم طلبت منه صورة زيتية من ريشته أحتفظ بها تذكاراً لصداقته، فأحضر لي صورة تمثل منظراً ريفياً على شاطئ النيل، ولم تكن ممهورة باسمه، فقلت له: ضع عليها خاتمك، فرفض. ولم أثقل عليه، لأني فهمت ما يقصد: الصورة أعجبتني، ولكنها لم تعجبه، ولو أنه صانعها!
فإذا كان الأستاذ عبد الغني قد نسي شعره، فذلك لأنه فنان يسخط على ما يفعل، ولا يرضى
عما يبدع، إذ يتطلع دائماً إلى الكمال والترقي. ولو رضى الناس عن أعمالهم ما تقدموا. وأكبر الظن أن الصورة الشعرية تكون في الذهن بالغة غاية الروعة ونهاية الكمال، غير أن تحقيقها في المادة، وصياغتها في أثواب من الألفاظ هو سر نقصها. والمادة هي علة النقص في الموجود.
وأذكر حادثة أخرى من نوع آخر:
ركبت المترو من عماد الدين، حتى إذا بلغت مصر الجديدة في إحدى محطاتها المتوسطة، سألني أحد الركاب - وكان يجلس أمامي - هل هذه الحافظة لك؟ فنظرت إلى جانبي فرأيت مكان الراكب الذي كان إلى جواري خالياً، ورأيت حافظة نقود ليست حافظتي. قلت: أنها ملك الراكب الذي نزل! وهنا سألت نفسي: ما شكله؟ هل هو شاب أو شيخ؟ هل هو هزيل أو بدين؟ هل هو أسمر أو أبيض؟ كل ذلك لم أذكر منه شيئاً كان أحداً لم يجلس إلى جانبي. ثم تناولنا الحافظة وفتحناها ووجدنا فيها أوراقاً باسم (عماد). وبدا لي أن أنادي هذا الاسم لعل صاحبه يستجيب، فقلت: عماد. . . والتفت شاب أوشك أن ينصرف في أعماق الشارع، ولوحت له بالحافظة فأدرك المقصود، وعاد مسرعاً وأخذها شاكراً. هنا فقط تذكرت، أو على الأصح تعرفت عليه، وبأن لي أنني تأملت هذا الشخص حين كان إلى جواري، إذ كان يقرأ كتاباً باللغة الإنجليزية فيه أشكال رياضية، واستنتجت عند ذلك أنه طالب في كلية الهندسة أو كلية العلوم، وكان يلبس بنطلوناً وقميصاً فقط. ثم سألت الراكبين: هل يذكر أحدهم هذا الشخص؟ فقالوا جميعاً: لا. قلت في نفسي: لو أن هذا الشخص ارتكب حادثة أو جناية، ولم تكتشف إلا فيما بعد، ثم طلبنا البوليس إلى الإدلاء بالشهادة فماذا كنا نجيب؟ ثلاثة رجال لا يتذكرون شيئاً عن شخص رابع ظل يجلس معهم نصف ساعة على الأقل، ووقعت أبصارهم عليه، وشاهدوه، ثم ينسون كل شيء عنه. . . هذا أمر عجيب! والأغرب من ذلك اتفاق الثلاثة على هذا النسيان! اللهم أن شهادة الشهود في المحاكم أمر مشكوك فيه، ويجب على القضاة أن ينتبهوا إلى هذه الحقائق النفسية الثابتة بالخبرة والتجربة!
لا أملك الحديث عن زملائي الآخرين، ولكني أعرف نفسي. فأنا حقيقة كثير النسيان، وعلى الخصوص فيما يتصل بأسماء الأشخاص. وهذه مسألة تحدث لي كثيراً من الخجل
والارتباك عندما أكون في صحبة صديق، ثم أقابل صديقاً آخر في الطريق مثلا فأحييه ويحييني، ويستوقفني يتحدث إلى، ثم أحاول أن أقدم الشخصين أحدهما إلى الآخر، وهنا تخونني الذاكرة فأفقد اسم صديقي، وقد يكون عزيزاً لدي أعرفه من زمن طويل، وليس ما يدعو إلى نسيان اسمه، فأقع في الحيرة والخجل، وألجأ إلى الحيلة فلا أقدم أحدهما إلى الاخر، وأضرب صفحاً عن هذه المجاملات الاجتماعية الضرورية.
وقد تسألني: ما علة هذا النسيان، وما سبب نسيان أسماء الأصدقاء بالذات؟
الواقع أنني لم أعثر على جواب يقنعني، ولعل أحداً يتبرع بالجواب. . .
أحمد فؤاد الأهواني
فيضان النيل.
. .
بين التفاؤل والتشاؤم
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
ذكرتني القصيدة التي نشرتها (الرسالة) تحت عنوان: (وحي فيضان سنة 1946) في عددها 693 بالفزع البالغ الذي أصاب البلاد جميعاً إبان اشتداد الفيضان في أغسطس الماضي، وغنى عن البيان أن النكبة كانت جسيمة وأن الخسارة الناجمة عنها كانت ولا تزال فادحة، ولكن هل كان ينبغي أن يصل الأمر إلى هذا الحد من التشاؤم الذي شاهدناه مرتسما وقتئذ على وجوه الناس والذي صورته كل الصحف بلا استثناء والذي أوحى إلى الشاعر أن يصف الفيضان (بالهول العظيم!!) ويصف مياه النيل بأنها (ترد البلاد كأنها أغوال!!)؟
صحيح أنه كان لشدة اهتمام الحكومة وقلقها ومظاهر الرعب التي بدت على تصريحاتها أثر محسوس في الإشعار بالخطورة، ولكن أليس المفروض من جهة أخرى أن التزاماتها ومسؤولياتها قد تسوغ لها (تقدير البلاء قبل نزوله) لتهيئ الشعب لاحتماله أو دفعه أو توقيه بالحيطة والحذر والعمل تهيئة جدية؟ ومع هذا فالإجراءات التي اتخذتها - وقصاراها اعتماد مبلغ 210 آلاف جنيه وتشغيل بعض الأيدي العاملة - كان ينبغي أن ترشدنا إلى أن الحالة كانت مطمئنة أو على الأقل غير مروعة إذا قورنت بالسوابق في الفيضانات التي انتابت البلاد الأخرى في القديم والحديث، بل إذا قورنت بالسوابق الغير بعيدة في فيضانات النيل ذاته (نسبياً): ذكر أبن تغرى بردى في (النجوم الزاهرة) أنه كان يُرصد لعمارة جسور النيل واتقاء فيضانه ثلث الخراج سنوياً، وحكي ابن لهيعة أن المرتبين للوقاية من الفيضان سنوياً مائة ألف وعشرون ألف رجل: سبعون ألفاً للصعيد، وخمسون ألفاً للوجه البحري. ورغم هذه الاحتياطات الشديدة فقد روى ابن زولاق أن أحمد بن الدبر لما ولى الخراج بمصر كشف أرضها فوجد غامرها أكثر من عامرها.
أي أن الحالة التي كانت استفحلت هذا العام تكن غريبة على الوادي، ولم تكن تستلزم ولا تحتم التشاؤم الأسود الذي قابلناها به، بل أني أزعم بكل شجاعة - بعد فوات الأوان! - أن التفاؤل المطلق كان أنسب لها وأحرى بنا!! لماذا؟ أبادر فأقول أن الحجة حاضرة ولكني
أريد قبل أن أسوقها أن أسوق من بعض حوادث أسلافنا بهذا الصدد عبرة وقياساً ولو لمجرد الترفيه الفني والتذكير التاريخي: جاء في (نهاية الأرب) للنويري أن النيل يبلغ تمامه إذا وفى ستة عشر ذراعاً، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً بمقياس مصر. أي أنه بالبداهة أن زاد عن 17 ذراعاً مثلا كان مغرقا وأن نقص عن 13 ذراعاً مثلا كان مقحطاً. فما الرأي في أن الناس كانوا يتفاءلون بزيادته مهما أغرقت ويتشاءمون من أي نقصان مهما قصد واعتدل؟ وما الرأي في أن الحوادث كانت تؤيدهم دائماً تأييداً أن يكن غير منطقي إلا أنه واقعي؟ فمثلاً عندما بلغت زيادة النيل أقصاها (19 ذراعا) في سنتي332هـ، 410هـ تصادف أن كانت حوادثهما سعيدة في الغالب. ففي السنة الأولى تزوج ابن الخليفة المتقي بالله ببنت ناصر الدولة بن حمدان التغلبي وتآلفت قلوب المسلمين. . . وفيها أطلق الروم إساري المسلمين. . . وفي السنة الثانية فتحت بلاد الهند وغنم المسلمون بغنائمها. . . الخ. هذا بينما عندما بلغ انخفاض النيل (12 ذراعاً) فقط في سنتي 215هـ، 356هـ تصادف أن كانت حوادثهما محزنة في الغالب. ففي السنة الأولى غضب الناس على الوالي عبدويه بن جبلة وحزنوا كذلك لوفاة زبيدة بنت جعفر زوجة هارون الرشيد، وكانت أعظم نساء عصرها ديناً وأصلا وجمالا وصيانة ومعروفاً. . . وفي السنة الثانية مات السلطان معز الدولة ابن بويه، وقبض على الملك الناصر وولده أبو تغلب ومات الإمام العلامة أبو الفرج الأصفهاني مصنف كتاب الأغاني. . . الخ.
مصادفات. ولكن أعجب ما فيها دلالاتها المطردة في سني الرخاء والجدب على السواء.
