الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 699
- بتاريخ: 25 - 11 - 1946
الإسلام والنظام العالمي الجديد
للأستاذ عباس محمود العقاد
هذه هي الدعوة الثانية من الهند في هذا الموضوع، وهو موضوع الإسلام وأحكامه التي تتكفل للعالم بنظام شامل يحل معضلاته ويوثق الروابط بين أممه ويبسط فيه الطمأنينة والسلام
وقد كتبت في (الرسالة) عن الدعوة الأولى لصاحبها المولى محمد على الكاتب الهندي المشهور ومترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية
وهذه هي الدعوة الثانية هي خطاب ألقاه ميرزا بشير الدين محمود أحمد في الاجتماع السنوي للجماعة الأحمدية بقاديان سنة 1942، ثم ترجم إلى اللغة الإنجليزية وعنيت الجماعة بنشره قبل بضعة شهور
ويبدو من مطالعة هذا الخطاب إن صاحبه يوجه النظام العالمي إلى حل مشكلة الفقر أو مشكلة الثروة وتوزيعها بين أمم العالم وأفراده، وأنه بغير شك على اطلاع واف محيط بالأنظمة الحديثة التي عولجت بها هذه المشكلة، وهي نظام الفاشية ونظام النازية ونظام الشيوعية، وبعض النظم الديمقراطية
ولكنه يعتقد بحق إن المشكلة لا تحل على أيدي الساسة وزعماء الأحزاب والحكومات، وأنه لا مناص من القوة الروحية في حل أمثال هذه المشكلات، لأن الحل الشامل لكل مشكلة إنسانية عامة يتناول الإنسان كله ولا يهمل فيه الباعث الأكبر على الطمأنينة والحماسة للخير والصلاح، وهو باعث العقيدة والأيمان.
وقد عرض للأديان الكبرى القائمة في الهند خاصة - والعالم عامة - من حيث علاقتها بهذه المشكلة وتدبير الحلول التي تزود العالم بنظام جديد افضل من نظامه المغضوب عليه، فأتى بالأدلة الكثيرة على انفراد الإسلام بينها بمزية الإصلاح وتعميمه بين جميع الأجناس والطبقات فيما مضى وفي هذا الزمن الحديث
فالديانات الهندية تعلم لإنسان إن تفاوت الطبقات قضاء من الأزل لا نجاة منه لمخلوق، لان الأرواح تنتقل من جسد إلى جسد جزاء لها على ما جنت في حياتها السابقة من السيئات والذنوب، فهي تخرج إلى الدنيا بنصيب محتوم لا يقبل التبديل ولا يحسن تبديله إذا
أستطيع - ولن يستطاع - لأنه هو سبيل التكفير والارتفاع من حياة إلى حياة. وقد جاء في قوانين مانو: (إن الفرد من طبقة السودرا لا يجمع الثراء ولو قدر عليه، لان ثراءه يؤلم نفوس البرهميين). فإذا ادخر بعض المال لحاجته التي تزيد على القوت والكساء حق للحكومة أن تجرده من ماله وتتركه للفاقة والكفاف، وهكذا تقوم الفواصل بين الطبقات المختلفة، وهي طبقات البرهمان والكشاتريا والفاشيا والسودرا وهم أخس الطبقات.
وتقضي القوانين البرهمية بسداد الديون بالعمل إذا كان الدائن والمدين من طبقة واحدة. فأما إذا كان المدين من طبقة أعلى من طبقة الدائن فلا سداد إلا بالنقد أو العين متى تيسر، ولا إلزام بالسداد قبل التيسير.
وتجب التفرقة بين الاخوة في حقوق الميراث إذا اختلفت أمهاتهم في الطبقة الاجتماعية. فيقسم الميراث كله إلى عشر حصص متساوية، ويعطي ابن البرهمانية أربعا وابن الكشاترية ثلاثا وابن الفاشية اثنتين وابن السودرا حصة واحدة على قدر ما يجوز له من الثراء
ومن حق البرهمان أن يستولي على ملك خادمه من السودرا لأنه وما ملك في طاعة مولاه.
فإذا كان الإصلاح العالمي محتاجا إلى حماسة العقيدة، وكانت هذه عقيدة المؤمنين بالديانات الهندية فلا رجاء فيها لعلاج مشكلة الفقر وأنصاف الطبقات المظلومة والتقريب بين الناس في حظوظ الحياة.
أما الإسرائيلية فهي بأحكامها المنصوص عليها في كتاب العهد القديم تخص اليهود ولا تعم الأمم جميعا بالمساواة. فحرام على اليهودي أن يقرض يهوديا بالربى ولا يحرم عليه أن يتقاضى الربى المضاعف من أبناء الأمم الأخرى. ولا يجوز استرقاق اليهودي طول حياته ولا تزيد مدته في الرق على سبع سنوات، ولكن استرقاق العبيد في الأمم الأخرى جائز في كل حال ولا حرج عليهم. وفي الإصحاح العشرين في سفر التثنية يقول العهد القديم لشعب إسرائيل: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن إجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهاك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك. . .
وأما مدن هذه الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما. . .).
هذه هي حدود المعاملة بين المؤمنين بالعهد القديم وسائر بني الإنسان، فإذا سادت هذه المبادئ فالأمم كلها عبيد مسخرة وأبناء إسرائيل وحدهم هم أصحاب السيادة والثراء.
والمسيحية كما هو معلوم لم تعرض لمسائل القانون ومسائل السياسة أو الاجتماع، ولهذا كانت دعوتها إلى الإسلام من الدعوات التي تصطدم بالواقع وتتمخض عن حروب لا تنقطع وحزازات بين الطبقات لا يهدأ لها أوار كما نرى في تاريخ أوربا الحديث والقديم.
لكن الإسلام يتناول مسائل الاجتماع ومسائل العلاقات بين المحاربين والمسالمين. فالمسلم يقاتل إذا ظلم واخرج من دياره ويأمره كتابه إذا ملك الأرض أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وان الله على نصرهم لقدير، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع صلوات ومساجد يُذكر اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
لا يجيز الإسلام للنبي أن يكون له أسرى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم).
ثم هو يستحب المسلم المن والفداء (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فأما منَّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها).
ومن بقي في الأسر وطلب المكاتبة فقبول طلبه واجب على مولاه (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
ولا مطمع في معاملة بين الشعوب المتعادية أعدل من هذه المعاملة واقرب منها إلى إزالة العدو والبغضاء. فأما المعاملة بين المسلمين فهي كفيلة بأنصاف جميع الطبقات؛ لان الناس يتفاضلون بالأعمال الصالحة ولا يتفاضلون بالمظاهر والأنساب. وينكر الإسلام الجور في توزيع الثروة فلا يجيز لأحد أن يكنز الذهب والفضة قناطير مقنطرة. ومن جمع مالا وجب عليه أن يؤدي زكاة للفقراء والمساكين ومصالح الجماعة بأسرها، وعليه أن يعين مني طلب منه العون قرضا حسنا لا مضاعفة في للربا ولا تجاوز فيه لمكاسب البيع والشراء،
فلا تطفيف للكيل ولا مغالاة بالربح ولا مماسكة ولا خداع، وكل يجزي بعمله وسعيه دون إيثار لأحد على أحد في خيرات الأرض جميعا. . . (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) فلا يزعمن إنسان أو جمع من الناس أنه أحق بالأرض سواه.
فالنظام العالمي لا يعتمد على عقيدة اصلح لتعمميه وحض النفوس عليه من العقيدة الإسلامية، وقد أجاز الإسلام الوصية وندب له المسلمين في بعض الحالات. فإن قصرت موارد الزكاة فموارد الوصية لا تضيق بما يطلب منها، لأنها تشمل جميع الأموال والعروض، وقد حث (الميرزا أحمد القادياني) اتباعه على التوصية بمقدار من ثرواتهم يتراوح بين عشرها وثلثها، للإنفاق منها على الدعوة والإصلاح.
ولم يقصر المؤلف - أو صاحب الخطاب - مقابلاته ومقارناته على العقائد الدينية التي أجملنا الإشارة إليها فيما أسلفناه؛ ولكنه خصها بالعناية لان العقيدة كما قال هي أمل الإصلاح الوحيد، ونظر معها إلى النظم السياسية والاجتماعية فإذا هي قاصرة عن بغيتها من الوجهة العملية والوجهة الروحية على السواء.
فالفاشية - ومثلها النازية - لا تؤسس نظاما عالميا مكفول الدوام لأنه تقوم على تفضيل الجنس والعصبية القومية. فلا مكان فيها لأمم العمال غير الخضوع والتسليم للجنس الذي يزعمون له حق السيادة والرجحان.
والشيوعية تعطل البواعث الفردية وتسلب النفس حوافز الاجتهاد وتجعل الحياة مادة في مادة لا يتخللها قبس من عالم الروح، وتأخذ للدولة كل ما زاد من ثمرات الأفراد، ولم تفلح مع هذا في أنصاف العاملين، لان السادة في روسيا الشيوعية طبقات فوق طبقات في الترف والمتاع، وقد روي الصحفيون إن وليمة الدولة للمستر ويلكي مدن فيها ستون صفحة من ألوان الطعام، فهل يجعلون هذه المائدة مثلا يقتدي به المقتدون؟ أو هي بذخ مقصور على فريق من الضيوف دون فريق؟
والترجمة الإنجليزية التي شملت على تفصيل هذه الخلاصة تقع في مائة صفحة من القطع المتوسط وبعض صفحات، ونحسبها صيحة لا تذهب في الهواء إذا انتشرت بين قراء الإنجليزية الأوربيين والأمريكيين بل الهنديين والشرقيين، ولكننا نقرا فيها إن مؤلفها يلقب بأمير المؤمنين وإنه الخليفة الثاني للمسيح الموعود، ومعنى ذلك أنه من فريق القاديانية
الذين يدينون برسالة (مسيحية) أو مهدية للقادياني ولا يكتفون له بوصف الاجتهاد كما اكتفى المولى محمد علي وأصحابه من الهنود المسلمين. فنعجب لهذه الألقاب التي تحيط الدعوة بين المسلمين أنفسهم بأسباب الحبوط والإنكار، ونسأل: ما هو موضع هذه المسيحية الجديدة أو هذه الخلافة إذا كانت الحجج التي ساقها المؤلف كلها من المراجع الإسلامية الأولى ولا زيادة عليها من وحي جديد؟
فخير للدعوة أن تقصي عنها هذه الألقاب التي لا تزيدها قوة وتأخذ منها كثيرا من قوتها بين المسلمين أنفسهم، فضلا عن غير المسلمين.
عباس محمود العقاد
وفاة الملك الظاهر ودفنه
للأستاذ أحمد رمزي بك
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون)(سورة فصلت الآية 30)
أيه أيتها الليلة الظلماء القاتمة السواد لماذا فجرك يتأنى ويتمهل؟ وأين صبح نهارك؟ لماذا لا يشرق؟
وأنت يا موكب الحزن الشامل مالك لا تزال مرابطا بأشباحك السود على أبراج قلعة دمشق وعلى جدران القصر الأبلق؟
أين الطبول والدبادب التي كانت تقرع على أسوار الحصون والقلاع؟
أين آلات الحرب والكراع التي كانت تدك معاقل الإفرنج ما لها قد سكتت؟
أين الأعلام وأين السيوف؟ أتراها قد نكست وأغمدت لدى مصرع الملك الشهيد الراحل، وتنزلت أرواح الشهداء من الأمراء والجند بأمر الرحمن تحمل أرياح الجنة إلى قلعة دمشق تحيي بطل الفتوح وسيد المعارك الذي قادها إلى النصر والشهادة.
إنه يرقد بداخل تابوت تراه معلقا وسط قاعة من قاعات الجند. أنه الملك الظاهر الذي لم تكن تحويه الدنيا بأسرها.
في ساعة بعد الزوال من يوم الخميس 17 المحرم سنة 676هـ (يوليه 1277 ميلادية) في حجرة من حجرات القصر الأبلق ومكانه اليوم التكية السليمانية بمدينة دمشق فاضت روح الملك الظاهر أبو الفتوح بيبرس بعد مرض بسيط لم يمهله غير أيام معدودات، وبموته انتهت حياة اعظم ملوك مصر والشام وطرا في عصرهما الإسلامي العربي المجيد لا بل في جميع اعصر التاريخ.
وكان السلطان العظيم قد دخل دمشق على راس جيشه الظافر عائدا من الجهاد عن طريق إنطاكية يحمل على جبينه غار النصر في آخر حملة قادها إلى أواسط آسيا الصغرى حيث حارب وقاتل وقارع وانتصر، ودخل مدينة قيصرية، وخطب باسمه على منابر أرض الروم بعد أن كسر التتار هناك وشتت شملهم، وحرر بلاد المسلمين من طغيانهم. ويقول مؤلف سيرته القاضي محي الدين بن عبد الظاهر:
(دخل دمشق معتقدا إن الدنيا في يده قد حصلت، وأن سعده استخلص له الأيام والليالي والممالك شرقاً وغرباً)، ولكن المنية كانت على مقربة منه كما قال تعالى:(حتى إذا فرحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتة) سورة الأنعام.
وكان رحمه الله ورضوانه عليه بطل من أبطال الإسلام أمضى العمر مجاهدا في سبيل الله ذائدا عن دينه وصفه المعاصرون فقالوا (كان طويل القامة أسمر اللون أزرق العينين أشعر اللحية جهوري الصوت شديد الهيبة تخضع له اسود الرجال وكان خفيف الركاب سريع الحركة لا يستقر في جهة حتى يظهر في جهة أخرى).
يوماً بمصر ويوماً بالحجاز ويو
…
ماً بالشام ويوماً في قرى حلب
كان رجلا من رجال الله يحمل بين جنبيه قلباً لا يعرف المخاوف ولا ترهبه الأخطار، وكان بعيد الهمة عظيم الآمال يقدم بطبعه على عظائم الأمور ويرحب بالمجازفة ومقارعة الأخطار، يواجهها وهو ثابت مطمئن ويدفعها بالهدوء الذي يلازم النفس المطمئنة ذات النظرة النافذة التي لا تحيد عن الهدف ولا ترتد، والتي تشعر بأن لصاحبها من القوى الكامنة والظاهرة ما يجعله يسيطر على حوادث الزمن، وان فيه من صفات الرجولة ما يجعله بطلا من أبطال العالم، وإنها تشعرك بان لوازم القيادة متأصلة فيه، فهي التي أوصلته أن يتحكم على نفسه ويقودها كما يشاء ثم مكنته أن قاد الناس معه.
كان من أبطال المسلمين المؤمنين بعظمة الإسلام لا ينفك يفكر فيه ويخفق قلبه له، فهو من أولئك الذين إذا قاموا بعمل عظيم وضعوا كل شيء في سبيل تحقيقه والوصول إليه. هؤلاء ليس لهم أن يختاروا من الأمور أوسطها وأسهلها أو يقفوا بين طريقين مترددين وجلين؛ لم يكن من أولئك الذين تشغلهم أمور الدنيا فترى الواحد يوزع جهوده ذات اليمين وذات اليسار. بل كان في الطريق الذي يضع عقله وروحه وما يملك في إتمام ما بدأ فيه ويحشد عواطفه وغرائزه، في تأكيد إرادته نحو الغاية التي ينشدها، فكان أن وصل بالإيمان والثقة إلى أن تملكته نفحة من تلك النفحات الدافعة التي يسبغها المولى على من اختار من عباده، فأصبحت هذه النفحة غريزة في خلقه وقوة نفسه ودمه، تحركه للعمل والجهاد في سبيل وخدمة دينه ونصرة كلمته، فغدا بهذه النفحة قوة من قوى الخالق جل شأنه (آني لهذا أقمتك لكي أرى قوتي فيك).
عجب الناس له: إذ رأوه ملكا على اعظم ما تكون الملوك عليه هيبة ووقارا، قائدا على اعظم ما يكون عليه القواد أمام الأخطار والمعارك، ساس الملك وخاض المعارك فأدهش الدنيا بملكه وعظمته، وأدهشتها بفتوحاته وانتصاراته ومواقعه الحاسمة الفاصلة. حكم فعدل، وخطب باسمه في مشارق الأرض ومغاربها وأعاد الخلافة العباسية، وقاد الجند في الحروب فما من معركة دخلها ذد الإفرنج أو التتار إلا وانتزع النصر من أيدي أعدائه، فحطم قلاعه وحصونهم وساق الملوك والأمراء والقادة أسرى بين يديه. لهذا بقيت صورة الملك الظاهر حية خلال الاعصر، ولهذا صاحب أعماله السنين، وبقيت خالدة مع الزمن راسخة في قلوب الناس جيلا بعد جيل يتناقلها الخلف عن السلف ويسمر بسيرته الرجال.
