المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 698 - بتاريخ: 18 - 11 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٩٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 698

- بتاريخ: 18 - 11 - 1946

ص: -1

‌نافقاء اليربوع

للأستاذ محمود محمد شاكر

لي صديق، أطال الله بقاءه، يعيش في الدنيا وهو خارج منها، هذا غاية نعته وصفته:(يعيش في الدنيا) وهو حريص عليها، لا حرص البخيل الذي يجمع المال، ولا حرص المستمتع المستهتر باللذات، ولا حرص الطامح الطامع في الخلود - كلا بل هو حرص على حدته وعلى حياله لا يشبهه في الناس إلا قليل. هو حرص على التعجب منها ومما فيها، وهو حرص على النظر في الأشياء والحيرة في فهمها - واضحة كانت أو مبهمة، وهو حرص على استيعاب الحياة كما هي عند الناس من نظرائه ومن غير نظرائه. ولا يخرج من كل هذا الحرص الشديد على الدنيا التي تحت عينيه إلا بطول التساؤل وبتنازع الحيرة، وبالخوف مما كان ومما لم يكن. هذه واحدة.

وعجيب أنه أبدا مولع بهذا الحرص ولع المحب بحب جديد. وهو نفسه يعلم انه حرص عقيم لا يجدي عليه شيئا في معرفة الدنيا ولا في التثبت من شيء من أحوالها، ولكنه يزداد به على الأيام ولوعا وكلفا وغراما حتى يستهلك نفسه في السؤال والبحث والتقصي عن أشياء لا تغنى عنه شيئا، ولا يغني عقله في إدراكها، ولا يغنى قلبه في الإيمان بشيء منها. وهو يأبى أن يلقى على كاهله هذا العبء الثقيل الفادح، وان كان يثق كل الثقة بأنه شيء لا جدوى من حمله، ولا من الصبر على بلواه. هذه ثانية.

وثالثة الأثافي، كما قال أسلافنا، انه إنسان حي النفس قابل للتلقي، فكل شيء من حوله يثير في نفيه الفضول، وينشر عليه ذلك الحرص الشديد على المعرفة - مجدية كانت أو غير مجدية، لا يبالي. فإذا هو كالمغموم إذا اعترضه ما يعوقه عن الاستقصاء. واشد من ذلك هولا انه لا يكاد ينسى شيئا مما ائتمنته نفسه على استقصائه، إذا قطعه ذلك العارض البغيض إلى نفسه، فإذا عاد إلى ما لابد له منه عاد اشد رغبة في النفاذ والاستقصاء والبحث. فهو بذلك معان على الحرص على الدنيا وما فيها بالذي انطوت عليه جوانحه، وبالذي فطرت عليه نفسه، فهو لا يرى خلاصا، أو لا أرى أنا له خلاصا، من هذه العادة المتمكنة، أو هذه الخصلة الكامنة في أعمق أعماق - طبيعته.

فهو بهذا الذي وصفت: (يعيش في الدنيا)، ولكنه (خارج منها) بشيء آخر، وان كان

ص: 1

متصلا بهذا كله اشد الاتصال. فهو لا يكاد يعبأ بنفسه شيئا، بل هو لا يعرف إن له نفسا موجودة، أو اصح من ذلك انه يشك كل الشك في وجود نفسه، فهو أبدا مختلس من نفسه بالبحث عن نفوس الناس. وهذه مثلبة الفضول، فإنها تمنع المرء عن التأمل في نفسه، فإذا أراد أن يتأملها فكأنما يتأمل شيئا غريبا ليست بينه وبينها وشيجة أو آصرة أو عاطفة. ومن اجل ذلك تراه يدور من حياته هو في مثل الحلقة المفرغة لا يدري من أين يبدأ ولا أين انتهى، ولا يعرف أهذا هو الحق في فهم نفسه أم الحق سواه. ويذهب ويعود في البحث ولكنه لا ينتهي إلا إلى شيء واحد هو انه لا يدري.

كنت على وشك أن أكتب شيئا حين أسرع هذا الصديق إلى التلفون ليسألني هل قرأت جريدة (المصري)، وما جاء فيها من الذي سمته (النص الحرفي لمشروع اتفاقية صدقي - بيفن، ولبروتوكول الجلاء والسودان): وذلك في عدد الاحد10 نوفمبر سنة 1946، وكنت قد فرغت لساعتي من قراءته ومن التعجب لما جاء فيه. وأنا لا أتستطيع أن اطمئن إلى نص مختلس لا ادري أحق هو أم باطل، ولكني قرأته فإذا لم يكن هو النص فكأنه هو، لأنه أشبه معوج بحقيقة العوج. ولا أظن أن الإنكليز يبلغ بهم صدق الطبيعة أن يقولوا في السياسة شيئا على وجهه وعلى استقامته، فلذلك خيل إلى أن في هذا النص طرفا من الحقيقة الدالة على طبيعة الاعوجاج في السنة هؤلاء الساسة الإنجليز، ولست اعجل إلى مثل هذا النص المختلس فأقول في عبارته قولا، فإن العجلة في مثل هذا شيء لا غناء فيه، كما لا غناء لك في إقناع الإنجليز بان الحق الذي لك هو حقك، إذا كان الإنجليزي يرى انه ليس حقا لك، وان ظاهرتك الدنيا كلها على حقك.

ونحن منذ كنت سنة 1919 أخذنا نجهل كيف يعامل هؤلاء الناس، فإن ذلك الخطل الذي ضرب على آذاننا وأبصارنا وقلوبنا، والذي يسمونه (المفاوضة) قد جرفنا في عباب متلاطم من الحيرة والضلال، فما نكاد نبصر ولا نعي ولا نعقل شيئا من حقيقة هذا الشعب الإنجليزي أو ساسته الذين يتصرفون في أمور الدنيا كأنهم وارثوها وأصحابها الذين تلقوا مقاليدها من يد الله القدير العزيز. وكننت أظن أن التجارب قد حنكت رجالنا فعرفوا مواعيد هؤلاء القوم، وأدركوا كيف تكون مواثيقهم منذ علا أمرهم في الارض، وكيف كان تاريخ معاهداتهم منذ كان لهم شأن في هذه الدنيا يكتبون من اجله المعاهدات. بيد أن ذلك لم يكن،

ص: 2

لان رجالنا يستضعفون انفسهم، ويظنون أن هذا الشعب لا يمكن أن يظفر بحقه إلا بمداورة الإنجليز والترفق في معاملتهم، حتى ينالوا من أيديهم ما تيسر! وهذا عجب! بل هو غفلة! بل هو كدح أحمق في سبيل لا شيء. فقل لي بربك كيف يستطيع إنجليزي أن ينزل لنا عن شيء هو يريد أن يؤمن بأنه حق له، وإن كان حقا موروثا متحدرا من اصل البشرية كلها، وهو الاستقلال والحرية!. . .

خلق الله في دواب الأرض دابة يسميها العرب اليربوع، تكثر في بلادهم، وهي نوع من الفار قصير اليدين جدا، وله ذنب كذنب الجرذ يرفعه صعدا، وفي طرفه شبه النوارة. ولهذا اليربوع أسلوب فرد في حياطة نفسه وأموره، حتى انه يتخذ لعشيرته رئيسا يقف حارسا على جحرة اليرابيع يحميها، فإذا قصر في الحراسة، وهجم على اليرابيع من جراء غفلته وإهماله هاجم أفزعها أو اضر بها، انقلبت على ذلك الرئيس فقتلته وأقامت غيره مقامه، ويتخذ كل يربوع منها جحرة يلوذ بها، ويجعلها سبعة لها سبعة أبواب. فيبدأ أول ما يبدأ بالجحر الذي يسمونه (الرهطاء) فيغطيه بالتراب حتى لا يبقى منه إلا على قدر ما يدخل الضوء منه إلى جحره هذا، ثم يحتفر حجرا يسمونه (الحاثياء) يحثو عنده التراب برجليه ليخفى مدخله. ثم يحتفر آخر يسمونه (الداما) لأنه يدممه بتراب نبيثته حتى لا ينفذ منه عدو، ثم ينشا حجرا آخر يقال له (العانقاء) يملؤه ترابا، فإذا فجأة ما يخاف اندس فيه إلى عنقه. ثم يحفر (القاصعاء) وهو حجر يسده سدا محكما لئلا يدخل عليه منه حية أو دابة. ثم يحفر (النافقاء) ويجعل على فمه غشاء رقيقا، فإذا اخذ عليه بقاصعائه عاد إلى هذه النافقاء فضربها برأسه ونفق منها ومرق خارجا. ثم يجعل سابع سبعة حجرا يقال له (اللغز) يجعله بين القاصعاء والنافقاء، يحفره مستقيما إلى اسفل، ثم يعدل به عن يمينه وشماله عروضا تعترض، يغميه ليخفى مكانه بذلك الألغاز، فإذا طلبه طالب بعضا أو سواها نفق من الجانب الآخر.

أفرأيت إلى كل هذه الحيطة وكل هذا التدبير! فإن تعجب فانك واجد في الخلق الإنجليزي أكثر من هذه مداورة وتفلتا وإلغازا ومراوغة. والإنجليز أنفسهم يعلمون انهم كذلك وانهم يخفون في سرائرهم ما لو اطلعت عليه لاستصغرت من احتيال هذه الدابة ما استكبرت. ومن أراد أن يدخل على الإنجليز جحرتهم وقع في متاهة لا يدري معها من أين ولا إلى

ص: 3

أين. فمن العجيب الذي لا ينقضي عجبه أن يظن رجال من رجالنا أن في طوقهم أن يراوغوا الإنجليز فيستولوا على جحرتهم المحتفرة في طبائعهم وأخلاقهم وعقولهم.

إن معنى المفاوضة والمعاهدة بيننا وبينهم هي أن يسعى الإنجليز جهدهم حتى تطمئن إليهم، فإذا فعلت اخذوا بيدك وقادوك إلى مثل جحرة اليربوع، فيدخلون بك من واحد إلى ثان إلى ثالث، حتى إذا خيل إليك انك قد تمكنت منهم (نفقوا) من نافقائهم بأسهل مما كنت تتصور. وهكذا شهدنا وعرفنا وخبرنا منذ احتلوا بلادنا في سنة 1882، فوعدوا الدنيا كلها - لا نحن وحسب - بالجلاء الناجز، ولكنه ظل وعدا إلى هذا اليوم. وجاءونا اليوم يعدوننا أيضاً أن يجلوا عنا بعد عام أو عامين أو ثلاثة - أي ذلك كان. فمن الذي يصدق هذه اليرابيع؟ ومن شفيعهم وضمينهم في كل هذا؟ أهو الخط المكتوب، أم اللفظ المنطوق، أم سوابق العهود المؤكدة والمواثيق الغليظة!!

إنها لغفلة أن يرى أمرؤ نفسه أقدر على خديعة هذه اليرابيع من قدرتها هي على خديعته. وليس يعلم شيئا من ظن أن الإنجليز ينفضون أيديهم من شيء هو كائن في أيديهم. فالإنجليز يرابيع بالطبع والممارسة، حتى أن (النفاق) الذي علمته في أخلاق اليرابيع، قد صار أيضاً خلقا من أخلاقهم يشهدون هم به على انفسهم، ويشهد عليه به تاريخهم منذ كان لهم تاريخ. وهذا النفاق المطبوع هو الذي جعلهم اقدر شعوب الأرض في كل شئون السياسة. وما مواعيدهم، ولا معسول ألفاظهم، ولا روعة دعوتهم إلى الحرية، ولا كمال إخلاصهم في تحرير الجنس البشري من غوائل النازية، ولا صبرهم على المكارة في سبيل المثل الأعلى للإنسانية - كل ذلك ليس ببعيد عنا في زمن الحرب الماضية. لقد نطقوا بكل شيء، ولكنهم لم يحققوا شيئا مما نطقوا، فكيف نرضى لأنفسنا أن نؤمن بأنهم فاعلون معنا شيئا لم يردهم خجل ولا حياء عن نكث مثله وإخلافه، بل أكبر من ذلك انهم فعلوا نقيضه ودافعوا عن فعله بمثل القوة والبلاغة التي كانوا يزينون بها لأمم الأرض أن تعينهم في أيام محنتهم وبلواهم!

ومن عجائب الإنجليز أنهم يعملون علما ليس بالظن انهم معتدون متغطرسون ظالمون، يأكلون الحقوق أكلا لا يرعون فيه حرمة ولا ذمة. ومع ذلك فهم من طول ممارستهم للنفاق قد انتهوا إلى أن اقنعوا أنفسهم بان هذا الاعتداء وهذه الغطرسة وهذا الظلم ليس له وجود

ص: 4

حقيقي، بل العكس هو الصحيح، وهو انهم وحدهم دون سائر العالمين أهل العدل والنصفة والتواضع، وانهم هم الذين جاءوا إلى الدنيا ليردوا الحقوق إلى اهلها، وانهم هم القوام على هذه الرسالة السامية. ولذلك ترى كلام رجالاتهم كلاما نيرا مضيئا فاتنا ساحرا إذا عرضوا لمعنى الحرية وما أطاف بها، ويخيل إليك أن إيمانهم بهذه المثل العليا إيمان لا يعتروه نقص. وهذا حق، ولكنهم إذا جاءوا لتنفيذ ما يقولون رايتهم أهل بغي وعدوان فيما ترى ويرى الناس، ولكنهم هم يصرون على أن هذا هو الحق الذي لا محيص لك ولا للناس عن الأخذ به، تقول: وان كان بغيا وعدوانا، فأقول: وان كان بغيا وعدوانا!

والإنجليزي يرى أن هذه الأمانة التي حملها هي الأمانة، وأنه مؤديها على وجهها، فإن أنت خالفته وزعمت انه يجور عليك جورا عبقريا قال لك: انك شديد المماسكة مولع بالجدال، ويحاول أن يبسط لك الأمر بسطا حتى تقتنع بأنه غير ظالم، بل هو العادل الذي لا يعر فالعدل أحد سواه. ومن شاء أن يناقض هذا الذي أقوله فلينظر إلى حجة هذا الشعب في موقفهم أو احتلالهم للهند، وفي احتلالهم لمصر من اجل الهند. فالهند مستعبدة ظلما وجورا، وهم يريدون أن يحللوا بقاءهم في مصر، لان فيها قناة السويس، وهي التي تؤدي أو تسهل الطريق إلى بلاد الهند. فإذا خرجت القناة من أيديهم كان ذلك وبالا مستطيرا على مصالحهم في الهند! فينبغي عندهم أن ترضى مصر بالأمر الواقع، وهو بقاؤهم حراسا على القناة، لئلا تضيع مصالحهم في البلاد التي استعبدوها واستذلوها وأفقروا أهلها وأكلوا أموالها واعروا ذراريها، وهتكوا الستور عن أحرار نسائها، يا له من منطق! وهل في طاقة أحد أن لا يقتنع برأيهم في حفظ كيان هذه الإمبراطورية الضخمة! كلا بل ينبغي أن يطيع العالم وان يسمع. فلو أن الإنجليز فرطوا لهوى العلم البريطاني إلى الرغام في أرض الهند، ولبقيت الهند عارية لا تجد هذا الدفء الحلو اللذيذ، ولا هذا الظل الوارف الناعم الذي ينشره عليها علم بريطانيا!

فحدثني أيها الصديق ماذا تريد بعد ذلك أن أقول لك في هذه المعاهدة التي تريد إنجلترا أن توقعها مع مصر راغمة أو راضية! دع عنك الحيرة، ودع عنك تقلب الراي، واختر لي أنت رأيا أصير إليه. وإلا فإني أقول لك كما قلت دائما: إن المعاهدة بيننا وبين بريطانيا، هي أن ندخل معها في حجر اليربوع حتى إذا استقربنا المقام قليلا (نفقت) كما يمرق

ص: 5

اليربوع من نافقائه إذا سدت عليه المسالك!

