المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 70 - بتاريخ: 05 - 11 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٧٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 70

- بتاريخ: 05 - 11 - 1934

ص: -1

‌يا هادي الطريق جُرت!!

ذلك هتاف الأمة الحيرى، يتجلجل في صدرها المكظوم كلما بهرتها الشدائد، وأجهدتها المفاوز وفدحتها الضحايا، ووقف بها اللغوب، ودارت ببصرها في معامي الفضاء فلا تتبين نسما لطريق ولا تتعرف وجهاً لغاية

يا هادي الطريق جرت!!

ذلك صراخ القافلة المكروبة، تخبط منذ طويل في مجاهل الأرض وخوادع السبل، وإدلاؤها الغواة يلتهمون زادها مع الوحش، ويتقسمون مالها مع المغير ويغتنمون ضلالها مع الحوادث حتى قطعوها عن ركب الإنسانية وتركوها في مطاوي التيه تنفق جهدها على غير طائل وتنشد قصدها من غير أمل

يا هادي الطريق جرت!!

ومن يستطيع اليوم أن يعَّرف هذا الهادي بالنداء، أو يخصصه بالوصف، أو يأخذه بالتبعة؟ لقد تعدد الهداة في هذه القافلة! واختلفت الشياطين بين هؤلاء الهداة فتنازعوا الزعامة وتجاذبوا الأزمة فأخرجنا هذا من مذهب إلى مذهب، وصرفنا ذاك من مطلب إلى مطلب، حتى إذا انكشفت عن عيوننا أغطية الغفلة وجدنا أنفسنا بعد الجهد الجاهد ندور حول الموقف الذي كنا فيه أو نرجع إلى الموضع الذي فصلنا عنه!

على هذه القيادة المتضاربة الأفينة رجعنا القهقري زهاء ثمانين سنة: رجعنا إلى العهد الذي كنا نهدهد الدستور فيه على هوى السلطان المطلق، وندرب القانون على مصارعة العرف الغالب، ونعلم الشعب الأجير معنى الأمة المالكة! وليتنا عدنا إلى ذلك العهد بأخلاقه ورجولته! فقد كنا على قلتنا أعزة، وعلى فاقتنا أعفه وعلى جهالتنا أعلم بالخير وأفهم لمعنى المجتمع. كنا نتواصى على الصبر، ونتعاون على البر، ونتهادى صنائع المعروف ونحفظ وحدة الأسرة بالحب، وسلطان الدولة بالطاعة، وحقوق الله بالورع، فما كان منا من يخون الأمانة، ويسرق الأمة، ويتكئ على النقيصة ويتحمل على الخبث ويتَّجر بالدين، ويتخذ عدو وطنه ولياً، ويعتقد خطة غاصبه شريعة!

ولكننا وا أسفاه بعد هبَّة مصطفى، ونهضة سعد، وجهاد خمسة عشر عاماً، تمكن فيها السلطان واستبحر العمران، وازدهر العلم، وتولد النبوغ، وتوحد الشعب، وتكون الرأي، نصاب بهذه النكسة الشديدة، فنعود ناقضين ما ابرم خاسرين ما غنم!!

ص: 1

اللهم أن النيل لا يزال يفيض وإن الوادي لا يزال ينبت، وإن الشمس التي أنضجت أذهان الفراعين لا تزال تشع وإن الأيدي التي غرست أولى الحضارات على العدوتين لا تزال تعمل، فما بالنا اليوم يتقدم الناس ونتأخر، وتتحرر الشعوب الضعيفة ونحن لا نتحرر؟

دع عنك ما يقال من كلب الاحتلال، وفقد الاستقلال، وتجني الدول، فأن ذلك كله عرض من أعراض العلة الدخيلة الوبيلة وهي انحلال الخلق. في دهرنا الحديث داء جرثومته أننا عنينا بالتعليم قبل التربية، وبتعليم الابن، قبل تعليم البنت فكان لنا من ذلك الوضع المقلوب رجال يجرون في عنان مع علماء الغرب، بل وربما طالوهم في حذق اللغات وتلون المعرفة؛ ولكن كثيراً منهم يخلون من أخلاق الرجولة خلو البيت من الأم الصالحة والمدرسة من المربي القادر، فتخونهم الكفاية عند التطبيق، وتخذلهم الشجاعة عند العمل، ويفارقهم الضمير عند الواجب، فلا يبقى إلا الغرائز الحيوانية التي تثب على أموال الناس، وتعتدي على حقوق الشعب، وتستخدم السلطان العام في مساعدة الصديق ومكايدة العدو ومناوئة الخصم!. .

وليت غريزة الحياة بقيت فينا على حال الفطرة إذن لعلمنا ما تعلم النمل من قوِام العمل، وفهمنا ما تفهم النحل من نظام الجماعة، وسرنا على نور الله لا نعمة في ظلام ولا نسدر في غواية

إن بعض الأمم الإسلامية أقل منا عدداً، وأرق ثروة، وأضيق ثقافة، وأحدث مدنية ما في ذلك شك، ولكن غرائزها الأصيلة لم يزيفها ذل الرق السياسي، وخلائقها النبيلة لم يفسدها زور المدنية الوافدة، فتمردت على الضيم، وتعنّتت على الأحداث وقلَّمت الأظفار الناشبة في استقلالها، وقطعت الأيدي الطامعة في استغلالها، ومشى أبناؤها الأباة على هدى ماضيهم المشرق لا يستكينون لمشورة حليفة ولا يستنيمون لمعونة أجنبي ولا يستجيبون لوساوس الأطماع في مرافق الأمة ومناصب الدولة حتى انخزلت عنهم التهم وغفلت عنهم الفتن، واستوثق لهم الأمر أو كاد

ذلك يا قوم ما يهدى له منطق الطبع، وصوت التاريخ، وعبقرية الجنس، أما هذا الذي نحن عليه فلا يمكن أن يؤدي إلا إلى الذي نحن فيه. فتداركوا إفلاس المدرسة، وفشل السياسة، وفوضى الحكم، بأيقاظ الضمائر الغافلة واستخدام الكفاءات العاطلة، واستلهام هذا الشعب

ص: 2

المجيد الذي عودته عناية الله أن يعوق ولا يضل، ويعذب ولا يذل، ويحارب ولا يستكين

احمد حسن الزيات

-

-

ص: 3

‌لجنة التأليف الترجمة والنشر

نبذة تاريخية

للأستاذ احمد أمين رئيس اللجنة

في سنة 1913 كان في مدرسة المعلمين العليا بدرب الجماميز طائفة من الشباب تمتلئ نفوسهم غيرة على العالم الإسلامي، ويطيلون التفكير في وسائل إصلاحه والنهوض به، ألف بين أفرادها الشعور بالألم من موقف الشرق وخموله، والأيمان بوجوب العمل على تنبيهه والأخذ بيده ورفع مستواه؛ وقد نبتت هذه الفكرة عندهم على أثر حرب البلقان، ومطالعتهم في كتب تثير هذه المعاني في النفوس أمثال كتاب (طبائع الاستبداد) و (أم القرى) للكواكبي

فكانوا يجتمعون اجتماعات متعددة للبحث في وضع خطط لما ينوون القيام به من أعمال يجتمعون أحياناً في مدرسة وأحياناً في منزل وأحياناً في مسجد الجزيرة عقب تروضهم، وأحياناً يسافرون إلى بلد أحدهم في الإجازة وأحياناً يفرون من العمران ويجتمعون في الصحراء

وكانوا يتبادلون الرأي في مختلف الوسائل وينحون في ذلك مناحي مختلفة، فمنهم من كان يميل إلى التركيز كل الجهود في الإصلاح الديني ويرى أنه هو الوسيلة الوحيدة لرقى العالم الإسلامي، ومنهم من كانت تغلب عليه النزعة إلى الإصلاح الاجتماعي بأوسع معانيه - وكانت الآراء في ذلك تتشعب، وتذهب المناقشات بينهم كل مذهب

وهناك في (زاوية البقلي) في أحد اجتماعاتهم اعتزموا تكوين لجان منهم للقيام بأعمال مختلفة، إحداها (للتأليف والترجمة والنشر)، وهذا هو السبب في تسميتها (لجنة) لا جمعية ولا غيرها

وفي هذه الأثناء اتصلوا ببعض إخوانهم في مدرسة الحقوق فساهموهم هذه الأفكار وتطوعوا للعمل لها وبذل الجهد في تنفيذها؛ وكان من أظهر أفراد هذه الجماعة وأول الداعين إلى هذه الأفكار، وأشدهم حماسة ونشاطاً، الطلبة: محمد احمد الغمراوي، واحمد عبد السلام الكرداني، ومحمد عبد الواحد خلاف، واحمد زكي، وحسن مختار رسمي، ويوسف احمد الجندي، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد عبد الباري

ص: 4

فلما تخرج أكثر هؤلاء من مدرستي المعلمين والحقوق سنة 1914 وسنة 1915 عقدوا النية على أن يتموا رجالاً ما بدءوا به طلبة واتصل بهم إذ ذاك بعض إخوانهم ممن يميلون ميلهم ويشعرون شعورهم، ومن هؤلاء: محمد كامل سليم، وأمين مرسي قنديل، وعبد الحميد العبادي، ومحمد بدران، وعبد الحميد فهمي، ومحمد صبري أبو علم، واحمد أمين

ليس المقام الآن مقام ما فكروا فيه من مشروعات أخرى وما عملوا فيها وما آلت إليه إنما المقام الآن للجنة التأليف؛ فقد أكثر هؤلاء الأعضاء من ذكر التأليف والترجمة والنشر، وأملوا أن تقوم جماعتهم بهذا العمل، وأن يتسع نطاقها فيكون لهم مكتبة ومطبعة، ومدرسة نموذجية، ومجلة وأن تكون لهم كتب في مختلف العلوم والفنون تناسب جمهور المتعلمين في جميع مراحل التعليم

وكان أول ما عملوا أن عهدوا إلى الأستاذين أحمد زكي واحمد عبد السلام الكرداني تأليف كتاب في الكيمياء للمدارس الثانوية، والى الأستاذ محمد احمد الغمراوي تأليف كتاب في الطبيعة والى الأستاذين محمد خلاف وعبد الحميد فهمي تأليف كتاب في الحساب، والى الأستاذين محمد كامل سليم ومحمد بدران تأليف كتاب في الجغرافيا. وقد نفذت كل المشروعات ما عدا الثانيمنها أملوا هذه الآمال وكونوا هذه اللجان، ووضعوا مشروع هذه الأعمال وليس لديهم مال يستعينون به على أغراضهم، ولكن كان لهم أمل قوي وعزيمة ثابتة وإخلاص نقي وحسبهم من هذا غنى

في هذا الحين بدأت اللجنة في عمل قانون لها وعهدت إلى الأستاذ حسن مختار رسمي بوضعه

واجتمع الأعضاء سنة 1915 بالمدرسة الإعدادية بالعباسية لأن كثيراً من أعضاء اللجنة كانوا مدرسين بها فقرءوا القانون وأدخلوا عليه بعض تعديلات وانتخبوا أعضاء مجلس الإدارة وبدأ الأعضاء يدفع كل منهم عشرة قروش في الشهر، ثم جعلت مالية اللجنة أسهماً كل منهم ثمنه جنيه وهذا بدء التكون المالي للجنة - ولم يكن يزيد عدد الأعضاء إذ ذاك على خمسة عشر عضواً

بدأت اللجنة عملها بأن وضع الأستاذان احمد زكي واحمد الكرداني كتابهما في الكيمياء في جزأين فعهد في قراءته ونقده للأستاذين محمد خلاف ومحمد الغمراوي وكان من اجمل

ص: 5

المناظر اجتماعهم وعملهم؛ فقد استأجروا شقة خاصة في منزل أحدهم أعدها لهم أولهم وظلوا يجتمعون ليل نهار يقرءون وينقدون ويراجعون إلى أن يدركهم الملل فيناموا وقد بلغ منهم الجهد حتى إذا أتموه بعد عناء قدموه للطبع، ولم يكن في اللجنة ما يكفي للأنفاق عليه فاقترضت اللجنة من بعض الأعضاء ما يكفي لذلك

لم يكن في مال اللجنة ما يكفيأيضاًلاستئجار مكان خاص فكان مجلس الإدارة يجتمع في بيت أحد الأعضاء وأكثر ما كان ذلك في بيت عبد الحميد أفندي العبادي بالحلمية أو بيت محمد أفندي خلاف كذلك - وأحياناً يجتمعون في مقهى قلّ زواره - ولما أنشئت نقابة المعلمين أساتذتها اللجنة في أن تجتمع فيها فأذنت، وكانت الجمعية العمومية لها تنعقد في إحدى المدارس الأهلية كالإعدادية ووادي النيل

كذلك لم تكن تستطيع أن تستأجر مكاناً تخزن فيه كتبها فكان كل مؤلف يخزن كتابه في بيته ويبيع منه ما طلب ويعمل حسابه بنفسه ويقدمه للجنة

ثم اتفقت اللجنة مع مكتبة أن تودع فيها كل كتبها في نظير خصم اكبر على ما يباع - وكان أحد الأعضاء يتولى حساب اللجنة على طريقة ساذجة بسيطة. وقد كانت هذه الأعمال كلها مما يعرض اللجنة للضياع والانحلال لولا ما ملئ به أعضاؤها من صدق وإخلاص وثقة

أخذت اللجنة بعد ذلك تنمو تدريجياً فزاد أعضاؤها حتى بلغوا الآن بضعاً وسبعين، وزاد إنتاجها واتسع عملها وكثر مالها فاتخذت لها مركزاً، وكان أول ما فعلت ذلك إنها استأجرت مكاناً في شارع الأمير يوسف بالحلمية القديمة بثلاثة جنيهات شهرياً اتخذته مخزناً ومكاناً للأدارة، ثم انتقلت منه إلى مكان في شارع غيط العدة، ثم إلى مكان في شارع المبدولي، ثم في شارع الساحة، ثم في مكانها الحالي. ونظمت دفاترها واستخدم لها العمال ليقوموا بحسابها على الطراز الحديث

ومما يلاحظ إنها بدأت أول أمرها بالكتب المدرسية لرواجها، ولتكوين دعامة مالية، لها ثم توسعت بعد ذلك فلم تبال ما تطبع متى وثقت به من الناحية العلمية ولو كان الكتاب كتاب الخاصة كما فعلت في ترجمة كتاب الأخلاق لأرسطو، والبصريات كما يلاحظ أن اكثر أعضاؤها واوفرهم إنتاجاً كان من المعلمين، لأن طبيعة عملهم جعلتهم اكثر اتصالاً بالكتب،

ص: 6

وميلاً إلى تأليفها أو ترجمتها

وقد ساعد اللجنة على رواج كتبها الثقة التي منحها الجمهور إياها مقابل ما تبذله من جد في التدقيق فيما تنشر، فليست تخرج كتاباً إلا بعد أن يمر على لجنة مختصة تنظر فيه بإمعان، وتقدم تقريراً عنه بصلاحيته، أو تقترح إدخال إصلاح عليه غير مبالية كثيراً برواج الكتاب أو عدم رواجه متى وثقت أن الكتاب يخدم العلم ويحقق غرضها، ويفيد ولو الخاصة

ومنذ أربعة أعوام سعت اللجنة لدى وزارة المعارف أن تمنحها مبلغاً من المال للاستعانة به على التأليف الكتب القيمة وترجمتها ونشرها. إذ كان هذا العمل من اهم الأعمال التي يصح أن تقوم بها وزارة المعارف

وكان لبعض أعضاء اللجنة السعي المشكور في أن مجلس النواب طلب من وزارة المعارف أن تمنح اللجنة مقداراً من المال لهذا الغرض. كما كان لبعضهم سعي مشكور آخر في إجابة وزارة المعارف له وألفت وزارة المعارف لجنة من الأستاذ سكرتير عام الوزارة، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، ورئيس اللجنة، للنظر في المال الذي تقرره الوزارة، وكيفية صرفه، والكتب التي ينفق عليها هذا المبلغ

وقد منحت الوزارة اللجنة ألف جنيه في ثلاثة أعوام متوالية أنفقت منها على طبع كتاب فتح العرب لمصر، والنجوم في مسالكها، والجزء الأول من السلوك للمقريزي، ولا تزال مستمرة في إخراج الكتب القيمة كلما تجمع لها شيء من المال فلوزارة المعارف الشكر على هذه الثقة كما للأعضاء الذين سعوا هذا السعي الشكر على ما سعوا

وأخيراً وبعد عشرين سنة من حياتها يحق للجنة أن تقف وقفة قصيرة تنظر في ماضيها وتستعرض تاريخها. وأظنها تغتبط لذلك - أولا - لأنها عاشت عشرين عاما في جو كثيرا ما تموت فيه مشروعات وليدة - وثانيا - لأنها عاشت عيشة طبيعية فتدرجت في أدوار الحياة على مهل ولم نطفر طفرة شيطانية. وتغتبط إذ تراها قد ضمت كثيرا من صفوة رجال العلم، وأخرجت للناس نحو الستين كتابا بين مؤلف ومترجم ومنشور، تسد كلها حاجات الثقافة في أطوار التعليم المختلفة - كما إنها تغتبط بثباتها في مركزها وحصرها نفسها في الدائرة التي رسمتها لنفسها من أول أمرها، فلم تتدخل في مجادلات دينية، ولم تغامر في نواح سياسية، أيمانا منها بان الثقافة ونشرها وسيلة من اكبر الوسائل لرقي

ص: 7

الأمة، ومن اكبر عوامل الإسراع في نهضتها.

وتبتهج إذ تبتدئ مرحلة أخرى من مراحلها، بدايتها تكوين مطبعة مستقلة لها تساعدها على تحقيق غرضها فيزيد نتاجها، ويتضاعف مجهودها. وقد أسست - فعلا - المطبعة وبدأت من ثلاثة شهور تخرج الكتب التي ترى اللجنة نشرها، وهذا بلا شك يتطلب من اللجنة بذل مجهودا اكبر في التأليف والترجمة إذ تشعر - مع وجود المطبعة - بأن وراءها ما تعوله يصيح دائما بطلب الغذاء، وليس غذاؤه إلا ما نؤلف أو تترجم أو تنشر. وأظن أن في مكنة أعضائها ما يضمن لهذا الطفل الغذاء الكافي حتى التخمة

ولعل الذين فكروا في اللجنة أيام ولادتها سنة 1914 أو قبلها بقليل يغتبطون إذ يرون سنة 1934 أن كثيرا من الآمال أصبحت حقائق، وان الأماني تحولت إلى شجرة طيبة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وانهم وقد جنوا ثمارها قد تجددت لهم أماني أخرى أوسع من الأولى وابعد مدى، لكنهم يشعرون أن الصبر إنما هو عند الصدمة الأولى، وانهم اليوم اكثر خبرة، واقدر بمالهم ورجالهم على تحقيق أغراضهم الجديدة، فهم لا يرتاحون إلا أن يروا كل مرحلة من مراحلهم يتضاعف إنتاجها - حقق الله آمالنا، ووفقنا في مستقبل أعمالنا أضعاف ما وفقنا في ماضينا، فقد عودنا أن يجازى الجد والإخلاص بالخير دائما.

احمد أمين

ص: 8

‌قصة زواج

ذيل القصة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

ذهب الناس يميناً وشمالاً فيما كتبناه من خبر الإمام سعيد ابن المسيب وتزويجه ابنته من طالب علم فقير بعد إذ ضن بها أن تكون زوجاً لولي عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؛ وقد جعلت قلوب بعض النساء العصريات المتعلمات تصيح وتولول. . . وحدثنا أديب ظريف أن إحداهن سألت عن عنوان عبد الملك بن مروان. . .

افتراها ستكتب إليه إنها تقبل الزواج من ولي عهده؟

على أن للقصة ذيلاً، فأن الطبيعة الآدمية لا عصر لها، بل هي طبيعة كل عصر. والفضيلة الإنسانية يبدأ تاريخها من الجنة، فهي هي لا تتجدد ولا تزال تلوح وتختفي؛ أما الرذيلة فأول تاريخها من الطبيعة نفسها، فهي هي لا تتغير ولا تزال تظهر وتستسر

لما زوّج الإمام ابنته من أبى وداعة وأخذها بنفسه إليه في يوم زواجها منه، ومشى بها في طريق حصاه عنده افضل من الدرّ وترابه اكرم من الذهب؛ طارت الحادثة في الناس واستفاض لهم قول كثير. (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون.) وقد قال جماعة منهم: تا لله لئن انقطع الوحي فأن في معانيه بقية ما تزال تنزل على بعض القلوب التي تشبه في عظمتها قلوب الأنبياء؛ وما هذه الحادثة على الدنيا إلا في معنى سورة من السور قد انشقت لها السماء ونزل بها جبريل يخفق على أفئدة المؤمنين خفقة إيمان.

(وأما الذين في قلوبهم مَرَضُ فزادتهم رِجساً إلى رِجِسِهمِ.) وقال أُناس منهم: أما والله لو تهيأ لأحدنا أن يكون لصاً يسرق أمير المؤمنين أو ابن أمير المؤمنين لركب رأسه في ذلك، ما يرده عن السرقة شئ؛ فكيف بمن تهيأ له الصهر والحسب، وجاءه الغنى يطرق بابه - ما باله يرد كل ذلك ويخزي ابنته برجل فقير تعيش في داره؛ بأسوأ حال وكيف تثقل همته وتبطؤ وتموت إذا كان الدرّ والجوهر والذهب والخلافة؛ ثم ينبعث ويمضي لا يتلكأ عزمه إذا كان العلم والفقر والدين والتقوى

وانتهى كلام الناس إلى الإمام العظيم فلم يجئه إلا من الظن خفياً خفياً، كأنما هي أقوال حسبها تقال عنه بعد خمسين وثلثمائة وألف سنة في زمننا هذا، حين يكون هو في معاني

ص: 9

السماء، ويكون القائلون في معاني التراب النجس الذي نفضته على الشرق نعال الأوربيين. .!

قال الراوي: ولم يستطع أحد من الناس أن يواجه الإمام بشفة أو بنت شفة، لا مضيقاً عليه من قلبه ولا موسعاً، حتى كان يوم من أيام الجمعة، وقد مال الناس بعد الصلاة إلى حلقة الشيخ وتقصفوا بعضهم على بعض فغص بهم المسجد، وكان إمامنا يفسر قوله تعالى:(وما لَنا إلا نَتَوَكَّلَ على اللهِ وقد هدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ على ما آذَيْتمُونا. وعلى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتَوَكِّلون.)