ألم تر السامعين لسيرته. ما الذي يجمعهم حولها ويجعلهم يأنسون بها؟ انهم يلتمسون من عزيمته وعزمه ما يقوي عزيمتهم وعزمهم، وانهم يرون في صبره وإقدامه وشجاعته ما يخفف من وقع الأحداث والنوائب عليهم، ولذلك عاشت سيرته وأعماله وأصبحت أعماله مضرب الأمثال، وأطلت شخصيته من وراء الأجيال والقرون تحدث الناس بدوري البطولة والمجد.
وفي ليلة وفاته كتب مؤلف سيرته: (قبض الله روحه الزكية فرجعت إلى ربها راضية مرضية، وكأن نفوس العالم كانت نفساً، وانزل الله السكينة فلا تسمع إلا همساً، واستصحب نهايته السكوت، وخادعت العقول نفسها بين مصدق ومكذب، وسكتت الشفاه والألسنة، وتناومت النفوس من غير نوم ولا سنة، وأسدلت ستور المهابة، وافرد بقاعه من القلعة يوماً إليه بالترحم والسلام، ولا يزوره غير الملائكة الكرام، وكانت مدة مرضه قدس الله روحه ثلاثة عشر يوما، وهي مدة مرض الشهيد صلاح الدين رحمهما الله تعالى).
وفي قاعة من بيوت الجند من المماليك البحرية بقلعة دمشق وضع جثمان الملك الظاهر في تابوت بعد أن تولى غسله وتصبيره وتكفينه خادمه الخاص الشجاع عنبر، وساعد المؤذن كمال الدين علي المنيحي بحضور الأمير عز الدين الافرم، وبقي التابوت معلقا حتى شهر رجب من تلك السنة حينما جاء وفد من القاهرة لدفنه بتربته التي أنشئت بالمدرسة الظاهرية. ذكر صاحب البداية والنهاية: إن العمارة بدأت في يوم السبت تاسع جمادي الأولى في مكان الدار المجاورة لحمام العقيقي تجاه المدرسة العادلية ووضعت أسس التربة
في خامس جمادى الآخرة.
عندئذ أوفد ابنه الملك السعيد: الأمير علم الدين سنجر والطواشي صفي الدين جوهر الهندي فوصلا من مصر إلى دمشق، ولما كانت ليلة الجمعة الخامس عشر من رجب سنة 676هـ حمل نعش الملك الظاهر من القلعة ليلا على أعناق الرجال:
خرجوا به فوق الرقاب وساروا
…
تهديهم من وجهه الأنوار
وسروا به ليلا ليخفوا قبره
…
والليل لا تخفى به الأقمار
هم سارعوا نحو الثرى بعبيره
…
وقبوره الأسماع والأبصار
عندئذ أوفد ابنه الملك السعيد: الأمير علم الدين سنجر والطواشي صفي الدين جوهر الهندي فوصلا من مصر إلى دمشق، ولما كانت ليلة الجمعة الخامس عشر من رجب سنة 676هـ حمل نعش الملك الظاهر من القلعة ليلا على أعناق الرجال:
خرجوا به فوق الرقاب وساروا
…
تهديهم من وجهه الأنوار
وسروا به ليلا ليخفوا قبره
…
والليل لا تخفى به الأقمار
هم سارعوا نحو الثرى بعبيره
…
وقبوره الأسماع والأبصار
وسارت جنازته إلى صحن الجامع الأموي للصلاة عليه، ولما انتصف الليل خرجوا به يتقدمهم نائب السلطنة المصرية بالشام الأمير عز الدين أيدمر ومعه أمراء جند الشام وتوجهوا به إلى المدرسة الظاهرية ثم إلى التربة التي أنشئت له، وهناك ألحده. قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ. ولما ارقد رقدته النهائية بدأ القراء مستفتحين بالآية الكريمة (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا وألا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون)، ولقد زرت هذا الضريح ووصفته على حالته بعدد (الرسالة) 470 المؤرخ 23 نوفمبر سنة 1942، وكنت لا أدخل دمشق إلا جعلت من برنامجي زيارة هذا القبر الطاهر والوقوف أمامه أرتل قول القائل نقلا عن ابن الفرات:
صاح هذا ضريحه بين جفنيّ
…
فزوروا من كل فج عميق
وهو القائل أيضا: (إن الأسف تجدد بدفنه فكان العالم فجعوا بأبيهم الشفوق، وقضوا حق التعزية وأنى يقضي أحد ما له من الحقوق).
ولقد تقلبت بي الأيام وتنقلت بين بلدان كثيرة وأتيت من كلف فج عميق لأجدد عهد
الإخلاص أمام الملك الظاهر أعظم ملوك الإسلام المجاهدين المرابطين، فمن وجدت بقعة أوحت إلي وملأت روحي مثل هذه البقعة وقبر صلاح الدين. لقد جعلاني أومن بحق الوطن الخالد وعظمة مصر قلب العروبة والإسلام وأوحت كل منها إلى بالدوافع النفسية للعمل وعرفتني مكانة بلادي في التاريخ إن القوى الكامنة فيها لا تقهر وإنها سوف تظهر للعالم وتكتب في تاريخ العرب والمسلمين صفحة جديدة، وستبعث بعثاً جديداً بإذن الله.
إلى هذه التربة أنتهى مسير جثمانه الطاهر ليرقد رقدته الأبدية إلى يوم البعث إذ هناك يرقد بطل المنصورة وعين جالوت وصاحب الفتوحات الكبرى: قيصرية وارسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وإنطاكية وحصن الأكراد، وغيرها من البلاد والحصون والقلاع، صاحب مصر والشام وبرقة والحجاز والنوب وأرض الفرات:
تدبر الملك من مصر إلى يمن
…
إلى العراق وارض الروم والنوبي
ولن اترك الظاهرية من غير أن أشير إلى ما ذكره اليونيني في تاريخه عن أول درس للشريعة ألقى بها بعد بنائها إذ قال:
(وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر كان أول درس بها ترأسه نائب السلطنة المصرية بالشام، وكان درسا حافلا حضره القضاة وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين محمود بن الفارائي، ومدرس الحنفية صدر الدين سليمان، ولما توفي تولى بعده حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن أنو شروان الرازي الحنفي الذي كان قاضياً بمدينة مطلية).
ها قد عشت يوماً من أيام الملك الظاهر فانظر أثابك الله إلى آثار ذلك العهد وإلى علمائه وتعجب لحالنا اليوم وما نحن فيه.
فهل فكر أهل مصر والشام في الظاهرية والملك العظيم المدفون بداخلها؟ هل أعطيت له مكانة البطولة التي يستحقها في التاريخ؟ أنظر إلى الحجر الرخامي على الباب تجده من عمل أحد الولاة بدمشق فيه شعر ركيك بالعربية وبالتركية يكيل المدح، وينسى واضعه أن يذكر صاحب المدرسة والتربة بكلمة واحدة. ومن نكد الدنيا إن الوقفية على المدرسة الظاهرية منقوشة على أحجار البناء على الباب الكبير، ولكن هذا لم يمنع الولاة والغاضبين من أن يحرموا الظاهرية من القرى الموقوفة على دروس الدين. أني استحي من نفسي وأخشى أن يقراني العالم إذا ذكرت للناس أسماء الضياع وأسماء من أغتصبها: رحم الله
الإسلام والمسلمين ووقانا من شر أعمالنا.
قضي وله على الدنيا أيادٍ
…
يصح بها من الزمن السقام
فراح من الملائك في صفوف
…
لهم من حول تربته زحام
أحمد رمزي
إلى وزارة المعارف:
وعلى هذا فنحن ندور. . .
للأستاذ كامل السيد شاهين
وها هو ذا العام الدراسي قد ابتدأ، بعد أن تحيفته عوامل وأسباب نستكره الخوض فيها، ونرجو أن تكون عوامل خير واستعداد وتهيؤ لا عوامل تخوف واستيحاش وإجفال.
بدا العام الدراسي بعد شهور خمسة قضتها الوزارة في فتح المدارس وتنظيم المصروفات، وإجراء التنقلات والترقيات، وغير هذا مما هو من نصيب المدرس أو الناظر أو المفتش أو المراقب، وكلهم - بحمد الله - يقظ، مفتح العين، مترقب عامل دءوب، متنسم لأخبار الترقيات والعلاوات، متخصص في تطبيق (الكادر) سباق إلى ذوي الخطوة المقربين ليقفز درجة أو ينال مرتبة.
وقد أبلت وزارة المعارف بلاءها السنوي، فنال من نال، وحرم من حرم، وبات الجميع بين مفطور القلب أسوان، ومفتر الثغر فرحان. فآما الذي نسيته الوزارة والقوامون على تصريف شئونها، وأغفلته شر إغفال، ولم يذكرها به مذكر، فذهب ضياعا وراح هدرا، فهو حق التلميذ. فللتلميذ الحق الأول لدى وزارة المعارف؛ وليس حقه هذا في مصروفات تزاد أو تنقص، ولا في غذاء يخفف أو يجود، فالخطب في المال يسير، وهو في الغذاء ايسر، وما كان أمر المال أو الطعام بالأمر الذي يدخل في اختصاص وزارتنا في الصميم، وإنما حقه في تيسير العلم، وترقية الطرق، وتغذية المواهب، وحل المشكلات، والتجانف عن التعقيد والالتواء. وإماطة الأشواك المربكة لعقله، والمعوقة لفهمه، وتنقية الكتب من الطفيليات العلمية التي تتعلق بالأصول المفيدة، فتحد من إفادتها وتقلل من قيمتها.
وما كانت وزارة المعارف - وحاشاها - أن تلتف إلى حق التلميذ هذا، وكيف تلتف وصاحب الحق قاصر، والقوام عليه مشتغل بشأنه عنه؟ وكيف تلتف، وهذه اللفتة لا تفيدها ضجيجاً ولا تلفت إليها الأنظار، ولا تخرجها إلى عالم لا يسمع إلا الفرقعة المدوية، والانفجار الهائل؟
وكيف تلتفت، وهذه اللفتة لا تفيدها ثناء ولا إطراء، ولا تجر إليها إعجابا ولا إكبارا؟ وهي بمنجاة من اللوم، فصاحب الحق خافت الصوت لا يعرف حقه ولا يدريه!
ابتدأ العام الدراسي ونظرنا فإذا المقررات هي هي، وإذا الكتب هي هي، منذ عشرة أعوام حتى لكأنما سار هذا الموكب الحافل من المدرسين والمفتشين طوالها لا يلمسون عيباً، ولا يحسون عوجاً، ولا يرضون عنه بديلاً. وكأنما رضوا أما آتاهم المفتشون ولصقاؤهم من كتب خالدة باقية على الزمن يتغير كل شيء ولا تتغير، وتعيش في جو يجر التلميذ والمدرس إليه كرهوا أو رضوا، تعبوا أم استراحوا فإنما هو تأليف فلان أو فلان من الخيرة الأعلام الراسخي الأقدام!
يتغير كل شيء ويتطور، وتخرب الأرض وتعمر، وتقوم الحرب وتضع أوزارها، وتثور الشعوب وتخمد ثورتها، والكتب المدرسية ماضية فيما هي لا تتأثر بهذه الأحداث، وأي عيب في هذا؟
أليست حقائق الأشياء ثابتة ما لها من زوال؟
لقد بحت أصواتنا - حن المدرسين - أن أدركوا الناشئة من التلاميذ التي جنت عليها الدراسات العقيمة في الأدب والقواعد الجافة التي لا تخرج عن إنها مضيعة للوقت ومفسدة للعقل، فقالوا: هدامون نسافون مخربون، فجئنا لهم بالأحجار والملاط، وقلنا لهم شيدوا! أولا، فأفسحوا لنا المجال لنشيد بعيدا عن تحكم المفتشين، وعجرفة المناهج، فأبوا إلا مضياً في الفساد، ورجفت قلوبهم من التغيير والتجديد. وهاأنذا أضع بين يدي القارئين طرفا من هذا العوج حتى يلبوا القائمين على شئون التعليم بوزارة المعارف، ويردوهم إلى شيء من التبصر في أمر هذه الناشئة.
فالتلاميذ في المدارس الثانوية يدرسون أدب اللغة العربية على طريقة التلقين فالحفظ من غير تذوق الإدراك، ولا إحاطة بملابسات العصر المدروس، في كتب مضغوطة محشوة، وكثيرا ما يلجأ المدرس إلى بترها أو مسخها أو سلخها، فيزيد من غموضها وإنبهامها، ويخرج التلميذ بجمل في كل شاعر أو خطيب لا تبقى معه ريثما يخطها على ورقيته ثم يفرق الله بينهما ابد الآبدين.
وقد اقترحنا علاج هذه المشكلة بأن يقرر مع العصر روايات لها فائدتها في إنارة العصر المدروس وأحواله الاجتماعية، فرب رواية تكون أجدى على التلميذ من قراءة كتب من موسوعات أدب اللغة.
اقترحنا أن تقرر رواية (عنترة بن شداد) مع العصر الجاهلي، ورواية (شاعر الملك) مع العصر الأندلسي، ورواية (فارس بني حمدان) مع العصر الثاني العباسي، وأن تنشأ روايات أخرى لهذا الغرض عينه يراعي فيها الإكثار من الشواهد، والتحري لطابع العصر، فلذلك فائدته وجدواه، وقلنا: إن التاريخ الأدبي مغلول بالتاريخ السياسي مقيد به، ومع اعترافنا بقيم الأحداث السياسية، فإننا نرى إن متابعة تاريخ الأدب للتاريخ السياسي خطوة خطوة وشبرا شبرا مما يتضمن الإسراف على حقائق الأدب وتطوره إلى ابعد مدى.
وقلنا: إن الدراسات النثرية في الأدب لم تأخذ حظها وافيا من الدراسة وأن الشعراء خطوا خطوة واسعة، على حين أهمل أمر كثير من الكتاب. ولو إننا تتبعنا الأعمدة التي وضعها الكاتبون في أدب اللغة لتطور الكتابة لوجدناهم قد راعوا ناحية الوظيفة، فجعلوا من الكتاب (الموظفين) أعمدة على حين بقي غيرهم لا يعرف ولا يشار إليه، ففي هذه الطريق تجد (عبد الحميد) وهو موظف، ثم بعده تجد ابن العميد ثم بعدهما تجد القاضي الفاضل، وهما موظفان كذلك. فيملأ العجب جوانحك وتتساءل في استغراب ودهش: أين إبراهيم ابن المهدي، وهو ذو أسلوب في النثر مبتدع؟ وأين الجاحظ سيد كتاب عصره، والذي سوى لنفسه طريقة لا تزال تؤتسى إلى يوم الناس هذا. وهذان مثلان من مثل كثيرة، ليس هذا مقام تتبعها وأياً ما كان، فإنه يجب أن يخطط تاريخ الكتابة تخطيطا جديدا، ويخص بقسط من العناية أوفى.
قلنا هذا كله؛ وسمعنا إطراء وثناء وبدت لنا الآذان مفتحة والنفوس منشرحة ووعدنا بالنظر، فكان النظر في كل شيء إلا في حق التلميذ فقد بقى (على قدمه)، كأنما هذا الذي بين يديه، غاية الغايات وآية الآيات!
وقلنا إن المستوى الإنشائي للتلاميذ غير مناسب، فيجب أن تقرر عليهم روايات أخرى تنزع بهم إلى ترقية الأسلوب وتذوق الجمال في الآثار الأدبي (كآلام فرتر) و (روفائيل) وكتب فيها مقالات امشاج، تذهب في علاج نواحي اجتماعية أو سياسية في أسلوب أدبي راق (كفيض الخاطر) و (مختار البشري) على أن يكون لها نصيب من الدرجات حتى يرغم التلميذ على قراءتها وإجادتها وتذوقها والإفادة منها.