محمود محمد شاكر

ص: 6

‌من التاريخ الإسلامي:

وديعة الله

للأستاذ علي الطنطاوي

(إلى أصدقائي وتلاميذي في بغداد، ولاسيما الأحبة على

طريق الأعظمية ليذكروني بهذه الهدية كما اذكرهم دائما)

(علي)

كان فتى من أبناء التجار، بارع الفتوة، واسع الغنى، قد جمعت له اللذائذ، وسيقت إليه المنى، دكانه البحر تنصب فيه جداول الذهب، وداره الجن تجري من تحتها الأنهار، وفيها الحور العين، خمسون من الجواري الفاتنات اللائى حملن إلى بغداد من أقطار الأرض وحشدن فيها، كما تحمل إلى مخدع العروس كل وردة فاتنة في الروض، وزهرة جميلة في الجبل. . .

ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة، ومتعة العيش، حتى اشترى هذه الجارية بخمسمائة دينار، وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالا أحلى من أحلام الحب، واجمل من بلوغ الأماني، واطهر من زنبقة الجبل، فهام بها هياما وزاد فيها حتى بلغ بها هذا الثمن، وانصرف بها إلى داره، وهو يحسب أن قد حيزه له الدنيا، وأمتع بالخلود، واشتغل بها وانقطع إليها، ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع أن يصبر عنها؛ ويزلزله الشوق إليها، وتدركه هواجس الحب فيغار عليها، لا من الناس فما يصل الناس إليها، بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس، ومن النسيم ان تلمسها يد النسيم، ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبه، فيهرع إليها ليطفئها بلماها. . .

لقد صار هذا الحب مصدر لذته، وسر حياته، ما كان يدري قبله ما اللذة وما الحياة، وما كان يحس انه يعيش حقا وان له قلبا، وما كان يدرك من قبله بهاء النهار، ولا فتنة الليل، ولا سحر القمر، كان عنده كالألفاظ بلا معنى، يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب؛ فلما عرف الحب أدرك إن وراء هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد، وتستهوي القلب. وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي الرجل في المتحف المظلم فطلع عليه هذا

ص: 7

الحب نورا مشرقا أراه هذه التحف الفاتنات وهذه الروائع. . .

وتتالت الأيام، وزاد إقبالا عليها وأعراضا عن الدكان. وكان يبصر دنياه تدبر عنه، وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، وتتبدد كما يتبدد الندى في وهج الشمس، ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفرد منه ولا يزداد إلا تعلقا به وتمسكا بأهدابه. وكان كل ما في الحياة من متع، لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال، وذهب الأرض كله لا يساوي هناءة من هناءات الحب، فكان يترك البائعين والمشترين ويسعى إليها ليشتري منها اللذات والقبل.

وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته قال لها: مالي وللمال؟ أنت مالي وتجارتي ومكسبي، فلا تستطيع أن تفتح فمها بجواب لان شفتيه تقيدان فمها فلا ينفتح!

وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال، وذهب الاثاث، وبيعت الجواري، ولم يبقى في يده شيء يباع؛ فاقبل ينقض الدار ويبيع أنقاضها، ولم يأس على ذاهب، ولم يحس بفقد مفقود، فقد كان يلقى الحبيبة، ويجد في جبها غذاءه إذا جاع، وريه إذا عطش، ودفئه إذا برد، وفي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد، وفي ثناياها بديلا عن اللآلئ، وفي ريقها عسله المصفى، وخمره المعتق، ومن ريحها عطره الفواح، وفي صدرها دنياه وآخرته، ويبقى الدار خالية معها قصرا عامرا، والصحراء روضه مزهرة، والليل المظلم معها نهارا مضيئا. . .

وأثمر الحب وجاد الحصاد، ولكنه قد خالف موعده، فلم يجيء في الربيع الطلق، ولا في الصحو الجميل، بل قدم في الشتاء الكالح، والأيام القاتمة الدكناء أيام الفقر والعوز؛ أخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط، وفراش بلى وجهه وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب. . . وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أن المها في ضلوعه، وان كل صرخة منها سكين محمي يحز في قلبه، ولكنه لا يملك لها شيئا، وقالت له بعد أن عجزت عن الاحتمال:

- إني أموت. . . فاذهب فاحتل بشيء تشتري به عسلا ودقيقا وشيرجا. . . اذهب وعجل، فانك إذا أبطأت لم تجدني.

وخرج. . . وصار يعدو كالمجنون. . . أين يذهب والليل قد مالت نجومه، والناس نيام في

ص: 8

دورهم، ولا يجد من يلجأ اليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيره غريبا فيها، ليست منه ولا هو منها، وكذلك يصنع الحب! وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعا ساكنا، والناس قد أموا بيوتهم، وانسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد لا أهل له إلا التي خلفها تعاني سكرات الموت، وعجز عن إسعادها؛ ولا دار له إلا هذه الخربة التي فر منها. لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى في دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها نور. وتصور الوحشة المخوفة، والوحدة المرعبة التي سيقدم عليها أن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعي بها ولها، ونظر إلى ماء دجلة يجري اسود ملتفا ببرد الليل، فاحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلوا فيه متعة اللقاء، وأنسة الاجتماع. . .

وعاد فذكر آلام حبيبته وانتظارها، وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه إلى الله ودعاه من قلبه صادقا مخلصا قال:(يا رب، أني استودعتك هذه المرأة وما في بطنها. . .)، وهم بإلقاء نفسه في الماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلام الحب وصوره، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق درابزين الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور بوردة الماء ويفكر في الموت هل يأتيه سهلا هينا، أم هو سيذيقه العذاب ألوانا، وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى وهل يختنقون عاجلا أم يبطئ عليهم الموت، وذكره هذا العذاب بعذاب الله يوم القيامة، أليس الله قد حرم الانتحار؟ أليست هذه النفس ملكا لله وحده أودعها جسده أمانة ليستردها متى شاء ليست له هو ولا يملكها، وليس هو الذي خلقها وأبدعها، وذكر انه توجه إلى لله واستودعه حبيبته فكيف يلقى الله آثما ويسأله عونها وحفظها. وتنبه أيمانه فتردد، ووقف. . . ثم عاوده التفكير في حياته بعد اليوم، وكيف تكون إن ذهبت منها متعة الحب، فرجع إليه يأسه وقنوطه وعزم عزما مبرما على الموت، واغمض عينيه وخفق قلبه من هول ما يقدم عليه، وكاد يقفز ولكن. . . ولكن يدا لم يطق لها دافعا، ولك يملك معها حراكا أمسكت به. . . ذلك هو صوت اخذ أذنيه من بعيد، ثم أمتد حتى بلغ الأفق الذي اطل منه الفجر والأفق الذي انغمس فيه الليل، ثم غمر النهر والشاطئين والمدينة. . . فأحس به يشرق على نفسه كهذا الفجر فيبدد ليلها، ذلك هو صوت المؤذن، ينادي في صفاء الليل وإصغاء الدنيا، اجل واجمل نداء اهتز به هذا الفضاء ومشى

ص: 9

فيه: (الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله).

وسمع: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فرأى فيها مجد الآخرة بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، وصبت القوة والعزم في أعصابه فعدل الموت، واقبل يسعى فيها جاء له، ولكنه لم يجرؤ (على هذا كله) أن يعود إلى الدار، وحدثه قلبه إن الفتاة قد ماتت، فمضى على وجهه تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس، وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام: يضيفون الغريب لا يسألونه من هو ولا يبتغون منه أجرا ولا شكرا، وجعل يطوي الأرض والأرض تطوى صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.

ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مسعدا ومعينا فعاد إلى تجارته. . . وجعل يفكر لما استقر به المنزل في داره وامرأته والشك يخز في قلبه، ويكتب الكتب يسال عنه وعنها ويستنجد، ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتابا، ولم يرجع إليه جواب فأيقن إنها قد ماتت. . .

وأثرى وامتلأت يده بالذهب ولكن قلبه ظل خاليا من الحب. وما كان يوسع في الأسى مكانا لحب جديد، فكان كلما احتواه العشية منزله، واغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي احبه وافتقده ولم يجد منه بديلا، فيشعر بحرارة تلك القبل ويسمع وسوستها ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاكهة زوجان، فصيرها الحب قاعا صفصفا. . . ولكن تلك الخربة احب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيدا لا يؤنسه فيه إلا الذهب. . .

وتصرمت السنون، وتتابعت خالية فارغة حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزا من أيام سمكه ثمان وعشرون سنة، وهبت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيدا عن بغداد وداره التي ثوت فيها الحبيبة، فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب واشترى قماشا وبضاعة وحملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم دار الوطن. . . ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبرا ضخما للحبيبة ويجعل فيه له مكانا، ولكن الدهر لك يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص. فنهبوها، وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منها أحدا. . .

ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر

ص: 10

على الحزن. ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل، ومشارع المياه، ومنابت الورد والفل، وهو سارد ساهم، كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا الرغبة في الموت. . . وماذا بقى له في الحياة بعد ما فقد الحب وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره ولم يرد أن يظم عظامه إلا الثرى الذي ضم أعظم حبيبته، حتى يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة، وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جرا، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها وانتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيرا وسقط على الشاطئ ولك يعد يستطيع الحراك. . .

وجعل يفكر تفكيرا مبهما ملتاثا يقطعه الجوع الذي يفرى أمعاءه، والتعب الذي يهد عظامه، فيرى انه كان في حلم وصحا منه. . . الدنيا كلها حلم كاذب: الحب، والمال، والصحة، والسعادة، والمجد. . . لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقى. . . لا يبقى منه إلا ذكرى تبعث ألما، وتثير حسرة، وتحرق القلب، وتمنى أن لو كان خلق فقيرا منفردا، ما عرف من لذة الألفة، ولا متعة الغنى، وعادته فكرة الموت التي كانت مرت بذهنه منذ ثمان وعشرين سنة، ولكن دينه منعه أن يختم حياته بهذه الخاتمة البغيضة وان يجمع على نفسه شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وهبت عليه نفحة من نفحات الأيمان فاستراح اليها، وذكر انه استودع فتاته الله، ولا تضيع عند الله الودائع، وان وراء هذه الأحداث حكمة بالغة، وقدرا حكيما. فاطمأن إلى حكمة الله وسلم أمره إليه ووجد لهذا الاطمئنان راحة وشبعا. . .

وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق فنظر فإذا (زلال) ضخم قد اقبل عليه، فلما حاذاه أشار ونادى، وسال صاحبه أن يحمله إلى بغداد، وكان فيه أمير كبير، ولكن (الديمقراطية) كانت شعار العرب، وكانت سليقة فيهم، لا يمنع الأمير مجده أن يقف لفقير سائل ويحمله معه فادخله الزلال وأطعمه وخلع عليه. ولم يسائله عن خبره، لان النوم قد غلب عليه فهجع كالقتيل قبل أن يسال وقبل أن يجيب.

ولما أفاق كان المساء قد حل، وكانت بغداد قد بدت، وسربت الزوارق السفن على سطح دجلة الفاتن تنشد لهوا وتبتغي لذة، وتملأ الضفتين نغما سائغا، وحبا ومجدا؛ وترنحت القصور طربا، وانتشت الرياض آنسا، وتعانق النخيل وتشاكى الغرام. وتراقصت الأمواه

ص: 11

من دجلة وتناجت بالحب، وسكرت السفن وهامت، وسدرت بغداد في نشوة الظفر، وكانت بغداد هي الدنيا وكانت دارة الخلافة، وكانت عاصمة الأرض، وكانت منبع العلم والفن، ومثابة الغنى والترف. وكان فيها الصلاح وفيها الفجور، وفيها الخيرات وفيها الشرور، وفيها من كل شيء. . . وكذلك تكون الدنيا!

وكان دجلة يسر مزهوا طربا. فقد بدأ سيره منذ الأزل، ورأى الحكومات تقوم وتقعد حتى مل قيامها وقعودها، وشهد من بأساء الحياة ونعيمها ما زهده في نعيمها وبؤسها، ورأى الأنام حتى كره مرأى الأنام، ولكنه لم يرى أياما احلى، ولا مجدا أبقى، ولا ناسا أنقى واتقى، من تلك الأيام وناسها. . .

وجاز الزلال بتلك السفن والزوارق الحالمة السكرى كأنه البطل القوي يمر بالحسان في يوم عرس، فاجتمع على الصفحة احب والحرب، والعز والهوى، هذا يمثله زلال القائد، وتلك تمثلها زوارق العشاق، وكان يمضي إلى غايته مسرعا كأنه يسابق شعاع الشمس إلى الأفق الزاهي، وكان هو أيضاً شعاعه من الشمس التي أضاءت الدنيا في هاتيك الأيام، فأشرقت على القلوب عاطفة وجمالا، وعلى العقول علما وكمالا، وعلى الإسلام عظما وجلالا، وعلى الناس كلهم حضارة وتمدنا وسلاما وأمنا، وضوأت لهم الطريق المجهول، وشقت لهم السبيل الموصلة إلى تحقيق المثل العليا في المجتمع البشري، تلك هي شمس بني العباس إذ كان بنو العباس سادة الأرض.

وأنزله الزلال على الجسر، حيث قام تلك الليلة، فأعاده الجسر إلى ماضيه، فأحس بان هذه السنين كلها لحظة واحدة، وأنها صفحة قد سقطت من سفر حياته، فاتصل ما قبلها بما بعدها، ورأى الناس من حوله فهم بان يسألهم درهما يشتري به عسلا ودقيقا وشريجا لامرأته التي أخذها المخاض، وأسرع يريد أن يدركها قبل أن يشتد بها الألم، ثم انتبه فرأى هذا الحجاب الصفيق من الزمان يقوم بينه وبينها، ثمان وعشرون سنة ليست يوما ولا يومين. . . دهر طويل ولد ناس ومات ناس، عمر كامل. . . فتهافتت وخمدت هذه الشرارة من الأمل التي أضاءت في نفسه، وسار محطما مكدودا، يبصر الوجوه من حوله فيراها غريبة عنه لا يعرفها، ويرى المسالك والدروب فيفتش عن ذكرياته فيها فلا يجدها. . . حتى بلغ الدار ونظر فإذا الخربة التي خلفت فيها الحبيبة قد صارت دارا فخمة على

ص: 12

بابها الجند والشاكرية فوقف ينظر إليها من بعيد. . . هذه داره التي رجع إليها ليتخذ لنفسه من ثراها قبرا قد أنكرته وأعرضت عنه. لقد عاد غريبا في بيته. منكرا في بلده. انه ميت يمشي بين الأحياء. لقد بحث عن اثر واحد من دنياه التي كان يألفها، فإذا كل شيء قد تبدل، فلا الوجوه بالوجوه، ولا الأمكنة هي الأمكنة! فيا ويح الزمان كيف صنع ذلك كله! هذا الجبار المخيف الذي يفعل الأفاعيل، لا يحس به أحد ولا يبصره ولا يلمسه بيده. . . ثم استغفر الله وتاب إليه، انه هو الفاعل المدبر، فلا الزمان ولا الأحداث بقادرة على شيء، انه هو وحده الذي يصرف الأكوان.