قال الراوي: فكان فيما قاله الشيخ:

إذا هدى المرء سبيله كانت السبل الأخرى في الحياة أما عداء له، وأما معارضة، وإما رداً؛ فهو منها في الأذى، أو في معنى الأذى، أو عرضة للأذى. لقد وجد الطريق ولكنه أصاب العقبات أيضاً، وهذه حالة لا يمضي فيها الموفق إلى غايته إلا إذا أعانه الله بطبيعتين: أولاهما العزم الثابت، وهذا هو التوكل على الله؛ والأخرى اليقين المستبصر، وهذا هو الصبر على الأذى ومتى عزم الإنسان ذلك العزم، وأيقن ذلك اليقين - تحولت العقبات التي تصده عن غايته فآل معناها أن تكون زيادة في عزمه ويقينه، بعد أن وضعَّن ليكن نقصاً منهما فترجع العقبات بعد ذلك وأنها لوسائل تعين على الغاية، وبهذا يبسط المؤمن روحه على الطريق فما بدّ أن يغلب على الطريق وما فيها. وينظر إلى الدنيا بنور الله فلا يجد الدنيا شيئاً على سعتها وتناقضها إلا سبيله وما حول سبيله، فهو ماض قدماً لا يتراد ولا يفتر ولا يكل وهذه حقيقة العزم وحقيقة الصبر جميعاً

ومن ثم لا تكون الحياة لهذا المؤمن مهماً تقبلت واختلفت - إلا نفاذاً من طريق واحدة دون التخبط في الطرق الأخرى، ثم لا يكون العمر مهما طال إلا مدة صبر في رأي المؤمن. وعزيمة النفاذ وعزيمة الصبر هما الضوء الروحاني القوي الذي يكتسح ظلمات النفس مما يسميه الناس خمولاً ودعة وتهاوناً وغفلة وضجراً ونحوها

قال: ولكن كيف يعان المؤمن على هذه المعجزة النفسية؟ هنا يتبين أعجاز الآية الكريمة؛ فقد ذكر فيها التوكل ثلاث مرات وافتتحت به وختمت، والتوكل هو العزم الثابت كما أوضحنا. وذكرت في الآية بين ذلك هداية المرء سبيله؛ وهذه الإضافة (سبلنا) تعين إنها

ص: 10

هداية الإنسان إلى سبيل نفسه؛ أي سبيله الباطني الذي هو مناط سعادته في الشعور بالسعادة ثم ذكر الصبر على أذى الناس والأذى لا يقع إلا في حيوانية الإنسان، ولا يؤثر إلا فيها. فكأن الآية مصرحة أن نجاح المؤمن ونفاذه في الحياة لا يكونان أول الأشياء وآخرها إلا بثلاث: العزم الثابت، ثم العزم الثابت، ثم العزم الثابت. وان الصبر ليس شيئاً يذكر، أو شيئاً يجدي، أن لم يكن صبراً على أذى الحيوانية في افظع وحشيتها؛ فالروح لا تؤذي الروح، ولكن الحيوان يؤذي الحيوان. وأن ما يقع من هذه الحيوانية فيسمى اعتداء من غيرك، ويسمى أذى لك، هو شيء ينبغي أن يجعله العزم فخراً لقوة الاحتمال فيك، كما جعله البطش فخراً للقدرة عند المعتدي

وبهذا يكون العزم قد فصل بين نفسك الروحية وبين شخصك الحيواني، ووهبك حقيقة الشعور، وصحح بمعاني روحيتك معاني حيوانيتك؛ وحينئذ ترى السعادة حق السعادة ما كان هداية لنفسك أو هداية بها، ولو انقلب في الشخص الحيواني منك أذى وألماً. ذلك صبر أولي العزم من الرسل

قال الراوي: وعند ذلك صاح رجل كان في المجلس دسه عامل الخليفة ليسأل الشيخ سؤالاً على ملأ الناس، يكون كالتشنيع عليه والتشهير به؛ وقد مكر العامل فأختاره شيخاً كبيراً اعقف، ليرحم الناس رقة عظمة وكبر سنه فلا يعرضون له بأذى، ثم ليكون صوته كأنه صوت الدهر من بعيد. قال الصائح: ذلك أيها الشيخ صبر أولي العزم من الرسل، أو صبر ابنتك على مكاره العيش مع أبي وداعة، لا يجد إلا رمقة يمسك بها الرمق عليها وقد كانت النعمة لها ممرضة، فدفعتها إليه زعمت - لتهلك به شخصها الحيواني، وتوكلت على الله وألقيت ابنتك في اليمّ. . .؟

فتربد وجه الشيخ واطرق هنيهات، ثم رفع رأسه وقال: أين المتكلم آنفاً؟ فأرتفع الصوت: هاأنذا. قال: ادن مني. فتقاعس الرجل كأنما تهيب ما فرط منه. فاستدناه الثانية؛ فقام يتخطى الناس حتى وقف بازائه ثم جلس؛ فقرأ الشيخ قوله تعالى: (وبرَزوا لله جميعاً، فقال الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنَّا لكم تبعاً فهل أنتم مُغْنونَ عنّا من عذابِ اللهِ من شيء؟ قالوا: لو هدانا اللهُ لَهَديناكم سواء علينا أَجَزِعنا أم صَبرْنا مالنا من مَحيِص)

ثم قال: أيها الرجل، لا تسمعني بأذنك وحدها. أرأيتك لو سمعت خبراً ليس في نفسك اصل

ص: 11

من معناه، أو ورد عليك الخبر ونفسك عنه في شغل قد أهمها، أفكنت تنشط له نشاطك للخبر احتفلت له نفسك أو أصاب هوى منك أو رأيته موضع اعتبار؟

قال: لا

قال الشيخ: فإذا سمعت بأذنك وحدها فإنما سمعت كلاماً يمر بأذنك مراً، وإذا أردت الكلام لنفسك سمعت بأذنك ونفسك معاً؟ قال: نعم

قال الشيخ: فكل ما لا تنفرد به حاسة واحدة، بل تشارك فيه الحواس كلها أو أكثرها - لا يكون إلا موضع اهتمام للنفس؟

قال: نعم

قال الشيخ: فمن هنا يكثر الفرح والحزن كلاهما إذا شاركت فيهما الحواس، فيأتي كل منهما كثيراً مهما قلّ، وتزيد كل حاسة في اللذة لذة وفي الألم ألماً، فتعمل النفس في ذلك أعمالاً تسحر بها فيكون الشيء لصاحبه غير ما هو للناس، كالصوت الباكي أو الضاحك في لسان طفلك، تسمعه أنت منه بكل حواسك فإذا أنت سمعت عينه من لسان رجل في الناس رأيته غير ذاك. أكذلك هو؟

قال: نعم

قال الشيخ: فيكون السرور بالغاً عجيباً أكثر ما هو بالغ، حين يجد المال والغنى في الإنسان أم حين يجد القوة النفسية وطبيعة المرح والرضى؟

قال: بل حين يجد في النفس

قال الشيخ: أرأيت الإنسان يكون سعيداً بما يتوهم الناس انه به غني سعيد، أم بشعوره هو وإن كان بعد فيما لا يتوهم الناس فيه الغنى والسعادة؟

قال: بل بشعوره

قال الشيخ: أفلا توجد في الدنيا أشياء من النفس تكون فوق الدنيا وفوق الشهوات والمطامع؛ كالطفل عند امه، كل ما تعلق به من شيء وزن به هو لا بغيره، وكان الاعتبار عليه لا على سواه، أتعرف أماً ترضى أن يذبح ابنها في حجرها لقاء أن يملأ حجرها ذهباً؟

قال: لا

قال الشيخ: فإذا كانت النفس تشعر اكثر مما ترى، أفيذهب ما تراه فيما تشعر به، ويكون

ص: 12

شعورها هو وحده الذي يلبس ما حولها ويصوره ويصرفه؟

قال: نعم

قال الشيخ: أفتعرف أن لكل نفس قوية من هذا العالم الذي نعيش فيه عالماً آخر هو عالم أفكارها وإحساسها، وفيه وحده لذات إحساسها وأفكارها؟

قال: نعم

قال الشيخ: أفرأيت المرأة إذا صح حبها أو فرحها أو عزمها، أرأيتها تكون إلا في عالم أفكارها، أرأيت كل ما يتصل برغبتها حينئذ يكون إلا من أشياء قلبها لا من أشياء الدنيا، أرأيتها لا تعيش في هذه الحالة إلا بالمعاملة مع قلبها الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يجمع المال ولا يريد إلا الشعور فقط؟

قال: نعم هو ذاك

قال الشيخ: أرأيت إذا كان الأيمان قد ولد ونشأ وترعرع في قلب المرأة، إلا يكون هو طفل قلبها؟

قال: نعم

قال الشيخ: أرأيت إذا كانت الخمر عند مد منها شيئاً عظيماً، وكانت ضرورة من ضرورات وجوده الضعيف المختل، فلا يستقيم وجوده ولا سفه وجوده إلا بها، أفيلزم من ذلك أن تكون الخمر من ضرورات صاحب الوجود القوىّ المنتظم؟

قال: لا

قال الشيخ: أفموقن أنت أن لابد من آخر لأيام الإنسان ولياليه في هذه الدنيا فينقطع به العيش؟

قال: نعم

قال الشيخ: أفيؤرخ الإنسان يومئذ بتاريخ معدته وما حولها، أم بتاريخ نفسه وما فيها؟

قال: بل بتاريخ نفسه

قال الشيخ: فإذا كنت صاحب حرب، وكنت بطلاً من الأبطال ومسعراً من المساعير، وأيقنت الموت في المعركة؛ أيكون الحقيقي عندك في هذه الساعة هو الموت ام الحياة؟

قال: بل الحياة عندئذ وهمٌ وباطل

ص: 13

قال الشيخ: فتفر في تلك الساعة إلى الحياة ولذاتها في خيالك، أم تفر منها ومن لذاتها؟

قال: بل الفرار منها، فأن خيالها يكون خبالاً

قال الشيخ: ففي تلك الساعة التي هي عمر نفسك وعمل نفسك ورجاء نفسك؛ تستشعر اللذة في موتك بطلاً مذكوراً، أم تحس الكرب والمقت من ذلك؟

قال: بل استشعر اللذة

قال الشيخ: إذن فهي كبرياء الروح العظيمة على مادة التراب والطين في أي أشكالها ولو في الذهب

قال: هي تلك؟

قال الشيخ: إذن فبعض أشياء النفس تمحو في بعض الأحوال كل أشياء الدنيا، أو الأشياء الكثيرة من الدنيا

قال: نعم

قال الإمام: يرحمك الله. كذلك محي عندنا أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين ومحي المال والغنى، ولم يكن ذلك عندنا إلا سعادة. ومن رحمة الله أن كل من هدى سبيله بالدين أو الحكمة استطاع أن يصنع بنفسه لنفسه سعادتها في الدنيا، ولو لم يكن له إلا لقيمات؛ فأن السعة سعة الخلق لا المال، والفقر فقر الخلق لا العيش

قال الراوي: ثم أن الإمام العظيم التفت إلى الناس وقال: أما أنى - علم الله - ما زوجت ابنتي رجلاً اعرفه فقيراً أو غنياً بل اعرفه بطلاً من أبطال الحياة يملك أقوى أسلحته من الدين والفضيلة. وقد أيقنت حين زوجتها منه إنها ستعرف بفضيلة نفسها فضيلة نفسه، فيتجانس الطبع والطبع؛ ولا مهنأ لرجل وامرأة إلا أن يجانس طبعه طبعها، وقد علمت وعلم الناس أن ليس في مال الدنيا ما يشتري هذه المجانسة، وأنها لا تكون إلا هدية قلب لقلب يأتلفان ويتحابان

ثم قال الإمام: وأنا فقد دخلت على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيتهن في دورهن يقاسين الحياة، ويعانين من الرزق ما شح دره فلا يجيء إلا كالقطرة بعد القطرة، وهن على ذلك، ما واحدة منهن إلا هي ملكة من ملكات الآدمية كلها وما فقرهن والله إلا كبرياء الجنة، نظرت إلى الأرض فقالت: لا. . .!

ص: 14

يجاهدن مجاهدة كل شريف عظيم النفس، همه أن يكون الشرف أو لا يكون شيء؛ ويرى الغافل أن مثلهن في تعب الجهاد، ويعلمن من أنفسهن غير ما يرى ذلك المسكين - يعلمن أن ذلك التعب هو لذة النصر بعينها

كانت أنوثتهن أبداً صاعدة متسامية فوق موضعها بهذه القناعة وبهذه التقوى، ولا تزال متسامية صاعدة، على حين تنزل المطامع بأنوثة المرأة دون موضعها، ولا تزال أنوثتها تنحدر ما بقيت المرأة تطمع؛ ورُبَ ملكة جعلتها مطامع الحياة في الدرك الأسفل، وهي باسمها في الوهم الأعلى. . .!

وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (اطلعت في الجنة فإذا اقل أهلها النساء، فقلت أين النساء؟ قال: شغلهن الأحمران: الذهب والزعفران.) أي الطمع في الغنى والعمل له، والميل إلى التبرج والحرص عليه

ونفس الأنثى ليست أنثى، ولكن شغلها بذلك التبرج وذلك الحرص وذلك الطمع - هو يخصصها بخصائص الجسد، ويعطيها من حكمه، وينزلها على أرادته؛ وهذه هي المزلة، فتهبط المرأة اكثر مما تعلو، وتضعف اكثر مما تقوى، وتفسد اكثر مما تصلح. أن نفس الأنثى أنثى لرجل واحد، لزوجها وحده

رأيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيرات مقتوراً عليهن الرزق، غير أن كلا منهن تعيش بمعاني قلبها المؤمن القوي، في دار صغيرة فرشتها الأرض. . . ولكنها من معاني ذلك القلب كأنها سماء صغيرة مختبئة بين أربعة جدران. أنهن لم يبتعدن عن الغنى إلا ليبعدن عن حماقة الدنيا التي لا تكون إلا في الغنى

أف أف! أتريدون أن أزوج ابنتي من ابن أمير المؤمنين فيخزيها الله على يدي، وادفعها إلى القصر وهو ذلك المكان الذي جمع كل أقذار النفس ودنس الأيام والليالي؛ أأزوجها رجلاً تعرف من فضيلة نفسها سقوط نفسه، فتكون زوجة جسمه ومطلقة روحه في وقت معاً؟ إلا كم من قصر هو في معناه مقبرة ليس فيها من هؤلاء الأغنياء رجالهم ونسائهم إلا جيف يبلى بعضها بعضاً!

قال الراوي: وضج الناس لحمامة صغيرة قد جنحت من الهواء فوقعت في حجر الشيخ لائذة من مخافة، وجعلت تدف بجناحيها وتضطرب من الفزع، ومر الصقر على أثرها وقد

ص: 15

أهوى لها، غير أنه تمطر ورمق في الهواء إذ رأى الناس

وتناولها الإمام في يده وهي في رجفتها من زلزلة الهواء، وكانت العروس مسرولة قد غاب ساقاها في الريش، وعلى جسمها من الألوان نمنمة وتحبير، ولها روح العروس الشابة يهدونها إلى من تكره، ويزفونها على قاتلها الذي يسمى زوجها

وأدناها الشيخ من قلبه، ومسح عليها بيده، ونظر في الهواء نظرة. . . . وهو يقول: نجوتِ نجوتِ يا مسكينة!

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 16

‌2 - الشيخ علي يوسف

للأستاذ عبد العزيز البشري

تتمة

ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، على انه كان إلى الطول. يظهر في مرأى العين نحيلاً هزيلاً، ولكنه كان مكتنز اللحم. مستطيل الوجه، واسع مساحة الجبهة، ازرق العينين، طويل الهدبين كثيراً ما ترى له في إطراقه، نظرة غريبة ساجية. ضيق الفم، على أن في شفتيه الحمراوين شيئاً من الغلظ. تعلوه صفرة ما احسبها من اثر مرض. وشعر لحيته الدقيقة المتسقة يميل إلى الشقرة. رفيق الصوت لينه إذا تحدث، فإذا رفع صوته ضمر بعض الضمور، وتسلخ بعض التسلخ، فلم يكن من تلك الأصوات التي تصلح للخطابة

وكان بعد رجلاً شديد العقل قوي النفس حديد العزم، وافر الشجاعة. لا تتعاظمه قوة خصم بالغة ما بلغت قوة ذلك الخصم وبأسه. وإذا تحداه متحد ركب رأسه في نضاله لا يبالي أين يقع المصير، وصح فيه قول الشاعر:

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه

ونكب عن ذكر العواقب جانباً

واذكر أنني مضيت إليه مرة في صحب لي من خلصانه، وسألناه أن يترفق بالمؤيد فلقد تظاهر عليه خصومه وألَّبوا الجمهرة عليه، واذكوا عليه حماسة الشباب في رأى له قد لا يحسن فهمه العامة، ولا يستريح إليه طموح الشباب. فأصغى إلينا واحسن الإصغاء، وترك كل واحد منا يقول ما عنده، حتى إذا انتهينا ونحن على الظن بأنه نازل عند رأينا، عادل إلى ما سألنا، فإذا هو يرتج في مجلسه ارتجاجه عنيفة ويقول في قوة وفي عزم حديد:(والله لا يعنيني أن يكون الناس جميعاً في صف واحد، وأنا والحق الذي اعتقده بازائهم في صف واحد)!. وتركناه ونحن نرى منحدر المؤيد بطغيان الخصومة يوماً بعد يوم!

ولقد كان الشيخ علي رحمة الله عليه، رجلاً متمكناً من نفسه حقاً، ولقد كان مما يشاع عنه، ولعل خصومه هم مبعث هذه الإشاعة، انه كان يقول: أنا لا أبالي أن اخسر هذا البلد، ففي إمكاني أن أعود فأكسبه بثلاث مقالات. .!

ولقد عاشرت الرجل ما عاشرته، واستمكن ما بيننا من الود والآلف إلى الحد. الذي يبعثني على الاعتقاد بأنه ما كان يخفي عني شيئاً حتى من نجوى نفسه في الأسباب العامة. وشهد

ص: 17

الله ما سمعت منه قط هذا الكلام، ولا أية عبارة أخرى يمكن أن تؤدي معناه

ولكن مع هذا لقد كان هذا هو الواقع اعني الواقع من حاله لا من مقاله: فأنني لا اعرف رجلاً سياسياً عظيماً كان اقل الناس أنصاراً وأكثرهم خصوماً كما كان الشيخ علي يوسف وخصومه. على كثرتهم، لقد كانوا من جميع الطبقات، وكانوا من جميع الهيئات، وانهم ليحيطون به إحاطة الطوق من كل جانب، وكلهم عامل على إسقاطه، جاهد ما امتد به الجهد في هدم المؤيد، مذك عليه الأقلام والألسن من كل ناحية، تدمغه بتهمة الخيانة الوطنية فما دونها في غير هوادة ولا اشفاق، والمؤيد يتقلص بين أيدي القارئين ويتقلص حتى يظن انه قد تشرف على العفاء. ثم إذا الشيخ يتجمع، وإذا هو يشرع القلم شرع الرمح الرديني، وإذا هو يطعن الطعنة البكر ها هنا مرة وها هنا مرة، فلا يصيب إلا الكلى والمفاصل. وإذا هؤلاء الخصوم يتطايرون عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وإذا المؤيد يرن في البلد رنينه، بعد ما تردد تأوهه وطال أنينه!

وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان مبغضاً إلى الكثرة في البلاد. وان هذا البغض ليرجع في الأكثر إلى أسباب صناعية: منها المنافسات الصحفية، ومنها الغيرة من موضعه يومئذ من ولي الأمر، ومنها كان هنالك رجال أقوياء ببسطة الجاه وسعة الغنى، وفيهم كذلك من ذهب لهم في العلم والأدب صيت وذكر، كان هؤلاء لا يستريحون إلى سياسة القصر، ولربما ظاهروا المعتمد البريطاني أحياناً في عدائه للقصر. فهم بالضرورة، ينقمون من كل رجل توافيه للقصر، وخاصة إذا كان رجلاً كالشيخ علي يوسف جبار العقل جبار القلم

أرأيت كيف كان هذا الرجل محاطاً من جميع أقطاره بنطاق من العداوات المختلفة، بل التي يصطرع التناقض أحياناً بين أسباب بعضها وبين أسباب بعض؟. على أن إذكاء بغض الشباب والعامة للرجل من جهة، وبغض الخاصة له من جهة اخرى، إنما كان يسلكه له خصومه من أحد طريقي الضعف فيه، أن صح هذا التعبير. أولهما انه كان معتدلاً لا يرى العنف سبيلاً إلى استرداد حقوق البلاد؛ بل أن هذا العنف لقد يرديها في أخطار لم تكن لها في الحساب، وكان طوعاً لهذا يرى إلا يتحدث على الشئون العامة إلا الشيوخ الناضجون المجربون، وهذا وهذا، ولا شك مما لا يرضى الشباب المشتعل حماساً لحق الوطن. ولا تنسى أن العامة من وراء هؤلاء أما السبب الثاني فلصوقه بالقصر، وشدة

ص: 18

توافيه له ومظاهرته له على الدوام، أظن أن هذا مقام لا تحمد فيه إطالة الكلام

مع هذا كله ففي يوم الجلي، يوم تحدث الأحداث القومية، ينفض الناس قلوبهم حتى يتساقط عنها كل ما علق بها من الحقد على الشيخ علي يوسف، ويتلعون أعناقهم نحو المؤيد، شاخصة أبصارهم، مرهفة آذانهم، معلقة في انتظار ما يقول الشيخ أنفاسهم. فإذا النمر الجبار يثب على فريسته من عدوان العادين وثبته فلا يزال يوسعها تمزيقاً بمخلبه، وضغماً بأنيبه حتى ما يدعها إلا (اعظماً وجلوداً)

نعم، لقد كان يقول الشيخ علي فيروي كل غلة، ويشفى كل علة،، ويعلو بسطوة قلمه حتى ما ينتهي منتهاه في ذاك أحد. والناس طراً لهذه النصرة بين مهلل وبين مكبر!. هذه كانت قدرة الشيخ القادرة وهذه كانت قوته العبقرية النادرة. وهذه مقالاته في أعقاب حادثة دنشواي ما برحت ترن في آذان من قرءوها إلى الآن

وأني لأذكر له حادثاً طريفاً في هذا الباب:

فشت الفاشية، لا أعادها الله بين المسلمين وإخوانهم الأقباط عقب مصرع المرحوم بطرس باشا غالي، وكان ذلك في سنة 1910 على ما اذكر، وعقد الأقباط مؤتمراً ملياً لهم في أسيوط، وأجابهم المسلمون بمؤتمر مثله في القاهرة وأفضوا برياسته إلى اكبر رجل في البلاد يومئذ وهو المرحوم مصطفى رياض باشا، واختار القائمون على هذا المؤتمر مثوى لاجتماعه ملعب مصر الجديدة، ومضى الناس أفواجاً في اليوم المشهود، واجتمع رجالات البلد لم يتخلف منهم إلا من انقطع به العذر. وتصدر الحفل رياض باشا. وتعاقب الخطباء كابراً بعد كابر. فأبلوا في المقال أيما بلاء وأبدعوا في الخطاب أيما إبداع

حتى إذا كانت النوبة على الشيخ علي أذكى بعض شبان الحزب الوطني في المحتشدين في بهو الملعب طائفة من الفتيان من طلبة الأزهر وتلاميذ المدارس، يسألون القوم إلا يصفقوا إذا خطب الشيخ ولا يظهروا أية إشارة تدل على الاستحسان. فوعدهم اكثر الناس بهذا وأصروا عليه مخلصين لما تنطوي صدورهم من حقد عليه ومن بغضاء

وينبعث الشيخ يخطب وهو كما قدمت لك غير خطيب. استغفر الله بل لقد انبعث يتلو مقالته في أوراق بين يديه، وأنت حق خبير بالفرق الهائل بين اثر التالي واثر الخطيب. وما أن مضى في تلاوته بضع دقائق حتى اخذ الناس عن نفوسهم، ونسوا ما عاهدوا أولئك

ص: 19

الفتيان وعاهدوا أنفسهم عليه. فبروا من التصفيق اكفهم وشققوا بالصياح حناجرهم تشقيقاً، فكنت تسمع من هتافهم مثل الرعد القاصف، وترى من اضطرابهم وتموجهم فعل الريح بالأغصان في اليوم العاصف! وكان من أشدهم سعراً من كلام الرجل هم أولئك الفتية الذين كانوا يروضون الناس على إلا يلقوا خطابه إلا بالجمود والأعراض

وجهد بالرجل، فتعاور التلاوة عنه كل من أستاذنا إبراهيم بك الهلباوي والمرحوم احمد بك عبد اللطيف المحامي الأشهر، وأنت كذلك خبير بأثر خطبة يتلوها في الساعة غير منشئها، ما أرخى إليها من قبل نظراً. ومع هذا فما برحت تزداد الفورة ويشتد بالقوم الفتون!