ونحن إذ نهيب بوزارة المعارف أن تولى أمر المناهج والمعلومات التي يتلقاها التلاميذ
عنايتها إنما ينفعل بدافع من هذا الأسف الممض الذي يعتصر قلوبنا اعتصاراً على نابتة تنفخ في غير فحم ولا تسير في طريقها على أمم!
ولي عودة إلى مناهج التعليم الابتدائي إن شاء الله.
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس أل أميرية
مجالس الأدب:
في إحدى ليالي رمضان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
(نثبت فيما يلي نص الحوار الطريف الذي دار بين ثلاثة من
أدباء مصر وشعرائها في إحدى ليالي رمضان كما أذاعته
محطة الشرق الأدنى). . .
5 -
المعري والجن
وما رأي المعري في الجن يا أستاذ كامل؟
كامل: يقول:
فأخْشََ المليكَ ولا تَقْعُد على رهَب
…
إن أنت بالجن في الظلماء خُشَّيتا
فإنما تلك أخبارٌ مُلفَّقَةٌ
…
لخدعة الجاهل الحوشيَّ، حوشيتا
6 -
شكوى ابن الرومي
عماد: قل لي يا أستاذ كامل. هل كان ابن الرومي كالمعري يصوم أيضاً؟
كامل: كان المعري يصوم الدهر مختاراً. وكان ابن الرومي يكاد يصوم الدهر مضطراً، لأنه لم يكد يظفر بالقوت.
عماد: إذ يقول يا أستاذ كامل؟
كامل: (فلو كَفَّ قوتي ماءَ وجهي صُنْتُه).
أو يقول:
(لا تَعجبنَّ لمرزوق أخي هوج
…
حظاً تخطَّى أصيل الرأي طرَّافا
فخالِق الناس أعراءً بلا وَبرِ
…
كاسٍي البهائمِ أوباراً وأصوافا)
أو يقول مُتبر ما بحظه:
(إن للحظَّ كيمياَء إذا ما
…
مسَّ كلباً أحاله إنسانا)
أو يقول:
(حُرمت في سنَّي وفي ميْعتي
…
قِرايَ من دنيا تَضيَّفْتها
لهفي على الدنيا، وهل لهفة
…
تُنصف منها، إن تَلهَّفْتها)
إلى آخر ما يقول مما يفيض به ديوانه.
7 -
ابن الرومي وشهر الصوم
عبد الغني: ولك هل كان يحب رمضان؟
كامل: كانت تجهده أيامه بقدر ما تبهجه لياليه.
عبد الغني: إذ يقول يا أستاذ كامل؟
كامل: من طرائفه في هذا الباب قوله مداعباً:
(أذمُّهُ غيرَ وقت فيه أحمدهُ
…
من العشاءِ إلى أن تسْقع الديكه)
عماد: هذا بيت رائع، فها تذكر إخوته؟
كامل:
(شهر الصيام وإن عظمت حُرمْته
…
شهْر ثقيلٌ بطئُ الظلّ والحركة
يمشي الهوْينى، فأمل حين يطلبنا
…
فلا السُّلَيْكُ يُدايه ولا السُّلَكه
يا صدق من قال أيام مباركة
…
إن كان يكني عن اسم الطول بالبركه)
8 -
بياض المشيب
عبد العني: ولكن قل لي يا عماد إن الشعرات البيض في رأسك تكاد تظفر بالشعرات السود، فلماذا لا تعمد إلى الخضاب تسود به ما ابيض من شعرك كما يفعل كثيرون، وكما فعل ابن الرومي حيث يقول:
يا بياض المشيب سودت وجهي
…
عند بيض الوجوه سود العيون
وبهذه المناسبة هل تذكر يا أستاذ كامل شيئا لابن الرومي في المشيب؟
كامل: كثير، ولكن هيهات ينسى قوله:
أما رأيت الدهر كيف يجرى
…
يثبت ما أكتمه من عمري
بأحرف يخطها في شعري
…
يمحو بها غض الشباب النضر
إذا محافظة سطراً بدا في سطر
عبد الغني: والآن أجبني يا أستاذ عماد لماذا لا تعمد إلى الخضاب؟
عماد: إني لا أحب الكذب في الشعر وأنا لا احبه أيضاً في الشعر. ومع ذلك فأنا مقيد بقسم قديم لا أستطيع التحلل منه الآن.
عبد الغني: وما هو هذا القسم؟
عماد: قد تطغى على النفس البشرية في الشباب ساعات يأس أليم تبغض إليها الشباب حتى لتحسب سعادتها في الشيخوخة، وذلك رغبة في الانتقال من حال إلى حال. لا لأان الشيخوخة سعيدة في حقيقتها، وقد قلت في شبابي الباكر قصيدة يأس اذكر منها هذه الأبيات الغريرة:
قل يا رعى الله المشيب
…
ولا رعى الله الشباب
عهد بلوت عهوده
…
فإذا بأغلبها كذاب
حلو على مُرٍ فهل
…
يرضيك من هذين صاب
من لي قد تأطّ
…
ر أو بيوم يقال شاب
آليت ثمَّ أليه
…
أن لا عمدت إلى الخضاب
9 -
ليلة الوزة
عبد الغني: أذكر يا أستاذ كامل. أن الصحف والمجلات منذ خمسة عشر عاماً أشارت إلى ليلة من ليالي رمضان أقيمت في دارك وأطلقت عليها: (ليلة الوزة) اجتمع فيها على مائدتك الزنكلوني وأحمد حسنين وشوقي الهراوي والهياوي وصادق عنبر وأحمد عيسى وأبو العيون ودراز، ولا أزال اذكر منها الأبيات التالية:
(هذا هو المجلس، لا تذكروا
…
شبيهه في الصفو لا تذكروا
رأيت فيه كيف أضحت به
…
حقيقة مَرْئية عَبْقَر
كان زكي باشا، إلى جانبه
…
زعيمُ سوريا الحرُّ شَهْبَندر
وكان هرّاويُ الرقيق الدقيـ
…
ق، واللغوي صادق عنبرُ
فما حكاية هذه الليلة؟
كامل: جاء ولدي ذا صباح متهللا يبشرني بأن الوزة التي طارت من بيتنا منذ يومين إلى
بيت الجيران عادت إلينا. وكان بعض الأدباء حاضرا فقال متظرفا: (ما دمت قد وجدت الوزة الضائعة فقد وجب عليك أن تدعوني إلى الإفطار عليها غداً. فأجابته إلى اقتراحه، وجاء ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وصاحبنا لا يكف عن تظرفه، ولا يفتأ يروي قصة الوزة ثم يختمها قائلا:
والكيلاني يدعوك إلى الإفطار غدا على هذه الوزة ابتهاجا بعودتها. فيقبل صاحبنا الدعوة في غير تردد.
فلما رأيته يتمادى فيما يظنه إحراجا لي هو - ولو علم - مصدر سرور وبهجة، قابلت تحديه بمثله، فرحت أدعو بقية أصحابي تلفونياً إلى الفطور بعد أن أوجز لهم القصة، حتى تجاوز عددهم الأربعين.
ولا أكتمكما أن تظرف صاحبي - مضافا إليه انسياقي معه في التحدي - قد جنيا على كبش لم يكن له في هذه الجناية يد، كما جنيا على جماعة أخرى من ذوات الأجنحة تكفي لإطعام أربعين أديباً، من بينهم أديبان، كلاهما - على الله - جدير أن يكون أمة وحده.
وقد استولى المرح على الحاضرين حين سمعوا أحد الأديبين يشكوا أضراسه وهو يطحن الأكل طحناً، وعلا هتافهم حين سمعوا ابن الرومي:
على انه ينعَى إلى كل صاحب
…
ضروساً له تأتى على النور والكبش
يخبر عنها أن فيها تَثَلُّماً
…
وذلكم أدهى وأوكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحى - عند نقرها
…
وتجريشها - تأتي على الصلب والهشَّ
وكانت ليلة أنس حافلة قل أن يجود بمثلها الزمن. وتوسطت الوزة المائدة ولم يفكر أحد في لمسها وتمزيق لحمها شكرا لما أسدته إلينا من جميل، بما هيأت لنا من اجتماع سعيد. وقد اجتمع الحاضرون على تخصيص الليلة كلها لأبرع ما يعرفون من حكايات الوز.
10 -
ساق الوزة
عماد: بمناسبة اشتغالك بجحا يا أستاذ كامل في هذه الأيام هل كان لجحا نصيب من حكايات الوز.
كامل: نصيب الأسد. فقد ظفرت بعض حكاياته - على عادته - بالجائزة الأولى. وخلاصتها أن الجوع استبد به ذات مرة، فاضطر إلى التهام ساق الوزة المشوية قبل قدوم
صاحبه.
فلما سأله في ذلك قال:
ألا تعلم أن للوز ساقاً واحدة؟
وأشتد اللجاج بينهما فخرجا إلى حديقة الدار - وكان يوماً قائظاً يكاد يلتهب الوز واقفاً على رجل رجل.
فقال جحا:
أرأيت صدق ما أقول
فأسرع صاحبه إلى الوز وهشه، فخرجت كل وزة على ساقيها فقال له:
أرأيت الآن لكل وزة ساقين؟
فقال حجا متبالهاً:
آه! لقد ذبحتها يا صاح من غير أن أقول لها هش!
تعقيبات.
. .
للأستاذ عباس حسن خضر
أعداء المرأة:
منذ سنين أطلق بعض المروجين للأستاذ توفيق الحكيم عليه لقب (عدو المرأة)، واتخذت المجلات الشعبية هذا اللقب مادة للتندر فيما يتصل به، وطاب ذلك للأستاذ نفسه، فأكثر في كتاباته مما يثبته ويسيره بين الناس، وكان بين الناس، ولم يزل بينهم، من يتساءل عن معنى هذه العداوة. وأكثر هؤلاء المتسائلون تساؤلهم لما رأوا أخيراً الدكتور زكي مبارك يعلن بنفسه في مجلة (مسامرات الجيب) أنه عدو المراة، ويتبع بذلك حملة عشواء. . . يعلو فيها مثار النقع. وتنجلي غمراتها عن هزيمة الجنس الناعم أمام أسلحة الشتائم التي جرد منها بالتثقيف والتهذيب، واتخذها بعض الرجال أداة لحربه. . .
ويعجب المشاهدون لهذه المسامع من هؤلاء (الأبطال) الذين يريدون أن يعكروا صفو المودة بين الجنسين التي هي من آيات الله الذي جعل لنا من انفسوا أزواجا لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة؛ ويعجبون اشد الإعجاب لتحقير اللائى هن من أنفسنا ونحن منهن ولا يحق لهن إلا الكرامة والإعزاز
ويقول السائلون عن معنى تلك العداوة: أهي عداوة جنسية بحيث يدعو أولئك المغاوير سائر الرجال إلى حرب النساء، ويضطر النساء إلى المقاومة، فيقف الجنسان في الميدان صفين على رأس أحدهما توفيق الحكيم وزكي مبارك. . .؟
ما الرجل؟ وما المرأة؟ أليسا نصفي شيء واحد هو الإنسان؟ وهل يستطيع هذا الإنسان أن يتحرك إذا شل نصفه؟
إن الرجل ليس رجلا إلا لأن هناك امرأة، فهما متقابلان لا وجود لأحدهما دون الّاخر، وليست المرأة إلا شريكا للرجل له قيمته، وليس من الرجولة أن تنتقصه ونتنكر له!
فإذا كان من يتسمون أعداء المرأة يريدون أن يحاربوا عيوبا تتصف بها، ونقائص جرت أو طرأت عليها، فليس السبيل لذلك إيذاء شعور الكرائم وجرح نفوسهن بتلك المهاترات، إنما السبيل هو الذي يسلكه ذوو الألباب من التنديد بالنقائص والعيوب والدعوة إلى نبذها والتجمل باضدادها، كما يصنع الأستاذان الطنطاوي وسيد قطب في (الرسالة) الزاهرة
وليس للرجل أن يعيب المرأة - من حيث هي امرأة - لنقائص في جنسها، أو لأن أفرداً منه حادوا عن الجادة، فالرجال في ذلك كالنساء، بل إن من الرجال من لا تستطيع اشد النساء إمعانا في الخزى أن تبلغ شأوه في هذا المضمار، وهم المتشبهون ببها. . . ومن يتخذونهم بدلا منها. . . ومع ذلك لم نسمع أن امرأة نودي بها أو نادت بنفسها عدوة للرجل. . .!
فعداوة الجنس برمته لا موضوع لها إلا أن يكون القصد منها الترويج والتهريج والتظاهر بأعجب البطولات!
رؤيا لم تقص:
رأى أحد الأشرار في نومه أنه قتل رجلا، ولم يستطع الفرار؛ فوقع في يد الشرطة، وقدم إلى المحاكمة. وحكم عليه بالاعدام، وحل وقت التنفيذ، واتى به إلى المشنقة؛ وبينما كان الرجل سابحاً بفكره في رؤياه دخلت زوجه لتوقظه، وفي اللحظة التي وصل فيها إلى أن كان الجلاد يعد له حبل المشنقة - لمست يد الزوجة عنقه، فقامت هذه اللمسة مقام الحبل في التأثير في الرجل. . . ففاضت روحه.
مهلاً قارئ (الرسالة)، فأنا أعرف فطنتك، وما يقاس ذكاء مثلك بمثل هذه الحكاية، فلا أخالك إلا سائلا: وكيف عرف أن الرجل رأى هذه الرؤيا وقد اتصل نومه بالموت فلم يقص رؤياه على أحد. .؟!
وبعد، فقد قرأت قصة (قطر الندى) للصديق القديم الأستاذ محمد سعيد العريان التي ظهرت في سلسلة (اقرأ)، وهي قصة ممتعة جلاها أسلوب العريان الطلي وحلاها براعته الفنية، ولكني وقفت فيها عند رؤيا لم تقص. . . لست ادري كيف عرفها الأستاذ العريان؟!
ذلك أن (أم آسية) حاضنة قطر الندى بنت خمارويه بنت أحمد ابن طولون - رأت في ذات ليلة أنها في قصر عظيم تزف فيه قطر الندى بنت ملك المغرب (خمارويه) إلى ملك الشرق (الخليفة العباسي)، وكأنها (أم آسية) أم العريس، وقد أفسحوا لها حتى دخلت إلى دار الحرم فشاهدت قطر الندى جالسة على سريرها. . . وحملها أريج البخور على جناحين من لهب إلى السماوات، فما تنبهت إلا على صائح يصيح. .!
وقصت رؤياها على سيدها خمارويه راجية منه أن تكون ماشطة الأميرة يوم زفافها. . . ثم
كبرت الأميرة. . . وهيئت للزفاف إلى المعتضد، وسار ركب العروس من مصر إلى العراق. وفي بعض منازل الطريق نامت أم آسية ماشطة العروس ذات ليلة، فرأت تمام الرؤيا التي بدأتها في منامها منذ سنين. . . حملها الأريج إلى السماوات، وسمعت هذه المرة صيحة الصائح. . . عرفته وفهمت عنه، رسول من مصر يهتف بنبأ مروع. . . قال الأستاذ:(وطوت صدرها على السر فلم تكشف لأحد عن خبره). وقال: (واشتد بها الوجع ذات ليلة في بعض منازل الطريق، وأصبحت ميتة لم تكشف عن سرها ولم تتحدث إلى أحد برؤياها!)
وعرفنا من حوادث القصة بعد ذلك أن تمام الرؤيا قد تحقق كما تحققت بدايتها، إذ كان النبأ المروع أن غلمان خمارويه وثبوا عليه فقتلوه!