وولى ليعود فيضرب في الأرض حتى يموت، فما يبالي الآن أين يدركه الموت بعد ان حرم آخر أمانيه، وهي أن يواريه الثرى الذي وارى جسد الحبيبة، ولم تسل من عينيه دمعة، ولم يتحرك لسانه بكلمة وداع، ولك يفكر في شيء فقد توارت الآلام على قلبه حتى صار هو كتلة من الألم جامدة تسمى قلبا، وتتابعت عليه المصائب حتى صارت حياته كله مصيبة. . . ويئس من السعادة حتى ما عاد يفكر فيها، أو يؤلمه فقدها، وتلفت ليودع المكان الذي اصطفاه من دون الأمكنة، وأودعه اعز شيء عليه: حبيبته وذكرياته، ويشمله بنظرة فإذا هو يرى دكان بقال كان يعرفه لا تزال قائمة على العهد بها، كما يقوم الطل البالي في المدينة العامرة، فأسرع إليها. . .

وكان فيها شاب حدث علم منه إن أباه البقال مات من عشرين سنة، وان الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله، وان لهذا الرجل قصة عجبا، فقد كان أبوه من سراة التجار، فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر، وجاءها المخاض فذهب يطلب لها شيئا فلم يرجع، وأسعفها البقال أبو الفتى، وولد للرشيد مولود فطلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهم فدل على الجارية فقبل ثديها، وصارت ظئره وكان المولود هو أمير المؤمنين المأمون.

ويسمع الرجل القصة فيحس إن الأرض تدور به، فيمر بآلاف الصور والألوان، والشكوك والأماني، ثم يسأله: وأين أم الولد؟ ويحسب إن هذه اللحظة التي انتظر فيها الجواب، قد طالت حتى غدت دهرا، وانه كالقائم ليسمع الحكم عليه بالبراءة أو القتل. فيقول الفتى: إنها باقية تغدو إلى دار الخليفة أياما وتكون مع ابنها أياما، ولكنها لا تزال حزينة لم تمسح

ص: 13

آلامها الأيام ولم ترقأ لها دمعة.

ويدعه الرجل ويركض إلى الدار يشعر انه يمشي في الزمان، يعود أدراجه إلى لياليه الماضيات، إلى عهد الحب الضاحك، ولياليه المترعات بالقبل. لقد نسى في هذه الخطوات كل ما لقي من شقاء، وما حمل من ألم، وامتلأ قلبه شكرا لله الذي استودعه حبيبته وما في بطنها فما ضاعت عنده الوديعة، هذه الحبيبة التي طالما بكاها يحسبها ميتة وجاء ليدفن جسده الواني بجانب رفاتها، قائمة تنتظره لتمنحه عطرها وسحرها ونحرها، وهذا الجنين الذي خلفه على باب الموت شابا ممتلئا قوة وأيدا ومالا ومجدا. . .

ووصل إلى الشاب، فقال له: ما تبتغي؟

فخفق قلبه، وتلاحقت أنفاسه، وهمت مقلتاه، ولك يجد ما يمهد به الحديث، فقال له:

- أنا أبوك!

ونظر الشاب شاكسا، وقال له: اتبعني، فاتبعه فاجتاز به صحنا بعد صحن، حتى انتهى إلى المكان الحرم فأقامه أمام ستارة، وذهب ليسال أمه، ودل الرجل قلبه على إن الحبيبة وراء الستارة فناداها، وإذا الستارة تهتك، والمرأة تثب إلى عنق الرجل، تبكي وتضحك وتضحك وتبكي وتقول ما لا ترديه. . .

ويدير الشاب وجهه فما يحس به أن ينظر إلى أبويه وهما يعيدان عهود الهوى والشباب. . .

علي الطنطاوي

ص: 14

‌الغازي مصطفى كمال

بحث وتحليل للدوافع النفسية التي دفعته إلى الزعامة

للأستاذ أحمد رمزي بك

(إن من السهل على المرء أن يعمل من أن يفكر، وإذا فكر

فمن اصعب الأمور أن يجعل عمله خاضعا دائما إلى ما

واصله إليه فكره).

جوته

عند اقتراب نهاية هذا العام يكون قد مضى على وفاة مصطفى كمال ثمانية أعوام، خرج منها العالم من حرب عالمية طاحنة؛ وتمخض فيها بالتغييرات والانقلابات الكثيرة. وكلما مرت الأيام تمثلت إلي شخصية الغازي كأنموذج لكلمة جوتة الخالدة: إذ هو من الأفراد القلائل في الشرق الذين عملوا بعد تفكير طويل، وأخضعوا أعمالهم لفكرتهم الأولى، ولما لازمهم التوفيق في جهادهم، لم تسكرهم نشوة الظفر ولا شغلتهم مظاهر السلطان عن فكرتهم التي بدءوا منها واخذوا بها، ولذلك جاءت حياتهم العامة صورة لما انطبع في أذهانهم من أفكار وآمال كبار.

إن الزعيم المجاهد والجندي المنتصر قد أصبح الآن في ذمة التاريخ؛ ولن يضيرنا اليوم أن نعرض لشيء من حياته وأعماله وخدماته، فلو كان حيا يرزق لقيل لنا إننا نتملقه أو نتملق بلاده وشعبه ولا تخذ بعض الناس ذلك للقيل والقال، أما وقد خفت ذلك الصوت الهادئ النبرات الذي كنت تسمع له رنينا عندما كان يخطب بالمجلس الوطني الكبير بأنقرة، وأغمضت العينان اللتان كانتا تشعان نورا وبريقا، فقد اصبح في وسعنا أن نقول ما نعتقد وان نكشف الستار عما نعلم وليست لنا غاية سوى إرضاء الحق.

بين 25 إبريل و9 ديسمبر 1915 كانت حملة الدردنيل حيث دارت رحى الحرب على روابي شبه جزيرة غاليولي، وكانت معاركها محط أنظار العالم إذ كانت سلسلة من التجارب للقيادة التركية بل كانت أكبر من ذلك للجندي المقاتل. كانت له مدرسة قاسية

ص: 15

وامتحانا وعرا اظهر مزاياه وصفاته، ففي معركة أنافارطة أوقفت هذه الصفات الخلقية الكامنة في نفسه الهجمات البريطانية المتراصة المتتالية المتتابعة كأمواج البحر.

وكان ذلك تحت قيادة رجل نحيف الجسم عصبي المزاج امتاز على أقرانه الضباط بعناده وقوة شكيمته: ذلك هو الأميرالاي مصطفى كمال الذي أقدم في ساعة من ساعات التاريخ الفاصلة فحمل عبء أفدح المسئوليات التي تواجه رجل الجندية، إذ كان الموقف جدي الخطورة، وكانت القيادة في قلق من انهيار الجبهة إزاء هجوم بريطاني حاسم، ولم يكن الوقت يتسع للمداولة وتبادل الرأي فلم يكن لديها سوى رأيين يتلخصان في نعم أو لا، فنعم كانت قبول الهزيمة وما يتبعها من تراجع وفشل وسقوط العاصمة والفناء، و (لا) كان معناها قبول المعركة في ظروف سيئة ولكن فيها الثبات والعناد والمصادمة والمقارعة حتى يتم النصر.

وكان القائد الأعلى للجبهة الجنرال فون ساندوس الألماني وهو من خيرة ضباط السواري في الجيش البروسي قد وجدها كبيرة عليه أن ينطقها لما تحتمله من المجازفة في دخول معركة تبدو خاسرة، فهو ليس من أهل البلاد، وهو يعلم جيدا أن الفن العسكري والعبقرية لا يجديان شيئا أمام ساعات التاريخ الفاصلة، وأمام القرارات الحاسمة، التي لا تصدر عن إرادة القائد الحربي، إلا بعد أن يدعمها الشعور القومي الواعي، والإحساس الوطني الوافر الذي يربط المرء بأرض بلاده وتاريخها ويجعله يشعر بأخطار المستقبل والمسئولية أمام الوطن، وفي مواجهة الأجيال القادمة.

ولذلك ألقى العبء والمسئولية على عاتق مصطفى كمال، فتولى المعركة وأعلن للقائد الألماني (أن الهاجمين لن يقتحموا الجبهة وانه يتحمل وحده مسئولية ونتائج المعركة التي تبدو خاسرة).

واعترف مصطفى كمال بان الذي دفعه لذلك هو إيمانه بأن الجنود الذين تحت إمرته سيبذلون ما في طاقة البشر للقيام بواجبهم وأنهم سيقبلون التضحية بمجرد اشتباك القتال وأنهم سيثبتون في مراكزهم، وحقت فكرة قائدهم فقد ظهر جندي المشاة في الصورة التي رسمها في مخيلته مصطفى كمال. وهكذا ذاقت تركيا طعم النصر بعد سلسلة طويلة من النكبات والهزائم. فكانت وقفة رائعة لفتت الأنظار إلى عبقرية هذا القائد حتى انه عند

ص: 16

زيارته لألمانيا بادرة الإمبراطور غليوم عندما قدم إليه بقوله: (الفرقة التاسعة عشرة أنا فارطة) ونظرة عابرة تريك ما هي هذه الوقفة.

إن القطع العسكرية التي في الخطوط الأمامية ذابت تحت نيران المدفعية وقذائف الأسطول ونيرانه المركزة، ولكن لم يتراجع أو يفر فرد واحد منها، بل فنيت بأكملها حتى آخر جندي فيها، وكانت عظيمة في موتها واستشهادها لأن الطلقات التي استمرت تقذف بها أوقفت الهجوم في أشد الأوقات أنقذت الجبهة إذ لم يطأ العدو خنادقها إلا بعد أن لفظ آخر جندي بها أنفاسه الأخيرة.

أما الفرق التي تجمعت في الخطوط التالية فقد كانت تسير إلى الموت وقد ظهر تصميم القتال على وجوه أفرادها، كانت رائعة في مواقفها وفي ثباتها وهي تتراص، كانت قد تحملت نيران العدو وقذائفه ثلاثة أيام بلياليها، لم تؤثر فيها أيام الانتظار ولا ساعات السير على الأقدام من موقع لموقع. كان يخيل إلى من رآها أنها قد أتت من المؤخرة من ساحة العرض أو احتلت مراكزها بعد راحتها وكأنها لا تعلم بما يدور حولها أو كأنها لم تر بعينها سوق الموت القائمة.

نعم كانت معنوياته وأعصابها بإقرار كل من كتب عن هذه الحرب من النقاد الحربيين من البريطانيين والألمان وغيرهم، فوق المستوى العادي للبشر في الساعة التي رأت قائدها العنيد يباشر القتال بنفسه ويصدر أمره مقتحما أول ربوة واجهته ليقودها إلى النصر، ولذلك جاء هجوم هذه الوحدات كإعصار يدك كل شيء، ولم يكن الخصم ينتظر دفاعا مثل الذي لقيه في أول يوم ولا هجوما كهذا، وعليه ولى الهاجمون الأدبار وأخلوا المواقع التي احتلوها متجهين إلى البحر، وفي مساء آخر يوم للمعركة جاء قائدهم من جزيرة لمنوس على باخرته من الجنوب ليشهد الشراذم تتجمع على الشاطئ لركوب القوارب، كانت بقايا الوحدات المنظمة التي قذف بها على الجزء الغربي من غاليبولي: وكان أن اتخذ الأتراك اسم المعركة لقبا لأبطالهم فحلوا بانافارطة واحتفلوا بها واتخذوا يومها عيدا لهم يعيدون فيه ويشيرون إلى أن بعثهم من جديد كأمة بدأ من ذلك اليوم.

واختتمت معركة أنا فارطة بأيامها ولياليها والقمر شاهد عليها بالنصر الذي جعل اعظم قوات العالم تبدل وتغير في خططها الكبرى واستراتيجيتها ثم تقرر إخلاء شبه الجزيرة،

ص: 17

وانتهت بذلك حملت الدردنيل بعد أن فتحت الطريق للقواد والنقاد والكتاب الحربيين يضعون المؤلفات عن تاريخها وأيامها ومواقعها فإذا نحن أمام مكتبة فيها عشرات المجلدات بمختلف لغات العالم ما تقرا مجلدا بالإنجليزية حتى تراه مترجما للتركية ونرى مثيله فيها، وما تجد مؤلفا بالألمانية حتى تجد ما يساويه بالفرنسية، استعرض كاتبوها مواقع البر ومعارك البحر وحددوا سير القتال ومواضع الزحف وانتقدوا عمل الأساطيل كما انتقد رجال البحر عمل رجال الجندية، وتبين من أقوال الاختصاص أن مشاريع اقتحام المضايق درست وبحثت ووضعت تفاصيلها منذ عام 1906، وضع المؤلفون كتبهم وتداولها الناس ولكن رجلا واحدا بقي صامتا لا يتكلم هو مصطفى كمال صاحب المواقف الحاسمة وبطل أنا فارطة، إنه لم ينسب لنفسه شيئا بل قال:(إن ما حصل عليه من مجد ليس من عمله؛ إنه نتيجة كفاح الجندي التركي وحده) ذكر مرارا ذلك وأعاده وكرره.

لقد انتهت المعركة التي جعلت منه بطلا عالميا وخفتت أصوات المدافع وزمجرة البطاريات السريعة الطلقات وزالت الأخطار عن عاصمة آل عثمان فأقيمت الأفراح فإذا بأنصاف الرجال يدقون الطبول ويرفعون أرباع الرجال إلى السماء، وإذا بهم يتقاسمون الأسلاب ويفرحون بما لم يفعلوا وينسبون أمجاد الغير لأنفسهم ووقف القائد العنيد يدخن سيجارته بهدوئه وصمته وقد اتجهت أنظاره إلى آفاق بعيدة، فما الذي أوحت به إليه تلك الأيام الحالكة السواد وهذه المعارك الفاصلة، وماذا تركت في نفسه من دوافع وما حملت إليه من أفكار؟ لقد كانت أقامته وقتئذ بمركز قيادة الفرقة التاسعة عشرة بشبه جزيرة غاليبولي، وكان يقضي الأيام والليالي في وحدة شاملة وقد تجمعت أفكاره واتجهت إلى مستقبل هذا الوطن الجريح، وقد اخترقت عينه النافذة ما وراء الحجب فإذا هي تبصر ما يحيط بلاده من الأخطار وما يحاك حولها من مكائد وما يرسم ويدبر من خيانات وما يعقبها من أهوال ونكبات.

في لحظات التركيز والوحدة استرد مصطفى كمال ثقته في نفسه وإيمانه في أمته، فأيقن أن الأقدار قد حملته رسالة مقدسة هي إنقاذ تركيا من مصائبها. ويحدثنا عن نفسه في تلك الفترة الرهيبة فيقول: أخذت تنتابه الأفكار وترتاده الآمال الكبار وهو يحركها في بوتقة التحليل مستعينا بمنطقه الجبار فيفرز الغث من السمين ويطرد الهواجس والأحلام

ص: 18

والخيالات الوهمية من نفسه بل يجتهد أن يحرر عقله منها، وأخيرا وجد ضالته فقال:(إن الإمبراطورية التي أقامها بنو عثمان من بقايا ملك آل سلجوق وقدر لها أن ترى فتح القسطنطينية يتحقق على يديها، هذه الدولة التي سببت المتاعب والمخاوف لأوربا وشعوبها ودانت لها الدنيا ستة قرون لم تعد شيئا مذكورا بعد الضربات التي تلقتها من أعداء الداخل والخارج، فكل عمل يبذل لإنقاذها سيذهب هباء منثورا).