ولقد اذكر انه بعد إذ فرغ من خطاب الشيخ وافقت في طريقي صديقاً لي من شبان الحزب الوطني وهو الآن من أعلام آهل الفضل الذين يتولون منصباً جليلاً في السلك القضائي. وكان مسرفاً غالياً في التشيع لمبادئ حزبه. مفرطاً في بغض الشيخ شديد الحمل عليه ورأيته يضرب كفاً بكف فسألته ما به؟ فأومأ إلى مكان الشيخ من منصة الخطابة وقال: (على حس الخطبة دي، يقعد ابن الـ. . . يخون في البلد ثلاث سنين)!

ولا زلت كلما لقيت صاحبي اذكره هذه الحكاية، فيضحك في غيظ لا ادري أن كان من تذكيري له بهذه القصة، أم انه ما تزال في صدره بقية من هذا الضغن القديم؟! الله اعلم!

ولقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان رجلاً مكافحاً، بل أن قلمه لم يكن يجود في شيء مثلما كان يجود في الكفاح ولم تكن سياسة الاحتلال في مصر تخشى سطوة قلم قدر ما تخشى قلم هذا الرجل، فأنه كان فوق كفايته البيانية، وما آتاه الله من شدة العارضة، والتمكن من نواصي جلائل المعاني، لا يهرول إذا هرول في الصغائر ولا يطعن إذا طعن إلا في الصميم

ولا احب أن أتجاوز هذا المعنى في الرجل قبل أن أدل على خلة من خلاله في كفاحه: ذلك بأنه كان يعتمد اضعف النقاط في خصمه فيتجمع لها، ثم يثب عليها بكل قوته، ولا يبرح يطعنه منها دراكاً حتى يدوخ رأسه ويذهله عن سائر أسلحته، إذا كانت له أسلحة أخرى تجهز بها لذلك النضال

وكان في كتابته سريعاً جداً، حتى لتحسبنه ويده تجول في القرطاس عازفاً على قانون لا مسطراً بيراع، وتراه كلما فرغ من وجه الرقعة من الاضمامة دفع بها إلى من يفضي بها

ص: 20

إلى المطبعة. وهكذا حتى يأتي على غاية المقال، لا يتتعتع ولا يتحبس ولا يحتاج إلى مراجعة شيء مما اسلف، ومع هذا تجد المقال سوياً غاية في الحبك وتناسق الأطراف!

ومن العجب العاجب في أمره انه كثيراً ما كان يكتب والغرفة محتفلة بالزوار وأصحاب الحاجات، يرفعون أصواتهم بفنون الأحاديث والجدل بل لقد يأخذ معهم في بعض ما هم فيه وهو ماض لشأنه لا يشغله هذا عنه كثيراً ولا قليلاً!

الشيخ علي الصحفي

ولقد كان رحمه الله، صحفياً بأجمع معاني الكلمة، يكتب المقال الرئيسي كل يوم بيده ويراجع كل ما يدلي به إليه الكتاب من المقالات، ويفض البريد بنفسه، فما رآه كفؤا للنشر إذن في نشره وقد يحذف بعض المقال ويبقى على بعض، فإذا تهيأت الجريدة للطبع وراجعها المصححون تناولها فقرأها من أولها إلى آخرها يصحح ما عسى أن يكون قد فات القوم تصحيحه، ويتثبت من إلا يكون قد دس على الجريدة شيء مما يكره أو يكون قد سقط إليها في سر منه إعلان عن خمر أو غيره من المناكر

وكان على جلالة محله وكثرة المخبرين لديه، يطوف بنفسه كل يوم بأكثر الدواوين في تنسم الأخبار يستخرجها بلطف حيلته من النظار (الوزراء) أو من المستشارين الإنجليز فمن دونهم من عيون الموظفين

وهكذا استطاع الشيخ علي بكفايته وحد عزمه أن يجعل من المؤيد اعظم جريدة في مصر، برغم كل ما كان يعتريها من الكيد، بل اعظم جريدة في العالم العربي كله

من أخلاق الشيخ علي

وقبل أن اختم الحديث في الشيخ علي يوسف أرى لزاماً أن أشير إلى فضيلتين من فضائله البارزة بروزاً عظيماً: أولاهما انه كان خيراً مطبوعاً، ما رأيته سئل الخير قط يستطيعه إلا فعله مهما يكن فيه من عنت ومن إرهاق، وإنه ليفعل مغتبطاً رضياً هاشاً حتى ليكاد يلتمس السائلية الخير إلتماساً، وحتى ليكاد يصدق فيه قول الشاعر (كأنك تعطيه الذي أنت سائله). وإني لأعرف إنه كان يجرد صدراً من يومه في السعي لحاجات الناس ابتغاء رضوان الله، هذه واحدة. أما الثانية فشدة وفائه. ولقد عرفت صلة الرجل بالقصر، ومبلغ ضعفه له. ولقد

ص: 21

يتغير ولي الأمر يومئذ على الرجل من صدقاته أو مِنْ من أسلفوا له يداً، فتتناهشهم الأقلام من كل جانب، اللهم إلا المؤيد، فأنه الذي لا يطلق مقالة السوء فيه أبداً وحسبك دليلاً في هذا الباب شدة توافيه للمرحومين الشيخ محمد عبده، وسعد باشا زغلول، ورياض باشا، وغيرهم فإن كان قد مس بعضهم كما مس رياض باشا عقب خطبته المشهورة، فلقد كان عذره واضحاً وأي وطني يطيق أن يسمع الإشادة بفظل المعتمد البريطاني على حساب كرامة أمير البلاد! على إنه فيما مسه لقد كان به أرفق الكاتبين

فإن زعمت بعد هذا أنه كانت في الرجل هنة أو كانت فيه هنات، فمن ذا الذي سلم على العيوب كلها، و (كفا المرء نبلاً أن تعد معايبه). وحسب الشيخ علي انه كان بمجموعة مزاياه ومواهبه مفخرة من مفاخر هذه البلاد التي لا يسخو بمثلها الزمان و (إن الزمان بمثله لبخيل)

رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه نخن القادرية قدره، أحسن العزاء

عبد العزيز البشري

ص: 22

‌كيف كنت حلاقاً

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

هل وجهي وجه حلاق؟؟

هذا ما ظللت اسأل المرآة عنه أياماً بعد أن وقع لي ما سأقصه اليوم، والمرآة لا تجيب، وان كنت لا أظن عليها بالإلحاح وطول التحديق، أو لعلها أجابت وأبيت أنا أن اسمع أو اصدق. وقد كففت عن مشاورة المرايا وأسلمت أمري إلى الله وأمر وجهي إلى حسن أدب الذين يرونه وصحيح أني كنت - وما زلت أحياناً - احلق ذقني بيدي، لأني كنت في عنفوان الاضطرام السياسي أخاف أن يوقعني سوء الحظ في يد حلاق سياسي لا يشايعني على رأيي، فيذبحني ويروح يدعي أن قتلي كان خطأ لا عن عمد وسبق إصرار، ولكني بلوت من متاعب الحلاقة ما زهدني فيها فرددت نفسي على مكروهها ولم اعد أبالي ما عسى أن يصنع برقبتي الحلاقون السياسيون. وللذبح أهون من تهمة الجنون. أي نعم فقد شرعت مرة احلق ذقني ولكن حد الموسى كان كليلاً جداً، فجعلت احك به واكحت حتى صار وجهي - أو خدي - الأصفر كالطماطم الناضج ولم اعد احتمل هذا الألم، وفرغ ما في صدري من الهواء من طول النفخ ومن كثرة قولي (اووفففف) فطويت الموسى وقلت أن هذا سلخ لا حلاقة ولست بشاة ثم أني ما زلت حياً ولم اصنع قبيحاً استحق عليه أن اسلخ وجهي بيدي

وارتديت ثيابي ووضعت منديلاً على جانب وجهي الذي سلخته وخرجت التمس دكان حلاق - اقرب دكان - وسرت على بركة الله وفي أملي أن يظن من يراني أن أضراسي توجعني. واهتديت إلى دكان على كثب من البيت، ولكن الحلاق كان مشغولاً فقعدت انتظر وكفي على المنديل فوق خدي وفرغ الحلاق فدعاني فأسرعت إلى الكرسي ورفعت المنديل عن وجهي، وجاء بالفوطة ولف طرفها على عنقي ثم ارتد بغتة ووقف يتأملني وقد قطب وذوى ما بين عينيه فقلت:

(ماذا؟؟ قل ولا تخف!)

قال وهو يهز رأسه: (كلا. لاشيء!)

قلت ملحاً: (بل تكلم. . فأني مستعد للإصغاء. .)

ص: 23

فتكلف الابتسام - اعني انه ابتسم بشفتيه دون عينيه - وراح يجمع أدوات الحلاقة ويعدها ويرصها، وكان في أثناء ذلك يخالسني النظر، فلم يبقى عندي ريب في أن الشك خالجه في صحة عقلي، وما احسبه رأى قبلي رجلاً يدخل عليه ونصف وجهه محلوق والنصف الآخر يطلب الموسى وكأنما حار، ماذا يضع بالنصف الحليق؟ أيجري عليه الموسى؟ أم يدعه ويعني بالنصف الثاني؟ فقد وضع عليه حد الموسى ثم رفعه ووقف متردداً فقلت لأستحثه:

(تفضل. تفضل. . أن هذاأيضاًيحتاج إلى الموسى) فألقى إلي نظرة سريعة واكب على العمل بلا كلام والحلاقون كما يعرف القراء ثرثارون ولكن منظر وجهي كان له وقع عميق في نفس هذا الرجل، فنشف ريقه وعصب لسانه وانقطع أيضا ولم يسؤني هذا ولكني فزعت إذ رأيت يده ترعش فجعلت. أدعو الله في سري أن يلطف بي ويرأف بعيالي ويرحم شبابي

واستجاب الله دعائي لأول مرة. . ولآخر مرة فيما اذكر. . وعلى انه من يدري؟ لعل الرحمة كانت أن يذبحني الحلاق - عفواً أو عمداً - فما تكون للمذبوح عناية بهذه الفروق

واتفق يوماً أني نزلت فندقاً وكان فيه غيري كثيرون كما لا حاجة بي أن أقول وبينهم أجنبي هرم له بنت جميلة وكان هذا الشيخ أحمق حاد الطبع، وبنته على خلافه لينة العريكة سلسة الطباع، ولو إنها كانت حمقاء مثله لشفع لها جمالها فكيف وهي تجمع إلى حسن الوجه دماثة الخلق ورقة الحاشية؟ وعرفتها لأني اصطدمت بها فأوسعتها اعتذاراً فلم يضق بي عفوها، وصرنا بعد ذلك كلما التقينا نتبادل التحية - بالرأس - وكنت ألقاها في اليوم الواحد خمسين مرة فلا ادري أيّنا الذي كان يتعقب صاحبه؟ وفي المرة التاسعة والأربعين من اليوم الأول استطعت أن افتح فمي وأحرك شفتي فقالت مستفسرة:

(نعم؟)

قلت: (لاشيء. اعني أني أردت أن أقول نهارك سعيد)

قالت: (آه! صحيح! نهارك سعيد!)

قلت: (أ. . أ. . الجو اليوم جميل. .)

قالت وهي تضحك بلا داع: (أ. . . نعم. . . جـ. . . جميل. . .)

قلت: (لا خوف من المطر) وعضضت لساني

ص: 24

قالت - وكفت عن الضحك -: (مطر؟ في أغسطس؟ في الإسكندرية؟)

فاضطربت وقلت: (أ. . . اعني. . . اعني أن الجو جميل) فابتسمت ابتسامة خبيثة وقالت: (لقد قلت هذا من قبل. . .)

فحقدت عليها - في سري - وقلت: (صحيح! لقد نسيت! فيا للغباوة! لقد كنت أظنها جملة مبتكرة!)

ولو كنا بقينا خمس دقائق بعد ذلك لحلت عقدة لساني، فقد عاودتني الثقة بنفسي وأيقنت أن العقدة ستحل بعد أن نطقت بآخر كلمة، ولكن أباها - لعنة الله عليه -! آبى إلا أن يقبل في هذه اللحظة وكان وجهها إليه وظهري له فرأته قبلي وقالت:

(هذا أبي) وأشارت إليه

فدرت على عقبي بسرعة، ولم أكد ابصر وجهه حتى استولى عليّ الرعب، فهربت بلا كلام ولا استئذان ولم يكن ثم باب آخر في هذه الناحية اخرج منه ولم أجد أمامي غير (صالون حلاقة)، فدخلته وكان - كما شاء الحظ - خالياً. وشعرت أن بي حاجة إلى منعش بعد الذي أصابني من منظر هذا الشيخ الشرس فتناولت قطرات من (الكولونيا) وشممتها ومسحت بها وجهي وإذا بالرجل يصيح بي:

(ماذا تعني بهذا التلكؤ؟ لقد بعثت إليك منذ نصف ساعة لتوافيني في غرفتي وتحلق لي ذقني! عجل يا بليد!)

وكان من الواجب أن اذهل أو ابهت أو احتج ولكن كرهي له أيقظ حواسي جميعاً فقلت هذه فرصة سنحت للانتقام منه وأسرعت فقلت:

(حالاً. . حالاً. . كم رقم الغرفة من فضلك؟)

قال: (15. .)

ومضى عني فجمعت أدوات الحلاقة ووضعتها في حقيبة صغيرة رأيتها هناك في ركن وخرجت فإذا بالفتاة تدنو مني وتقول:

(ماذا تنوي أن تصنع؟)

فقلت: (احلق ذقن أبيك)

قالت: (حاذر. . . هذه مجازفة)

ص: 25

قلت: (اعرف ذلك وأشكرك، ولكن إلا تثقين بي؟)

قالت: (انك لا تعرف أبي)

قلت: (ثقي انك أنت أيضا لن تعودي تعرفينه!)

قالت: (دع المزاح. . . لم اكن أظن انك طائش إلى هذا الحد)

قلت: (تعالي. . . وانظري)

وتركتها وقصدت إلى السلم وهي ورائي

ولم تكن الفتاة مبالغة حين حذرتني وأنذرتني، فان أباها شيء فظيع وقد اسمعني في خمس دقائق من ألفاظ التعنيف والشتم والقذف والطعن والقدح ما لم اكن أظن انه يوجد في لغات العالم مجتمعة بله في لغتنا العامية التي يعرف اقلها ويجهل اكثرها، ولكني أنا أيضا لم اكن مبالغاً حين أكدت للفتاة إنها لن تعرف أباها بعد أن افرغ من حلاقة ذقنه فقد أرقت نصف رطل على الأقل من دمه الثقيل، ولم أكد أضع الموسى على خده حتى صرخ وصاح بي:

(أنت جزار. . . لا حلاق)

فقلت: (عفواً سيدي أن حد الموسى لم يلمس جلدك)

قال: (لم يلمس جلدي! تقول لم يلمس جلدي يا أعمى! لقد قطع لحمي!)

فطمأنته، فنهرني وزجرني عن الكلام فأجريت الموسى وخرجت بقطعة ثانية من لحمه القديم وماذا اصنع إذا كان جلد وجهه عميق الأخاديد؟ أهذا ذنبي أم ذنبه؟ وقلت له:

(يحسن بك يا سيدي أن تجيء في كل صباح بأربع بيضات أو خمس فتكسرها وتصبها في وعاء وتمزجها بمسحوق الثلج - يعني بودرة الثلج - وتعجن هذا بذاك وتدهن به وجهك وتظل نصف ساعة لا تفتح فمك بكلام ما، ثم تغسل وجهك فإذا واظبت على ذلك شهراً كاملاً عادت إلى وجهك نعومته بأذن الله

فصاح بي (اخرس. أقول لك اخرس)

فقلت (طيب خرست) وواصلت انتقامي. وكنت قد بلغت عنقه فجعلت انظر إلى الفتاة نظرة لا تخفي دلالتها، نظرة طيها الحقد والتصميم على القتل عمداً ومع سبق الإصرار ورفعت يدي بالموسى نحو ذراع وهممت أن أهوى بها على رقبته وإذا بالفتاة تصرخ فارتددت مذهولاً ووثب هو عن الكرسي وذهب يعدو إليها وسألها (مالكِ؟) فلم تجبه وجعلت تشير

ص: 26

إلى وتهيب بي ان (اخرج. اخرج. . .)

فهززت رأسي آسفاً فقد ذهبت الفرصة إلى حيث لا يمكن أن تعود فسألها هو:

(يخرج؟ يخرج كيف؟ ويدعني هكذا) وأشار إلى خده الآخر الذي لم يحلق فقالت:

(انه ليس بحلاق)

قال: (آيه؟ ليس بحلاق!)

ودار فالتفت إليّ فرآني اضحك فطار عقله وتحرك يريد أن يهجم عليّ فتذكرت ما يفعل الذين يقاتلون الثيران في أسبانيا فخطفت الفوطة ألقيتها على وجهه وفررت

وقالت لي الفتاة بعد ذلك:

(لم اكن اعلم انك شرير)

قلت (شرير؟؟)

قالت (نعم. . كدت تقتله وتقتل نفسك)

قلت (أينا كنت تبكين عليه؟)

قالت (لا تكن خبيثاً. . . انه أبي)

قلت (لا اصدق. . .)

قالت (من فضلك. . . لا تذكره بسوء أمامي)

قلت (اعترفي إذا انه. . .)

قالت (لو كنت اعتقد انك ستقتصر على جرح أو جرحين. . .)

قلت (وهل كنت تتوهمين أني يمكن أن اذبحه؟)

قالت (لقد خفت والله. . .)

قلت (يا بلهاء. . . لأجل عين تكرم ألف. . .)

وصرنا صديقين ولكن أباها لا يراني - إلى اليوم - إلا ارتد راجعاً، وحسناً يفعل

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 27

‌نُذُرُ الحرب الجديدة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تشهد معظم العواصم الأوربية منذ اشهر فترة غير عادية من النشاط السياسي؛ وقد تحول هذا النشاط منذ مأساة مرسيليا التي ذهب ضحيتها الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا ومسيو بارتو وزير الخارجية الفرنسية، إلى نوع من الحمى الدبلوماسية وتلوح اليوم في أفق السياسة الأوربية سحب كثيفة تثير الجزع في كثير من العواصم والأمم. ما الذي سيعقب مأساة مرسيليا من الحوادث والتطورات سواء في يوجوسلافيا ذاتها أم في أوربا بصفة عامة؟ وهل يكون السلم في خطر حقيقي؟ وهل نشهد اليوم مقدمات أزمة دولية مستعصية قد تفضي إلى نشوب الحرب؟ هذه الأسئلة الخطيرة تتردد اليوم في جميع دوائر السياسة العليا لا على إنها هواجس واحتمالات بعيدة الوقوع ولكن على إنها فوض حقيقية خطيرة يجب التحوط لها

وقد لوحظ بحق أن للجريمة السياسية شأناً كبيراً في إثارة هذه السحب التي تحلق اليوم في أفق السياسة الأوربية فمنذ اشهر قتل مسيو دوكا رئيس الوزارة الرومانية فترتبت على مقتله صعاب وأزمات ما زالت رومانيا تعاني من أثرها. وفي أواخر يوليه الماضي قتل الهير دولفوس رئيس الحكومة النمساوية في ظروف وحشية فأثار مقتله أزمة سياسية خطيرة لا في النمسا وحدها ولكن في أوربا الوسطى كلها وذهبت إيطاليا في إجراءاتها وتحوطاتها لصون استقلال النمسا من اعتداء ألمانيا وعمالها المأجورين إلى حشد الجنود على حدود النمسا الجنوبية، ولاح شبح الحرب واضحاً مدى حين. ثم كان مقتل الملك اسكندر ومسيو بارتو أخيرا في مرسيليا فبدت الأزمة الأوربية في أروع مظاهرها، وتجددت نذر الخطر وأحاديث الحرب ويخشى المتشائمون أن يكون التاريخ إنما يعيد نفسه وان تكون مأساة مرسيليا قرينة مأساة سيراجيفو ونظيرتها في الظروف والنتائج. والحقيقة أن مؤرخ الحرب الكبرى لا يسعه إلا أن يعتبر مأساة سيراجيفو من أهم العوامل - الظاهرة على الأقل - في إثارة الحرب فقد اتخذت إمبراطورية النمسا والمجر مقتل الأرشيدوق فرنزفردينند وقرينته في سيراجيفو في 28 يونيه سنة 1914 بيد طالب سربي سبباً لاعتبار حكومة سربيا مسئولة عن الجريمة مباشرة ومطالبتها في بلاغ نهائي بمطالب

ص: 28

عدتها سربيا افتئاتاً على سيادتها وشدت ألمانيا أزر النمسا في موقفها ولكن روسيا تدخلت لتعضيد سربيا ضد النمسا باعتبارها حامية الشعوب السلافية. وكانت الأزمة الخطيرة التي أدت إلى وقوع الحرب بعد ذلك بأسابيع قلائل

وإذا لم يكن لجريمة مرسيليا مثل هذه النتائج السريعة الحاسمة فلا ريب إنها زادت الأزمة الأوربية تعقيداً وخطورة، وكانت عاملاً جديداً عميق الأثر في زعزعة السلام الأوربي. وإذا وقعت حرب جديدة في القريب العاجل، فان جريمة مرسيليا تكون بلا ريب بين عواملها الأولى. ومن المعروف أن السياسة الأوربية كلها تقوم اليوم على تهيئة أسباب الهجوم والدفاع في الحرب القادمة، وأنها تأخذ الطابع القديم الذي يوصف في لغة السياسة بالسلم المسلح أو السعي إلى صون السلام بالاستعداد للحرب دائماً. ومثل هذه السياسة تخضع دائماً لأزمات الساعة، لأنها تقوم على الأثرة والقومية المغرقة وليست تحدوها أية مُثل إنسانية أو دولية عامة. وقد وقعت جريمة مرسيليا في وقت تجتمع فيه أوربا في معسكراتها القديمة التي حالت آثار الحرب الكبرى مدى حين دون بعثها وتكونها. والدول التي تسيطر على مصاير السياسة الأوربية اليوم هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا؛ وهي التي تتجاذبها في تكوين المعسكرات الهجومية والدفاعية وفرنسا اشدها سيطرة على الموقف ونفوذاً في تطوراته؛ ومقصد السياسة الفرنسية معروف هو العمل بكل الوسائل لعزل ألمانيا عن باقي الدول الأوربية حتى لا تقوى بالتحالف على مهاجمة فرنسا، وأحاطتها بسياج من الدول الخصيمة المتأثرة بالسياسة الفرنسية حتى تبقى دائماً في موقف الأحجام والضعف؛ وإذا وقعت حرب فان فرنسا تستطيع بمعاونة حلفائها أن تتغلب على ألمانيا. وقد سارت فرنسا في هذه السياسة إلى ما قبل جريمة مرسيليا شوطاً بعيداً، واستطاعت أن تجذب روسيا السوفيتية إلى معسكرها وان توثق سياسة التحالف الروسي الفرنسي القديم بعد أن لبثت روسيا مدى حين بعيدة عن حظيرة الدول الغربية وان تتوج هذا التحالف بالعمل على ضم روسيا إلى عصبة الأمم بعد أن لبثت تخاصمها منذ قيامها. وقد كانت السياسة الألمانية ما قبل الحرب تغالب التحالف الروسي الفرنسي بالتحالف الألماني النمساوي ولكن إمبراطورية النمسا والمجر القديمة قد ذهبت وقامت على أنقاضها دول تخاصم ألمانيا أو تتأثر بالسياسة الفرنسية. والسياسة الفرنسية هي التي خلقت كتلة التحالف الصغير في