ولا شك في أنك الآن مشاركي العجب من معرفة الأستاذ العريان رؤيا أم آسية الثانية وهي لم تتحدث إلى أحد بها! اللهم إلا أن يكون قد رأى أم آسية في نومه فأفضت إليه بالسر الذي طوته حقبا من الدهر. . .؟
في تعليم للغة العربية:
كتب لأستاذ عادل الغضبان في مجلة الكتب الصادرة في أكتوبر الفائت مقالا بعنوان (اللغة العربية بين المعلم والطالب) بين فيه ما رآه من أسباب ضعف الناشئة في اللغة العربية، ووزع التبعة في ذلك بين الطالب والمعلم ولمنهج، فالطالب منصرف عن الدرس مقبل على مطالعة صحف المتعة والتسلية، والمعلم مرهق بكثرة العمل مشغول بأسباب معاشه في عصر كثرت فيه المطالب والنفقات، وقد أفاض الأستاذ في هذه النقطة فانصف المعلم ودعا الدولة إلى رعايته وتقديره
وتلك أسباب لضعف الطلبة في جميع المواد لا في اللغة العربية وحدها، ويظهر أن الكتاب، لغيرتهم على اللغة العربية وتشبعهم بحبها، يقصرون إلى الكلام عليها حينما يتعرضون لشئون التعليم من حيث انخفاض المستوى العلمي للطلبة مع أنه يكاد يكون على سواء في جميع المواد
أما كلام الأستاذ في المنهج، فقد تضمن ما نخالفه فيه، عاب معالجة المنهج المشحون بالحذف والتبسيط، ولكنه لم يقل بم يعالج، فمن المعلوم أن ازدحام المنهج بالمواد يتخم
الطالب ويعسر عليه هضم المعلومات، فبم يعالج إن لم يكن بنقصه وتسهيل صعبه؟
وحمل على التبسيط فقال: (ولقد عمت موجة التبسيط كل مقومات اللغة، فتناولت اللفظ والأسلوب والصرف والنحو والبلاغة والأدب. فبدت اللغة العربية لذهن الطالب بعد ذلك التبسيط شجرة جرداء مقلمة الفروع جافة الغصون). وقال: (إن هذا التبسيط يبعد الطالب عن الأساليب القديمة البليغة). إلى أن قال: (واعجب العجب ما قرأناه أخيرا من أن أستاذاً في الجامعة يملي عليه تلامذته تفسير القران باللغة العامية)
والذي أراه أن أستاذ الجامعة يسف في التسهيل والتقريب، والأستاذ عادل الغضبان يوغل في البعد عن مدارك التلاميذ، ومن أسس التربية المفروغ منها وجوب البدء بالسهل ثم الانتقال منه إلى الصعب ثم إلى الأصعب، ولكن الأستاذ عادل يريد أن يصدم الأذهان الغضة بالأساليب القديمة البليغة، وأستاذ الجامعة ينتهي بالجامعيين إلى ما هو دون ما يجب أن يبدأ به، فالتلميذ يبدأ في السنة الأولى الابتدائية بالمحادثة العربية وينتهي في الجامعة بالبلاغة العامية. .!
ويغالي الأستاذ عادل في بيان قيمة القواعد ويرى الإكثار منها في المدارس، ولم يول اللغة نفسها أي الكلام العربي شيئا من الاهتمام مع أنه هو الغاية المنشودة، والأجدى في الوصول إلى هذه الغاية أن نعرض الكلام نفسه مكونا مركبا على الناشئ بمختلف الوسائل، ليدركه ويتذوقه وينطبع مثاله في ذهنه، قبل أن نحشوه بتلك القواعد التي تحلل الكلام وتفككه. وبهذا نحقق فائدتين: الأولى تكوين ملكة لغوية يقتدر بها الناشئ على التعبير الفصيح وتذوق الأساليب العربية، والفائدة الثانية أن يقبل القواعد بعد ذلك شاعرا بالحاجة إليها لضبط ما عرفه ومرن عليه من الكلام.
ومن مغالاة الأستاذ في هذا الصدد قوله: (أما البلاغة فقد أخنى عليها الذي أخنى على القواعد فبسطت بالحذف دون مراعاة جلال شان الحذف، فقد حذف من أبوابها باب الفصل والوصل ولعله في نظرنا أهم أبواب البلاغة والطريف أن للبلاغة تعريفات جمة منها إنها (معرفة الفصل من الوصل) ولو عرف كثير من الكتاب هذا الباب ووقفوا على أسراره ودقائقه لاهتموا بان يقدموا للقارئ أسلوبا لا تتعادى فقرة ولا تتجافى ألفاظه ولا تختلط فيه حروف العطف اختلاطا متنافرًا متناكراً).
وأنا أقول له: إن الكتاب الذين يشير إليهم إن يقرءوا باب الوصل والفصل في كل كتاب من كتب المعاني مائة مرة فلن يأتوا منه في أسلوب بشيء، إنما يعوز هؤلاء - كي يقدموا للقارئ أسلوبا لا تتعادى فقرة. . . الخ. أن يقرءوا الأدب العربي ويفهموه ويتذوقوا ويعيشوا معه حتى يكتسبوا منه سليقة يعرفون بها الفصل من الوصل وغير الفصل والوصل من مقتضيات البلاغة، فالذي افهمه من معنى أن البلاغة هي معرفة الفصل من الوصل إن الكلام البليغ ما يجيء فيه كل من الفصل والوصل في موضعه، فليس المقصود من البلاغة هنا أنها (علم بقواعد).
وفي وسع أي كاتب أن يرد على هذا الكلام بمقال يبين فيه الفوائد التي لا تحصى من دراسة علوم البلاغة، ولكن المحقق أنه لن يفكر وهو يكتب هذا المقال في شيء من قواعد هذه العلوم. . .
وبعد فثمة عامل من عوامل ضعف تلاميذ المدارس في اللغة العربية لم أر أحداً نبه عليه، ذلك أن فروع اللغة العربية من إنشاء وأدب وقواعد وتطبيق ومحفوظات ومطالعة وإملاء وخط - متعاونة كلها متآزرة كأعضاء الجسد. . . الواحد إذا اشتكي فزع منها تداعى له سائر الفروع بالدرجات المكملات للنهاية الصغرى اللازمة للنجاح. . . فالذي يقع من جراء ذلك أن التلميذ يهمل فروعا قد يجهلها جهلا تاما اعتمادا على تلك الوحدة الرائعة. .
فلا نعجب إذا رأيت تلميذا ينجح في امتحانات اللغة العربية وهو لا يستطيع كتابة سطر بأسلوب سليم، لأنه يحفظ القواعد أو يحسن غيرها من بقية الفروع، وقل مثل ذلك الباقي، ولو جعل لكل مادة درجة معلومة لا بد منها للنجاح لاضطر التلميذ أن يصل إلى المستوى الذي يجب أن يكون عليه في كل مادة بجلا من أن نمكن له أن يجهل شيئا بشيء.
عباس حسن خضر
فلسفة التعمير في الحياة
للدكتور فضل أبو بكر
وخوف الردى آوى إلى كهف أهله
…
وعلم نوحاً وابنه صنعة السفن
وما استعذبته روح موسى وآدم
…
وقد وعدا من بعده جنتي عدن
(أبو العلاء المعري)
التشبث بأهداب الحياة أمنية كل إنسان، بل هو هدف جميع المخلوقات من الأحياء، وهي ليست أمنية أو محض رجاء، بل هي سعي وكفاح أزلي دائم بين تلك الأحياء تتنازع فيه من أجل البقاء ولأجل البقاء، فينتصر في هذا العراك الأقوى ويحرز النصر الأصلح على حساب الضعيف الذي لا تعد له الطبيعة حسابا، كما سمعت صيحة أزلية داويه يتجاوز صداها في خلال القرن (الويل للضعيف)! وتنازع البقاء هذا هو علة العلل - هو سبب الويلات الحروب التي يشنها الأفراد كما تشنها الأمم بعضها على بعض من حين إلى حين كلما اشتدت وطأة هذا التنازع، كما تشتد وطأة البراكين فتثور ثائرتها وتقذف حممها وهذا التنازع يغري بالأثرة ويوعز بالأنانية التي تعد من أقوى الغرائز المستأصلة في الإنسان، وقد يخفف من وطأتها ويهذب بعض الشيء من شراستها القوانين الأخلاقية وما انزل من السماء من كتب مقدسة تحث على الإيثار وتندد بالأثرة، ولكن هيهات! إذ الطبع يغلب على التطبع، والغرائز لا يمكن استئصالها وان كان من المحتمل تهذيبها
ألم يأتك نبأ ألام وقد خرجت من دارها مذعورة تحمل وحيدها على ذراعيها لما طغى الماء وهدد بالطوفان؟! كانت ترفع فلذة كبدها إلى أعلى رويداً رويداً كلما زاد طغيان الماء وعلا منسوبه ولما قارب الماء وجهها رفعت الابن إلى هامت رأسها، وما أن أدرك الماء الوجه منها وهددت بالأختناق والغرق، حتى ألقت طفلها في القاع لكي تعلو عليه فيقيها شر الخطر المحدق ولو إلى حين! ضحت بابنها لكي تنجي نفسها ولم تضعه في تابوت مريح وتسمي عليه كما فعلت ام موسى، وكما يقول المرحوم شوقي بك في إحدى قصائده:
كأم موسى على اسم الله تكفلنا
…
وباسمه ذهبت في اليم تلقينا
وقد يبدو من تصرف تلك ألام كثير من الأنانية، غير أن غريزة حب النفس طغت على عاطفة الأمومة، وهل عاطفة الأمومة نفسها إلا جزء من غريزة حب النفس؟! فالأم تحب
ابنها لأنه جزء منها ولأنه عزاء لها بعد مماتها إذا قدر لها أن تموت قبله، فهو موصل ومكمل لتلك الحياة.
كل ذلك كما أسلفنا سببه تنازع البقاء وطلب الخلود حتى الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر وقد أفعم الأيمان قلوبهم وزهدوا عن حطام الدنيا تراهم يعزون أنفسهم - وقد علموا ألا خلود في الحياة - بأن الحياة ما هي إلا طيف خيال، وان وراءها الدار الآخرة الباقية، فالبقاء هو الغاية في كلتا الحالتين.
فالإنسان يطمع إذن في خلود نسبي، إذ لا سبيل إلى المطلق في هذه الدنيا (وما لا يدرك كله لا يترك جزؤه). فهو يرجو بعبارة أخرى أن يطول عمره إلى أقصى حد ممكن. لهذا أريد أن أوضح باختصار بعض الطرق المؤدية إلى التعمير، وهي طرق نفسانية غير الطرق الطبية والصحية المألوفة مع اعتقادنا بأنه (لكل اجل كتاب). وهذه الطرق هي كالآتي:
1 -
الاعتقاد في طول العمر والاختلاط الدائم بالشباب.
2 -
نبذ عواطف البغض والحسد والغضب.
3 -
الأيمان بالله والاعتقاد في البعث والخلود.
1 -
الاعتقاد في طول العمر:
أن نؤمن بحقيقة أن بعض الناس منذ بدء الخليقة وفي كل زمان ومكان قد بلغوا من العمر عتيا وتتناقل أخبارهم الناس في شيء من الاستغراب والغبطة، غير أن عملية الإحصائيات لم تنظم إلا متأخرا نسبيا. ولنذكر بعضا من أولئكم المعمرين على سبيل المثال:
روى المؤرخ الروماني (بلين)(23 - 79م) أن عمل في ذلك الوقت إحصاء في شمال إيطاليا، وكان محصورا في ثلاثة ملايين نسمة وجدوا بينهم أكثر من 170ممن عاشوا بعد الماية عام. كما روى المؤرخ (استراين) إن بعضا من سكان البنجاب زادت أعمارهم على المائة. كما ذكر الشاعر الإغريقي (أنا كريون) أن ملك قبرص في ذلك الوقت واسمه (سنجراس) بلغ من العمر 160سنة. كذلك يقول العالم الفسيولوجي (هالر) في كتابه (مبادئ الفسيولوجي) أن المتوسط لعمر الإنسان يمكن أن يبلغ 200عام - وعمل إحصاء في مدينة بوينس ايرس بأمريكا الجنوبية سنة 1896 فوجدوا أن أحد السكان واسمه (برونو) بلغ
عمره 150سنة. وعملت أيضاً إحصائيات بالولايات المتحدة سنة 1890 أسفرت عن وجود 3891 من المعمرين الذين عاشوا بعد الماية عام إلى غير ذلك من الإحصائيات.
هذا، وقد ذكر العلماء مثل: هاملر وبلاندن وجريفز أن بعضاً من المعمرين تنبت أسنانهم للمرة الثالثة، وأن امرأة هرمة ربا عمرها عن 110 عام عادت إليها أسنانها للمرة الثالثة كما تبدل بياض شعرها سواداً. والبعض منهم يحتفظ بقواه العقلية والجسمية بدرجة تمكنه من إدارة شؤونه. فوليم جلادستون مثلا الذي كان لزعيم الأحرار البريطاني، والذي كان زميلا ومعارضا لدزرائيلي زعيم المحافظين في ذلك الوقت بلغ جلادستون من عمره التسعين، ومع ذلك كان محتفظا بقوة عقله وجسمه، وكان يمارس قطع الأخشاب كغية في وقت فراغه، وهو عمل شاق حتى على الشبان.
كان يلذ للناس منذ قديم الزمان ويسترعي فضولهم أن يسألوا المعمرين عن سر تعميرهم، وهل عثروا على حجر الفلاسفة وأكسير الحياة؟! وكانت الأجوبة في كثير من الأحيان لا تروي ظمأ ولا تشفي غليلاً، بل كان فيها أحياناً شيء من التناقض، مثال ذلك ما يرويه الفرنسيون على سبيل التندر عن بعض المعمرين من سكان بريتانيا في شمال فرنسا. سألوه ذات مرة عن السر في طول عمره؟ فأجابهم بشيء من التحدي:(إن السر في ذلك بسيط جداً. كنت إذا ما أكثرت من شرب الخمر رجعت فأكثرت من التدخين، وإذا ما أكثرت من التدخين عدت لأدمن الخمر وهكذا دواليك). والمفروض في هاتين المادتين، أي الخمر والتبق، هو ضررهما بالجيم لا سيما في حالة الإدمان. غير أن الذي يشاهد في معظم الأوقات أن اغلب المعمرين كانت حياتهم هادئة نسبيا قليلة الهموم والعواطف المؤذية مثل الغيرة والحسد والبغض. وقد قال بعض علماء الصحة - في شيء من المبالغة - إن الإنسان لا يموت موتا طبيعياً، ولكنه ينتحر لإسرافه وعدم مراعاته الاعتدال الذي هو أهم العوامل لصيانة الجسم. فالإفراط ماديا كان أو نفسياً يعود على الجسم بإضرار بليغة؛ كما أن الكثير من الناس يتعاطى من الطعام ثلاث أضعاف ما يلزمه، ومن هنا نشاهد نسبة التعمير بين الفقراء ومتوسطي الحال تفوق نسبتهم بين الأغنياء المترفين. وليس خطأنا فيما يتعلق بالأطعمة محصورا في (الكم) ولكنه يشمل (الكيف) من حيث تحضير الأطعمة. نتفنن في طرق طبخها ونبالغ فيه، وفاتنا أن كثرة الطهي تفقد الأغذية كثيرا من قيمتها
الغذائية، كما أن المواد الحية من حيوان أو نبات هي أفيد لصحتنا وأجدى لإحياء أجسامنا. خذ مثلا بعض سكان النرويج وسيبيريا الذين يعيشون في اغلب الأوقات على المواد النيئة من حيوانية مثل السمك والقواقع وغير ذلك مما يلفظ البحر، ونباتية مثل الفواكه والخضراوات والبقول نجد نسبة المعمرين مرتفعة عند تلك القبائل. وقد استرعت هذه الخاصية أنظار العلماء والفلاسفة منذ عهد بعيد. ويذكر الفيلسوف العالم أرسططاليس أن بعض التماسيح تبلغ من العمر عتياً، وقد يمتد بها الأجل إلى أكثر من 500 عام، ومن أهم الأسباب المؤدية لطول أعمارها - كما يزعم - هو كوننها تتغذى على الأحياء المائية من نبات وحيوان.
أما الاختلاط الدائم بالشباب الأقوياء، وكونه مؤدياً إلى الاحتفاظ بالشباب، فقد أقر هذه الحقيقة القدماء ونوه بها بعض الفلاسفة والعلماء مثل جالينوس؛ وكذلك الفيلسوف الإنجليزي (روجر بيكن). وقد قال في ذلك:(إن هنالك أرواحا وإشعاعا ينبعثان من الإنسان الشاب القوي، ويكون فيهما شفاء للمريض، وتجديد لشباب من ولى عنه الشباب وعلا مفرقه المشيب). والواقع أن هذه الظاهرة النفسية الحيوية قد أثبتها العلم الحديث ووجد لها تعليلاً بيولوجيا بواسطة الاهتزاز والذبذبة الخلوية 114 واثبت عمليا وجود مثل هذه الذبذبة بواسطة أجهزة بلغت منتهى الإتقان والحساسية، وكلما كان الجسم قويا شابا كانت الذبذبة أكثر نشاطا، ومجموعة الاهتزازات والذبذبة المنبعثة من الخلايا الحية تكون ما يسمونه (بالإشعاع الحيوي) وهذا الإشعاع إذا ما صادف - بالقرب منه - جسماً هرما وهزيلا احدث فيه اهتزازا قويا لخلاياه بواسطة الجذب الكهربائي المغنطيسي.
