المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 7 - بتاريخ: 15 - 04 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 7

- بتاريخ: 15 - 04 - 1933

ص: -1

‌في العيد.

. .

في ذات مساء اشتد فيه الصراع بين بواكر الربيع وأواخر الشتاء، ارتفع من بين ضجيج القاهرة ولغط النهار الراحل، طلقات ضعيفة من مدفع عتيق. . وتألقت في شرفات المآذن الشم مصابيح الكهرباء بغتة. . فعلم الناس بمقتضى التقاليد أن غداً يوم العيد. .!

راح قوم يقضون ليلهم بين وحشة القبور ورهبة الموت، في غير إدِّكار ولا اعتبار ولا خشية! وبات آخرون يتعهدون كباش الأضاحي بالعلف، ويشحذون لصباحها المدى والسواطير. . .!

وأصبحت القاهرة دامية البيوت، حامية المطابخ، شديدة الجلبة: وبيوت الله التي نزل فيها العيد من السماء، تنتظر المؤمنين للصلاة والدعاء، فلم يغشها إلا فئات من العمال والبوابين والخدم!.

أما السراة والأوساط، فقد خرجوا من هندام الأمس، واهتمام اليوم، يستقبلون العيد في القهوات والحانات، بين لعبة النرد الصاخبة، وأحاديث الدواوين المعادة! فإذا تلاقى في الطريق صديقان، أو تراءى في القهوة قريبان، تبادلا في فتور تحية العيد، ثم مضى كل منهما لشأنه!!

ذلك هو العيد أو ما يقاربه في مصر وفي سائر البلاد العربية.! فلولا مرح طافر يقوم بالأطفال في هذا اليوم لعطلة المدارس، وجدة الملابس، وسحر النقود، وفتنة اللعب لمرَّ كسائر الأيام حائل اللون تافه الطعم بادي الكآبة!

فليت شعري ماذا حاق بنا من الأحداث والغِيَر حتى غاضت ينابيع المسرة في القلوب، وماتت أحاسيس البهجة في النفوس، وتحللت أواصر المودة بين الناس، وآل أمر العيدين (وهما كل ما بقى في أيدينا من مظاهر الوحدة الدينية والعزة القومية) إلى هذه الصورة الطامسة والحال البائسة؟!

لا نستطيع أن نتهم حسرة الحزن على الماضي، وذلة الضعف في الحاضر، فإن أعياد اليهود وإن فقدت بذلك مظهرها الاجتماعي، لم تفقد روعة الدين في الكَنيس، ومتعة الأنس في البيت، وجمال الذكرى في الخاطر.

وأعياد إخواننا في الوطن والجنس والمجد والأسى من نصارى الشرق لا ينقصها الرواء والإخاء واللذة.

ص: 1

كذلك لا نستطيع أن نتهم المادية والمدنية، فانهما (وإن جنَتا على بعض الأخلاق الكريمة كالإخاء والإخلاص والمروءة والرحمة) لم تجنيا على نزعات السرور في النفوس، ولم تقضيا على غرائز اللهو في الطباع، بل ازداد الناس بهما في ذلك شراهة وحدَّة.

والأعياد الأجنبية التي تشهدها مصر في ذكرى الميلاد ورأس السنة غاية في نعيم الروح والجسم، وآية في سلامة الذوق والطبع، وفرصة ترى فيها القاهرة (وهي متفرجة) كيف تفيض الكنائس بالجلال، وتزخر الفنادق بالجمال، وتشرق المنازل بالأنس، وتمسي الشوارع وبيوت التجارة ودور اللهو مسرحا للحسن، ومعرضاً للفن، ومهبطاً للسرور، وتصبح أعياد القلة القليلة مظهراً للفرح العام، ومصدراً للابتهاج المشترك!

وهي من وراء ذلك كله من أقوى العوامل في توثيق العلاقة بين الله والإنسان بالصدقات، وبين الأصدقاء والأقارب بالهدايا، وبين الكبار والصغار باللعب، وبين الإنسان والإنسان بالمودة.

إذن ما هي الأسباب الصحيحة التي مسخت حياتنا هذا المسخ، وشوهت أعيادنا هذا التشويه، فجعلت المظاهر فيها خروفا يذبح ولا يضحَّي، ومدافع تساعد المآذن ولا تجاب، وأياما كنقاهة المريض كل ما فيها همود ونوم وأكل؟؟

الحق أن لذلك أسباباً مختلفة، ولكنها عند الروية والتأمل ترجع إلى سبب رئيسي واحد: هو غيبة المرأة عن المجتمع الإسلامي. . . ذلك السبب هو علة ما نكابده من جفاء في الطبع، وجفاف في العيش، وجهومة في البيت، وسآمة في العمل، وفوضى في الاجتماع.

كرهنا الدور لاحتجاب المرأة، وهجرنا الأندية لغياب المرأة، وسئمنا الملاهي لبعد المرأة، وأصبحنا كالسمك في الماء، أو الهباء في الهواء، نحيا حياة الهيام والتشرد، فلا نطمئن إلى مجلس، ولا نستأنس لحديث!

فإذا لم تصبح المرأة في البهو عطر المجلس، وعلى الطعام زهر المائدة، وفي النَّدِي روح الحديث؛ وفي الحفل مجمع الأفئدة، فهيهات أن يكون لنا عيد صحيح، ومجتمع مهذب، وحياة طيبة؛ وأسرة سعيدة!.

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌التجديد في الأدب

للأستاذ أحمد أمين

- 2 -

عرضت في مقالي السابق للبحث في الألفاظ وما تتطلب من جِدة؛ واليوم أعرض لضرب آخر من ضروب التجديد وهو التجديد في العبارة، وأعني بالعبارة الجملة التي يؤدَّى بها المعنى على اختلاف ألوانها، من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية.

ومما لا شك فيه أن البليغ يستمد تشبيهاته واستعاراته وما إلى ذلك مما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية. فالأدب الجاهلي (مثلاً) صورة صادقة لمعيشة العربي في الجاهلية؛ إذا بكى، فإنما يبكي الأطلال والمنزل الداثر والرسم العافي. وإذا رحل، فعلى ناقة أو بعير. وإذا أعجبه نبت، فالشيح والقيصوم، والخزامى والعَرار. وإذا ذكر النسيم، فصبا نجد. وإذا حن إلى مكان، فموطنه من الرقمتين ورَضوى وثَبير. كذلك كان في تشبيهاته واستعاراته وأمثاله: يستوحي ما يحيط به، ويستلهم ما يقع حسه عليه. فقال: استنوق الجمل، وهو أعز من الأبلق العقوق، وأبدت الرغوة عن الصريح، وهم أكثر من الحصى، وهو ليث غابة، وما تُحَلُّ حَبْوته، وألقى حبله على غاربه، وقصُرت الأعنة، واشتجرت الأسنة، وزلزلت الأقدام من رنين القِسِي، وقراع الرماح، وطحنهم طحن الرحى، ومطله مطل نعاس الكلب، وكالباحث عن حتفه بظلفه، وحط راحلته، وضرب أوتاده، وألقى عصاه، والقافلة تسير والكلاب تنبح. إلى كثير من أمثال ذلك، فهم في كل هذا يصفون حياتهم، ويشتقون منها تشبيهاتهم، ويضربون منها أمثالهم.

وتتابع أدباء العرب بعدُ يزيدون في التعبير، تبعاً لتغير المعيشة الاجتماعية، وتقدمهم في الحضارة. فقالوا: صندل الشراب وعنبره (وكأن أخلاقه سبكت من الذهب المصفى) ويكاد يسيل الظرف من أعطافه، ويمازج الأرواح لرقته (قد دس له الغدْر في الملَق) وهو من صيارفة الكلام، يتطفل على موائد الكتاب، وكأن ألفاظه قطع الرياض، وكأن معانيه نسم الآصال. وهكذا كانت العبارات المحدثة في العصر العباسي تخالف من وجوه كثيرة العبارات الجاهلية والأموية.

وقد جارى المؤلفون الأدباء: يدونون ما اخترعوا، ويقيدون ما أبدعوا. فرأينا عبد الرحمن

ص: 3

الهمذاني يجمع في كتابه (الألفاظ الكتابية) العبارات المختارة من جاهلية وإسلامية ورأينا الحصري يملأ كتابه (زهر الآداب) بفصول يعنونها (ألفاظ لأهل العصر) يجمع تحتها ما اخترعته أهل عصره من تعبير رقيق وتشبيه أنيق. ونهج المؤلفون بعد هذا المسلك حتى كانت خاتمتهم إبراهيم اليازجي في كتابه (نجعة الرائد وشرعة الوارد) جمع فيه أحسن العبارات والألفاظ مما قال السابقون والمحدثون إلى عصره.

وبعد، فلو قارنا بين الأدب العربي الحديث، والأدب الغربي في هذا الباب، أعني باب العبارة، وجدنا في أدبنا العربي قصوراً ظاهراً، وضعفاً بيناً.

ذلك أن الأدب الغربي ساير الزمن، واعترف بكل ما حدث فيه، واستمد منه، على حين أن الأدب العربي الحديث أغمض عينه عن كل ما كان، ولم يعترف بوجوده. نظر الأدب الغربي إلى ماضيه وحاضره ومستقبله؛ ولم ينظر الأدب العربي إلا إلى ماضيه. وزّع الأدب الغربي لفتاته لينظر نظرة شاملة وثبَّت الأدب العربي عينيه فيما وراءه، فلم ينظر إلا إلى قديمه، فكان ناقصاً، لا يسايرنا ولا يصفنا ولا يمس حياتنا، وإنما يمس حياة آبائنا.

اعترف الأدب الغربي بالأدب القديم فأخذ منه خيره، واعترف بالدنيا الحديثة فاستمد تشبيهاته واستعاراته منها، رأى في دنياه مخترعات ومستكشفات لا حد لها من كهرباء ومواد كيميائية وطيارات وغواصات وغازات وأضواء وراديو وما لا يحصى كثرة. كل هذه الأشياء قلبت الحياة الاجتماعية رأساً على عقب. فلماذا لا تقلب الأدب؟ فأقبل الأديب عليها يتعرفها، ويستلهمها تشبيهات واستعارات عصرية طريفة، كان له منها ما أراد.

ورأى الأديب علم النفس ينمو ويرقى ويحلل أعمال الإنسان تحليلاً علمياً دقيقاً، ويعرض لكل المظاهر اليومية من ابتسامة وعبوس ورضى وغضب، فأخذ بحظ وافر منه واستعان به في أدبه وتعبيراته حتى استطاع أحد الكتاب الفرنسيين (وهو مارسل بروست أن يحلل ابتسامة سيدة في ست صفحات، ورأى نُظماً في الحكم تقوم وأخرى تسقط وكان لها من الأثر في حياة الناس وعقليتهم ما يخيل إليك معها أنهم أصبحوا بها خلقاً آخر، فجعل يتتبع هذه التغيرات ويقتبس منها ما شاء ذوقه الأدبي.

كل هذا وأمثاله جعل الأدب الغربي يسير محاذيا لكل نظم الحياة ويشاركها في رقيها واتجاهها، إن استضاء الناس بمصباح كهربائي فالأدب يعبر عنه ويستعير منه ويشبه به،

ص: 4

وإن كان نظام الحكم ديمقراطياً فالأدب ديمقراطي، والصور التي يصورها ديمقراطية، ويتعمق السيكولوجي في بحثه فيتعمق الروائي في تحليل شخصيات روايته، وهكذا كانت الاختراعات والصناعات والعلوم ونظم الحكم والسياسة والأدب تسير معاً، لا يخطو عنصر منها خطوة إلى الأمام حتى يدرك الآخر سر تقدمه فيعمل على أن يحتذيه. أما الأدب العربي فيحارب متراليوزا بقوس وسهم، ويضيء في أدبه سرا جابزيت، والناس اليوم قادمون على أن يغيروا المصباح الكهربائي بخير منه، ويبكى الأطلال ولا أطلال، ويحن إلى سلع ولا سلع، ويستطيب الخزامي والعرار ولا خزامي لدينا ولا عرار. من الحق أن نحب القديم الجميل ونحفظه ونتعلم منه ونعجب بما فيه من مظهر عاطفة حية وشعور قوي، ولكن لا ننشئه. وإذا قلناه وجب أن نقول معه ما نحياه ونعيش فيه

إذا أنت لم تحم القديم بحادث

من المجد لم ينفعك ما كان من قبل

وقفت العبارة العربية حيث كانت في العصر العباسي، ولم تتقدم إلا قليلا بما اقتبس من الأدب الغربي، والذي نتطلبه من التجديد فيها أن نستمد من حياتنا الواقعية، ومن كل ما يحيط بنا جملا حية تلائم ما في نفوسنا، وأن نخترع عبارات من المجازات والاستعارات والتشبيهات والكنايات نستمدها من الحياة التي نعيشها، وما وصلت إليه علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد.

وقد عاق الأدب العربي الحديث عن الوصول إلى هذه الغاية عوائق كثيرة أهمها:

(1)

ما سبقت الإشارة إليه من أن المخترعات ليس لها أسماء، وأن أئمة اللغة لم يرضوا أن يستعملوا الكلمات الأجنبية ولا وضعوا لها أسماء عربية، وتركوا الأدباء في حيرة من أمرهم، فكيف يستطيعون أن يستلهموها في جملة لتكسب المعنى قوة، وهم يفرون من التلفظ بها، ويخشون من علماء اللغة استعمالها، لذلك رضينا من الأدب بالعدول عنها جملة وتفصيلا، حقيقة ومجازا. وبهذا سد أمام الأديب العربي باب من أوسع الأبواب وأغزرها فائدة.

(2)

وسبب آخر من أهم الأسباب في فقر الأدب العربي في التعبير، هو أن الأدب العربي الحديث أدب أرستقراطي لا أدب شعبي، وأعني أرستقراطية العلم لا أرستقراطية المال، ذلك أن الأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني، أدب شعب لا أدب طبقة خاصة (نعم قد

ص: 5

يرقى الأدب الإنجليزي مثلا) فلا يفهمه إلا الراقون، ولكن بجانبه أدب إنجليزي شعبي، لا يختلف عن أدب الخاصة في ألفاظه وتراكيبه وإن اختلف في دقة المعنى وبساطته، (أما الأدب العربي فأدب خاص لطائفة المتعلمين تعلماً راقياً فحسب، لا يشاركهم فيه العامة وأشباه العامة، وللعامة أدب بلدي خاص، يستمتعون به في أغانيهم ونكتهم وزجلهم وموالياتهم) وحتى الخاصة، لا يتذوقون الأدب العربي إلا في الكتب والمجلات والجرائد، أما أحاديثهم وتنادرهم وفكاهاتهم فباللغة العامية، وليست أمة من الأمم الحية الآن بين لغتها اليومية ولغتها الأدبية من الفروق ما بين اللغة العربية واللغة العامية.

نتج من هذه الظاهرة نقص كبير في الأدب العربي الحديث، لأن استعمال الكلمات والعبارات في البيت وعلى المائدة وفي الشارع يكسبها حياة قوية ويزيدها صقلا ومرونة، ولو اقتصر في استعمالها على الكتب كانت حياتها ناقصة، لا يهذبها الاستعمال ولا يرقيها الصقل اليومي. وحسبك دليلا على ذلك أن النكت والنوادر وهي من أهم أركان الأدب لا تجد منها سائغا عذبا في أدبنا العربي عشر معشار ما تجده في الأدب العامي، وأن النادرة تحكي بالعامية فتضحك إلى أقصى حد، ثم تحكيها باللغة الفصحى فتخرج باردة تافهة، وأن كثيراً من الألفاظ والتعبيرات العامية قد أفادها الاستعمال روحا قوية فإذا عبرت عنها بالعربية لم تجد لها من التعبير قوة العامية وحسن دلالتها على المعنى.

وكل أمة قد كسبت من توحيد لغتها الكلامية والكتابية ما لا يقدر، فقد أصبح الشعب كله منتجا أدباً وتعبيراً قويا، وأصبح الحديث عن المائدة وفي حجرة الجلوس وفي التمثيل والسينما يخرج أدباً جديداً ويحيي أدباً قديماً، والأمة كلها تتعاون في الإنتاج الأدبي، هذا بتعبيره الرقيق، وهذا بنكتته ونوادره، وهذا بقصته وأمثاله، وهذا بشعره، وهكذا.

وليس كذلك الحال في الأدب العربي، فالأمثال والنوادر والحكايات باللغة العامية، والأحاديث اليومية وقضاء كل شؤون الحياة باللغة العامية، وليس للغة العربية إلا الكتاب وما إليه، ولذلك أصبح عندنا أدبان أدب أرستقراطي هو هذا الشعر والكتب التي تؤلف، والمجلات والجرائد التي تنشر، وأدب شعبي هو الزجل والأغاني والحواديت وما إليها، وبين الأدبين فواصل كبيرة وحواجز متينة، وفي هذا ضرر كبير على الأمة والأدب معاً، أما الأمة فلأن شعبها لا ينتفع بنتائج المتعلمين منها، وأما الأدب فلأنه ليس أدباً صحيحاً، إذ

ص: 6

الأدب الصحيح هو ما كان ظلا لحياة الأمة الاجتماعية كلها لا لحياة طبقة خاصة منها.

ولا أمل لحياة الأدب العربي من هذه الناحية إلا بإزالة الحواجز القوية بين العامية والعربية، على أي وجه يرضاه قادة الأمة، ويحفظ للغة العربية مكانتها من حيث هي لغة الدين ورابطة الشعوب الشرقية. إذ ذاك تصبح اللغة حية، والتعبيرات حية؛ وإذ ذاك تزول الحيرة التي نعيش فيها الآن، فإنك تستعمل اللفظ العامي والعبارة العامية، فلا تجد لهما نظيرا في العربية، وإن وجدت لهما نظيراً فنظير ميت ليس فيه حياتهما. كنت أقرأ الآن في جريدة فوجدت فيها كلمة (بعبع) وكنت أسمع فسمعت من يقول: إنه بيت (مُبَهْوَأ) ومن يقول (رزق الهبل على المجانين). ووجدتني إذا أجهدت نفسي قد أعثر على تعبيرات عربية مرادفة لها أو قريبة منها. ولكن ليس فيها حياتها، لأن الحياة وليدة الاستعمال، وأريد الاستعمال الشعبي. وهذا أحد الأسباب في أن مقالات الأستاذ فكري أباظة، والمجلات الهزلية، والهزلية الجدية، لها من الرواج في أوساط الجماهير ما ليس لغيرها، وتتفتح لها نفوس شعبية أكثر مما تتفتح للمقالات العربية الصرفة؛ وترن الكلمة أو العبارة في الأذن رنيناً دونه رنين العربية الكلاسيكية.

(3)

وسبب ثالث هو أن الحواجز عندنا بين العلم والأدب قوية متينة، وإن شئت فقل إنه ليس هناك صلة بين كلية العلوم والآداب، وأن الثقافة التي يتثقفها الأديب ينقصها (غالباً) قدر ضروري صالح من المعلومات العلمية، تجعله يستطيع أن يلم إلماماً ما بالمخترعات والمستكشفات، ويستغلها في أدبه. وهذا القدر يلقفه الأديب الأوربي في بيته وفيما يقع في يده من كتب ومجلات أولية، ثم في مدرسته. وأدباء الطبقة الأولى منهم كانوا على حظ عظيم من الثقافة العلمية استغلوها في منتجاتهم، فأصبحت هناك أنواع من الأدب، ومن التعبيرات والتشبيهات القوية التي تعتمد على الثقافات العلمية، أخذها منهم الشعب واستساغها. أما برنامج الأديب العربي فقاصر من هذه الناحية كل القصور؛ ولذلك كان نتاجه قاصراً كل القصور.

وهناك أنواع من التجديد في الأسلوب والموضوع والنثر الفني والشعر والقصة وغيرها، نعرض لها فيما بعد.

ص: 7

‌صور من التاريخ الإسلامي

زرياب المغني

للأستاذ عبد الحميد العبادي

- 2 -

إذا قدر للأندلس أن يكتب تأريخها الفني والاجتماعي، فلا شك أن أنضر صفحة في ذلك التاريخ المجيد وأعجبها تكون صفحة أبي الحسن علي بن نافع المغني الملقب بزرياب. فهو رجل استطاع وحده أن ينقل أمة بأسرها من حال البداوة إلى حال الحضارة، وذلك بشيئين اثنين: تحبيب الموسيقى إليها، وتنظيم حياتها اليومية.

فتح المسلمون الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري، وانتشرت قبائلهم العربية والبربرية في بسائطها وحزونها ولكنهم ظلوا حتى أواخر القرن الثاني بداة جفاة كلما اجتمعت كلمتهم لم يلبثوا أن تفرق بينهم الإحن والعداوات المنبعثة عن العصبية القبلية، فكأنهم لا يزالون ضاربين في هضاب نجد وسهول تهامة ومفاوز إفريقية. ثم أخذت شؤونهم السياسية تستقر وتتسق بفضل مجهودات المتقدمين من أمراء الدولة الأموية الأندلسية: عبد الرحمن الداخل، وهشام، والحكم، وعبد الرحمن الأوسط. أما الأحوال الاجتماعية فظلت على ما كانت عليه فسادا واضطرابا.

وعلى العكس من ذلك كان المشرق الإسلامي في ذلك الزمان فقد إستبحر فيه العمران وبلغت المدنية الإسلامية فيه غايتها، وتعلق فيه ذوو الدعة واليسار بأسباب الكمال من شؤون الحياة، بعد أن استكملوا الضروري، والحاجي منها على حد تعبير ابن خلدون. وقد ساعفهم في ذلك عامل الدين وعامل التاريخ معا. فأما المعتدلون منهم فكانوا يستندون إلى أن الدين الإسلامي دين يسر يحب من المؤمن أن يكون هينا لينا موفور الحظ من الظرف والكياسة غير فظ ولا غليظ القلب، ولا ناسٍ نصيبه من الدنيا. وأما المتطرفون فوجدوا في تقاليد الفرس والروم الاجتماعية ما جعلهم يؤثرون العاجلة ويحرصون على لذة الحياة الدنيا ومتعها، أياً كانت الطرق الموصلة إليها.

وقد تألفت من هؤلاء طبقة أرستقراطية، مرهفة الأذواق، رقيقة الطباع، ترى في الموسيقى، ومجالس الأنس والطرب، وحفلات السمر خير ما ينقعون به غلة تلك الأذواق

ص: 8

المرهفة والطباع المترفة. هذا هو السبب المباشر في تقدم صناعة الغناء في ذلك الزمان، وبلوغها الغاية على أيدي إبراهيم المهدي، وإبراهيم الموصلي، وأبنه إسحاق. وهذا هو السبب كذلك في استفاضة مجالس الأنس والطرب لذلك العهد في مدن الشرق الإسلامي عامة وبغداد خاصة، وفي بلوغ هذه المجالسدرجة من التأنق يمكن تصورها إذا عرفنا أنهم وضعوا لها آدابا كانوا يأخذون بها من الندماء، والجلساء، والسمار.

من ذلك أن يكون الغناء قوامها، وأن يحتفل لها بلبس الثياب المصبغة الأنيقة، وأن يزين المجلس بالأزهار والرياحين، وألا يحضرها إلا من كان مهذباً، خفيف الروح، حاضر البديهية، قادراً على قول الشعر وارتجاله، فضلا عن تذوقه وروايته عندما يقتضي المقام ذلك.

إلى هذا المشرق اتجه أمراء بني أمية الأندلسيون، وهم أبناء خلائف دمشق ورصافتها، يستهدونه فنانين ومعلمين يهذبون ما غلظ من طباع العرب والبربر والمولدين، وينظمونها جميعاً في نسق واحد. وقد أهدى المشرق إلى المغرب غير واحد من المغنين أمثال علون، وزرقون، ولكن زرياباً كان أعظم هؤلاء جميعاً وأبعدهم أثراً.