ص: 29

أوربا الوسطى من يوجوسلافيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا، وهي التي توجهها في سياستها الأوربية. ولما قامت الحركة الهتلرية في ألمانيا وظهرت ألمانيا في صورة المهدد لفرنسا والمهدد للسلام الأوربي ضاعفت فرنسا جهودها في توثيق التحالف بينها وبين روسيا ودول التحالف الصغير خصوصاً بعد أن شعرت أن بولونيا قد أخذت تتحرر من نفوذها وتتجه نحو ألمانيا. وكان من أهم أغراضها أن تجذب يوجوسلافيا بصورة نهائية إلى جانب السياسة الفرنسية لأنها شعرت أن السياسة الألمانية قد أخذت تتجه نحو يوجوسلافيا وتحاول كسبها بوسائل شتى. ولكن فرنسا رأت من جهة أخرى أن هذا التحالف لا يحقق الغاية المنشودة إلا إذا آزرته إيطاليا. وبين إيطاليا ويوجوسلافيا خصومة قديمة فيجب أن تذلل قبل كل شيء

لهذا كانت رحلة مسيو بارتو إلى يوجوسلافيا وكانت رحلة الملك اسكندر إلى فرنسا وكان المقرر أن تكون مفاوضات الملك اسكندر مع الحكومة الفرنسية تمهيداً لمفاوضات فرنسية إيطالية تجرى في روما وتسوى فيها جميع المسائل والخصومات القائمة بين إيطاليا ويوجوسلافيا من جهة وبين فرنسا وإيطاليا من جهة أخرى وكان الأفق مناسباً لتحقيق هذا البرنامج، لأن إيطاليا كانت قد بدأت في الآونة الأخيرة تتباعد عن ألمانيا على آثر حوادث النمسا التي انتهت بمقتل الهير دلفوس وافتضاح نيات ألمانيا ومشاريعها نحو الاعتداء على النمسا؛ وتم الشطر الأول من هذا البرنامج بالمفاوضات التي وقعت في بلغراد بين فرنسا ويوجوسلافيا ولكن الشطر الآخر لم يتحقق لأن الملك اسكندر ما كاد يطأ ارض فرنسا حتى سقط قتيلاً برصاص الوطنيين الكرواتيين وسقط إلى جانبه مسيو بارتو؛ وأخرت هذه المأساة مشاريع السياسة الفرنسية؛ إلى حين؛ وأودت بمشاريع حكومة بلغراد وبعثت إلى أفق السياسة الأوربية ولا سيما أوربا الوسطى، ريباً وهواجس جديدة وأثارت صيحة الحرب مرة أخرى والواقع أن مقتل الملك اسكندر كان ضربة شديدة ليوجوسلافيا؛ وقد بينا في مقال سابق كيف أن تكوين يوجوسلافيا الجديدة من عناصر متنافرة خصيمة يعرض وحدتها للتمزق دائماً وكيف أن هذه الوحدة تقوم على أسس مصطنعة في ظل طغيان حديدي كان الملك اسكندر عماده وقائده، فالآن يحدق الخطر بهذه الوحدة المغصوبة وتقف حكومة بلغراد حائرة متوجسة من المستقبل القريب؛ وتقف إيطاليا أيضا مترددة تسبر غور

ص: 30

الاحتمالات الجديدة. هل تستمر في الإصغاء إلى عرض السياسة الفرنسية فتهادن يوجوسلافيا وتحالفها وتدخل في حظيرة هذا التحالف الذي يجمع دول الاتفاق الصغير وروسيا إلى جانب فرنسا؟ ومما يزيد في تردد إيطاليا ما تحاوله ألمانيا لديها الآن من تحويلها عن ذلك الطريق، وإعلان استعدادها لضمان استقلال النمسا وتسوية المسائل الأخرى التي تهم إيطاليا بيد أن السنيور موسوليني يقف الآن وقفة المنتظر ليرى أولاً ما يمكن أن تحدثه آثار جريمة مرسيليا في شئون يوجوسلافيا الداخلية وهل يوجد ثمة ما يحمل على الاعتقاد بقرب تفكك هذه الكتلة السلافية الخطرة التي خلفتها معاهدة الصلح، والتي تنازع إيطاليا سيادتها في بحر الأدرياتيك وتهدد نفوذها في البلقان وأواسط أوربا وهل تقوم في يوجوسلافيا حركة انفصالية يقوم بها العنصر الكرواتي خصيم العنصر السربي الذي يستأثر بالسلطة في يوجوسلافيا ويضطهد العناصر الأخرى؟ فإذا آنس موسوليني شيئاً من هذه البوادر فقد يفضل أن يستبقي حريته في العمل؛ مدى حين وعندئذ تعمل إيطاليا من جانبها على تشجيع العناصر الانفصالية في يوجوسلافيا حتى يتم تفكك هذه الكتلة السلافية وتستطيع إيطاليا أن تتجه ببصرها نحو دلماتيا التي تطمح إلى امتلاكها، وعندئذ ينهار التحالف الصغير وأيضاً وينفتح أمامها مجال العمل في أوربا الوسطى على أن فرنسا تعمل من جهة أخرى بكل ما وسعت لتحقيق التفاهم والتحالف مع إيطاليا. وهي على أهبة لأن تضحي في هذا السبيل ببذل بعض المطالب التي تطمح إيطاليا إلى تحقيقها. وما تعرضه فرنسا على إيطاليا ينحصر فيما يأتي:(1) تعديل الحدود الطرابلسية من جهة تونس والتجاوز لإيطاليا عن بعض المناطق المتاخمة لبرقة (2) عدم مقاومة التوسع الإيطالي في طرابلس من جهة الجنوب في اتجاه بحيرة تشاد (3) عدم مقاومة مشاريع إيطاليا وأطماعها في الحبشة (4) تسوية مسألة الرعايا الإيطاليين في تونس ومنحهم بعض الحقوق والمزايا الخاصة؛ فهذه عروض ومزايا لا تستطيع إيطاليا أن تأبى قبولها خصوصاً إذا علمنا أن التوسع الاستعماري قد غدا من اعظم أهداف السياسة الفاشستية. وعلى أي حال فان برنامج السياسة الفرنسية لم يتغير بمقتل مسيو بارتو وقد أعلن مسيو لافال وزير الخارجية الجديد انه سيعمل لإتمام ما بدأ به سلفه؛ وسوف يقوم بزيارة روما كما كان مقرراً من قبل للمفاوضة في تحقيق البرنامج المرسوم

ص: 31

هذه هي خلاصة العوامل التي تسيطر الآن على مجرى السياسة الأوربية. والظاهرة الجوهرية التي تبدو خلال ذلك كله هي اشتداد التنافس في أحياء المعسكرات الأوربية القديمة وإنشاء الكتل الهجومية الدفاعية التقليدية. لماذا؟ استعداداً لحرب تلوح في الأفق. وما زالت فرنسا هي المتفوقة في هذا الميدان ولكن ألمانيا تعمل أيضا، رغم عزلتها السياسية على إنشاء معسكرها وحشد حلفائها. وقد ظفرت أخيراً بكسب بولونيا وسلخها عن كتلة الدول المتأثرة بالسياسة الفرنسية وأحداث أول ثغرة بذلك في المعسكر الفرنسي ولم تعبأ ألمانيا بفداحة الثمن الذي دفعته لتحقيق هذه الغاية وهو التسليم بالممر البولوني الذي يشق أراضيها إلى البحر. ومازالت ألمانيا تتمتع بشئ من العطف في المجر ويوجوسلافيا لأنها تشتري محاصيل البلدين. ولكن ذلك لا يمكن أن يعوض عليها خسارتها الفادحة بفقد معاونة روسيا ومحالفتها؛ وقد كان إغضاب روسيا وفقدها من اعظم أخطاء ألمانيا الهتلرية خصوصاً وان روسيا لم تتحول عن ألمانيا إلا لكي تتفاهم وتتحالف مع فرنسا ألد واخطر خصومها وروسيا السوفيتية قوة لا يستهان بها

وقد يكون من المبالغة أن يقال أننا الآن على أبواب حرب قريبة ولكن ليس من المبالغة أن نقول أننا نشهد الآن نذر الحرب القادمة ومقدماتها. ومتى هذه الحرب؟ قد تقع بعد اشهر وربما بعد أسابيع إذا تطورت الحوادث في يوجوسلافيا فجأة وافلت زمام الموقف من يد حكومة بلغراد؛ وقد لا تقع إلا بعد عامين أو أعوام قلائل إذا بذلت جهود صادقة لاتقائها أو لتأخيرها. وعلى أي حال فليس مبالغة أن نقول أننا نشهد الآن من تطورات السياسة الأوربية أقربها أشبهها بتلك المرحلة التي تقدمت الحرب الكبرى وبلغت ذروة خطورتها في صيف سنة 1914. والواقع أن أسباب الأزمة الأوربية الكبرى تجتمع وتتفاقم منذ عامين؛ وأهمها بلا ريب لخفاق مشروع نزع السلاح، والفشل الذريع الذي لقيته عصبة الأمم في حل مختلف المشاكل الدولية؛ وانهيار سياسة التفاهم الدولي والتحكيم التي بلغت ذروتها بعقد ميثاق تحريم الحرب، ولم يلبث أن ظهر عقمها من الوجهة العملية ثم قيام الحركة الهتلرية في ألمانيا وما جنحت إليه من سبل العنف والوعيد، وما أثارته في فرنسا من هواجس ومخاوف جديدة. بيد أن هذه الأسباب كلها ترجع إلى اصل واحد، هو معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) التي لم يراع في وضعها سوى تحقيق شهوات الظافرين واطماعهم، ولم

ص: 32

يقصد بها إلى وضع أي سلام شريف دائم، ولكن أريد بها تحطيم قوى الأمم المغلوبة وتمزيق وحداتها القومية دون مراعاة الحدود الجغرافية ووحدة العناصر وتراث التاريخ، فجاءت كالبركان الصامت يضطرم في خفاء ولكن تسري ناره تحت الهشيم وغدت اعظم عامل في إثارة الأحقاد والأطماع القومية، وخلقت مشاكل الحدود والأقليات الشائكة في طول أوربا وعرضها ومهدت إلى هذه الأزمة الشاملة التي تهب ريحها اليوم على أوربا منذرة بشر العواقب وكما أن الأزمة الدولية الكبرى التي اجتمعت أسبابها قبيل الحرب قد لقيت نذير انفجارها في مأساة سيراجيفو، فكذلك تلقى الأزمة الدولية الحاضرة نذيراً خطراً في مأساة مرسيليا، وإذا كانت الحكومة النمسا الإمبراطورية قد رأت يومئذ أن تحمل الحكومة السربية تبعات هذه الجريمة الرائعة، وان ترتب عليها من المطالب الفادحة ما ثارت له روسيا وعجل بوقوع الكارثة، فكذلك ترى حكومة بلغراد أن تحمل الحكومة المجرية تبعة جريمة مرسيليا، إنها تأوي في أرضها عدداً كبيراً من اللاجئين الكرواتيين، وتتقدم إليها بمطالب ترى فيها افتئاتاً على سيادتها؛ وقد يكون ثمة فارق بين وقع الجريمتين في سير الأزمة الأوربية، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن جريمة مرسيليا من اخطر العوامل في تفاقمها. فسلام أوربا وربما سلام العالم في خطر لا ريب فيه، وذا تركت الأمور في مجراها الحاضر ولبثت الأحقاد والأطماع القومية على حالها مطلقة العنان، وإذا لم تتضافر القوى النزيهة المخلصة لقضية السلام وتقف سداً منيعاً في وجه هذا التيار الخطر فسوف نشهد في القريب العاجل انفجار البركان المروع مرة أخرى.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 33

‌عودة.

. .

بقلم جورج وغريس

(امرأة هجرها زوجها منذ امد بعيد فعاشت وحيدة مع طفلها إلى أن قضت نحبها، فذرفت عيني دمعاً التأمت قطراته في كلمات قرأها الزوج الهارب في العدد الحادي والستين من (الرسالة) ثم جاءني يسعى. . .)

في سكون الليل الرهيب طرق باب منزلي، فلما أن فتحته وجدت أمامي شخصاً لم أتبينه

قلت: من؟

قال: ألا تعرفني؟

قلت: معذرة. . فمن طبيعة الإنسان أن ينسى، ومن صفات الليل أن يسكب لوناً غير لونها

قال: صديق قديم

قلت: (مرحباً). . ثم أخذت بيده إلى غرفة الاستقبال وتحت ضوء المصباح رأيت أمامي رجلاً في الحلقة الرابعة من عمره، ترتسم الكآبة على وجهه الشاحب ويظهر عدم الاكتراث على لباسه غير المنتظم ورباط رقبته الذي يتدلى على قميصه كالخرقة البالية. . . قلبت بصري في زائري الكريم ولكنني لم اذكر تلك الصداقة القديمة التي كانت تربطني به، لذا أحسست في نفسي بشيء من الريبة والخوف. وقبل أن أقول شيئاً أو ابدي حركة اعتدل ضيفي في جلسته ثم قال:

- أماتت حقيقة. . .؟

قلت: من؟

قال: زوجتي

قلت: ماذا تعني؟ أنت اعلم بحالها، أما أنا فلا أدرك ما تقصد ولا ادري من أمرك شيئاً

قال: بل انك تدري كل شيء ولكنك تريد أن تجهلني وتجهل كل شيء وبالأمس أخرجت للناس صورتي مشوهة ممسوخة، أملاها عليك خيالك الحاقد وأعصابك الثائرة، فقد قرأت في (الرسالة). . . . . .

قلت منتفضاً: أأنت فلان. . .؟

قال: نعم

ص: 34

قلت: معذرة. . . لقد غيرت الأيام من سحنتك وبدل الزمان من هيئتك، حتى أضحيت شخصاً غير الذي كنت اعرفه أتدري ما فعل الخريف في الشجرة المورقة الفينانة؟ أتعلم ما ينتابها من تساقط أوراقها وتراجع أغصانها وتقلص ظلالها. . .؟ أن ما يصيبها يا صديقي في تلك الآونة لأهون والله مم أصابك في خريف حياتك، ولئن كان لتلك الشجرة ربيع تستعيد فيه ما فاتها وتسترجع فيه أسباب الحياة، فهيهات أن تجد لنفسك ربيعاً يبدل من حالك بعد هذا الجدب الذي أصابها. وحسب الأيام منك الآن إنها ستقف عند الحد الذي وقفت عنده فلا هي بدافعة بك إلى الأمام لأن النمو من خصائص الطبائع الحية، ولا هي بقاذفة بك إلى الخلف لأنك في قرار الهوة. . . ولطالما مدت إليك حبال النجدة وقد فتلت من خيوط الرحمة والعطف والصفح والمروءة. ولكنك أبيت إلا أن تقطعها بأسنة الجمود والنكران والرياء والختل، فربطت مصيرين بمصيرك وقتلت نفسين وأسأت إلى نفسك

قال: مهلاً، فقد بدأتني قبل أن أبدأك، وأوغلت في القول وما تركت جارحة إلا وأرسلتها تنهش في نفسي واراني قد جئت لأغسل إهانة فأتبعتها بأخرى وأتيت لأرد سهماً فأصابتني منك سهام ولا ادري من سبب يجعلك مني في هذا الموقف العنيد سوى انك كنت تنظر بعين واحدة في قصتي وتسمع بأذن واحدة. وليس ببعيد على المرأة التي تدفع العالم بيدها الرقيقة دفعاً شديداً في غير رفق ولا هوادة أن تكون قد سكبت سمومها في نفسك فجعلت منك نصيراً لقضيتها، وهي إذ تكسبك إلى جانبها تدفعك في الواقع عن طريقها

لقد خلصت زوجتي من براثن أبيها ولكنها منذ اللحظة الأولى وهي تريد أن يصرع رأيها رأيي وان تقف رغبتها دون رغبتي، فإذا قلت قولاً أبدت نقيضه وإذا أديت فعلاً امتعضت منه، كأن الله قد جعل القبح من نصيبي في القول والفعل، أو كأنه وضع كل الجمال بين شفتيها وعلى أطراف أناملها ليكون غلافاً حسناً لكل ما تقوله أو تعمله. . . . . . أردت لها الحجاب فأعلنت السفور وأخذت عليها العناد فأنكرت عليّ هذا الحق وأحببت أن تكون كما أريد فشاءت أن تكون كما تحب. وكان لي صديق احبه واعزه ويزورني في منزلي وأتردد عليه في داره فوشت لي به وفي سورة الغضب كدت اقتله ولولا قرائن في براءته وحزم في تفكيري لكان هذا الصديق اليوم وديعة القبور وكنت أنا نزيل السجون. . . كان من اثر كل هذا أن أحسست بآمالي ترتطم بصخرة قاسية وشعرت بالأفق العريض تضيق دائرته

ص: 35

شيئاً فشيئاً، حتى أوشك أن يجعل لي من هذه الحياة قفصاً لا حيلة لي في رد عائلته. . . فماذا كنت تريدني أن افعل يا صديقي وهذه الأسباب قد أجمعت علىّ أمرها فغلبتني على أمري. .؟ لقد وليت هارباً، ولكن ضميري ظل يضايقني باحتباسه حتى أفرجت عنه بكأس الخمر. . تلك الكأس التي أحرقت همومي أحرقتني، وأذابت ضميري وكبدي وسلبتني ولم تعطني. . . أليست تلك النار من الشعلة التي أسلمتها الشياطين ليد المرأة. .؟ انك تقدر المرأة لأنك غريب عنها ولكن اعلم يا صديقي إنها منذ القدم آلة فساد وعنصر تقلب، وأداة رياء، وكل ما في الحياة من شر إنما هو بسمة خادعة انفرجت عنها شفتا امرأة، وهذا المصير المحزن الذي انحدرت إلى أعماقه، إنما يرجع إلى تلك المرأة التي أحببتها فكرهت لي الحياة، وغمرتها بفضلي فرفعت رأسها كالحية الرقطاء. . . مرت الأيام كالأشباح الهزيلة، وأنا أهيم على وجهي إلى أن شاءت الأقدار أن تدفع إلى يدي صحيفة (الرسالة) فقرأت عن المرأة التي هجرها زوجها فماتت كظيمة الحزن دفينة الألم، وبقي طفلها على صدرها يبكي وينتحب ورأيت طرفاً من قصتي يختبئ بين سطور تلك القصة وما أن وصلت في القراءة إلى اسمك في ذيل المقال، حتى ذهب عني الشك وتذكرت جاري القديم وأخذت عليه اندفاعه في الكتابة دون تبصر أو روية. . . وها أنا قد سعيت إليك بعد أسابيع بعث الله لي فيها من تولي الدفاع عني، فقد قرأت بجوار قصتك ما كتبه الرافعي في (تربية لؤلؤية) وتابعت ما وصف به المرأة فيما تلا ذلك من أعداد فسررت أن رأيت المرأة تدفع دفعاً إلى المكان الخليق بها. . .

قلت: يشاء الجمود أن يجعل في نفسك طبيعة صخرية حتى أمام جلال الموت وتشاء تلك الطبيعة الصلدة أن تنبش قبور الراقدين في غير رحمة ولاشفقة، فزوجتك التي لفحت وجهي بأنفاسها المحترقة وهي تعاني عذاب الموت، والتي ظلت تردد اسمك إلى أن لفظت روحها تلك الزوجة المسكينة المنكودة يأبى عليها القدر القاسي أن تفوز منك وهي تحت أطباق الثرى إلا بوابل السخط واللعنة تصبه على جدث هامد لا يملك رد غائلة، ولا يقوى على دفع نازلة وهذا لعمري عداء ضاعت منه صفة الشرف. . . والمرأة مذ خلقت وهي تعاني شر هذا العداء لا لشيء سوى أن الرجل يميل بطبيعته إلى جنسه وتدفعه الأثرة إلى أن يسود نفسه ويعظم من شأنه ويحقر من أمر تلك المخلوقة التي جاءت تنازعه البقاء، فهو

ص: 36

في عصوره الأولى كان يبعث بالمرأة طعاماً للآلهة وهو في الجاهلية كان يئد مولودته ولا يعترف لها بالحياة، وفي اليابان كان الرجل يدفع بابنته إلى أمكنة الفجور خرقة يمسح بها الرجال شهوتهم حتى تسد ديون أبيها وفي الصين كان الرجل إذا ما ولد له غلام ذكر يفرح ويتهلل أما إذا كان المولود أنثى قال مكتئباً:(لقد سقط حجر من سقف منزلي. . .)، حتى في عهود المدنية وفي مواطن الحضارة يدفع ظلم الرجل المرأة إلى ما يسمونه (الرقيق الأبيض) وهو اللطخة الدامية في الجبين الناصع وفي مصر وبلاد الشرق لا تفوز الزوجة غالباً من زوجها إلا بما تفوز به الخادم من سيدها. فهل رأيت حالة كريهة كالتي تعانيها المرأة منذ ولادتها حتى يحويها الرمس. . .؟ وأي الأمراض انفردت بها المرأة عن الرجل حتى استحقت منه هذا الجزاء. . .؟ أليست كل امرأة ابنة لرجل وزوجة لرجل وأما لرجل. . تأخذ الخلق عن أبيها وتهديه إلى زوجها وترضعه لطفلها. . .؟ فإذا فسدت المرأة أليس هذا الفساد أثراً من تهاون أبيها في تربتها. . .؟ وإذا ضلت المرأة أليس من بين الرجال من هم اشد منها ضلالاً واقبح رذيلة. . .؟ ولئن جاز للرجل أن يقول في كل ما ينتابه من مصائب:(فتش عن المرأة) إلا يجوز للمرأة أن تقول في كل ما يلحقها من أذى: (فتش عن الرجل). . .؟

واعجب العجب قولك أن الأستاذ الرافعي يدافع عنك فيما كتبه ويكتبه، وهذا لا يمكن أن يقع لأنه إنما يكتب عن عقيدته الخاصة في المرأة. ومهما فاض (السحاب الأحمر) بما توحيه إليه تلك العقيدة، ومهما جاء في كتاباته في (الرسالة) عن الحجاب والسفور فهو لا يوافقك على تلك اللطمة القاسية التي صفعت بها خد المرأة. والحجاب الذي ينادى الرافعي به في (تربية لؤلؤية) لا يمكنه أن يعيش طويلاً بعد تلك النظرة الساخرة التي ترسلها إليه مدنية القرن الحاضر، ولا ادري ولا أحد يدري ما ضر المرأة الفاضلة أن خرجت سافرة أو ما نفع المرأة الفاسقة أن قمدت متحجبة. .؟ وأي الرذيلتين اشد ضرراً، تلك التي تستتر خلف الجدار كالداء الذي يختبئ في قلب العليل لا يدركه ولا يتداركه، ام تلك التي تتكشف سافرة ويبين قبحها كالمرض الذي يظهر على صفحة الجسم، ما تلمحه العين حتى يلحقه العلاج. .؟

للمرأة عقل كما للرجل، وكذب من الصق بها العاطفة دون العقل، وألا ما حلقت في سماء

ص: 37

العظمة أسماء جان دارك ومدام كوري وايمي جونسون. لما حكم النساء بجوار الرجال في اكبر الدول شأناً وارفعها مكاناً. فحرام أن يأخذ الرجل من كبريائه صدأ يغشى به عقل المرأة ليغرب خيالها عن ميدانه وكفى ما نعانيه لغيابها عنه من ركود في المجتمع، وشذوذ في العلائق، وخشونة في الحديث. وعقم في التفكير حتى أصبحنا أضحوكة الغرب إذ إننا نسخر من لهوه، ولا يأتي جدنا بجديد. . .