وقد استخدم بعض العلماء ظاهرة الإشعاع الحيوي وما ينتج عنه من جذب مغنطيسي كهربائي لإعادة الشباب منها طريقة (جاورسكي) بواسطة حقن دم شاب قوي الآخر معتل الصحة أو متقدم في السن على شرط أن تكون الدماء من نفس النوع والفصيلة لكيلا تحدث تفاعلات مؤذية للجسم. وهناك طريقة أخرى هي طريقة (فورونوف). وهي تطعيم الجسم بخلايا وأنسجة من جسم آخر وهي نوع من الترقيع الجسمي وليس من النادر أن نشاهد فتاة زوجت من شيخ، وهذا كثير الحصول عندنا في الشرق، إذ عامل الجاه والغنى يلعب دوراً كبيراً في مثل هذه المناسبات. فنلاحظ أن الزوجة الشابة تذبل قبل اوانها، بينما تبطأ
خطوات الشيخ نحو الهرم والمشيب، والسبب في ذلك هو ما أسلفنا من شرح. وحتى من المتداول بين عامة الناس أن الشيخ إذا تزوج من شابة (شرب أنفاسها).
2 -
نبذ عواطف البغض والحسد والغيرة:
الحسد داء عضلي يفسد الأود وينهك الجسد. هو أخبث مكروب يؤدي بحياة صاحبه، وقد قام بعض علماء النفس بإحصائيات دقيقة، فوجدوا أن كثيرين ممن أصيبوا بهذا الداء لم يعمروا كثيرا إذا استثنينا بعض الشواذ (يعجل الله بالأحياء) أو كما يقال بالفرنسية ، ولكن في الغالب الوضع كما أسلفنا. والحسد يسبب البغض والغضب عن الغير لما أصابوا من نعمة أو ما حصلوا عليه من جاه، وهذه العواطف الذميمة تؤثر تأثيراً سيئا على سائر أعضاء الجسم ولا سيما الجهاز العصبي فتتوتر الأعصاب ويعتريها التعب من فرط التهيج والانفعالات، كما تتأثر بقية الأجهزة لخضوعها المباشر للجهاز العصبي فيحدث بالجسم ضرراً بليغا. وقد أجاد بعض شعراء العرب في وصف مفعول الحسد فقال:
أصبر على كيد الحسود
…
فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها
…
إن لم تجد ما تأكله
وكثيراً ما يكون الحسد سببا في إفساد العلاقة الودية بين أفراد العائلة، كما يفسد صحة أولئكم الأفراد. وقد قص علي صديق فرنسي مأساة مؤداها أنه تعرف بعائلة كريمة كانت في رغد من العيش، وتتكون من أبوين وأربعة بنات يربط أفرادها حب عائلي وثيق. تزوجت الكبرى بمهندس دمث الأخلاق موفق في جميع مشاريعه واعماله، فمهرها أبوها مهرا عالياً - كما هو الحال عند الغربيين - وجهزها بكل ما تحتاج اليه، كما قام بنفس الواجب نحو باقي البنات. نجح المهندس زوج الكبرى وازدهرت أعماله وتضخمت ثروته بعكس ما وصلت إليه حال بقية الأزواج، فقد ساءت لحد بعيد، وذلك بسبب سوء تصرفهم أو سوء حظهم أو كليهما معا. دب الحسد في قلوب الأخوات الثلاث نحو الأخت الكبرى وصرن يتقولن عليها ويرمينها وزوجها بالبخل والتقتير حينا وبالكبرياء أحياناً، وأن زوجها من عائلة وضيعة، وأنه جمع ثروته سحتا عن طريق التزوير؛ وأصبحن لا شاغل لهن غير التعرض لأختهن وزوجها، وتسبب في نفوسهن ما يشابه (العقدة النفسية) من جراء هذا الحسد، فماتت إحداهن في سن مبكرة لم تزد على السادسة والعشرين كما قضت
الأخرى نحبها في سن الثامنة والعشرين بأمراض عادية أخف وطأة - فيما اعتقد - عن مرض الحسد الذي قصر عمريهما. أما الصغرى فقد انتحرت نتيجة مشاجرة مع زوجها. هذا مثل بسيط سقته على سبيل الاستشهاد، وان كانت الحياة اليومية ملأى بمثل هذه المآسي المحزنة.
3 -
الأيمان بالله والاعتقاد بالبعث والخلود:
لا جدال أن الأيمان بالله وباليوم الآخر فيه طمأنينة للنفس على عكس الشك والحيرة في أمر الإله، فهو مدعاة للقلق والخوف والخوف مضر بالجسم وقد يسبب الموت إذا اشتدت وطأته فيسبب للجهاز العصبي ما يسمى (بال) أي يوقف حركته، ومن المتعارف بين الناس أن الخوف مميت بخلاف من يؤمن بالله وبالبعث فيقل خوفه من الموت ومن التفكير في شانه ويهون عليه بعض الشيء فراق الحياة، إذ يعزي نفسه بالأخرى وهي خير وأبقى. ويقول بعض علماء النفس أن قوة أيمان الصالحين والقديسين وعدم مبالاتهم كثيرا بالموت كل ذلك له بعض الدخل في تعميرهم.
أما مسالة الخلود - أي خلود الأرواح - فقد نوهت عنه الأديان كما حاول إثباته نفسيا علماء الروح وعلميا أساتذة الطبيعة، فالذي يموت في الإنسان إنما هي مادته وليست روحه التي تفارق تلك المادة، وحتى الموت نفسه لا يستطيع فناء تلك المادة لان المادة خالدة لا تفنى، ولكنها تتحول إلى عناصرها الأولية التي تحفظ في الطبيعة، فالحياة بعبارة أخرى ما هي إلا مجموعة الذبذبة والاهتزاز الخلوي كما سبق ذكره، وهذه المجموعة هي إحدى القوى الطبيعية مثلها مثل قوة الجاذبية والدوران، والقوة الكهربائية من حيث إنها قوة كلها من أصل واحد هي أي من اصل كوني. والقوى كالمادة لا تفنى، ولكنها تتحول من نوع إلى نوع آخر على حسب العوامل التي تسيطر عليها. كذلك الروح ، كما يسميها النفسيون والقوة الحيوية كما يسميها الطبيعيون ليست فانية، وإنما هي موجودة ومحفوظة في الكون.
ذكرنا كذلك إن الجسم لما تفارقه الروح أو القوة الحيوية أو بتعبير آخر يموت صاحبه تنهدم مادة الجسم وتنحل إلى عناصرها الأولية، وهذه العناصر موجودة ومحفوظة في الكون أيضا، ومن المعقول جداً أن يعود الجسم مرة ثانية ويبعث من جديد بائتلاف عناصره
الأولية مرة أخرى، إذ الحياة ما هي إلا حلقة من بناء يعقبه هدم ثم يعقبه بناء وهكذا. وإذا ما عاد بناء الجسم من جديد جذب إليه روحه التي فارقته بواسطة نوع من الجذب المغنطيسي الكهربائي إذ كل روح تنجذب إلى جسمها الذي فارقته، وشبيه الشيء منجذب إليه.
فضل أبو بكر
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 33 -
عود إلى الشعر:
وانطوى ربيع الأليزابيثين فكان في ألحانه التي احتبست بانطوائه تلك المقطوعات، وظل الحال كذلك حتى جاء ملتن في صيف البيوريتانز، فغنى في طلائع ذلك الصيف الحان الربيع الراحل؛ وجدد الطائر المختلف لحن هاتيك المقطوعات. وكان ملتن يحب إيطاليا فازداد حبا لتلك المقطوعات في أول عهده بالشعر وهو جنة الشباب وريعانه؛ وكيف لا يتغنى شاعر مثل ملتن بهذا الضرب من الأغاني وفي فسه من الخواطر وفي خصائص شعره من الموسيقى وسحر اللفظ ما يجعه كأنما خلق لهذا الغناء وحده. على أنه كان مقلا فله تبعث على كثير من الأسف، وذلك لانشغاله بأمور الدين والسياسة وان كانت أكثر مقطوعاته وليدة هذا الانشغال
ولكنه على إقلاله قد أضاف إلى تاريخ تلك المقطوعات فصلا ممتعا رائعا في أدب قومه. ولقد كانت مقطوعاته من بعده كالوحي لشعراء القرن التاسع عشرة من قادة المذهب الابتداعي وفي مقدمتهم وردثوث الذي اعجب إعجابا شديدا بمقطوعات ملتن ودأب على محاكاته، ويتضح هذا الإعجاب في مقطوعته التي بدأها بقوله:
(أي ملتن، إنه لينبغي أن تكون موجودا في هذه الساعة، فإن انجلترة في حاجة إليك)؛ والتي وصفه فيها بان نفسه كالكوكب في سموه ومنعزله، وان له صوتا ينبعث كما ينبعث صوت البحر، طاهرا كالسماوات الصافية العارية عليه سماء الجلالة والحرية، وإنه خالد ينتقل مسافرا في طريق الأبدية. وقد تبع وردثورث في إعجابه بملتن بيرون وكيتس
وبروننج وأرنولد وروزتي وتينسون، ولهذا الأخير مقطوعة رائعة تغنى فيها بمجد ملتن بدأها بقوله:(يا ذا المقول القدير، يا مبدع النغمات والألحان، إيه يا من وهب المهارة ليغني للزمن أو الخلود، يا من هو لإنجلترا صوت أرغنها جاءها هبة من الله. . . ملتن هذا الاسم الذي سوف يرن في مسامع الأجيال)
وليس بين ما تغنى به مللتن من مقطوعات وبين ما أوحت به مقطوعاته إلى هؤلاء الأفذاذ الذين افتتنوا به شيء يذكر من هذا الضرب من الغناء، وهذه هي القيمة التاريخية لمقطوعاته وخطرها في أدب قومه
لم يترك ملتن إلا أربعا وعشرين مقطوعة، منها خمس من نظمها بالإيطالية، ويرجح نقده الأدب إنه نظم هذه الخمس أثناء مقامه بإيطاليا، وهي من أغاني الحب، وجهها الشاعر الشاب إلى غادة إيطالية من بولونا سحرته بسمرة محياها وبمقلتيها الدعجاوين اللتين افتتن بهما لأنه كان بهذا الدعج مولع كما قال، وبصوتها الحلو وغنائها المطرب الذي هو كفيل أن يسحر القمر السابح؛ وقد تغنى الشاعر بجمال فاتنته وشكا من قسوة قلبها عليه كما يشكو الشباب في أول عهدهم بالحب!
أما عن الطريقة التي حري عليها في نظم هذه المقطوعات الخمس، فإن اثنتين منها جاءتا وفي الطريقة الإيطالية، وجاءت الثلاثة الباقية مزيجا من الإيطالية والإنجليزية على صورة اتبعها ملتن ذلك الذي كان كثيرا ما يحب أن يتخلص من الأوضاع المتعبة والقيود
والذي يعنينا في الواقع هو مقطوعاته الإنجليزية، ونحب قبل أن نتحدث عن مادتها وعن قيمتها أفنية أن نشير إلى ما اتبعه الشاعر في نظمها، لأنه لم يجر فيها جميعا على طريقة واحدة، إذ إنه لم يتقيد بالطريقة الإيطالية فيها جميعا ولا بالطريقة الإنجليزية أو الشكسبيرية، وإن كان فيها محافظا أكثر منه مجددا
ويمكن القول بوجه الإجمال إنها جميعا أقرب إلى الطريقة الإيطالية إلا الحادية عشرة منها، وهي جميعا إيطالية الصدر أو الفاتحة، وهي كذلك جميعا إيطالية الخاتمة ما عدا الحادية عشرة، فهي في خاتمتها مزيج من الإيطالية والشكسبيرية؛ بيد أن ملتن لم يتقيد في بعضها بإحداث تغير في القوافي بين الفاتحة والخاتمة بل تركها تنساب كما هي بعد السطر الثامن. ونستطيع أن نقسم مقطوعات التسع عشرة على النحو الآتي: تسع إيطالية من جميع
الوجوه، وثمان إيطالية ولكن بغير فاصل بين الفاتحة والخاتمة، وواحدة هي الحادية عشرة بين الإيطالية والإنجليزية، وهي التي وجهها إلى كرمول، وواحدة هي التاسعة عشرة أو الأخيرة ذات ذيل بعد خاتمتها. ولم نشر من قبل إلى هذا النوع الأخير، فنقول الآن: إن هذا النوع المذيل ليس من ابتكار ملتن، ولكن وقع مثله في مقطوعات الإيطاليين، وإن كان مما ندر، فإن بعض الشعراء كانوا يضيفون سطرين أو خمسة إلى الأربعة عشر سطراً التي تتكون منها المقطوعة إذا لم يستطيعوا أن يعبروا عن المعنى كله في هذا العدد من الأسطر، وكان يعد هذا الضرب معيباً ضعيفاً ولذلك قلما لجأ أليه الشعراء. ولم يخيل من هذا الضعف كلتن نفسه في ذلك الذيل الذي أضافه إلى مقطوعته الأخيرة:(إلى مستكرهي الضمائر الجدد في عهد البرلمان الطويل)، ففي هذا الذيل ما ينبو عن الذوق من خشونة وعامية وتلاعب باللفاظ.
أما عن مادة هذه المقطوعات، فيجدر بنا أن نذكر ما سلف به القول من أنها قيلت في مناسبات، ولذلك جمعت بين الخواطر السياسية والدينة والوطنية وما يتصل بالرثاء والحب والمسائل الشخصية. وكانت المقطوعات قبل ملتن تدور على الحب، وندر فيها ما خرج عن هذا المجال سواء عند الإيطاليين وعند الأليزابيثيين ولذلك مال بعض نقدة الأدب إلى استصغار شأن المقطوعات على العموم ونظرهم إليها نظرتهم إلى التافه من الأشياء، فهي عندهم من مظاهر العبث واللعب وملء الفراغ بما لا يجدي، وليس فيها صدق ولا علم ولا فائدة من أي نوع. ولعل لهؤلاء بعض العذر فيما ذهبوا إليه، فإن شعراء الشباب كثيراً ما كانوا ينظمون خواطرهم في مقطوعات وليسوا جميعاً مجيدين فشاع فيها الضعف والفسولة، ولكن قدراً منها كان محكم السبك رائع المعنى صادق العاطفة جليل الشاعرية كما يتبين في أكثر مقطوعات سبنسر وفي مقطوعات شكسبير جميعاً على كثرتها. إذ قد بلغت مائة وخمسين مقطوعة، وما جعل بعض النقاد يحتقر شأن المقطوعة كضرب من ضروب الشعر إلا سامهم من نغمات الحب الشاكية الباكية في معظمها، وظنهم أنها ما نظمت إلا على على سبيل اللهو وإبراز المقدرة على النظم، فإن كان في بعضها شيء من الصدق، ففيها كذلك كثير من المبالغة والكذب!