كان أبو الحسن علي بن نافع مولى للخليفة المهدي العباسي، ولسواد لونه، وحلاوة شمائله لقبوه بزرياب تشبيها له بطائرأسود غريد يعرف عندهم بهذا الاسم. وقد تكاملت لزرياب كل أسباب النبوغ والتفوق موهوبها ومكسوبها، فكان شديد الذكاء، لطيف الحس عارفا بالنجوم والجغرافية، شاعراً فصيح اللسان، غير أنه كان إلى الغناء أميل وبه أشغف، وقد درسه علماً في كتب الأقدمين من حكماء اليونان، وعملاً على أستاذه اسحق الموصلي زعيم المغنيين في ذلك الوقت، ولشدة افتتان زرياب بالموسيقى كان تفكيره فيها لا يكاد ينقطع حتى أنه ليلهم النوبة والصوت وهو نائم، فيهب من نومه مسرعاً، ويقيد ما وقع له أو يلقيه على جاريتيه غزلان وهنيدة، ثم يعود إلى مضجعه عجلا، ومن ثم قيل انه كان يأخذ ألحانه عن الجن كما قيل في إبراهيم الموصلي نفسه. قالوا وكان يحفظ عشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها. ولم يأل زرياب جهداً في أن يأخذ نفسه بالأدب الرفيع والسلوك العالي المصطلح عليه في البيئة التي كان يعيش فيها ببغداد، بيئة البلاط وقصور الأمراء ورؤساء الدولة العباسية.

ص: 9

ويذكرون أن السبب في هجرة زرياب من المشرق إلى المغرب، انه غنى يوما في حضرة هارون الرشيد، فأخذ الخليفة بصناعته وظرفه وطلب إلى اسحق أن يعنى به حتى يفرغ لسماعه. ولكن اسحق لم يلبث أن تحركت في صدره عوامل الغيرة والحسد والحقد على تلميذه، فخلا به وخيره بين الموت والحياة، بين أن يقيم ببغداد فيعرض حياته للهلاك ومهجته للتلف، وبين أن يذهب في أرض الله العريضة فينجو بحياته، ووعده إذا هو اختار ثاني الأمرين أن يعينه على الرحيل بما شاء من المال، وغير المال. فأختار زرياب الرحيل عن المشرق بأسره، ووفى له اسحق بما وعده من المعونة.

وتذكره الرشيد بعد أن فرغ من شغله الذي كان منهمكاً فيه وطلب إلى اسحق إحضاره فقال (ومن لي به يا أمير المؤمنين؟ ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهي به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يعدله، وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين، وترك استعادته، فقدر التقصير به والتهوين لصناعته، فرحل مغاضبا ذاهبا على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين فأنه كان به لمم يغشاه ويفرط خبطه، فيفزع من رآه). يقول المقري (فسكن الرشيد إلى قول اسحق وقال على ما كان به (فقد فاتنا منه سرور كثير).

خرج زرياب يؤم المغرب، فلما كان بأفريقيا أتصل بصاحبها زيادة الله الأغلى. ولكنه لم يطب له المقام بها فرحل عنها إلى المغرب الأقصى، وهنا كتب إلى الحكم بن هشام، أمير الأندلس المعروف بحبه للموسيقى، يستأذنه في دخول الأندلس والصيرورة إليه، فأذن له الأمير في كل ذلك من فوره. وعبر زرياب البحر إلى عدوة الأندلس، وبينما هو يتأهب للرحيل إلى قرطبة إذ سمع بوفاة الحكم فهم أن يعود أدراجه إلى المغرب لولا أن كتب إليه الأمير الجديد، عبد الرحمن الأوسط، يستقدمه ويعده أن ينيله كل ما تصبو إليه نفسه من مال وجاه. فقدم عليه زرياب، ويروون أن عبد الرحمنأحتفل لمقدمه أعظم احتفال إذ خرج بنفسه من قرطبة لتلقيه. وما هو إلا أن سمعغناءه وحديثه حتى شغف به فغمره بفضله وإنعامه وأجرى عليه من الرواتب والأرزاق الشيء الكثير، حتى لقد كان يركب وبين يديه مائة مملوك. وقدمه الأمير على سائر المغنين وبلغ من شدة شغفه به أن جعل في قصره باباً خاصاً يستدعيه منه كلما أحب سماع غناءه الرائع وحديثه العذب الطريف.

ص: 10

وقد لقي زرياب النعمة بمثلها وجزى المعروف بالمعروف، ولكنه قصد إلى ذلك من طريق غير مباشر، قصد إليه من طريق النصح والإخلاص للأندلس التي أصبحت له وطناً، وأهل الأندلس الذين أصبحوا أهلا له ومعشراً. فعكف على رفع مستوى الموسيقى الأندلسية وعلى النهوض بالمجتمع الأندلسي حتى يداني المجتمع الشرقي ببغداد وقد وفق فيما قصد إليه كل التوفيق.

يمكن القول إن زريابا نهض بالموسيقى الشرقية نهضة جديدة مطبوعة بطابعه وذلك بما أدخله على العود من إصلاح وتحسين، وبما استن من طرق جديدة في إلقاء الغناء وتعليمه. فقد أتخذ لنفسه وهو بالمشرق عوداً جعله على الثلث من وزن العود القديم، وصنع أوتاره من حرير لم يغزل بماء ساخن يكسبها أناثة ورخاوة، وأتخذ بمها ومثلثها من مصران شبل أسد (فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها). فلما كان بالأندلس زاد أوتار العود الأربعة المقابلة للطبائع الأربع وتراً خامساً يقوم مقام النفس من الجسد، فأكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة كما يروي المقري. وأتخذ مضراب العود من قوادم النسر بدلا من مرهب الخشب (وذلك للطف قشر الريشة ونقاءه وخفته على الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه). وأما من حيث إلقاء الغناء فقد رسم زرياب أن يبدأ في الإلقاء بالنشيد بأي نقر كان، ثم يؤتي في أثره بالبسيط ويختتم بالمحركات والأهزاج. أما مذهبه في تعليم الغناء فيقول المقري (وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أَمرَه بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة، وأن يشد صوته جدا إذا كان قوي الصوت، فأن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة فأن ذلك مما يقوي الصوت ولا يجد متسعا في الجوف عند الخروج على الفم فان كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاثة أصابع، يبيتها في فمه لليالي حتى ينفرج فكاه. وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته يا حجام! أو يصيح آه! ويمد بها صوته، فأن سمع صوته بها صافياً ندياً قوياً مؤدياً لا تعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس، عرف انه سوف يَنجُبْ وأشار بتعليمه، وأن وجد خلاف

ص: 11

ذلك أبعده). هذه العبارة تشير في صراحة إلى أن زرياباً انشأ بالأندلس في أوائل القرن الثالث عشر الهجري ما يصح أن نسميه بلغة الوقت الحاضر معهداً لتعليم الموسيقى الشرقية.

ولم يكن زرياب أقل ابتكاراً في شؤون الحياة اليومية منه في مجال الموسيقى والفن، وهذا محل العجب من سيرته. فقد ابتكر لأهل الأندلس ألوانا من الطعام فاستطابوه ونسبوا بعضها إليه، وعلمهم أن يشربوا من آنية الزجاج الرقيق بدلاً من آنية المعدن، وهو أول من اجتنى لهم البقلة الشهية المعروفة بالهليون وكانوا لا يعرفونها من قبل. وعلمهم أن يبسطوا فوق ملاحف الكتان أنطاع الأديم اللين، وأن يبسطوا سفر الأديم فوق الموائد الخشبية فذلك أنظف لها وآنق لمنظرها. وعلمهم أن يلائموا بين ما يلبسون وبين فصول السنة الأربعة، فيتدجوا من الخفيف الأبيض صيفاً إلى الثقيل الملون شتاء، ولفتهم إلى أنواع من الطيب والعطر لم يلبثوا أن أقبلوا عليها وفضلوها على ما كانوا يتعطرون به من قبل، كما علمهم كيف ينظمون شعورهم تصفيفاً وتدويراً وإرسالاً.

لا ندري بالدقة متى توفى زرياب والغالب أن وفاته كانت في إمارة الأمير محمد عبد الرحمن الأوسط (238 - 273هـ) وكما رزق زرياب الحظوة عند أهل الأندلس في حياته فقد رزقتها ذكراه عندهم بعد مماته. ذلك بأن مذهبه في الغناء وما رسمه لهم من أسلوب المعيشة ظل باقياً متوارثاً فيهم حتى آخر أيامهم. فلما انتهى أمر الأندلس وخرج من تبقى من أهلها إلى بلدان أفريقيا الشمالية أنتقل إليها بانتقالهم مقدار غير قليل من صناعة زرياب وآدابه. يقول ابن خلدون عند ذكره زرياباً (فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطمأ منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بأفريقية والمغرب وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها) ويقول المقري (وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الآداب ولطف المعاشرة وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوما به).

ص: 12

كان أهل رومية على عهد نيرون يلقبون سريا من سراتهم اسمه بطرونيوس برب الظرف وسلامة الذوق لأنه كان عندهم مضرب المثل في ذلك. أما أهل الأندلس فقد وصفوا زرياباً بأنه (معلم الناس المروءة) وهو لاشك أجمل وصف يوصف به وأحقه بأن يحفظه عليه التاريخ ويذكره به.

ص: 13

‌الزهرية العاطلة.

للأستاذ راشد رستم.

لا أجد هنا من يضع لي الزهر في غرفتي، وأنا الذي أحب الزهر

قريباً مني، أضمه إلى صدري حنيناً، وأشمه لتسمو به روحي بعيداً،

أحب العطر منه، وأحب العطف عليه.

ليس غيري إذن يضع الزهر لي في غرفتي، بل أختاره بنفسي وأرعاه وحدي.

واليوم اشتريت من الزهّارة الفتية الناضرة، باقة من ذلك الزهر الذي تحبه. . . . . (روحي).

لم تدر فتاة الزهر الجميلة لماذا سألتها السماح لي اليوم أن أنتقي بيدي أنا تلك الزهرات الحبيبة التي سأجعل منها وحدها دون غيرها، حديقتي في هذا اليوم.

سكتت فتاتي الحسناء راضية، وتَنحَّت هادئة، ونظرت إليَّ في سرور وابتسام وعجب!. ولِمَ تعجب؟ ومن عاشر الزهر لا يغضب.

لم ترني الفتاة قبل اليوم ألمس أزهارها بيدي، إنما أشير إليها بالطرف وهو كليل فتفهم مني قصدي، وتجمع لي زهراتي المختارة، تنتقيها من بين أخواتها برشاقة في حنو وعطف.

تبتسم الفتاة بسمات اللطف والرقة، وكأني بها تعلم سري عن الزهرات وهي تجمعها فتحدثها بها جهراً تقول: ما أحلاك أيتها الوردة الحمراء، المملوءة عطراً وعطفاً وشوقاً وحرارة!. . وأنت أيتها الزهرة الفاتنة مثال الرشاقة والخفة والحلاوة! وأنت يا حبيبة الفؤاد! تعالي تعالي يا زهرة الحب والإخلاص والحنان! أما أنت فيا للفتوة ويا للحياة!. وما أسعد الفتى بالفتاة؟ وأنت يا ربة الدلال والكمال. تقدمي! تقدمي! خذي مكانك هنا بين زميلاتك الرشيقات!.

هكذا كانت الزهرة تناجي وتنادي وتداعب هذه الزهرات النواعم، وهي تجمعها من هنا وهناك وتنسقها ثم تلفها في حرزها لتحميها، ثم تلتفت في رقة الفاتنات المائلات وتقول: تفضل يا حبيب الزهر فخذ زهراتك المحبوبات، وبودي لو أطلعت عليك معها، أو لو علمت سرها معك!!. ثم تعود مسرعة إلى زهرها.

نعم أتيت اليوم بذلك الزهر الذي تحبه. . . (روحي)، وهي لا تعلم أنني جئت به!

ص: 14

ليس له اليوم شريك من زهرات أُخر.

هذا الزهر الذي تحبه (. . .) أشمه يوماً في كل عام، فيحييني طول العام!

وبعد. . فليس له عندي زهرية تصونه وتماشيه، ولا بد له من زهرية خاصة ترضيه وتحميه وتحييه.

ولكن هل أخشى هذه الزهرية ألا تحمل إليَّ هذا الزهر يوماً ما؟.

أم هل أخشى هذا الزهر ألا يكون في هذه الزهرية يوماً ما؟.

أم أخشى يوماً تحمل إلي فيه هذه الزهرية زهراً غيره؟.

نعم. قد يأتي هذا اليوم الذي أخشاه، وقد أرى بعيداً عني هذا الزهر الذي تحبه (. . .) والذي أحب أن أرعاه.

ولكني لا أخشى أن تكون الزهرية يوماً عاطلة!

ألم تحمل لي هذا الزهر يوماً من الأيام؟

وهل هذا اليوم ينسى مع الأيام؟

أني لأرجو أن تبقى الزهرية بعد اليوم عاطلة على الدوام، فهي عاطلة أحب إليّ منها خالية بعد هذا اليوم الذي أخشاه ستظل كنفسي التي تحمل دوماً ذكريات كنَّ في يوم من الأيام. . . . حقيقة موجودة. وواقعة مشهودة. . .

المعادي - راشد رستم

ص: 15

‌جلال الدين منكبرتي

للدكتور عبد الوهاب عزام

سارت جيوش التتار تقذف بالموت والدمار. (وفتحت يأجوج ومأجوج وهم من حَدب ينسلون). خرَّت المدائن لصولتهم فأسروا وقتلوا، ثم سلّطوا الماء والنار فأخربوا ودمروا. وانطلقوا في جحافل من السيوف والسهام والنار والدخان، والدماء والماء، والهول والفزع.

وعلاء الدين ملك خوارزم. قد أوقد النار فلم يستطع إطفاءها، وفتح باب الشر فلم يقدر على إغلاقه. لم يفن جنده ولم تثبت عزيمته. فما زال يهجر المدينة بعد المدينة حتى اعتصم بجزيرة في بحر الخَزَر فهلك بها.

ورث جلال الدين ملك أبيه. وإنما ورث الضراب والطعان، وعرشاً في أشداق المنون، تخاض إليه الأهوال، وتقطَّع دونه الآمال. لقد ذهب الملك وعلاء الدين معاً. وورث جلال الدين دَين أبيه من الكفاح والنضال، ورث القتال الحاضر ، والملك الغابر.

هلَّم جلال الدين!: ادفع عن رعيتك ملا يُدفع، وأختر لنفسك وليس في الشر خيار: هما خطتا إما إسار وذلة وإما دم، والقتل بالحر أجار.

تحفز البطل تحفز الأسد، وتقهقر ليثب، ولكن المغول كانوا في أثره حيثما سار، يطوون وراءه الليل والنهار، حتى خرج من ملكه وقارب الهند. وهنالك صف جلال جنده وهم:

عصابة ليس لهم ديار

إلا ظهور الخيل والغبار

فهزم عدوه الجبار في ست معارك.

يلقى المنية في أمثال عُدَّتِها

كالسيل يقذف جلموداً بجلمودا

ولكن طوفان المغول أعظم من أن تثبت فيه صم الجلاميد أو يغنى فيه العزم المرير والبأس الشديد.

فذلكم جلال الدين على نهر السند وأولئكم المغول على نهر السند. يكرّ عليم كالأسد المُحرَج ويَصدقهم القتال من الفجر الى الظهيرة، يموت في يمينه الحسام بعد الحسام، وينفق تحت عزائمه الجواد بعد الجواد. فلما سدت على العزائم سبل النصر، وضاقت بالمجال حيل الأبطال، حمل على عدوّه فحطمه، ثم انثنى إلى النهر فأقتحمه، والموت خزيان ينظر. تلك لجة النهر تموج بجلال الدين وجنده، وفوقهم من سهام المغول وابل منهمر. وفي الهمم

ص: 16

القعساء تستوي الغبراء والدأماء. أعجب الأعداء بهؤلاء الأبطال فوقفوا معجبين ينظرون.

غرق معظم الجند وخرج البطل ببقايا القتل والغرق ليلقى بهم عدواً آخر. فهذا (جودي) أحد أمراء الهند يغير على البطل المرزَّأ لينفيه من أرضه. وهذا جلال الدين على العلات يصمد للمغير فيهزمه، ثم جاءه مدد من جنوده فتقدم في أرض الهند وأقام بها حيث شاء على رغم (قراجه) أمير السند وأيلتتمش أمير دهلي إذ تحالفا وحالفا عليه الدهر.

وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة

إذا نازلت عزم الكرام كتائبه

أتحسب جلال الدين بلغ من الجهد غايته، ومن الجلد نهايته، وقد أعذر إلى المجد والملك والرعية؟ أتحسبه قد فقد ملكه جميعه، وهزم في أرض غريبة فهو حريّ أن يطلب في فجاج الأرض مفراً أو يلتمس في زواياها مستقراً؟ كلا! إنه فقد ملكه ولم يفقد رجاءه، ولا عزمه، ولا إباءه. إن له ملكاً وإن يكن في يد العدو الجبار وإن له عرشاً وإن يكن في ذمة الزمان الغدّار. إن أمامه في عراك الخطوب ثماني حجج تطير فيها بين المشرق والمغرب همته. وتنقله من حرب إلى حرب صرامته. ويسلمه من مصيبة إلى مصيبة حظه.

يشق بين الأهوال طريقه إلى كرمان ففارس فأصفهان فالري. ثم يصمد للخليفة العباسي الناصر فيهزم جنده ويقتل قائده ويسوق المهزومين إلى أسوار بغداد.

ثم يستولي على تبريز ويتخذها دار ملكه، ويغير على الكرج كأن أعداءه ليسوا أكفاء نضاله. وبينما هو في تفليس جاءه نبأ هائل. وناهيك بخيانة الأعوان في حومة الطعان: أنبئ أن براقا الحاجب والي كرمان قد مالأ المغول. فبادر من تفليس إلى كرمان ليعاقبه بخيانته. ثم يرتد من كرمان إلى الشمال ليحارب التركمان والملاحدة فيهزمهم ويجزيهم بما اقترفوا في غيبته. ويشرق تلقاء دامغان ليهزم جيشاً من المغول. ويرجع إلى الغرب حين يعلم إن الكرج تألبوا عليه. فيلتقي الجمعان وتأبى على جلال الدين شجاعته ومضاؤه إلا أن يبارز أبطال الكرج. وقد قتل أربعة من صناديدهم وِلاءً ثم حمل على الكرج فهزمهم أجمعين.

هذه سنة سبع وعشرين وستمائة وجلال الدين يعمل ليؤلف أمراء المسلمين ويضرب بهم هذا العدو المدمر فلا يمهلهم عدوه فيباغته ثلاثون ألفا من المغول فينهزم أمامهم ولكن ليستولي على مدينة كنجة.

ص: 17

عشر سنين نازل فيها جلال الدين منكبرتي أحداث الزمان مجتمعة وغلب فيها جهد الأعداء وخيانة الأصدقاء، وجالد عدو المسلمين وخليفة المسلمين. وحارب المغول والتركمان والملاحدة والكرج.

أرأيت جلال الدين نجما يدور به فلك من الخطوب بين المشرق والمغرب؟ أعلمت أن الرجل العظيم يخلق أحداث التاريخ ولا ينقاد لها. إن يكن ما يروى عن جلال الدين مستحيلا فكم بين حقائق التاريخ من مستحيلات.

غياث الدين أخو جلال الدين يمالئ الأعداء أيضاً فانظر إلى البطل العظيم عام 628 وقد أجتمع عليه الأعداء وخانه الأخوة والأصدقاء وناء بقلبه خذلان أعوانه لا بطش أقرانه. ها هو ذا مكتئبا حزيناً مشرداً يسير في قرى الكرد ولعله كان ليحاول أن يخلق من عزمه جنداً وحرباً وانتصاراً وملكاً. ولكن رجلاً من الكرد باغته ففتك به:

أتته المنايا في طريق خفية

على كل سمع حوله وعيان

ولو سلكت طريق السلاح لردها

بطول يمين واتساع جنان

ولكن النفس العظيمة التي ملأت العدو والصديق هيبة وإعجاباً لا تموت بموت الجسد، فقد أكبر الناس أن يموت البطل الذي غلب الموت في كل معترك. فبقوا أكثر من عشرين عاما يتحدثون أن بطلهم حي وأنه ظهر في هذا المكان أو ذاك. بل حاول بعض الناس أن يلبسوا عظمته ويحملوا أسمه فناءوا بالعبء فأخذهم المغول بغير عناء.

يا شباب الشرق! قلبوا صفحات مجدكم فإن أعظم المصائب أن تمحى ذكرى الآباء من صدور الأبناء. وأن لكم في جلال الدين لعبرة.

ص: 18

‌مجمع البحور

إلى الدكتور محمد عوض محمد

قرأت مقالكم الممتع، تحت عنوان (مجمع البحور وملتقى الأوزان) فوجدت فيه من الطرافة ما يدل على التفوق في الذوق، غير أني أخذت عليكم فيه مأخذين أدلي بهما إليكم وإلى قراء مجلة (الرسالة) الكرام.

(1)

قد ذهبتم إلى أن الشعر المرسل قريب العهد في الحدوث. وهذا غير الواقع فقد أنشد أبو عبيدة لأبنة أبي مُسافع وقد قتل أبوها يوم بدر:

فما ليثُ غريفٍ ذو

أظافير وأقدام

كحييّ إذا تلاقوا

وَ

وجوه القوم أقرانُ

وأنت الطاعن النجلا

َء مزبدٌ آنًِ

وبالكف حسامٌ صا

رم أبيض خذامُ

وقد تركب بالركبِ

وما نحن بصحبانِ

وتجدون هذه الأبيات في (الموشح) للمرزُباني، (ص20) ومن يدري؟ فلعل هناك كثيراً من قصائد الشعر المرسل ذهبت بها أيدي الضياع. والمعروف أن الأستاذ الزهاوي هو الشاعر الوحيد في المحدثين الذي رفع لواء الشعر المرسل، ولا أعلم العلة التي حدت بكم إلى إغفال ذكره في الموضوع، وهو معيد الفكرة إلى نشأتها الأولى.

(2)

أنكم عبتم على أمير الشعراء عدم التزامه وزناً واحداً في رواياته؛ وأنا أقول: لو أن شوقي رحمه الله أجهد نفسه، وتكلف الكثير حتى جاء برواياته، من بحر واحد وقافية واحدة لقال الناس ولقلت أنت أيضاً: إن شوقي قد وضع في عنق الشعر طوقاً يغله به في عصر الحرية والإنطلاق، وأنه مقلد وقديم في عهد التمرد والابتكار. ولكنا إذا صرفنا النظر عن كل هذه الاعتبارات، ونظرنا إلى الموضوع من حيث أن تلك الروايات إنما وضعت للتمثيل خاصة، تجلى لنا الموقف الذي ظهر في شوقي وهو يقدم لأدب الضاد مادة طريفة دلل بها على أن لغة القرآن لا تضيق بكل ضرب من ضروب التفكير، وكل فن من فنون الأداء وأن في الشعر ما يصلح أداة للتمثيل.

أنا لا أختلف وإياكم فيما يحدثه نظم القطعة الواحدة من بحور متعددة من الشعور بنفرة

ص: 19

الانتقال المباشر في الموضوع الواحد. ولكن هذه المفارقة النافرة في الذوق لا يبقى لها أثر متى لا حظنا أن الشعر خاص بالتمثيل وأنه نظم ليلقى على المسرح بغير لسان واحد. فانتقال الإلقاء من هذا إلى ذاك مما تضيع به فائدة المحافظة على البحر والقافية في قاعة التمثيل فضلا عما يحدثه التمثيل ذاته في أنفس السامعين من الاتجاه إلى الحادثة وتسلسل المواقف دون الالتفات إلى أن هذا يسأل من بحر الخفيف وذاك يرسل الجواب من بحر الطويل. وقد حضرت روايات شوقي التي مثلتها الفرق المصرية في العراق فلم أجد في نفسي أثراً لاختلاف البحور والقوافي ولم أسمع من غيري شيئا من هذا. ويظهر أن فكرتكم قد تولدت من القراءة المجردة دون أن تقترن بالروح التي تبعثها مشاهدة التمثيل. وما كان شوقي بعاجز عن أن يوحد البحور والقوافي في رواياته بشيء من الجهد وهو أمير الشعراء، ولو كان قد تكلف اجتياز هذه العقبة الكأداء لما وفق في الموضوع إلى المدى الذي انتهى إليه من البراعة في حبكة الرواية والإتيان بأرفع الخواطر سمى ذلك لأن الشعر ذاته في حاجة (بالتمثيل) إلى كل هذه التوسعة وإلا طغت الألفاظ على المعاني وجاءت المواقف في شيء كثير من البرود والجفاف مهما بلغ الشاعر حظا عظيما من فيض العبقرية. ويظهر أن الأبيات التي استشهدتم بها من رواية قمبيز ليست ثلاثة ومصرعا (بفتح الراء) وإنما هي أربعة أبيات باعتبار قوله:

بخٍ بخٍ

بنتَ أخي

بيتاً واحداً مصرعاً (بتشديد الراء) كما يدل عليه التشكيل في الرواية وعلى حد قوله في (قمبيز) أيضاً:

النوبُ جيلْ

حر أصيلْ=يقضي الديونْ

نحن الأسود

حمر الجلودْ=حمر العيونْ

لنا لبدْ

من الزردْ=هي الحصونْ

إلى آخر القطعة (ص 98) وهناك كثير من أمثال ذلك وهو بحر جديد يستسيغه الذوق طبعاً. وبذلك يرتفع ما يؤخذ على شوقي من استساغته اختلاف البحر في البيت الواحد، وذلك لا يصح صدوره من شاعر، لأن البيت في الشعر وحدة مستقلة الذات في القصيدة، وهذا الاستقلال يفرض معه اتحاد البحر في البيت الواحد.