قال: يصعب على من تلدغه الحية أن يشعر نحوها بدافع من الرحمة أو العطف، وإذا صح لي أن أوافقك على بعض ما ذكرت عن المرأة فالسفور ابعد ما يكون عن تأييدي، وليكن لك فيه رأيك، ولكن دعني اكن على دين (الرسالة)

قلت: وما دين (الرسالة). . .؟

قال: الحجاب. . .

قلت: وكيف حكمت؟

قال: إلا تعلم أن مبدأ الصحيفة إنما يشتق من مبدأ كتابها، فعقيدتها هي عقيدتهم ورأيها هو رأيهم الذي ينادون به على صفحاتها. . .؟

قلت: هذا في السياسة أما في الأدب والاجتماع فمظهر النشاط فيهما هو تضارب الفكر واختلاف الرأي، والرسالة لا يمكن أن تنادي بالحجاب، ولكنها مع ذلك ميدان حر لأقلام الكتاب على اختلاف نزعاتهم. وإن كنت قد قرأت فيها للرافعي وصفه للحجاب انه (كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة ولكن تربيها في الحجاب تربية لؤلؤية)، وقوله عن قاسم أمين انه (قد تكلف ما لا يحسن) فأغلب الظن انك لم تقرأ ما كتبه الزيات صاحب (الرسالة) عن المرأة والحجاب وهو يخالف الرافعي فيهما خلافاً بيناً؛ ففي العدد السابع من (الرسالة) تراه وهو يكتب عن شواهده (في العيد) يستنكر هذا الفتور الذي تقابل به أعيادنا في مصر والشرق، ويعزو ذلك إلى غيبة المرأة عن المجتمع وهو في ذلك يقول:(كرهنا الدور لاحتجاب المرأة، وهجرنا الأندية لغياب المرأة وسئمنا الملاهي لبعد المرأة وأصبحنا كالسمك في الماء أو الهباء في الهواء، نحيا حياة الهوام والتشرد، فلا نطمئن إلى مجلس ولا نستأنس لحديث) ولما أن همس الهامسون لما جاء في هذا المقال عاد الزيات في العدد التاسع إلى بسط رأيه ذاكراً أن (صلة الحجاب بالدين قد فرغ من توهينها العلماء من أمد

ص: 38

طويل) وان مجتمعنا لغياب المرأة (اعرج لأنه يمشي على رجل واحدة، أشل لأنه يعمل بيد واحدة، بليد لأن حدة العواطف تنقصه، خشن لأن لطافة الأنوثة تعوزه) فهل بعد هذا تعتبر (الرسالة) نصيرة الحجاب. .؟ انك تريد أن تنتزع العطف على قضيتك من كلمات كتبها الرافعي وهي في الحقيقة لا تنفعك، وهو لو علم أن دعوته تصادف هوى في نفوس أمثالك لتحول عنها، وكان أول من ينادي بالسفور لم يحرك شفتيه بكلمة، وكان جوابه ناطقاً في عينين ساهمتين، ورأس يهتز باستخفاف، فتركته ينصرف وبه ما به من جمود وأويت إلى فراشي وبي عجب من نفس لو حادثتها حتى تشرق الشمس مرة ثم مرة فما هي بنازلة عما هي فيه من غروب وأفول.

إسكندرية

جورج وغريس

ص: 39

‌خالد بن الوليد في حروب الردة

للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي

(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)

خال بن الوليد

نسبة القبائل: من المفيد أن نذكر نسبة القبائل وقرابة بعضها

لبعض. اكثر القبائل التي ارتدت عدنانية تنتسب إلى مضر

ماعدا قبيلة بني حنيفة فهي من ربيعة

والقبائل العدنانية تنسب إلى شعبين كبيرين وهما: مضر وربيعة

وشعب مضر ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية فالقسم الأول: قيس، ومنها غطفان وهوازن وسليم، والى غطفان تنسب فزارة وعبس وذبيان، وإلى هوازن تنسب ثقيف

والقسم الثاني قبيلة طابخة، واليها ينتسب بنو تميم، والقسم الثالث مدركة، واليها ينتسب بنو أسد، ومنها كنانة، واليها تنتسب قريش

أما شعب ربيعة فاشتهرت منه القبائل الآتية: عنترة وعبد قيس وبكر وتغلب وبنو حنيفة وينتسبون إلى بكر بن وائل

الموقف قبل الحركات:

التقت فلول غطفان بن فزارة وعبس وذبيان بطليحة بعد انهزامها في ذي القصة والربذة، واجتمعت مع بني أسد في بزاخة. وقد مال إليهم فرقتان من طيء وهما جديلة وغوث على ما ذكرناه سابقاً، ولم تترك هاتان الفرقتان حيهما، بل اجتمعتا في أكناف جبل سلمى، اعني بالقرب من موقع طابه في الجنوب الغربي من فيد

أما الباقي من بني طيء فظل على الحياد بسعي عدي بن حاتم.

وأما قبائل بني عامر بن صعصعة وهي في الشمال الشرقي من جبل شمر فكانت تراقب مجرى القتال، وتنتظر عاقبة المعركة لترى رأيها بعد ذلك

ص: 40

أما بنو تميم فلم يوحدوا كلمتهم، بل كانوا منقسمين على بعضهم. وبينما كانت القبائل المرتدة على هذا النحو من تفرق الشمل واختلاف المقصد، كان خالد بن الوليد على رأس جيش متجانس صقلته الغزوات والحروب وحنكته التجارب، متأهباً للحركة عند أول أمر يصدره قائده

وكان هذا الجيش قليل العدد، غير إن كفاية قائده ضمنت له الفوز. وكلما أحرز فوزاً ازدادت قوته بانضمام المحايدين إليه، لأن الغلبة كانت تأتى لهم، وقد تم ذلك فعلاً. ويزعم بعض المؤرخين إن قوة جيش خالد كانت تبلغ ثلاثة آلاف مقاتل حين تقدم نحو طليحة. فلما تقدم نحو مسيلمة أصبحت عشرين ألفاً

الحركات:

يقول ابن حبيش نقلاً عن الواقدي إن جيش خالد بدأ بالحركات من ذي القصة في اليوم السابع والعشرين من الشهر، وهذا الشهر، أما جمادي الآخرة وأما رجب. لأن الرسول توفي في شهر ربيع الأول، وان جيش أسامة قضى في حملته شهرين، واجل حركته في الجرف مدة من الزمن، والمعلوم أن معظم قوة أسامة الفت جيش خالد فتكون المدة التي انقضت من وفاة الرسول إلى حين حركة خالد من ذي القصة ثلاثة اشهر على اقل تقدير

فزمن الحركة أما أن يقع في منتصف شهر سبتمبر وأما في منتصف شهر أكتوبر من سنة 632 ب. م

واستعرض أبو بكر جيش المسلمين في ذي القصة وخطب في رجاله وأبان لهم الطريقة المثلى التي يجب أن يسيروا عليها،

ولفت نظر خالد إلى خطورة الاستطلاع، واخذ الحيطة عند الهجوم على أهل اليمامة، وان يجرى الحركات على التعاقب، فلا يبدأ بحركة ما لم يظفر بالتي سبقتها وان يستعمل الرمح في مكافحة الرمح، والسيف في مكافحة السيف، ثم طلب منه مراعاة المهاجرين والأنصار والرفق بمن معه

وكانت قوة الجيش تتفاوت بين أربعة آلاف وخمسة آلاف، وكان عدد الأنصار منه يربى على الخمسمائة. وكانت قوة جيش طليحة في بزاخة تزيد على خمسة آلاف، ومعظمها من بني أسد والباقي من غطفان، وكان عيينة بن حصن على رأس هذا الباقي.

ص: 41

وكانت فرقتنا جديلة وغوث من طيء في أكناف جبل سلمى متأهبتين للالتحاق بطليحة في بزاخة، وتبلغ قوتهما زهاء ألف مقاتل. وكان بنو تميم على ما نعلم مشغولاً بعضهم ببعض، فمنهم من التحق بسجاح ومنهم من خالفها. أما بنو حنيفة فكانوا في ديارهم باليمامة معتصمين بجبالهم ومعتزين بنبيهم مسيلمة يراقبون الحوادث في نجد

خطة خالد بن الوليد

إن الطريق الأقصر الذي ينتهي بجيش المسلمين إلى بزاخة هو الطريق الذي يخترق وادي الرمة. وبزاخة واقعة في المنطقة حيث تكون أحياء طيء وأسد قد قرب بعضها من بعض فكل حركة من ذي القصة على هذا الطريق الأقصر تشجع قبائل طيء على الالتحاق بطليحة في بزاخة. ومن عادة القبائل انه إذا لم يهدد الخطر حيها تواً تتركه وتسرع إلى نجدة الأحياء الأخرى متى أغار عليها الأعداء

كذلك درس خالد الموقف وقرر أن يسلك طريقاً يهدد به بلاد طيء، فأما أن يلجأ أهلها إلى الحياد وأما أن يستميلهم إلى جانبه، وإذا ما تقدم رأساً نحو بزاخة يكون قد ترك بلاد طيء إلى جانبه الأيمن وخاطر بالهجوم على بزاخة أما إذا ضمن حياد طئ أو استمالهم إلى جانبه فيكون قد هيأ أسباب الفوز على طليحة

والأخبار تدل على أن خالداً صارح أبا بكر بخطته هذه في ذي القصة فأقرها أبو بكر وسبق أن قال لخالد: (اعلم انك إذا قاتلت اسداً وغطفان فان رجالاً منهم معك ينتظرون النصر وإذا ما رأوه حليفك كانوا معك على عدوك)

ولكي يجعل العدو يقنع بأن المسلمين قاصدون بلاد طيء قبل بزاخة يقول ابن الكلبي إن أبا بكر أمر خالداً أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن وهما على بزاخة، واظهر أنه ملاق خالداً بمن معه من نحو خيبر مكيدة وقد أرعب مع خالد الناس، ولكنه أراد أن يبلغ ذلك العدو فيرعبه ثم رجع أبو بكر إلى المدينة

ثم هناك خبر آخر مفاده أن أبا بكر أمر خالداً أن يبدأ بطيء على الاكناف، ثم يكون وجهه إلى بزاخة ثم يثلث بالبطاح (بني تميم) واظهر انه خارج إلى خيبر منصب عليه منها حتى يلاقي خالداً بالأكناف، اكناف سلمى، فخرج خالد فازورعن بزاخة وجنح إلى أجأ واظهر انه خارج إلى خيبر ثم منصب على طيء

ص: 42

فهذه الأخبار تريك الخطة بوضوح إن بلاد طيء جبلية وفيها سلستان وعرتان ممتدتان على موازاة خط الحركات بين المدينة وبلاد بني أسد، وسلسلة سلمى وجبل رمان في الجنوب، وسلسلة أجأ في الشمال. والأكناف الواردة في الجنوب المذكورة هي أكناف هذه الجبال. أما أهل البلاد فمنهم من تأهب لمعونة طليحة ومنهم من بقي في أرضه يتربص وكان اعظم رئيس في القسم الأخير عدى بن حاتم مع قبائل طيء ومن الأخبار ما يؤيد أن أبا بكر بعث عدياً إلى طيء قبل حركة خالد ليدركهم

والواضح أن خالداً بخطته هذه أراد أن يسهل خطة عدي بن حاتم وان إشاعة أبي بكر في الجيش مشيره نحو خيبر يقصد الحركة نحو بلاد طيء، مما يجعل القسم المتحفز لمعونة طليحة من طيء يرجع إلى أرضه للدفاع عنها أو للبقاء على الحياد مع الباقين من طيء

والحقيقة أنها خطة ناجحة تدل على بعد نظر خالد في قيادة الجيش. والخطة تجمع بين الناحية السياسية والناحية العسكرية. وكان عيينة بن حصن الفزاري رئيس بني فزارة كما سبق يسعى لإعادة الحلف الجاهلي بين بني أسد وبني غطفان وطئ محرضاً جماعته على ذلك بقوله (والله لئن نتبع نبياً من الحلفين احب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش)

وإذا ما تم هذا الحلف يكون أمام المسلمين قوة كبيرة يصعب التغلب عليها وينحصر التدبير السياسي في إيفاد أحد رؤساء طيء البارزين لإقناع القبائل بأن يتركوا جانب طليحة ويميلوا إلى جانب المسلمين ولتسهيل هذه المهمة والقيام بحركة إغفال بالتظاهر بالهجوم على بلاد طيء

وكان التدبير العسكري يرمى إلى فصل طيء عن بني أسد وغطفان والهجوم بعد ذلك على قواتهم فتناولت الخطة إذن الأمور التالية: -

1 -

القيام بحركة إغفال من المدينة في اتجاه خيبر بقصد إقناع طيء أن المسلمين متوجهون نحو بلادهم

2 -

تقدم جيش خالد على الطريق الأقصر نحو بزاخة لتظل قوات طليحة في محلها حتى لا تساعد طيئاً

3 -

ترك هدف بزاخة في منتصف الطريق والانعطاف نحو بلاد طيء لإرغام قبائل طيء على الالتحاق بالمسلمين قبل أن ينجدها طليحة

ص: 43

4 -

بعد الوثوق من التجاء (دخالة) طيء والاستفادة من

قواتهم، التقدم بجميع القوات نحو بزاخة لضرب جيش طليحة

الحركة:

وبعد عودة أبي بكر إلى المدينة وإشاعة خبر مسيره من المدينة بالباقي من المسلمين نحو خيبر نظم خالد قواته وجعل على كل قسم منها قائداً، وكان ثابت ابن قيس على الأنصار

وتحرك خالد من ذي القصة في منتصف شهر أيلول (سبتمبر) أو شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة622 ماراً بربذة ووادي الركبة ومنحدراً إلى وادي الرمة، وقبل أن يصل إلى منتصف الطريق مال إلى اليسار يريد بلاد طيء، ولقد نجحت حركة الإغفال التي أشاعها أبو بكر لأن طيئاً التي كانت تستهزئ بالخليفة وتكنيه بابن الفصيل صارت تخشى بأسه لما سمعت خبر تقدم جيشه نحوها، فأقنع عدي بن حاتم قبيلته وحذرها سوء العاقبة قائلاً لبني قومه:(لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم). فطلبوا منه أن يؤخر تقدم جيش خالد حتى يسترجعوا من لحق بطليحة في بزاخة وهم جديلة وغوث وآخرون

وكانوا يعلمون انهم إذا خالفوا طليحة بينما بنو جديلة وبنو غوث في بزاخة يبقيهم عنده رهائن ويجبر طيئاً على الالتحاق به وكانت حجتهم عند طليحة طلب إخوانهم من بزاخة، لأن خالداً قادم نحوهم فهم يريدون أن يستنجدوا بهم للدفاع عن بلادهم قبل أن يصل جيش المسلمين

وخرج عدي إلى خالد ولاقاه في السح، فطلب منه أن يبقى فيها مدة قصيرة حتى يتخلى من في بزاخة عن طليحة ويعود إلى بلاده فوقف خالد في السح فتفرقت غوث من بزاخة وعادت إلى بلادها فأراد خالد أن يتقدم إلى الأنسر ليلجئ جديلة إلى ترك طليحة أيضاً بيد أن عدياً طلب منه أن يتريث حتى لا يفسد عليه ما دبره فعادت جديلة أيضاً إلى بلادها وهكذا تم لخالد ما أراده فانفصلت طيء تماماً عن المرتدين وجددت إسلامها وأمدت خالدا بألف مقاتل وهكذا طبق القسم الأول من الخطة

يتبع

طه الهاشمي

ص: 44

‌من أدب الحزن

وفي. . . وناكر

بقلم يوسف جوهر عطية

وإذا أرسلت روحي في الماضي ذكرتك يا رفيقي، وكانت قد أذهلتني عنك الحياة وقسوتها والأيام واضطهادها وعاد بي الفكر إلى تلك الأشبار من صحراء (الأقصر) حيث استقرت عظامك من خمس سنين. . .

ما اكفرني بحق الصداقة يا صاحبي! ما اغلظ هذا القلب اللحمي وما أقساه! كيف نسيت حباً وثقناه وعهداً قطعناه!

كنا نسير في الحياة كل يده في يد صاحبه وكل صورته في قلب رفيقه مرسومة. فلما فارقت الحياة أنكرت يدي الودّ القديم، وران على قلبي صدأ النسيان، وابتلع ظلام نفسي ذكراك. . بعد أن كان مكانك عرش، القلب، وبعد أن كانت ملكك كل النفس، وبعد أن كنت ملجأ روحي القلقة، وملاذ فكري المكدود. .

سامحني يا رفيقي فإنني إنسان والإنسان قد جبل على الغدر وفطر على النكران. . لتكن إنسانيتي عذرى لديك. ولا تقس الوفاء بمقياس أهل السماء، فإنني بعد سجين في الجسد، مأسور الروح، عبد لنواميس الحياة. كن كما كنت كريماً متجاوزاً، رفيقاً. .

أنت أنت الوفي، وأنا أنا الناكر. .

وهيا يا رفيقي نعود فنصل الحديث، ونمحو الجفاء، فأنني لحديثك مشتاق، ولسمرك ظمآن. .

كنا لا نصبر على الفراق ساعات يا صاحبي. لكن ها هي ذي عجلة الزمن تدور دورتها الطاحنة، وتباعد خمس سنين بيني وبينك ولا أعود أرى وجهك بعد أناستوطنت أنت السماء وظللت أنا مغترباً في الدنيا. لقد استرحت في قبرك، وخلفتني أعيش وحدي في هذا القبر الكبير!

لماذا عجلت ذهابك يا رفيقي!. كنا قد تعاهدنا أن نقتسم معا شقوة الدنيا وأن نستقبل متكاتفين قسوة الحياة، وأن يتقي كل بأخيه غدر القدر!. لماذا مللت وتركت صاحبك يهيم وحده!! أأعياك حمل رداء الهموم وأنت في سن الفتوة وعمر العزيمة، فآثرت الفرار من هذه

ص: 46

الدار؟!. .

لكن لا يا صاحبي. . سامحني. إني لعارف انك لست من الذين يجبنون ويفرون، وأن الله هو الذي اختارك واصطفاك. . هو الحزن القديم النائم تحت رماد الأيام تهب عليه ذكراك فتستيقظ جمراته، وتكوى قلبي من جديد، فيضل تفكيري ويطيش منطقي، وأتهمك بما أنت منه برئ!.

كيف حالك يا صاحبي؟!. .

اكبرت أم أنت فتى كما كنت!؟. هل بقيت لك بسمتك وبهاء طلعتك، أم شاخت بسمتك وشحب محياك؟! أم أن صور الأرض غير صور السماء وأنك هناك دائم الفتوة متجدد الشباب مسترسل السرور في كنف الله؟!.

كيف حالك؟!

أين أنت الآن؟ أين تقيم روحك؟ هل أنت معذب أم منعم؟ قلق أم مطمئن؟ هل روحك في سلام؟.

رجائي قوي انك في سلام. . فقد كنت باراً وقضيت أيامك كالزهرة النقية تلثمها في النهار أشعة الشمس وتباركها في الليل أنوار النجوم. . كنت جم الفضائل. عشت وديعاً كطير الأفنان. كنت مصباح البيت في الهدى، ونبراس الخلق الكريم

إني مطمئن عليك يا رفيقي، وعارف بحظوتك عند الله، وبمقامك في جوار الملائكة. . يهنيك نصيبك. يهنيك انك تخلصت من الدنيا قبل أن تدرك نفسك المطامع وتلوثها الشهوات، وتشوهها أمراض الأغراض، وتدفعها قوى الشر في مزالق الخطيئة. لقد نجوت، وخلفتني وحيداً في الحياة، في سوق النفاق، أكابد الخسائر وأتجر بقواي، وأنفق من فضائلي وأقامر بأيامي وأصارع حظي الشقي. .

يا صاحبي. . لقد كلت قدمي. تعبت، هرمت روحي وأنا في شرخ الشباب. . وها هي ذي آلامي ترهقني فأفر إلى الماضي، وأذكرك وهأنذا ألجأ إلى حنانك كما كنت أفعل وأنت في الحياة. . هيا نجدد العهد، ونسعى إلى اللقيا في عالم الوهم؛ حتى تجمعنا الحقيقة في الخلود، فنعود إلى العزف على قيثارة حبنا القديم، ونسترد ألحاننا الضائعة. . .