فإذا تركنا التكهنات إلى الحقائق. وجدنا بالاستقراء والاستقصاء أن وادي النيل لم ينكب نكبة واحدة بسبب الفيضان أيا كان طغيانه في حين أن المجاعات الفظيعة في مصر كالمجاعة التي حدثت في آخر حكم الأسرة السادسة الفرعونية، والمجاعة التي أيام يوسف الصديق، والمجاعة التي حدثت في العهد الفاطمي وعرفت باسم (الشدة المستنصرية)، والمجاعة التي حدثت في عصر المماليك زمن السلطان كتبغا. . . إلى آخر المجاعات التي روعت الوادي واجتاحته في مختلف العهود تدل دلالة قاطعة على أن سببها الوحيد المباشر هو انخفاض النيل على تفاوت. وأظن أني لست في حاجة إلى وصف حالة البلاد وسكانها أثناء هذه المجاعات فذلك مذكور مشهور في كتب الأدب والتاريخ. ومن قبيل التمثيل أذكر
بعضاً مما حدث أثناء (الشدة المستنصرية) في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، فقد وصل الأمر إلى حد أن أكلت النساء أولادهن الموتى، وأكل الناس الحيوانات الميتة من كلاب وقطط وحمير وغيرها لدرجة أن تسبب عن التهافت عليها ارتفاع أثمانها وصعوبة الحصول عليها، وزادت المحنة اشتداداً حتى كاد الناس من هول الجوع يأكل بعضهم بعضاً. روي أن وزير المستنصر نزل عن بغلته أمام باب القصر وتركها تحت حراسة غلامه فهجم ثلاثة رجال على الغلام وأخذوا البغلة قسراً وذبحوها وأكلوا بعضها وباعوا الباقي فقبض عليهم وصلبوا عقاباً لهم في أحد الميادين. فلما أصبح الناس لم يروا إلا بقايا عظامهم إذ كان الشعب الجائع قد أكل لحومهم أثناء الليل!!
هذا مثل واحد من أمثلة المجاعات التي كانت تحدث بسبب انخفاض النيل، ولذلك أجمعت الروايات المختلفة على أنه (كان يحصل لأهل مصر إذا وفى النيل - بغير تحديد - فرح عظيم بحيث أن السلطان يركب في خواص دولته وأكابر الأمراء في الحراريق إلى المقياس ويمد سماطاً يأكل منه الخواص والعوام ويخلع على القيّاس ويصله بأجزل الصلات) ونحو ذلك. .
فلماذا لا نساير منطق الحوادث، ومنطق الحقائق، ومنطق التاريخ معاً، ونتفاءل أعظم التفاؤل من الفيضان الذي دهمنا هذا العام - بشرط عدم التهاون أو التراخي في تدبير وتوفير وسائل المكافحة الدائمة مستقبلا - فلعل خطورته أن تسفر كالعهد بها عن مصادفة سعيدة، ولعلها أن تكون تحقيق (الجلاء ووحدة وادي النيل).
عبد الفتاح البارودي
من يد ذات سوار
إلى حضرة الأستاذ علي الطنطاوي
موضوعاتك يا سيدي صفقات رابحة في عالم الأدب، ونفحات عاطرة من أريج القلم. ومن أنا حتى أستطيع أن أقول ما يعن لي تلقاءها؟ وا أسفاه! لست ربة قلم، ولا صاحبة بيان، وليس لي من الحول والطول ما يعينني على نشر ما يجول بفكري وخاطري.
بعثت بمقال مرة رداً على أحد الكتاب إلى إحدى المجلات، فكان نصيبه الإهمال. وكم فرحت كثيراً لأنه لم ينشر، ذلك أني بعد أن بعثت به تذكرت:(أن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها). فإما أن أكتب في (الرسالة) بين كتاب الأدب الرفيع وإلا فلا.
ولو أن الله وهبني من العقل كفاء ما وهبني من الحس لكان لي في ميدان الكتابة شأن. ولقد شاء الله أن أتذوق فنون الكلام وحلاوة البيان، و (للرسالة) فضل كبير في هذا التذوق، فقد عكفت على قراءتها بانتظام منذ أكثر من عام، وعشت بنفسي وحسي مع كتابها العظام، أحمل لهم من التقدير والاحترام ما لا ينضوي تحت صفة ولا معرفة، وأنت يا سيدي الطنطاوي من هؤلاء، فلو رأيتني حين أقرأ مقالاتك، لوجدتني صوالة بها جوالة في عالمي الصغير باحثة عن زميلة تشاركني السرور في تلاوتها، خصوصاً، وأنك من قطر شقيق لي فيه صديقات تتجلى في سجاياهن أرفع آيات المودة والإخلاص والنبل.
وأني أخشى أن أثيرك بهذه العجالة فيصيبني من يراعك ما لا أنساه ما عشت.
إن استهلالك في موضوعك (مناظرة هادئة) بقولك: (نحن معشر الرجعيين لا نرى قتال المرأة ولا نزالها) هو الذي شجعني على أن أقف أمام مقامك الكريم موقف التلميذ من معلمه - ويحي!! وهل لمثلي أن تطمع في هذا الشرف؟.
لو كنت من قريباتك. . . مالي أقول هذا والمسلم أخ للمسلمة وهي أخت له. إذن لي - بهذه الأخوة - عليك دالّة خفية مشفوعة بالأدب والطواعية، وعلى ذلك أتقدم إليك قائلة: أن موضوعاتك كلها تأخذ بمجامع قلبي، وتغذي روحي ولبي، وكلها من صميم الواقع الملموس، غير أن بعضها موشي بقليل من المغالاة والحدة، وأن الموضوع الذي عنونته (مناظرة هادئة) كان أقمن أن تسميه (مناظرة ثائرة). ألست معي في أن لفظ مناظرة فيه معنى النظير، وهذا لا يتفق مع ما بدأت به مقالك. يعلم الله أني تلوت هذه المناظرة بشغف،
ولم ألمس في غضونها ذلك الهدوء الذي نعتها به، وإنما لمست فيها صرخة مجلجلة وتهداراً.
إنه لا يزال يتوارد على نفسي، ويرن في سمعي كل يوم حديث تلك القصة التي طلعت بها علينا في صفحات (الرسالة) عن تلك الفتاة التي صوِّرت عارية، فسجلت بذلك على هذا العربي الذي فعل هذا الفعل خزياً لم نسمع به من قبل. يا للعار والقسوة أيحدث مثل هذا في بلد عربي؟
إن القلم الذي تحمله رهيف الحس يحز في نفسي، ويترك أثره في حسي، فهلا رأفت وخففت من إرهافه؟ رأفت! كيف أقولها وأنت الذي في ثنايا فؤادك (رفقاً بالقوارير).
إني لتعجبني تلك النزعة التي تنزع إليها في مناهضة السفور واختلاط الجنسين ومشاركة المرأة الرجل في أعماله، ومن المعروف أن النهضة النسائية قام الرجل فيها بقسط كبير، وكانت له اليد الطولي في توجيه دفتها، وما دام الرجل قواماً على المرأة فهو الذي يحمل وحده وزر هذه التبعة، وهو الذي فتح عليها سدود النهر فجرفها التيار، ثم بعد ذلك قطعت شوطاً بعيداً في عالم الأزياء، وقلدت الأجنبيات، وحملت الشهادات من بكالوريات ودبلومات
إن هذه الحملة التي تقوم بها تكون أجدى وسيلة لو أرسلتها صواعق متوالية في غارات مدوية على الذين بيدهم مقاليد الأمور والحكم، فأن هؤلاء في مقدورهم أن يحملوا الناس على السير بتعاليم الإسلام، وفي مكنتهم إغلاق أبواب الفجور، ومنع إصدار الصحف التي تخدش كرامة الفضيلة.
يا للإساءة التي تصبها على المتعلمات بقولك: (ويجمعهن مجلس بعد هذا كله بالعاميات الجاهلات، فلا تجدهن أصح منهن فكراً، ولا أبعد نظراً، ولا ترى لهذا الحشد من المعلومات الذي جمع في رءوسهن من أثر في المحاكمة ولا في النظر إلى الأشياء، فكان هذه المعلومات التي تصب في اسطوانات الحاكي (الفونوغراف) أن أدرتها سمعت لهجة فصيحة وكلاماً بينا، ونغما حلواً فتقول أنها تنطق، فإذا سألتها وكلمتها رأيتها جماداً أخرس ليس فيها إلا ما استودعته من الكلام الملحن.
هذا يا أستاذ كلام لا تقبله فتاة ولو كانت نصف متعلمة مثلي. هذا تجريح لإنسانيتها التي
يكنفها العقل والشعور. (جماداً أخرس؟) يا لبشاعة الوصف والتشبيه! (جماداً أخرس؟) كيف؟ وقد برأها البارئ أنسأناً ضاحكاً ناطقاً فيه حركة ولب وإحساس. هذا لا يستغرب لأنك لا تؤمن بالإنسان.
إن لي صديقات، وأعرف جمّاً غفيراً من السيدات والفتيات كلهن متعلمات وحاملات للشهادات، ولسن كما تقول، فإذا جمعك بهن مجلس وسمعت حوارهن ونقاشهن لا يسعك إلا أن تغير رأيك في بنات هذا الجيل، وإذا كنت تصف المثقفة بالجماد الأخرس فبماذا تصف الجاهلة؟
قل مل شئت من ناحية الدين في فتاة العصر، فأني أشايعك على كل ما تقول، ولو أن هنا في مصر نهضة نسائية دينية مباركة، يملك زمامها جمعية الأخوات المسلمات، بارك الله فيهن، وحقق على أيديهن ما يرضاه الدين للمرأة المسلمة. أما من ناحية العلم والمنطق فالبون شاسع والشقة بعيدة بين الجاهلة والمتعلمة.
لست بهذا أدافع عن نفسي، وإنما الدفاع واجب عليّ لمن عرفت فيهن سداد الرأي واستقلال الفكر وبعد النظر ووزن الأمور بميزانها.
وقلت أيضاً: (ثم أن تزوجن لم يمتزن إلا بإهمال الولد الخ). وأقول أنا إزاء هذا: أني أعرف سيدات فضليات متعلمات، لا جاهلات عاميات، ينشئن أطفالهن أحسن تنشئة، ويحرصن على تربيتهم بأنفسهن، ليكون منهم في المستقبل رجال نابهون، وأجناد مجاهدون، وقادة محنكون.
إن تلك التي تهمل طفلها وتتركه بأيدي الخدم خرقاء ولا تعد في سواد النساء.