ص: 20

وبعد فإني أرجو لا يكون هذا الدفاع مبرراً لما جريت عليه في تأليف روايتي الشعرية (رسول السلام) من عدم التقيد ببحر واحد وقافية ثابتة والاكتفاء بموسيقية الوزن فحسب، إنما أرجو فيه إصلاحا لما علق في بعض الأذهان من أن روايات شوقي فقدت أكثر جمالها بفقدها اتحاد الوزن والقافية. ويكفي الشعر التمثيلي أن يحتفظ بنغمة الوزن وحدها ما دام المسرح لم يخصص لقائل واحد وإنما هي مشاهدة عدة وممثلون كثيرون قد يكون هذا التنويع في البحور والقوافي، ملائماً لإبراز ملامح الجمال التي تنسجم مع الموقف ومن فيه.

بغداد. حسين الظريفي

ص: 21

‌مشروع تعاون الشباب

صيحة من قلب الشباب لإنقاذ الشباب

للأستاذ حافظ محمود

في الوقت الذي يزاحم القنوط آمال الشباب في ساحة العمل والنشاط قد ارتفع صوت ينادي الشبان إلى الخلاص مما أحاق بحياتهم العملية من ضغط وإرهاق، يقول لهم أن في يد الشباب معجزة الثروة الطائلة إذا هم ادخروا من أموالهم المتواضعة بضعة قروش تحتسب لهم أساساً للمساهمة في إنشاء شركات مصرية صناعية تزيد في كسبهم ناحية لن تزيدهم الأيام إلا سعة وتجديدا.

ذلك هو مشروع تعاون الشباب الذي يتقدم إلى شباب الأمة المصرية بهذه الفكرة الناضجة، يفصل لهم رءوس الأموال تفصيلا، يستطيع كل فتى وكل فتاة إلى الاشتراك فيه سبيلا. فخمسة قروش ما أسهل توفيرها في كل شهر مرة واحدة لمن أراد، وأكثر من مرة واحدة للقادرين!

فحسبنا من المصريين واحد في المائة من تعدادهم يؤمنون بتنفيذ هذه الفكرة. إن واحداً في المائة من خمسة عشر مليونا مصريا إذا ادخروا خمسة قروش لكل منهم شهرياً اجتمع لنا في عام واحد تسعون ألفا من الجنيهات. وهو مبلغ يحسب في تاريخنا الاقتصادي الناشئ بالشيء الكثير. فأنت حين تراجع تاريخ إنشاء بنك مصر وتعلم أنه قام أول ما قام على ثمانين ألفا فقط لا بد واجد من نفسك بعد هذا إحساسا طيبا نحو هذه التسعين ألفا من الجنيهات التي يستطيع شبان المدن المصرية وحدهم أن يدخروها في سنة واحدة من بقايا نفقاتهم النثرية في غير عنت ولا إرهاق.

أن الحركة الاقتصادية هي ميزة العصر الحاضر على كل العصور، ومن الأمثلة التي تساق في هذا البحث أن مصر تستورد سنويا من الخارج بما يقرب من المليون جنيه غرائر (زكائب) خشنة ساذجة، مع مصلحة التجارة والصناعة بعد درسها لصناعة الغرائر علميا قد تبينت إننا نستطيع أن ننشئ بتسعين ألفا من الجنيهات أو يزيد قليلا هذا المصنع العظيم الذي يغنينا عن بذل مليون أو ملايين بضرورة التكرار سنويا للمصانع الخارجية.

هذا كله إنما يقوم دليلا قويا على صلاح الدعوة التي يدعوها (مشروع تعاون الشباب) لفتح

ص: 22

آفاق جديدة يرتادها شبان مصر في حياة الأعمال الحرة، ويزيد فخرهم فيها أنهم هم المنشئون، وهم العاملون، وهم الذي يفيدون ويستفيدون.

ذلك أن القائمين بدراسة هذا المشروع وتنفيذه فكروا أول ما فكروا ألا تكون قروش الشباب هبة أو عطاء، فليس العطاء من تاريخ الاقتصاد في شيء، إنما جعلت هذه القروش الخمسة التي يكرر الشباب المصري ادخارها لمشروع تعاون الشباب وسيلة ميسورة تنتهي بالجميع إلى أن يصبحوا مساهمين في الشركات التي ينشئونها بأموالهم. فيكونون قد أنشئوا للصناعة في مصر منشآت جديدة من ناحية، وفتحوا لأنفسهم طريقاً إلى الربح من ناحية ثانية. وزادوا على هذا وهذا أنهم يبذرون بما يعملون بذور النزعة الاقتصادية المنتجة في أرض البلاد.

فأنت ترى أن الفكرة في هذا المشروع لم تكن وليدة رأي عارض أو تقليد أصم. إنما هي فكرة ولدتها حاجة الحياة المصرية إلى كثير من المنافذ التي تنفذ منها جهود الشباب إلى ما يهيأ لهذه الشبيبة المصرية مستقبلا أكثر رخاء ورغداً، وأنت ترى في تضاعيف هذه الفكرة نزوعا إلى تحقيق الديمقراطية الاقتصادية إذ تفتح وسائل المشروع أبواب المساهمة في تأسيس الشركات والمصانع أمام أصحاب خمسات القروش كما تفتحها أمام أصحاب الآلاف أو الملايين، وهي نزعة علمية صالحة جديرة بالتقدير والاعتبار.

كان هذا المشروع فكرة، ثم انقلبت الفكرة صوتا ينادي شباب مصر إلى العمل في سبيل مستقبلهم ومستقبل بلادهم. والواقع أن في مصر مشكلة يصح أن تسمى مشكلة الشباب، وأن هذا المشروع حل من أوفق الحلول لهذه المشكلة الضخمة فأولئك الألوف الذين تخرجهم المدارس كل سنة إلى أين يذهبون بما تسلحوا من علوم وفنون؟ لقد ضاقت سبل الرزق عن أن تسد حاجاتهم، وعز على أوليائهم والأغنياء من أهلهم أن يضحوا في سبيلهم، وحقت عليهم التجربة القاسية التي سيخرجون منها إما ظافرين بمعنى سام من معاني الرجولة التي تعرف قيمة الاعتماد على نفسها، وإما حاملين أثقال الخيبة التي لا رجولة فيها.

لم يبق أمام الشبيبة المصرية إلا أن تعنى بمستقبلها: تدبر له الأمر وتنفذ ما فيه بناؤه، بناء يقوم على أسس مادية ثابتة لا تتعرض لها أيدي الآخرين. ولعل مشروع تعاون الشباب هذا

ص: 23

هو الترجمة الحرفية لهذا كله، فهو محاولة مرضية في خلق شيء لمستقبل الشباب بجهود الشباب وماله من قليل المال وكثير النشاط. وربما كان حتما لزاما على إخواننا الشبان أن يوجهوا جهودهم في تنفيذ هذا المشروع على الوجه الذي يحقق آمالهم أملا فأملا ليثبت لهم في سجل الأيام أنهم عرفوا واجبهم فأدوه، وآمنوا بحقهم فسعوا إليه.

أما وسائل التنفيذ لهذا المشروع فقد أحسن أو يحسن القائمون به تنظيمها، فلكل خمسة قروش تودع لحساب المشروع (كوبون) مرقوم بالرقم المسلسل، مختوم بالخاتم المسجل، ممضي إمضاء رسمية. وهذه الكوبونات التي يتقاضاها المساهمون في هذا المشروع تودع قيمتها أو أثمانها لحساب المشروع في بنك مصر إيداعاً ليس فيه صرف ولا حل إلا يوم تنعقد الجمعية العمومية للجان المشروع بعد ستة أشهر، فتحصى المجموع عدداً وتقرر ما ينشأ به من صناعة ومن يقوم على الإنشاء من الأعضاء الأخصائيين البارزين. يومئذ تأذن الجمعية لثلاثة من الرؤساء أن ينفقوا على عملية التأسيس بحساب معلوم تحت رقابة مسؤولة.

هذه وسيلة من وسائل النجاح للمشروع يزيد عليها أن القائمين بعملية التوزيع في ذاتها ليسوا فتية غير مسؤولين، إنما هم أعضاء لجان في وزارات الحكومة ومصالحها ومدارسها يشرف عليها رؤساء من أكبر الرؤساء. وهم يشتركون في المسئولية عن كل ما يوزعون حفظاً وضماناً لما يجمعون.

أما المال الذي يجمع فهو مضمون في خزائن بنك مصر، وأما ملكيته فهي لأصحاب خمسات القروش أنفسهم تعود عليهم أرباحه يوم تنشأ الشركة ويكونون فيها مساهمين، وأما نوع الصناعة التي تؤسس بمال المشروع هذا فمتروك أمرها لقيمة رأس المال الذي يمكن جمعه وتوفيره لهذه الغايات كلها التي يسعى إليها المشروع من إنشاء صناعات وطنية إلى فتح أبواب جديدة للرزق. فلجنة المشروع تضع نصب أعينها إذن غرضين: صناعة لا مزاحمة فيها للمواطنين، ومصانع يتطلب العمل فيها أكبر عدد ممكن من أيدي الشباب المواطنين.

إن كل غرض من هذين الغرضين اللذين يسعى إليهما مشروع تعاون الشباب جدير بعطف الأمة وتقديرها، وإذا كان قلب الأمة موزعا في قلوب الشباب فما أحرى هذه القلوب أن

ص: 24

تنصت إلى نداء (تعاون الشباب) ثم تجاوبه بالإقبال والبذل والعمل في سبيل الحرية التي تلمس بالأيدي ويحس بها الأفراد جميعاً.

ص: 25

‌في الأدب العربي

القصة المصرية

للأستاذ جيب

أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن

- 2 -

أول قصة مصرية بالمعنى الحقيقي خرجت إلى الوجود، وهي غفلاء من أسم مؤلفها، فلم تلق أول الأمر إلا اهتماماً قليلاً من جانب المتعلمين، تلك القصة هي (زينب) مناظر وأخلاق ريفية، بقلم فلاح مصري - القاهرة، مطبعة الجريدة عام 1914. ومؤلفها هو الدكتور محمد حسين هيكل، ولما كان غداة نشرها محامياً صغير السن طموحاً لم يشأ أن يذكر أسمه مخافة أن يقف ذلك عقبة في سبيل عمله.

خرجت (زينب) خروجاً تاماً، في لغتها وأسلوبها وموضوعها وفي الطريقة التي عالجها بها المؤلف عن جميع ما تقدم من الآثار في الأدب العربي. وليس هناك علاقة بينها وبين قصص زيدان التاريخية، وقصص فرح إنطوان، فلقد كتبت كما يتضح من عنوانها لتصوير الحياة الاجتماعية في الريف بسلسلة من الحوادث تدور حول فتاة قروية.

ونستطيع أن نسرد الحكاية في أيجاز، فنقول، أن زينب وهي فتاة قروية جميلة، قوية الإحساس، بعد علاقة بريئة بشاب متعلم يدعى حامد أبن صاحب الأرض في القرية، قد أحبت فتى يقال له إبراهيم، ولكنها تزوجت رغم أنفها وبمشيئة والديها من صاحبه حسن. فحرصت على وفائها وولائها له، ولكنها ظلت على حبها لإبراهيم، ولقد أدى التنازع بين هاتين العاطفتين، عاطفة الحب وعاطفة الإخلاص الزوجي إلى تأثير سيئ في صحتها، ولما علمت بدخول ابر أهيم في الجيش بلغ ذلك من نفسها مبلغاً عظيما حتى أضناها الحزن ثم أودى بحياتها، وبجانب هذه الخطة تقوم حكاية أخرى. وهي تلك العلاقة بين حامد وابنة عمه، وهي فتاة من فتيات المدن، ثم اختفاؤه عندما أخفق مسعاه في التزوج منها.

ويتضح من ذلك أن الخطة على العموم أقل من أن تكفي لملء أربعمائة صفحة، وبالقصة من جهة أخرى عيوب سنعرض لها الآن. وينبغي أن نتذكر أن تلك القصة ليست أول

ص: 26

مجهود لشاب صغير السن فحسب. بل هي كذلك أول مجهود من نوعه في أدب فني، فيجب أن ينظر إليها مع هذا الاعتبار، والواقع أن ما في القصة من تفاصيل تستوجب النقد، يقل شأنه، إذا قارناه بتلك الحقيقة وهي أن هناك مجهودا بذل، وأن تلك القصة تعتبر شيئاً جديداً من نوعه أضيف إلى الأدب العربي.

ويعد بناء هذه القصة ممتعا من الناحيتين الوصفية (والسيكلوجية) وواضح أن القصة إنما قصد بها انتقاد تلك الروح الرجعية التي ما زالت تسيطر على طبقة خاصة من الناس على الرغم من التقدم الحديث، على أن نجاحها في هذا السبيل لم يكن تاما، إذ أن الشخصيات نفسها لم تركب بدرجة كافية، اللهم إلا شخصية حامد، وهي بلا شك تمثل إلى حد كبير شخصية المؤلف نفسه. كذلك نلاحظ أن تصوير الأشخاص والحوادث بطريقة (درامية) جاء ضعيفا بالجملة.

وكانت النتيجة أن تعليقات المؤلف (السيكلوجية) كانت تأتي على لسانه هو بطريقة أقرب إلى طريقة الكتب المدرسية مع استعمال ضمير المتكلمين الجمع. ويظهر تدخل المؤلف بشكل أوضح في مواضع الوصف. ولقد ذكر هيكل بك في مقدمة الطبعة الثانية الظروف التي وضع فيها كتابه، وذلك حين كان يطلب العلم في باريس وجد به الحنين إلى وطنه، فجعل يتمثل في ذهنه جميع مظاهر الحياة القروية، ومجالي الطبيعة في مصر، ويظهر أثر ذلك في كل صفحة من صفحات الكتاب تقريبا، في قطع وصفية مسهبة للمناظر الطبيعية، كالشمس والقمر والنجوم والمحاصيل والجداول والبرك. . . الخ، ولقد يرتفع أسلوبه في ذلك إلى درجة عظيمة من الفخامة والروعة الموسيقية، ولكن طول الوصف مما يسبب السآمة وتشتيت الذهن. ففي كل حادثة وفي كل منظر وصف وتعليق، مما جعل القصة في بعض المواضع تسير متعثرة. أضف إلى هذا أن الكاتب كان يعمد أحيانا إلى قصص استطرادية تافهة، لا تمت بصلة قوية إلى القصة الأصلية، لا لغرض سوى أن يستطيع بواسطتها أن يضيف بعض الفقرات الوصفية، ثم بين الفينة والفينة تظهر بعض جمل مثقلة بالوصف الى درجة تفقد معها مبناها ومادتها.

ولكن يجب ألا ننسى أن هذه الفقرات الوصفية تحمل من المعاني إلى ذهن القارئ المصري أكثر مما تحمل إلى غيره، وإن تأثيرها الفني في نفسه، يعد أحد الأسباب الرئيسية التي

ص: 27

قامت عليها شهرة هذه القصة عند المصريين.

أما ما حوته من المباحث الاجتماعية، فكان أكثر تمشيا مع الخطة، إذ كان من المحتم أن يتلمس المؤلف أسباب المساوئ التي ذكرها وأسباب المأساة النهائية، وأن يرجع ذلك إلى أصله في العادات الاجتماعية. ويغلب على القصة من أولها إلى آخرها التعرض لنقد المساوئ التي أنتجها التمسك بالعادات البالية، ولكن النقد الاجتماعي لم يحشر بالطريقة التي حشرت بها الفقرات الوصفية (والسيكلوجية) ويرجع ذلك إلى أن المؤلف قد أجراه على لسان حامد، وهو شاب متعلم متأثر بأفكار قاسم أمين وغيره من المصلحين الاجتماعيين، على أن المؤلف كان يلجأ هنا أيضاً في بعض الأحيان إلى اصطلاحات الكتب المدرسية.

وكان تنظيم الأسرة وتحرير المرأة هما المحور الذي تدور عليه انتقادات المؤلف الاجتماعية، أضف إلى ذلك بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في مصر، كبعض الحرف البعيدة كل البعد عن حقائق الحياة، مثل حرفة طبيب القرية (الحكيم البلدي) ومشايخ الطرق الذين يتجرون بتضليل العامة وغير ذلك.

أما شعور المؤلف القومي، فكان مضمراً أكثر منه صريحا وإن كان قد أظهره في بعض المواضيع، وبخاصة عند إشارته إلى حقارة الخدمة العسكرية، تحت سيطرة الأجنبي.

أما أسلوب القصة فقد سار الكاتب فيه على الأسلوب الأدبي الحديث مع تهذيبه في أغلب الأحيان في اللفظ والتركيب، ويلاحظ فيه من جهة أثر الاصطلاحات العامية الخاصة بدلتا مصر، ويتضح ذلك في اقتضاب بعض الجمل، وفي طريقة الانتقال وغيرها، كما يلاحظ فيه من جهة أخرى أثر الفرنسية، ويظهر ذلك في طول الجمل والتوائها مع كثرة الجمل الفرعية والمعترضة التي تدخل على الجملة الرئيسية، مثال ذلك الجملة التي تبتدئ بالفقرة الآتية (ومن الظلام روافه) صفحة 37 من الطبعة الأولى و34 في الطبعة الثانية وكذلك الجملة التي تبتدئ بقوله: ولم تكن إلا لحظات. . . ص 89 في الطبعة الأولى و 70 في الثانية.

أما ما يتعلق بتلك المشكلة الصعبة، مشكلة أسلوب الحوار فقد لجأ هيكل بك في شجاعة إلى استعمال اللغة العامية إذا كان الحوار بين الفلاحين، أما إذا كان بين الطبقات المتعلمة فيتركهم يتكلمون اللغة الفصحى.

ص: 28

ويتضح مما قدمنا أن عنصر الخيال في زينب أقل منه في مثيلاتها من القصص الأوربية المتوسطة، وأن ما في القصة من فقرات عقلية ووجدانية (وهي في الواقع العنصر الشخصي فيها) يسمو على الناحية القصصية. ولقد ذكر الكاتب في مقدمة الطبعة الثانية أن القصة فضلا عن مظاهرها الخاصة تأثرت أيضاً بطريقة القصة الفرنسية السيكلوجية الحديثة، ولكنا على الرغم من ذلك (إلا إذا ثبت تماما أن القصة قد جرت في تفاصيلها وأسلوبها وخطتها على نمط القصة الفرنسية) نقول أنه يستحيل علينا أن ننكر على زينب أنها أول قصة مصرية كتبت بقلم مصري للقراء المصريين، وأن شخصياتها وأوضاعها وخطتها قد اشتقت من الحياة المصرية الحاضرة.

لم تلق هذه القصة إلا اهتماما قليلا حينما نشرت في عام 1914، ولكنها لاقت بعد ذلك نجاحاً كبيراً لما اتسعت دائرة القراء. وكان إعادة طبعها في عام 1929 بناء على طلب الجمهور، وقد أدى إلى ذلك عدة عوامل نذكر منها أنها زادت في إحساس الناس بقوميتهم، وأن مؤلفها قد ارتفع صيته في عالم الأدب، وأنها اختيرت موضوعا لأول (فلم سينمائي) أخرج في مصر.

ومن أجل ذلك أصبحت القصة موضع بحث، وكتب في نقدها بعض مقالات كان معظمها مدحا وتقريظا. ومن أحسن ما كتب في هذا الصدد مقالتان طويلتان للمازني في السياسة الأسبوعية بتاريخ 27 أبريل و4 مايو سنة 1929. وحدث أن كتب بعد ذلك كل من هيكل بك ومحمد عبد الله عنان سلسلة مقالات في السياسة الأسبوعية في أوائل عام 1930 ذات فائدة كبيرة فيما يتعلق بنشأة القصة في مصر.

يسائل هيكل بك عن أسباب ذلك الضعف وذلك الفقر الغريبين اللذين يمتاز بهما الأدب العربي الحديث في القصة، مع أن المصريين يمتازون بمقدرة طبيعية على سرد القصص. ولقد علل ذلك بعدة أسباب منها: فقدان المقدرة على طول الخيال، والفرق بين لغة الكتابة ولغة التخاطب، وكسل الكتاب المصريين. ولكن ليس في هذه الأسباب ما يمكن اعتباره السبب الحقيقي وإن بدا في الثاني منها بعض الوجاهة. ويذكر هيكل بك بعض الأسباب الفرعية الأخرى ومنها (1) نسبة الأمية الهائلة في مصر، وهي تحول دون أي تقدير حقيقي من جهة، وتكون سببا في قلة العوض المالي من جهة أخرى (2) عدم التشجيع من

ص: 29

جانب الطبقات العالية والطبقات الغنية، وربما كان السبب في ذلك أن هؤلاء لم يجدوا تشجيعا من جانب المرأة وبهذه المناسبة يشير المؤلف إلى أثر المرأة في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر والى أهمية تشجيع المرأة للحركة الأدبية في الأدب العربي القديم (3) الحط من قيمة الأدباء في مصر والتشهير بهم علنا من منافسيهم وممن هم أقل منهم منزلة (4) انشغال الناس بالمسائل السياسية والاقتصادية وميل الكتّاب إلى الاهتمام بالناحية السياسية أكثر من اهتمامهم بالناحية الأدبية.

ويوافق عنان على تلك الأسباب في الجملة، غير أنه يقول أن ثانيها هو أكثرها خطرا، فإن الوسيلة الحقيقية إلى نمو القصة في مصر تنحصر في مركز المرأة الاجتماعي ويشير عنان إلى أن الدور الذي لعبته المرأة في إنهاض الشعر العربي القديم لم يكن له علاقة بالقصة، لأن أساس القصة إنما يوضع في مجتمع تلعب فيه المرأة دورا خطيرا ويكون المجتمع متأثرا بنفوذها خصوصا في رسم مستوى الخلق والسلوك. وكان من نتيجة فقدان هذا الأثر ضيق مجال الأدب العربي القديم والأدب الأوربي في العصور الوسطى ونقصهما في جمال الشعور والعواطف. ولا يزال هذا الضيق موجودا في الأدب العربي الحديث لأن المستوى الاجتماعي لم يزل كما هو لم يتغير. وتعتبر قصة زينب إحدى الشواذ التي تنهض دليلا على صحة القاعدة، فإن نجاحها إنما يرجع إلى تلك الحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة في الحياة الريفية. وعلى ذلك فإن عنانا لا يشارك هيكل بك في تفاؤله، ففي نظره أنه لا يمكن أن تتقدم القصة المصرية ما لم تتحسن تلك الظروف القائمة، ولا يمكن أن تترجم أو تمثل العواطف والأخلاق السائدة في الحياة الاجتماعية. ولا ينتظر أن يكون لها مستقبل في التطور الأدبي الحديث ما دامت الحياة الإسلامية محافظة على تقاليدها الموروثة. ومما قاله في هذا الصدد (استطعنا أن نقطع بأن المجتمع الإسلامي لا يمكن (متى بقي تطوره وتقدمه محصورين في المبادئ الإسلامية الخالدة أو في التقاليد التي كانت أثرا لهذه المبادئ) أن يظفر كتاب القصص العربي يوما بمادة واسعة أو غزيرة كالتي يقدمها المجتمع الغربي إلى كتاب الغرب أو أن يغدو الأثر الذي يفسحه للمرأة ذات يوم وحيا للفن والجمال).