يوسف جوهر عطية

ص: 47

‌في الأدب الدرامي

الرواية المسرحية

في التاريخ والفن

بقلم احمد حسن الزيات

المأساة العصرية أو الدرامية

كانت كلمة الدرام تطلق على جميع الأنواع التمثيلية، حتى خصصها المحدثون بنوع جديد عرفه قاموس المجمع العلمي الفرنسي بأنه (قطعة مسرحية نثرية أو نظمية تخلط المأساة بالملهاة، وتبرز الموضوع الجدي في المعرض الفكه، وتقبل كل نمط من الأشخاص والأخلاق واللهجات). وتكميلاً لهذا التعريف نضيف إليه كلمة قالها (هجل) وهي: (إنها نوع وسط غير مستقر، يعني بدقائق الحياة الداخلية ومشاكلها، وصور الحياة الخارجية ومناظرتها، وتتميز من المأساة الاتباعية البسيطة الساذجة بكثرة أشخاصها، وغرابة حوادثها، وتعدد مفاجآتها، وتعقيد العمل فيها إلى حد الارتباك والغموض). أما أرباب المذهب الابتداعي ومن قبلهم شكسبير فلم يكتفوا بتأليفها وتمثيلها، وإنما وضعوا لها القواعد وشرعوا لها المناهج، وقالوا إن الدرامة صورة صادقة مؤثرة للحقيقة بل هي الحياة نفسها: هي الهوى يعمل ويتكلم ويحكم ويفكر بصوت جهير أمام الجمهور السامع

إن المأساة لم ترد أن تتنزل عن أفق الأبطال والسراة والملوك، والملهاة قصرت نفسها على وصف عيوب الأوساط، أما الدرامة فهي أتم واعم واصح، لم تفضل فريقاً على فريق، ولم تؤثر طبقة على طبقة، فهي تسوى بين الملوك والسوقة، وتمزج البسمات بالعبرات، وتستمد التاريخ والقصص والحكايات والخرافات، لا تستثنى شيئاً ولا تحتقر شخصاً، ولا تحصر نفسها في ضيق القواعد والتقاليد، فموضوعها الإنسانية بأسرها. أما اليوم فقد اختلفت على هذا النوع الأسماء والتعاريف لتشعب مناحيه، وتعدد مذاهبه، واتساع مجاله، واختلاف أطواره. فكان يسمى أولاً: الرواية الجدية الهزلية - ثم المأساة الحضرية ثم المأساة الشعبية ثم الملهاة الجدية وهم يطلقون عليها الآن اسم الدرامة الحديثة، أو الدرامة فقط. ولا نجد ابلغ في الكشف عن حقيقة الدرامة مما كتبه عنها زعيمها وابن

ص: 49

بجدتها فكتور هوجو في مقدمة (كرومويل) نستعين بتلخيصه لك على شرح هذا النوع الطريف الذي يعدونه الآن افضل الأنواع واكمل الأشكال للتمثيل فوق المسرح الحديث؛ لأنه باختياره الأشخاص من كل الطبقات، وتفضيله التأثير في الحواس على تحليل الشهوات كان اكثر أنواع المأساة ملاءمة للذوق الديمقراطي الغالب اليوم. قال هوجو ما محصله: النظارة أصناف ثلاثة: النساء والخاصة والعامة؛ فالعامة يطلبون من الرواية العمل أو الحادث، والخاصة يطلبون منها الخلق أو الدرس، والنساء يطلبن منها الشهوة والهوى. لأن العوام يبتغون من المسرح التهيج، والخواص يبتغون منه التفكر، والنساء يبتغين منه التأثر؛ وغرض هؤلاء جميعاً اللذة: فالعامة تريد لذة النظر، والخاصة تريد لذة العقل والمرأة تريد لذة القلب. ولكل منهم الحق فيما يبتغي ويريد ومن ثم كانت روايات هوجو ثلاثة أنواع مختلفة: أحدها عامي سوقي، والآخران شريفان رفيعان، وفي ثلاثتها حاجة المسرح وكفاية الناس. فللعوام المأساة العامية (الميلودرام) التي تصف لهم الفظائع، وللخواص الملهاة التي تصور لهم الأخلاق، وللنساء المأساة التي تحلل لهن الأهواء. وربما تدخل بعض هذه الأنواع في بعض، فقد يوجد في السوقة من يتذوق الجمال ويتطلب الكمال ويغرق في التخيل، وفي السراة من يطلب غير الأدب لطف الشعور، وفي النساء من تبتغي مع التأثر رياضة الذهن. فغرض الدرامة إذن هو تصوير الأخلاق بخلق الأشخاص وتمثيلهم على المسرح تبعاً لشروط الأشخاص لبيان أخلاقهم وتوضيحها، واستخراج الحياة الإنسانية من هذه الأخلاق والأهواء التي تتصادم وتتلاحم، فتنتج الوقائع الكبيرة والصغيرة، والحوادث المحزنة والمضحكة، التي تنطوي على لذة القلب يسميها الناس منفعة، وعلى عظة للعقل يسميها الحكماء حسن خلق. فبان من ذلك أن الدراسة تأخذ من المأساة تحليل الأهواء والشهوات، ومن الملهاة تصوير الأخلاق والعادات. فهي الشكل الثالث من أشكال الصناعة الأدبية، وهو أكبرها وأعمها، لأنه يشمل الشكلين الأولين فيمزجهما ويشرحهما. ولو لم يوجد شكسبير بين كورني وموليير فمد يسراه إلى الأول ويمناه إلى الثاني، لبقي كل منهما بعيداً عن الآخر فبوجوده التقت الملهاة بالمأساة التقاء الموجب بالسالب في الكهرباء، فحدث من التقائهما شرارة هي الدرامة

ثم مضى هوجو بعد ذلك في بيان حقيقة الدرامة من جهة الفلسفة التاريخية نحيلك عليه إذا

ص: 50

شئت، ونكتفي نحن هنا بما أجملناه من كلامه

فالدرامة إذن كل نوع، وترتضى كل شكل، مادامت تضمن التأثير في المشاعر والخواطر والقلوب، وهي تسلك لهذه الغاية اسهل الطرق واقرب السبل. فلها في الطفولة المعذبة، والشيخوخة العاجزة، والزمانة المعدمة، والكرم في الأملاق والقحط واليأس، مواقف قوية التأثير شديدة الروعة؛ وفي المستشفيات والسجون والأحياء الفقيرة العاملة مسارح للرعب والرحمة، لها من البيان والتأثير ما يغنى المؤلف الذي يعرضها للأنظار والأفكار عن تكلف الأداء وتجشم البلاغة

إن المصائب المنزلية، والحوادث الاجتماعية، لا تدهشنا حقيقة كما تدهشنا مصائب الملوك ومخاطر الأبطال وحوادث القصور، ولكنها تؤثر فينا كل التأثير لاتصالها بنا واقترابها منا؛ وإذا كان افضل الأنواع أمتعها للجمهور، واشدها أثراً في الكثرة، فان الدرامة تفوق المأساة بهذه المزية، وتفضل الأنواع جميعاً بقوة الجاذبية، وإذن يكون كورني وراسين وفولتير قد جهلوا فن التأثير، وسهروا الليالي الطوال في البحث عنه في الطبقات العليا، والحوادث الكبرى، وهو منهم على طرف الثمام لو نظروا في الطبقة الدنيا وفكروا في الحياة العامة، ولو كان هؤلاء حقيقة قد جهلوا قوة الدرامة وسهولتها فما بال الإغريق واللاتين لم يتوسلوا بهذه الوسائل القريبة إلى التأثير والجاذبية؟ وما بال شكسبير وهو أمام الروائيين غير مدافع لم يختر موضوعاته من حياة الشعب، وفضل جرائم الملوك ونكباتهم على جرائم السوقة ونكبات العامة؟ الحق إن الإغريق كانوا يعلمون علم اليقين إن في الناس من كبابه الجد فألقاه في مراغة الذل والبؤس فأعسر بعد اليسر، وهان بعد العز، ولكنهم كانوا يجهلون أو ينسون أن الملوك هم أيضاً غرض لسهام القدر، وأن المرء مهما عظم قدره لا يعظم على النوائب ولا يكبر على الإحداث، وأن خطوب الدهر لا تخص بفتكها طبقة، دون طبقة فاستفادوا من المسرح هذا الدرس النافع والعظة البالغة، كذلك كانوا يعلمون أن في الناس المأفون والشهوان والخبيث والمجرم، ولكنهم كانوا يجهلون أن الملوك أيضاً فيهم الأفن والشهوة والخبث والأجرام، وان نتائجها فيهم افظع وافجع منها في السوقة، فاستنتجوا من المسرح أن الشعب مأخوذ بجرائر الملوك، فأخذوهم بالحزم وحسن السياسة، بله ما كان عليه الناس في الأزمان الخالية من تنزيه الملكية، وتقديس البطولة، وازدراء الشعب. فلما

ص: 51

ابتذلت أفنية الملوك، وعلت كلمة الشعوب، وغلب نظام الديمقراطية، احتقر الناس مصائب الخاصة، ورأوا أن الأهواء والأرزاء تنصب فخاخها لكل الناس، وان الواقع فيها من أي طبقة ومن أي بيئة يصح أن يكون عبرة ونكالاً لغيره. حينئذ اخذ الكتاب يدرسون العامة، ويعلمون الجمهور بتحليل نفسه وتعليل جرمه، ويثقفون خلقه بتصوير نقصه ووصف عيبه، فيحاربون العيب بالخوف من السخر والخشية من الخجل، والجريمة بالفزع من وخز الضمير الذي يصحبها والقصاص الذي يعقبها، والهوى بوصف ما يجره من الآلام والمخاطر والمصائب، ووجدوا الحال تقتضي نوعا جديدا من الرواية يلائم حال الاجتماع ونظام الحكومة ورقي الفكر، فكانت الدرامة وليدة هذا الانقلاب وسداد هذا العوز

على أن التأثير والجاذبية لم يكونا يوماً ما من أغراض المسرح في الأمم المثقفة المستنيرة، وإنما كان التمثيل عندهم كالخطابة، يجذب ليهذب ويعلم، ويؤثر ليقرر ويفهم. وما التأثير إلا وسيلة من وسائله لا غاية من غاياته. فالدرامة التي لا تعلم ولا تهذب تكون من المأساة بمثابة المهزلة من الملهاة. ولا شك إن المهزلة تضحك الجمهور اكثر مما تضحكه ترتوف والمستوحش، والدرامة التي من هذا النوع تبكيه اكثر مما تبكيه (سنا) و (اتالي)، ولكنه إذا ظل مائة سنة يضحك ويبكي لهذه المناظر، فأية فائدة يستفيدها، واية فكرة يكتسبها ويستزيدها؟

فالدرامة القوية هي ما وضعت في قلب الرجل علل حوادثه وبواعث عمله، فتجعله شقياً بزلته، مشفياً على الخطر بغفلته؛ وهي لذلك تطلب مؤلفاً يكون ثاقب الفكر صادق النظر قوي الملاحظة خصب المخيلة عميق الإحساس بليغ الأسلوب جيد الاختيار؛ وموضوعاً يجمع بين التأثير والإفادة وبين الابتذال والصيانة وبين الغرابة والسذاجة، فلا يكون عقيماً ولا سقيماً ولا سوقياً ولا شعرياً ولا متكلفاً؛ وعملاً يكون سيره نشيط الحركة موزون التدرج محكم التعقيد بارع الحل؛ وعادات حضرية أو شعبية تكون مع موافقتها للحق غير ساقطة ولا جافية؛ ولهجة بسيطة تلائم الأشياء والأشخاص، فتكون صحيحة سهلة نقية ذكية شاعرة لا تعلو على الموضوع، ولا تسفل إلى درك التعمل والركاكة. وتلك مطالب أعيت أولى القرائح الكليلة، فانصرفوا إلى الجانب الأسهل منها، واخذوا يلتمسون التأثير في الجمهور بعرض الحوادث المنتزعة من الحياة العامة لتغنيهم بفظاعتها عن إجادة الكتابة وإجالة

ص: 52

الفكر، ويبنون هذا الرأي السخيف على قاعدتين خاطئتين: أولاهما أن كل جذاب من القول والفعل صالح للمسرح، وأخراهما أن كل ما أشبه الطبيعة جميل، وكل تقليد صادق لها حسن. لا أنكر إن لا شئ يلوع القلب ويمزق الحشا مثل أن ترى بيتاً متهدماً تسكنه امرأة كريمة عدا عليها الفقر ومسها الضر وجاز بها الدهر حد اليأس والفاقة؛ وأنا زعيم لك بأنك تغرق الناس بالدمع، وتضرم الأنفاس بالحزن، إذا عرضت على العيون منظر هؤلاء الأطفال يتضاغون من الجوع ويطلبون إلى أبيهم المسكين كسرة من الخبز وهو لا يستطيع، ومثلث دموع تلك الأم ترى رضيعها يلفظ أنفاسه في حجرها من السغب وهي لا تملك له حياة ولا نفعاً، ولكن ارني ذلك الشعب الغليظ الكبد الذي يلهيه ويسليه مثل هذه المناظر؟ وأية فائدة تجدها في هذا المصاب الأليم العقيم الذي فجع هذه الأسرة وهي لم ترتكب خطأ ولم تقترف اثماً؟ آلمني، ولكن لتعلمني كيف احتاط لنفسي من الوقوع في مثل هذا الضرر والذي اشهده. مثل لي أسرة بائسة أوقعها بين مخالب البؤس والفاقة عيب أصيل في نفسها، وهوى دخيل في قلبها، فان الألم الذي يتالني من رؤية هذا المنظر يعوضني منه ذلك الدرس الذي أستفيده من شهود ما يجره الهوى التحكم والعيب المتأصل من الأذى والمضرة: استفيد ان الإنسان حر في اتقاء مثل هذا المصاب، وان أسبابه من العيب والهوى والغفلة والضعف لم تكن أدواء لازمة ولا محتومة، أما الحرق والغرق والزلزال والوباء وكل ما يصيب المرء من غير كسبه ولا اختياره فلا استفيد من رؤيته غير الألم العقيم والهم الخالص

ان فضل الكاتب وجمال المسرح هما في عرضهما ما نود ان نكونه لا ما نحب أن نتأثر به. ومهما يكن الشيء العامي المبتذل مؤثراً فلا بد ان يكون على المسرح أسمى وأروع مما أستطيع أن أراه واسمعه من شباك بيتي، فان بين الأشياء المؤثرة كذلك تفاوتاً وتفاضلاً وتخيراً. وليس في الحياة موضوع يصح ان يكون روائياً بنفسه إذا قلدته على علاته ونقلته بجميع صفاته؛ فقد تجد فيه من الطول والفضول والنقص والسخف ما يخجلك إذا حكيته، ويأفنك إذا مثلته ان مهارة الكاتب القصصي في ان يجعل الموضوع طريفاً لذيذاً ومهارة الكاتب الروائي في ان يبسطه ويزخرفه فيحذف منه البارد الغث ويضيف إليه ما يزيد في تأثيره وحدته وجدته وطرافته بحيث يكون شبه الحقيقة وهيئتها لا صورتها ولا نسختها

ص: 53

والحال في الأعمال مثل الحال في الأقوال: فان الكاتب الذي يكتب كما يتكلم ليس بكاتب. إذ كل لغة من لغات الناس فيها الشريف الحر والرقيق الأنيق، كما إن فيها السوقي والحوشي والفج. والذوق وحده هو الذي يصفي العبارة من اللغو، وينقى الأسلوب من الغثاثة، كما يعزل الغربال الزوان والحصا من الحب الصحيح. ذلك ما نعقله ونقبله؛ أما نقل ما ترى وحكاية ما تسمع بما فيه من سماجة وفضول واقتضاب، على انه صورة الطبيعة ورسم الحقيقة، فتلك حجة يلجأ إليها الأدعياء ليدرأوا عن أنفسهم معرة الضعف في الاختيار والعىّ عن الابتكار والعجز عن التجديد والتوليد

بعد ما تقدم نستطيع ان نجمل القول في المأساة العصرية بذكر الفروق بينها وبين المأساة القديمة فنقول: إن الدرامة تجمع بين الجد والهزل والسرور والحزن والاحتشام والتبسط والضعة والرفعة، وتختار أشخاصها من كل طبقة وبيئة، وتقتبس موضوعها من حياة العامة او العصور الوسيطة أو العصر الحديث. أما المأساة فكلما علمت تزدري الموضوعات القومية والعصرية، وتختار موضوعاتها من الأساطير أو من التاريخ القديم، وتعنى على الخصوص بالعالم الداخلي من الإنسان، فتبحث عن أخلاقه وعواطفه واهوائه، فهي تضع على المسرح نفوساً بدل ان تضع اشخاصاً، ولا تعنى مطلقا بالرياش المسرحي ولا باللون المحلى، وتقصد كل القصد في تعقيد العمل الروائي؛ ولكن الدرامة لا تحفل إلا بالعالم الخارجي من المرء، والجزء المادي من المسرح، وتبالغ في رعاية الرياش والزخرف، وترجع التأثير في الحواس على التأثير في الذهن، وتحرص على أن تظهر الأشخاص في لباس الزمن الذي عاشوا فيه وتسمهم بعادات بنيه، وتؤثر تعقيد العمل وتحرج المواقف على وصف الأهواء وتصوير العواطف. ثم إن المأساة تخضع لقانون الوحدات الثلاث ولا تجيز نجوى النفس. ولذلك خلقت الأنجياء ليسارهم الأشخاص بما يفكرون؛ ولكن الدرامة تحلنت من سلطان الوحدات الثلاث فلم تبق إلا وحدة العمل، وأسرفت في إيراد النجوى على السنة الأشخاص الأصليين فياضة بالأسلوب الوجداني فقضت بذلك على الانجياء

يتبع

الزيات

ص: 54

‌فقيد الأدب التونسي

أبو القاسم الشابي

ولد سنة 1909 وتوفي سنة 1934

ثكلت تونس، بل الأدب العربي عامة، أديباً عبقرياً فذاً كان منتظراً منه - لو امتدت حياته - ان يكون كوكباً لامعاً في سماء الأدب العربي الجديد، بل دعامة قوية ترتكز عليها المدرسة الحديثة للشعر العصري. ذلك هو الشاعر المبكى على شبابه أبو القاسم الشابي

ولد أبو القاسم الشابي عام 1909 في (مدينة توزر) عاصمة الواحات التونسية الجميلة بالجنوب، من إسرة ذات مجد، وكان أبوه الشيخ محمد بن أبي القاسم الشابي قاضياً شرعياً تنقل بوظيفته في مدن مختلفة. وهو من قبيلة كبيرة ذات تاريخ حافل تدعى الشابية

أما حياة الشاعر الفقيد فليس فيها من الحوادث ما بهم كثيراً لقصرها، فلم يتخط فجر شبابه الغض، ولم يطو الخمسة والعشرين عاماً بعد؛ إلا أن هذه الفترة الصغيرة في تاريخ نموه الفكري ذات خطر عظيم، ذلك أن المذهب الذي ذهب إليه في نظم أشعاره مذهب فذ لم يظهر منه في الشعر العربي إلا النادر

وليس في مراحل تعلمه التي قطعها بغاية الفوز والنجاح شئ غير عادي، فهو كأمثاله الكثيرين قد حفظ القرآن في طفولته، والتحق بجامع الزيتونة بتلقى علوم العربية على الأساليب القديمة من المتن والشرح والحاشية، وعلوم الشريعة الإسلامية كالفقه والأصول والتوحيد، إلى أن كان الامتحان النهائي فتخطاه عام 1926 ونال الشهادة المسماة بالتطويع

والتحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق التونسية فاجتاز امتحاناتها وحصل على إجازة الحقوق، ثم لم يتركه مرض الصدر يتمم دراسته، فانقطع عن التعلم من ذلك الحين والتفت إلى معالجة هذا المرض العضال الذي معه يغاديه ويراوحه حتى ذهب في يوم 8 أكتوبر بحياته الغضة

لم يدرس أبو القاسم لغة أجنبية، ولم يكن له من الزمن ما يسع طول الدرس ومطالعة المترجمات، فقد كان أطباؤه ينهونه عن كد ذهنه والاشتغال بالأعمال الفكرية، وتلك لعمري آية عبقريته النادرة، ومعجزة نبوغه الفريد

كان جباراً متمرداً على القديم، وكان في الوقت ذاته رقيق الإحساس مشبوب العاطفة، لا يستمرئ المنازعات والمشاكسات، فكان من جراء ذلك تفاعل بينه وبين بيئته، تلمح آثاره

ص: 56

واضحة في أشعاره

فقد كانت مطالعاته الأولى في الأدب العربي بالمهجر الأمريكي، فاستأسره أسلوب زعيم تلك المدرسة المرحوم جبران، وكانت أشعاره الأولى ذات نزعة جبرانية في الأسلوب. وكان يقول الشعر منظوما ومنثورا، ولكنه كان اعمق روحاً وابعد قراراً. وكانت موضوعاته في فلسفة البؤس والشقاء، والتبرم بالحياة ومتاعبها

على أننا إذا قلنا إن أبا القاسم قد تأثر بمدرسة جبران فلا بد لنا أن نتحفظ، فقد تزود رحمه الله من الأدب العربي القديم طائلة، مكنته من إخضاع التعابير الفصيحة لمعانيه الجديدة بما يميزه من غيره، ومما لم يكن من ظواهر تلك المدرسة التي تذهب أحياناً وراء حرية التعبير عن حوالج النفس مذاهب يخرجها عن سنن العربية وقواعدها الأولية

ثم إن شاعرنا كان مفتوناً بالآداب الغربية، يتهافت على قراءة كبار عباقرة الغرب الذين ترجمت أشعارهم وآدابهم ويدرسها بروية حتى تأثر بها وخالجت روحه، وربما تعجب قراؤه كثيرا حينما يعلمون انه لا يقرأ إلا اللغة العربية لجهله بغيرها

ويمكنك ان تدرك سعة اطلاعه على الأدب العربي القديم وأحاطته بجميع ما ترجم إلى العربية من نفائس الأدب الغربي، إذا اطلعت على مؤلفه الذي أخرجه منذ سنوات تحت عنوان (الخيال الشعري عند العرب) فمن مطالعة هذا الكتاب الذي هو عبارة عن دراسة مستفيضة على طريقة النقد العصرية للأدب العربي في جميع عصوره، ومقارنة للأدب الغربي في كثير من أعلامه تدرك مبلغ تفوقه ونبوغه

قلنا أن أبا القاسم كان ينزع في أوائل أمره نزعة تشاؤم وتبرم بالحياة، على ان سخطه هذا لا شئ فيه من الضعف والرخاوة، فهو يعاتب الدهر وكأنه ندّ له في كبرياء وجبروت ينمان عن حب الحياة في أعماق نفسه، حتى انه لم تدم شكواه طويلاً، فتجلت روح التمرد والقوة في قصائده الأخيرة التي منها (نشيد الجبار) وقد نشرت في أحد أعداد (يوليو) ومنها قصيدة (البعث) وستظهر في ديوانه، أودعها كل ما في نفسه من حب للحياة وتطلع إلى مثلها العليا في أسلوب رائع فريد

ولا نستطيع أن ننسى أن للصدمات التي اعترضته أثراً عميقاً في صهر نبوغه واستقلال فنه، كما انه قضى مدة أربعة اشهر في وحدة شعرية بديعة بين جبال (عين دراهم)

ص: 57

وغاباتها، وهي من اجمل بلاد تونس منظراً وسحراً، فخرج بشعر طبيعي نادر

رحم الله أبا القاسم الشابي، وعوض الأدب العربي عنه خيراً

نموذج من شعر الفقيد

اصطدم أبو القاسم الشابي بشعور بيئته الراكدة، وضايقه المتزمتون الجامدون، فضاق الشاعر ذرعاً ونفس عن قلبه الحساس بهذه القصيدة الرائعة:

النبئ المجهول

أيها الشعب ليتني كنت حطا - يا، فأهوى على الجذوع بفأسى!

ليتني كنت كالسيول إذا سا - لت تهد القبور رمساً برمس. .

ليتني كنت كالرياح. . فأطوي

كل ما يخنق الزهور بنحسي

ليتني كنت كالشتاء. . أغشى

كل ما اذبل الخريف بقرسي

ليت لي العواصف ياشع - بي فألقى إليك ثورة نفسي. .

ليت لي قوة الأعاصير. . لكن

أنت حي يقضي الحياة برمس. .

أنت روح غبية تكره النو - ر وتقضى الدهور في ليل ملس

أنت لا تدرك الحقائق ان

طافت حواليك، دون مسّ وجس

في صباح الحياة ضمخت أكوا - بي وأترعتها بخمرة نفسي. .

ثم قدمتها إليك، فأهرق - ت رحيقي ودست يا شعب كأسي!

فتألمت. . ثم اسكت آلا - مي وكفكفت من شعوري وحسي

ثم نضدت من أزاهِير قلبي

باقة لم يمسها أي إنس

ثم قدمتها إليك، فمزق - ت ورودى ودستها إي دوس

ثم البستني من الحزن ثوباً

وبشوك الصخور توجت رأسي

. . ها أنا ذاهب إلى الغاب يا شع - بي لأقضى الحياة وحدى بيأسي

ها أنا ذاهب إلى الغاب علىّ

في صميم الغابات ادفن نفسي. .

ثم أنساك ما استطعت فما أ - نت بأهل لخمرتي ولكأسي

سوف أتلو على الطيور أنا - شيدي وأفضى لها بأحزان نفسي

ص: 58

فهي تدري معنى الحياة وتدرى

أن مجد النفوس يقظة حس

ثم أقضي هناك في ظلمة اللي - ل وألقى إلى الوجود بيأسي

ثم تحت الصنوبر الناضر الحلو

تخط السيول حفرة رمسي

وتظل الطيور تلغو على ق - بري ويشدو النسيم فوقى بهمس

وتظل الفصول تمشى حوالي

كما كن في غضارة أمسي

أيها الشعب أنت طفل صغير

لاعب بالتراب والليل مغسي

أنت في الكون قوة لم تسسها

فكرة عبقرية ذات بأس

أنت في الكون قوة كبلتها

ظلمات العصور من أمس أمس

والشقي الشقي من كان مثلى

في حساسيتى ورقة نفسي

هكذا قال شاعر ناول الشع - ب رحيق الحياة في خير كأس

فأشاحوا عنها ومروا غضابا

واستخفوا به وقالوا بيأس:

(قد اضاع الحياة في ملعب الجن (م -) فيا بؤسه اصيب بمس!)