(إنه لا يعجب إحداهن إلا أن تلقى في زوجها حماراً) هكذا قلت. ولكن أكل هؤلاء الرجال الذين تزوجوا متعلمات تعدهم في شرعتك حميراً؟ (معاذ الله) من فيهم يرضى بهذا؟ أن السيدة المتعلمة الراقية المستنيرة لا ترضى على الإطلاق أن تلقى في زوجها (حماراً) تركبه - كما تقول - إلى غايتها. أنها ترفض في شمم وإباء أن تفقد احترامها للرجل الذي تشاطرها الحياة، ولا بد لها من الإحساس بأنه السيد المطاع القوام الذي تخافه رغبة لا رهبة. وقياساً على هذا أنقول أن أزواج المتعلمات كلهم أشقياء؟ أن كان الإيجاب، فيالعثار جدهم، وسواد عيشهم!
إني استحييت مرة من قراءة بعض العبارات التي وصفت بها محاسن المرأة وصفاً سافراً، ولولا حرصي على قراءة أفكارك كلها لأبيت قراءتها.
وما يعجبني إلا كتابتك في الحب والغزل، وحسن وصفك للغواني. قدير قدير - بلا شك - في ألوان الكتابة. أو ليس في هذا الكفاية لما تحمله من احترام المرأة وإكرامها؟
كثيراً ما تدفعني مقالاتك إلى الكتابة. لعل فيها سراً يحبب إلى الأخذ بناصية القلم، ولكني لا ألبث أن أدعه هيبة وإجلالاً.
لا أدري كيف كتبت هذا المقال الجريء، مع أني أعلم أني أمام جهبذ من جهابذة الأدب، فاعذرني يا سيدي لأن الحق أنطقني.
لا يغضبنك هذا القول، فما قصدت به إلا الترفيه عنك، ليزول من صدرك تبرمك بالمرأة المتعلمة. وعسى أن تجد فيما كتبته صاحبة اليد ذات سوار - كما وصفتها - رَوحاً وترويحاً. . . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يد ذات سوار
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 32 -
البطل الضرير:
أدت نظرة ملتن إلى المرأة أنها دون الرجل منزلة وعقلا إلى إهمال منه معيب في تعليم بناته فكبرن وحظهن من الثقافة قليل، وكن لا يعرفن إلا لغتهن إذ رفض أبوهن أن يعلمهن لغة غيرها. وكان يقول في ذلك ساخراً (حسب المرأة لسان واحد)؛ وكان أبوهن في شغل عنهن أكثر الأوقات بكتيباته وخصوماته وأعباء منصبه فكان يترك أمورهن للخدم. والحق أن ملتن كان متخلفاً عن عصره في النظر إلى تعليم البنت ولذلك لم يشايع كومنس حين كتب هو عن التعليم رسالته التي سلفت الإشارة إليها إذ كان كومنس يذهب مذهب أفلاطون في المساواة بين البنين والبنات، وكان لا يعني ملتن إلا بالبنين، وعنده أن من العبث تعليم البنت كما تعليم الكائنات العاقلة على حد تعبيره.
وأملت عليه بيوريتانيته أن يحيط بناته بشيء من الخشونة فلم يمتعهن كما تتمتع البنات إلا قليلاً، فأحسن استبداده بهن وأن لم يشعرن منه بغليظ أو فظاظة، وزاد إحساسهن شدة حرمانهن من أمهن، فقرر في نفوسهن شيء يشبه أن يكون جفاء منهن لأبيهن.
ولما عاد ملتن إلى الشعر وأراد أن يرجع إلى الكتب التي تتصل بموضوعه، كان يقرأ له ويكتب رجل أستأجره لذلك، ولكنه كان لا يعرف غير الإنجليزية حتى لقد شكا ملتن في كتاب إلى صديقه أنه كثيراً ما يتضجر ويضيق بهذا الكاتب الذي يضطر إلى أن يذكر له هجاء كل عبارة لاتينية يمليها عليه كلمة، وكان يقرأ له أحيانا بعض الشباب ممن تنافسوا في الخطوة بهذا الشرف وممن طلبوا الفائدة من القراءة له، كما كان يرسل بعض أصدقائه
أبنائهم ليحظوا عنده بالقراءة أو الكتابة له وليقوموا بذلك ألسنتهم وليفيدوا عرفانا وبيانا.
ولكنه كان لا يضمن مجيء هؤلاء إليه كل حين، وعلى ذلك فقد عول على تعليم بناته النطق باللغات المختلفة وهن لا يفهمن شيئاً مما تتحرك به ألسنتهن وبذل في ذلك جهداً كبيراً وهو على حاله من المرض والعمى؛ وأنه لعجب أن يحرص هذا الحرص كله على المعرفة فلا يقعد عن وسيلة مهما بلغ من عسرها وأنها لحالة تملأ النفس أسى على ما مسه من ضر بقد ما تملؤها إعجاباً بعزيمته التي لا تعرف كلالا ولا سأماً. ولا ريب أنه كان يستشعر كثيراً من المرارة والحزن في تلك اللحظات التي لا يجد فيها من يقرأ له أو يكتب ما نظم من الشعر، ولم يك له عزاء في هذا البلاء إلا استغراقه في قصيدته الكبرى وإقباله عليها بكل جوارحه وارتياح نفسه إلى أن يحقق أملا طالما طاف بخيالة وأثلج فؤاده وأبهج نفسه.
وكان يدعو بناته ليقرأن له ما يطلب من الكتب اللاتينية والعبرية والإغريقية والفرنسية والطليانية والأسبانية، فينطقن نطقاً آلياً بعبارات لا يفهمن منها بالضرورة شيئاً؛ وكنت يضقن بهذا ويتبرمن به ويتضجرن منه، وحق لهن أن يكرهن هذا العمل كرهاً شديداً، فإذا دعاهن أبوهن إليه اقبلن متثاقلات متكرهات، ثم اعتذرت كبراهن بما في لسانها من حصر لا تحسن معه النطق فأعفاها أبوها من القراءة وجعلها للكتابة فوقع عبئ القراءة على الوسطى فازدادت بذلك ضيقاً وضجراً.
وما زال يشيد ضجر ماري وهي الوسطى حتى أصبح تمرداً وعصيانا فصارت تهمل ما يطلب إليها أبوها متغافلة أو متناسية. وكانت تعرض عنه أحيانا ساخطة ناقمة؛ وصبرت دبرا وهي الصغرى بعض الصبر، ولكنها ما لبثت أن تكرهت لأبيها وخشنت عليه وما برحت تشكو لأختيها أنه يدعوها في أي ساعة من ساعات الليل فيوقظها وهي مستغرقة في نومها لتكتب بضعة أسطر نظمها.
وتفاقم الأمر فكره البنات أباهن حتى ما يطقنه؛ قالت الوسطى مرة وقد سمعت أنه يزمع أن يتزوج (ليس في الحديث عن زواجه ما يعد جديداً من الأنباء أما أن أسمع بموته ففي ذلك ما يؤبه له).
وتآمر البنات مع إحدى الخدم على غشه فيما يشتري ويبيع مما يحتاج المنزل إليه، وفعلن
أقبح من ذلك فأعن الخدم على بيع كتبه بغير علمه فإذا علم بشيء من هذا مس الحزن قلبه مساً شديداً ولكنه يكظم غيظه ويكتم أمره عن الصحب والجيرة مخافة العار، وكم كان وقع ذلك أليماً على نفس كبيرة مثل نفسه، وكم كان يشعره ذلك بما آل إليه حاله من استكانة بعد عزة، ويذكره بهذا الضر الذي أحاطه بالظلمة فجعل من بناته عدوات له.
ولكن روحه قوية على الرغم من هذا كله، وإقباله على قصيدته واستشرافه لآفاقها الفسيحة العليا يدفع عن نفسه القنوط إذ يرفعها من عالم حقير إلى ملكوت لا يدرك جلاله وعظمته إلا عقل مثل عقله وروح مثل روحه. ولقد كان له في الشعر أعظم العزاء وأطيبه وأن كان يعمد أحيانا إلى قيثارته فتختلج أوتارها بين يديه بلحن يسرى به عن نفسه أو يهيئ به جواً ملائماً لما تجيش به نفسه من شعر.
عود إلى الشعر:
أنقطع ملتن عن الشعر منذ سنة1641 كما سلف القول، ولم يكد يعود إليه سنة 1658 حتى أنشغل عنه بما كتب في عهد ريتشارد وقبيل عودة الملكية. ثم أقبل عليه إقبالاً غير منقطع منذ أن نجا في أواخرسنة1660؛ ومن ذلك نرى أنه أنصرف عن الشعر قرابة عشرين سنة وهي مدة طويلة لم يقضها في تأمل وهدوء وتهيؤ على نحو ما كان يفعل في هورتون، وأنما كانت حياته فيها كما رأينا مليئة بالأحداث حافلة بالخصومات، ولكنه أفاد خبرة عظيمة وتم نضجه فأصبح كالشجرة المحملة بالثمرات تجود بأطيبها لأقل هزة. . .
ولم تخل هذه السنوات العشرين من الشعر خلواً تاماً فقد نظم الشاعر أثناءها بعض المقطوعات في مناسبات مختلفة، وليست هذه المقطوعات من نفاية الشعر كما قد يخيل إلى المرء فأن لها لشأناً جليلا في ذاتها ومنزلة سامية في تاريخ هذا النوع الذي نسميه المقطوعات، ولذلك نرى أنه يجدر بنا أن نتكلم عنها ونبين مبلغ ما لها من خطر في الشعر الإنجليزي قبل أن نتكلم عن الفردوس المفقود وما جاء بعدها.
جاء ملتن من هذه المقطوعات بما لم ينته فيه كثير من أفذاذ هذا الضرب من النظم منهاه، ولقد قل فيه أكفاؤه وذهب له صيت منه بالقياس إلى شكسبير أن لم يك يبرعة في أكثر من ناحية من نواحيه. ولقد اصبح فيه مثالا لمن جاء بعده فاحتذى حذوه واعجب به ورد ثورث وكيتس وغيرهما من شعراء القرن التاسع عشر.
ولا بد لنا من كلمة في أصل هذه المقطوعات ونشأتها لا في شعر ملتن وحده ولا في الشعر الإنكليزي وحده ولكن في الشعر الأوربي بوجه عام ثم نعطف الكلام بعد على مبلغ ما توافى لملتن فيها من براعة وتبريز.