ولقد أدت مقالة عنان إلى رد من جانب هيكل بك يتعرض فيه إلى الناحية (السيكلوجية)

ص: 30

للموضوع، وهي مقالة جديرة بأن تقرأ بمزيد الاهتمام. يقرر الكاتب أن الضعف الحقيقي في القصة القصيرة والقصة الطويلة في مصر إنما يرجع إلى عدم المقدرة على تفهم الحياة والى حاجتنا إلى تربية العواطف، فإن العواطف النبيلة لا يمكن أن تثمر في حياة اجتماعية يقف فيها الشعور عند نقطة تقوم معها الأغراض الجسدية مقام أي عاطفة سامية من عواطف النفس الإنسانية. وإن أي فن لا يكون في الأصل قائما على حب الفنان لناحية من نواحي الحياة لا يمكن مطلقا أن يصل إلى درجة الكمال، وتطور غريزة الحب إلى عاطفة إنسانية سامية يحتاج إلى تدريب طويل شاق وقد لا يكفي لبلوغ ذلك جيل بل عدة أجيال. وحتى فضيلتا الإحسان والعطف يندر وجودهما في مظهرهما الاجتماعي الراقي في مصر. ولم يزل الحب أيضاً قريبا من الغرائز الأولية، ومن النادر أن يعثر المرء في هذه الناحية على مثل من المثل العليا الجميلة. وأخيرا يتلمس الكاتب أسباب نقص التهذيب العاطفي في انعدام وسائل التربية التي تقصد إلى هذا الغرض في المنزل، كما يتلمسها في طرق التعليم القديمة التي تعد أدخل في باب الحرف منها في باب الإنسانية.

ولم يكن من السهل مرور هذه المناقشات دون أن تثير معارضة من جهات مختلفة وسنوضح أحد هذه الانتقادات الشهيرة عند الكلام على قصة المازني (إبراهيم الكاتب) ولقد صدرت تلك المعارضة عن صفوف المثقفين. ومما قاله أحدهم في هذا الصدد. . . . ما هذه المناقشة الطويلة حول القصة؟ لقد سار الأدب العربي بدونها في الماضي ولم ينقص ذلك من قدره، وإن التطلع إلى إيجاد القصة فيه الآن ليعد مثلا جديدا من أمثلة تقليد الأوربيين تقليدا ضارا ينذر بتقوض دعائم الحياة الاجتماعية في الشرق. إن القصة الغربية بما فيها من نقص وتزييف وعدم ملاءمة للتقاليد الاجتماعية في الشرق قد أثرت تأثيرا هداما في حياة مصر الاجتماعية. أفنسعى بعد ذلك وراء هذا الداء الوبيل؟

ص: 31

‌ابن خلدون في مصر

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 3 -

ثم عين المؤرخ في وظيفة أخرى هي مشيخة (نظارة) خانقاه بيبرس، وهي يومئذ أعظم الخوانق أو ملاجئ الصوفية؛ فزادت جرايته، واتسعت موارده. ولكن أمد سكينته لم يطل، فقد نشبت فتنة خطيرة أودت بعرش الظاهر برقوق بطلها ومدبرها الأمير يلبغا الناصري نائب حلب؛ وكانت نظم البلاط القاهري وظروفه وما يضطرم به من الدسائس والخيانات مما يسمح بتكرار هذه الفتن؛ وكان يلبغا الناصري نائب السلطنة من قبل، وزعيم عصبة قوية من الأمراء والفرسان؛ وكان الظاهر برقوق من جملة أمرائه وتابعيه؛ ولكنه استطاع في فتنة سابقة (رمضان سنة 784) أن يظفر بالعرش دونه، وأن يجرده من سلطته ونفوذه، وأن يقصيه إلى الشام. ثم سنحت فرصة الخروج ليلبغا، فسار إلى القاهرة في أتباعه وتحول أنصار برقوق عنه، ففر من القلعة، ودخل يلبغا الناصري القاهرة، وأعاد الصالح حاجي السلطان المخلوع إلى العرش، وقبض على برقوق وأرسله سجينا إلى الكرك (جمادى الأولى سنة 791). ولكن ثورة أخرى نشبت بقيادة أمير آخر يدعى منطاش، فقبض على الناصري، وسار إلى دمشق لمحاربة برقوق الذي استطاع أن يفر من سجنه؛ فهزمه برقوق وعاد إلى القاهرة ظافراً منصوراً، واسترد عرشه في صفر سنة 92، لبضعة أشهر فقط من عزله. ويخصص ابن خلدون في (تعريفه) فصلاً لهذه الحوادث، ويمهد له بشرح فلسفي اجتماعي يتحدث فيه عن نهوض الدولة بقوة العصبية واتساع ملكها، ثم طغيان الحضارة والرفاهة عليها، وخروج الأقوياء منها عليها، وبثهم فيها روحاً جديداً من القوة، وتكرر هذه الظاهرة، ثم يطبق نظريته على دول المماليك المصرية منذ صلاح الدين، ويقص تاريخها باختصار. وهنا يبدو ابن خلدون كما يبدو في مقدمته، ذلك الفيلسوف الاجتماعي الذي يعنى بتعليل الظواهر والكائنات، واستقرائها في حوادث التاريخ.

والظاهر أن ابن خلدون قد عانى من جراء هذه الفتنة، ففقد مناصبه وأرزاقه كلها أو بعضها بسقوط الحزب الذي يتمتع بعطفه ورعايته. فلما عاد الظاهر برقوق إلى العرش ردت إليه. يدل على ذلك قوله في التعليق على عود الظاهر: (ثم أعاده إلى كرسيه للنظر في مصالح

ص: 32

عباده، وطوقه القلادة التي ألبسه كما كانت، فأعاد لي ما أجراه من نعمته).

ولبث ابن خلدون على ذلك أعواما ينقطع للبحث والدرس، وهو يقف بالتعريف بنفسه عند هذه المرحلة، حتى مستهل سنة سبع وتسعين (797) في الترجمة المتداولة الملحقة بتاريخه. ولكنه يمضي في هذا التعريف مراحل أخرى، في النسخة المخطوطة التي أتينا على ذكرها؛ ويفصل حوادث حياته حتى مختتم سنة 807، أعني قبل وفاته ببضعة أشهر. والنسخة المخطوطة أكثر تفصيلا وإسهاباً حتى فيما تتفق فيه مع النسخة المتداولة من مراحل الترجمة؛ ولهذا آثرنا الرجوع إليها إلى جانب النسخة المتداولة في كل ما هو أوفى وأتم مما تقدم ذكره من المراحل. غير أن النسخة المخطوطة ستكون منذ الآن وحدها مرجعنا فيما سيأتي من تفاصيل حياة المؤرخ حتى وفاته.

ليس في حياة ابن خلدون في هذه الفترة ما يستحق الذكر سوى سعيه إلى عقد الصلات بين البلاط القاهري وسلاطين المغرب ويجمل ابن خلدون ذكر هذه الصلات الملوكية، ويصف المراسلة والمهاداة بين صلاح الدين وبني عبد المؤمن ملوك المغرب؛ وبين الناصر قلاوون وملوك بني مرين؛ ويصف الهدايا المصرية والمغربية؛ ثم يعطف على مساعيه في عقد الصلة بين الملك الظاهر وسلطان تونس؛ وملخصها أنه كتب إلى سلطان تونس بحثه على إهداء ملك مصر، فأرسل إليه هدية من الجياد النادرة، ولكنها غرقت مع السفينة التي كانت تحمل أسرة المؤرخ كما قدمنا. ورد الملك الظاهر بإهداء سلطان تونس؛ ثم بعث سنة تسع وتسعين إلى المغرب ليشتري عدداً من الجياد، فزود ابن خلدون الرسل بالإرشاد والتوصية. ولكنهم عادوا بهدية فخمة كان سلطان تونس قد أعدها وتأخر إرسالها؛ وعدة هدايا أخرى قدمها أمراء المغرب، ومنها خيل مسومة، وعدد وسروج ذهبية. ويصف لنا ابن خلدون يوم تقديم الهدايا وعرضها ثم يقول لنا إنه شعر يومئذ بالفخر وحسن الذكر بما (تناول بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الثابتة على الأبد).

لبث ابن خلدون بعيداً عن منصب القضاء زهاء أربعة عشر عاما، يحول بينه وبين توليه، على قوله، ذلك الجناح من البلاط الذي شغب في حقه، وأغرى السلطان بعزله؛ فلما ضعف ذلك الحزب وانقرض رجاله، انتهز السلطان أول فرصة لرده إلى منصبه وكان ذلك في منتصف رمضان سنة إحدى وثمانمائة (مايو سنة 1398م) على أثر وفاة ناصر الدين

ص: 33

التنسي قاضي المالكية. وكان ابن خلدون عندئذ بالفيوم يعنى بضم قمح ضيعته التي يستحقها من أوقاف المدرسة (القمحية) فاستدعاه السلطان وولاه القضاء للمرة الثانية. ثم توفي السلطان بعدئذ بقليل؛ في منتصف شوال؛ فخلفه ولده الناصر فرج، وسرى الاضطراب إلى شئون الدولة، واضطرمت الفتن والثورات المحلية حينا. فلما استقرت الأمور نوعاً، استأذن المؤرخ في السفر إلى بيت المقدس، فأذن له؛ وجال ابن خلدون في المدينة المقدسة، يتفقد آثارها الخالدة؛ وشهد المسجد الأقصى، وقبر الخليل، وآثار بيت لحم، ولكنه أبى الدخول إلى كنيسة القيامة (قبر المسيح). يقول لنا (وبناء أمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم، فنكرته نفسي، ونكرت الدخول إليه) ثم عاد من رحلته ووافى ركاب السلطان أثر عوده من الشام في ظاهر مصر، ودخل معه القاهرة في أواخر رمضان سنة 802.

وفي المحرم سنة ثلاث عزل ابن خلدون من منصب القضاء للمرة الثانية. وسترى أن هذا العزل كان نتيجة لسعي منظم من خصوم المؤرخ، وأن تكراره كان مظهراً بارزاً لذلك النضال الذي كان يضطرم بينه وبين خصومه داخل البلاد وخارجه. ولم يمض قليل على ذلك حتى جاءت الأنباء بأن تيمورلنك قد انقض بجيوشه على الشام واستولى على مدينة حلب في مناظر هائلة من السفك والتخريب (ربيع الأول سنة 803هـ - 1400م) ثم اخترق الشام جنوبا إلى دمشق. فروعت مصر لهذه الأنباء، واضطرب البلاط أيما اضطراب، وهرع الناصر فرج بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ورده، واصطحب معه القضاة الأربعة وجماعة من الفقهاء والصوفية ومنهم ابن خلدون. ولا ريب أن المؤرخ لم ترقه هذه المفاجأة التي ذكرته بما عاناه بالمغرب من تلك المهام السلطانية الخطرة؛ بل هو يقول لنا صراحة أنه حاول الاعتراض والتملص، لولا أن غمره يشبك حاجب السلطان (بلين القول، وجزيل الأنعام). ويفرد المؤرخ فصلا لحوادث تلك الحملة، ويمهد له بتعريف عن نشأة التتار والسلاجقة. وكان سفر الحملة في ربيع الثاني سنة 803، فوصلت إلى دمشق في جمادى الأولى، ونزل ابن خلدون مع جمهرة الفقهاء والعلماء في المدرسة العادلية، واشتبك جند مصر تواً مع جند الفاتح في معارك محلية ثبت فيها المصريون؛ وبدأت مفاوضات الصلح بين الفريقين. ولكن مؤامرة دبرها نفر من بطانة السلطان لخلعه

ص: 34

اضطرته للعودة سريعاً إلى مصر؛ فترك مصر لمصيرها، وأرتد مسرعاً إلى القاهرة فوصلها في جمادى الآخرة. وعلى أثر ذلك وقع خلاف بين القادة والرؤساء حول تسليم المدينة. وهنا تغلب المؤلف نزعة المغامرة كما تغلبه الأثرة.

فقد خشي أن تقع المدينة في يد الفاتح، فيكون نصيبه الموت أو النكال؛ ورأى أن يعتصم بالجرأة، وأن يغادر جماعة المترددين إلى معسكر الفاتح، فيستأمنه على نفسه ومصيره. ويحدثنا المؤرخ عن ذلك بصراحة، فيقول على ما شجر بين القادة من خلاف (وبلغني الخبر، فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحراً إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج، أو التدلي من السور لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر). وانتهى المؤرخ بإقناع زملائه فأدلوه من السور، وألفى عند الباب جماعة من بطانة تيمورلنك وأبنه شاه ملك الذي عينه لولاية دمشق عند تسليمها فأنظم إليهم، والتمس مقابلة تيمور؛ فساروا به إلى المعسكر أدخل في الحال إلى خيمة الفاتح. ويصف لنا ابن خلدون ذلك اللقاء الشهير في قوله:(ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئاً على مرفقه، وصحاف الطعام تمر بين يديه تشريها إلى عصب المغل، جلوساً أمام خيمته حلقاً حلقا. فلما دخلت عليه، فانحنيت بالسلام وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومد يده إليّ فقبلها؛ وأشار بالجلوس فجلست حيث إنتهت، ثم استدعا من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم فأقعده يترجم بيننا).

ص: 35

‌البيروني أيضاً.

نشرتم في ص20 من الجزء الرابع من الرسالة ترجمة للبيروني حسنة التأليف والمضامين متناولة لكثير من مناحي الرجل العلمية والفنية، ولكنها مغفلة لمنحاه الأدبي المصطلح عليه في عصره، وهذا مما تعنى به الرسالة ويصيب منها هوى فيه، فللبيروني كتاب (شعر أبي تمام) قال ياقوت الحموي:(رأيته بخطه لم يتمه) وكتاب التعلل بإجالة الوهم في معاني نظم أولي الفضل، وكتاب تاريخ أيام السلطان محمود وأخبار أبيه، وكتاب المسامرة في أخبار خوارزم ذكره ياقوت أيضاً في مادة (خوارزم) وكتاب مختار الأشعار والآثار، قال ياقوت:(وإنما ذكرته أنا هاهنا لأنه كان أديباً أريباً لغوياً وله تصانيف في ذلك) ولم يذكر في الترجمة المذكورة في الرسالة كتابه (تقاسيم الأقاليم)، قال ياقوت (وجدت كتاب تقاسيم الأقاليم تصنيفه وخطه وقد كتبه في هذا العام) وليس هو الذي أشير إليه في الرسالة بما نصه (وعمل قانوناً جغرافياً كان أساساً لأكثر القسموغرافيات المشرقية) وله كتاب (اعتبار مقدار الليل والنهار) وسبب تأليفه أن السلطان محمود الغزني ورد عليه رسول من أقصى بلاد الترك وحدث بين يديه بما شاهد، في ما وراء البحر نحو القطب الجنوبي (كذا) من دور الشمس عليه ظاهرة في كل دورها فوق الأرض بحيث يبطل الليل، فتسارع السلطان على عادته في التشدد في الدين، إلى نسبة الرجل إلى الإلحاد والقرمطة، على كونه بريئاً منهما، فقال أبو نصر أبن مشكان للسلطان (أن هذا لا يذكر ذلك عن رأي يرتئيه ولكن عن مشاهدة يحكيه) وتلا قوله عز وجل (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) فسأل السلطان أبا الريحان عن ذلك فأخذ يصفه له على وجه الاختصار ويقرره على طريق الإقناع، وكان السلطان في بعض الأوقات يحسن الإصغاء ويبذل الإنصاف، فقبل ذلك وانقطع الحديث بينه وبينه وقتئذ، وبعد تولي ابنه مسعود للسلطنة انبعثت القضية ائتنافاً وفاوض البيروني يوماً فيها وفي سبب اختلاف مقادير الليل والنهار في الأرض وأحب من أبي الريحان البرهان ليجتزئ به عن العيان، فقال له أبو الريحان (أنت المنفرد اليوم بامتلاك الخافقين، والمستحق بالحقيقة اسم ملك الأرض، فأخلق بهذه المرتبة إيثار الاطلاع على مجاري الأمور وتصاريف أحوال الليل والنهار ومقدارها في عامرها وغامرها) وصنف له ذلك الكتاب المتقدم ذكراً بطريق يبعد عن مواضعات المنجمين وألقابهم ويقرب تصوره من فهم من لم يرتض بهذا العلم ولم يعتده، وكان السلطان قد مهر في العربية فسهل

ص: 36

له وقوفه عليه وأجزل إحسانه إليه، وكذلك صنف كتاباً في (لوازم الحركتين) بأمر هذا السلطان. قال ياقوت (وهو كتاب جليل لا مزيد عليه مقتبس أكثر كلماته عن آيات من كتاب الله عز وجل وكتابه الآخر المعنون بالدستور الذي صنفه باسم شهاب الدولة أبي الفتح مودود بن السلطان شهيد، مستوف أحاسن المحاسن) وذكر له صاحب روضات الجنات غير ما جيء به في الرسالة كتاب (تسطيح الكرة) وكتاب (الاستيعاب في علم الإسطرلاب) وهو غير (العمل بالإسطرلاب) وكان كبيراً على ما قال مؤلف الروضات، وكتاب (تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن) وكتاب (التفهيم في صناعة التنجيم) بالعربية والفارسية، وكتاب (الأظلال) ورسالة في تهذيب الأقوال ومقالة في استعمال الإسطرلاب الكرى وأخرى في تلافي عوارض الزلة في دلائل القبلة، وكتاب اختصار بطليموس القلوذي، وكتاب الأطوال للفرس، وتاريخ الهند وهو مجلدات، ونفهم من كلام صاحب الروضات أن العلماء اختلفوا في أسمه فترجمه بعضهم في باب (المحمدين) وبعض مع الأحمدين وفعل هو الأمرين، وأن صلاح الدين الصفدي ذكره في تاريخ (الوافي بالوفيات) وذكره صاحب طبقات النحاة ومؤلف رياض العلماء وحمد الله المستوفي الفارسي في نزهة القلوب، وذكره القفطي في ترجمة (بطليموس القلوذي) الذي أسلفنا ذكراً له، قال (وما أعلم أحداً تعرض لتأليف مثل كتابه المعروف بالمجسطي ولا تعاطى معارضته بل تناوله بالشرح والتبيين كالفضل بن أبي حاتم التبريزي وبعضهم بالاختصار والتقريب كمحمد بن جابر البتاني وأبي الريحان البيروني الخوارزمي مصنف كتاب القانون المسعودي ألفه لمسعود بن محمود بن سبكتكين وحذا فيه حذو بطليموس. . .) وذكره شمس الدين الشهرزوري في تاريخ الحكماء فقال (أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني وبيرون مدينة في السند. . .) وقال ياقوت (وهذه النسبة معناها: البراني لأن بيرون بالفارسية معناه: برا، وسألت بعض الفضلاء عن ذلك فزعم أن مقامه بخوارزم كان قليلا وأهل خوارزم يسمون الغريب بهذا الاسم كأنه لما طالت غربته عنهم صار غريباً، وما أظنه يراد به إلا أنه من أهل الرستاق، يعني أنه من برا البلد) وأقول أن التكلف في تخريج نسبته ظاهر، فالشهرزوري اتبع قوله السابق ما صورته (وبيرون التي هي منشأه ومولده بلدة طيبة فيها عجائب وغرائب، ولا غرو فان الدر ساكن الصدف) وقد ألحق في كتابه آثار

ص: 37

الباقية المطبوع في ليبزيج ثبت لكتبه فيه اسم (112) تأليفاً.

بغداد. مصطفى جواد

من طرائف الشعر

شوقية لم تنشر

نظم شاعر الخلود المغفور له شوقي بك هذه القصيدة في منفاه ولم يتمها. فنشرناها للأدب والتاريخ:

وسقيمة الأجفان لا من علة

تحيي العميد بنظرة وتميته

وصلت كتربيها الحديث بضاحك

ضاحٍ كمؤتلف الجمان شتيتُه

قالت تغربت الرجال، فقلت في

ضيم أريد بجانبي فأبيته

قالت نُفيت، فقلت ذلك منزل

وردَته كل يتيمة ووردته

قالت رماك الدهر، قلت فلم أكن

نِكساً ولكن بالأناة رميته

قالت ركبت البحر وهو شدائد

قلت الشدائد مركب عُوِّدته

قالت أخِفت الموت قلت أمُفلت

أنا من حبائله إذا ما خفته؟

لو نلت أسباب السماء لحطني

أجل يحل لحينه موقوته

قالت لقد شَمِتَ الحسود فقلت لو

دام الزمان لشامت لحفلته

قالت كأني بالهجاء قلائداً

سارت، فقلت هممت ثم تركته

أخذتْ به نفسي فقلت لها دعى

ما شاءت الأخلاق لا ما شئته

من راح قال الهُجر أو نطق الخنا

هذا بياني عنهما نُزَّهته

الله علمنيه سمحاً طاهرا

نَزِه الخلال وهكذا علمته

ص: 38

‌كشافة العراق

للأستاذ محمد الهراوي

هذي العراق وأهلها الغر

تهتز من طرب بهم مصر

أبناء بغداد، وهم شهب

في أفق مصر الأنجم الزُّهر

نزلوا بساحتها، وقد نزلوا

حيث الحشا والقلب والصدر

كشافة شدوا رحالهمو

لا البر يعييهم ولا البحر

ومن السلام عليهمُ بشر

ومن الحمية فيهمُ جمر

عن مصر حيتهم مواسمها

وعن الربيع الطير والزهر

لله بغداد ومصر معاً

فهما الحما والموطن الحر

أختان من رحم ومن نسب

غذى أصولهما الدم الطهر

ولقد توارثتا معاً أدباً

ينبيك عنه النثر والشعر

ولقد تشابهتا فأرضهما

من جنة، والكوثر النهر

والدين وحد بين قومهما

رمياتهم، والمطمح الوعر

ماضيهمو مجد، وحاضرهم

جد، وللمستقبل النصر

ص: 39

‌من أدب الزنوج

ترجم الأستاذ ايليا أبو ماضي هذه الأنشودة من أناشيد الزنوج في أمريكا واضطهاد البيض اياهم معروف

فوق الجميزة سنجاب

والأرنب تمرح في الحقل

وأنا صيَّاد وثاب

لكن الصيد على مثلي

محظور إذ أني عبد

والديك الأبيض في القُن

يختال كيوسف في الحسن

وأنا أتمنى لو أني

أصطاد الديك ولكني

لا أقدر إذ أني عبد

وفتاتي في تلك الدار

سوداء الطلعة كالقار

سيجيء ويأخذها جاري

يا ويحي من هذا العار

أفلا يكفي أني عبد؟

ص: 40

‌الهوى والشباب

للأستاذ بشارة الخوري

الهوى والشباب والأمل المن

شود توحَى فتبعث الشعر حيا

والهوى والشباب والأمل المن

شود ضاعت جميعها من يديا

يشرب الكأس ذو الحَجِيِّ ويبقى

لغد في قرارة الكأس شيَّا

لم يكن لي غد فأفرغت كأسي

ثم حطمتها على شفتيا

أيها الخافق المعذب يا قلْ

بي نزحت الدموع من مقلتيا

أفحَتْم عليَّ إرسال دمعي

كلما لاح بارق في مُحَيا؟

يا حبيبي لأجل عينيك ما ألْ

قى وما أوَّلَ الوشاة عليا

أأنا العاشق الوحيد لتُلقي

تبعات الهوى على كتفيا

اسقني من لماك أشهى من الخم

ر ونم ساعة على راحتيا

أنا ميتٌ غدا مع الفجر فاسكب

نغمات الحنان في أذنيا

ص: 41

‌موطني

لنزيل البرازيل: إلياس فرحات

نازح أقعده وجد مقيم

في الحشا بين خمود واتقاد

كلما افتر له البدر الوسيم

عضه الحزن بأنياب حداد

يذكر العهد القديم

فينادي

أين جنات النعيم

من بلادي

زانها المبدع بالفن الرفيع

منصفا بين الروابي والبطاح

ملقيا من نسج أبكار الربيع

فوق أكتاف الربى أبهى وشاح

حبذا راعي القطيع

في المراح

ينشد اللحن البديع

للصباح

موطني يمتد من بحر المياه

ممعنا شرقا إلى بحر الرمال

بين طوروس وبين التيه تاه

بجمال فائق حد الجمال

ذكره يغري فتاه

بالمعالي

أنا لا أبغي سواه

فهو مالي

ص: 42

‌في الأدَبِ الشرقي

نظرات في الأدب الفارسي

منذ نشأته إلى إغارة التتار

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 3 -

وأما ألفاظ الشعر ففيها كثير من الألفاظ العربية وعليها طابع عربي في تركيبها، ولكن أثر العربية في الشعر أقل منه في النثر.

وأما قوافيه وأوزانه فلا يمكن تفصيلها في هذا المقال، وحسبنا أن نقول إن الفرس يكثرون من الشعر المزدوج الذي يسمونه المتنوي وهو شعر القصص كلها، وأكثروا كذلك من الدوبيت أو الرباعي، وعندهم ما يسمونه تركيب بند، أو ترجيع بند، وهو قريب من الموشحات العربية، وعندهم الشعر المردف وهو الذي تكرر في آخره كلمة واحدة ويعتبر الروي والقافية ما قبل هذه الكلمة. وجملة القول أنهم لم يسهلوا القوافي العربية وإن اخترعوا ضروبا فيها.