(طالما خاطب العواصف في اللي - ل وناجى الأموات في كل رمس)

(طالما حدث الشياطين في ال - وادي وغني مع الياح بجرس)

(انه ساحر تعلمه السحر الشيا - طين كل مطلع شمس)

(ابعدوا الكافر الخبيث عن الهي - كل ان الخبيث منبع رجس)

(اطردوه ولا تصيخوا إليه

فهو روح شريرة ذات نحس)

هكذا قال شاعر فيلسوف

عاش في شعبه الغبى بتعس

جهل الناس روحه وأغاني - ها فساموا شعوره سوم بخس

فهو في مذهب الحياة نبي

وهو في شعبه مصاب بمسّ!

هكذا قال ثم سار إلى الغا - ب ليحيى حياة شعر وقدس

وبعيداً هناك في معبد الغا - ب الذي لا يظله اى بؤس

في ظلال الصنوبر الحلو والزي - تون يقضى الحياة حرساً بحرس

في الصباح الجميل يشدو مع الطي - ر ويمشى في نشوة المتحسي

نافخاً نايه، حواليه تهتز (م)

ورود الربيع من كل قنس

ص: 59

شعره مرسل تداعبه الري - ح على منكبيه مثل الدمقس

والطيور الطراب تشدو حوالي - هـ وتلغو في السرو من كل جنس

وتراه عند الأصيل لدى الجد - ول يرنو للطائر المتحسى

أو يغنى بين الصنوبر أو ير - نو إلى سدفة الظلام الممسي

فإذا اقبل الظلام وأمست

ظلمات الوجود في الكون تغسى

كان في كوخه الجميل مقيما

يسأل الكون في خشوع وهمس:

عن مصب الحياة، أين مداه؟؟

وصميم الوجود، أيان يرسي؟؟

وعبير الورود في كل واد

ونشيد الطيور حين تمسى. . .

وهزيم الرياح في كل فج. . .

ورسوم الحياة من أمس أمس. .

وأغاني الرعاة، أين يواري

ها سكون الدجى، وأيان تمسى؟. .

هكذا يصرف الحياة ويفنى

حلقات السنين حرساً بخرس

يالها من معيشة، في صميم ال - غاب تضحى بين الطيور وتمسى!

يالها من معيشة، لم تشبها

نفوس الورى بخبث ورجس!

يالها من معيشة، هي في الكو - ن حياة غربية ذات قدس. .

تونس

حسن سبالة

ص: 60

‌على قبر الفردوسى

للدكتور عبد الوهاب عزام

أبا القاسم اسمع ثناء الوفود

تنظّم فيك عقود الدرر

أبا القاسم اسمع نشيد الخلود

يرتِّلُهُ فيك كلُّ البشر

أبا القاسم اسمع لسان الزمان

بخلدك، وهو الضنين، أقرّ

فهذى اللغات وهذى السِّمات

وهذى الوفود وتلك الزُّمَر

تترجم عن عرض واحد

ويدركها في مداك الحصَر

تُطيف بقبرك صرح العلاء

وباب الخلود ومثوى الظَفر

فيالك قبراً قريب المدى

تظل العقول به في سفر

ويالك قبراً كعين البصي

ر يحوي العوالم منها الصغَر

ويالك قبراً غدا طلسما

وراءك كنز الخلود استتر

ويالك سطراً بقرآنه

تضيق الحياة ويفنى العمر

ويالك بيتاً سما شِعره

بمعنى الحياة ولفظ الحجر

وأحجاره كحروف الهجا

ء كل المعاني بها تُسطر

إمامَ البيان وربَّ القريض

وأصبرَ مَن للقريض صبر

وسبّاقَ حَلبته في الورىْ

ورب الحجول بها والغُرر

وناظمَ عقد على نظمه

تخر الدهور وما يندثر

نظمت الكتاب كتاب الملوك

وما هو إلا سجلّ القَدَر

طويت الزمان وأحداثه

بأوراق ونشرتَ العِبَر

فما جام جمشيد إلا كتابُ

ك يجلو الأقاليم فيه البصر

فيالك من شاعر نابغ

عظيم الحياة جليل الأثر

ويالك من شاعر رابح

وكم شاعر في الورى قد خسر

ثلاثين عاماً نسجت القريض

حليف الهموم أليف السهر

ثلاثين عاماً مضت للفناء

بهن اشتريت خلود الدهَر

لقد صدّق الدهر ما قلتَ في

كتاب الملوك بغيب النظر:

ص: 61

بنا هاي أباد كردد خراب

بحرّ ذُكاَء وصوب المطر

بي افكندم أز نظم كاخي يلند

على الرياح والقطر ما إن يخرّ

مضى ملك محمود في الذاهبين

وملكك في الدهر ما يندثر

رضاه شاه حسبك من ناصر

لقدرك بعد للقرون قَدَر

يسيّر ذكرك في الخافقين

مسير ذُكاء ومسرى القمر

طوينا البحار وشُمَّ الجبال

وجُردَ القفار وأَيْكَ الشجر

يطير بنا الشوق ملء القلوب

ويُحلي حديثك مُرَّ السفر

وفي مصر كنت نجيّ الكتاب

بليغ العظات وحلو السمر

وها أنا في طوس يَدَيْ

ك يبهر نفسي جلال بهر

فهبية ذكراك روع الفؤاد

ومشهد حفلك يُخسى البصر

يضيق عليَّ مجال الكلام

ويشرد عنيَ سِرْب الفكَر

ويذهب شعري ذهاب الحباب

على لجة البحر حين زخر

هر تانكس كه دار دهش وراي ودين

عليك الثناء الجميل نثر

وما شاعر أنا كفء المديح

فأهدي إليك الثناء الأغر

ولكن سحابك أحيا المواتَ

وما بالإدارة ينمو الزهر

خلدت على الدهر في الخالدين

وخلَّدَ شعرك من قد غبر

ودوّى قريضك في الخافقين

يغنّي البُداة به والحضر

وروحك فردوسه في السماء

وقبرك فردوس من قد شعر

طوس

عبد الوهاب عزام

ص: 62

‌البريد الأدبي

العيد الفضي

عزيزي الزيات

في افتتاحية العدد الماضي أسميتم العيد العشرين للجنة التأليف العيد الفضي. وإن جاز أن يكون في هذه التسمية متسع لاختلاف الآراء، فأني أرى الأولى تسمية بالعيد الصيني، وذلك جرياً على العادة القديمة في بعض الأمم، واتباعاً للمراسيم المألوفة عندهم في الأعراس. فقد اصطلحوا على أن يهدوا للعروسين في ذكرى العرس السنوية الأولى شيئاً مصنوعاً من الورق، وفي الذكرى الثانية شيئاً مصنوعاً من (البفتة)، وفي الثالثة شيئاً من الكتان، وفي الرابعة شيئاً من الحرير، ويتلو هذه الخشب فالحلوى فالزهر فالجلد فالقش فالقصدير فالعقيق، إلى آخر قائمة طويلة يعني باستظهارها من لا يزال يعني بتلك المراسيم ولاسيما التجار. ومن اشهر تلك الأعياد العيد العشرين ويهدى فيه الخزف الصيني، فالخامس والعشرين وتهدى فيه الفضة، فالثلاثون ويهدى فيه اللؤلؤ، فالأربعون وهديته الياقوت، فالخمسون وهو الذهبي، ثم الخامس والسبعون وهو الماسي؛ ومن بلغه فقد عمر دهراً طويلاً. ولاشك أن ربط هذه الأشياء بهذه الأزمان منشؤه في كل حالة خاصة غير واضح، ولكن نستطيع أن نقول على وجه التعميم انه يمت من قريب أو بعيد إلى ما كان يعتقد القدماء في المعادن والجواهر من يمن أو شؤم. حتى لتجدهم إلى اليوم يخصون الفصول والأيام، حتى والساعات بأحجار كريمة خاصة تدر على لابسها، أو الأرجح لا بستها، كل خير وبركة، فالزمرد حجر الربيع لخضرته، والياقوت الأحمر حجر الصيف لان لونه من النار، والياقوت الأزرق للخريف، والماس للشتاء ولونه من لون الثلج، يأخذ النور ويشع بالنور

احمد زكي

الأدب اليوجوسلافي في مختلف أطواره

كثر الحديث أخيراً عن يوجوسلافيا وأحولها لمناسبة مأساة مرسيليا التي ذهب ضحيتها الملك إسكندر. وكان للناحية الأدبية نصيب من تلك الأحاديث؛ فنشرت مجلة (الأخبار

ص: 63

الأدبية) مقالاً ضافياً بقلم الكاتب السربي ايفو باربتش عن الأدب اليوجوسلافي في مختلف العصور نلخصه فيما يأتي:

ليوجوسلافيا حضارة قديمة وأدب قديم. وترجع آثار الأدب السربي والكرواتي والسلوفيني القديم إلى القرنين العاشر والحادي عشر؛ وظهرت في القرن الحادي عشر أول آثار باللغة السلافية القديمة بقلم كيريل وميتود رسولي الأدب السلافي، وبلغت الحضارة اليوجوسلافية ذروتها في عصر (نيماجنا)؛ وهرع إلى الأديرة القديمة كثير من شباب الأشراف والأمراء، يعيشون في تقشف، ويدرسون الآداب البيزنطية والنصرانية القديمة، ويترجمون آثارها الخالدة إلى السربية القديمة. وبعد الفتح التركي (سنة 1389) دخلت الآداب اليوجوسلافية في طور جديد، وسادة فيها مثل البطولة والعناصر الشعبية والغنائية، وبلغت ذروة هذه المرحلة في القرن التاسع عشر، ولفتت نظر الغرب بشاعريتها القوية المؤثرة التي تقص آلام شعب مهيض وتستوحي ماضيه المجيد، وتدعو إلى تحريره من نير الغاصب

وقامت إلى جانب هذه الحركات الأدبية العامة حركة أدبية محلية في البلقان وعلى ساحل البحر الأدرياتيك في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تحت رعاية الحضارة البندقية. فكانت مدينة راجوزا مركزاً لحضارة سربية زاهرة، ونبغ بها عدة شعراء سربيين مثل منتشتش، ودرزتش، وجيورجتش. وبلغ شعر راجوزا غاية ازدهاره بالشاعر جوندلتش صاحب الأثر الشعري الخالد (عثمان)؛ وهي قصيدة قومية كبيرة، تضطرم وطنية، ويطبعها وحي الآداب الرومانية والنصرانية القديمة. وكان للدرامة والكوميدية والشعر الريفي نصيب كبير في هذه الحركة. وتردد صدى هذه النهضة الأدبية الزاهرة في كثير من المدن الساحلية الأخرى مثل زارا، وسبلاتو؛ ونبع بها عدد كبير من الشعراء والكتاب؛ كما ترددت في بلاد الكروات والسلوفين

على أن هذه المظاهر الأدبية كانت تنقصها الوحدة والتناسق حتى القرن التاسع عشر. وكان اعظم العاملين على تحقيق هذه الوحدة الكاتب الكبير فوك كرادجتش الذي لبث زهاء نصف قرن يناضل في سبيل وحدة اللغة الأدبية يؤازره جماعة من أنصاره وتلامذته، فكتب أجرومية اللغة الأدبية، وألف قاموساً، ووضع قواعد جديدة للإملاء. وكتب اوبرادفتش كتباً شعبية كثيرة يدلل بها على وحدة الأصل الذي تنتمي إليه العناصر السربية المختلفة، وكانت

ص: 64

زغرب عاصمة كرواتيا مهداً خصيباً لهذه الحركة الفكرية الجديدة، وفيها ظهر لودفيت جاي وجمهرة من الكتاب الذين يعملون على تحقيق هذه الوحدة الأدبية

وكان ذلك بدء الأدب اليوجوسلافي الحديث، وقد بدأ هذا الأدب متأثراً بالطابع الساذج القديم، ولكن مشرباً بروح الأدب الغربي الحديث، وكان زعماء هذا العصر نيوجوخ أعظم شاعر يوجوسلافي وصاحب الديوان الشهير (غار الجبل) ومازورانتش الكرواتي، وبرشرن السلوفيني، ونستطيع أن نذكر من الشعراء المعاصرين دوتشتش، وشانتشتش، وراكتش، ونازور، وكيت. ونبغ أيضاً عدد من القصصيين متأثرين بالأدب الروسي والفرنسي، ومنهم ليوبيشا، ولازارفتش، وسرماك، وكوزاراك، ولكوفار، وكانكار

وامتاز عصر ما بعد الحرب باضطراب فكري عظيم؛ وأبدى الجيل الشاب ميلاً جديداً لمتابعة الغرب في نزعاته نحو الأدب والفن؛ وظهرت في حلبة الآداب اليوجوسلافية الفكر القومي والدولي والاشتراكية الجديدة، أو بعبارة أخرى كانت النزعة الثورية تطبع أدب هذه المرحلة، بيد أن هذه النزعة قد اختفت اليوم، وعاد الكتاب والشعراء يعملون في هدوء لإخراج الآثار الأدبية الباقية. ومن زعماء الحركة الأخيرة مشش ودراجان، وهما اللذان جمع حولهما الشباب، لمكافحة النزعة الواقعية التي مازال يدافع عنها أساتذة جامعة بلغراد. وثمة حركة أخرى ربما كانت أكثر رسوخا وهي حركة (التعبير) التي يتزعمها فنافر، ثم مانيولفتش الذي ترك الشعر ليكتب القصة والقطع المسرحية. ومن أقطاب حركة التعبير أيضاً راستكو، وكريانسكي، وهو قصصي شاب يبشر بمستقبل عظيم، وله تلاميذ ومقلدون كثيرون؛ وملادنوفتش الذي أثار بعنف دراماته كثيراً من النقد وبجدا نوفتش الناقد الكبير

على أن هناك عدداً من الكتاب الذين استطاعوا أن يحتفظوا برزانتهم بعيداً عن التأثر بأزمة ما بعد الحرب؛ ولهؤلاء آثار تمتزج فيها النزعة الواقعية بالطابع الإبداعي. وهنالك صفوة من الكتاب والنقدة يجمعهم (نادي القلم) ويكونون ما يمكن أن يسمى (أرستوقراطية أدبية).

وقد تأثرت الحركة الأدبية بالأزمة الاقتصادية الأخيرة، وأحجم كثير من دور النشر عن إخراج المؤلفات الجديدة. بيد إنها أزمة مؤقتة لا يلبث أن يتغلب عليها الجيل الشاب بنشاطه وحيويته الفتاة.

ص: 65

عيد اللغة الألمانية

تحتفل الدوائر العلمية الأدبية في ألمانيا بمرور أربعمائة سنة على نشوء اللغة الألمانية الحديثة وترجمة الإنجيل إلى الألمانية. ولم تكن ألمانيا قبل أربعمائة عام تتمتع بلغة موحدة؛ وكانت اللغة اللاتينية ما تزال سائدة في الكنيسة والإدارات الحكومية، بل كان الشعب نفسه يجد في اللاتينية مثله الأعلى في الأدب والثقافة. ففي أوائل القرن السادس عشر ظهرت حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) على يد زعيمها مارتن لوتر، فكانت إيذاناً بقيام اللغة الألمانية الموحدة. وكان الشعب الألماني يتكلم عندئذ عدة لغات متقاربة ترجع كلها إلى أصل جرماني؛ فدرس لوتر هذه اللغات مع أصدقائه وتلامذته، واستخراج منها لغة عامة يتقارب الجميع في فهمها، واتخذ عمادها لغة ألمانيا الوسطى (سكسونية) التي ينتمي إليها، فأنشأ بذلك في الواقع لغة جديدة هي أصل اللغة الألمانية الحديثة، وكانت اكبر أداة في إذاعة هذه اللغة الموحدة ترجمة الإنجيل؛ ترجمه إليهالوتر، وعانى في هذه الترجمة صعابا لا تحصى. وقضى في إخراجها زهاء اثني عشر عاماً. وكان أثناء ذلك يلقي خطاباته ويخرج رسائله وكتبه باللغة الجديدة التي أختارها.

ولما ظهرت ترجمة الإنجيل الجديدة في سنة 1534 في فتمبرج، كان ظهورها ظفراً عظيماً في الكنيسة وفي الأسرة معاً، وكان فجر اللغة الألمانية الجديدة. وطبع إنجيل لوتر أربع عشرة مرة في كل مرة ثلاثة آلاف نسخة، وذاع في طول البلاد الألمانية وعرضها، وأقبل الشعب على قراءه وحفظه، وبدأت الشعوب الألمانية المختلفة تتبادل التفاهم والتعامل بالغة الموحدة. وإنجيل لوتر هو الأصل الأول الذي تقوم عليه اللغة الألمانية المعاصرة مع شيء من التغيير والتطور، ومازالت لغته مفهومة لجمهرة المثقفين والمتعلمين.

في الأكاديمية الفرنسية

نقص عدد الخالدين أعضاء الأكاديمية الفرنسية في هذا العام خمسة، فأصبحوا اليوم خمسة وثلاثين بدلاً من أربعين؛ فحلت مقاعد بريمون وكاميل جوليان والماريشال ليوتي ثم بارتو وبوانكارية بالوفاة تباعاً. ولم تشهد الأكاديمية الفرنسية منذ أمد بعيد مثل هذه الثغرة في كراسيها. والمعروف أن المرشح لكرسي جوليان هو جورج دوهامل، ولكن ينافسه ليون

ص: 66

بيرار؛ وأما المرشح لكرسي بوانكارية فيقال انه سيكون مسيو دومرج الذي خلف مسيو بوانكارية في رياسة الجمهورية ثم في رياسة الحكومة

وكان انتظام بوانكارية في الأكاديمية في التاسع من ديسمبر سنة 1909 في الكرسي الذي خلا بوفاة أميل جبهار. واستقبله المؤرخ الكبير ارنست لافيس مدير الأكاديمية يومئذ بهذه الكلمات التي تعود فتتردد اليوم: (إن ذكاءك يجعلك على اتصال مع عمال الفكر جميعاً. فأنت ضوء من أضواء المحاماة، وأنت ضوء من أضواء البرلمان؛ وان الأكاديمية الفرنسية لتستقبلك باسطة الذراعين. ثم إن فيك قوة، وقد تغدو هائلة، يوم تعتقد أن السياسة تتطلب رجالها)

ص: 67

‌القصص

ورقة النصيب

للأستاذ محمد سعيد العريان

جلس إسماعيل على المعقد الخشبي بجانب غرفته على السطح، يغني في حنين الواجد ولهفة المشتقات بعض أغنيات بلاده، ويتابع بعينه الشمس الغاربة منحدرة انحدارها اليومي، كأنها جمرة كبيرة تطفأ في النيل.

كان يعيش وحده في هذه الغرفة من منزل كبير في حي (بولاق) يشرف من بعد على النيل فكانت سلوته وانسه أن يجلس ببابها عصر كل يوم، من لدن عودته من المدرسة حتى يعم الظلام؛ ثم ينهض فيسرج مصباحه ويكب على مصوراته ودفاتره

وقد انحدر منذ عام واحد من بلدة في الصعيد الأدنى عقب حصوله على شهادة (الكفاءة) ليطلب العلم بمدرسة الفنون

كم كان مفتوناً بالقاهرة قبل أن يهبط إليها، ولوعاً بها أشد الولع. ولعله لم يمعن في الجد والدأب للحصول على الشهادة، إلا لأنه كان موعوداً أن يرسل إلى القاهرة إن جاز الامتحان!

فلما هبط إليها إذا هي تتضاءل وتتضاءل على الأيام، حتى لم تعد إلا هذا الحي العتيق الذي يسكنه، وهذه الطريق الملتوية التي يسلكها كل يوم بين مدرسة والبيت، وهذا السطح الذي يشرف منه على أطلال الحلم السعيد - أطلال القاهرة التي عرفها في الخيال، واستمتع فيها بلذة المنى ووهم الحب ودنيا الشباب!

وكم كان يتمنى أن يتيح له الحظ ليلةً سعيدة من تلك الليالي العابثة التي عاشها في القاهرة أول ما هبط إليها! ولكن. . . ولكن من أين له المال؟

انه ما يزال يذكر في لهفة وشوق الليالي السعيدة؛ وما يزال يذكر أيضاً في ألم وحسرة انه احتمل مما انفق في تلك الليلات ما لم تكن به طاقة، من ألم الجوع وذل الحرمان، وأبى أن يكتب لأبيه يومئذ انه فارغ اليد مما أسرف على نفسه

وقنع من أحلامه بهذه السكنى الهادئة، وبأن يعيش من الجنة في ظل حائطها الفينان. وعرف فيه بنات الدار شاباً جم الحياء، عفيف اللسان والنظر؛ فألفن الصعود إلى السطح

ص: 68

في الأصيل يستمعن إلى ترجيع أغانيه في طرب ونشوة، ثم يتفرقن قبل أن يزحف الظلام وألف إسماعيل أن يراهن كل يوم، وان يبادلهن الحديث البريء في شؤون وفنون. . . وزال الحجاب بينهما على الأيام

وأطال إسماعيل الجلوس يومئذ حتى غابت الشمس، ولم تصعد واحدة. ترى ماذا منعهن الليلة، وقد اعتدن واعتاد منذ شهر أو يزيد - منذ سكن هذا الدار - أن يجالسهن جميعا أو أشتاتا، ساعةً أو بعض ساعة كل مساء؟. . . ومد الظلام رواقه على القاهرة، وعلى قلب المبعد اللهفان

ودخل غرفته فأشعل مصباحه وبسط دفتره، فإذا هو لا يكاد يرى، وإذا الكلمات والسطور تتلوى أمام عينيه، كما تشاهد فرقة زنجية راقصة. . .!