وجاء ملتن فخرج بالمقطوعة عن مجال الحب وجعلها لكل ما يخطر على قلبه، فاكتسبت
المقطوعة على يده قوة وخطراً وطبعت بطابع الصدق والإخلاص وجرت فيها إشارات إلى أمور تتصل بالعلم أو بالفلسفة فألبسها ذلك كثيراً من الجد والفائدة وليس هذا الاتجاه بالأمر الهين في تاريخ المقطوعة إذا ذكرنا أنه أوحى إلى شعراء القرن التاسع عشر أن يحذوا حذوه، فكان لمقطوعاتهم في الحرية والسياسة وانتقاد عيوب المجتمع وأشباه ذلك من المسائل قيمة عظيمة وأثر بعيد في القلوب والأذهان ما كان يتفق لها لو أنها اقتصرت على التغني بمعاني الحب والجمال. ويتجلى أثر ملتن في هذا التوجيه في مقطوعة وردثورث التي أشرنا إليها والتي يقول فيها شاعر القرن التاسع عشر: إن انجلترة في حاجة إلى ملتن؛ والتي يذكر فيها شكواه قائلا: (نحن قوم طغت علينا الأنانية، وارفعنا وأمددنا بالمثل في الآداب والفضيلة والحرية والقوة)
ويحس من يقرأ مقطوعات ملتن أنها نفثات نفس عظيمة وهمسات روح قوية، وهي على قلتها زاخرة بفيض من الخواطر، ويرجع ذلك إلى طبيعة المقطوعة في بنائها كما يرجع إلى مقدرة ملتن العظيمة على الإنجاز البليغ الذي جعله يعبر بالكلمات القلائل عن المعنى الواسع الكثير الوشائج، وهي مقدرة جعلها وكولى من أبرز خصائص شعره، بل جعلها خاصته التي يمتاز بها من أكثر الشعراء، وهي من الزم الصفات كما ذكرنا لبناء المقطوعة
وحسبك أن تقرأ في هذه المقطوعات العاطفة الرقيقة التي تعبر عنها النغمة الهادئة الرخية كأنها نسمات الفجر، إلى جانب الصرخة الصاخبة المدوية كأنها هياج العاصفة أو اصتخاب الموج، لتعرف كيف استطاع ملتن أن يجعل من المقطوعة شيئاً آخر قوياً مهيباً له خطره وأثره، وتجد مثالا للأولى في إشارته إلى ما أصابه من عمى وفي توجده على فقد زوجته الثانية، وتجدمثالا للثانية في غضبته لمذابح بيدمنت وجملته على مستكرهي الضمائر من البيوريتانز، وفي سخريته ممن انتقدوا كتيباته من خصومه. وبين هذا وذاك تقع على نغمات تتصف بالقوة والجلال وهي التي مجد بها أبطال قومه مثل فيرفاكس وكرمول، والتي دافع بها عن الحرية الدينية والسياسية
بهذه الصفات وأمثالها رفع ملتن المقطوعة مكاناً عالياً، فلم تعد كما كانت أغنيات غرامية رائعة أو مائعة، وإنما أصبحت هتاف شاعر يهيب بقومه إلى جانب كونها خلجات نفس تتألم وتتفجع كسائر النفوس، وما من أصدق وأجمل كلمة وردثورث التي وصف بها
المقطوعة على يد ملتن إذ قال: (لقد أصبحت هذه بوقاً في يديه)
ولئن خرج ملتن بالمقطوعة عن نطاق الإليزابثيين ومن قبلهم من الإيطاليين، وأتخذ منها أداة لخواطره السياسية والاجتماعية إلى جانب خطراته المنحصرة في حياته الشخصية، فإن تمكنه وصدقه قد جعلا لمقطوعاته السياسية والاجتماع من الجمال والسحر ما تسمو به إلى مستوى الآثار الأدبية الرفيعة، وأعانته ضلاعته على أن يلبس الآراء السياسية لباس الأدب الصحيح، ويضفي عليها رونق الفن وروعته وهو عمل يستعصي على من لم يكن له مثل عبقريته. ولما كانت المقطوعة عند الإيطاليين والإليزابثيين شكاة في الأكثر من حبيب قاس أو من ضنى الحب وسهده ووجده فقد الفتها النفوس في هذا المجال وان كان قد تطرق إليها بسبب هذا الفتور والصنعة حتى استصغر شأنها بعض النقدة كما أشرنا.
ويعد خروج ملتن بها عن نطاقها جرأة في الفن تنهض دليلا على فحولته وصدق شاعريته يضاف إلى ما توافى له من أدلة وذلك فضلا عن كونه فتحاً في تاريخ المقطوعة صار له ما بعده.
ولقد أشرنا إلى أكثر هذه المقطوعات كلا في موضعها من سيرته أو في المناسبة التي نظمها الشاعر فيها، وكانت مقطوعته التي ناجى فيها البلبل أول شبابه هي باكورة مقطوعاته الإنجليزية وتليها المقطوعة التي نظمها بعد ذلك بقليل بمناسبة بلوغه الثالثة والعشرين من عمره، وكلتاهما من المقطوعات التي تدور حول شخصه، ومن أشهر تلك المقطوعات الشخصية ما ظمه حين أصيب بفقد بصره ثم تلك المقطوعة التي رثى بها زوجته الثانية. أما مقطوعاته العامة فأولها مقطوعة جميلة لم نشر إليها من قبل وهي التي اتخذ عنوانها (حينما أزمع مهاجمة المدينة) وكان ذلك سنة 1643 إذ تهددت جنود شارل مدينة لندن، وهو يخاطب فيها الفرسان ألا يزعجوه في مأمنه وألا يزعجوا الشعر في منعزلة وجزاؤهم على ذلك أن يخلد أسماءهم بثنائه ويشير فيها إلى ما فعله الاسكندر الأكبر حين حطم مدينة مقدونيا فأنه استثنى البيت الذي كان يعيش فيه من قبل الشاعر بندار، وكذلك فعل ليساندر القائد الإسبرطي فأنه أنقذ أثينا من الدمار لأنها أنجبت يوروبيدس وكان القائد قد سمع بطريقة المصادفة شيئا عن شعره. ومن اشهر هذه المقطوعات العامة مقطوعة عن مذابح بيدمنت وتلك التي مجد فيها فيرفاكس ثم تلك التي رفعها إلى كرمول.
ولسنا بحاجة إلى كثير من القول لبيان قيمة تلك المقطوعات جميعا من حيث بلاغة الشعر فيها وروعته، فإن خصائص شعر ملتن كما أسلفنا كانت مما يوائم بناء مثل هذه المقطوعات؛ ولقد كانت جزالة اللفظ مع إشراقه وجماله ووجازته وأداء المعنى المراد لا أكثر منه ولا اقل من أبرز خصائص شعر ملتن، وكذلك كان من خصائصه قوة تأثيره في النفوس بما تحويه ألفاظه من رؤى وأطياف وما يتداعى إلى الخاطر عند سماعها من معان وأخيلة كأنما كان للفظة قوة خفية سحرية لا تنكر وان كانت لا تدرك؛ أضف إلى هذا موسيقى عذبة ناتجة من ائتلاف الألفاظ وصوغها وإضافة بعضها إلى بعض على صورة تكسب كلا منها جمالاً لا يكون له غير هذا الوضع وتجعل منها في مجموعها لحنا عجيبا تستشعره النفس كما تستشعره الأذنان، ويرى أكثر النقاد أن هذه الخصائص واضحة في هاتيك المقطوعات لم تشذ إلا في أسطر قليلة أو في كلمات معدودات كانت اقرب إلى لغة العوام في مقطوعة من المقطوعات التي هاجم فيها الشاعر منتقدي فلسفته في الطلاق من خصومه.
(يتبع)
الخفيف
عند القمة الأولي.
. .
للأستاذ محمد العلائي
(أخي سيد قطب:
كان في حسابك وحسابي أنني سأبعث بهذه القصيدة أو بمثلها من (لندن) ولكن! ضحكت الأقدار وبعثت بها من هذه القرية المصرية الهامدة التي مزقت أهلها متربة الأنفس ومجاعة الأفواه!!. . فهل يأذن أستاذنا (الزيات) وهو والد كريم ولمحتني حق في (رسالته) هل يأذن في أن أشهد على وزارة المعارف المصرية وموقفها من (بعثتي) بعد أن أصبحت حقاً لا يقوى على اغتصابه إلا من أعفي نفسه من الواجب والضمير. أريد أن اشهد على وزارة المعارف وعلى شعورها بقضيتي أولئك الذين مسني عطفهم وعنايتهم من أساتذتي بالجامعة وخارجها ومن أصدقائي الأقربين. . .
وأشهد وزراء المعارف وذوي الأنفس والآراء في المشرق العربي على وزارة المعارف المصرية وكيف أفقدتني الثقة في وطني وبيئتي مما جعل غايتي في الحياة أن اخرج من (مصر) التي أبت على أن اقنع من الدنيا بالماء والهواء وأن يكون عاملا أمينا مخلصا في قضية الحق والخير وان اخدم طائفتي من أبناء الظلام فأعوضهم عن ظلمة البصر نور البصيرة.
فلنحمل وزارة المعارف المصرية تبعة الروائي في هذه القرية أو هجرتي من هذا الوطن الذي لم تشملني وزارة معارفه بذرة من العطب الذي شملتني به وزارتا المعارف الإنجليزية والأمريكية).
(العلائي)
طال عهد النوى فسيروا أمامي
…
ودعوني فلن يطول مقامي!
ودعوني فما انتهيت ولكن
…
أوهن الخوف والرجاء عظامي
وازدرائي لما أرى لم يدع لي
…
أملا في الثرى ولا في الغمام
فرَّق الصحو مهجتي وطواني
…
ألم السهد بين قوم نيام
قَّصر العزم خدعة بعد أخرى
…
في شعور مفزَّع بالحمام!
كم طويت الشعاب احمل نفسي
…
تحت عبء الرغاب قيد الظلام
وسقى الشوك في الأجادب مائي
…
وترامى على الأفاعي سلامي!!
أستر الفحش في عيون الليالي
…
وأداري سفاهة الأيام
أستحث الخطى صباحاً فتبدو
…
عثرات المساء في إقدامي
مسرف لا أريد غير بعيد
…
يائس تستخفني أوهامي
وبصدري مع الشقاء صراع
…
بين حب المنى وبغض الزحام
كنت أهوى امتداد خطوي حتى
…
تتوارى مواطن الأحلام
غير أني أحس ضعفاً. . . وهذا
…
مجمع الشوق والعواطف دام
وبنفسي تساؤل وملال
…
ولجفنيَّ رغبة في المنام
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
هامد الحس من صروف الليالي
من طريق أحلامه عبرات
…
في ظلام الكهوف والأدغال
وقطيع دماؤه من صديد
…
أفرزته نجاسة الأذيال
حمل الخزى في وجوه عليها
…
بصقات الزمان غير مبال
في عظامي تقزز. . . وبنفسي
…
غثيان من قوله والفعال
في حماه عشقت سود الأماني
…
وشربت القذى طريح الملال
وعدمت الصديق أهفو إليه
…
في ذرى شوقه ومسرى اكتمالي
أنزع الشوك من رؤاه. . . ويرمي
…
زهرة الشر من رياض انفعالي
نسكب النور في المدى ونوالي
…
دوحة الخلد في سكون الكمال
وعدمت الملاك يشرع ذاتي
…
في سلام الربى ومجد الأعالي
فوق عرش من المودة يندي
…
بشذى رحمتي وفيض ابتهالي
سكنت روحنا إليه وغابت
…
في أناجيل من وراء الخيال
ضل عني رجاؤها رغم أني
…
صانع الوهم خالق الآمال
واحتواني السكوت رغم لسان
…
عرفته مضارب الأمثال
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
انزع الحس من رميم الشقاء
وكأني بهم مقابر موتي
…
بعثرتها عواصف الصحراء
وأرى بالعظام جمرة سُخري
…
وبأشلائهم قروح ازدراء
عَفَن فاح من جماجمهم أهلي
…
أشبهت ريحه صديد البلاء
ذكرتني الرمام عهداً تولى
…
وزماناً مضى لغير لقاء!!
ذكرتني بأنفس وأفاع
…
شرقت بالزعاف تحت سمائي
مسني غدرها فأضحك همي
…
ثم أهدى لها الدوارَ وفائي
وبأخرى منحتها من وجودي
…
نشوة الأمن واحتساب الرجاء
ورمتني بشرها فوقاني
…
شر نفسي وشرة الأهواء
وبأخرى تظامأت تحت حسي
…
فسقاها تنبلي وحيائي
شربتني وحين خارت قواها
…
علمت أن حكمتي في دمائي
وبأخرى وأخريات تلوى
…
تحت ماض يمور في أحشائي
آه من يبعد الرمام ويقصى
…
فضلات البلى ودود الفناء
غير أن الرمام خير وأزكى
…
من ذويها بعالم الأحياء
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
بين أجداثها ومسرى الحياة
ومضى الناس أنفساً تتشهى
…
جيفة الأرض وامتصاص الرفات
دنسوا مورد الحياة وفاتوا
…
رجس أفواههم على الثمرات
عشت فيهم بظاهر من شعوري
…
مشمئز النهى رضي السمات
ثم ضمدت بالزعاف جراحي!!
…
وتغنيت للأصم شكاتي!!
يا لنفسي بها نَبيٌّ وطفل!!
…
فهي فوق المدى وبين اللدات!!
تسع الكون غاية وابتداء
…
ولها بعد ذاك في التافهات!!
يا لنفسي بها بشائر غيث
…
يغمر الجدب ماؤه بالصَّلات
ويمد الظلال تهوي إليها
…
أنفس الظامئين للرحمات
يا لنفسي بها بشائر نجم
…
ينفح الليل نوره بالهبات
يكشف الستر عن كثير ويغشي
…
في الدياجي مهازل الحرمات
يا لنفسي جهلتها. . . كيف غيري؟!
…
ويح من خاض وهمه في صفاتي
خاطري كالسحاب ليس مقيما
…
هو في الصبح غيره في الغداة
أنكروني مثلما. . . ليت شعري
…
لو تراءت لهم معالم ذاتي!
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
ليس محواً وليس حلم اتحاد
ذاك ما كنت أرتجيه وهذا
…
فوق ما ارتجي وفوق مرادي!!
تلك نفسي وذاك غير قليل
…
مائيَ النور والحقيقة زادي
فرحت الغيب أشرقت في ضميري
…
وينابيع راحها في ازدياد
أومض الحق بالرجاء وهبت
…
نسمة الروح في كيان الجماد
لمحات تمايلت في سناها
…
راسيات المكان والآباد
لمسات من الكمال وأخرى
…
تاه فيها المدى وذاب فؤادي
دوحة الخير هذه. . . كم تراءت
…
في منامي ظلالها وسهادي
شهدت مولد الزمان وألقت
…
في يديه بما نرى من أياد!
ذلك البحر قطرة من نداها
…
بين هذى الربى وتلك الوهاد
مست الكون يوم كان فألفي
…
حظه من تكامل وامتداد
سكرت مهجتي وغابت رؤاها
…
ويك أني أخاف سفح ارتدادي
نشوة الحلم في حسابيَ أهدى
…
من يقين بواقع الأصفاد
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
بين هم مضى وحلم كِذاب
منذ حين دفنت أمسي حتى
…
زهرات ورثتها أحبابي
ورسوماً تفوح منها معان
…
نسيتها لديَّ ريح الشباب
وتناسيت أرضنا وهواها
…
وتجاهلت إنني من تراب!
ثم أسلمت للسماء رجائي
…
وتحيرت في السها محرابي
وتساميت في المدارج حتى
…
مست الغيب في العلا أسبابي
وارتوى خاطري وأوشك ينسى
…
موبقات الصدى وراء السراب
واستوينا على السكينة لكن
…
عاود النفس حبها للعذاب
يا لنفسي تذكُّرٌ واشتياق
…
نازعاها إلى حضيض الرغاب
هاهنا الدوح والظلال فمالي
…
أتشهى منابت الأعشاب!!
لي فؤاد يعاف قبل اكتفاء
…
مستطار يهيم بعد ارتياب
ظلمت الطين حركت في ضلوعي
…
صور الناس وارتياد الشعاب
ضجة الركب لم تزل تحت سمعي
…
وأمانيه لم تزل في حسابي
فوق هذا الأنام روحيَ لكن
…
لم يصل بي مكانة الأرباب
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
استشف المدى وروح الزمان
انطق الوهم كل أعجمَ حتى
…
كلمتني صخور هذا المكان!؟
وتوهمت إن للدوح سمعاً
…
فعزفت الشجي من الحاني!!
وتخيلت في النجوم عيوناً!
…
فكشفت الجراح قبل الأماني!!
وحسبت الرياح تعقل خطبي
…
فأفاضت سريرتي وبياني!!
وتأملت. . . لم أجد غير نفسي!!
…
وجماد غمرته بالمعاني!!
وتراجعت استرد شعوري
…
فأهالت جمودهَا في كياني
ضل في عشرة الجماد ذكائي
…
بعد ما ضل في بني الإنسان!!