لم يقطع نقدة الأدب الأوربي برأي في نشأت المقطوعات وتسميتها بهذا الاسم الذي سموها به، ويرى بعضهم أن الإيطاليين هم مبتدعوها، وأن اسمها يرجع إلى لفظ إيطالي معناه اللحن الصغير أو الصوت الصغير وهو لحن كان يغنى على عود أو قيثارة. ويرى فريق آخر أن منبتها كان في فرنسا في مقاطعة بروفانس وأن اسمها نجم من تلك الكلمة الفرنسية التي تطلق على الجرس الصغير أو جرس الغنمات. ويذهب البعض إلى أن اصلها إغريقي وأن الإغريق اختاروا لها لحنها ووضعها الفني بعد أن مرت على عدة أطوار من الخلق والابتكار. ولأحد النقدة وهو وليم شارب رأى غير هذه جميعاً فهو يردها إلى أغاني الرعاة في صقلية وجنوبي إيطاليا ويرى أنها انتهت إلى وضعها المعروف بعد أطوار مختلفة، ويرد اسمها إلى الاسم الذي يطلق في هاتيك الجهات على أغنيات الفلاحين والرعاة على وجه العموم.
وكان أول ما ظهرت تلك المقطوعات في صورتها ولحنها الخاصين بها في الأدب الإيطالي في القرن الثالث عشر في شعر شاعرين هما: بييردل فني وجيو تودارزو؛ وكذلك كان أول من طرق هذا الضرب من النظم من كبار الشعراء من الإيطاليين فقد تغنى دانتي في أواخر القرن الثالث عشر بحبيبة قلبه بياتريس فاتخذ لغنائه عدداً من هاتيك الألحان، وكذلك أفصح بترارك في أوائل القرن الرابع عشر عما ينبض به قلبه من حب لمعشوقته لورا بعدد من تلك الأصوات الصغيرة التي سميناها المقطوعات.
أما عن الصورة والوضع الذي انتهت إليه المقطوعة في الأدب الإيطالي فأنها لم تك تزيد على أربعة عشر سطراً. ثمانية منها تكون من حيث النغم والموضوع فاتحة المقطوعة أو صدرها، وتكون الستة الباقية خاتمتها أو (قفلتها). ولا بد من الفاتحة أن تجري قوافيها على وضع معين، فالقافية في السطر الأول مشاكله لها في الرابع وبينهما الثاني والثالث متحدة قافيتهما ولكنها مغايرة لما بدأت به المقطوعة، ثم يكرر هذا الوضع حتى تتم الأسطر الثمانية بعد ذلك وتغير القافية في الأسطر الستة التي تكون الخاتمة على أساس أن تكون
ثلاثتها الأولى مشاكله لثلاثتها الثانية.
وأما عن موضوع المقطوعة فهي كما يفهم من حجمها يقصد بها التعبير عن معنى من المعاني تجيش به النفس في مناسبة من المناسبات، أو هي تسجيل لخاطر يخطر للقلب في غير استطراد يخرج به عن أن يكون خاطراً هو ابن لحظته أو ابن مناسبته؛ ويقول في ذلك وليم شارب إن المقطوعة (هي خير وسيلة للتعبير عن خاطر شعري منعزل عن غيره تعبيراً موجزاً محدوداً)؛ وتقتضي طبيعتها أو يقتضي النجاح فيها أن يكون التعبير قوياً رائعاً يجمع إلى عمق الفكرة وجمالها بلاغة اللفظ وإشراقه، كل أولئك في أيجاز لا يخل بالمعنى المراد. وما اجمل ما وصف به روزتي المقطوعة وهو من الشعراء الذين أحبوها وبرعوا فيها في القرن التاسع عشر، قال (إن المقطوعة هي تمثال لحظة) وهذا التعبير القوى الجميل هو من قبيل ما يجب أن تبنى منه المقطوعات القوية أو التي تتسم بالنجاح؛ ومن هذا ندرك أنها عمل فني يتطلب قدراً كبيراً من البراعة الفنية والطاقة الشعرية، وحسب الشاعر أنه يقيم تمثالاً في لحظة ولن يكون التمثال جديراً باسمه وبالغرض منه إلا إذا حملك على الإعجاب به والشعور تلقاءه بما تشعر به تلقاه كل عمل فني من روعة الفن وجلاله.
والمقطوعة ضرب من الشعر الغنائي، ولكنها تختلف عن القصيدة الغنائية الصغيرة بما ينبغي أن يلقيه الشاعر على غنائه من الوقار والاحتشام فلا يتبذل ولا يسف ولا يتلاعب بالألفاظ والأسجاع وألوان التورية وأشباهها مما يستساغ في القصيدة العادية ولا يجوز هنا، حيث ينبغي التأمل والتسامي كي يأتي التمثال معبراً عما يراد به التعبير عنه، وما تقام التماثيل إلا للجليل من الأشخاص والأفكار.
وقد شبه أحد النقدة لحن المقطوعة بالموجة إذ يتدفق ويتجمع ماؤها فتعج به وترتفع ثم تهبط فتنساح ويرتد الماء ليعود ثانية إلى البحر، والمقصود من هذا التشبيه أن المقطوعة وحدة غنائية ملتزمة الصورة واللحن فلا حرية فيها للشاعر أن يجري ألحانه كيفما يشاء وأن يتظرف ويتخلع وينطلق حسبما يتجه خياله ومزاجه وهواه.
وظهرت المقطوعة أول ما ظهرت في الإنجليزية في ثنايا كتاب نشره أحد رجال الأدب واسمه تُتِل سنة 1557 تحت عنوان (خليط من الأغاني والمقطوعات) ولما كانت
مقطوعات كثيرة منها غفلا من أسماء أصحابها فليس يدري من الرائد في هذا الضرب من النظم في الإنجليزية، على أن الإنجليز لم يتبعوا ما وضعه الإيطاليون، فقد تصرفوا فيه وأتوا بصورة جديدة للمقطوعة وأن بقي عدد أسطرها كما هو في المقطوعة الإيطالية وجاءت الصورة الإنجليزية ايسر بناء من الصورة الإيطالية كما تبين من طريقة التقفية فيها، وليس يشترط فيها أن يكون هناك تغير بين صدرها وخاتمتها وأن كان الغالب أن يحدث هذا التغير كما هو واضح من المثال الذي أثبتناه في ذيل الصفحة؛ وكانت تنتهي في سطرين في قافية واحدة يكونان نغمتها الأخيرة.
وذاع هذا الوضع الجديد، وسميت مقطوعاته المقطوعات الإنجليزية أو المقطوعات الشكسبيرية، فقد نسبت إلى شكسبير ولو لم يك مبتكرها لأنه خير من أجاد في بناء هذه المقطوعات ولأنه من أكثر الشعراء إنتاجاً فيه؛ ولقد كثر نظم المقطوعات كثرة ملحوظة في العصر الاليزابيثي وبرع فيه غير سبنسر وشكسبير نحو أثني عشر شاعراً، هذا فضلا عن عدد كبير لم يكن لهم مثل ما لهؤلاء من الإجادة وحسن السبك.
(يتبع)
الخفيف
صحائف مطوية:
من أخلاق البحتري
للأستاذ محمد رجب البيومي
- 2 -
ذكرت في مقالي السابق أن أبا عبادة البحتري كان ذا حظوة سعيدة لدى الخلفاء، فقد أغدقوا عليه من الهبات الجزيلة ما اشترى به ضياعاً واسعةً في ضواحي بغداد، وأخرى في منبج بالشام، ولكنه على رغم ثروته الطائلة كان يضيق على نفسه فلا يلبس سوى الخز الرخيص ولا يأكل غير ما يقوم بحاجته الضرورية، وطبيعي أن يعامل أهله بهذه الكزازة الشحيحة، قال الحكم بن يحيى:(كان للبحتري أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعاً، فإذا بلغ منهما الألم مبلغه أتياه يبكيان فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقاً مقتراً ويقول: كلا، أجاع الله أكباد كما وأطال إجهادكما)، وكان يأخذ أضيافه بنوع من القسوة لا ينبغي أن تصدر من شاعر مرهف الإحساس رقيق الشعور، قال أبو مسلم محمد بن الأصفهاني الكاتب (دخلت على البحتري يوماً فحبسني عنده ودعى بطعام له فامتنعت من أكله وعنده شيخ شامي لا اعرفه فدعاه فتقدم وأكل معه أكلاً عنيفاً فغاظه ذلك، والتفت ألي قائلاً: أتعرف هذا الشيخ؟ فقلت: لا، فقال هذا الرجل من بني الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر:
وبنو الهجيم قبيلة ملعونة
…
حمر اللحى متشابهو الألوان
لو يسمعون بأكلة أو شربة
…
بعمان أصبح جمعهم بعمان
قال: فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك).
ولقد كان غرام الوليد بالمال خيراً وبركة على شعره، إذ فتح له أبواباً من القول ضاعفت إنتاجه، فقد كان لا يرى عند خليفة أو رئيس سيفاً أو فرساً أو خاتما أو قلما إلا وصفه وصفاً بارعاً ثم استهداه منه؛ فإذا تم له ما أراد أخذه فباعه وأضاف ثمنه إلى خزينته، والواقع أن هذا استجداء غير مشرف، لأن الهدية لا تباع بحال من الأحوال!!