وطوى دفاتره وارتدى ثيابه وخرج إلى الطريق؛ كانت الليلة ليلة الجمعة، فلم يجد حرجا أن يقضيها في السينما. . ووقف ببابها متردداً وهو يحصي النقود في جيبه، وعيناه تتبعان المارة أزواجاً وجماعات، وهو وحده من بينهم لا يتأبط إلا همه! ليته كان يستطيع أن يدعو واحدة من صديقاته في الدار إلى نزهة، فيصحبها ذراعا إلى ذراع في الطريق كهؤلاء الذين يرى! ولكن من أين له، من أين له المال؟

كم يكفيه ليقضي ليلة سعيدة في صحبة فتاة؟ لقد عرف القاهرة الآن عرفاناً تاماً، فلا سبيل إلى أن يخدع سيشاهد معها السينما في شرفة ذات أستار، ويتعشيان معاً في مطعم فاخر، ثم يستقلان سيارة إلى الهرم، ويشتري لها كل ما تهفو نفسها إليه في الطريق، وبعدئذ. . وبعدئذ يعودان إلى الدار

وفرغ من حسبته وهو يبسط أصابعه ويطويها يحصي ما انفق، وعيناه تأخذان كل من يمر به. . جنيه، جنيه واحد سيمنحه سعادة ليلة! وسخر من نفسه حين انتهى إلى ذاك: من أين له الجنيه؟

ومر به غلام يبيع الجنيهات بالقروش؛ يبيع النصيب! ومد إسماعيل يده فأعطى البائع قرشاً، وتناول ورقة فطواها بعناية ووضعها في جيبه؛ كأنما هو يطوي الجنيه الذي سيصل بين يقظته وأحلامه. ثم عاد إلى البيت فلم يشهد السينما

لم يفكر في شيء من أمره تلك الليلة، فنام ملء عينه وملء بطنه! ورأى أباه في الرؤيا

ص: 69

بجلبابه الأسود الفضفاض، وعمامته التي تكبس أذنيه وبعض وجهه؛ جالساً بين غرائر الفول على ظهر المركب المبحرة إلى الشمال، يحصي ربحه ونفقاته، وقد اغبرت لحيته وعلا التراب كتفيه. ونهض في الصباح فنسى كل ما كان من أمره. وصعدت إحدى صواحبه إلى السطح لبعض شأنها، فحياها وحيته وهو يبتسم، كأنه يخفي عنها مفاجئة سارة. وعادت الفتاة وعاد إسماعيل إلى شئونه

وأوقد النار وراح يهيئ الفول بيده على طريقة بلاده؛ سوف لا يتغذى في المدرسة هذا اليوم لأنه يوم عطلة، وفي فطوره الفول ما يغني عن الغداء، فلا تختل ميزانيته اليوم!

ومر يومان وراح يكشف عن بخته بين أوراق النصيب. . . وترقب الفتيات أن يسمعن غناءه فيصعدن إليه، ولكنه لم يعد، واستقل أول قطار إلى الصعيد. . .

مائة جنيه! يا للبخت! لم تكن أحلامه لترتفع إلى ذاك! إنها لثروة. وقسم النقود قسمين، واشترى حافظه ثمينة فوضع فيها بعض ما ربح، وخاط جيبه على الباقي. . . لقد دبر أمراً ليخدع أباه، حتى لا يحرمه المال كله!

وخرج الشيخ متولي من المسجد يداعب سبحته بيده ويتمم بالتسبيح والدعاء، وهو في هم لمقدم ولده من غير داعية. . . وقبل الفتى يد أبيه، وقال له وهو يبتسم:

- الحمد لله على سلامتك يا ابي، لقد كنت مشتاقا إليك!

- مشتاقاً إلي! وهل جئت من اجل ذلك؟ حسبتك رجلا إسماعيل!

- نعم. . . ولكن. . .

لكن الرجل يجب أن يكون على قوة احتمال وصبر، ولست ولدي إن لم تكن رجلاً

- بلى، وإنما قدمت لأمر. . .

- أي أمر؟

- لقد ربحت خمسين جنيهاً فرأيت أن أجعلها عندك!

- خمسين جنيهاً؟

- نعم!

وانبسطت أسارير الرجل، وداعبت شفتيه ابتسامة، واتسعت حدقتاه، وعاد يقول:

- ومن أين لك رأس المال؟ لم تخبرني من قبل انك في تجارة!

ص: 70

- لقد ربحت ورقة نصيب!

- وي! ورقة نصيب؟ قمار؟ ميسر؟

واستوى عوده، وانكمشت يده واختلجت شفتاه، ثم قال:

- لا لا، ويحك! لا تجمعها في مالي، إنني رجل شريف، إن مالي من عرق جبيني فلا أريد أن يمحقه المال الحرام!

- أبي!

- اسكت! قم فردا إليهم، دعهم يفرقونها على أصحابها المساكين، من يد كم بائس اجتمعت القروش حتى عادت خمسين جنيهاً؟ إنهم يخدعون الجهال البائسين فيسلبونهم القروش القليلة التي يملكونها، ليوهموهم أنهم سيقاسمونهم بعض ما يجمعون؛ بعض ما يسرقون!

- وهل يمكن. . .

- يمكن أو لا يمكن، فلن أجعلها في مالي، إنا ملونة، قذرة، هل تعرف من أين اجتمعت؟

- لا أعرف

- المال الحلال يعرف دائماً مأتاه. . .

كان قلب الولد يضحك ووجهه عابس، ولم تنته المناقشة بينهما إلى حد؛ فقد تحرج الشيخ الورع أن يضم ربح (الميسر) إلى ماله، ولكنه لم يسأل نفسه عما سيفعل ولده بالمال

وعاد إسماعيل إلى القاهره، ولكنه لم يعد إلى داره إلا بعد ليال ثلاث. . وأطل الفتيات من خلف الباب يشهدن إسماعيل عائداً إلى الدار، يصعد الدرج في زهو وكبرياء، وعليه حله جديدة، وفي عينيه فتور ينبئ أنه قضى ليله سهران

وترامى إليهن غناؤه من فوق السطح أكثر حناناًوفتنة، كما بدا هو أكثر مرحاً ونشاطاً مما كان. وتبادل الفتيات النظر، ثم ولجن غرفهن وغلقن الأبواب

لم تحاول واحدة منهن أن تصعد إليه بمرأى صواحبها، فقد بدا لهن مما تغير من هيئته وحركاته كأنه شخص آخر غير إسماعيل الذي يعرفنه ويثقن بعفته وأدبه، وكأنما ألقى اليهن جميعاً معنى واحد، فخجلن أن يبدوا له، وإن أخذت كل واحدة منهن تؤمل أن تجد فرصة من غفلة رفيقاتها لتصعد إليه وحيدة

وسبقتهن (حكمت) إلى ذاك، ولكنها لم تظهر له أو لواحدة منهن أنها تعمدت أن تصعد

ص: 71

واستقبلها إسماعيل ضاحكا، وهز يدها بلطف، وجلسا يتبادلان الحدب. ثم افترقا على ميعاد. . . ووجد الفتى تعبير رؤياه، وكان حلماً أشرق عليه الصبح، فأتمته اليقظة التي تصنع الأحلام

ولكنه لم يقنع بسعادة ليلة، وعاد يتعرف القاهرة من جديد، القاهرة التي فتنت قبل أن يراها، والتي ذاق فيها من ألم الحرمان أكثر مما ذاق من لذة الوهم؛ وراح ينتقم لشهوات نفسه التي قمعها على ألم وضيق عاما وبعض عام

ونفذت دراهمة

لم تجر سفينة الشيخ متولي مجراها كما كانت، فركدت ريحه، وأدبرت أيامه، وعادت الحياة تقتضيه مضاعفة الجهد وبذل الموفور

وجلس إسماعيل مع أبيه ذات يوم صائف بباب متجره، ومر بائع النصيب؛ وتحلب لعاب الفتى وطارت أمانيه إلى هناك؛ إلى القاهرة ولياليى القاهرة؛ وإلى حكمت وصواحب حكمت! ولكنه أفاق من حلمه إذ رأى ذراعه إلى ذراع أبيه. . .

والتفت فإذا الغلام واقف، وإذا أبوه يخرج من جيبه أوراقا يكشف بينها عن بخته، ثم يمزقها ويلقيها، وإذا هو يشتري غيرها فيطويها ويجعلها في جيبه، ليضم صدره على أمل جديد. . .! وتباله الفتى فنهض من مجلسه ليخفي ابتسامة ساخرة، وعلى طرف لسانه كلام. . .

لم يعد الشيخ متولي يسأل نفسه: من أين اجتمعت هذه الجنيهات التي يحاول أن يشتريها بالقروش! فلعله كان يعلم أنها اجتمعت من قروشه الكثيرة التي أداها هو إلى بائعة البخت، منذ تعلم أن يحاول شراء البخت بالمال. . . منذ ربح ولده. . .!

وضحك (إبليس) من الشيخ متولي وهو يمزق الأوراق ويشتري غيرها، وقال لشيطان وهو يعلمه:

(أنظر هذا الأبله؛ ما أرسلت إليه ابنه إلا برسالتي، فقد علقته الحبالة. حسب الإنسان الضعيف أن أربه الحرام مرة؛ فهذا أول عملي في طبيعته)

قال الشيطان الصغير (ثم بعد ذلك؟) قال المعلم (بعد ذلك - أيها الأبله - طبيعته. . .!)

محمد سعيد العريان

ص: 72

‌الشاعر والوردة

في سنة 1257 ميلادية في إحدى قرى ألمانيا على ضفة نهر الرين، كان البارون أوتودي سيد المقاطعة مشهوراً بين قومه بثروته الطائلة وأحكامه القاسية

جمع هذا الرجل كل ما ملك من ذهب وجواهر ووضعها في صناديق مفتوحة في قاعة تحت الأرض، وكانت الشمس تدخل هذه القاعدة من ثغرة في نهايتها فتضيء بأشعتها هذه الجواهر الغالية

وكان البارون يجد تسلية لا تعد لها تسلية في السماح لمن يشاء أن يدخل تلك القاعة ويملأ جيوبه من المال بقدر ما يستطيع على ألا يستغرق في ذلك إلا مقدار ما تدق الساعة عشرة دقات، فإذا انتهت المدة ولم يخرج الرجل اعتبره سارقاً ما يحمله من جواهر وحكم علية بالرق مدة حياته. فكان يطمع في هذا المال كثيرون كل يوم، وكان عدد عبيد البارون يزداد بقدر عدد الذين طمعوافي ماله لأنه لم ينج من هذه الأحبولة أحد. وهذا ما كان البارون يتوقعه؛ ولم تخيب الأيام ظنه مرة واحدة

ففي ذات يوم مر على القصر هذا البارون شاعر مطبوع، وشاب مشهور بين قصور أمراء ألمانيا في ذلك الحين بجماله ورقة شعور ورخامة صوته ومهارته البالغة في الضرب على القيثاره. وكان يقضي حياته منتقلا بها من قصر إلى قصر

واتفق أن ابنة البارون ووحيدة دخلت في ذلك اليوم في عامها السادس عشر، فطلب إليه البارون أن يحي ليلة موسيقية تكريما لها

وقبل أن ينصف الشاعر طلب إليه البارون أن يدخل قاعة المال ويأخذ منها ما يشاء، على شرط أن يكون خارج القاعة قبل أن تنتهي المدة المقررة، وكأنه بهذا الطلب أن يستأثر بهذا الشاعر ويستعبده كغيره من الشبان

ولكن الشاعر أجاب: (وماذا افعل بمالك؟! لست في حاجة إليه، لأنني اشعر أن في نفسي من اللآلئ مالا تعد جواهرك الثمينة بجانبه شيئاً) ولكن البارون ألح عليه فأجاب طلبه

فلما كان الشاعر داخل القاعة أبصر من هذه الثغرة وردة انبهر من جمالها نظره وخفق لحسنها قلبه، فوثب وفوق المال المكدس واقتطف تلك الوردة وخرج مسرعاً قبل أن تنتهي المدة. فلما رأى البارون أول من خرج من القاعة دهش. وقال له (إن ما حملته من المال ملك لك) ولن البارون لم يجد شيئا مع الشاب سوى الوردة الجميلة. فقال له (أهذا كل ما

ص: 73

أخذته من القاعة؟!) فقال الشاعر (إني لم أرى في مالك ما هو اجمل منها، بل ليس على الأرض ما هو اجمل منها. . . .)

ولم يكد ينتهي من حديثه حتى أقبلت الفتاة على والدها وحمرة الخجل تعلو وجنتيها. فلما رآها الشاعر دهش لجمالها الفاتن وقال متمماً حديثه مع والدها (. . . إلا هذه الفتاة) ثم طلب من البارون أن يسمح له بتقديم تلك الوردة هدية إلى ابنته. فقالت الفتاة لأبيها: (إنه يفضلني على هذه الوردة يا أبي، وقد فضلها على كل جواهرك؛ فليس على الأرض فارس أرق منه شعوراً ولا اشرف منه عاطفة، ولا اصدق شعراً، ولن أكون زوجة إلا له)

وهكذا اصبح هذا الشاعر الحق، وذلك الشاب النبيل، زوجاً لهذه الزهرة الحية الجميلة

(عن الإنجليزية)

كلية غردون

علي محمد احمد

ص: 74

‌الكتب

في التربية

بحث في عوامل التربية غير المقصودة

تأليف الدكتور علي عبد الواحد وافي

قررت وزارة المعارف هذا الكتاب لطلبة دار العلوم، وهو يقع في نيف ومائتي صفحة من القطع الكبيرة.

وجد المؤلف الفاضل أن كتب التربية التي صدرت في مصر حتى الآن توجه القسط الأكبر من عنايتها إلى عوامل التربية المقصودة، أعني تلك العوامل التي تنحصر فيما يتخذ المربون من وسائل حيال الناشئين بقصد التأثير في جسومهم وعقولهم وأخلاقهم تأثيراً يعدهم للحياة المستقبلية، بينما تنصرف عناية المؤلفين عن تلك العوامل التي يسميها الدكتور الفاضل عوامل التربية غير المقصودة، والتي تؤثر تأثيراً قوياً في حياة الصغار دون تدخل من المربين، ومن تلك العوامل البيئتان الطبيعية والاجتماعية وما إليهما من طرق معيشة الأمة ومقدار حضارتها وأشكال نظمها وصنوف تقاليدها، مضافا إلى هذا تلك الأمور التي يقوم بها الطفل من تلقاء نفسه، ويكون لها اثر قوي في سلوكه ونشوئه، كالألعاب الحرة والأعمال التي يقوم بها الطفل مدفوعاً بغريزة المحاكاة والتقليد

ولقد خصص المؤلف كتابه هذا لدراسة طائفة من تلك العوامل وهي اللعب والتقليد والوراثة والبيئة الجغرافية والبيئة الاجتماعية

تكلم عن وظائف اللعب التربوية وما قيل فيها من نظريات، وناقش هذه النظريات مناقشة العالم المجرب في منطق مستقيم وترتيب حكيم، دون أن يغفل أي ناحية من نواحي الموضوع، ثم أورد ملخص هذه النظريات مبيناً وظيفة اللعبة الأساسية ووظائفه الثانوية، وبعد ذلك أتى على أقسام اللعب الإنساني وأوضح الفرق بين اللعب والعمل، وتكلم على تطور الألعاب وارتقائها، وختم موضوع اللعب بما عساه أن ينتفع به من المربي من اللعب في التعليم، وهو كما ترى فصل قوي شيق يستغرق أربعا وستين صفحة من الكتاب وانتقل بعد ذلك إلى التقليد، فتكلم عن التقليد في الصوت شارحاً الأصوات الوجدانية واللغة وأساس

ص: 75

كل منهما عند الطفل، وشرح التقليد في الحركة مبيناً أنواعه ومراتبه وأساسه، إلى أن انتهى إلى بيان وظائف التقليد التربوية، كل ذلك في بسط ودقة وحسن ترتيب

أما الفصل الثالث وموضوعه الوراثة، ذلك الموضوع الدقيق فقد تناول المؤلف بما يتناسب مع خطره من الشرح والبسط، فحدثنا عن أنواع الوراثة وأسبابها وأهميتها وعلاقتها بالتربية، حديث الخبير الفطن. وفي الفصلين الأخيرين تكلم عن البيئيتين الجغرافية والاجتماعية العامة، ناهجاً في ذلك نهجه في الفصول الثلاثة السالفة

فهذا الكتاب كما ترى من موضوعه، أحد الكتب الهامة التي تعد من مظاهر هذا الدور العلمي الذي تجتازه مصر في عهدها الحالي، فإذا أضفت إلى موضوعه، تلك الروح القوية التي عرض بها، وذلك المجهود الذي يتجلى فيما حواه من شروح وتعليلات ومناقشات، وكلها وليدة عقل متزن ونتيجة إطلاع واسع ودراسة دقيقة، أمكنك أن تقدر قيمة هذا الكتاب العلمية فهو بحق أحد المؤلفات التي تقابل بالغبطة، والتي يحتاج إليها كل معلم، بل كل مثقف يهمه أن يقف على نواح من المعرفة تهمه في حياته العلمية وفي دراساته النظرية.

الخفيف

الألحان الضائعة

نظم حسن كامل الصيرفي

قرأت ديوان شاعرنا الشاب، فأحزنني لعمر الله هذا البكاء الذي لا ينقطع، وهذه الشكوى المريرة التي تعج بها قصائده، ورحت أتلمس سر تلك الكآبة الجازعة، فلم أهتد إلى شيء، فطويت الكتاب وأنا برم بهذه النزعة من شباب في مقتبل العمر، أجل، ربما كان الشاعر قد صادف في حياته ما أجرى دموعه، ولكن متى كانت رسالة الشعر النحيب والشكوى في غير سبب معروف وفي غير إيضاح من الشاعر عما ناله؟ على انه لو كشف عن سر بكائه لكان الواجب يقضي عليه يقتصد شكواه أو يعرضها في صورة غير تلك الصورة اليائسة المستسلمة

تفتح ديوان هذا الأديب الفاضل فتجده يصف نفسه بالضحية ويرمز لنفسه بالواحة المنسية، ثم يصور لك حياته في صور باكية يائسة، وذلك في عدة قصائد، (كالحي الدفين) و

ص: 76

(واللحن الضائع) و (القلب المحطم) و (الشكوى الصامتة) و (جرح الألم) و (الصدى الخافت) و (جفاء الطبيعة). . . الخ

أما شعره في ذاته فلي عنه بعض ملاحظات أرى الرغبة في الإنصاف تقضي علي بسردها. أول ما ألاحظ عليه انه كثير الميل إلى المجازات والاستعارات الغريبة فيذكر في شعره كهوف الحياة، وقيثارة الحياة، وقبر الحياة، والفضاء الجمود، ولهيب الأنين، وجنان الخيال وعصير الشجون، وظلال الفتون. . الخ فضلا عن إتيانه بكثير من المعاني والأخيلة الغريبة فيتحدث عن الشمس مثلا عند الغروب بأنها:

تخفي الأسى خلف النخيل

مثل ابتسامات العليل

ويقول:

نزل المساء برَجله

وجرى الظلام بخيله

ويصف الفجر فيقول:

فإذا الجو غارق في اهتزاز

كاهتزاز الأوتار دون (نشاز)

وخفوق لكنه باعتزاز

ويقول:

أعيش أشاطرهم بؤسهم

وأملأ كأسي عصير الشجون

إلى غير ذلك من الصور والأخيلة الجزئية، فضلا عن الصور الكلية، وهي لا تقل عن هذه غرابة كقصيدة (الشاعر وموت عزرائيل) و (أغاني الربيع) وغيرها، وبهذه المناسبة أقول إن بعض شعراء الشباب قد استولت على أذهانهم فكرة غامضة هي فكرة الشعر الرمزي، يرددون هذه الكلمات دون أن يفهموا المقصود منها، وينظمون القصائد ويسوقونها مطلقة جامحة، وأي غضاضة في هذا، أليست من الشعر الرمزي؟! وهكذا يطلون الأعنة لأخيلتهم على غير هدى والى غير مقصد، ولا يخفي ما يجره هذا من الضرر على تفكيرهم ومثلهم وإني لا أخشى طغيان هذه الظاهرة واعدها من اكبر العقبات التي تقف في سبيل تقد الشعر العصري، ولا بد لشبابنا أن ينبذوا هذه الفكرة إذا أرادوا أن تنضج مدرستهم، وتبرز شخصياتهم وتحدد وجهاتهم.

والأديب الصيرفي فضلا عما تقد قليل العناية بقوافية وبلغته على وجه العموم، ولعله في

ص: 77

ذلك أيضاً متأثراً بفكرة أخرى يرددها بعض أدبائنا وهي أن الألفاظ يجب تضحي في سبيل المعاني، فما دام المعنى جيداً فلا عبرة باللفظ الذي يؤديه! وليت شعري كيف يكون اللفظ سقيماً والمعنى سليماً؟ إن للشعراء ألفاظاً خاصة ودبياجة خاصة، وروحاً خاصة، لا في اللغة العربية فحسب، بل في غيرها من اللغات، ولو أمن بذلك شبابنا لأخذوا أنفسهم بما يصلح أذواقهم ويصفي عباراتهم فيتم لهم الجمع بين جمال الفكرة وجمال أدائها

هذه هي بعض ملاحظاتي عن ديوان الصيرفي في موضوعه، أما عن شكله فأراني مضطرا إلى أن أصارحه بأننا نود أن نخلص من أمثال تلك المقدمات التي يجتهد أدباؤنا في الحصول عليها من أصدقائهم، تلك المقدمات التي تحشد فيها عبارات الإطراء من غير تحفظ، إذ أن هذا الإطراءيأخذ السبيل على القارئ، ثم هو من جهة أخرى لما يتضمنه من المبالغة يجعل القارئ ينتظر من الديوان ما يتفق مع عبارات المديح حتى إذا جاءه لم يجد فيه ما يحقق رغبته، وفي هذا ما فيه من تقويض دعائم النقد والاستخفاف بعقول القراء.

واحب قبل أن اختم كلمتي أن أشير إلى بعض قصائد في هذا الديوان سما فيها الشاعر سمواً عظيماً، ولو جرى في شعره على مثلها لكان لنا أن ننتظر منه أحد شبابنا المتفوقين، وتلك القصائد هي: البسمات الساخرة، والشجرة العارية، وتحت ضوء القمر، ووحي الشعر، وموت البلبل، وأشباهها.

الخفيف

الإنشاء التعليمي

تأليف الأستاذين محمد شفيق معرف ومحمد عبد الغني الأشقر

يقع هذا الكتاب في مجلدين أنيقين، على ورق مصقول. ولعله الأول من هذه الكتب الكثيرة التي أخرجها مؤلفوها يقصدون بها إلى الصغار التلاميذ لينهضوا بإنشائهم إلى المستوى الذي يريدون، فقد سلك هؤلاء المؤلفون جميعاً طريقاً واحدة، لا احسبها مؤدية بهم إلى الغاية المقصودة على الوجه الاكمل، لانهم قنعوا بأن يقدموا لتلاميذهم طائفة من الموضوعات الجيدة ليتخذها هؤلاء نماذج فيما يسطرون، ونحن نرى في ذلك قلباً للأوضاع وعكسا للمنطق، وكأننا بهؤلاء المؤلفين قد أرادوا أن يقفزوا بالصغار إلى سطح الدار دون

ص: 78

أن يمهدوا لهم درجا هيناً يمكنهم من الصعود

أما هذا الكتاب الذي نقدمه إلى القراء، والمدرسين خاصة، فقد فرض في الطفل طفولته المتعثرة العاجزة، فأخذ بيده أخذاً رفيقا متدرجا به من تكوين الجملة إلى بناء الموضوع، فلا يعترض طريقه نتوء يقعد به عن إتمامها.

ذلك مجهود موفق مشكور أملته خبرة بالتدريس لا تتفق للكثير.

ز. ن. م

دير الربان هرمزد

بقلم كوركيس حنا عواد

تناول هذا الكتاب بالبحث المستفيض أثرا قديما في العراق يقع قريبا من الموصل، وهو ذلك الدير الذي أشار إليه العنوان. وقد بسط المؤلف القول في هذا الدير بسطا صوره للقراء تصويرا شاملا دقيقا، فرسم لك الطريق التي تؤدي بك إلى مكان هذا الأثر، ثم وصف لك الدير نفسه بما فيه من رهبان. وهنا استطرد فقدم كلمة عن الرهبنة في الشرق وما تجري عليه من سنن ثم تناول حياة الربان هرمزد نفسه بالبحث.

واقل ما يشكر عليه مؤلف هذا الكتاب الفني الدقيق، ما تجشمه من عناء لكي يبرز هذا الأثر في ضوء الشمس ويضعه من قراء العربية تحت أبصارهم.

ز. ن. م

ص: 79