كم تمنيت غير شيء وخاضت
…
في فضاء مفرغ أشجاني
كم ركبت الشقاء نحو ضلال
…
وتوسدت في الدجى أدراني
كم تلهيت بالكبائر حتى
…
طفر الرعب من دم الشيطان!!
كم تطهرت بالقداسة والنور
…
وفاض الحياء من أيماني!!
أنت يا من خلقتني كنت أولى
…
بضيائي من الثرى والهوان!!
أنا راض بما قضيت ولكن
…
عاتب اخرس الحياء لساني
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
نتشاكى مذاهبي ودياري
أطفأ اليأس ما أمامي حتى
…
مثل النور بعد شمس النهار!
وجم القلب. . . لا صلاة عليه
…
لا ولا قدرة على أوزار!
وانقضى الخوف والرجاء وزالت
…
شائقات الرضى ففيم انتظاري؟!
لم تدع موجة الصعود لحسي
…
رمقاً اهتدي به في انحداري!!
كلما لاح في الأصائل معنى
…
طمسته شوائب الأسحار
أذهلتني مواقف الحظ مني
…
وجنوني بحكمتي واختياري
راعني ذلك التصادف حتى
…
خلت في تصرف الأقدار
ليتني لك أذق تجارب دهر
…
سلبتني إرادة الأحرار
حلقات من التماسك هاجت
…
فيّ أوجاعها خطوب انهياري
شَرِقت بي محافل ستباهي
…
بازدرائي لها وتبكي احتقاري
قيم الأرض وهي منها أثارت
…
في سمائي رواسب الأغوار
لم أزل اذكر السماء فتهوى
…
فيّ أحلامها لغير قرار!
بين جنبي خفقة لو رأوها
…
لأصابت قلوبهم بالدُّوار
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
في مهب الأسى ومهوى ارتفاعي
وذكرت الشقاء في اليم حتى
…
ذهبت ريحه ومال شراعي!
وتوسدت خيبتي ورجاء
…
مزقته وساوس الأوجاع
وتواريت في بقايا كيان
…
أتملى فضاءها وأراعي!
بعدت غايتي وقصر عزمي
…
حرجُ الضعف واشتباه الدواعي
وجنوني بما شربت عليه
…
غير كأس من القذى والخداع
وانطوائي على فراغ وخوفي
…
سكرات المنى وهول الصراع
وانتفاضي لما أهاجت بصدري
…
عثرات الجدود الأوضاع
من جراح تمرغت من دماها
…
سابحات البلى ومرض الأفاعي
وخطوب تعفنت واشتهتها
…
آكلات الرميم دود البقاع
ضاقت الأرض والسماء ومالي
…
غير نفس قليلة الإطماع
غاية العيش عندها أن تراني
…
فوق مرعى العيون والأسماع
أهب الحب والرجاء وتسري
…
نفحات السلام خاف شعاعي
ويح هذا المدى أمامي أمسي
…
وورائي غَدِي ففيم اندفاعي؟!
ذهب الركب والتقيت بنفسي
…
في اشتياق عليه لون الفراق!!
وزماناً ذكرته حين هبت
…
ريح أيامه على آفاقي. . .
وحياة أضعت حظي منها
…
في جنوني بها وفي إغراقي!
وشباباً زويت يومي عنه
…
بانطوائي على غد واحتراقي!
وأمان ذهبن إلا هشيما
…
ليس فيه تفاؤلي واشتياقي!!
وأمان تشربتني ومصت
…
دفء قلبي وحكمة الأعماق!
أذهلتني عن الحياة ودست
…
في شعوري تمائم الإخفاق!
وأمان تهافتت يوم صحوي
…
صوراً من تزيدي واختلاقي!
وأمان أرقت فيها وجودي
…
ثم جاءت فلم تجد أشواقي!
وأمان من الذرى واليها
…
طال فيها مع المدى إطراقي
علمتني الذرى محبة نفسي
…
وكفى الغيرَ بسمةُ الإشفاق!
علمتني وباركت في طموحي
…
نشوة الكبر ساعة الإغداق!
فسلام على الذرى. . . ولنفسي
…
ما تمنيت من جزاء وفاق!
خفق الحظ بالجنوح فإما
…
لغروب خطاي أو إشراق!
(الزقازيق - كفر الحمام)
محمد العلائي
أمثولة قصصية.
. .
للأستاذ نجاتي صدقي
زارني صديق أديب وقال لي: أنني أميل إلى كتابة القصة، لكنني غير متمكن من قواعدها، فهل لك أن تعينني على ذلك؟ أرشدني إلى اساليبها، واطلعني على كيفية بنائها، وكن على يقين من إنني لن أنسى لك هذا المعروف ما حييت.
فأجبته: القصة فن قائم بذاته يا صديقي يعتمد بالدرجة الأولى على مواهب القاص، ودقة إحساسه، ومستوى ثقافته، ومدى اختباره للحياة، وعلى ذلك تراني عاجزاً عن تلبية رغبتك.
قال: إنني درست بعض قواعد القصة، وقد رسخت في ذهني، لكنني لم أوفق بعد في وضع قصة قوية في عقدتها، مثيرة في خاتمتها.
قلت: إذا كنت درست فن القصة، فكيف تحدده؟
قال: أستنادا إلى ما رواه أبو العباس الشريشي في (شرح المقامات الحريرية)، (فالقصة هي نقل الحديث من صاحبه إلى طالبه). . . وجاء في مقدمة كتاب (جمع الجواهر في الملح والنوادر) لأبي إسحاق الحصري القيرواني:(أن القصة هي التي ترتاح إليها الأرواح، وتطيب لها القلوب، وتشحذ بها الأذهان، وتطلق النفس من رابطها فتعيد بها نشاطها إذا ما انقبضت بعد انبساطها). . . وقال بديع الزمان الهمذاني في (المقامات): (وربما كان للقصة سبب لا تطيب إلا به، ومقدمات لا تحسن إلا معها فعلى المحدث أن يسوقها).
قلت: إن ما ذكرته لي من أقوال في القصة لأدباء العربية الأقدمين لا يساعدك على وضع قصة. . . فللقصة العصرية خمس قواعد فنية دقيقة هي: الصدر، والعقدة، وتطور الأحداث، والقمة، والخاتمة.
قال: اضرب لي مثلا في مادة تصلح لأن تؤلف قصة، وطبق عليها هذه القواعد، مرحلة فمرحلة.
فارتجلت هذا المثل البسيط: كان لعزيز جار، وكانت علاقتهما جد سطحية، لا تتعدى تبادل التحيات في الصباح أو المساء، والتبريك في المواسم أو الأعياد، لكنهما كانا يجتمعان في كثير من الأحايين في حلقة ذكر، أو حفلة مولد، أو فرح بمناسبة عقد قران، أو طهور أطفال، حتى وفي هذه الاجتماعات العامة كانت علاقتهما لا تتجاوز التحية أيضا، والسؤال
عن الطقس، والأحوال العامة، والثناء على صاحب الدعوة، والتنويه بكرمه ولطفه.
وفي فجر أحد الأيام، استيقظ عزيز كما استيقظت الحارة كلها على عويل صبايا، وصراخ أطفال وولولة عجائز، فعلم من ذلك أن أسرة من الأسر أصيبت بمكروه، فاطل برأسه من النافذة، فشاهد رؤوسا كثيرة تطل من نوافذها أيضا، متتبعة مصدر الأصوات، مستفهمة عما حدث. . . وبعد قليل من الوقت نمى إلى عزيز أن جاره قضى نحبه، فتمتم قائلا: لا حول ولا قوة إلا بالله. . . إنا لله وإنا إليه راجعون.
ورأى أن الواجب يدعوه لان يسير في جنازة جاره عملاً بالتقاليد المرعية منذ قرون فتعطل عن عمله في ذلك النهار، وخرجت الجنازة حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، وسار عزيز خلفها، وكان الطقس حارا، والشمس تسطع في كبد السماء، وبعبارة أخرى كان ذلك في العشرين من تموز (يوليو)، وكانت درجة الحرارة وقتئذ تشير إلى الأربعين سنتيغراد، وهي الدرجة التي يكتب في الموازين إزاءها كلمة (سنيغال). . . أي ما فوق حرارة الإنسان.
سار عزيز خلف نعش جاره وسار إلى جانبه شخص لا يعرفه، ولما كانت المقبرة تقع على مسيرة نصف ساعة رأى ذلك الشخص أن يقطع الوقت بالتحدث إلى عزيز، فأستهل كلامه قائلا: حر لا يطاق!. . . فأجاب عزيز: جهنم. . .
- إن عزرائيل لا يرحم!. . .
- لا يرحم المشيعين فقط. . . أما الميت، فسيان عنده الحر أو البرد.
- أنت تعرف المرحوم؟. . .
- أعرفه معرفة سطحية مع أننا جيران. . . غير أن المشهور عنه في الحارة إنه كان دمث الأخلاق.
وهنا أعترضت الجنازة سيارة شحن فعرقلت حركة المرور، وسدت الطريق على باقي السيارات فاختلطت مع بعضها، مما اضطر المشيعين إلى الوقوف مدة عشر دقائق. . . وكان عزيز يكاد يجن من شدة القيظ فتارة يجفف العرق المتصبب من وجهه بمنديله، وتارة يضع هذا المنديل على راسه، ويغطيه بطربوشه، وطورا يرفع الطربوش والمنديل ويضع راحته على رأسه، وطورا آخر يغتنم فرصة وجود شخص ضخم الجسم يسير أمامه
فيستفيء في ظله. . .
ثم تابعت الجنازة سيرها، وتابع رفيق عزيز حديثه قائلا:
السير وراء الميت رحمة. . .
فأجابه عزيز: لا شك في ذلك، غير أنني أفضل تشييع الجنازات بالسيارات.
- ماذا؟. . . بالسيارات؟. . . هذا لا يجوز أبدا.
- لماذا؟. . .
- لان الناس يستنتجون من ذلك أن المشيعين يريدون التخلص من الفقيد على عجل. . .
وبلغت الجنازة مسجداً في الطريق، فوقف المشيعون، وادخلوا النعش المسجد، ودخل بعضهم في أثره ليصلوا على روح الفقيد، وظل عزيز واقفا خارج المسجد وكان يحس أن رأسه سينفجر من شدة الحر، فيشرب ماء وبتحول هذا الماء في لحظات إلى عرق منهمر.
ثم يخرج النعش، وتتابع الجنازة سيرها إلى أن تصل المقبرة.
وبعد أن أنزل الميت في لحده، وروى التراب وقرأ الشيخ عبارات التلقين المعتادة، وقرئت سورة (الفاتحة) على روحه، وقف أهل الفقيد في صفوف طويلة ليتقبلوا التعازي، وكان عددهم يناهز الخمسين. . . ووقف الناس في صفوف طويلة أيضاً ليقوموا بواجبهم في التعزية. . . ولسوء حظ عزيز أنه كان يقف في آخر تلك الصفوف.
وبدأ الناس يصافحون أهل الفقيد، فردا فردأ قائلين: عظم الله أجركم.
فيجيبوهم: كرم الله سعيكم. . .
وبعد نصف ساعة على وجه التقريب، جاء دور عزيز في تأدية واجبه. . . وكان مظهره يبعث ألام في النفس.
وعاد إلى بيته منهوك القوى، وهو يشعر بدوران شديد، فانطرح على فراشه في شبه غيبوبة. . . وعند فجر اليوم التالي استيقظت الحارة على عويل صبايا، وصراخ أطفال، وولولة عجائز. . . فتساءل الناس عن الخبر فقيل لهم إن عزيزا قضى نحبه. . . وكان موته ناتجا عن ضربة شمس!. . .
قلت لجليسي: واليك الآن مقاييس هذه الأمثولة القصصية: الصدر: إن عزيزا له جار، وكانت علاقته به سطحية، لكنهما كانا يجتمعان في الحفلات والمواسم، فمات جار عزيز
واقتضت التقاليد أن يسير عزيز في جنازته.
العقدة: إن التقاليد تقتضي أن يتحمل عزيز وطأة الحر الشديد، وكان يسير وراء النعش متبرما، غير راض عن تأدية هذا الواجب.
تطور الحوادث: اضطراب حركة المرور، وتوقف الجنازة عن المسير مدة عشر دقائق، والدخول بالميت إلى المسجد.
القمة: وقوف عزيز في صفوف المعزين وهو في حالة شديدة من الإعياء وانهيار القوى.
الخاتمة: موت عزيز:
أرتاح زائري لهذه الأمثولة في فن القصة، ونهض قائلا: سأحاول وضع قصة مبنية على هذه القواعد.
قلت: وفقك الله. . . ولكن لا تنس أن تتدبر المواهب!. . .
نجاتي صدقي
البريد الأدبي
بين (أومن بالإنسان) و (هذي هي الأغلال):
لقد أخذتني فرحة هزتني حين تصفحت بسرعة كتاب (هذي هي
الأغلال) للأستاذ عبد الله القصيمي النجدي، فرأيته يتناول بالشرح
والتأييد القضيتين اللتين يدور حولهما فكري ويكاد يقف على الدعوة
إليهما قلمي منذ ست سنوات أو تزيد، وهما قضية (الأيمان بالإنسانية)
وقضية الاعتقاد أن (الحياة صادقة) وذوو الفلسفات الذين يزورون
عليها وينادون بالحرمان من ينابيعها كاذبون، لأنني اعتقد أن اعتناق
هاتين الفكرتين أمر جدير أن يحدث انقلاباً عظيماً في نظرة الناس إلى
أنفسهم والى الحياة والى واهب الحياة، إذ هما الشيء الواحد الجديد
الذي يمكن تقديمه للبشرية جميعها الآن ويمكن اللقاء بينها في مجاله،
ويمكن به إمدادها بكثير من عوامل التأميل والإسعاد والتفاؤل.
فما إن رأيت أن الفصل الأول من (هذي هي الأغلال) عنوانه (لقد كفروا بالإنسان - الأيمان به أول) حتى قلت الحمد لله ثم الحمد لله! إذ أرى عالما من نجد - وما أدراك ما علماء نجد في محافظتهم! - يعتنق الفكرة ويدعو لها بحماس ويصدر بها كتابه.
وما إن رأيت كذلك اغلب فصول الكتاب يستعرض أقوالا معدودة في سجل الحكم والفضائل عند كثير من المسلمين وتنحى عليها بالنقض ثم تجعلها في سجل الرذائل المدمرة للحياة والدي، حتى ثنيت الشكر لله على أن ما سبق أن قلته في مقالات (الحياة صادقة) في هذه المجلة في أوائل سنة 1942 وما بعدها قد وجد صدى مدويا. ولكن ما لبثت هزة الفرح والابتهاج أن انقلبت إلى أسى ووجوم واشمئزاز! إذ رأيت الكتاب يخلو من أدنى إشارة إلى تسجيل سبقي في هذه الدعوة، وإذ رأيت صاحبه مع ذلك يحدث ضجة مفتعلة حوله، ويصدر غلافه بهذه الجملة (سيقول مؤرخو الفكر: أنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل. . .) وأنه (ثورة في فهم الدين والعقل والحياة. . .) كأن مؤرخي الفكر
عميان لا يتلمسون مصادر الآراء!
وإني أعجب كيف يجرؤ كاتب أو مفكر يحترم رأي الناس ويستحي من نفسه أن يسبق التاريخ ويصدر حكمه على عمله بهذه الدرجة من الافتتان والزعم!
إن المفكر الواثق من أنه أتى بجديد حقا يضع آثاره بين يدي التاريخ في صمت ويدع له أن يحكم ولا يتعجل الحكم حتى تعلمه الأيام سواء في حياته أم بعد مماته. . والمفكر الأمين الثقة الغيور على الحق وحرية الفكر يترفع عن أن يغمط حق غيره وعن أن يطغى جهود من سبقوه بالدعاوة الجريئة لنفسه، لان هذا إن جاز في مجال الإعلان عن المتاجر والمهن فلن يجوز في رحاب الفكر والخلق
ولكن ما للمؤلف وللحديث عن الاخلاق، وهو كما روي عنه الأستاذ سيد قطب في مجلة السوادي يرى (أنه يجب أن ننفي العنصر الأخلاقي من حياتنا، فالحياة لا تعرف العناصر الخلقية ولا قيمة لها في الرقي والاستيلاء. . .).