وأما الوزن فجدير بالتدقيق جداً، فان الفرس حاكوا العرب في أوزانهم أول الأمر ولكنهم سرعان ما نبذوا أشهر الأوزان العربية. فالطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل، وهي بحور الدائرة الأولى، لم ينظم فيها الفرس إلا جماعة من المتقدمين أرادوا إظهار براعتهم كما يقول شمسي قيس. ونظموا في الرمل والرجز والخفيف والمضارع والمجتث والمتقارب (وهو وزن الشاهنامة) وأولعوا بالهزج ولعاً شديداً حتى جعلوه أصلا فرَّعوا منه أصناف الرباعي وخرجوا به عن أصله العربي.

ويلاحظ أنهم لم يقفوا بالبحور عند المقادير العربية، فالرمل قد يأتي مثمناً والرجز كذلك وما جاءا قط كذلك في شعر العرب، والهزج (مثلا) الذي هو سداسي الأصل عند العرب ومجزوء وجوباً ينظم منه الفرس مثمنا. ثم تصرف الفرس في الزحاف والعلل تصرفاً كثيراً جدا، واشتقوا من الدوائر العربية بحورا أخرى قريبة من البحور الأصلية مثل الغريب والمشاكل والقريب.

ص: 43

وقد أراد بعض المستشرقين أن يعلل الخلاف بين الأوزان العربية والفارسية الخ بما بين طبائع الأمتين من اختلاف.

ويقول شمسي قيس أن سبب نقل الطويل والمديد والبسيط أن أجزاءها غير متناسبة في حركاتها وسكناتها ويطيل في بيان ذلك. ولا يمكن الفصل في هذه المسألة إلا بعد بحث مفصل في أوزان الشعر العربي وعلاقتها بالكلمات العربية، وفي تطور الأوزان العربية في الشعر الفارسي وتبيين ما بين هذا التطور ولغة الفرس من صلة، وبعد بحث طويل شاق لم تتهيأ وسائله.

وأما النثر الفارسي فأثر العربية عليه أبين: الألفاظ العربية فيه أكثر، والتركيب قريب من التركيب العربي، ولكن لا بد من الفرق بين النثر الأدبي - نثر الرسائل والمقامات ونثر الكتب، فأما الأولى فقريبة من الشعر، وأما الثانية فيفرق فيها بين كتب التاريخ التي هي قصص يستعمل فيها الكلام المعتاد غالبا وبين المؤلفات العلمية مثل كتب الفقه والتوحيد والبلاغة والطب وهلم جرا. فهذا الصنف الأخير يكاد يكتب بألفاظ عربية، وتستعار فيه كل الاصطلاحات العربية، فاصطلاحات البلاغة وضروب البديع واصطلاحات العروض أخذت برمتها، وما زادوه فيها اشتقوه من العربية أيضا، ثم المؤلفات كلها علميا وأدبيا يتخللها كثير من المقتبسات العربية، ففي كتب الدين الآيات والأحاديث، وفي كتب الأدب والتاريخ كثير من الأبيات والأمثال والمأثورات، وقد تجد من ذلك أسطرا كثيرة متوالية.

قد عرفنا حال اللغة الفارسية في إيران إجمالاً، وكيف بدأت وكيف تطورت وكيف شاركت في فنون كثيرة. وقد يتردد في نفس القارئ هذا السؤال: ماذا أصاب اللغة العربية في تلك البلاد بعد أن صار لها لغة أدبية خاصة؟ هل استبدت اللغة الفارسية بالآداب ولم يبق للعربية فيها مجال؟ والجواب كلا!!

قد تقلبت الغير باللغتين ولكن يمكن أن يقال أن العربية احتفظت بالسيادة في الأطوار كلها فيما عدا الشعر. فأما أدلة هذا وتفصيله ففي هذه الكلمة الموجزة.

لا ريب أن المؤلفات العربية التي ألفت في بلاد فارس ما بين أول القرن الرابع وغارات التتار أكثر جداً من نظائرها الفارسية، ولكن ينبغي أن نفرق بين الشعر وبين غيره أيضاً فإن الأمر فيهما لا يجري على سنن واحد:

ص: 44

فأما العلماء المؤلفون فلا حرج على باحث أن يقول أنهم كلهم كانوا يعرفون اللغتين، وقد ألف بعضهم فيهما ولكن المؤلفين بالعربية أشهر ذكرا وأعظم أثرا. وحسبنا أن نذكر ابن مسكويه وابن سينا والبيروني والعتبي والغزالي والرازي والزوزني والتبريزي والنسفي والبيضاوي والطوسي.

وأحسن مقياس في هذا أن نعمد إلي جماعة ممن ألفوا باللسانين لنرى أمؤلفاتهم العربية أكثر وأعظم أم الفارسية. ولا أحسب الأمر يحتاج إلى عناء، فيكفينا أن نذكر الغزالي فنحن نعرف مؤلفاته العربية وليس له في الفارسية إلا رسالتان: كيمياء السعادة ونصيحة الملوك، وقد صرح في الأولى أنه ألفها بالفارسية ليفهم العامة. وفخر الدين الرازي له زهاء 33 مؤلفا يعرف منها في الفارسية واحد فقط هو اختيارات علائي، ونصير الدين الطوسي على تأخر زمانه له نحو 50 مؤلفا قليل منها الفارسي. والبيضاوي ألف تفسيره بالعربية ولم يمنح الفارسية إلا كتابا صغير أسماه نظام التواريخ.

وأما الشعر وما يتصل به فلا ريب أن النبوغ كان لشعراء الفرس أو لشعراء الفارسية، فليس فيمن شعروا بالعربية ببلاد الفرس أمثال الفردوسي أو الأنوري أو العنصري، ولكن أكثر العلماء الذين اتخذوا العربية لغة علم كانوا ينظمون شعرا عربيا. وكثير من شعراء الفرس نظموا شعرا عربيا كذلك. وحسبنا أن نعرف أن الثعالبي وهو من رجال القرن الرابع ذكر في الجزء الثالث والجزء الرابع من اليتيمة واحدا وخمسين ومائة من معاصريه الذين نظموا الشعر العربي في أرجاء بلاد الفرس وهم أكثر من كل شعراء الفرس الذين ذكرهم عوفي وهو في القرن السابع.

ومن الشعراء الذين نظموا باللغتين بديع الزمان الهمذاني وأبو الفتح البستي وقد ضاع ديوانه الفارسي، والبديع البلخي الذي مدح أحد الأمراء بشعر ملمع. وعطاء بن يعقوب الكاتب وكان له ديوانان عربي وفارسي، والباخرزي، وابن سينا، والشيخ سعدي. ومن الكتاب رشيد الدين وطواط صاحب حديقة الشعر وله رسالة عربية منشورة في رسائل البلغاء.

لم يكن حال اللغتين سواء في العصور كلها فقد كانت الفارسية منذ ظهرت في صعود بينما كانت العربية في هبوط (وهذا الهبوط كان أبين في الشعر منه في العلم، فالراوندي مؤلف

ص: 45

راحة الصدور ينقل أبياتا عربية بليغة لأحد وزراء السلاجقة ثم يأسف على ذلك الزمن ويقول: أن وزراء زمنه لا يفهمون مثل هذا) وصاحب المعجم من رجال القرن السابع يقول أن شعراء زمانه يعرفون اللغتين ولكنه لما نظم كتابه في العروض بالعربية نقم عليه أدباء فارس حتى قسم الكتاب قسمين المعجم والمعرب.

ذعوني يقول: فان كل مستعرب يعرف الفارسية وليس كل شاعر فارسي يعرف العربية، على أن اللغة الفارسية نفسها لم تكن قد ضبطت قواعدها كقواعد العربية حتى نجد شمسي قيس في القرن السابع يشكو من هذا ويشرح القواعد شرح المستنبط الذي لم يسبق أطوار الترجمة.

والخلاصة أن العربية فيما عدا الشعر حلت مكانة فوق الفارسية حتى غارات التتار التي عصفت بالحضارة الإسلامية وأصابت العلوم والآداب بضربات لم تفق منها حتى اليوم.

والكلام عن اللغتين بعد سقوط بغداد لا يجري على هذا النمط، وعسى أن تتاح فرصة للكلام عن ذلك.

حول الأدب الياباني

كتب إلينا الأديب نادر الكزيري من ندوة المأمون بدمشق يلاحظ على الأستاذ أحمد الشنتناوي أنه لم يشر في آخر مقاله (الأدب الياباني) إلى أنه منقول بالنص عن مقال فرنسي نشر في عدد يناير سنة 1933 من مجلة الشهر تحت عنوان (إقليم اليابان الأدبي) ولعل ذلك سهو من الكاتب يتداركه إن شاء.

ص: 46

‌في الأدَب الغربيّ

في الأدب الروسي

تولستوي

ناحية من نواحي فلسفته

طفل خجول نفور من الناس، لكنه رقيق المشاعر شديد الحس جياش العاطفة. ثم جندي يحارب في سبيل الوطن. مستهتر متهتك مبالغ في الاستهتار. وهو ملحد مغرق في الإلحاد ساخر بالدنيا. ثم هو كهل شديد الإيمان قوي الثقة في الحياة.

وأخيراً تتمخض حياة الروائي الكبير عن شيخ يعتزل ثروته ويترك المدنية بكل زينتها وخداعها ونفاقها ليعمل جنباً إلى جنب مع فلاحيه، وليفيض قلبه حنانا على الإنسانية المعذبة. وليصبح شخصية خالدة على ممر الدهور.

هكذا كان تولستوي وهكذا كانت حياته.

ثم فلسفة قوية مليئة بالحياة هي فلسفة الإيمان والعاطفة، وعاطفة قوية صريحة يدعمها العقل، ويحركها التأمل، ويفيض عليها الإلهام نورا عميقا.

هكذا كانت فلسفة تولستوي.

فلن تجد في فلسفته هذه المشكلات المنطقية، وهذا اللف والدوران وهذا التكلف والتعمل اللذان تجدهما في كثير من الفلسفات. بل لم يحاول تولستوي مرة أن يضع كتابا في الفلسفة أو يجمع آراءه في صوره مرتبة منمقة.

ففلسفته في شتات رواياته التي تتجاوز العشرين. وهي في شتات أشخاص هذه الروايات التي تعبر كل واحدة منها عن ناحية من نواحي المؤلف نفسه: عن شكه أو سخريته، عن إيمانه أو إلحاده.

ولذلك ففلسفته محببة إلى النفس. يقدمها في لون من أشهى الألوان إلى القلب: في صورة قصة أو في صورة ذكريات.

وهو لم يكن يكتب ليرتزق من وراء كتبه كمعظم الروائيين. ولم يكن يكتب ليضحك من الناس أو يسخر منهم كما فعل أناطول فرانس. بل كان يكتب معبراً عن عاطفة قوية أحست

ص: 47

بالحياة، وشكّت في الإله، ثم آمنت به من بعد شك. ثم اعتزت بالحياة من بعد سخرية.

وهو لم يبحث في الإله وصفاته، أو في الروح وطبيعتها، أو في الجسد وعلاقتها بالروح، أو في الزمان والمكان، أو في ترتيب الخلق والموجودات، أو فيما شابه ذلك من أمهات المسائل التي تشغل بال الفلاسفة. بل كانت فلسفته من صنف آخر لا يقل جودة ولا ينقص عظمة ولا عمقا. حاول فيها أن يخفف من الآلام الإنسانية وعذابها، وأن يرشد الفرد والجماعة إلى الطريق السوي. وأن يرسم لهما مثلا أعلى يعملان من أجله. فلسفة بحثت في جميع أمراض الإنسانية فشخصت الداء وبينت مواضع الضعف. ثم أخيرا أرشدت إلى أنواع العلاج.

وقد عالج تولستوي سعادة الفرد وكيف يمكن تحقيقها، ووصف عيوب المجتمع الذي نعيش فيه. وبيّن سخافاته ومتناقضاته والطريق إلى علاج هذه المتناقضات. وبحث في الدين والعلم والفن وأخيرا في كل ما يمس المجتمع الإنساني وما يتصل بأفراد هذا المجتمع بسبب.

وسنحاول في هذه العجالة أن نطلعك على ناحية من نواحي فلسفته. ناحية حاول فيها أن يرسم للفرد مثلا أعلى. وأن ينهج له الطريق إلى السعادة التي ينشدها.

كل منا قد تساءل ما الحياة وما قيمتها؟ ولماذا نحياها هكذا؟ أخلقنا لنشقى أو عشنا لنموت؟

وكل منا مرت به ساعات من السخط على الحياة أو الابتسام لها. لا ندري لماذا نبتسم ولماذا نسخط؟

وكل منا يرغب في سعادة هادئة مطمئنة، سعادة لا يفوز ولم يفز ويظهر أنه لن يفوز بها! ومع ذلك فنحن دائبون في العمل لها. وهي دائبة في البعد عنا.

ومر بخلد تولستوي هذه الشكوك وانتابته هذه الحيرة وجرى وراء السعادة، فأقبل يرتوي من منهل الحياة: يعربد ويتهتك ويتمتع بكل ما حرم ولذ، ونال من الحياة ما لم ينله غيره.

فهو من أشراف الروسيا، له من المجد ما لهم، وله من العبيد ما يزيد على سبعمائة. وهو غني في غير حاجة إلى عمل يرهقه، أو رئيس يخضع له، والطبيعة وإن لم تزوده بوجه جميل، قد أعطته من جمال الروح ورقة العاطفة ما خفف من حدة قبحه، وقلل من بشاعة منظره، وتزوج فأخلصت له زوجته، وتمتع بأشهى ما تصبو إليه نفس من وفاق عائلي

ص: 48

وذرية صالحة.

ماذا يريد بعد هذا من أطايب الحياة ولذات المعيشة؟

على أنه لم يفز بالأمل المنشود. ولم يظفر بالسعادة ولا بظلها، بل كان ينتابه شعور بسخف الحياة وعبثها.

فهي إما ساكنة هادئة، ولكنها مملة جافة. وهي إما مضطربة هائجة، ولكنها مؤلمة قاسية. وهي في كل هذا سخيفة من دون معنى ولا غرض ولا غاية واضحة. أيعتزلها كراهب؟ ولكن أنى له الخبز الذي يملأ بطنه الجائع؟ وما قيمة حياة يعتزلها المرء؟ وأنى للإنسانية أن تعيش إذا قدر لكل فرد أن يعتزل العالم؟ وهل يجد الإنسان في العزلة راحة وهدوءا؟

أيحياها كما حيتها مئات الأجيال من قبله، وكما ستحياها من بعده؟ ولكن هذه سخافة لا تطاق. وما الذي يحمله على أن يتعذب ويتألم ويقاسي ليكون نعجة من نعاج هذا العالم يسمن ليذبح، أو يهزل ليمرض ويموت؟ أيعتقد في حياة أخرى ليست هذه الدنيا إلا مزرعة لها؟ وما يكون إذن معنى الحياة؟ أهي تجربة سخيفة؟ وماذا يمنعنا من اختصار هذه التجربة؟ ولماذا لا نسرع فنأتي على حياة بائسة لندرك أخرى أسعد منها أو أقل منها سخفا.

وأخيراً ما هي السعادة؟ وما الطريق إليها؟ أهي ثروة وضياع وجاه؟ ولكن تولستوي جربها فلم تبدد شكوكه ولم تشبع مطامعه بل أصابه منها ملل قاتل لا يدري كنهه، وسأم مروع زهده فيها.

أهي درس وقراءة واطلاع؟ ولكن تولستوي قرأ وقرأ أحسن ما أنتجه بشر، فلم ترضه هذه القراءة، ولم تضع حدا لشكوكه، وأخيراً ما فائدة الاطلاع والمعرفة والعلم؟

وقف تولستوي من الحياة هذا الموقف، وأخذ يفكر ويجهد نفسه في التفكير لعله يوفق إلى تعريف الحياة. وأخذ يقرأ لعله يصل إلى حل يطمئن إليه أو فلسفة يرضى عنها. ولكنه حاول عبثا وبدا له أخيراً أن الفكر وإعنات الروية لن يجديا شيئا. وتملكه يأس وأخلص فيه. ولكن ما لبث أن أشرق عليه نور جديد: نور الإيمان في الله، ونور الاعتقاد في الحياة وفي عظمتها. نور وهاج قوي يقف أمامه العقل خاشعا، ولا يستطيع العلم المادي بكل جبروته أن يجابهه أو يسخر منه!

أنريد فهما للحياة ولسر وجودنا فيها؟ أنريد فوزا بالسعادة؟ حسن! فلنعمل ما تطلبه منا

ص: 49

الحياة. ولتنفذ مشيئة الله. وما غاية الحياة؟ هي أن نعمل ونجيد ما نعمله. وليكن عملنا في سبيل الغير، ولنضح بأنفسنا في سبيلهم، ولنحبهم كما نحب أنفسنا بل أكثر مما نحبها. ولنتعاون معهم، ولننم جميع قوانا من عقلية وجسمية، ولنحسن استخدامها في خدمة الآخرين: التعاون، الحب، العمل، ثالوث مقدس هو سر الحياة وسر السعادة. ليمتد حبنا إلى جميع أفراد الإنسانية. ولنعمل لإخواننا في البشرية، ولننس أنفسنا فنكون بذلك قد أدينا مهمة الحياة التي خلقنا من أجلها وفي هذا طمأنينة لنا وهدوء.

لقد أسأنا فهم الحياة. وحسبناها مسرحا لقتال دام يفترس فيه القوي الضعيف، ويلتهم فيه الكبير الصغير. ثم اتهمناها بالقسوة وما هي بقاسية بل هي أعز شيء في الوجود.

وبحسبنا السعادة في هذا النضال السمج، وبحسبنا الراحة في هذا القتال العنيف.

بالغنا في الأنانية، أردنا الحياة لنا وحدنا، أردنا مالا وجاها وحبا وبنين لأنفسنا ولأنفسنا وحدها.

والحياة لا تريد منا هذا، فالفرد ذرة لا معنى له في الوجود دون غيره. ذرة من أصغر ذرات العالم، فإذا ما اجتمعت هذه الذرات واتحدت وتعاونت استطاعت أن تصل إلى أقصى سعادتها وهي مستطيعة أن تنال جميع أمانيها، فإذا ما اختلفت وتناحرت وتفرقت أصبحت لا شيء. وهي واقعة في شقاء لا خلاص منه.

لقد ظننا بالحياة شراً، وقد حاولنا أن نجعل من قانون سخيف ندعوه تنازع الحياة وبقاء الأصلح قانونا للحياة. فالأفراد في تنافس، والأمم في تناحر، ومن هذا النزاع الدائم يتولد البؤس واليتم والفقر والآلام، وتتولد الإنسانية عاجزة خادعة ماكرة ضعيفة.

لننس هذه الأحقاد مرة واحدة، ولنتعاون، ولينس الفرد أنه خلق لنفسه، وليجعل غايته خدمة غيره. خدمة أولاده، خدمة أفراد الإنسانية جمعاء، إذن يخف كل شقاء. وتعم السعادة الجميع. سنقول هذا خيال شاعر وأمل فيلسوف.

ولكن تولستوي لا يقول لك ضح بنفسك لأن في التضحية نبلا أو جمالا. وهو لا يقول لك كن خيّرا لأن الجنة للخير والنار للشرير. وهو لا يزعم أن في خدمة الآخرين قياما بواجب لا تستطيع أن تفهم من فرضه عليك. هو يقول لك أحب جارك واعمل لغيرك، لأن هذا هو قانون الحياة، ولأنك لا تملك عنه محيداً، وهو يقول ضح بنفسك لأنك ستضحي بها مرغما

ص: 50

إذا أبيت. هو يقول لك سامح عدوك وأدر له خدك الأيسر إذا أصاب منك خدك الأيمن لأن في الخلاف شقاء لك وله.

وليس في هذا جري وراء خيال أو مثل أعلى يضاف إلى غيره من الأمثلة العليا. ولكن جرب بنفسك. اقتنع بأنك خلقت لغيرك وسترى أي سعادة ستجلبها عليك هذه التجربة، لن يخيفك الموت بعد هذا لأنك سترى فيه إفساحاً للطريق أمام غيرك. لن تعبأ بالآلام تصيبك لأنك سترى فيها تخفيفا لآلام اخوتك من البشر.

أما إذا أبيت هذا، وضننت بنفسك أن تكون ضحية في سبيل الآخرين، فكن أنانيا جشعا وابلغ المجد على أكتاف الناس، واجمع حولك من متاع الدنيا ما تسرقه وما لا تسرقه، ولكنك لن تكون سعيدا. وستظل شقيا بائساً، ولن تشعر براحة ما دام لديك ذرة من ضمير. وستمعن الحياة في السخرية منك، تجعلك آلة لها تنفذ مشيئتها، وستكون ضحية على رغم أنفك، وستعيش خائفا وجلا من الموت أو من خصم قوي، وسيؤنبك ضميرك، ولا يلبث أن يضيع ما أنفقت حياتك من أجله، سيلتهم مالك وجاهك من هو أقوى منك، أو لا تلبث أن تموت، فيتمتع به غيرك، وبذا تكون الحياة قد انتقمت منك شر انتقام.

وليس معنى خدمتك للغير أو تضحيتك بالنفس أن تنسى ذاتك أو تعتبرها كمالاً مهملًا في الوجود. إذ هي شرط من شروط الحياة وشرط هام لا تستطيع الإنسانية أن تتحقق بدونه، ولكنها ليست غاية الحياة، وليس من أجلك وحدك قد كانت الحياة.

وليس معنى هذا أن تكبت غرائزك أو تحمل نفسك ما لا تطيق. بل وجِّه نشاطك إلى ما خلق له. .

في مثل هذه اللغة البسيطة الساذجة القوية يحدثك تولستوي. ولا يضير فلسفة تولستوي أن تبدو شعرية عاطفية إذ هي لا تكاد تخرج عما قالته الأديان. فالمسيحية ومن قبلها اليهودية ومن بعدها الإسلام تبشر بما قاله تولستوي. وكلها حضت على التعاون وقالت أن المؤمنين اخوة وأحب لغيرك ما تحب لنفسك. وكلها رفعت من شأن العمل للآخرين وكلها حضت على الإيثار وكلها أمرت بالتقرب إلى الله وحده وجعلت منه رمزا للوحدة.

لم يأت بجديد. ولكنه أحب أن يثبت أن ما قالته الأديان صحيحا، وأنه عملي، وأنه الطريق الأوحد إلى السعادة الفردية والإنسانية، وأحب فوق هذا أن يبين أن ما قالته الأديان ليس

ص: 51

مثلا أعلى يصعب تحقيقه، بل هو الغاية التي لا محيد عنها، والشيء الذي نعمله كارهين أو راضين.

لقد رأى أن الحياة لا معنى لها في الأفراد مشتتين. بل لا يمكن تصورها إلا في الأفراد مجتمعين متعاونين. وقد رأى أن للحياة غرضا بسيطا هو أن يلتئم الأفراد ويتحدوا، هو أن تجتمع الذرات الإنسانية لتصبح ذرة واحدة كبيرة ترجع إلى خالقها. وفي هذا الاتحاد كل سعادتها.

ولم ير الحياة الدنيا إعداداً لحياة أخرى كما ترى معظم الأديان بل وجد فيها سلسلة لا تنقطع. فليس في موت الأفراد انتهاء للحياة. بل موتهم معناه بقاؤهم في نسلهم، ومعناه حلقة جديدة قد تكون أحسن استعدادا وأكثر تضامنا.

وهو متفائل راض مطمئن على مصير الإنسانية، فهي تسير إلى الوحدة منفذة في ذلك مشيئة خالقها.

وهو يرى أن كل ما فينا أعد لتنفيذ غاية الحياة. ففينا حب الحياة لنستطيع أن نحيا، وفينا حب النشاط والحركة وكره السكون حتى نعمل، وفينا الجانب الحيواني بكل غرائزه لنستطيع أن نعمل، وفينا العقل لنفهم كيف نعمل والى أي غاية نسير، وفينا الضمير ليؤنبنا وليحاربنا إذا ما حاولنا الحياد عن الغاية المرسومة لنا. وفينا غريزة النسل لتخرج ذرية أقوى تستطيع أن تتمم ما تريده الحياة إذا ما ضعفنا أو متنا.