واضطربت نفسه أمام نكبات تركيا المتتالية وحروبها التي لا تنقطع فأراد أن يجد لذلك مبررا من دروس الماضي متسائلا لماذا كانت بلاده من بين بلاد العالم هي التي توجه أليها الضربات والهجمات من كل جانب؟ حاول أن يجد تفسيرا لذلك فقال: (إن الأعلام الحمراء التي ظهرت في آسيا وحملتها جيوش المسلمين إلى أوروبا حتى ظللت أسوار فينا وقفت هناك وقفتها الأولى وكان ذلك في القرن العاشر من الهجرة، كما وقفت من قبل أعلام العروبة والإسلام في تود وبواتييه من أرض فرنسا في القرن الأول قبل الوقفة الثانية بتسعة قرون).

(إن العهد الذي لقي فيه المسلمون أولى هزائمهم وفترت فيه معاركهم الزاحفة الفاصلة قد حرك روح الانتقام لدى لعدائهم وأن القاعدة أن كل هجوم تعقبه فترة هدوء واستجمام للمهاجم ولكن هذا لا يمنع أن كل تصادم يحرك تصادما وكل هجوم يعقبه هجوم مضاد، فالهزيمة التي أوقعها شارل مارتل بجيوش المسلمين في فرنسا كانت فاتحة الهجوم المضاد الذي شنته أوروبا على العرب في أراضيها والذي دام ثمانية قرون حتى قذفت بهم على الشاطئ الافريقي، ولك تقف عند ذلك الحد، بل استجمعت قواها في القرنين التاسع عشر والعشرين وأخذت تطارد العرب في ديارهم وتنزع من أيديهم الجزائر وتونس ومراكش ومصر وطرابلس، وما ملاحقة هذه الشعوب والعمل على إفنائهم وإسكان الأوروبيين بأراضيهم سوى حلقة من حلقات ذلك الصراع الصليبي الذي بدأ من تور وبواتييه أو قل هو الثمن الذي يدفعه العرب نتيجة لهزيمتهم في قلب فرنسا).

(أما الأتراك العثمانيون فقد أثاروا الهجوم المضاد عليهم من يوم هزيمتهم تحت أسوار فينا إذ تلاحقت عليهم النكبات في خلال ثلاثة قرون، فرض عليهم القتال فيها ولم تبق أمة من أمم أوروبا إلا اشتركت وساهمت فيه بحق وبغير حق، بل وافتخرت بما سفكت من دماء

ص: 19

المسلمين وبما أفنت من رجالهم وبما مزقت من أشلائهم وبما خربت من مساجدهم وآثارهم وقبورهم. لقد تجمعت على الأتراك القوى من كل جانب وحاصرتهم في البر والبحر ولم يبق بعد طول العراك سوى هذه البقعة من الأرض يرفرف عليها علمهم: فما قيمتها للجندي المقاتل الذي اغمض عينيه للمرة الأخيرة أمام نظر قائده؟ هي له الموئل والمآل فهل هي النهاية كما كانت للأجداد بداية؟).

في ليلة من ليالي أنقرة في قصر نشان قايا اخذ الزعيم يشرح هذه النظرية أمام جمع التف حوله فقال: (إن المعارك التي خذنا غمارها بالأمس والتي سندعي لغيرها بالغد هي حلقة من حلقات هذا الهجوم المضاد القاسي الذي شنه الغرب علينا وأثاره الترك بزحفهم إلى فينا كما أثاره العرب بفتوحاتهم الأندلسية ودخولهم إلى قلب فرنسا).

قال إنه بعد معارك الدردنيل وفي وسط حرب الاستقلال كان يحدث نفسه قائلا: (لقد فرض علينا الأعداء أن نفنى لأننا كنا أقوياء وخيل إليهم أن جهادنا التاريخي قد انتهى وإننا نعالج سكرات الموت في الموقع الأخير فهل تنفخ في البوق النغمة الختامية على أجساد آخر المقاتلين من بقايا تلك الملايين التي حادت بالارواح في حومة الوغى وتطوى تركيا وتحمل إلى اللحد كما فنيت وطويت آشور وروما وكما زال فرعون وثمود وعاد).

حدث عن نفسه قائلا انه في أسوء المواقف كان يشعر (بان هذا لن يكون وان بلاده ستبعث قوية وستحيا إلى الأبد).

وهنا التفت وصوب نظراته النافذة وخرج كلامه قويا فقال (إن إطلاق النظريات الإنشائية والآمال والأفكار الكبرى سهل على النفس ولكن التمسك بها والسير على ضوئها صعب، لان هذا يستلزم أولا إخراج ما يلابس هذه النظريات والمبادئ من عوامل السلبية وما يلازم الفكر البشري من عناصر الضعف والتردد، إن الأفراد الذين ينصبون أنفسهم لخلاص الوطن يجب عليهم أن يتجردوا من أشياء كثيرة عزيزة عليهم).

ذلك مبدؤه الذي نادى به في تلك الليلة؛ وتفسير ذلك أن معارك الدردنيل أصبحت له قوة دافعة بل كانت حدا فاصلا في حياته إذ أمضى الشهور ونفسه متوثبة متطلعة تحت تأثيرها، ولكن ما لبث أن واجهتها الحقائق: عادة إليه ذكريات الهزائم المتتالية وأخذت تبدو إليه العاصمة بمظاهر التفكك والانحلال الخلقي وعوامل الهدم وتاثرت نفسه لما استعرض

ص: 20

تاريخ الحروب والمعارك التي كسبها مقاتلة الترك ثم أضاعها رجال السياسة والمواقف التي اكتسبها هولاء في ميادين السياسة وأضاعها رجال الحرب في ميادين القتال.

وبرزت تركة الرجل المريض المحتضر على حقيقتها محملة بالأعباء والمصائب وبدا المستقبل قاتما مظلما كالليل. تلك هي النواحي السلبية التي أخذت تساوره في الأيام التاريخية التي وقعت بين حملة الدردنيل وعودته من المانيا، قال (انه وجد أمامه بصيص نور من أنوار الأمل هو ذلك الضياء الذي ارتسم على مجه الجندي التركي في معركة أنا فارطة حينما لقي الموت وهو قرير العين، كانت ابتسامة تحمل الخلود للامة التي أنجبت هذا المقاتل الذي لقي ربه وهو ضاحك بعد ان أدى واجبه نحوها).

وكتب مصطفى كمال فقال: (لو قدر لهذا الجندي أن يجد القيادة الحازمة، ولو لمس الإخلاص الذي يشع من قلبه فوجده في قلوب الساسة والقادة لغير وبدل ما كتبه التاريخ في عصور الانحطاط ولأعاد مرة أخرى عهد الدماء القوية التي حملت الأعلام الحمراء إلى قلب أوربا وفرضت النصر في كل معركة دخلتها. إنها ليست أخطاء الشعب إنها خطايا القادة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه)

ولم يدر مصطفى كمال في تلك الفترة أن ابتسامة الشهيد التي رآها هي نفحة من نفحات الإسلام يرزقها المولى لمن ذاق حلاوة الإيمان في قلبه ولقي الموت وهو يؤدي فرض الجهاد ابتغاء مرضاة الله، وفي سبيل الله وعملا بما مره به الله. فهي ليست دليلا على تفوق العنصر بل هي آية من آيات الرسالة المحمدية للناس كافة.

إنني أكتب هذه الكلمات بعد إقامة سبعة سنوات بتركيا وبعد أن التقيت بمئات من المسلمين من أنحاء الأرض منهم من جاء من كاشغر عاصمة التركستان الصينية، ومنهم من كان في القرم وفي قفقاسيا وعلى نهر الفولجا: لأقرر أن الثورة الكمالية في عنفوان شدتها، والثورة الشيوعية بأساليبها التي لا يقرها العرف وكلاهما في إبان القوة والبطش لم يستطيعا التغلب على الإسلام في البلاد التي رسخ فيها، وان الذين خيل إليهم أن سلطان الإسلام قد زال من الأقاليم الآسيوية الخاضعة للسوفيت وان ظله قد تقلص من تركيا واهمون: وسيبعث الإسلام ودين محمد في تلك الجهات ويعود على صورة تبهر العالم.

إن أقوى التعاليم الدنيوية والنظريات لا تلبث أن تهوى وتذبل مع الزمن، أما قواعد الثورة

ص: 21

المحمدية الكبرى التي وادعت في تعاليم الإسلام واتت بها النبوة فباقية مع الزمن في أفئدة الشعوب والجماعات والأفراد وحتى الذين خرجوا عليها وشقوا لأنفسهم الطريق بعيدا عنها ونابذوها العداء لا يلبثون أن يعودوا إليها، وما مصطفى كمال إلا واحد من هولاء ستكشف الأيام الكثير عن روحه الحائرة وسنعود يوما لدرس هذه النفس المتمردة من ناحية الإيمان والعقيدة وكل آت قريب.

(يتبع)

أحمد رمزي

ص: 22

‌على هامش النقد:

شعر من الجزيرة

للأستاذ سيد قطب

1 -

الهوى والشباب: أحمد عبد الغفور عطار

2 -

الشاطئ المسحور: محمد عبده غانم

هذه تحية لا نقد؛ فتلك بواكير يقظة في قلب الجزيرة، ما أجدرها منا بالتحية، لا لأنها لا تثبت النقد، ولكن لان التحية هنا أليق!

وهما ديوانان من الشعر، والشعر في هذه الفترة يعاني ازمة، فبين مئات الكتب التي صدرت في فترة الحرب بوفرة، لم تصدر إلا دواوين تعد على الأصابع، وذلك موجب آخر من موجبات التحية!

شعر من الحجاز وشعر من اليمن. . وقد اعتدنا أن ننتظر الشعر في لبنان ومصر، وفي سورية والعراق، وربما تونس، فقد نبغ فيها الشابي شعلة تضوي ثم تخبو سريعا، فها هو ذا الحجاز، وها هي ذي اليمن تساهمان أيضاً بنصيب. . فما أجدرها بالتحية!

وكم ذا يسرني - كمصري مشتغل بالنقد الأدبي - أن أستقبل هذا النتاج، وأن أضم يدي على طاقة من تلك الزهرات من [مشرق الشرق العربي إلى مغربه، فمصر كثيرا ما تتهم بالتقصير في حق جيرتها، فهي في عرف بعضهم غافلة أو متغافلة عن خطوات النهضة الأدبية في البلاد الشقيقة.

وهذا ظلم لمصر، فما احسبها قصرت في التنويه بأي أدب، ولا بأي أديب وصلت إليه أنباؤه، وأني لأعلم أن صحافتها تفسح لأبناء البلاد العربية ما لا تفسحه لبنيها، وتؤثر بريد البلاد العربية على بريدها؛ ولا تجد في نفسها غضاضة ولا حسدا أن يتفوق بعض أبناء الشقيقات على بعض أبنائها؛ وأنها لحفية بكل ما يصل إليها من هناك. أما الذي لا يصل فليس الذنب ذنبها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

وقبل أن يلومنا الإخوان عن إهمالنا لنتاجهم، يجب أن يسألوا أنفسهم: هل بلغنا نبا ذلك النتاج؟ هل هو يباع في اسواقنا؟ هل اعلن عنه في صحفنا؟ هل وصلتنا صحفهم التي

ص: 23

أعلنت عنه؟ وإلا فما نجد سبيلا إلى الحصول على كتب مما يصدر في كثير من البلاد العربية إلا أن نقوم برحلة إلى هناك، وهذا ما لا يستطاع لكل فرد في كل آن.

لقد أعلنت مرة في (الرسالة) - وهي مقروءة في كل بلد عربي - إنني في حاجة إلى كل ديوان شعر والى كل قصة أو أقصوصة طبعت في شتى البلاد العربية، لان لدي بحثين معطلين عن:(الشعر المعاصر) وعن (القصة الحديثة)، ولأنني كرهت ان اقتصر على الشعر المصري وعلى القصة المصرية؛ وقلت: إنني لا اطلب (هدايا)، ولكنني اطلب هذه الكتب محولا ثمنها على البريد، ذلك إنني لا أجدها في السوق المصرية، ولا أجد لي سبيلا إليها. فماذا حدث؟

حدث ان تفضل بعض الشعراء والأدباء في فلسطين والعراق والحجاز بإهداء دواوينهم وقصصهم إلى، ولكن البقية لم تصلني كما أن سورية ولبنان لم يسمعا النداء، وهمس بعضهم في أذني: ان هناك موجودة على مصر لأنها تصدر أدبها ولا تستورد آدابهم وهذا غريب. . فلقد اشترينا هنا كل ما صدر إلينا من هناك، ومن سورية ولبنان خاصة، وإنني لأكره هذه النغمة، انها نغمة مقيتة - وفي جو الأدب خاصة - فكلنا شركاء في النهضة ومصر تؤدي واجبها الذي فرضته عليها الظروف، وانها لتجد نفسها سعيدة حين تنهض شقيقة لها أو أكثر بالمشاركة في العبء فهو عبء اثقل من ان تنهض به وحدها، وما يجوز ان ترتفع هذه النغمة المقيتة في بلد من البلاد الشقيقة.

فلندع هذا كله لنعود إلى تحية الشاعرين والديوانين

هنالك شبه عجيب بين النسيج الشعري في كلا الديوانين، فهو نسيج رقيق هفهاف، والشعر الحجازي القديم مشهور بالرقة والعذوبة، والشعراء الغزلون قد نشأوا هناك، فديوان (الهوى والشباب) ليس غريبا في بيئته، فالظاهر أن الرقة والعذوبة ما تزالا كامنتين - تحت الشظف - في مدائن الحجاز. اما (الشاطئ المسحور)، فيبدو انه يستمد عذوبته ورقته من خصب اليمن وروائها التاريخيين، فالبذرة هناك كامنة ما تزال.

وإذا كان في شعر الأستاذ (عطار) جزالة تمازج الرقة في بعض الاحيان، فإن شعر الأستاذ (غانم) انسيابا وسيولة دائمين في جميع فصول الديوان، ولكنهما قريب من قريب.

واليك قطعتان من الديوانين:

ص: 24

يقول صاحب (الهوى والشباب) بعنوان (وعود الغانيات):

وعودك يا غادتي جمة

ولكن الي اليوم لم تصدقِ

كأنك لم تبصري عاشقاً

ألح به الحب لم يشفق

يعيش بعالمه كاسفاً

ويغرقه الهم للمفرق

يسير بلا وعيه ناجياً

إليك. . إلى بيتك المغلق

عساه يرى طيفك المشتهي

يلوح له كالسنا المشرق

ويسمع صوتك جم الحنان

يغرد كالبلبل المطلق

فيحسبه أغنيات الخلود

ترف على قلبه الشيق

فهلا رحمتِ الفؤاد الحزين

وأنجيته من ردى محدق

وهلا أنلت الرضى مغرماً

يصافي الوداد ولم يمذُق!