وقد نشأ البحتري في عصر تفاخر فيه المترفون باقتناء الجواري والغلمان، باذلين في ذلك أنفس ما يملكون من ذخر وعتاد، فكان الوليد لا يفتأ يستهدي من يروقه من المرد الحسان
في أسلوب جميل يجعل سامعه يمنح الهدية في سرعة واغتباط، وهل تجد أرق من قوله في استهداء غلام يدعى ميخائيل:
فإن تهد ميخائيل تبعث بتحفةٍ
…
تقضَّى لها العتبى ويغتفر الوزرُ
غرير تراءوه العيون كأنما
…
أضاء لها في عُقب داجيةٍ فجرُ
ولو يجْتَلي في بضع عشرة ليلة
…
من الشهر ما شك امرؤ أنه البدر
إذا انصرفتْ يوماً بعطفيه لفتةٌ
…
أو اعترضتْ من لحظه نظر شزْر
رأيت هوى قلب بطيئاً نزوعه
…
وحاجة نفس ليس عن مثلها صبر
تجاوز لنا فيه فأنك واجد
…
به ثمناً يُغليه في مدحك الشعر
وألطف منه في الفؤاد محلَّة
…
ثناء تبقِّيه القصائد أو شكر
وإذا كان البحتري قد هام بميخائيل لأنه وضئ الوجه حسن الصورة، فليت شعري بِمَ نعلل هيامه بنسيم؟ وقد كان رومياً دميم الصورة كريه الرائحة! ألانه وجد هذه الصفات تجعل صاحبه يفرط فيه بسهولة، فكان يستهديه ويبيعه، ثم يستهديه ويبيعه، فهو إذن شرك (مُحكم) يصيد به النقود، وملهم يقدح شاعريته، فيصفه بما ليس فيه، ويبالغ في التشوق إلى لقائه مبالغة تستهوي الأفئدة كان يقول:
دعا عبرتي تجري على الجور والقصد
…
أظن نسيما قارف الهجر من بعدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه
…
فياعجباً للدهر فقداً على فقد
خليليَّ هل من نظرة توصلانها
…
إلى وجناتٍ ينتسبْن إلى الورد
وقَدٍّ يكاد القلب ينقد دونه
…
إذا اهتزَّ في قربٍ من العين أو بُعد
فلو تمكن الشكوى لخبَّرك البكا
…
حقيقة ما عندي وأن جلَّ ما عندي
غُصبتك ممزوجاً بنفسي ولا أرى
…
لهم زاجراً يُنهي ولا حاكما يعدي
أبا الفضل في تسعٍ وتسعين نعجة
…
غنىً لك عن ظبي بساحتنا فرد
ومهما يكن من شيء فلقد مات نسيم في ميعه صباه، وارتاح الناس منه ومن عاشقه المشوق!
على أن البحتري كان يغير في سبيل المال مذهبه واعتقاده فهو لا يثبت على قول واحد، إذا مدح معتزلياً كان معه، أو سُليَّا جاراه في رأيه قال إبراهيم بن عبد الله الكبجي: قلت
للبحتري ويحك! أنك في قصيدتك (أأفاق صب من هوى فأفيقا) تقول:
يرمون خالقهم بأقبح فعلهم
…
ويحرّفون كلامه المخلوقا
فهل صرت معتزليا قدريا؟ فقال: كان هذا ديني في أيام الواثق ثم نزعت عنه في أيام المتوكل! فقلت له: هذا دين سوء يدور مع الدول).
وإذن فالوليد لا يهتم بغير المال مهما غير رأيه واستجدى أصحابه، وعنف أضيافه، وقتر على نفسه وأهله كما تقدم في صدر هذا المقال، وذلك كثير!!
بقي أن نتحدث عن علاقة الوليد بزملائه الشعراء، وهي في جملتها غير مرضية، فقد نشأ في عهد نبغ فيه المُعْلَمون من أبطال الشعر وقادته؛ فكانوا يتراكضون في ميدان فسيح، فمن حاز قصب السبق كانت له الشهرة المستفيضة، والصيت الذائع، وهذا تنافس شاق ترك في نفس الوليد أثره الواضح، فأبو تمام مثلا كان لا يستحق منه غير المدح الجزيل، فقد أخذ بيديه في بادئ امره، وقربه للعامة والخاصة، وواصل تعريفه بالناس ولولاه ما أكل الخبز - كما يعترف بذلك البحتري - ولكنه لم يرع له هذا الجميل، فهاجمه بعد موته، وقال لولده أبي الغوث (إنه ما مات حتى أصفى من الشعر، وقد سألت ابن الأعرابي عنه فقال: إن كان شعره شعراً فجميع ما قالته العرب باطل) بعد أن كان يقول في حياته إن نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه
ونود هنا أن نلفت الأنظار إلى قصة روتها كتب الأدب عن مبدأ تعرفه بأبي تمام، وخلاصتها أن البحتري قد مدح أبا سعيد محمد بن يوسف بقصيدة:
أأفاق صب من هوى فأفيقا؟
…
أم خان عهداً أم أطاع شفيقا
وكان أبو تمام حاضراً فنسبها إلى نفسه، وصدَّق جميع من في المجلس، فجعل البحتري يقسم بالله أنها له، إلى أن استحيا أبو تمام، فقال: الشعر لك يا بني ولكني ظننت أنك تهاونت موضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي تريد بذلك مضاهاتي،. . . ونحن نقول أنها قصة مكذوبة نجل أبا تمام أن يصدر عنه ما ذكر بها، سواء رواها البحتري أم سواه، لأن حبيباً كان ذا مذهب مشهور في القول حتى أنك لتعرف قصيدته من أول بيت تسمعه؛ فلو أنه ادعى ذلك ما صدقه أحد في دعواه، لخلوها عن بيت واحد تشم منه رائحته، ولا سيما وجميع من في المجلس يعرفون جيداً من هو أبو تمام! وإلى أي حد ينزع.
أما ابن الرومي فقد جر على البحتري من البلاء ما أقلق باله وأزعج خاطره، ذلك لأنه كان مولعاً بهجاء من يعرف ومن لا يعرف من الناس، فخاف الوليد على نفسه منه، وطلب من سعيد بن الحسن الناجم أن يجمع بينهما في مجلس، وما إن تم ذلك حتى نشأت بينهما صداقة وليدة، ولكن البحتري عاد فهجَّن شعر صاحبه على ملأ من الناس، وما أن شاع في ذلك حتى أنفجر ابن الرومي كالبركان الهائج يقذف الحمم على رأس الوليد. فهجاه مرات عديدة، ولم ينس أن يتعرض إلى شعره فيُبيِّن رأيه فيه بوضوح حين يقول:
قُبحاً لأشياء يأتي البحتري بها
…
من شعره الغث بعد الكد والتعب
عبد يغير على الموتى فيسلبهم
…
حر الكلام مجيش غير ذي لجب
وقد يجئ بخلط فالنحاس له
…
وللأوائل ما فيه من الذهب
يعيب شعري وما زالت بصيرته
…
عمياء عن كل نور ساطع اللهب
الحظ أعمى ولولا ذاك لم تره
…
للبحتري بلا عقلٍ ولا أدبِ!
إلى أخر ما قال.
هذا وقد هاجم على بن الجهم بدون ذنب جناه. فقد ورد على المتوكل على الله من البادية فأعجب الخليفة بخشونته وبسط له جناح عطفه، وما زال به حتى دمث طبعه، ورقتْ معانيه فأتى في شعره بالمرقص المطرب، ولكن الوليد لم يطق ذلك من المتوكل، فأنبري يهجو ابن الجهم هجاء مُراً، وكان علي قصير الباع في السباب فلم يستطع الصمود أمام غريمه، فتزيد عليه البحتري موجهاً جل هجومه إلى ما تحت ثيابه! وكان الأولى بالوليد أن يترفع عن هذه الناحية المقيتة، ولكن هذا ما كان! على أن البحتري فيه هجاء قد خلا من الفحش الصارخ. فكان جيد المعنى، رائع السبك، يدل على تفكير قوي وشاعرية ثرة، كأن يقول:
يا قذىً في العيون يا غُلَّة ب
…
ين التراقي يا حرارة في الفؤاد
يا طلوع العذول غب صفاء
…
يا غريماً أتى على ميعاد
يا ركوداً في يوم غيم وصَيْفٍ
…
يا وجوه التجار يوم الكساد
خلّ عنَّا فإنما أنت فينا
…
وأو عمرو أو كالحديث المُعاد
امض في غير صحبة الله ما عش
…
ت مُلقى في كل فجِّ ووادي
يتخطى بك المهامه والبيد
…
دليلٌ أعمى كثير الرقاد
خلفك الباتر الصمّم بالسيف
…
ورجلاك فوق شوك القَتاد
كما أن من الغريب أن الدور الذي مثَّله البحتري مع أبي تمام قد مثله مع دعبل الخزاعي، فكان في حياته يرفع شعرهإلى درجة عالية، وما سمع بموته حتى بدل رأيه فيه، فقال لمن سائل عنه، (أنه يدخل يده في الجراب ولا يقول شيء) ولعله كان يخاف من لسانه السليط!
ومهما يكن من شيء فإن حبيباً ودعبلاً أقرب إلى نفس البحتري من ابن الرومي وابن الجهل، وهذا يرجع إلى تقدمهما في السن من جهة، وعطفهما عليه من جهة أخرى، فليت الوليد قد حبس لسانة عنهما حتى نذكره مع الذين يحفظون الجميل!
وبعد فأخشى أن أكون قد أغضبت عشاق البحتري بهذا الإلمام السريع. فأنا اعترف كما يعترفون ببراعته الفائقة، وخياله الرائع، وديباجته المشرقة، ولكن اعترف أيضاً بسلاطة لسانة، وقلة وفاته، وشح نفسه.
(ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل!).
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي
رباعيات عثمان.
. .!