يعد تولستوي الشقاء الذي نشعر به نتيجة طبيعية لمخالفتنا ضمائرنا التي تفهم وحدها الغرض الوحيد من الحياة. وتنبهنا كلما حدنا عن الطريق المستقيم، وهذا الشقاء داع إلى تفكيرنا في أنفسنا. والى شعورنا بالحياة وغرضها.

ويعلل تولستوي الحيرة والقلق اللذين يستوليان على المرء بأنهما نتيجة لإهماله واجبه المقدس في الحياة، وإغفاله العمل، أو لمقته الآخرين وترك معونتهم. وهذه الحيرة نفسها خطوة أولية نحو الشعور بالحياة والتأمل فيها والوصول إلى فهمها.

وهو يرى في العقيدة والإيمان ملجأ حصينا من الشك والتورط فيه. إذ العقيدة النيرة الحية البعيدة عن التعصب، هي التي تدفعك إلى العمل وحب الغير وتجعلك طفلا فرحا سعيدا وهي التي تجعلك هادئا قرير العين بالحياة.

ص: 52

قد تقول أن هذا شيء تعرفه. وأنه لم يأتك بجديد. ولكن تولستوي لم يحاول أن يبهرك بآراء غريبة تضعها بين آلاف الآراء، ولم يحاول أن يتحفك بطريف الأفكار. بل أراد أن يرشدك إلى منهاج السعادة في الحياة وهو منهاج عملي جربه بنفسه فنجح فيه نجاحاً باهراً.

أحب جارك. أحب لكل إنسان ما تحبه لنفسك؛ اعمل لغيرك، ففي كل هذا سعادتك.

لا تقل أن غيرك لا يعمل لهذا، فليس معنى تقصيره أن تقصر أنت، ولا تسأل لماذا تكون أنت الوحيد الذي يختط لنفسه هذا الطريق.

بل اعتقد أن الناس لا بد صائرون إليه، وأن لا مرية في أنهم منتهون إلى اتباعه. فلماذا لا توفر على نفسك شقاء؟ ولماذا تضن على نفسك بالطمأنينة والسعادة؟

ذلك جانب من فلسفة تولستوي. وهناك جانب آخر عالج الرجل فيه المجتمع ومساوئه، وموعدنا به عدد قادم.

شهدي عطية الشافعي. خريج قسم الاجتماع والفلسفة من

الجامعة المصرية

ص: 53

‌من الأدب الفرنسي

الطبيعة والإنسان

لفيكتور هوجو

شمسُ هذا النهار قد غربت في

أُفْقها خلفَ مكفهرّ السحاب

وغداً تعصفُ الرياح، ويأتي

بعدَ ذاك الظلامُ داجي الإهاب

وَيَلِي الفجرُ بعد ذاك مضيئاً

مُرسِلاً نورَه خلالَ الضباب

فنهار، فليلة - خطواتُ الد

هرِ والدهرُ ممعن في الذهاب

سوف تمضي هذي الدهورُ جميعاً

سوف تمضي معاً لغير مآب

سائراتٍ على جِباهِ الرَّوابي

ووجوهِ البحارِ ذات العُباب

ومياهِ الأنهارِ وهْيَ جَوَارٍ

لامعات مِثل اللجين المذاب

وعلى الغاب وهو يَدْوي بأروا

حِ الأُلى قد قَضَوْا من الأحباب

وستَبقَى وجوه تلك الأواذي

وستبقى جباهُ تلك الهضاب

البوادي الغضونِ لا عنْ مشيب

أو فتورٍ في عنفوان الشباب

وستبقى بواسق الغاب ذات ال

خُضرة المستمرَّة الجلباب

سوف تبقى على الزمان جميعاً

في شباب مجَدّدٍ وتصابى

وستَبقى الأنهارُ تحمل من تل

ك الرُّبَى ما تلقيِ به في العُباب

ذاك، أمَّا أنا فها أنا يَحْني

كلُّّ يوم رأسي ويُوهِن قابي

وقشْعَرِيرةُ البرودة تحت الشم

س أمست تَدِبُّّ في أعصابي

وسأقضي نحبي وَشيكا سريعاً

وسْطَ عيدِ الطبيعةِ المِطْرابِ

وسأمضي، فلا يَضير مُضِيِّ

ذلك الكونَ أو يُحِسُّ غيابي

فخري أبو السعود

ص: 54

‌من الأدب الإنجليزي

كنار يموت

للدكتور و. ج. لونج

في الصيف الماضي ضربت خيمتي خلف عين ماء وسط الغاية، وكنت كثيرا ما أستلقي بجوارها لا لأشرب، بل لأكون بقربها برهة ألاحظ في هدوء حبيبات سيالها البارد تنسل من ثنايا أرضها السوداء، محوطة بفقاقع راقصة، ثم تضرب في زحمتها الدائمة نباتي السرخس والطحلب المحيطين بشواطئ العين، ومن حين إلى آخر كانت الحيوانات البرية تسمع نداء دعوتها الخافت لمن أحرقه العطش، فتأتي مسرعة مهطعة. ولكنها حينما تراني تتراجع إلى مرقبها من نبات السرخس. حيث تختبئ هناك متسمعة، ولكن الغدير الصغير يستمر في ندائه الخافت، فسرعان ما تخرج من مخبئها معتبرة إياي صديقا لها لطول جلوسي بقرب غديرها.

وفي ذات يوم ذهبت إلى الغدير، فرأيت على غصن شجرة دائمة الخضرة كنارا صغيرا طالما لاحظته من قبل مستريحا بجوار الغدير، أو متنقلا في دعة هادئة فوق الأعشاب السندسية، وخيل إلي أنه ما كان يأتي إلى هنا إلا لشغفه بحب الغدير مثلي، فنادرا ما رأيته يستقي منه، ولكنه كان دائما هناك، لقد كان كهلا وحيدا. وقد أخذ اللون الأغبر يغير على تاجه اللامع السواد، وأخرج له العمر الطويل قشورا كثيرة حول ساقيه، ولم يكن لتبين عليه الرهبة أو تتملكه رعشة الخوف. فكأنما بعث فيه كر الليالي وداعة الحياة، فكان يتحرك مبتعدا في أناة إذا ما اقتربت من مكانه، ولكنه لا يذهب بعيدا، وبلغت به الوداعة أنه كثيرا ما قاربني يظنني لاهيا عنه بتحديقي الدائم في الغدير.

واليوم قد جلس على هذا الغصن المعلق فوق مياه الغدير، في هدوء أكثر من هدوئه الأول، وكان وديعا مستسلما، حتى لم يبد نفوراً حينما مددت يدي أتحسسه، بل اتكأ في سكون ودعة على إصبعي وأسبل عينيه في طمأنينة، ومضت نصف ساعة، وهو في حالته هذه مسرور يهتز مهوما من آن إلى آخر، فاتحا عينيه في فترات، محدقا بها في اتساع، كلما وضعت له على إصبعي نقطة من الماء الذي رواه صغيرا، وصاحبه كبيرا. ولما أقبل المساء وصمتت ألسنة الغابة واستولى عليها سكون موحش، وضعته في رقة ولطف على

ص: 55

الشجرة الفينانة؛ حيث راح في سبات عميق قبل أن أوليه ظهري، وفي الصباح كان موقعه أقرب إلى الغدير الحبيب، وعلى غصن دني من غصنه بالأمس، واستكان مرة أخرى في كنف أصابعي، ورشف في امتنان قطرات الماء من فوق أناملي.

وفي المساء وجدته ناشبا بحذر من جذور شجرته المعهودة، وقد تدلى رأسه إلى أسفل، وعلقت مخالبه بلحاء الجذر علوقاً أبديا، وقد لمس منقاره في خفة ذلك الماء النمير، وقد فتح فكيه قليلا للمرة الأخيرة، وراح في سبات دائم آمن، بجوار الغدير الذي عرفه طوال حياته. وظل بجواره إلى أن لفظ الروح في جنباته؛ بجوار الغدير الذي قبلت مياهه منقاره قبلة الوداع، وحفظت صورته في أعماقها إلى اللحظة الأخيرة.

لقد ذهب هذا الكنار كما يذهب أغلب سكان الغابة في هدوء وفي أمن، بجوار الغدير الذي عاش على حبه، ومات بقربه. وليست قصته إلا مشهدا من فصل الموت في رواية الغابة يتجدد دائما باستمرار: فحين يحس الحيوان بغريزته تدفعه إلى البعد عن رفاقه، يمعن في البعد حتى يصل إلى غدير أحبه، ويرقد هنالك مختفيا في انتظار الراحة القادمة، وحينما يأتيه الموت لا يظنه إلا غفوة تأخذ تعبه معها، ثم يعود بعدها حرا طليقا، وهناك في رقدته الأبدية تخفيه أوراق الأشجار، التي ألفها وألفته؛ عن أعين أصدقائه وأعدائه على السواء. . .

محمد أبو الفتح البشبيشي

ص: 56

‌العُلوم

القهوة

للدكتور أحمد زكي. أستاذ الكيمياء بكلية العلوم

جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني شيخ من أشياخ اليمن عاش في منتصف القرن التاسع الهجري (منتصف القرن الخامس عشر الميلادي) وكان متواليا رياسة الإفتاء بعدن، تعرض عليه الفتاوي فيقر منها ما يراه صوابا ويصحح ما احتاج منها إلى تصحيح. عرض له أمر اقتضى خروجه من عدن إلى بر الأعاجم، وأغلب الظن أنه الحبشة، وعاش في أهله دهراً يشرب معهم شراباً لم تعرفه الأعارب، فلما رجع إلى عدن مرض فتذكر الشراب فأحضر شيئا من ذلك الحب وحمصه وطبخه بالماء كما كان يطبخه الأحباش، فخف عنه المرض وذهب عنه السوء، ووجد فيما وجد من خواصه أنه يذهب بالنعاس والكسل ويكسب البدن خفة ونشاطاً. وكان من أمر الشيخ بعد هذا أنه سلك طريق التصوف فصار هو وغيره من الصوفية يستعينون بهذا الشراب الجديد على السهر وقيام الليل في التعب والأذكار، وأسموه القهوة، ومن ثم انتشر شرب القهوة فشمل الفقهاء والعوام، هؤلاء يستعينون بها على مدارسة العلوم، وأولئك للمثابرة والمجالدة في معالجة الصناعات والفنون. وبلغت القهوة مكة فشربها بعض الأشياخ والقضاة وارتاب فيها أئمة آخرون، أما من شربها فرآها شراباً حلالا طيباً مما أخرجته الأرض بإذن الله، والله يقول (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وأما من أباها فرآها شراباً حراما مسكراً يحصل بشربه ضرر في الأبدان والعقول، وكان لهم في ذلك جدل طويل وحجاج مستفيض انقلب إلى محنة وفتنة، وكثر التعصب لها وعليها من الجانبين، وشاع التقاطع والتدابر بين الفريقين، وبلغ الغضب بنفر من الأتقياء الصالحين البررة الأطهار أن حدثوا عن رسول الله (ص) أنه قال من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من أسافل أوانيها.

ولم يهل القرن العاشر الهجري حتى ظهرت القهوة في مصر وكان أول ظهورها في الجامع الأزهر برواق اليمن، فكان اليمانيون ومن ساكنهم من أهل الحرمين وبعض العامة يجتمعون للأذكار والمدائح على طريقتهم كل ليلة اثنين وجمعة، فتقدم إليهم القهوة في ناجود كبير من الفخار الأحمر، وكان يغترف منها النقيب بسكرَّجة صغيرة، ويسقيهم الأيمن

ص: 57

فالأيمن، وهم على الذكر عاكفون، وكانت تذهب بالكسل والنعاس عنهم، فكانوا لا ينصرفون حتى يصلوا صلاة الصبح مع الجماعة من غير عناء ولا تكلف. وانتشرت في الناس فاجتمعوا على شرابها في بيوت خاصة بها وفي الأسواق.

ومن هذا العهد ظلت القهوة بين مكة والقاهرة تحلل عاما وتحرم عاما، يناهضها حكام وفقهاء، ويشايعها حكام وفقهاء، تباح فتشرب في الحرم الشريف جهراً، وتمنع فيعزر شاربها ويطاف به في الأسواق، ويكبس العَسَس بيوتها ويخرجون من فيها عل حالة شنيعة، بعضهم في الحديد وبعضهم في الحبال، فيسجنون ويجلدون.

ولا شك أن المعارضين للقهوة كان منهم أناس يخلصون لها الكراهة في ذاتها لما كانوا يرون من أثرها السيئ فيمن أدمنها من عامة الناس، فكثير منهم من تغيرت حواسه وساء عقله وتنكرت هيئته.

ولأنها كانت تباع في أماكن على هيئة الحانات يجتمع فيها الناس من رجال ونساء بالدف والرباب، أو بالشطرنج والمنقلة، وغيرها يلعبونها للميسر، فساء الأتقياء هذا المنظر القبيح، ووقع مشهده من قلوبهم موقع سوء.

وكان من الناس من يدس الخمر في القهوة فزادت كراهتها عند العارفين بذلك.

أما الحكام ممن كرهوا القهوة، فكانت أغلب كراهتهم من اجتماع الناس على تلك الصورة؛ وأوجسوا من هذا التجمهر خيفة. ولما كان حفظ النظام من أوجب واجبات السلطان، ولما كانت الفتنة من عمل الشيطان، كان لا بد من قتلها قبل أوانها، ودرء بوادر السوء قبل استفحالها.

ولعل أقوى من ناصر القهوة في هذا الصراع مشايخ الصوفية في كل البقاع الإسلامية: أحبوا الذات الإلهية وفنوا فيها وتغزلوا وشببوا بها؛ وكأن الغزل لا يحلو إلا بالصهباء، والتشبيب لا يكون إلا مع بنت ألحان، فاتخذوا من القهوة خمرهم، ومن فناجينها كؤوسهم، وذكروها وأكثروا ذكرها في أشعارهم، فقال ابن الفارض (سقتني حميا الحب. . .) وقال آخر من الأولياء الصالحين يصفها:

شرابُ أهل الله فيها الشفا

لطالب الحكمة بين العباد

نطبخها قشراً فتأتي لنا

في نكهة المسك ولون المداد

ص: 58

فيها لنا تبر وفي حانها

صحبةُ أبناء الكرام الجياد

كاللبن الخالص في حِله

ما خرجت عنه سوى بالسواد

وقال آخر:

وقهوة لا غم تُبقي إذا

قابلك الساقي بفنجانها

لا يوجد الغم بحاناتها

قد خضع الغم لسلطانها

بمائل نغسل أكدارنا

ونحرق الهم بنيرانها

يقول من أبصر كانونها

أُفٍّ على الخمر وأدنانها

ولم تكد تستقر القهوة في الشرق العربي حتى تسربت إلى أوربا عن طريق القسطنطينية والبندقية في القرن السابع عشر الميلادي. وأنشئ أول مقهى في إنجلترا عام 1652م، ولم تلق القهوة في الغرب ترحاباً خالصاً كله، فقد قامت في وجهها معارضة شديدة على نحو ما عانته في الشرق، ففي ألمانيا كان لا بد لتحميص البن من رخصة يعطيها الحاكم، وفي إنجلترا حاول شارل الثاني أن يحرِّم المقاهي باعتبارها مراكز للقلاقل الثورية والنزعات الحادة السياسية. ولكن القهوة شاعت برغم ذلك ولعبت في الحياة الاجتماعية الأوربية في القرن السابع عشر فالذي يليه دوراً ذا خطر كبير. ومن أوربا انتشرت القهوة في كل بلاد الله، وكانت اليمن مصدر البن الوحيد إلى مختتم القرن السابع عشر، فأصبح بعد ذلك يزرع في بقاع كثيرة من أفريقية الحارة، وفي الهند الغربية، وفي الهند الشرقية، ولا سيما في البرازيل فهي البلد الذي ينتج الآن نحواً من ثلثي محصول العالم، والبن له كالقطن لمصر، وربما كان أشد خطراً.

والبن بذور لثمر شجرة دائمة الاخضرار، قد تطول إلى ستة أمتار والسبعة في منابتها الطبيعية، ولكنها تقصر عن ذلك كثيراً إذا هي زرعت، ولهذا الشجر زهر أبيض ناصع يكتسي به عند ازدهاره، فيكون له رونق وجمال يزيد فيها ما ينفح منه من عطر وطيب، لذتان للعين والأنف لا يطولان، فعمر الزهر بالغ في القصر. إلا أن الشجر يزدهر مرتين وثلاثا وأكثر من ثلاث في العام الواحد. وتطيب الثمرة بعد ازدهارها ببضعة أشهر، فيحدث من ذلك أنك تجد على الشجرة الواحدة ثمرات من ازدهارات متلاحقة، بعضها وليد وبعضها بالغ. والثمرة خضراء وهي فجَّة، فإذا أخذت في النضوج اصفرَّت ثم تستحيل الى لون

ص: 59

أحمر قرمزي شديد. وتجنى الثمرة باليد انتقاء أو تترك حتى تسقط من الشجرة بهزها. وهي بعد ذلك تجفف بفرشها على الأرض في الشمس الحارة، وقد تترك حتى تجف على أغصانها. ثم يزال عن بذور البن القشر فالذي يليه من غشاء شديد اللصوق بالبذور كان لباًّ فجف وانضمر وذلك بالدق الخفيف في الهواوين، أو بضرب البذور بالمطارق. وحتى الفرك باليدين يكفي لتخريجها، وهذه طريقة اليمن وما جاورها من البلاد، ولكن بالبرازيل طرق أحدث من هذه لا تستدعي تجفيف الثمرة بل تدهك بالآلات دهكا فتفصل البذور بذلك عن لب الثمرة الطري.

ثم تحمص البذور على ما هو معروف في اسطوانات دوارة فوق النار فتفقد بذلك مقداراً من وزنها لا يزيد على الخمس، والمفقود ماء وبعض أبخرة تنشأ من تخلل الدهن والسكر الذي بالبذر وشيء من الأصل الفعال بالبن المسمى (بالقهوتين) وحرارة التحميص يجب أن لا تزيد على 200ْ درجة مئوية بكثير وإلا فقد البن الكثير من عطره. وإذا انتهى تحميصه وجب الإسراع في تبريده. ثم يطحن بعد ذلك. ويجب أن لا يطحن البن بل ألا يحمص قبل طبخه بزمن طويل فإنه يفقد عطره سريعاً، ويجب كذلك حفظه في أواني مغلقة فإنه شديد الامتصاص للأبخرة والروائح كريهة كانت أو عطرة فيمتص رائحة الجاز والجبن الفاسد. وأهم أغراض التحميص اثنان: أولهما توليد الطيب فيه وتوليد النكهة التي تُشهَّي القهوة إلى النفوس، فالبن الأخضر خال منهما، وثاني الأغراض تهشيش الحب ليسهل دقه، فالأخضر جامد مستعص، والتحميص صناعة لا يَحذِقها إلا القليلون.

ويحتوي البن على مواد كيمياوية عدة منها عطر ودهن، وهو كالشاي يحتوي التنين والقهوتِينَ الذي إن شئت أسميته الكافيين وأن شئت فالشابين، وهو الأصل الفعال في القهوة والشاي كليهما، ومن أجله يُشربان، وهو لا يتغير في القناة الهضمية وإنما يمتص كما هو في الدورة الدموية فيذهب إلى المخ فيكون له الأثر المحمود على نحو ما فصل في مقالة الشاي السالفة: من زيادة في قوة الفكر وإصابة الحكم وامتلاك النفس، ولكن استحالة الأفكار إلى أفعال قد تتعطل به، فيعتري الإنسان ترددُ، وذلك ليقظة العقل الشديدة، ويزيد حس الإنسان بكل ما سر وساء، وهو ينعش الجسم ويزيل التعب عضلياً كان أو نفسيا، ويؤخر النوم ويدر البول. هذه بالطبع فوائد كلها قد تنقلب مضار بزيادة المشروب من القهوة،

ص: 60

فالقهوتين عُقَّار سام يصحب التسمم به تلهف إلى الماء وألم في المعدة والأمعاء، وقيء شديد وإسهال ودوار في الرأس وارتعاد في الأطراف. ويتضح أثر القهوتين من حالة رجل أدخل مستشفى (بلفي) بنيويورك به أعراض شديدة من سوء في الهضم بالغ، وفقر دم متناه، وعجز تام في الحركة، وأزمة في القلب بالغة، وضيق في الصدر شديد. كان هذا الرجل يشرب في اليوم 30 فنجانا من الشاي بلا طعام.

سباع البحر كادت تكسب الحرب

مات في الأسابيع الماضية القبطان الإنجليزي (ودوارد) مات في بلدة (رامزجات) بإنجلترا وله من العمر 82 سنة. وهو الرجل الذي خطر له في مدة الحرب أن يجري تجربة عُدّت في أول الأمر عرضا من تلك الأعراض التي تأتي للإنسان وقد أشتد خياله واحتد وتهيأ لدخول البيمارستانت، ولكنها عدت في آخر الأمر تجربة لو ساعدها الحظ لأنهت الحرب وحقنت الدماء ولو بغلبة فريق على فريق.

تلك التجربة هي رياضة سباع البحر على تتبع الغواصات الألمانية، وهذه السباع تشبه عجول البحر غير أنها أكبر منها، وله عُرف بيِّن وآذان كبيرة وحظ من الذكاء وافر.

بدأ هذا الرجل باستئذان السلطات الحكومية، والسلطات في العادة مرتابة حذرة جامدة محافظة، ولكن خطر الحرب يحرك الجامد ويذهب بالحذر، فأذنت له وحشرت إليه ما في البحر من آساد، فبدأ بدراسة الأصوات التي تصوتها الغواصة في الماء، ثم اجتهد فاخترع آلة تئز مثل أزيزها، وفي بحيرة راض هذه الآساد على إتباع هذا النغم أين سار في الماء، فأصبحت تتبعها أحسن اتباع، وفاقت في دلالتها على اتجاه الغواصة كل الآلات الطبيعية المعروفة، ووضعت على رءوس هذه الحيوانات البحرية كمامات من أسلاك الحديد تمنع أسماك البحر أن تقترب منها خشية أن تسترعي انتباهها فتحيد عن غرضها، ونجحت التجربة نجاحاً باهراً. ولكن. . . عرف الألمان ذلك بطريق الوحي أو الإيحاء فأجروا غواصاتهم مثنى وثلاث ورباع فهوشوا على السباع الآذان، وخيبوا التجربة للقبطان.

ص: 61

‌القصَص

يوم عصيب في جبل المقطم

للأستاذ محمد الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات

بوزارة المعارف

- 2 -

(في المقالة الأولى وصف الكاتب كيف ظل هو وصديقه في جبل المقطم حتى اهتديا بعد الغروب إلى واد لهما به معرفة سابقة، وهو وادي دجلة، فاتخذا طريقهما فيه نحو مدخله.)

مضت ساعة على هذه الحال ولم نصل بعد إلى مخرج الوادي، فقال صاحبي ألا من نهاية لهذا الوادي؟ فقلت لم يبق إلا ساعة واحدة، فقال وماذا بعد ذلك؟ قلت إما أن نقصد (طره) ونركب القطار إلى باب اللوق، وأما أن نذهب إلى المنشية عن طريق البساتين ومدافن الإمام الشافعي. فقال أنه يفضل الطريق الأخير، فقلت لا بأس وعلى كل حال فالزمن اللازم لقطع المسافة في الحالتين لا يقل عن ساعتين من مدخل الوادي، فتضجّر صاحبي ونظر إلى ساعته ثم قال. . أننا لن نصل إلى بيوتنا قبل نصف الليل. فلم أجبه بشيء، وبعد سكون طويل عاد وسألني: هل من خوف علينا في هذه الجهات النائية الموحشة من الوحوش أو اللصوص؟ فقلت كن مطمئنا فالله معنا وهو يحمينا. فقال: كيف ذلك وليس معنا ما ندفع به عن أنفسنا غير هذه العصا (مشيرا إلى عصا قصيرة كنت أحملها في يدي) وقبل أن أجيبه عن سؤاله عثرت قدماه بحجر كبير فكاد يسقط، فتألم وتضجر ثم سكت، وغشينا سكون عميق، لا نسمع فيه غير وقع أقدامنا على أرض الوادي الصخرية وصفير الريح في صدوع الصخور وثقوبها.