بهجرك أمسى يذوق اللظى

ولو أنت وفَّيت لم يوبق

ولولاك ما اجتر آلامه

وأمسى صريع الهوى المطبق

وعاش على أمل شارد

يلوح كآل الفلا المرهق

فإنك ان تكذبيه الوعود

فليس سوى يأسه الُعْنِق

ألا فاصدقي مرة وامنحي

حبيبك رشف الجنى الرّبق

فقد صرعته اكف الخطوب

وما انفك عن حبه الموثق

وصفق كفيه غل الأسى

فضاع حجاه مع المنطق

ويقول صاحب (الشاطئ المسحور) بعنوان (أنين)

لست تمشين على الأرض ولكن فوق قلبي

تلك أنغام خطىً قد مازجت روحي ولبي

ثقلِّي الخطو كما شئت ولا ترثي لصب

ضاق بالآلام والآمال في بعد وقرب

ما بارك الله مثل الناس من لحم وعظم

أنت إشعاع من القدس لقلبي المستحم

جمّع الله بك الألوان في أبدع نظم

ص: 25

وأرانا كيف يجلو آية الحسن بالإثم

كم تعرضتُ لعينيك لكي أحظى بنظره

وتمنيت بان ارشف من ثغرك قطره

وتحايلت لكي ألمس من جَعْدِك شعره

وتلويت لكي أقطف من وردك زهرة

وتمرّين كأني لست موجوداً بقربك

وكأني ما ملأت الكون أشعاراً بحبك

لا تغضى الطرف عني وانظري نحوي بربك

أنا والله الذي ترضْين لو عشتِ لقلبك

أنا لحن في فم البلبل ترويه الرياح

ورحيق في كؤوس الحب تحسوه الملاح

وشعاع في الثرى النعسان يزجيه الصباح

وشذا ما منه للهائم بالروض براح

لستُ أدري ما الذي تخشيْن مني لست ادري

وأنا الشاعر لا أرضى لمخلوق بضر

أنا لولا لوعتي صنتُك في قلبي كسرِّي

ومنعتُ القلبَ أن يخفق حتى لا تضري

كم يقاسي الشاعر الهائم في دنيا الجمال

كم له من أنة حمراء في سود الليالي

ودموع دونها لولا الهوى رطب اللآلي

قد جرت فوق الروابي وتلاشت في الرمال

أنت يا رب الذي أوجدت فينا الشاعرينا

وجعلت الحب للشاعر في دنياه دنيا

كلما لاح الحب جميل جن بالشوق جنونا

ومضى ينفث في آهاته الداء الدفينا

ص: 26

لست ادري لِمْ خلقت الحب يا رب غشوما

وملأت القلب بالإحساس والوجد جحيما

لو محوت الحسنَ ما ذقنا به الذل الأليما

أو مسخت القلب صخراً عاش كالصخر كريما

أنت قد سلّحت يا رب الحسان الفاتنات

بلحاظ فاتكات وقدود طاعنات

وحرمت القلب في بلواه من درع الثبات

فهو بين الضرب والطعن على وشك الفوات

هاتان القصيدتان تمثلان فني الشاعرين كل التمثيل؛ وحينما يبدو من الأستاذ (عطار) ميل إلى اتباع (عمود الشعر العربي) يبدو من الأستاذ غانم ميل إلى الرومانتيكية (الإبداعية) ثم يجتمع كلاهما على الرقة والعذوبة كما رأينا.

وقد أثبت القصيدتين كاملتين بما فيهما من مواطن الضعف ومواطن القوة في الشعور والتعبير، لأنني ارمي إلى التعريف بالشاعرين. ولقد يدهش الكثيرون أن يجدوا مستوى الأداء قد وصل إلى هذا الحد في الحجاز وفي اليمن، لأننا حديثو عهد بالنهضة الأدبية في هذين البلدين الكريمين.

وقد يكون الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار معروفا للقراء في مصر، لأنه كتب في بعض صحفها، كما نشر من قبل كتابين:(كتابي) و (محمد بن عبد الوهاب)، والأول مجموعة مقالات لها قيمتها في الأدب والاجتماع والسياسة. والثاني دراسة طيبة لحياة المصلح الكبير (محمد بن عبد الوهاب)، فكتبت عنهما الصحف المصرية مثنية مشجعة.

أما الأستاذ محمد عبده غانم، فيسرني أن أقدمه شاعرا عذب الإيقاع، رقيق العبارة، حلو الروح

وإنه ليسرني أن أجمع بين الأدباء والشعراء في جميع البلاد العربية، وبين قراء (الرسالة) في مصر وفي هذه البلاد مرات بعد مرات. . .

سيد قطب

ص: 27

‌مجالس الأدب: في إحدى ليالي رمضان

للأستاذ كامل كيلاني

(نثبت فيما يلي نص الحوار الطريف الذي دار بين ثلاثة من

أدباء مصر وشعرائها في إحدى ليالي رمضان كما أذاعته

محطة الشرق الأدنى)

1 -

المعري يصوم ويصلي

عبد الغني: بمناسبة شهر رمضان، هل كان كبار الشعراء - يا أستاذ كامل - يصومون؟ وهل كان أستاذك المعري يصوم؟

كامل: ويصلي أيضاً.

عبد الغني: إذ يقول في الصلاة يا أستاذ كامل.

كامل:

(وأعجز أهل هذي الأرض غاوٍ

أبانَ العجز عن خمسٍ فُرضْنهْ)

ولكنه يريدها صلاة خالصة لوجه الله، وإلا حلت اللعنة على صاحبها.

عماد: إذ يقول؟ يا أستاذ كامل.

كامل:

(إذا رام كيداً بالصلاة مُقيمها

فتاركُها عمداً إلى الله اقربُ)

ولن يصح تدين الإنسان - فيما يرى - إذا اقتصر على الصلاة والصوم، دون أن تخلص نفسه من أرجاسها، وتكف أذاها عن الناس.

عبد الغني: وما الذي يحضرك من شعره يا أستاذ كامل؟

كامل:

(ما الَّدين صومٌ يذوب الصائمون له

ولا صلاة، ولا صوف على جَسدِ

وإنما هو ترك الشر مطرحاً

ونَفضُك الصدر من غل ومن حسد)

عماد: أو يقول؟

كامل: ما أكثر ما يقول في هذا المعنى - يا صاحبي - وما أبرع قوله في هذا الباب:

ص: 28

(إذا الإنسان كف الشر عني

فسيقاً - في الحياة - له ورعيا

ويدرسُ - إن أراد - كتاب موسى

ويضمر - إن أحبْ - ولاء شعْيا)

عبد الغني: فهل كان يصوم يا أستاذ كامل؟

كامل: كان صائم الدهر، يصوم عن الأكل كما يصوم عن الأذى والشر.

عبد الغني: وماذا قال في هذا الباب يا أستاذ كامل؟

كامل:

(أنا صائم طول الحياة، وإنما

فِطري الِحمام، وذاك حين أُعَيَدُ)

2 -

عقيدة المعري

عماد: إذن يا أستاذ كامل كيف تعلل اتهامه في دينه؟

كامل: لم يتهمه في دينه إلا قاصر أو مقصر في درسه، أو راغب في إذاعة مبادئ الشك على لسان غيره، أو متسرع في فهم مراميه، أو رجل يحسن الظن بآراء بعض الباحثين، فلا يعني بنفسه بمناقشتها وتمحيصها، أو ببغاء يردد ما يسمع بلا تعقل.

عبد الغني: فكيف تعلل قوله:

في القدس قامت ضجة

ما بين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق

وذا بمئذنة يصيح

كلٌ يعلل دينه

يا ليت شعري ما الصحيح؟)

كامل: إن السخرية واضحة في الأبيات كما تريان، ولعلكما تذكران الآية الكريمة:(كل حزب بما لديهم فرحون) كما تذكران الآية (وإنَّا - أو إيَّاكم - لعلى هُدىً أو في ضلال مُبين). ولن يدور بخلد كائن كان: أن الرسول (ص) كان شاكا في انه على هدى، وان مجادليه في ضلال مبين.

عبد الغني: فكيف تعلل اضطرابه وتناقضه في شعره يا أستاذ كامل؟

كامل: لم يضطرب أبو العلاء، ولم يتناقض. ولكن اضطرب في فهمه المتسرعون وتناقضوا، ورأى بعضهم - في مرآة نفسه المضطربة - صورته، فحسبها صورة المعري، وهو منها بريء.

على أن المخلصين في فهمه، ممن رموه بالتناقض، نسوا الحكمة التي درسوها في مستهل

ص: 29

حياتهم، وهي:(لكل مقام مقال) فكان مثلهم مثل من ينصت إلى رجل: فيسمعه مرة يقول لولده مغريا: (لا شك عندي في انك باذل في دروسك يا ولدي قصارى جهدك وسيكون لك إن شاء الله شان عظيم. ولتبلغن بحدك أعلى المراتب وأسماها).

ثم تسمعه مرة أخرى يقول له:

(لن تنجح يا ولدي ما دمت مستسلما لكسلك، متماديا في غيك، مسترسلا في تهاونك) أو يقول له غاضبا ثائرا: (والله لا أفلحت أبداً).

فيزعم أن الوالد متناقض مضطرب، لأنه يتمنى لابنه النجاح مرة والإخفاق مرة اخرى، وينسى انهم أسلوبان متباينان يهدفان - على اختلافهما - إلى غرض واحد: هو حفز الولد إلى الخير. وكلاهما يعبر عن حب أبيه لولده وحرصه على نجاحه.

وما أدري - أيها الصديقان - كيف يشك في صدق إيمان هذا الرجل، دارس متعمق حصيف، يجمع بين الإنصاف والإحاطة والفهم؟

كيف يشك في حسن عقيدة من يقول:

أُقر بأن لي رباً قديراً

ولا أَلْقَى بدائعه بجَحْد

أو يقول ويصل إلى ذروة الإبداع:

تعالى الله، وهو اجل قدراً

من الإخبار عنه بالتعالي

إلى آخر ما يقول، فما أنت بحاجة إلى أن أتلو ما يزخر به شعره ونثره من الآيات الدالة على سلامة عقيدته، وخلوصها من الشكوك والأوهام.

3 -

الفطرة المؤمنة

وقد علمتما - يا صاحبي - إنني عرضت لهذا الموضوع في مناسبات عدة لا سيما في رسالتي الغفران والهناء، وكتابي على هامش الغفران، وحديقة ابي العلاء وربما أنجزت كتاب (عقيدة المعري) وأعددته للطبع بعد قليل.

حسبكما الآن قوله في رسالة الغفران، ولعله - على وجازته - ابرع ما رأيت في هذا الكتاب، لأنه يقرر في بلاغة علائية فاتنة: أن الإنسان مؤمن بغريزته، وان الله سبحانه قد وهبه فطرة مؤمنة تعصمه - إذا لاذ بها - من الزيغ والالحاد، كما يعصم الحصن الحصين من يلوذ به ويحيمه من المغيرين واليكما ما قال:

ص: 30

(والتأله (يعني: الإيمان بالله) موجودا في الغرائز، يكون لهن كالإلجاء الحرائر (يعني: كالحصون الحصينة كما تعلمان) وبهذه الجملة البارعة يلتقي المعري بما أبدعه لامرتين في قصيدة (الخلود) وهي من غرر الشعر الفرنسي وروائعه. كما يلتقي مع شكسبير في قوله: (كل ما نلقاه من حسنٌ إذا حسنت خاتمته). فيقول:

(إن ختم الله بغفرانه

فكل ما لقيته سهل)

لا أدري كيف يجرؤ منصف على اتهام مثل هذا الرجل الطاهر في عقيدته. ألا ما أصدق المثل:

(رمتني بدائها وأنسلت)

ورحم الله ابن الرومي القائل:

ما خمدت ناري، ولكنها

الفت نفوساً نارها خامدة

قد فسدت في دهرنا انفس

تستبرد السخنة لا الباردة

4 -

شيطان الشعر

عبد الغني: هل تحسن نظم الشعر وأنت صائم يا أستاذ عماد؟

عماد: كلا فإن سطوة الجوع تكفل هدم كل بيت من الشعر أحاول بناءه. أو لعل شيطان شعري يسجن في شهر رمضان مع سائر إخوانه من الشياطين، وإن كنت أنا نفسي مثلت دور شيطان في هذا الشهر المبارك.

عبد الغني: وكيف كان ذلك يا أستاذ عماد؟

عماد: في ليلة مظلمة من إحدى رمضانات الحرب، التي حرموا فيها النور عدت إلى منزلي متأخرا وكنت مرتديا بذلة سوداء، وبينما أنا واقف أمام الباب والشرع مقفر اقبل شخص من بعيد، ولكنه حين لمحني تباطأ في مشيته ثم وقف مترددا، فأدركت انه خاف مني. وانه حسبني أحد شياطين الظلام، فدفعني خبث العبث إلى أن امثل دوري إلى النهاية. فتقدمت نحوه خطوتين فاضطرب وكاد يولي هاربا، ولكن إلى أين؟ وقد علم سلفا أني أدركه بوثبة شيطانية واحدة. وكان منزله لسوء حظه مقابلا لمنزلي، فجمع قواه واندفع يجري من أمامي في سرعة من الريح وهو يتلو آية الكرسي في صوت عال محاولا إحراقي بها، وأنا أشير إليه إشارات تزيده رعبا، حتى أدرك باب منزله فارتمى فيه على

ص: 31

وجهه.

كامل: وماذا كان وقع آية الكرسي في نفسك يا أستاذ عماد؟

عماد: بردا وسلاما على خلاف عادتها مع الشياطين.

عبد الغني: إن هذه الحادثة لا تخلو من فائدة، فهي تعلل لنا الحوادث التي يؤكد بعض الناس انهم رأوا فيها الشياطين رأي العين.

ولكن قل لي يا عماد هل تعتقد حقا أن لكل شاعر شيطانا يوحي إليه الشعر؟ كما كان يعتقد حسان بن ثابت إذ يقول:

ولي صاحب من بَنْي الشيعبان

فطوراً أقول وطوراً هوه

عماد: هذا بالطبع أمر لم يقم عليه دليل مادي، ولكن مما لا شك فيه أن الشاعر عندما ينظم قصيدته يكون مدفوعا بقوة غير عادية، فقد يعود إلى قراءة هذه القصيدة في وقت آخر فيراها أعلى من مستوى تفكيره، ويعجب من نفسه كيف تسير له نظمها على هذه الصورة. والشاعر الذي اعنيه هنا هو الشاعر الصادق الذي لا ينظم إلا متأثرا بفكرته، فالتأثر هو الذي يوحي إليه ما يحسبه من وحي قوة فوق قوة البشر، كالشياطين أو الملائكة. أما الشاعر الكاذب المقلد فشعره من وحي القردة لأنها أطبع المخلوقات على التقليد، ويجب عليه إذا ذكر وحيه أن يقول قال لي قردي لا قال لي شيطاني.

عبد الغني: هذا حق والشعراء القرداتية كثيرون في كل عصر لسوء الحظ.

(البقية في العدد القادم)

كامل كيلاني

ص: 32

‌موازين البلاغة بين القدامى والمحدثين

للأستاذ كامل السيد شاهين

- 1 -

وبعد جهد جاء الأستاذ العماري يتمسح في الآية الكريمة (والقمر قدرناه مناول حتى عاد كالعرجون القديم) زاعما أنه نظير قوله الآخر في تشبيه البنفسج بأوائل النار. . . الخ. غافلا أو متغافلا عن قدر التشبيه وما وراءه، مدعيا إن أمره واقف عند حد الدقة والانحناء. قال - والاصفرار، ولو كان الأمر كما رجم لكان منزلة التشبيه في الآية منزلة التشبيه بالمنجل والزورق الفضي، وقلامة الظفر، مما يظهر فيه النحول والتقوس.

فالمعنى الذي تمتلئ به النفس عند رؤية القمر آخر الشهر هو الفناء بعد الامتلاء، وذلك أن القمر نزل منازل مختلفة منذ طلوعه فهو قد زاد نوره قليلا قليلا ثم استكمل ثم تناقص قليلا قليلا حتى كاد يذهب ضياؤه، مثله كمثل العرجون يكون حيا في نفسه ممدا شماريخه بالحياة ثم يدب فيه اليبس والفناء فيرجع ولا غناء فيه ولا حياة. فوجه الشبه بعد التصوير يرجع إلى قلة النفع والاضمحلال واقتراب النهاية، وإنما يهدي إلى ذلك سلامة الفطرة وحسن التذوق.