ومما زاد أسفي أن أرى المؤلف يتجاهل حين سأله الأستاذ قطب أن يكون قد علم بسبقي إلى الفكرة. فعلى فرض أنه لم يطلع على (أومن بالإنسان) بعد ظهوره مجموعا في سنة 1945 فهل يكون من المقبول أو المعقول أنه لم يقرأ حتى بعض مقالات (أومن بالإنسان) التي تقارب العشرين حول تلك القضية أثناء بسطها في (الرسالة) وأحيانا في الثقافة في مدى خمس سنين تقريبا، ولا يزال أبسطها للان ويتناولها بعض الكتاب بالمناقشة؟ أم هو يزعم إنه لم يقرأ (الرسالة) أيضاً طول هذه المدة!!
ولئن كان سروري بأنتشار الفكرة برغم انتحال ناشرها لها قد قعد بي ما يزيد على شهرين بعد اطلاعي مصادفة على كتاب (هذي هي الأغلال) لدى الأستاذ الجليل محب الدين الخطيب، دون أن أنبه القراء، يضاف إلى ذلك أنني كنت على ثقة من أن النقد اليقظ سيرد الأمر إلى صاحبه. . . لئن كان ذلك هو ما قعد بي عن التنبيه فأنني حين اطلعت على مقال الأستاذ سيد قطب في مجلة (السوادي) في الأسبوع الماضي ورأيته يكشف عن خبايا كبيرة في آراء القصيمي الشخصية وسلوكه السياسي نحو محطمي أمجاد الإسلام والأديان ومهدري كرامة الإنسان. . . شعرت أن الواجب يقتضي أن انبه القراء إليه.
ولعلي أجد من الوقت ما يسمح بتتبع الالتواء الذي خرج به المؤلف عن جادة الفكرة
الأصلية التي تبناها في حياة أبيها. . .
عبد المنعم خلاف
إلى الأستاذ حسنين مخلوف:
قرأت شاكراً ما كتبت وكتبت اليد ذات السوار وكتب الأستاذ فؤاد السيد خليل، ورضيت ووافقت في الجملة، وأنا رجل لا اكره النقد ولا أطيل النزاع في أدبي وأسلوبي، لاني اعرف من نقائصهما أضعاف ما يتنبه له الناقدون، وما ادعيت لهما الكمال قط، ولكني أنازع فيما أجد فيه خروجاً على الجادة ومضرة للناس كقولك: (ولعللي أصدقك، وقد كنت في ماضي حياتي معلما في مدارس البنات، فهذه المخاوف التي استولت على ذهنك كنا نتصورها، أو قريبا منها، حتى إذا وجدنا أنفسنا في هذا الوسط، أحسسنا أن هؤلاء البنات بناتنا، والمعلمات أخواتنا، وزال هذا الخوف الأسود من مشاعرنا، وصارت الحياة عادية، وهذا شان سائر المعلمين في مدارس البنات
(فرفقاً بالناس وحنانيك، وإنصافاً، يا حضرة القاضي، فالأمر إن شاء الله على ما تحب بفضل القدوة الصالحة، والتهذيب الصحيح، وإلا فلتغلق مدارس البنات، والسلام)
يا أستاذ، إن القضية أهم من أن نضيع الحق فيها في غمرة المجاملات، وان لها من اثر في حياتنا ما يوجب علينا إيجابا الكلام فيها بصراحة ووضوح، كما يتكلم الطبيب في المرض ابتغاء علاجه، وعلى ذلك أقول لك اننا، وما قلت (نا) على سبيل تعظيم نفسي، بل أردت الجمع الحقيقي، وأنا أتكلم عن نفسي وعن كل من قال أنا عربي، وكل من شهد أنه لا اله إلا الله، وأسوق قضايا لا أظن أن في الدنيا عربياً أو مسلماً يعارض فيها.
أقول لك: إننا لا نجد مدارس البنات في الشام على ما نحب، بل على ما نكره اشد الكراهية، وعلى ما نألم منه ونشكو ونستغيث، وإذا فتشنا عن القدوة الصالحة في مصر وجدنا مدارس مصر أدهى وأمر، ووجدنا أن مدارس البنات في الشام إذا قيست بمدارس مصر كانت مساجد، واشهد أنه ما جاءنا هذا الذي نشكو منه إلا من مدارسكم ومجلاتكم وأقلامكم. ولا تحسب أني أتعصب للشام، ولا تأخذك عصبية لمصر، فأنا أيضاً مصري الأصل طنطاوي، ولقد أحببت مصر وعشت فيها زمنا، وأنا قادم إليها الآن لأعيش فيها
زمنا آخر، ومن محبتي لها اذكر عيوبها. . .
ونحن، يا أستاذ، نريد العلم للرجال والنساء، ومن ذا الذي لا يريد العلم؟ ولكنا نريد الدين أيضاً ورضا الله، ونريد الأخلاق والعفاف والشرف، ولا نستطيع أن نصدق ولو أكدت القول لنا، أن في الدنيا شابا متدفق الشباب رجلا ناضج الرجولة، يعيش بين بنات ناضجات الأنوثة، كاشفات الوجوه والأيدي والسوق يقفزن أمامه ويلعبن، ويمرحن ويضحكن، ويقران عليه في الدروس أشعار الحب والغزل، ويقران وحدهن هذه المجلات المصورة الملعونة، ويزين هذه الأفلام الدنسة، لا يصلين وكيف يصلين مكشوفات العورة، ولا يعرفن الحلال ولا الحرام، ثم يحس أن هؤلاء البنات بناته، وان المعلمات اخواته، وتصير الحياة عادية، ويكون هذا الشان سائر على المعلمين في مدارس البنات، هكذا التعميم بلا استثناء!
إذا كانت هذه الحياة عادية، ليس فيها شيء غريب ولا شاذ، كانت قوانين الطبيعة التي وضعها الله، وكانت أحكام العقل، وكانت مقررات الشرع هي الشاذة الغريبة، فانظر رحمك الله ما تقول!
يا أستاذ، أنت رجل مسلم، فهل تعتقد أن الله حرم شيئا عبثا، ومنعه لهوا وتسلية، تعالى الله عن ذلك، أم لحكمة بالغة، ومنفعة شاملة؟ وهب أن الحكمة من أمر أو نهي خفيت علينا، فهل يملك مسلم تعدى حدود الله؟ وإذا هو استحل ما حرم الله، فهل يبقى مسلماً؟
فقل لي: هل يجوز في دين الله أن تعيش ويعيش الشباب في هذا الوسط، ولو كان المستحيل وصارت الحياة عادية، ورأيت البنات كبناتك، والمعلمات كأخواتك؟ أريد الحكم الفقهي الشرعي لا أريد الآراء والخطابيات، فإن مصر دينها الرسمي الإسلام!
وهل يجوز وهذا هو حكم الله، والغرائز بعد موجودة، والميول قائمة، والنفس أمارة بالسوء، والشيطان عامل للشر كادح، أن تقيم وزارتكم مهرجاناً رياضياً في أول الصيف الماضي، نرى صورة له في مجلة مصورة، فنرى من التكشف (تكشف البنات اللائى هن كبناتك). ومن الأوضاع الرخيصة الفظيعة ما يذكر بأخبث ما يشاهد في السينما الخليعة، وأن تفتح مسبحا للبنات ونبصر صورهن منشورة وهن يسبحن فيه أمام الرجال؟
فهل يجوز هذا في شريعة العروبة وغيرتها وشهامتها؟ هل يجوز في دين الدولة المصرية
الرسمي؟ هل يجوز عند أهل العقل الذين يعملون بعقولهم ما هي نتائجه والى أين يوصل؟
أهذه هي القدوة الصالحة؟ أهذا هو التهذيب الصحيح؟ انصف أنت أيضا، فما يطلب الإنصاف من القضاة وحدهم. . . إنه ليطلب من المفتشين!
آما القصة التي انتقدتها، فإني أحلف لك بالله الذي لا يجرؤ على الحلف به كذبا مسلم، إنها واقعة وإنها ليست متخيلة، وأني ما صنعت فيها إلا ما يصنعه إذ يكتب القصة الواقعية لأديب، وان الطالبة كتبت له الشعر وزارته الدار، ولك أن تصدق أو تكذب، أنت حر!
(دمشق)
علي الطنطاوي
الكتب
دعوة في وقتها:
الرسالة الخالدة. . .
بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا
الأمين العام لجامعة الدول العربية
عرض وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 3 -
وقد بين المؤلف أخوة الذمة والعهد وحقوق الذمى وواجباته مما يتضح منه أن غنمه أكثر من غرمه. وبين الفرق الكبير بين نظام الذمة الإسلامي ونظام الحماية الحديث الذي همه الاستيلاء على المواد والاستعلاء على الأقوام، وبين أن أرى عهد بين المسلمين وغيرهم هو في كفالة الله وشهادته عليه، فهو في حماية العقيدة وحراسة الضمير الناصح المخلص الذي لا يخدع ولا ينافق.
ولا تملي شرائط الصلح عوامل الخوف والطمع، وليس للحرب إلا خاتمة واحدة هي أن يستقر السلام والعدل
وبين أن حرمة العهود فوق صلة الدين: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) وهو مبدأ يفخر به المسلمون وتعتز به البشرية كلها
وقد أكرم الفرد واحترم كلمته التي يقولها في تأمين محارب أو إجارة مستجير ولو كان ذلك الفرد عبدا أو امرأة. . . واحترم الكلمة ولو لم تكتب ما دام قد سبق عليها اتفاق، وبين أن الحالة الوحيدة التي يجوز فيها نقض العهد هي حالة التوجس وخيفة الخيانة من المعاهد. وهو نقض يجب الإعلان والنبذ به على سواء.
والحق أن ما في فصول هذا الباب شيء عظيم جداً يجب أن يوضع على أعين الأشهاد في المجال الدولي لأنه الطريق السلام والأمان. وقد اضطرت إلى خطف بعض مسائله الهامة
خطفا لا يغني.
في أسباب الاضطراب العالمي
في الفصول الخمسة لهذا الباب تتجلى عقلية المؤلف كرجل عالي مهتم بقضايا الإنسانية كلها مشخص لأدواتها، واسع المعرفة بدخائل حياتها في المشرق والمغرب. وإذا كان تشخيص الداء في الطب هو أول وسائل العلاج، فإن ذلك صحيح في الاجتماع أيضا. وإذا كان ذلك لا يتأتى إلا لمهملين من الأطباء، فإن هذا لا يتأتى إلا للمهملين من علماء الأجتماع.
لقد حصر الأسباب الرئيسية للأضطراب العالمي في الاستعمار، وفي النزاع بين الطبقات على النظم الأقتصادية، وفي الإفراط في النزعة الوطنية والعنصرية وإنكار حقوق الأخرسين، وفي طغيان المادية وحب الترف، وفي انهزام القوى المعنوية أمام القوى المادية مما ترتب عليه تبلبل الأخلاق والعقائد والعرف الصالح، وفي تفشي فلسفة الكذب والغدر والنفاق في السياسة.
وقد بين بالوقائع والأسانيد أن الاستعمار خراب وان فرائسه هي فرسانه! وأنه سراب لا تملأ أمواجه ملعقة. . . وأنه سبب الحروب في القرنين الاخيرين، وإنه شر الغالب وشر على المغلوب في الغرب والشرق، وأنه لا بد من التضحية به لنجاة الحضارة، وأن الرسالة الخالدة تنكره وتنكر مبرراته!
أما نزاع الطبقات، فقد صار في العصر الحديث عنصرا للاضطراب العالمي بين الفقراء والأغنياء والعمال والصناع والملاك والمديرين. وقد ضاعف التعقيد العصري للمذاهب والدعوات في خطر هذا العنصر، وكذلك ضاعف استخدام البخار والكهرباء في عوامل استفحاله بين رأسمالية الآلة والعمال، وتفرق الناس من اجل فلسفات هذا النزاع بين الشيوعية والرأسمالية والفاشية والنازية والديمقراطية. ولا شيء يستطيع أن يقاوم التعقيد في هذا العنصر إلا البساطة الدينية في معالجة مشكلات المال. فقد جعلت للمحروم حقه الثابت في أموال الناس جميعا وهذا المبدأ الثابت يتناوله التنفيذ المرن بحسب الظروف. والقرآن أوجب الزكاة، وعلى الإمام أن يوجهها حسب الحاجة. وكل مصلحة اجتماعية فهي سبيل الله، فتشمل التامين الاجتماعي والصحي مثلا. ولم تكتف هذه البساطة أيضاً بفرض
هذا الحق المعلوم في أموال القادرين للمحتاجين، بل جعلت الدولة كفيلة على إقامة التوازن الاجتماعي، سواء أكان بالزكاة أم بغيرها إن لم تكف الزكاة الحاجات العامة. وحيثما كانت المصحة واعدل فثم شرع الله ودينه. وفي التاريخ الإسلامي أمثلة رائعة لتصرف الدولة حسب الظروف مع عدم تقيدها بالنصوص القرآنية في أهم المسائل الاقتصادية والسياسية. وقد ضرب منها مثلا في تصرف أبي بكر في مساواة السابقين إلى الإسلام واللاحقين في الأعطية وتفضيل السابقين في عهد عمر، ومثلا آخر في عهد عمر حين رأى عدم تقسيم أرض العراق والشام كفيء على المحاربين وأجرى لهم أعطية من خراجها مع بقائها في أيدي الأجراء يعملون فيها محافظة على حقوق الذريات والأجيال الآتية. مع إن النص القرآني صريح تقسيمها إلى كفيء على فاتحيها.
وقد ألزم الإسلام السلطان بمنع النزاع بين الطبقات وبالتامين والتوازن الاجتماعي بالتهذيب الروحي ومحاربة الترف والبذخ والجمع بين الوجدان والسيف
أما النزاعات القومية والوطنية، فقد صارت عصبية حديثة أوحاها التشدد في الحدود الجغرافية والجنسية، وهي نزعات لم تكن بهذا الاستفحال في العصور القديمة والوسطى حين كانت الدولة الواحدة يشترك في خدمتها عناصر وأجناس متفرقة كلها ترقى سلم المناصب الرفيعة بحسب المواهب في خدمتها. فليست هذه النزاعات الحديثة سببا في الاستقرار بل عاملاً في زيادة الاضطراب لأن الحدود السياسية الخالية للأوطان حدود صناعية كثيرا ما تفرق بين جنس وآخر وتضم أجناسا مختلفة. وقد مر قرنان على أوربا وقد غرقت في الدماء من جراء النزاع على الحدود وتحرير الأقليات بين الفرنسيين والألمان، وبين النمسويين والألمان وبين هؤلاء وهؤلاء والصقالبة، وبين النمسا وإيطاليا، وبين البلقانيين جميعا، وبينهم وبين الدولة العثمانية وبين روسيا وغيرها من جيران الشرق والغرب، وبين المجر والتشك والبولونيين والرومانيين.
وقد أنتقلت هذه العصبيات إلى الشرق لتأدبه بأدب الغرب، فعلى سنجق الاسكندرونه خلاف بين سوريا وتركيا، وعلى شط العرب بين العراق وإيران، وقد ابتدأو ينسون الأدب المحمدي في النظرة إلى أشبار الأرض. . .
وقد لجأت الدولة إلى الهجرة الإجبارية فلم يستفيد منها أحد، وحاولت عصبة الأمم حل
المشكلات الأقليات فلم تحصل على طائل والإسلام لا يعرف الوطنية والعنصرية إلى هذا الحد الوثني، ويضع العلاقات البشرية على أساس معنوي، فإن الخلاف فيه أخف من الخلاف في المجال المادي الذي يثير أخس الغرائز وأعنفها وليس لديه اعتراف بسيادة أو عبودية، بل بالأخوة الشاملة. أما هزيمة القوى المعنوية، فهي اثر من آثار السيطرة على المادة، وسرعة التطور المادي وبطأ التطور الروحي، وتباعد الفروق بين الناس تبعا لحظوظهم من العم المادي ولعلاج ذلك يجب التوفيق السريع بين الروح والمادة قبل الكارثة الكبرى التي ستهدم الحضارة. والإسلام قد وفق بين الحياتين لئلا تستحيل نعم المادة إلى نقم كما وقع في الحربين الأخيرتين التي حطمت مدينتنا مرتين في ربع قرن. ولا ملجأ للقوى المعنوية إلا بالرجوع إلى منابع الرحمة والهدى في الأديان.
عبد المنعم خلاف