ولا أطيل القول. فقد كانت الساعة التاسعة عندما وصلنا مدخل الوادي. وما كدنا نتجه نحو بلدة البساتين حتى أمطرتنا السماء مدرارا مرة أخرى، واشتد الظلام حتى لا نرى أمامنا أكثر من نصف المتر، ولكن ذلك لم يمنعنا من الاستمرار في السير والجد فيه، ثم أخذنا نرتقي أول تل في طريقنا وهو يرتفع عن السهل نحو 50 مترا. وحدث هنا أمر كان يقضي علي لولا لطف الله في تلك الليلة الليلاء، فعندما كنا نتسلق التل إلى ظهره صاح بي صاحبي مستنجدا فالتفت فجأة إلى الوراء لأتبين ما حل به، وكنت متشبثا بكلتا يدي بحجر

ص: 62

في جدار التل، فلم أشعر إلا وقد زلقت يداي واختل توازني وأخذ جسمي يتدحرج بعنف إلى الأرض، ولكن قدرت لي السلامة، فصدمني حجر آخر منعني من الهبوط بعد أن أصبت في رأسي وركبتي إصابة بسيطة، ولما استعدت توازني انتصبت واقفا وأنا أكاد لا أصدق بالنجاة، ثم سمعت صاحبي يناديني وقد بلغ ظهر التل، فاتكأت على عصاي وأخذت طريقي إليه وفي رأسي دوار من أثر الصدمة، وعندما أدركته استرحنا قليلا وقد سرى عني بعض الغم، ثم لحظت الريح تهب من الجنوب الغربي فاستغربت ذلك وأدركت السر في وجودنا مكان يبعد عن الغابة المتحجرة الكبرى بنحو 12 كيلو مترا جهة الجنوب الغربي مع أن سيرنا منذ الظهر كان في اتجاه الشمال حسب ظني. فلما تغير اتجاه الريح من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي درنا معها في منحنى واسع من غير انتباه. فلما استرحنا قمنا متجهين نحو البساتين فبعد أن قطعنا في التل مسافة طويلة أخذنا ننحدر نحو القرية، وهنا انقشعت السحب وصفا أديم السماء وظهرت النجوم فألقيت نظرة على ما حولي ولشد ما دهشت حين وجدتنا لا نزال نسير أمام مدخل وادي دجلة قاطعين عرض المدخل من الجنوب إلى الشمال؛ فكظمت دهشتي وحيرتي وعدلت اتجاهي مرة أخرى. وعدنا فارتقينا التل مرة أخرى وبعد قليل تبين لي أيضاً أننا لا نزال نسير أمام وادي دجلة. أمر غريب محير لم أر في تعليله إلا شيئا واحدا وهو أن رأسي فقد الاتجاه! فلما صرت إلى هذه الحال أشرت على صاحبي بالجلوس للراحة، فقال ولماذا؟ فقلت له قد ضللنا الطريق مرة أخرى! فما كاد يسمع هذه الكلمة حتى خارت قواه وسقط على الأرض، وأخذت جسمه رعدة شديدة، وأقسم أنه لا يبرح مكانه، ثم استولى عليه النعاس فنام نوما عميقا، فجلست بجانبه وأخذت أفكر في الأمر وأنا حزين بائس، وقام بعقلي أن أعود إلى الوادي ملتمسا لنا ملجأ نأوي إليه حتى الصباح. بيد أني رأيت قبل تنفيذ هذه الفكرة أن أقوم بمحاولة أخيرة، فخلعت سترتي وألبستها عصاي وغرست العصا بالأرض بجانب صاحبي لتكون علما أستدل به عن مكانه عند عودتي، ثم صعدت أعلى قمة بالقرب منا مستكشفا ما حولنا، فأدرت بصري في الجهات الأربع فلمحت جهة الغرب وراء الأفق ضوءا ساطعا ظننته أول وهلة ضوء مصانع شركة الأسمنت بالمعصرة. فهرولت إلى صاحبي أزف إليه هذه البشرى فأيقظته من نومه قائلا لقد أبصرت ضوءا قويا جهة الغرب سوف يهديني

ص: 63

طريق السلامة. فلم يكترث لقولي. ويظهر أن النوم كان قد أراح عقله وجسمه نوعا، فنهض في نشاط وقال: هيا بنا مغمغما بكلمات لم أتبينها، ثم اعتمد على كتفي بإحدى يديه وأخذنا نسير وقد عولت هذه المرة أن أتبع مسيل الوادي من غير انحراف، فأخذت طريقي مع مجرى السيل خطوة خطوة، وكان جسمي وعقلي متعبين. وعيناي غائرتين ضعيفتين. وعلى الجملة كانت حالتي سيئة، وكنت أشعر بيده على كتفي كأنها حجر ثقيل. فكنت أنقلها من كتف إلى كتف من غير أن أزعجه في سكونه. بعد أن سرنا على هذه الحال ساعة ونصفا انكشفت أمامنا أضواء شديدة ساطعة انشرح لها صدر صاحبي وعاودته بشاشته، فأخذ يمزح ويعيب هيئتي الرثة، فوجهي مغبر شاحب، وطربوشي من الأمطار فقد شكله وأصبح متهدلا كاسيا رأسي حتى أذني، وبدلتي تقلصت وضاقت؛ فارتفع طرف بنطلوني إلى قرب ركبتي واسترخى جوربي، فغطى حذائي وامتلأ الحذاء بالماء والوحل، وعلى الجملة فإن شكلي كان مضحكا وهيئتي تدعو إلى الشفقة والرثاء.

بعد أن فرج صاحبي بعض كربه بأمثال هذه المهاترة سألني فيم أفكر؟ فقلت أني أستغرب وجود هذه الأضواء الشديدة في هذه البقعة؛ فقال مازحاً: لا تستغرب فربما كان الجن قد نصبوا لهم هنا عرسا، فقلت تعوّذ بالله فحسبنا ما أصابنا هذا اليوم. وبينما نحن في هذا الحوار سمعنا صوتا غريبا يرن في الفضاء، فوجمنا لهذه المفاجأة الجديدة ثم أنصتنا بشدة خلت معها أني أسمع دبيب الحشرات في بطن الأرض، وأخذنا نحدق يمينا وشمالا عسى أن نهتدي لمصدر الصوت فلم نر شيئا. وبينما نحن في اضطراب وحيرة رن الصوت في الفضاء ثانية، وكان في هذه المرة جليا: سمعنا (هولت!)(هولت!) فقلت لصاحبي بلهفة: قف! فقال ما الخطب؟ قلت يظهر أننا في وسط معسكر للجنود الإنجليزية، فقال يا سوء المصير! فقلت له اطمئن ولا تخف، وبعد قليل تقدم إلينا ثلاثة من الجنود الإنجليزية مدججين بالسلاح وسألونا هل معكم سلاح؟ فأجبنا مأخوذين ليس معنا سوى هذه العصا. فقالوا تقدما، فتقدمنا ثم قادونا إلى خيمة قريبة مضروبة بالقرب من المعسكر فوجدنا بها ضابطا شابا على كرسي وأمامه منضدة وهو مشغول بالقراءة في كتاب أمامه. فلما لمحنا نظر إلينا شزراً وسألنا وهو يتثاءب: هل أنتما هاربان من المعسكر؟ فأجبت: لسنا جنودا، فقال بخشونة: أقصد أنكما أسيران هاربان من المعسكر، فقلت: عفوا لسنا من الأسرى،

ص: 64

فقال وهو يحملق فينا: من أنتما إذن؟ فقلت: أنا فلان ووظيفتي كذا وزميلي فلان ووظيفته كذا، فكتب ذلك في ورقة أمامه، ثم قال: ما خطبكما؟ فقصصت عليه حكايتنا بإيجاز، فلم يكد يسمع طرفا منها حتى اعتدل في كرسيه وألقى الكتاب جانبا، وأصغى إلينا بانتباه، وما كدت أنتهي حتى مد يده إلينا مصافحا ثم غمرنا بلطفه وكرمه، أمر لنا بكرسيين من القماش فجلسنا، ثم أمر لنا بقدحين من الشاي وبعض البسكويت فشربنا وأكلنا، وبعد أن شكرته على إحسانه وجميل عواطفه قال أن واجبه يقضي عليه بعد أن سمع قصتنا، وتحقق من صدقنا أن يخلي سبيلنا، ولكنه يرى أننا في غاية التعب والضعف، فهو يدعونا لنكون في ضيافته حتى الصباح، فشكرته كثيرا على معروفه واعتذرت إليه ثم رجوت منه أن يأمر لنا بمرشد يقودنا إلى محطة السكة الحديد، فقال ولماذا لا تمكثان هنا هذه الليلة؟ فقلت ألا ترى يا سيدي أننا في الساعة الثانية صباحا ولا بد أن أولادنا الآن في قلق شديد على مصيرنا. وقبيح بنا أن نطيل عذابهم أكثر من ذلك، فاطرق قليلا ثم أمعن النظر فينا وقال: حسنا هيا بنا. فأركبنا سيارة أقلتنا إلى محطة طره، ثم ركبنا القطار إلى باب اللوق، ومنها قصدنا منزلينا شاكرين لله سبحانه فضل العناية والرعاية.

ص: 65

‌المبارزة

للكاتب الروسي اسكندر بوشكين

مرت السنون، ودعتني مصلحة الأسرة للعيش في هذه القرية المظلمة في مقاطعة (يرنا)؛ وكم تمنيت لو أتيحت لي العودة إلى حياة الجندية وما كان لي فيها من متعة الاجتماع ولذة الشباب؛ وكانت حياتي هنا مملة في تشابه أيامها قاتمة لندرة حوادثها، أقضي وقتي حتى الغداء في التحدث إلى المالك أو في مراقبة العمال ومشاهدة المباني الجديدة، فإذا جن المساء (وخصوصا أمسيات الشتاء والربيع الطويلة المزعجة) لم أجد ملهاة ولا تسلية، فقد قرأت الكتب القديمة الموجودة كلها، واستعدت من خادمتي العجوز (كربلوفنا) القصص التي تحفظها أكثر من مرة، ولم أكن أميل إلى أغاني القرويين لما فيها وفي معانيها من الحزن والألم والحسرة، وحظي من هذا كله كثير. أما الشراب فقد كنت أتجرع كل ما تصل اليه يدي على رداءة نوعه وحدة طعمه، وقد تمنيت أن أكون سكيراً كهؤلاء الذين تكتظ بهم هذه القرية الغريبة.

وكان جيراني الأقربون جماعة من السكيرين، حديثهم زفرات متصلة وأنات متقطعة. فكيف لا أوثر الوحدة على الاجتماع بهؤلاء؟ ولم أجد حلاً لهذا السأم سوى التبكير في اليقظة، والتأخير في تناول الغداء. حتى يطول نهاري ويقصر ليلي.

وعلى بعد أربعة فراسخ من منزلنا توجد المقاطعة الجميلة التي تملكها (الكونتس بيروفنا) ويسكن هذه المقاطعة وكيل السيدة، أما هي فلم تزرها غير مرة واحدة في الشهر الأول من زواجها.

وفي يوم من أيام العام الثاني لحياتي في هذه القرية سمعت أن الكونتس وزوجها سيقضيان الصيف في مقاطعتهما، ولقد وصلا حقا مع حاشيتهما في النصف الأول من شهر يونية.

وليس من شك في أن قدوم جار غني يعتبر حادثا هاماً في حياة الريف. وقد تحدث الناس عن هذا الحادث قبل حدوثه بثلاثة أسابيع، ولا يزالون يتحدثون فيه حتى اليوم مع مرور ثلاثة أعوام عليه. أما أنا فلم يثر فيّ غير الشعور بقرب سيدة شابة رائعة الجمال، حتى إذا جاء الأحد الأول على إقامتهما تناولت غدائي وأسرعت إلى قصرهما لأقدم نفسي للسيدة بصفتي جارها القريب وخادمها المطيع.

ص: 66

قادني الحاجب إلى المكتبة فبهرني أثاثها البديع ومساحتها المتسعة، هنا رفوف صفت الكتب والمجلدات فوقها على كل منها اسم مكتوب بالبرنز، وهناك تماثيل ومرآة، وعلى الأرض بساط أخضر عليه سجاجيد عجمية رائعة النقوش، ولما لم أكن متعوداً هذه المناظر المترفة شعرت بضآلة مركزي وضعة شأني، وداخلني شعور غريب فيه من الحيرة والخجل ما فيه، وأصبحت كالفلاح الساذج الذي يطلب مقابلة الوزير!

فتح الباب ودخل رجل في الثانية والثلاثين أو يقاربها، فما رآني حتى هش لي وابتسم في وجهي. . . أخذت أسرد عبارات التحية المعروفة كأن أقول أنني مسرور بلقائه وأن. . . وأن. . . ولكنه وقفني عند حدي بحديثه الطريف ورحب بي.

وما أن استعدت هدوء نفسي أمام ابتسامته وتواضعه حتى فتح الباب ودخلت الكونتس، هنا اصطكت ركبتاي وانعقد لساني. . . لقد كانت آية من آيات الجمال والرشاقة، وكم حاولت أن أجيبها فلم أستطع ولاحظ الكونت اضطرابي فراح يقدمني إلى زوجته في أسلوب عادي كأنني صديق قديم.

وجلت بنظري في المكتبة حتى استقرت عيناي على الصور ولم أكن من غواة الصور أو نقادها، ولكن صورة واحدة استوقفتني لا لما تمثله من المناظر السويسرية الساحرة ولكن لأن طلقتين اخترقتاها واحدة فوق أخرى!

إلتفت إلى الكونت وقلت (ما أجمل هذه الصورة!) فرد مبتسما (نعم! وهي على جمالها لها عندي مركز خاص. هل تحسن إطلاق الرصاص؟)

فأجبت على سؤاله مسرعاً لأنني وجدت فرصة سانحة للتحدث في موضوع أفهمه (أجل!. وأنا أستطيع إصابة بطاقة على بعد ثلاثين خطوة) وهنا تدخلت الكونتس (حقا!. . وأنت يا عزيزي هل تستطيع إصابة بطاقة على بعد ثلاثين خطوة؟)

فأجاب الرجل: (لا أدري! لقد كنت ماهراً في الرماية أيام شبابي. . وقد مضى علي أربع سنوات لم ألمس فيها بندقية)

قلت (صدقني يا سيدي أنك لا تستطيع إصابة البطاقة على بعد عشرين خطوة وأنا أراهنك على ذلك، لأن الرماية تحتاج إلى مران مستمر. . وأذكر أنني لم أستعمل بندقيتي شهرا كاملا أيام كنت في الجيش لأنها كانت عند مصلح الأسلحة. . أتدري ماذا حدث؟ لقد

ص: 67

أخطأت زجاجة على بعد خمس وعشرين خطوة لا مرة واحدة ولكن أربع مرات متتابعة! وكان لفرقتنا قائد يحب المزاح دائما فقال: أظنك تحترم الزجاجة أيها الصديق! فالتمرين واجب. . وأذكر أن أمهر من قابلت في هذا الضرب من ضروب الرياضة رجل غريب كان يتدرب على إطلاق الرصاص ثلاث مرات قبل الغداء على الأقل. . وكما أنه لا يستطيع نسيان الكونياك لا ينسى بندقيته مطلقا!).

ورأيت الزوجين يعجبان من حديثي ويقبلان على الإنصات.

سألني الكونت (وما طريقته؟). فأجبت (سأقص ذلك عليكما. . كان إذا رأى ذبابة على الحائط. . أنت تضحكين يا سيدتي؟ أقسم لك أن ما أقوله حق لا ريب فيه. . ثم ينادي خادمه. كوسكا هات بندقيتي! فيأتي له بها ثم. . طراخ! فإذا بالذبابة منبطحة على الحائط!)

فصاح الكونت: (يا لها من مهارة! وما اسمه؟) فأجبت (اسمه سيلفيو يا سيدي) فانتفض الرجل واقفا وهو يقول (سيلفيو؟ وهل عرفت سيلفيو؟)

قلت (أعرفه؟ لقد كنا صديقين. . وكان سيلفيو معي في الفرقة؛ وها قد مضت خمسة أعوام على ذلك. . هل تعرفه أنت؟)

فقال الكونت (أجل أعرفه تماما. أو لم يخبرك عن حادث فريد وقع له؟)

- (أخبرني كيف لطمه شاب وقح على وجهه في مساء أحد الأيام)

- (وهل ذكر لك اسم هذا الشاب الوقح؟)

(لا لم يطلعني على اسمه. . آه!) وهنا استدركت لأنه يغلب على ظني أن الشاب هو الكونت وقلت (عفوا سيدي. . لم أكن أعلم!. ولكن يغلب على ظني أنه أنت!) أجاب الكونت في ارتباك: (أجل هو أنا. . وهذه الصورة ذات الثقب نتيجة لقائنا الأخير!)

هنا اعترضت الكونتس قائلة (نشدتك الله يا عزيزي ألا تتحدث في هذا الموضوع، إن مجرد التفكير فيه يرعبني حتى اليوم!) ولكن الكونت لم يحقق رجاءها بل قال (يجب أن يعرف السيد كل ما يتصل بالموضوع، فهو يعلم كيف أهنت صديقه فمن الواجب أن نروي له كيف انتقم ذلك الصديق.)

ودعاني الرجل إلى الجلوس قريبا منه في مقعد ذي مسند وأخذت أنصت لهذه القصة.

تزوجنا منذ خمسة أعوام وقضينا شهر العسل في هذا المنزل؛ وفي الحق لقد كانت أهنأ أيام

ص: 68

حياتي لو لم تعكرها هذه الحادثة المزعجة.

وفي مساء أحد الأيام ركبت مع زوجتي للنزهة ولكن الجواد جمح بنا حتى ارتاعت زوجتي ورجتني أن أعود بالعربة إلى الإسطبل أما هي فستعود سيرا على الأقدام، ولم أكد أصل إلى الدار حتى رأيت عربة سفر أمام الباب. وقيل لي أن إنسانا لم يذكر اسمه ينتظرني لمهمة خاصة في المكتبة. . أسرعت إلى هناك فوجدت رجلا لا يزال في ثياب السفر له لحية طويلة، وأخذت أتذكر أين رأيته قبل ذلك. .

وقال الرجل: أولا تذكرني أيها الكونت؟، وكان صوته مضطربا. . فصحت عند ذلك: سيلفيو!

وأقول الحق لقد وقف شعري من الرعب. وقال صاحبنا جئت لأطلق رصاصتي. فهل أنت مستعد؟، ورأيت بندقيته بين طيات ثيابه وعددت اثنتي عشرة خطوة ورجوته أن يسرع في مهمته لأن زوجتي في الطريق إلى المنزل؛ ولكنه قال أريد النور أولا، لذلك طلبت الشموع.

ثم أغلقت الباب وأمرت ألا يسمح لأحد بالدخول، ورجوته مرة أخرى أن ينجز مهمته فرفع بندقيته وأخذت أعد الثواني ولم أكن أفكر في غير زوجتي حتى إذا انقضت دقيقة كاملة خفض بندقيته وقال (أنا آسف جداً لأن بندقيتي ليست محشوة ببذور الكريز! والرصاص كما تعلم صعب الاحتمال! ولكن تعال نفكر في المسألة مرة أخرى. . لا أرى مبارزة فيما أنا مقدم عليه. . بل هي أقرب ما تكون إلى القتل، وليس من عادتي إطلاق الرصاص على شخص أعزل من السلاح، هيا نبدأ المبارزة من جديد فنرى أينا يبدأ. . . وأعددنا ورقتين كتبتا في الأولى رقم 1 وفي الثانية 2 ووضعناهما في القبعة التي أصبتها في المبارزة الأولى. . . وتناول كل منا ورقة دون أن ينظر فيها فإذا بورقتي رقم واحد وهنا صاح سيلفيو ((لا أنكر أيها الكونت أن حظك حسن كحظ الشيطان!))

لم أفهم غرضه وأجبرني على أن أطلق رصاصتي التي لم تصبه بل أصابت الصورة التي تراها!

وأشار الرجل إلى الصورة التي استرعت انتباهي أول جلوسي وصار وجه الكونت أحمر قرمزيا وأصبح وجه زوجته كوجوه التماثيل الرخامية البيضاء. أما أنا فقد تعثرت بين

ص: 69

شفتي أنة خافتة وأتم مضيفي قصته:

أشكر الله لقد أخطأته رصاصتي: أما هو فقد كان رابط الجأش ثابتاً ينتظر. . فتح الباب فجأة ودخلت زوجتي فلم تكد ترانا على هذه الصورة حتى ألقت بنفسها عند أقدامي، وهنا استعدت شجاعتي وقلت لها، عزيزتي، ألست ترين أننا نمزح؟ اذهبي واشربي قدحا من الماء ثم عودي الينا، وعند عودتك سأقدم إليك صديقي وزميلي القديم، ولكنها لم تصدقني وسألت سيلفيو في رهبة وتأثر، هل أصدق زوجي فأعتقد أنكما تمزحان، فأجاب، انه يمزح دائما يا سيدتي، اتفق مرة أن صفعني وهو يمزح، وأصاب قبعتي برصاصته وهو يمزح، ومنذ دقائق أخطأني وهو يمزح أيضا، والآن جاء دوري لأضحك قليلا!، ثم استعد، ولكن زوجتي جثت بين قدميه. . . عندئذ قلت لها، انهضي يا عزيزتي! ألا تخجلين من نفسك؟؛ ثم وجهت حديثي إليه وقلت هل تريد أن يغشى على هذه السيدة؟ فلتطلق رصاصتك! قل نعم أو لا! فأجاب: لن أطلق رصاصتي فقد تم غرضي، ها أنت ذا ترتعد من الخوف وها هو وجهك كوجوه الموتى، وهذا كل ما أطمع فيه. . ولكن أذكر أنني أعطيتك فرصة ثانية وكنت أظن أنك لن تخطئني. . . لن تنساني بعد الساعة. . سأتركك لضميرك يرى رأيه فيك!.

واتجه نحو الباب، ثم التفت إلى الصورة دون أن يستعد وأطلق رصاصته فوق رصاصتي تماما! وهنا أغمي على زوجتي ولم يستطع الخدم الوقوف في وجهه وقد كانت الأبواب تفتح أمامه في سرعة حتى وصل إلى عربته ومضى. . أما أنا فلم أعد إلى نفسي إلا بعد مدة طويلة.

إلى هنا انتهى حديث الكونت، وهكذا سمعت هذه القصة الرائعة ولم أر بعد ذلك سيلفيو ولم أسمع عنه إلا أنه قاد جماعة من الثوار في الفتنة التي أشعلها (اسكندر ابسلانتي) وأنه قتل فيها عندما كان العدو في (سكولياني). . .

عبد الحميد يونس

ص: 70

‌قصة مصرية

حكمت المحكمة!. . .

عم الأسف رجال القرية ونساءها عندما علموا بوفاة ابنة عبد الدايم المسعودي (وهو من الأعراب الذين يسكنون الخيام في أرضهم) فأما الرجال فقد أشفقوا على عبد الدايم لأنه فقدها وفقد أمها في عام واحد، فلم يبق له من بعدهما من يرعى غنمه ويعنى بشئون بيته. وأما النساء فقد ذكرن أن سلمى ماتت فجأة فلم تمرض كغيرها، وأنشأن يترحمن على شبابها وحلو ابتساماتها. . . وتدافع الأهالي وراء نعشها يشيعونها إلى مقرها الأخير. ثم أقبلوا على والدها يعزونه بكلماتهم المحفوظة وهو يرد عليهم بمثلها، فهو (عظم الله أجره) وهم (شكر الله سعيهم) ورجع الجميع إلى بلدتهم ليقيموا ليالي المأتم الثلاث وليسمعوا ما تيسر من القرآن، وعند الغروب خرج أهالي كفر المعداوي كل (بطبليته) إلى المأتم وعليها عشاؤه الممتاز استعدادا لإطعام المعزين من البلاد المجاورة، وجلسوا بعد الصلاة، وقد تنحنح المقريء إيذانا بقراءة القرآن، فأنصتوا وأطفئوا سجائرهم ثم بدأ القارئ بصوت منخفض غير مسموع تدرج به قليلا قليلا حتى أصبح يغطي على همس بعضهم بالتحية لبعض، ويخفي أحاديثهم عن الشئون الزراعية (وقد بدءوها بعد أن بدأ الفقيه بقليل) بنغمات يطرب البعض لها فيمص ويردد لفظ الجلالة اعتبارا واستحسانا. أما عبد الكريم الدايم فقد كانت تبدو على سيماه علامات التفكير العميق والحزن الدفين، ولكنه كان يتجلد للقادم فيسلم عليه ويتقبل تعزيته شاكرا.