ولا أترك القول في التشبيه المحسن حتى أضع يد الأستاذ على الميزان الذي يعرف به قيم التشبيه جمالا وغثائه فقد ترك القدماء لنا ميزانا شائلا أملته طبيعتهم الأعجمية المتفلسفة، وقديما تحدى بعض الأدباء ابن الرومي ببيت المعتز في الهلال:

انظر إليه كزورق من فضة

قد أثقلته حمولة من عنبر

وقوله في الآذريون، وهو زاهر اصفر في وسطه خمل أسود:

كأن آذريونها

والشمس فيها كاليه

مداهن من ذهب

فيها بقايا غالية

فمذهب القدماء (إن الغرض من التشبيه هو مضاهاة أبيض على أبيض، وأصفر على أصفر، ومستدير على مستدير، ومستطيل على مستطيل، مما يرى بالعين، ولا فضل فيه للشعور والتخيل، وقصارى ما يطلب من الشاعر في التشبيه أن يثبت لك إنه رأى شيئين في شكل واحد ومن لون واحد كأنك في حاجة إلى ذلك الإثبات الذي لا طائل تحته، فإما إنه

ص: 33

أحس وتخيل وصور إحساسه وتخيله باللفظ المبين والخواطر الذهنية الواضحة فليس ذلك من شانه ولا هو مما يدخل في باب البلاغة والشاعرية.

وهذا خطأ بعيد في فهم الوصف والشعر يخرج بهما عن القدرة النفسية إلى القدرة الإلهية التي تحكي المناظر الظاهرة كما تحكيها المصور الشمسية.

وليس يعنيك أنت أن يكون الشاعر صحيح العين مطلعا على المرئيات المتشابهة ليتصل وجدانك بوجدانه، ولكنما يعنيك منه أن يكون حيا يشعر بالدنيا، ويزيد حظك من الشعور بها) ويجلي لك ما اضطرب في نفسك من أحاسيس وخوالج لا تستطيع لها كشفا ولا بيانا وتلك مزية الشاعر في كل زمان، وما كان للقدامى أن يخلطوا في الحكم لولا انه التبس عليهم ملكة الشعر بملكة الوصف، وأن هذه شيء وتلك شيء آخر. (فمن وصف وشبه ولم يشعر فليس بشاعر، ومن شبه وأبلغك ما في نفسه بغير وصف مشبه).

ذلك هو ما جر عبد القاهر وغيره إلى سوء الاختيار والى طول الإطراء لسخافات هولاء الوصافين المصورين، وإلا فأي جمال وروعة وأي وجدان أثاره الشاعر بقوله في وصف منسر البازي:

في هامة غلباء تهدي منسرا

كعطفة الجيم بكف اعسرا

يقول من فيها بعقل فكرا

لو زاهدا عينا إلى فاء ورا

فاتصلت بالجيم صارت جعفرا

وتقرأ عبد القاهر، فإذا كلام جميل، وتطريز بديع أملاه تركيب الرجل العقلي الفلسفي.

ويجري في هذا الميدان قوله:

كلنا باسط اليد

نحو نيل فرند

كدبابيس عسجد

قضْبُها من زبرجد

وقوله الآخر:

لم أر بد صفاً مثل صف الزُّطَّ

تسعين منهم صلبوا في خَطَّ

من كلَّ عالٍ جذعُه بالشطَّ

كأنه في جذعه المشْتَط

أخو نعاس جدَّ في التمطِّي

قد خامر النوم ولم يَغُطَّ

كل هذه صور ولكنها ليست شعرا ولا تقوم في باب الشعر بقليل ولا كثيرا، ولا يحسب

ص: 34

لصاحبها وان رقت صناعته بين الشعراء حساب، وكل ما لها من حسن نرجعه دقة الريشة، وقوة الملاحظة. أما الشعور، أما الإحساس، أما الإثارة التي تهز الوجدان، فما أبعدها عن هذه الصورة الميتة الجامدة.

والفرق بين الشعر والوصف، كالفرق بين الحياة والموت فالذي يشعر يعطيك صورة تدب الحياة في أعطافها، والذي يصور يعطيك تمثالا لا حركة فيه ولا حياة.

- 2 -

يقول الأستاذ الخولي في قول المتنبي:

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

كلامهم في أن الغرض من التشبيه بيان أن وجد المشبه ممكن مرفوض لأن الأديب لا يضع نفسه موضع المناقش بل يفرض نفسه على الناس. وإنما دعاه إلى هذا التمثيل أن الناس ينكرون المزايا، فقال إن ذلك نظائر. اهـ

أما أن الشعراء يفرضون أنفسهم فذلك ما لا يسع أحدا التشكك فيه، ودونك فافتح صحيفة من ديوان، أي ديوان، فانك واجد أكثر من مثال:

قال أبو العلاء في رثاء الشريف الموسوي:

ذهب الذي غدت الذوابل بعده

رُعْشَ المتون، كليلة الأطراف

طار النواعبُ يوم فَادَ نواعيا

فندبنه، لموقف ومُنافِ

أسفٌ أسفَّ بها واثقل نهْضها

بالحزن فهي على التراب هواف

فهذا الذي ادعاه في اختلاج أواسط الرماح وكلال أطرافها، وهذا الذي ادعاه من ان الغربان قامت نوادب للشريف، وأنها لحزنها ثقلت حتى كادت تخالط التراب، وما زعمه بعد من أن الغربان ترثي الشريف بقصيدة على روي القاف.

هذا كله ادعاء سوغه أن الشعراء يفرضون أنفسهم على الناس، فليس في حسابه أن يقول له القوم كذبت فاقم الدليل على ما تقول. فإذا قال المتنبي أنت أربيت على الأنام وفقتهم، فما عليه باس، وليس لأحد أن يقول له هذا غير ممكن أو ممكن حتى يقال إن قوله: فإن المسك بعض دم الغزال لإثبات هذا الإمكان ولكنه حين يقول ذلك يؤكد دعواه، ويقرب المعنى الذي قصده إليه، وإلا فما هو بالذي يحتاج أن يثبت إن الأمر ممكن، لان الشاعر ان يدعي

ص: 35

ما يشاء وليس لأحد أن يحصى عليه، فاقبض على هذا الأصل وعه، وتبينه، فلن تجد تناقضا ولا غرابة، وجمال الرد في هذا: ان الشعراء لهم ان يدعوا ما شاء لهم الخيال، وان التشبيه هنا للتأكيد والتقوية والإيضاح ولا يفوتني أن أنبه الأستاذ أنه ذكر أن مرد الغرابة في كلام الأستاذ الخولي أمران، ثم ذكر إحداهما ولم يذكر الاخر، فلعل في هذا المنسي الإلزام والإفحام، الإقناع والإمتاع!.

- 3 -

يقول الأستاذ الخولي:

(أ) هم يقولون إن بعض التعابير أوضح من بعض، فعلم البيان هو الذي يبين درجات الوضوح).

فيقول الأستاذ العماري (ليست وظيفة علم البيان البحث في درجات الوضوح) ثم يقول (هذا العلم له أبحاث كثيرة، قد يكون البحث في وضوح الدلالة أقلها).

فأي تهافت هذا وأي اضطراب: علم البيان لا يبحث في الوضوح والخفاء، علم البيان يبحث في هذا ولكن ليسٍ هذا وحده.

تعال - يا أستاذ - أين الخطأ في قول أستاذ الجامعة؟

هل عبارته تفيد أن علم البيان لا يبحث إلا في أمر الوضوح والخفاء كما تزعم؟. انه يقول (علم البيان هو الذي يبين هذا نعم هو ذاك فليس ذلك موكولا إلى علم المعاني أو علم البديع، ولكنه لم يقل إن هذا كل مباحث علم البيان يا دقيق!!

(ب) ويقول أستاذ الجامعة:

(والجملة تتكون من أجزاء سليمة، وهذا ما يكفله علم النحو) فيزعم الأستاذ العماري أن النحو (يبحث في سلامة التراكيب) و (أن الذي يبحث في المفردات إنما هو علم التصريف)

فليفرخ روعك يا صديقي فإن الكلمة في الجملة لها ناحيتان هيئتها من مادة وترتيب حروف وضبط وهذه للصرف، وناحية آخرها - إذ هي في جملة يا فتى! - وهذه للنحو.

وأستاذ الجامعة حين كفل النحو بذلك إنما أراد النحو والصرف، قال في الشافية: وأعلم إن التصريف جزء من النحو بلا خلاف بين أهل الصناعة).

ص: 36

(جـ) ويقول الأستاذ الخولي:

(والجملة قد تعرض عرضا متنوع الأنماط) فيصل الأستاذ المحقق إلى إنه كان يجب أن يقول: ومعنى الجملة. . . إلى آخره.

وذلك لا يخفى على غبي ولا لبيب.

يقول بشار:

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه

فقرر أستاذ الجامعة أن الشاعر قصد وراء التصوير وهو مداخلة السيوف ومزايلته والتماعها في العجاج، معنى نفسيا هو الحيرة والاضطراب فتشبيهه هذه الحالة بالليل تتساقط كواكبه مرشد قوي إلى هذا الخوف الذي يمتلك المحارب عند الالتحام وهياج العثير وانعقاده على رءوس الفرسان:

ولكن الأستاذ العماري ينكر هذا، وما كان لينكره لولا إنه يقتفي أثرا مضللا، فينقل ما كتب عند القاهر حرفا حرفا، ويسير وراءه إصبعاً إصبعاً، ومع هذا فإني أناشد شاعريته أيهما أليق بالشاعر: أن يكون مصورا نحاتا كما يريده القدامى أم يكون حساسا للظلال التي تحيط بالمرئى مشعرا لك بها في وضوح ونقاء كما يريد النقاد المحدثون؟

أحسب أن حكم الشاعرية لا يعضدك ولا يسندك وحسبي بها حكم.

كامل السيد شاهين

المدرس بالمدارس الأميرية

ص: 37

‌وفاء الشعراء.

. .

مسرحية من فصل واحد مهداة إلى صاحب السعادة عزيز

أباظة باشا

بمناسبة زواجه السعيد

(كان زواج الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا، بعد أن عاهد

روح زوجه الأولى على ألا تشغل امرأة بعدها بيته ولا قلبه،

حديث الأندية الأدبية حينا من الدهر، ثم انتقل الموضوع من

الحديث إلى الكتابة، فنظم فيه الشعراء ونثر الكتاب وأطلع

صاحب (الإناث الحائرة) على بعض ما كتب فسمح بنشره

واعدا أن يعقب برأيه على جملة ما ينشر)

المقدمة

الأشخاص:

1 -

عبد الرحمن صدقي: صاحب ديوان (من وحي المرأة)

2 -

عزيز أباظة باشا

3 -

سعاد

4 -

وداد

5 -

خالصة

6 -

نعمة

7 -

روح المرحومة زينب المستحضر

عبد الرحمن صدقي:

عزيز، فأين العهد أوثقت عقده

وأرسلته يدوي فيختال من عُجب؟

ص: 38

أحقاً، عزيز، قد تزوجت بعدها

أَأُنسيتَ بيتاُ ظل أنشودة الركب؟

(سألقاكِ لم يُشغل فراغ تركته

ببيتي، ولم يُملا مكانك في قلبي)

سعاد:

عزيز، لفقدها ذو اللب طاشا

وكان وفاءك العجب انتعاشا

إذا قاسوا وفاءك قلتُ: حِلاَّ

وان ذكروا شبهك قلت حاشا

أتبغي بعدها أُنساً بزوج

وتبني بعدما رحلت فراشا

وداد (تنادي سعاد مستفهمة)

سعاد؟

سعاد (تجيب): قد تزوج

وداد: لا

سعاد: وحقك

وداد: كيف؟

سعاد: لا ادري

فأين العهد؟ ويح العهد

زال كنشوة الخمر

أكان العهد مصنوعاً

بقصد رياضة الشعر؟!

وما عهد الرجال لنا؟

فكلهم إلى غدر

عهود دونها الأحلام

في إغفاءة الفجر

ستنفُضها رؤى اليقظات

عن جفن وعن فكر

خالصة:

ألا لا عهد إن غابت

عيون الإلف في القبر

سعاد:

ألا تعرفن قلب المر

ء بين أصابع الربْ

يقلْبه إذا ما شا

ء جلَّ مقلَّب القلب

عزيز باشا:

أيا ربّ مالي في قضائك حيلة

وإني إلى الرضوان منك لأحوج

ص: 39

وإنك أدرى بالنوايا، فإن ارم

سوى شرعك الهادي فإني أهوج

فهب لي رضاك المبتغى وسكينة

لقلبي، فلا يطغى ولا يتحرّج

لئن أنطقتني سورة الحزن ضَلَّةً

فعقل الفتى تحت الأسى يتلجلج

وما بيَ عيُّ عن جواب وإنما

أرى الصمت خيراً إلى إذا الحق ابلج

لئن كان شرع الله حنثاً ومأثماً

فما لامرئ من حوزة الإثم مخرج

يظنون لي غير الوفاء لزينب

ألست بأوفى اليوم، إذ أتزوج

رأيت رسول الله لي خير قدوة

وسنَّته للعقل والفضل منهج

عبد الرحمن صدقي:

يا ليت زينب أشرفت

من كوة الخلد البعيد

فترى العزيز وعرسه

فرحين بالعش السعيد

أنست جوارحه بها

وتذوقت معنى الجديد

أنجته من ألم الفراق

وأطفأت حرّ القصيد

عزيز باشا:

يا زين قد أقسمت ألا

أن تطلي وتعودي

جودي بوجهك وافصلي

ما بيننا بالله جودي

هل أنت راضية - أبيني -

عن وفائي والعهود؟

شبح الفقيدة زينب:

ويح الرشاد بدار اللهو واللعب

لقد تحكمت الأهواء بالأدب

كفُّوا السهام فما أصميتم أحداً

غيري بها، يا لها من نصرة عجب

أتمسكون برهبانية حرمت

والجاهلية في ظلّ النبي العربي

هل تنكرون إذن وحشية سلفت

يحدو بها قوماً في دجى الحقب

قوم إذا مات زوج عندهم دفنوا

رفيقه معه في ظلمة التراب

فهل تريدون بيتاً لا عماد له

وأي أنس ببيت موحش خرب

هل الوفاء سوى الذكر الجميل إلى

فعل النبيل وقصدِ طيب الحلب

نعمى:

ص: 40

ماذا نشاهد؟ أحلام وأوهام

أم روح زينب أم وحي والهام؟

سعاد:

بل رُوحها، جلَّ باريه ومرسليه

واليوم يستحضر الأرواح أقوام

تأتي وتنطق عن علم، وربّما

تلوح منها لبعض القوم أجسام

وداد:

أفزينب غضبى وهذا

زوجها لم يرْعَ إلاَّ!