للأستاذ عثمان حلمي
كم جبان من الخيال يراعُ
…
هو في نفسه الجريءُ الشجاعُ
فإذا جدَّ أي أمرٍ تبينْ
…
تَ جزوعاً خانت قواهُ الطباع
كيف أضحى وجه العبوس كوجه ال
…
طفلِ هشاً والقلبُ وهو شجاع
هكذا تأخذ المظاهر بالأل
…
باب أخذاً ويستقيم الخداع
هكذا ما استقام في الأرض ظلُّ
…
أو تعزى في ظلها المستظلُّ
ما بنوها أقل ميناً ولا الأر
…
ض على المين من بنيها أقلُّ
معدنٌ واحدٌ فلا ترج ماير
…
وي الصدى من كذابهم أو يُعل
وتبسَّمْ ولا تملَّ فأن ال
…
عاقل المستنير من لا يمل
أيما أبصرتْه مقلة رائي
…
باطل في بصائر الفهماءِ
فأرح في الحياة نفسك ما اسطع
…
تَ بما تستطيع من إغضاء
ما على الأرض لو تأملت خيرٌ
…
لك من لقمة وجرعة ماء
وسوى ذاك باطلٌ أي بطلٍ
…
وعناءٌ ما بعده من عناء
أي حق ما لابستهُ الظنون
…
ليت شعري فأين أين اليقينُ
الذي كان ليس يدريه حيٌّ
…
ومحال إدراكُ ما سيكون
حُلُمٌ هذه الحياة على الأ
…
رض وسرٌّ لا ينجلي مكنون
ذلك السرُّ ليس يجلوه للأح
…
ياء - لولا الضلال - إلا المنون
كل نفس لها لدى الفكر حق
…
فالذي خلته هو الحق - حق
والذي خاله سواك هو الحق، فمن منكما لعمري أحق
شدَّ ما في رأييكما من خلاف
…
هو غربٌ وأنت في الرأي شرق
ليس من يعرف الحقيقة في الخلق برأيٍ ما في ثناياه خرق
فعلام الجدالُ والأضغان
…
وإلام الحقود والطغيان
نحن مهما تباين الرأي فينا
…
واختلفنا فاصلنا الإنسان
ما جرى في عقولنا من دماءٍ
…
أو حوتْ في صميمها الأبدان
واحدٌ ذلك التراب إذا ما
…
حللته الأحداث والأزمان
كل حيٍّ في الأرض أسعد حالا
…
من بني آدم وأسمى مثالا
فالحمار الذي حسبناه أشقى الخل
…
ق منيِّ ومنك، أنعم بالا
فهو أنى اغتدى على الأرض لم يجن على نفسه بخطءٍ وبالا
ومع العقل يا ابن آدم تزدا
…
د لعمري حماقة وضلالا
نهض العلمُ يا بن آدم نهضاً
…
فسعي يبتغي سوى الأرض أرضا
ترك الأرض بعد أن دوّخ الأر
…
ض وجاب السماء طولا وعرضا
وارتقى فيه كل شيء ولكن
…
بقيت نفسه كما هي فوضى
وتقضى بعقله كل نقص
…
غير نقص بنفسه ما تقضى
هذه النفس يا أخي كيف تصفو
…
إن حواها جوٌّ من الشر صرف
هي إبليس لو فطنت وفيها
…
مَلك حائر على الخير يهفو
وهي وحش من الوحوش ونسر
…
بجناح على المخيم يرف
لم يهذِّبْ مر القرون طوايا
…
ها فظلت من ضعفها تُستخف
ملك النسل أمرها والجوع
…
فهي طفل على الدهور رضيعُ
أينما أيقظا هواها فما ينفع فيها التثريب والتقريع
هكذا قام من غريزته الأصل وقامت على الأصول الفروع
ما استطاع الإنسان حدَّ هواها
…
لا ولا حدَّ شرَّها مستطيع
عجز العلم والنهى والدين
…
والردى دون نقصها والسنون
فتأمل أيان كنت أنَّى
…
شئت فالضعف جاثم والشجون
وفنون من الخصاصة والتعس وجمُّ من الشقاء فنون
ودمٌ في براءة مُهرَاق
…
وغريم من كل ِّ شرٍ مصون
يا لها من حقيقة تتوارى
…
خجلا والنفوس منها حيارى
فإذا ما تحجبتْ أسدل المي
…
ن على وجهها البغيض ستارا
وإذا ما تكشَّفتْ لم ير المبصر فيما يراه إلا صغارا
كم يرى النفس كيف لطخها الطينُ
…
فجُنَّتْ حماقة وسَعَارا
كلنا لائمٌ فأين الملوم
…
أين منا الأريب أين الحكيمُ
فالتمس للنفوس ما اسطعت من عذ
…
ر فما في نفوسنا المعصوم
وتقَّبل ما ساء منها وما سرّ بقلب ما أثقلته الهموم
هكذا كانت النفوس فلا يُحزنك منها صحيحها والسقيم
لو تراني والشر يطغى أمامي
…
ودموعي يطغى عليها ابتسامي
لو تراني عجبتَ لي كيف أمضيتُ حياتي في راحة وسلام
فتأمل مع ابتسامك في عصري وكيف انقضت به أيامي
لو تأملتها كفتكَ كثيراً
…
من تجاريب سادرٍ مغشام
كلما زاد بالحياة اهتمامي
…
واشتغالي زادت بها آلامي
وتبيَّنت كلما مرَّ يومٌ
…
إثرَ يوم حقيقة الأيام
فالتجاريب علمتني أن تذ
…
عن نفسي فيها لغير مرامي
والقيود التي فُرضْنَ على الأحياء فيها قوبلن باستسلامي
والسلام الذي أراه أمامي
…
كم تبينت فيه عكس السلام
غير أني على مرارة سخري
…
لم أبح في انتقاده بملام
هذه حكمة الحكيم جناها
…
عقله من تتابع الأعوام
من يُردْ هذه الحياة جحيما
…
جاء من نفسه لها بضرام
أصبحت تشبه الحمامة نفسي
…
فهي تضحي على الهدوء وتمسي
حسبها السعي للقليل من الرز
…
ق وحسبي الرضى به والتأسي
ثم حسبي أن لم أرق ماء وجهي
…
لابن أنثى من ذي ثراء وبأس
وأرى في الرضى أماناً من الهم
…
وبرءًا من كل غمٍّ ويأس
ولقد رُضتُ في العواطف قلبي
…
وتقلبتُ بين بغض وحبِّ
ثم أصبحت لا أودُُُّ ولا أقلي ولا يستقيم للعطف لُبِّي
كل همي أن أبصر الخلق عن بُعدٍ على مسرح الخليقة قربي
ساخراً من مشاهٍدٍ تتوارى
…
بين سهل من الأمور وصعب
ليس للحبِّ والقلى أسبابُ
…
أدركتها النفوس والألبابُ
حيِّر العلم كل عقل ودون العلم عن حيرة القلوب حجاب
ربَّ قلب أحبَّ نفساً إساءته ومن أحسنت ببغضُ تثاب
ذاك أمرُ مثل المنية خافٍ
…
جهل الشيب سرَّه والشبابُ
كل ما في حياتنا أوهام
…
إن خبرت الحياة أو أحلام
فاسأل الغيبَ عن حقيقة دنيا
…
نا تجبك النجوم والأجرامُ
وسل الكائنات عن منشأ العق
…
ل ومأوى النهى يجبك الرغام
واعتصم يا أخي بعجزك أن العجز فيه إذا ضللت اعتصام
كم سؤال لا ينتهي وجواب
…
لم يكن في هداك فصل الخطاب
فتبرّمتَ بالحياة ولم ير
…
ددك عقل إلى سواء الصواب
ما الذي يستطيع عقلك أن يفهم مما اختفى وراء الحجاب
ولعمري ما الأرض في الكون إلا
…
ذرة في خضمّه الصخاب
عثمان حلمي
البريد الأدبي
طه الراوي
بعد أن كتبت الكلمة التي حملت إلى قراء (الرسالة) الخبر المصم، والنعي الكارث، نعي فقيد الأدب العظيم الأستاذ طه الراوي جاءتني هذه (الرسالة) من الأستاذ حسن حبشي مدرس التاريخ بمدرسة المعلمين العالية ببغداد، وكنت حملته بطاقة إلى الأستاذ الكبير رحمه الله، فقابله قبل وفاته بيوم واحد.
وهي اسطر قيمتها بأنها تتحدث عن الأستاذ في آخر حياتة، وتحمل إلى أصدقائه من أواخر نفحاته.
قال الأستاذ حبشي:
(ما كنت أبلغ عاصمة الرشيد حتى توجهت يوم السبت إلى الأستاذ طه بك الراوي وكنت قد بعثت ببطاقتكم إليه مع الأستاذ جميل سعيد، وقد رحب بي الرجل أجمل ترحيب، وسألني أن أحدثه عنكم، إذ هو مشتاق إلى الوقوف على أخباركم، وقال إنه يعتب عليكم في أنكم لا تجيئون العراق، مع أنه قد ألح عليكم من قبل، وكان حاضراً المجلس الدكتور مصطفى جواد وأنبأني أنه سيكتب إليكم.
ولكن العجيب يا أستاذي أن هذا الأديب الكريم كان ممتلئاً صحة، وكان دليل العافية بادية عليه، لا تلمح به أثراً أو جهد أو تعب، ولكن انقضى اليوم الثاني حتى وافانا نعيه فكان الرزء فيه عظيما. وأي خطب للأدب والدين في العراق اجل من أن يختطف الموت طه الراوي وقد كان ملء السمع والبصر، وكانت جنازته جنازة دلت على مكانته، فقد شيعه كبار القوم ببغداد، وعارفو فضله وأدبه، على الرغم من أن المدة بين نعيه وبين تشيعه إلى لحده لم تتجاوز خمس ساعات.
فإن يكن قد كتب إليك فذلك اخرما كتب، كما أن رسالتك التي حملتني إياها كانت آخر ما تسلم، ولا أستطيع يا أستاذي أن أصور لك مبلغ حبه لك مما بدا في حديثه معي ومع سائر زواره في ذلك اليوم، وإنني لأرجو أن يفسح الله له في جناته بقدر خدمته للأدب والعروبة والدين).
من صميم الحياة:
القاضي الفاضل الأستاذ علي الطنطاوي من بقايا السلف الصالح، يرسل علينا من آن لآخر آيات فيها العضة والاعتبار بأسلوب رشيق وقصص ممتعة، وفيها أيضاً إثارة من قلم أستاذنا الرافعي طيب الله ثراه.
ساق إلينا في (الرسالة) رواية عن شاب مستقيم الخلق والدين عهد إليه بالتعليم في مدرسة ثانوية للبنات، ثم انتهى به فساد بعض التلميذات إلى الاستقالة من المدرسة؛ ولي على الكاتب الفاضل ملاحظات:
1 -
تغلب عليه روح التشاؤم فيما يكتب، ونحن في عصر النهوض أو في عصر انقلاب اجتماعي وقد نسيء أو نحسن، فنحن في حاجة إلى من يروضنا ويبعث فينا روح التفاؤل بأسلوب يهز النفوس هزا لتنشط إلى السير قدماً في طريق الفلاح والنجاح، ويحملها على الاعتراف بالخطأ فتصفو من عيوب المجتمع وتسلك سواء السبيل.
2 -
لقد قدم لنا بطله في مدارس البنات شاباً ضيق الأفق ضعيف الحيلة اشد حياء من العذراء، ثم صور تلميذته في صورة داعر تعشق معلمها من غير مقدمات. . . وليتها فعلت كما قال شوقي:
نظرةفابتسامة فسلام
…
فكلام فموعد فلقاء
وما هكذا طبائع الأشياء، وما كذلك مدارس البنات!