وانقضت ليالي المأتم. . . . وتلفت عبد الدايم حوله فلم يجد إلا غنمه ونفسه فقبع في خيمته لا يزور أحدا، وإنما كان يزوره من فاته العزاء في حينه. وانتقد أهل القرية فيما بينهم إبراهيم أفندي لأنهم لم يروه في المأتم، ولكنهم علموا بسفره إلى القاهرة منذ أيام فلما عاد لحظوا أنه لم يقم بواجب التعزية لعبد الدايم، فبرموا بغطرسته واستكباره، ولكن ما حيلتهم وهو ابن العمدة!

مرت الأيام بعد ذلك سراعاً فأوشكت بفعلها أن تصرف أذهان الناس عن مصاب عبد الدايم لولا أنهم رأوا عجبا. رأوه وقد طوع للموسى أن تجذ شاربيه الطويلين وتعبث بلحيته المستعصية حتى أسفرت ذقنه بعد احتجاب طويل، مع أنهم يعرفون في الأعراب تمسكهم

ص: 71

بشواربهم ولحاهم، ولم ينسوا مبالغة عبد الدايم في هذا، فلم يبق إلا أن الحزن قد أساء إلى عقله فحسن له جنونه أن يظهر على هذه الصورة الجديدة.

وذهب الحاج عبد المطلب وهو أحد مشايخ البلد إلى (دوار) العمدة في المساء جريا على عادته فوجده جالسا في عدد من حاشيته يتحدث إليهم في السياسة عن مصطفى كمال وكيف طار وراء الإنجليز، ويعرج على الاقتصاد فيعلل لهم نزول الجنيه الإسترليني بتعليلات ما أنزل الله بها من سلطان. ولما انتهى العمدة من حديثه اتجه بنظره إلى الحاج عبد المطلب وسأله عن جديد، فأنشأ شيخ البلد يسرد له صنوفا من الأخبار ويتبسط في شرح تفاصيلها إلى أن قال وما رأيكم في عبد الدايم المسعودي؟ يظهر أن الرجل قد جن بعد وفاة ابنته، ولم يكن العمدة على علم بما جرى للحية عبد الدايم فهز رأسه من اليمين إلى اليسار هزات سريعة مستفسراً، وتسابق الجميع إلى إجابته فحدثت جلبة وضوضاء نفذ لهما صبر العمدة فوصفهم بوصف البرابرة: واحد يسمع ومائة يتكلمون، وأشاح عنهم بوجهه إلى الحاج عبد المطلب يسأله عما جرى فلما أخبره بأن عبد الدايم أصبح حليق الذقن والشارب تردد في تصديق ذلك ولكنهم أكدوا له صحة الخبر فرفع حاجبيه في عجب ودفعه حب الاستطلاع إلى أن يأمر شيخ الخفراء باستدعائه.

وجاء عبد الدايم بعد قليل فدهش العمدة عند مرآه وسأله عن سبب حلقه للحيته فأجاب ساخرا إنه رأى واحدا من أهل القرية يضحك منها فآثر أن يزيلها. وقابل أحد الجالسين سخريته بمثلها فقال: (وكيف استغنيت عنها مع أنك كنت تمسح فيها يديك بعد أكل الثريد؟) فتجهم وجه الأعرابي وجحظت عيناه وقال (لما اتسخت أزلتها) فقال العمدة (وما ذنب شاربك؟) فأجاب (صغرت في نظر نفسي فحلقته) وخرج مغيظاً محنقاً. . .

وكان بالمجلس شيخ معروف في القرية بالنباهة ودقة الملاحظة فقال للعمدة (إن لم تخني فراستي فلا بد أن أحدا اعتدى عليه اعتداءاً خطيراً أقسم بعده، كما هي عادة بعض الأعراب، ليحلقن ذقنه وشاربه تشبها بالنساء حتى يأخذ بثأره). فأخذت هذه الملاحظة مكانها من نفوس الحاضرين وصار كل منهم يعلق عليها بما يؤيدها، أما العمدة فقد همه الأمر وحسب لتهديد عبد الدايم حسابه، فهو داهية شديد البأس وتداول الأمر مع مشايخ البلد فأفهمه الشيخ عبد المطلب (وكان على جانب من العلم) أن من واجبه العمل على منع

ص: 72

الجرائم قبل وقوعها واطمأن العمدة إلى هذا الرأي فعزم على تبليغ المركز وقام إلى التليفون واتصل بالمعاون.

وعلم المأمور بالأمر فضحك من عقلية عمدة المنشية الذي يجد في حلق رجل لحيته وشاربه خطرا على الأمن العام خصوصا وأنه كان يرى فيه من قبل سذاجة وقلة حيلة، فأمر ملاحظ البوليس أن يستدعيه ليوبخه على تصرفه ويطلب إليه أن يكون في حكمه على الحوادث أبعد نظرا وأكثر رزانة. ورجع العمدة ونفسه تفيض أسفا على تبليغ الأمر للمركز بعد ما راعته ضربات الملاحظ على المكتب، وجرحت عزته شتائمه فكان يسب مشايخ بلده الذين حسنوا له التبليغ ويخص منهم الشيخ عبد المطلب وهو المتحذلق الذي أشار إليه بالعمل على منع الجرائم قبل وقوعها. ولكنه كان يحاسب عقله فلا يجد في عمله مأخذا، ويستشير ضميره فيلقاه راضيا عن قيامه بواجب وظيفته، ثم يرجع بذاكرته إلى الماضي القريب فيذكر أنه لما قتل في قرية بجوارهم سويلم العربي حلق ابنه جويفل لحيته وشاربه حتى أخذ بثأر أبيه فأطلقهما في السجن، وهكذا اختصمت أفكاره فضاع صوابه. . . .

أسدلت يد الأيام ستار النسيان على هذا الحادث حتى جاء يوم فرفع الستار. . . . في صبيحته امتطى إبراهيم أفندي صهوة جواده يقصد السوق فعاد الجواد يعدو إلى مربطه بعد قليل وكان العمدة مطلا من شباك داره فلما رآه انخلع فؤاده لأن ذلك معناه أن سوءاً حل بولده. ونزل يجري في الطريق الموصل إلى السوق منفعلا هائجا فلحق به أهل القرية من كل صوب ولم يذهبوا بعيدا حتى وجدوا إبراهيم أفندي ملقى بجوار مزرعة للقصب يتلوى ألما ورأوا أن رصاصة استقرت في فخذه.

يا لهول الفاجعة!! حتى أبناء العمدة يعتدى عليهم!! ولم تحم الشبهات إلا حول عبد الدايم فانبث الخفراء في أزقة القرية يبحثون عنه بعد أن لم يجدوه في خيمته، واهتزت الأسلاك تنقل الخبر إلى النيابة؛ أما الجريح فقد نقل إلى مستشفى الزقاقيق ليسعف بالعلاج. وبعد برهة وصل وكيل النيابة ثم تبعه ضابط المباحث على رأس قوة من البوليس ففتشوا بيت عبد الدايم فلم يجدوا شيئا يفيد التحقيق، فخطر لضابط المباحث أن يفتش مزرعة القصب لأنه استبعد أن يظل عبد الدايم محتفظا ببندقيته، ورجح أن يكون قد ألقاها فيها فبعثر رجاله في أنحائها وإذا برجل منهم يعثر على بندقية. . وإذا بالبندقية حديثة الطلق. . . . وإذا بكل

ص: 73

من رآها يشهد أنها لعبد الدايم.

اكتفت النيابة بهذا الدليل فقبضت على عبد الدايم ولكن سر الجناية ظل غامضا حتى وصل إليها بلاغ من مجهول يقول فيه (لقد علمت من أحد المصادر أن سلمى عبد الدايم المسعودي لم تمت ميتة طبيعية وإنما قتلها أبوها لأنه علم باتصالها بإبراهيم أفندي بن عمدة كفر المعداوي. وقد كان يمكن كشف هذه الجناية في حينها لو أن طبيب المركز رأى الجثة قبل دفنها، ولكنه صرح بالدفن مكتفيا بقول حلاق القرية إنها ماتت بسكتة قلبية) فانتقل وكيل النيابة فوراً مع الطبيب الشرعي إلى قبر سلمى وأمر بإخراج جثتها وقال الطب كلمته فإذا بها ماتت خنقا. . . . وختمت النيابة أبحاثها وبدأت التحقيق. . . . .

س - إبراهيم أفندي يقول أنه رآك تطلق عليه الرصاص.

ج - أبداً

س - وماذا تقول في البندقية التي عثرنا عليها في القصب وهي لك؟

ج - لم تعد لي بندقية منذ أخذها الإنجليز مني وهم يجمعون السلاح في سنة 17.

س - وابنتك سلمى؟ لدى النيابة شهود يقررون أنها لم تمرض مطلقا وأنهم رأوها أمام خيمتها قبل أن تموت بقليل؟ فهل مرضت وشكت واحتضرت وأسلمت الروح في أقل من ساعة؟

ج - هو كذلك، فإنها ماتت بسكتة قلبية.

س - ولكن الطبيب الشرعي أثبت أنها ماتت خنقا.

ج - إذن تكون قد خنقت نفسها.

س - ولماذا حلقت ذقنك وشاربك بعد موتها؟

ج - خطر لي أن أتزوج فحلقتهما كي أبدو صغير السن.

س - ولكنك قلت في مجلس العمدة كلاما يستفاد منه أن أحدا اعتدى عليك فحلقتهما حتى تأخذ بثأرك.

ج - لم أقل ذلك وإنما كنت أسخر من قوم رأيتهم يسخرون مني.

س - لقد وصل إلى علم النيابة أنه كان بين ابنتك وبين إبراهيم علاقة وأنك من أجل هذا قتلتها وأردت أن تقتله.

ص: 74

فضرب الأعرابي جبهته في عصبية ويأس ورمى وكيل النيابة بنظرة شزراء ثم اندفع يقول إذن فاسمع. إني اعترف بأني قتلت ابنتي وإني أطلقت الرصاص على إبراهيم. خذني إلى السجن فإني أريد أن أتلهى بأشغاله الشاقة عن لؤم الناس وظلم القانون.

واقفل المحضر بعد أن تليت عليه أقواله فأقرها وأمضى. . .

السيد أبو النجا

ص: 75

‌الكتب

ضحى الإسلام أو أحمد أمين

- 2 -

ضحى الإسلام كصاحبه شديد الوضوح، سديد المنهج، غزير البحر، جم التواضع، تقرأه فتتسابق معانيه إلى فهمك، وتتساوق أغراضه إلى ذهنك، فلا تشك في أن مؤلفه قد استبطن دخائل موضوعه، وأحاط بأصول بحثه وفروعه، لأن المعنى إذا اتضح في الذهن واتسق في الشعور أسفر عنه البيان في إشراق وسهولة وقوة، وما يتعقد الأسلوب إلا من غموض الفكرة أو طموس الصورة أو ضعف الملكة.

اسمع صاحب الضحى أو اقرأه تجده في حاليه واضحا صريحا ثقة، لأنه يتكلم عن روية، ويشرح عن فهم، ويكتب عن تفكير، ويؤلف عن دراسة، أما فترة الشك والتردد فنهايتها بداية عمله.

موضوع الكتاب الحياة العقلية للمسلمين في القرن الأول من العصر العباسي، والعقلية الإسلامية يومئذ كانت أشد العقليات تركيباً، وأكثرها تعقدا، وأوفرها نتاجا، لأنها مزيج عجيب من آثار شتى لجنسيات متعددة، وحضارات متنوعة، وثقافات مختلفة، فتحليل هذا المزيج إلى عناصره الأولية كما يفعل الكيميائي، ورد هذه القوة الناتجة إلى قواها البسيطة المحركة كما يفعل الميكانيكي، أمر لم يضطلع به إلى اليوم غير أحمد أمين، لأن الوسائل التي تهيأت له من مواهبه ومكاسبه وبيئته وعصره لم تتح مجموعة لأحد من قبله، فلو أنه اجتمع لمؤرخينا السالفين مع سلامة الفطرة، ونفاذ البصيرة، وسعة الاطلاع، الوقوفُ على علوم الاجتماع، ومذاهب النقد ومناهج البحث، لما تركوا لنا التاريخ على هذه الحال المضنية من النقص والمبالغة والفوضى، ولكن هذا التاريخ الذي قنع بأخبار الحرب والفتح، والولاية والعزل، والولادة والوفاة، واغفل الكلام في تبدل الأحوال والأطوار، وتغير الميول والأفكار؛ وتطور العادات والمعتقدات، في طبقات الأمة، هو نفسه الذي استخلص منه احمد أمين كتابيه فجر الإسلام وضحى الإسلام على هذا النهج الواضح والنسق المطرد! فاعتبر في نفسك أي عقل إستجلى هذا الغموض، وأي فكر استغل هذا النقص، وأي صبر ساعد هذا الجهد!

ص: 76

سار المؤلف في تحرير كتابه على خطة سديدة، وتبويب متناسق. فجعله جزئين متساويين: بسط في الأول العوامل التي أثرت في العقلية الإسلامية وهو الذي ظهر، وفصّل في الثاني الآثار التي نشأت عن هذه العقلية نفسها وهو الذي سيظهر. ثم كسر كلا من الجزئين على بابين: فالأول على الحياة الاجتماعية وعلى الثقافات الدينية والمدنية، والثاني على الحركات العلمية ومعاهد العلم وحرية الفكر، ثم على المذاهب الدينية وتاريخ حياتها وأشهر رجالها وأهم أحداثها.

فموضوع الجزء الذي في يدينا الآن إذن هو العوامل المؤثرة في الحياة العقلية الإسلامية في شباب الدولة العباسية، وهذه العوامل أما مادية نشأت من طبيعة الاجتماع كاختلاف الأجناس، وصراع الطوائف، ونظام الرقيق، ومظاهر الترف من مجون ولهو، ونتائج البؤس من يأس وزهد، إلى غير ذلك مما أسبوعيته فصول الباب الأول الستة وأما أدبية نشأت من تداخل الثقافات الفارسية، والهندية، واليونانية، والعربية، واليهودية، والنصرانية، وما يتبع ذلك من تمازج الآداب والمعتقدات والأنظمة، وقد استقصى المؤلف أطرافها في فصول الباب الثاني الستة.

وهذا الوضع المنطقي المحكم قد ضمن لآراء الكتاب أن تطرد، ولأجزائه أن ترتبط، ولأبحاثه أن تجتمع، فجاء من حيث التأليف مدمج الفصول، مرسوم الوجهة، محدود الغاية، بريئا مما يجره عدم الخطة أو فسادها من استطراد مشت في جهة، وإخلال مرهق في جهة أخرى، وتلك مزية قل أن تجدها في كتاب.

صاحب ضحى الإسلام شديد اليقظة، مستقل الرأي، لا يعرض قولاً دون مناقشة، ولا بحثا دون تقدمة، ولا رأيا دون دليل، ولا تشعر وأنت تقرأه أن هناك رأياً معينا تسلط عليه، أو فكرة سابقة أثرت فيه، فهو يخطِّئ (جولد زهير)، كما يخطّئ ابن خلدون، ويعرض الثقافات الدينية المختلفة بميزان واحد ولسان واحد.

تبدو هذه اليقظة، ويتجلى هذا الاستقلال، منذ الكلمة الأولى في الكتاب؛ إذ يفطن إلى الخطأ الذي جره على بعض المؤرخين الكسل والتقليد في تصويرهم سقوط الأمويين وقيام العباسيين حداً فاصلا بين حياتين مختلفتين للأمة الإسلامية، تبتدئ الثانية عند انتهاء الأولى، ثم يتجليان في سائر الفصول وعلى الأخص في الشعوبية والاسترقاق والزندقة،

ص: 77

فليس وراء ما كتبه فيها مراغ لمستزيد.

وصاحب ضحى الإسلام أديب بارع، وعالم ضليع، يظهر أدبه في الصور التي رسمها كصورة الرشيد، والتراجم التي وضعها كترجمة ابن المقفع، وتلك الصورة وهذه الترجمة نموذجان عاليان لكاتب التاريخ ومؤرخ الأدب. ويتحقق علمه في كثرة المصادر التي رجع إليها، ووفرة النتائج التي حصل عليها، وعرضه للثقافات، ولا سيما الهندية، عرضا ينم عن اطلاع واسع واستقراء دقيق وصبر نادر.

وكل ذلك والتواضع الأصيل في الطبع يأبى للمؤلف أن يصدق ما يقوله العلماء، والمستشرقون من أنه مثال الباحث الجامعي الحق، وكتابه نموذج البحث العلمي الصحيح.

الزيات

ص: 78

‌جولة في ربوع أفريقية لمحمد ثابت

بقلم الدكتور محمد عوض محمد

ليس من السهل أن نجد في هذا القطر كله لمحمد ثابت ضريبا ولا

شبيها في حبه للرحلات البعيدة، وفي التضحية بوقت نفيس وبمال

أنفس، في سبيل إرضاء هذه الرغبة السامية، التي تدفعه في كل صيف

إلى أطراف العالم، لكي يرى بعينيه تلك الأقطار البعيدة التي طالما

سمع عنها وتاقت نفسه لمشاهدتها. . وأي امرئ لا يملك الإعجاب

الشديد حين يرى محمد ثابت ينفق من ماله القليل الذي ادخره بكثير

من حرمان النفس، ينفق عشرين جنيها كاملة من أجل رحلة بالسيارة

من (كمبالا) على بحيرة فكتوريا إلى (فورت بورتال) على سفح

رونزوري (مسافة لا تزيد كثيرا على ما بين القاهرة والإسكندرية)

لكي يمتع الطرف بالتأمل في تلك الجبال الشامخة ساعات قلائل، وقد

اختفت قللها تحت غشاء كثيف من السحاب والضباب. ثم يعود أدراجه

إلى كمبالا لكي يستأنف سياحته الطويلة.

وفي المصريين كثير ممن ينزحون عن قطرنا صيفا. . . ولكن هؤلاء لهم شأن غير شأن صديقنا ثابت، وقصة غير قصته. فهؤلاء قبلتهم إما فيشي أو كارلسباد يتداوون بمائها الشافي بما أنزلوه بأجسامهم من نتائج الإفراط أو التفريط. أو قبلتهم باريس حيث يحيون حياتهم في القاهرة، يجلسون النهار كله وشطرا من الليل في مقاهي مدينة النور (وهم لا يرون من نورها شيئا) يقضون وقتهم قعودا كسالى يتحدثون وهم في ميدان الأوبرا بذلك الصوت المصري الجهوري فيسمعهم جميع من بالبوليفارد، يعلنون عن أنفسهم، وما في أنفسهم شيء يستحق الإعلان، ومنهم من هو شر من هذا. . وأي شر؟ ولكن مالي أكدر نفسي بالكلام عن هؤلاء وأنا أريد أن ينشرح صدري بالكلام عن محمد ثابت؟

ص: 79

منذ ثلاثة أعوام جال محمد ثابت في ربوع أوربا، فلم يزل ينتقل من قطر إلى قطر حتى بلغ جزيرة أيسلندة وكان من الدائرة القطبية قاب قوسين أو أدنى. . . وفي الصيف التالي يمم شطر المشرق وجال في بلاد الهند والصين واليابان؛ وفي الصيف الماضي حملته السفينة باسم الله مجراها ومرساها إلى شرق أفريقية وجنوبها. فاخترق خط الاستواء للمرة الأولى (إذ لا أظنه اجتازه في جولته الآسيوية) ثم عاد إلى مصر بطريق البر والنهر (نهر النيل) مجتازا بلاد كينيا وأوغندة والسودان المصري.

وإني ليحزنني أن إعجابي الذي لا حد له بالرحالة محمد ثابت لا ينصرف إلى الكتاب الذي بين يدي الآن (جولة في ربوع أفريقية) فإن شخصية المؤلف لم تنصف شخصية الرحالة. ولم تقم بالواجب نحوها.

فتحت (جولة في ربوع أفريقية) وأنا أتوقع أن أطالع كتابا يصف لي رحلة المؤلف وحركاته وسكناته بدقة، ويصور لي كل شيء رآه، وما مر به من الحوادث. لكي أشعر أنني معه ألازمه في رحلته أسافر كما يسافر وأرى ما يرى. وهذه هي اللذة الخاصة التي أجدها في مطالعة كتب الرحلات. لكن محمد ثابت لم يفعل هذا بل أخرج لنا كتابا يتضمن بيانات (لا أنكر أن أكثرها نافع مفيد) عن جغرافية شرق أفريقية، وقد ضاع حديث الرحلة بين الفصول الجغرافية كما تضيع قطع الذهب وسط أكوام من التراب فكنت أجده لأقل المناسبات يترك موضوع الرحلة تماما، ويأخذ في كتابة فصل جغرافي في شيء من الإسهاب، ولكنه خارج عن موضوع الرحلة. ففي صفحة 76 بيان طويل عن السكر وزراعته لا في أفريقية وحدها بل وفي غيرها من الأقطار، ويتكلم في صفحة 56 و57 عن بلاد روديسيا والكنغو مع أنه لم يرهما ولم يمر بهما، ويكتب فصلا طويلا عن جبل كلمنجارو مع أنه رآه عن بعد مائة كيلو متر، وفصلا عن تاريخ أوغندة أو عن نقل السفن إلى بحيرات فكتوريا منذ عشرات من السنين. وبيانا عن الكركدن ولم يره، وفصلا طويلا عن الشلوك اقتبسه من دراسته الخاصة لا مما رآه في رحلته.

وهذه التفاصيل الخارجة عن الرحلة قد طغت على حديث الرحلة حتى لم يبق منه إلا القليل. وإني أريد أن أذكر لصديقنا الفاضل أن أمامنا كتبا كثيرة نستخلص منها تاريخ أفريقية وجغرافيتها!. ولكن الذي بنا إليه شغف شديد، والذي يستطيع هو وحده أن يعطينا

ص: 80

إياه، هو كتاب عن رحلة محمد ثابت. ولهذا كان أمتع فصول الكاتب على الإطلاق هو ذلك الجزء الذي يصف لنا فيه كيف منع من دخول جنوب أفريقية، وكيف جنت عليه مصريته في تلك الأقطار النائية. هذا الفصل للقارئ هو بمثابة الجوهرة وسط الأحجار.

ويخيل إلي أن محمد ثابت لم يكن يكتب مذكرات (يومية) أثناء رحلته. ولو فعل لكان لديه محصول وافر يغنيه عن تلك الفصول الجغرافية. وإنك لتقرأ الكتاب فلا تستطيع أن تستبين منه تفاصيل حركات السائح. فقد دخل (نيروبي) ولكنه لا يذكر لنا في أي تاريخ نزل بها. وبات ليلة في (ناكورو) فلا يخبرنا أين بات. ويمر بأوغندة ويقضي بها أياما، ولكنك لا تعرف متى دخلها ومتى خرج منها. ولست أستطيع أن أعزو هذا الإغفال إلا لشيء واحد هو أنه لم يكتب مذكرات يومية أثناء السياحة. ولهذا أرجو منه في سياحته المقبلة ألا ينام ليلة قبل أن يدون مشاهدات يومه. وسيرى القراء الفرق بين الكتاب الجديد والقديم.

بقى أني وجدت هفوات يسيرة أريد أن أنبه المؤلف الفاضل اليها وهي (ص6) أن لفظ عنوان كتاب لا أسم أحد المؤلفين، وشيبا وسبأ كلمة واحدة (ص7) فيقال بالإنجليزية ملكة شيبا وبالعربية ملكة سبأ وهي بعينها السيدة الفاضلة التي دخلت صرح سليمان وحسبته لجة. . . ونهر النيل (ص169) لم يعد أعظم نهر في العالم، لا من حيث الطول ولا من حيث ما يجري فيه من الماء. . ويطليموس الجغرافي (ص169) لم يعش قبل الميلاد بل في القرن الثاني بعد الميلاد، وغابات ايثوري في الناحية الغربية لجبال رونزوري فلا يمكن أن ترى من حصن يورتال. والغورلا يا سيدي ثابت حيوان ليس له ذنب (ص197) فقد اضطر إلى أن يستغني عن هذه الزائدة استعدادا لأن يكون إنساناً مثلي ومثلك ومثل كواكب السينما، وأخيرا لا أوافق المؤلف على أن قطن الجزيرة يزرع في الشتاء ويحصد في الربيع. . بل يزرع في أواخر الصيف (ابتداء من أغسطس) ويحصد في الشتاء ابتداء من يناير. (ص269)

وإني لأرجو من صديقنا السائح الفاضل رحلة سعيدة في الصيف الآتي وأن يتحفنا بعدها بكتاب عن تلك الرحلة وعن نفسه لا عن شيء آخر.

ص: 81