أيسرها ما ساَءنا

من اجلها وتراه فضلا

سعاد:

لا تعجبي فالمرء في الأ

خرى يرى ما لا نرى

فلعلَّ ما تأبى عوا

طفنا يكون هو الهدى

خالصة:

يا زين لم ننكر عليه زواجه

لو لم يكن بالعهد شد رتاجه

أو ليس أجدر أن يبرّ بعهده

من أن يعود بعهده أدراجه

شبح زينب:

إلا إن شرع الله عهد موثوق

بأعناقكم لو تعلمون مهلّق

فذاك هو القسطاس. كل ألّية

تحيد بكم عنه فذلك موبق

ألم تحفظوا ما كان أوصى رسولكم

ولم يك يوما عن هوى منه ينطق

إذا المرء بالمكروه أبرم عهده

فحنثٌ وتفكيرٌ أحقّ وأواثق

عبد الرحمن صدقي:

صدقت ورب البيت. ليس بممسك

على خطل إلا الجهول وأحمق

وكائن نقضنا في الحياة عزائماً

إذا لم يكن في العزم حزم ومنطق

جميل ثبات في الفتى عند عزمه

وأجمل من ذاك الصواب الموفق

سعاد:

بوركت زينب عن فضلك

في الحياة وفي الممات

فلأنت افضل من عرفنا

من نساء مكرمات

ص: 41

أوتيت من فضل الخطاب

وفضل خير المحصَنات

شبح زينب:

عزيز، تمتع ما أباح لك الله

وودّك عندي راسخ لست أنساه

عليك سلام الله فاهنأ وبوركت

عروسك في أحلى نعيم واصفاه

وعند إله العرش مجمع شملنا

على خير ما يرضيه منا ونرضاه

(يتوارى شبح زينب وينشد عبد الرحمن صدقي مخاطبا عزيز باشا):

دم عزيزاً يا عزيز فلقد

نلت حظاً من ولاء ورشد

سعاد:

فلك التوفيق يسعى والرغد

في وفاء ورفاء وولد

وداد:

عشتما في الأمن من كيد الحسد

خالصة:

وشرور النافثات في العقد

نعمى:

ما أنار الكون مصباح الأبد

(دمشق)

مصطفى أحمد الزرقا

أستاذ الحقوق المدنية في الجامعة السورية

ص: 42

‌البريد الأدبي

قارئ منى، في إرشاد الأديب:

1 -

إلى السيد محمد حسين إسماعيل في البصرة:

قصة (القارئ) - يا أيها الفاضل الأديب - حق، وهل يمنع من صحتها مانع؟ وهذا الشاعر إنما شعر في الذي كان واشتهر، والأبيات رواها الخطيب في (تاريخ بغداد) - ج2ص237 - ولم يشر إلى حكاية، لم يزد عن الرواية، والشعر يشرح نفسه، ولم اعثر في مصنف طالعته على حديث ذاك القارئ، (ومن هوى الصدق في قولي وعادته)، صددت عن البناء عن الرجم، فمن يعرف من أهل الفضل ما غلب عنا فيشركنا - غير مأمور - فيما استفاد مشكورا. وغير ضائر - ونحن في التكلم على قاري منى - أن أروي مقال ياقوت في (منى) كيما يجئ في هذه الخرفشة أو الخربشة شيء مفيد. قال صاحب (معجم البلدان):

(منى بالكسر والتنوين. . . بليدة على فرسخ من مكة، طولها ميلان، تعمر أيام الموسم، وتخلو بقية السنة إلا ممن يحفظها. وقل أن يكون في الإسلام بلد مذكور إلا ولأهله بمنى مضرب. وعلى راس منى من نحو مكة عقبة ترمي عليها الجمرة يوم النحر، ومنى شعبان بينهما أزقة، والمسجد في الشارع الايمن، ومسجد الكبش بقرب العقبة، وبها مصانع وآبار وخانات وحوانيت، وهي بين جبلين مطلين عليها. وكان أبو الحسن الكرخي يحتج بجوار الجمعة بها لأنها ومكة كمصر واحد. فلما حج أبو بكر الجصاص ورأى بعد ما بينهما استضعف هذه العلة، وقال: هذه مصر من أمصار المسلمين تعمر وقتا. وتخلو وقتا، وخلوها لا يخرجها عن حد الأمصار، وعلى هذه العلة يعتمد أبو الحسن القزويني، قال البشاري: وسألني يوما كم يسكنها وسط السنة من الناس؟ قلت: عشرون إلى ثلاثين رجلا، وقلما تجد مضربا إلا وفيه امرأة تحفظه، فقال: صدق أبو بكر فيما علل. وقد ذكر منى الشعراء، قال العرجي:

نلبث حولا كاملا مله

ما نلتقي إلا على منهج

الحج إن حجت وماذا منى

وأهله إن هي لم تحجج؟)

قلت: تلكم (منى) بالأمس، فكيف اليوم حالها؟

2 -

إلى السيد عدنان أسعد في الزيتون:

ص: 43

لا ريب في أن اصل الأدب (والأدب من ذي الغيبة) هو (والأوب من ذي الغيبة) والدليل على ما ذهبت إليه أنت - أيها الفاضل الأديب - قريب وإن تباعد مني؛ فإن الناسخ القديم البارع (سامحه الله) أستبدل بالواو دالا ثم جاء الطابع فطبع. وأما بيت امرئ القيس فلا يظاهرك لكن قد يشايعني، وقول (الملك الضليل) هو الذي ضلل. . . وقوي (الغنم) عندي، فهو لم ير الإياب بل رضي من الغنيمة بالاياب، ولم تكن حاله كما قال في هذه البائية:

ألم أمض المطي بكل خرق

أمق الطول يلماع السراب

وأركب في اللهام المجر حتى

أنال مآكل القحم الرغاب

وقد طوفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

لم تكن حاله كما قال و (لم يركب الأهوال إلا لينال الآمال) فلما اخفق رضى من الغنيمة بالإياب. وكأن الغائب الآئب غير غانم أو رابح أو ناجح أو مستفيد لا تتم غبطته الأهل به. والأوبة البحت أو البحتة المجردة التي تسر العائد والمنتظر إنما هي أوبة الجندي من المعركة، من ميدان الحرب. . . (ومن نجا برأسه فقد ربح) - كما قال الشاعر في صفين - أو عودة الحبيبة - كما يقول العارفون - عند المحب وعندها. والسلام.

محمد إسعاف النشاشيبي

جواب:

كتب مجهول باسم مستعار لا وجود لصاحبه، يعلمنا أصول النقد وقواعده. . . ونحن نجاهد هؤلاء الإباحيين بأقلامنا جهادا، نرجو عليه ثواب المجاهدين، ولسنا ننقدهم نقدا. ثم إن النقد نحن أربابه، ونحن ألفنا فيه لنعلم الناس قواعده، وندلهم على أصوله، وما أنت منه يا هذا في قليل ولا كثير، فانصرف رحمك الله إلى ما تفهم، ودع النقد لأهله، ولولا إنك كتبت في (الرسالة)، لكان جوابك مني جواب الذي نبحني في آخر دقيقة وطن في أذني من شاطئ الفرات، و (سلاما)!

(دمشق)

علي الطنطاوي

رأي غريب لأديب:

ص: 44

لبعض القراء تعليقات على ما يقرءون، ولكن بعض الناس يرون من الغرابة أن تتبع القارئات المقالات الأدبية بشغف واهتمام، ويجدون ذلك دليلا على فقر صاحبته من الجمال، لان الجمال في رأيهم يغنيها عن هذا التتبع. هذا رأي أديب كتبه له أحد محرري مجلة الأسبوع، وهو رأي كما ترون غريب. فما العلاقة بين الأدب والجمال؟! وهل إذا دققت المرأة فيما تقرا وتذوقته عد ذلك دليلا على إنها ليست على جانب من الجمال تشتغل به؟!

غريب جدا هذا الرأي في الوقت الذي نشكو فيه من أمية القراء ونطلب الثقافة للجميع، واغرب منه أن يكون من أديب يفهم قيمة الأدب ويعرف مقدار الثقافة!

فما رأي الأدباء في رأي الأديب وفي نعيه على المرأة قراءتها للمجلات الأدبية؛ ثم ما رأي أديب مجلة الأسبوع فيما يريد أن تقرأه المرأة وما ينبغي لها أن تكون؟ أفتونا أفادكم الله فانه يخيل إلى إننا لا زلنا في ظلمات!

(قارئة بالمنصورة)

من الأمانة في العلم:

نشر الأستاذ المنجد (دور القران بدمشق) وترجم لأعلامه سوى بضعة رجال قال انه لم يعثر على تراجمهم:

1 -

الخضر بن كامل بن سالم بن سبيع الدمشقي السروجي المعبر (لا المقير) توفي في شوال سنة 608 على ما في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) ج5 ص33

2 -

أمين الدين أبو الغنائم سالم بن الحسن بن هبة الله الشافعي التغلبي الدمشقي. توفي في جمادى الآخرة سنة 637 عن ستين سنة، ودفن بتربته بقاسيون، وخلف ذرية صالحة أبقت ذكره. ترجم له أيضاً في (شذرات الذهب). ج5 ص184

وهو نجل الحافظ أبي المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري، المترجم له في (شذرات الذهب) ج4 ص285

3 -

أبو مسلم الكاتب محمد بن أحمد على البغدادي. توفي في مصر في ذي القعدة سنة 399ن له ترجمة كذلك في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) ج3 ص 156

4 -

محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن عبد العزيز البصروي. ولد ببصري، ثم تحول

ص: 45

لدمشق، واشتغل بالعلم حتى بلغ درجة الإفتاء، توفي بدمشق في أواخر سنة 871، ترجم له السخاوي في كتابه (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) ج7 ص295، وهو مذكور في ترجمة الخضيري (صاحب مدرسة القران المشهورة) من (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) ج9 ص117

عبد الرحمن محمد عبد الوهاب

ص: 46

‌القصص

كاتب العرائض. . .

للأستاذ نجاتي صدقي

تذكر جميل العكرماوي بعد مضي خمس وثلاثين سنة من عمره، أن والدته كانت تقول له في حداثته: والله يا بني لأزوجنك متى كبرت من فتاة شامية، جسمها أبيض مثل الثلج، وشعرها أشقر مثل الذهب، وخداها أحمران مثل التفاح، وكان هو يسمع كلام أمه هذا وعلى ثغره ابتسامة الحداثة البريئة.

وماتت أم جميل، وتعاقبت السنين، فكبر جميل، وتخطى العقد الثالث، وأناخ الدهر عليه بأثقاله وهمومه، فكان من البائسين المعدمين، يضطر إلى ممارسة كتابة العرائض كوسيلة للمعاش. . .

ورأس ماله في هذه المهنة: صندوق خشبي صغير، وكرسي أصغر، ومحفظة كرتونية، وقلم حبر، وداوة، والقليل من الأوراق، ونسخة من قانون العقوبات الجديد الذي نسخ قانون الجزاء العثماني القديم.

وبعد أن عمل في هذا الحق عشر سنوات، تمكن من ادخار بعض المال بفضل صفقات خاصة عقدها مع السذج من الفلاحين، وكان يخفي هذا المال في حزام لا ينفك يطوق خصره ليلا ونهارا. . . وذات يوم راح يخاطب نفسه: أنت وحيد يا جميل، وعليك أن تجد سبيلا قويما لتتدبر فيه أمر ما ادخرته من مال. . . هيا افتح لنفسك مكتبا يرفع من مكانتك بين الناس. . . كلا. كلا. . . لا هذا ولا ذاك. . . عليك أن تتزوج من امرأة غنية تستفيد من ثروتها واذكر ما كانت تقوله له المرحومة أمك:(والله لأزوجنك من فتاة شامية) وسرعان ما سافر إلى دمشق في طلب العروس.

حل جميل أفندي في فندق (أمية) في دمشق، وهو من اشهر فنادق العاصمة السورية، وسجل في دفتره اسمه:(جميل بك العكرماوي محام من القدس). . . وكان يضع على عينيه نظارة بسلسة ذهبية، ويلبس لباسا انيقا، ويثبت في ياقته دبوسا ثمينا، ويحلى أصابعه بخواتم ذهبية، وأشاع في الفندق بأنه أتى إلى دمشق يطلب زوجة.

وإذ علم سماسرة الزواج في دمشق أن في فندق (أمية) وجيها فلسطينيا يود الزواج من فتاة

ص: 47

مثرية، هرعوا إليه، وطرحوا خدماتهم عند قدميه.

وكان بطل قصتنا بحكم عمله ككاتب عرائض خبيرا بضروب الدجل والمخاتلة. فكان يستقبل سماسرة العرائس، ويكرم وفادتهم ويساومهم، ويستفهم عن الأسر القديمة الغنية، ويجمع عنها المعلومات المفصلة إلى أن قرر راية على خطبة بنت (. . .) باشا، وهي تنحدر من أسرة تركية عريقة استوطنت دمشق منذ أيام عبد الحميد، ثم أثرت، واستعربت.

وبعد مداولات مع أهل العروس، وهدايا متواصلة حملها جميل بك لابنة الباشا، وحديث مطول ألقاه على مسامعهم عن أملاكه في فلسطين في عين كارم والخليل. . . وبياراته في يافا واللد. . . وعن مكتبه الرئيسي في القدس، وفروعه المنتشرة في جميع أنحاء البلاد المقدسة. . . اقتنعت أسرة الباشا بمكانة جميل بك السامية، وكان له شريك في القدس يرسل إليه برقيات عن سير (القضايا) في دور المحاكم!. . .

وهكذا تم عقد قران ابنة الباشا على جميل بك العكرماوي في حفلة اقتصرت فيها الدعوة على الأقارب والأصدقاء، ثم رحل العروسان إلى لبنان ليقضيا شهر العسل في فندق (القاصوف) في ضهور الشوير. . . وطالما كان يحدث العريس عروسه وهما في مصيفهما الجميل هذا، عن أشهر مرافعاته في المحاكم محركا يديه، وملوحا بأكمام (الروب. . . دي شامبر)، ومتنقلا في الغرفة ذهابا وايابا، وكانت عروسه تستمع إلى طربة، وهي مستلقية على مقعد وثير طويل وقد عقدت يديها تحت رأسها.

وقالت له مرة: حدثتني كثيرا عن قضاياك. . . لكنك لم تحدثني قط عن حياتنا الزوجية في بلدك وكيف ستكون؟

قال: دعي الحديث عن حياتنا المقبلة، فقد صرنا الآن روحين في جسم واحد، أو جسمين تختلج فيها روح واحدة!. . . وثقي بأنني سأوفر لك جميع أسباب الرفاهية والسعادة في منزلي الجديد الذي ابنيه في حي القطمون في القدس. والآن أرجوك ترك هذا الموضوع الجاف، وهيا بنا إلى البستان لنأكل ما طاب لنا من الفاكهة.

وبعد انقضاء شهر العسل سافر العروسان إلى القدس، ونزلا في بيت حقير شبه قذر يعق في محلة (وادي الجوز). . . ولما وطئت قدما ابنة الباشا هذا البيت ارتدت إلى الخلف مذعورة وقالت: ما هذا الذي أراه يا ابن عمي؟!

ص: 48

قال: لا تضطربي. . . إنني متخاصم مع أهلي، وقد انفصلت عنهم مؤخرا، واضطررت إلى استئجار هذا البيت المفروش مؤقتا إلى ان يتم بناء بيتي الجديد في حي القطمو. . . وبيتي الجديد. . . عفوا. . . بيتنا الجديد، هو عبارة عن طابقين مبنيين من الحجر الأحمر المعرق، وله حديقة غناء مزروعة بأطيب الزهور والرياحين، وله أربع شرفات في جوانبه الأربعة، تطل إحداها على المدينة المقدسة، وتطل على هضاب بيت لحم، وتطل الثالثة على قرية المالحة، أما الرابعة فتطل على أحياء القدس العصرية، وسأفرشه بأفخر الأثاث المصنوع من خشب الزيتون.

ومر الأسبوع الأول، ثم تلاه الثاني والثالث، ثم اكتمل الشهر. . . وكل شيء باق على ما هو عليه ضمن الوعود المتواصلة وكانت سيارة تأتى إلى البيت في كل صباح لتقل جميل بك إلى عمله ثم تعيده مساء. . .

ويبدو أن إبنة الباشا قد خامرها بعض الشك في سلوك زوجها، فعقدت النية على أن تزوره في مكتبه وان تلح عليه بالذهاب معا لرؤية البيت الذي لم يكتمل بناؤه بعد. وراحت في أحد الأيام تبحث عنه وعن مكتبه بجوار المحاكم. . .