3 -
كثيراً ما تتغلب الفكرة والخيال على الأستاذ الكاتب فيفوته الواقع في قصصه: (فهي فتاة من أنبل الأسر تسرع وراء معلمها فيعف عنها ثم تكتب له:
وإذا رأيتك لا تكلمني
…
ضاقت على الأرض والأفق)
وما كان لها أن تخجل وتعرض عن معلمها بعد أن صد عنها وأعرض، حتى هجمت عليه في منزله كالوحش الضاري لتهتك عرضه
لا - يا أستاذ - لقد شط معلمك شططاً بعيداً. ولعلي أصدقك - وقد كنت في ماضي حياتي معلماً في مدارس البنات - فهذه المخاوف التي استولت على ذهنك كنا نتصورها، أو قريباً منها، حتى إذا وجدنا أنفسنا في هذا الوسط أحسسنا أن هؤلاء البنات بناتنا والمعلمات أخواتنا، وزال هذه الخوف الأسود من مشاعرنا، وصارت الحياة عادية، وهذا شأن سائر المعلمين في مدارس البنات
فرفقاً بالناس وحنانيك، وإنصافاً - يا حضرة القاضي - فالأمر أن شاء الله على ما تحب بفضل القدوة الصالحة والتهذيب الصحيح أولا فلتغلق مدارس البنات والسلام
حسنين حسن مخلوف
مفتش بوزارة المعارف
تحية قدوم:
(من الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين إلى الأستاذ أحمد أمين
بك بمناسبة قدومه من أوربا):
سعدت بمقدمك العباد
…
يا خصب أذهان البلاد
الشرق محتفل القلو
…
ب بكم وإن حال البعاد
بشرى تناقلها البلا
…
د تناقل النغم الميعاد
يسري شذاها حاملا
…
أملاً إليها في ازدياد
أحمد الزين
مناظرة هادئه
اطلعت بالعدد 694 من مجلة (الرسالة) الغراء على المقال القيم بقلمك الأستاذ الكبير علي الطنطاوي. وإني وإن كنت من (الرجعيين) أمثال الأستاذ الكبير، إلا أني أريد أن أنصف النساء والرجال أيضاً فأقول: إن النساء لم يجرمن ولم يذنبن، (وطالب القوت ما تعدى)، فموضوع النساء كموضوع الرجال تماماً، ينحصر في غريزتين اثنتين: وهما المحافظة على الذات والمحافظة على النوع، وبعبارة أصرح الحاجة إلى الطعام واللباس والغريزة الجنسية، وكان الزواج يكفي المرأة هاتين الحاجتين؛ إلا أن الشبان في هذه الأيام - تبعاً للتصور الفكري والمادي - أرادوا أن تكون زوجاتهم على علم يتفق وثقافتهم، كما رأوا أن الزواج عبء ثقيل لما يتبعه من تربية أبناء وتعليمهم وعلاجهم فأرادوا أن تكون لزوجاتهم ثروة تعينهم.
اضطرت البنت إلى أن تتعلم، أو اضطر أهلها إلى تعليمها، واستتبع التعليم حتما السفور، ثم اضطرت الفتاة إلى أن تعمل لتكون لنفسها ثروة يطلبها الرجال!
وكان لا بد من أن تتطور أفكار الفتاة تبعاً لثقافتها وقدرتها على الكسب، فرأت لنفسها الحق في شيء من الحرية والاستقلال وهو أمر - إذا لم يتعد حدوده - لا يتنافى مع الدين ولا مع الشرف ولا مع حقوق الزوجية!
وفي فترة انتظار الزوجة المتعلمة الغنية اتصل الشاب ببعض المتهتكات - اللاتي كانت المشكلة الاقتصادية أيضاً هي السبب الرئيسي في سقوطهن - فاستمرأ المرعى ووجد الأمر اسهل من الزواج
وظنت الفتاة المتعلمة أن الشبان يفضلون المظاهر الخلابة، فأرادت أن تتقرب إليهم ببعضها فنفروا من زواجها! فماذا تصنع؟!
كما رأت أخوات لها تزوجن رجالا ابتزوا أموالهن وجروا وراء شهواتهم وملاذهم، بل طلقوهن وهربوا من النفقة! فأصبحت هي أيضاً تخشى الزواج!
ومن هذا ترون أن المشكلة أشد تعقيداً من أن ينفع فيها لوم المرأة، والمرأة وحدها. إنها مشكلة الجوع والحرمان - المادي والمعنوي - مشكلة العصر الحاضر كله، والذين وضعوا أسسه ونظمه هم الرجال لا النساء. . فما ذنب المرأة؟!
الشاب يجب أن يتزوج فتاة مثقفة محتشمة، والفتاة تريد أن تتزوج رجلا يرعاها ولا يظلمها، ولكنهم جميعاً يخشون المستقبل، ولا ضمان لهم، فلا التعليم مباح لأبناء الفقراء، ولا العلاج ميسر للمرضى، ولا العمل مكفول للعاطلين والعاطلات!
فليس التعليم إذن ولا السفور مسئولين عن هذه التبعة الثقيلة، ولو كانت الفتاة جاهلة ومحجبة وحُرمت الزواج، لما كانت الحال أحسن، بل تكون أسوأ، لأن الجاهلة لا تجد ما يشغلها، وكل ممنوع محبوب ومطلوب!
صحيح أنه يوجد في التعليم والاختلاط أخطاء وضحايا، ولكن العلاج ممكن ببعض التنظيم والتهذيب، فالفضيلة اسهل من الرذيلة التي لا يلجأ إليها الإنسان إلا مضطراً لسوء الظروف أو سوء التربية إن الزمن يتطور، والنظريات تتغير، وإن التيار جارف شديد لا يمكن اعتراضه، ولكن يمكن توجيهه إلى الخير، إذا صلحت النيات وقويت العزائم
والمشكلة الرئيسية مشكلة اقتصادية - كما أوضحنا - فإذا أراد أولياء أمورنا حلها، فعليهم أن يوفروا للرجال والنساء حاجتهم من العيش والزواج بكرامة واطمئنان، ليوفروا التعليم للفقراء، والعلاج للمرضى، والعمل للعاطلين، ليكفوا الناس شرور الفقر والجهل والمرض!
وبغير هذا (فصاحب الحاجة أرعن)، ولا فائدة من اللوم ولا من الكلام!
فؤاد السيد خليل
الكُتُب
دعوة في وقتها:
الرسالة الخالدة. . .
بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية
عرض وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 1 -
دين وسياسة
هذا الكتاب أن شئت قلت هو كتاب دين كتب بقلم سياسي مفكر عارف بآفاق الحياة البشرية، له بأكثر الأمم والأديان والعلوم والمعارف والحوادث العالمية والقومية خبرة نادرة، فلست تجد في كتابه الذي نحن بصدده تلك العقلية النمطية المقيدة التي تواجه القارئ في أكثر ما يعالج المسألة الدينية من كثب.
وإن شئت قلت هو كتاب سياسة كتب بقلم رجل هو في أعماق نفسه وظاهر حياته رجل عقيدة وفضيلة وسمو، يرى الحياة السياسية لن تكون على شيء غير الخداع والكذب وحب الغلب واللعب بالشعوب والأفراد إن لم تؤسس على العقائد السامية التي يستمدها العقل والقلب من التعلق بتلك الحقيقة الأولى العليا وهي الإيمان بالله عز وجل واستمداد الضمير مما يفيضه سبحانه على الكون من قيم الحق والخير والعدل والرحمة والجمال والنظام وغير أولئك من عزائم الإحسان التي توحي بأن تكون وجهة الناس خدمة الحياة البشرية جميعاً بدون نظر إلى ما بين الناس من فروق الجنس واللغة والدين والطبقات، والسعي المخلص للتوفيق بين الأمم ودفعها لخدمة الحضارة والعلم ومقاومة عوامل التفريق والتنازع في مجالات الكسب المادي.
صوت متوقع من الشرق
والصوت الذي يعلو في هذا الكتاب كان لابد أن يرتفع الآن من الشرق العربي مع أصوات الدعاة في العالم ومع نهوض الجامعة العربية برسالة (الأمة الوسط) التي يلتقي لديها الشرق والغرب لقاء جميلا، ليجلو هذا الصوت وجهة رسالة الله الواحدة الخالدة التي تنقلت بشعلتها يده تعالى مع تنقل البشرية وتطورها التاريخي حتى استبانت معالمها التاريخية على أيدي أربعة من هذه (الأمة الوسط) هم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.
وكان لابد لهذا الصوت أن ينطق عن هذه الرسالة بلسان هذا العصر ويوضح منطقها بأسلوبه ويبين عن آرائها في الحضارة الروحية التي لا بد منها أولا لتوطيد أسس الحضارة المادية في القلوب والعقول قبل إقامتها في المجلات المادية.
وقد رأينا دعاة السلام في الغرب يعالجون مشكلات العالم بأسلوبهم وحسب تكييف حياتهم ومواصفات بيئاتهم، مثل ما فعل (وندل ويلكي) و (هنري ولاس) و (ويلز) وغيرهم. وما كان لسكان الشرق الأدنى صاحب الرسالات الفاصلة في توجيه الحضارات الروحية والمادية، والماهد لها في قديم التاريخ وأوسطه، والجامع لأطراف إنسانية الشرق والغرب حيث نزل إلهام الله ووحيه على رسله وأنبيائه في رسالات لا تزال هي المسيطر على أرواح أعظم جماهير الأمم العظيمة للآن. . . وما كان لهم أن يتركوا الناس يتخبطون في التماس الهدى وحل مشكلات الفكر والعيش دون أن يرتفع فيهم صوت يذكر الناس برسالة الله الخالدة ويعلن عما فيها من هدى قديم جديد.
البحث عن غد
والغربيون يبحثون عن غد يشرق عليهم ضحاه، وقد خرج روادهم منذ الحرب العالمية الأولى يبحثون عن ذلك الغد في كل مكان حين أحسوا ظلمة المادية تخنق أمسهم ويومهم وتتراكم على منافذ حياتهم الروحية فتحجب عنهم أضواء الهدى وتخنق حياة الوجدان والضمير وتطارد طمأنينة النفس إلى الحياة وإلى قيم الحق والخير فيها. . .
غير أن الموجة المادية كانت قد وصلت إلى ذروتها من الظلام والطغيان على الفكر الغربي بحيث لم يستطع الباحثون عن السلام أن يصدوا من طغي أنها وظلامها، فأنطلق سيلها الجارف الهدار حتى طم على حياة الغرب والعالم كله فأغرقه بفلسفة البحث عن (الذهب
الأسود) و (الفحم الأبيض) وأحرقه بنارهما مع ما جمع من الحديد والفولاذ وأدوات المتاع والزينة والخيلاء والجشع والاستعلاء. . .، وإذا بأوربا موئل الحضارة المادية تشقى بحضارتها وتدمر بوسائل قوتها حتى تصبح خاوية على عروشها لا يطمئن إلى الحياة فيها سكانها وهجرها عشاقها كما تهجر الفيران السفينة حين تشفى على الغرق. . . وإذا الحقيقة الخالدة تتجلى من جديد وهي أن الحياة الإنسانية إذا لم تقم على الطمأنينة والسلام وعقائد الخير وانسجام الإنسان مع ما أراده الله من الطبيعة، فهي إلى فناء وزوال في غدها مهما غنيت في أمسها وحاضرها!
نعمة تستحيل إلى نقمة
وهذه الحضارة نعمة عظيمة لا يكدر صفوها إلا الطيش والجشع بينها؛ لأنها حضارة جعلت للإنسانية قدرة على تحقيق أحلام السيطرة والتغلب على كثير من قوى الطبيعة، وكشفت للبشر عن مدى قدرتهم التي صارت لا يقاس بها ما كان لآلهة الخرافة عند القدماء من قدرة على التكوين والتخريب. فلماذا يصرون على الحروب والخصام بعد أن صار في حروبهم من الهول والدمار ما يسحق جذور الحياة نفسها، وبعد أن وضح لهم أن الأرض دار واحدة لهم جميعاً وأن خيراتها كافية لأن ينعم بها الجميع ويتمتعوا ما وسعتهم القدرة على المتاع؟!
إن ذلك طيش وسفه يجب أن ينهض لمقاومته العصبة ذوو القوة من المفكرين والمربين ودعاة السلام في الشرق والغرب وأن يصدعوا بذلك، كل في محيطه ووطنه والعالم.
وهذا ما أراده عزام باشا حين أخرج بحوث هذا الكتاب الذي لا شك في أنه ضوء عريض سيكشف للعالم جميعه مدى ما عند وارثي (الرسالة الخالدة) من فهم وإدراك وعلاج لمشكلات الفكر والعيش والسلم والحرب والاجتماع، وما لديهم من استعداد عظيم للمشاركة في إقامة حياة كريمة بين الناس جميعاً؛ ومدى ما في طبعهم من سماحة تؤهلهم أن يكونوا بحق (الأمة الوسط) لا في المركز الجغرافي وحده، بل في المركز الفكري كذلك
مسألة المسائل
والمسألة الدينية هي أعظم مسائل الحياة قيمة وتشويقاً وإثارة للجانب السامي في النفس البشرية وللتفكير والرجاء والرغبة والرهبة، وقد كانت ولا زالت محور بحوث العقول
المفكرة وعقول الجمهرة، لأنها تتصل بأعماق الفطرة ويترتب عليها قيمة الحياة وقيم الحق والخير فيها، ومعرفة المصدر والغاية منها، وما برحت (ما نحن؟ وما الكون؟ ومن أين؟ وماذا وراء الطبيعة؟ وما هي الغاية؟) أسئلة خالدة تثيرها القوى المفكرة في كل فرد، وهي موجهات الحياة ومكيفاتها، تضل الجماعة البشرية أو تهتدي حسب توفيقها في الإجابة عليها. وهذا الكتاب يعالج الحياة الإنسانية ومشكلاتها بتثبيت جذور هذه المسألة الدينية وتفريع فروعها فيتمشى بذلك مع طبيعة الشرق واتجاهاته من قديم، فالشرق دائماً يعالج حياته المادية بالاستمداد من خالق الوجود وواهب الحياة، ويقيم علاقات الاجتماع على أسس من علاقات الناس والكون بالله. بينما الغرب من قديم كذلك يتمشى مع عقليته المادية، فهو دائماً الباحث المادي الرهين بالمحسوسات المستوحى جفاف الأرقام. . .
ولذلك كان المزاج الشرقي واسع الرحاب برحابه ما يتصوره من عالم الكماليات الإلهية وراء هذه الطبيعة، طليقاً في أحيان كثيرة من القيود المادية التي تحبس الخيال وتربطه بالأرض، يأخذ الماديات لا لعبادتها وتأليهها ولكن للتعلق بمسبب أسبابها.
الحاجة إلى حضارة الروح
والدعوة الدينية هذه في حاجة ماسة إلى الحديث الدائم عنها وخصوصاً في هذا العصر المادي، بأسلوب هذا الكتاب الذي رأى المسألة الدينية أكبر معين لبناء الحضارة المادية على أوتاد ثابتة من الإيمان والإحسان، فاستعان بها اعظم استعانة واستفتى نظرياتها وأفكارها لتطبيقها على التاريخ الحي الذي يحياه الناس الآن، ليريهم أن منشأ ضلال الحياة الغربية هو ترك الاستعانة والاعتماد على الهدى المجرب من هذه المسألة.
وقد ثبت أن من الخير المؤكد للناس أن يحكموا بحكومة الوجدان والضمير من داخل نفوسهم قبل أن تحكم أجسامهم وظواهر أعمالهم بالقوانين، لأن حكومة الوجدان راعيها الله المطلع في كل حين على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، بينما حكومة الأجسام لا ترى إلا ما في الشوارع ولن تستطيع أكثر من هذا. . . ولن تقوم حكومة الوجدان إلا في ظلال الدين الصحيح الكفيل بإقناع الناس فيما بينهم وبين أنفسهم بقيم الحق والخير والفضيلة، وبقبح الباطل والشر والإثم والجريمة.
الفكر والسلطة
والكتاب مثل واضح لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الفكر والضمير والسلطة حتى يكون (فن الحكم) - وهو اعظم فنون الحياة - قد استكمل أدواته في نفوس الحاكمين والمحكومين
والعلاقة بين الفكر والسلطة هي مشكلة الحضارة في هذا العصر، إذ أن المفكرين المؤمنين العالمين بسير الحياة بالأحياء والساكنين في قمة العلم والخلق لا يزالون بمعزل عن حكم الناس، قد تركوهم للسياسيين المحترفين والسماسرة والدجالين واللاعبين بالشعوب المنقطعين عن العلم والخلق، ولا هم لهم إلا الثروة المادية والبطش والخيلاء والغلبة على الأعداء. . .
والذين يعرفون المؤلف يشهدون في إجماع أنه من نوابغ المفكرين المؤمنين السياسيين العمليين والآملين في آن واحد. ولذلك وفق غاية التوفيق في أن يكون كتابه كتاب تربية وتهذيب ودين وسياسة وإصلاح اجتماعي، وفقه في العلاقات الدولية، ومعالجة أسباب المشكلات العالمية، ووضع نظام عالمي جديد.
فهو كتاب من الكتب المتفردة التي يخرجها عمالقة الفكر والخلق الذين يلتقي فيهم العقل والقلب ذلك اللقاء المنشود المحبب الجميل، ليفرقوا بها أمراً حكيماً من أمور باطلة، يضعونه على طريق الإنسانية في مرحلة من مراحل تاريخها، فيكون مناراً يضئ مسالك الخطى حين تختلط الطرق وتضل الاتجاهات ويحتاج الناس إلى صوت يقول لهم: من هنا الطريق. . .
المدخل
ودعونا الآن نلج إلى الكتاب من أبوابه الستة ذات الفصول الثلاثين لنتعرف إلى أمهات مسائله في إلمامه خاطفة ونظرة عابرة إن فاتها التعرف إلى الدقائق فلن يفوتها التعرف إلى الجلائل:
الكتاب كما يتضح من عنوانه (بحث في رسالة الله الواحدة الخالدة على مدى الزمن، واقتباس من هداها في الاجتماع والسياسة والحرب والسلم والعلاقات الدولية، لإزالة الاضطراب العالمي وإمداد الحضارة بسند روحي في إقامة نظام عالمي جديد) وقد أوضح
المؤلف في مقدمته أن الذي دعا إلى تناول موضوعاته هي حالة الشذوذ والاضطراب أثناء الحرب الأخيرة والرغبة في الكشف عن أسباب هذا الاضطراب العالمي، ومحاولة أيجاد علاج له بعد أن تبين أن هذا العلاج غير ميسور في هدى الدعاوى المبادئ السارية في هذا القرن، والتي أوحت بها المدنية المادية الحديثة. فلا بد إذاً من النظر بجد لالتماس الهدى في غيرها بعد أن ظهر عجزها في تنفيذها الواقعي بأوربا وأمريكا.
فهل هذا العلاج في الرسالة الخالدة التي تعاقب رسل الله على الدعوة إليها وجاء بها إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.
وقد تولى الكتاب الإجابة على ذلك، وهو إن كان أفاض في التعرض لشرح وجهة النظر الإسلامية باعتبارها آخر تطور للرسالة الخالدة (فإنما قصد بذلك إلى التعاون والقربى لا التنابذ والتفرقة وأن يجد الناشئ الجديد المتعطش إلى المعرفة والطالب للهدى من المسلمين وغير المسلمين، مادة للتفكير وسبيلا إلى رأي عالمي مستقيم بعد هذه الحروب المدمرة التي أثارت اضطراباً لا نظير له) واضعاً نصب عيون المسلمين وغير المسلمين قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه).
وهو يهيب بالجيل الناشئ من العرب (أن يكونوا أهلا لحمل هذه الرسالة يمدون الحضارة والعلم بالسند الروحي الذي لابد منه لعالم جديد متضامن متعاون على تثمير خيرات الأرض متجه نحو دولة عالمية واحدة تباركها يد الله ويرعاها رضاه).
(يتبع)
عبد المنعم خلاف