وهناك سالت أحد سعاة البريد عن مكتب المحامي جميل بك العكرماوي، فقال لها انه لم يسمع بهذا الاسم قط. . . ثم سالت غيره فتقلت منه الجواب ذاته. . . ثم سالت عنه أحد كتاب العرائض. . . فقهقه هذا وظنها عميلة جديدة وقعت في فخ زميله جميل. . . إنني لا أعرف جميل بك العكرماوي، لكنني اعرف جميل العكرماوي كاتب العرائض، وهذا هو ذا يجلس في تلك الزاوية من العمارة. . . وأنصحك بالا تكتبي عنده شيئا فهو شخص يغرر بالسذج من الناس وإنني لعلى استعداد بأن أتقاضي منك الأجر نصف ما يتقاضاه هو. . . يضاف إلى ذلك إنني اخذ على عاتقي ملاحقة قضيتك في جميع الدوائر، هلا أطلعتني أيتها السيدة على ما هية قضيتك هل هي جزائية. . . أو حقوقية. . .؟

وتركته المرأة مسرعة إلى حيث أشار، فرأت زوجها يضع ورقة على ركبته، والعرق يتصبب من جبينه، وهو يكتب رسالة لرجل فقير كسيح. . .

فصرخت. . . وخرت على الأرض مغمي عليها.

نجاتي صدقي

ص: 49

‌الكتب

دعوة في وقتها:

الرسالة الخالدة. .

بقلم الأستاذ عبد الحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية

عروض وتعليق

للأستاذ عبد المنعم خلاف

- 2 -

في أصول الدعوة

وهو يقرر في فصول الباب الأول من الكتاب أصول تلك الرسالة الخالدة، وهي تنحصر في دعامتين أثنيتن وهما الإيمان بالله الواحد والإحسان، فمن آمن بالله الواحد وعمل صالحا فهو مسلم متتبع لرسالة الله، سواء أكان قبل محمد أم بعده (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن!) والإحسان على معناه الأوسع الأعم الذي يشمل كل نشاط ينفع الناس ويعمر الدنيا.

وهذه الحقيقة وان كانت معروفة للخاصة من الناس إلا إنها لدى العامة مجهولة، ولذلك تأتي الآن في وقتها، وقت الدعوة إلى الإنسانية الجامعة والعالمية الشاملة التي لا بد فيها من فهم الدين على حقيقته فهما يجمع الناس ولا يفرقهم، ويعقد بينهم سباقا للخير كما يقول الله لأهل الأديان الثلاثة:(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، فاستبقوا الخيرات) لا سباقا إلى الشر والحروب كما يقول الشيطان. . .

وتقرير هذه الدعوة الآن بلسان زعيم من كبار زعماء المسلمين وأمين جامعة الدول العربية أمر له ما بعده! وشان جدير أن يخطو بالجامعة العربية والجامعة الإنسانية خطوات حثيثة.

والحق إن القران أتى في هذا الأمر بالعجب العجاب الذي لم تأت به فلسفة العصر من التسامح وفهم روح الدين.

ص: 51

والحق كذلك إن الأرض تحتاج مسيس الحاجة إلى وحدة اتجاه أهل الأديان الثلاثة السماوية أهل الدينين الكبيرين العامين منها المسيحية والإسلام بوجه خاص ليقاوموا عوامل الجحود والطغيان والتنكيل بميراث الإنسان.

والحق كذلك أنها دعوة مدخرة لسكان الشرق الأدنى من المسلمين والمسيحيين واليهود - ان تركوا مزاعم الصهيونية البغيضة - وقد نصر الله روح حضارتهم على روح الوثنيات دائما، وأخر معركة بين الروحين هي معركة اليابان التي ما كان أحد يدري ماذا كان يحدث لاتباع الأديان الثلاثة من انقلاب في مثلهم العليا الدينية الواحدة لو انتصرت اليابان واتت بموجات وثنيات الشرق الأقصى طاغية بها على بلاد المسيحيين والمسلمين واليهود؟!

وقد كنت كمسلم أخشى هذا وأتمنى أن ادعوا المسلمين وقت معركة اليابان إلى الفطنة لهذا المعنى واخذ نصيبهم من المعركة، لولا أن اقعد بي ملاحظة أن في هذه الدعوة ممالأة للإنجليز غاصبي بلدي وبلاد المستضعفين من قومي وغيرهم، مما يدعو الأحرار أن يتمنوا هزيمة أعداء الحرية ولو على يد الشيطان كما قال تشرتشل حين حالف روسيا العدو الأول للإمبراطورية البريطانية ضد الألمان. . .

وعزام باشا يثبت دائما هذا المعنى الجامع للمسلمين وأهل الكتاب خصوصا النصارى، ويدعو المسلمين والمسيحيين في الشرق بوجه خاص لينهضوا برسالة الإنسانية في العصر الحديث، وينادوا العالم إلى ما عندهم من الاخوة السامية على الأجناس والألوان والنعرات. وهو يقرر دائما ان التسامح هو السبيل الوحيد إلى تحقيق الوحدة العالمية، ولن يكون التسامح إلا بتوطيد الدعامة الثانية للدين وهي الإحسان المبني على اصلين عظيمين هما الرحمة والإخاء.

في الإصلاح الاجتماعي

يرى المؤلف في فصول هذا الباب الأربعة أن الإصلاح الاجتماعي في الإسلام على أربعة فصول: التطهير الخلقي للفرد، والتكافل بين الجماعة، والبر الذي يطارد الفقير والترف والربا، والعدالة والحرية اللتين هما ميزان الخليقة والشريعة. فأما التطهير الخلقي للفرد فهو نتيجة للعقيدة الخالصة بالله المتصف بجميع صفات الكمال والجمال والجلال، إذ العبد مأمور أن يتخلق بأخلاق الله ومطبوع على أن يقلد صفات سيده الذي لا شريك له ولا

ص: 52

سلطان مع سلطانه، فلا يتوجه قلب من يعرفه إلى غيره ولا يخشاه إذ تتساوى الخلائق في ملكوته وفي العبودية له. فالمؤمن شجاع صادق صريح جرئ في الحق مناضل للباطل والفساد، كريم، وفي ودود إلى آخر صفات المروءة والكمال.

وأما التكافل فهو مبني على مسئولية الفرد عن الجماعة ومسئولية الجماعة عن الفرد واعتبار المسئوليتين هما أولى الوسائل في الإصلاح الاجتماعي إذ بهما ينشأ (الرأي العام) الحارس لكيان الأمة البصير بمصالحها، الدافع للآفات عنها المعالج بالتشريع لما ينشأ من أدوائها.

وأما البر فهو الإحسان والمواساة للفقراء، والمتخلفين في المجتمع. والفقر هو مشكلة العصر ومادة حديث الدعوات السياسية والاجتماعية والبر نتيجة للتكافل الجماعي. ولم يجعل الدين الفقر سببا لازدراء صاحبه بل كانت أول مواساة الفقير هي شعوره بالمواساة مع غيره من الأغنياء. والفقير لعجز أو مرض جعل الدين مواساته وكفاية حاجاته حقا له على المجتمع (والذين في أموالهم حق للسائل والمحروم) والفقر لفقد الوسيلة إلى العمل جعل الدين علاجه واجبا على الدولة بإيجاد وسائل العمل والتكسب. والعمل هو الأصل وقد حض عليه الدين كثيرا.

وقد طارد الدين الترف في أعلى المجتمع والبؤس في أسفله ليجعل مستوى الحياة متناسقا، وكذلك حارب الاكتناز والربا والإسراف في الشهوات، واستعلاه طبقة طبقة؛ إذ المؤمن الصادق لا يضمر في نفسه انه خير من خادمه مع سيطرته عليه. وقد أعطى الإسلام سلطات واسعة لولي الأمر ليحقق البر والمساواة بين الناس، ودعا إلى البر بجميع الوسائل بالترغيب والرهيب، وجعل حق الفقير حق الله فهو مصون وليس لأحد أن يمن به. والبر والدين بر عام شامل لفقراء المسلمين وغيرهم لا فرق بين فقراء دين وفقراء آخر.

والحق في هذا الفصل بيانا واضحا لطرقة مكافحة الفقر بتثبيت قواعد البر وصوره في الضمير قبل ظواهر القوانين. وأما العدالة والحرية فهما مبدآن في السياسة وفي الدين الذي هو محطم القيود والأغلال الوهمية عن النفس البشرية، ولن يقوم مجتمع صالح إن لم يؤسس على بعض ميزانهما الذي لا يحابي الأحباب ولا يظلم الذين وقع عليهم البغض والشنآن.

ص: 53

والحرية في الإسلام من اقدس الحقوق في السياسة والفكر والدين والحياة المدنية، وهي مكفولة للصابئ والمجوسي واليهودي والنصراني والمسلم يقول ويكتب ما يشاء في حدود المصلحة العامة فلينظر من شاء كما يشاء في الكون ليستنبط لنفسه ما يراه حقيقة تطمئن نفسه إليها، ولا ملام عليه ولا جناح.

في العلاقات الدولية

في هذا الباب فصول ستة يتجلى بها الطابع الأصيل الذي غلب على حياة المؤلف كرجل سياسة من الطراز الأول، وقد أتى في فصوله بأبحاث بكر عن الدولة الإسلامية الأولى وتاريخ علاقتها بالمناهضين للإسلام، وحلل أولى معاهدة دولية بين المسلمين واليهود والوثنيين، وخرج منها بمبادئ تجعلها نموذجا قديما لعصبة الأمم الحديثة. ثم بين الدعاوي والأسباب التي جعلت الحرب الدفاعية أمرا لا مناص منه بين الدولة الإسلامية الناشئة والمناهضين لها، وبين تقييد الحرب في الإسلام بالأغراض السامية، سلبية كانت كدفع الظلم والاعتداء عن النفس وعن المظلوم أيا كان، أم إيجابية كالخير العام أو الصالح العام، لا يجوز أن تكون أغراضها هي التوسع في الملك أو الاستعمار أو تعجيز الآخرين لإضعافهم عن المنافسة في ميادين العيش، ولا العلو والاستكبار وحب البطش.

وبين أن الإسلام دين عملي يواجه الحقائق حين أباح الحرب لدفع العادية أو نصرة المظلوم، وما ورد في القران من آيات الشدة والغلظة على الأعداء وليس معناها الدعوة إلى الابتداء بالاعتداء وإنما هي تحميس للنفوس إذا وقعت الحرب فعلا ولم يكن مناص منها؛ لان الضعف والذل ظلم للنفس لا يرضاه الله بل يعاقب عليه. والحرب الهجومية لا يبيحها الإسلام مطلقا؛ والحرب المشروعة ضرورة تقدر بقدرها؛ فإن جنح الخصم للسلم فليجنح لها المسلمون متوكلين على الله، فالإسلام على استعداد دائم لعقد اتفاقات مع من شاء لصيانة السلم، ولا تخالف في الإثم والعدوان.

والمسيحية وإن حرمت الحرب تحريما قاطعا إلا أن الحياة العلمية التي واجهت المسيحيين جعلتهم يختلفون في تحريمها. فالكنيسة الشرقية احتلها بإسراف حين خلطت بين شخصية الرئاسة الدينية وشخصية الدولة الزمنية في شخص واحد فوضت إليه أن يعلنها كما يشاء، بينما حرمتها الكنيسة الغربية في القرون الأولى للمسيحية تحريما باتا حتى ولو كانت دفاعا

ص: 54

عن النفس.

وقد لجا المسيحيون أخيرا إلى شبيه بالنظرية الإسلامية التي جمعت بين ما يقتضيه إقامة صرح العدالة العالمية وما تقتضيه الرحمة والاخوة البشرية والأنصاف وكبح أهواء النفس الشريرة وجنون الدماء وإقامة السلام.

وقد وضع الإسلام آدابا عامة للحرب وآدابا خاصة حين فشل في القضاء على الحرب كما فشل في القضاء على الرق؛ لان تنظيم الشر الذي لابد منه خير. وقد أتى في هذه الآداب بما في طاقة البشر من السمو، وروح الفروسية والنبل ورحمة الأعداء وحماية حقوق المستأمن ومسالمة غير المحاربين ومجاملة رسل العدو والإحسان للاسرى، والترفع عن التخريب والإحراق وإيذاء الضعفاء وغير المحاربين، وقد امتلأ تاريخه بهذه الخلال التي تجعل الحرب كأنها ميدان لظهور مكارم الأخلاق ظهورا قد يغطي على ما فيها من سفك الدماء. . .

وقد أتى المؤلف في هذا الباب بنظرة جديدة في أحكام الأسر والاسترقاق تجعل استرقاق الأسرى لا سند له من القران والسنة الصحيحة، وقد انحنى بالحجج العقلية والنقلية على ما يقال من جواز القتل لعلة الكفر أو الشرك وحدهما، وبين أن هذا ينافي روح الإسلام الذي يقرر ان لا إكراه في الدين، وقد أمده التاريخ بنصوص وحوادث لا سبيل إلى الشك فيها.

وقد بين أن السلم الدائمة هي أساس العلاقات الدولية في نظر الإسلام، وان الحرب طارئة عليها. وقد دفع التهم والأوهام التي تزعم ان دعوة الإسلام قامت على السيف وتقوم به وان الإسلام بصفته دينا ودولة في حالة نزاع دائم مع من يخالفونه، وبين إن روح الإسلام السليمة واحدة في مكة أيام الضعف وفي المدينة في عهد القوة، وقد استشهد بالأجانب وبالتاريخ وقد بين أطراف العهود والمواثيق التي يمكن أن تقوم بين دولة إسلامية وغيرها سواء أكان ذلك الغير جماعة إسلامية أخرى أم جماعة معاهدة أم جماعة ليس بينها وبين المسلمين عهد.

ومن الأمور الهامة التي رأى فيها رأيا جديدا مسالة التخيير بين الإسلام والجزية والسيف؛ فقد بين ان هذه الحالات الثلاث التي كانت تعرض على الأعداء ليست آتية في عمل المسلمين على سبيل الحصر فقد وجدت اتفاقات وحالات سلم بين المسلمين وجيرانهم ودول

ص: 55

أخرى بغير أن يشترط فيها حالة من الحالات الثلاث. وحق أمام المسلمين وجماعتهم في عقد ما يرونه صالحا متفق عليه. فصلح الحديبية مثلا لم يشترط شيئا منها بل كان فيه شرط اعتبر إعطاء للدنية من المسلمين أمام المشركين المحاربين. وإنما كان الأمر المطرد الذي يلحظ في جميع اتفاقات الرسول صلى الله عليه وسلم هو القصد إلى نشر دعوته والوصول بها إلى الظهور بدون ان تعترضها قوة، وكثيرا ما كان الوصول إلى حالة سلم مستقرة هو الهدف الأسمى لتمكين الدعوة من الحرية اللازمة لظهورها. فلا يشترط شيء اخر، بل يكون شرط الجزية أو الإسلام مؤخرا ومانعا للتفاهم فيؤجل انتشار الدعوة التي سلاحها الوحيد إنها حق لا يقاومه جدل. ففي هذه الحالة يصبح شرط الإسلام أو الجزية مضرا ويكون فاسدا، وعلى ذلك ليس حقا أن إمام المسلمين أو جماعتهم ملزمون بإقامة السلم على شرطي الإسلام أو الجزية، وإلا كانوا في حالة حرب دائمة مع أكثر البشر وامتنع ظهور الإسلام كدعوة عالمية.

(البقية في العدد القادم)

عبد المنعم خلاف

ص: 56