المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 700 - بتاريخ: 02 - 12 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٧٠٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 700

- بتاريخ: 02 - 12 - 1946

ص: -1

‌ساعة فاصلة.

. .!

للأستاذ محمود محمد شاكر

إذا المرء لم يحْتَلْ وقد جَدّ جِدّه

أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدْبِرُ

ولكن أخو الحزْمِ: الذي ليس نازلا

به الخطْبُ إلا وهو للقصْد مُبصرُ

فذاك قريع الدهر، ما عاش، حُوّلٌ

إذا سُدَّ منه مَنْخِرٌ جاشَ منخرُ

وأيُّ خطب!! فنحن أمة قد عاشت أكثر من أربع وستين سنة تجاهد عدُواً لدوداً، واسع الحيلة، كثيرَ الأعوان، ينفثُ سمه حيث مشى، ويُخفي غوائله ليكون فتكه أخْفى وأنكى وأشدَّ. فاتخذ لنفسه من صميم هذا الشعب رجالا خدعهم عن عقولهم، وزيَّن لهم أن يعملوا في الدسيسة للأرض التي أنبتتْ عليهم شحومهم ولحومهم وحملتهم على ظهْرها هم وآباءَهم وأبناءَهم وذَرَاريهم، وأظلَّتهم سماؤها بالظلّ الوارف الظليل، وسكَبَتْ في نفوسهم سرّ الحياة، وسقاهم نيلها بدَرّهِ الذي اشتدَّت عليه أبدانهم وأحوالهم، ومهّد لهم المتاع ما أطغاهم وكان خليقاً أن يملأ قلوبهم شكراً، وألسنتهم حمداً وثناءً. وزاد فأطلق في جنَبات هذا الوادي أسراباً من صعاليك الأفاعي الأجنبية، أَخافت الوَادِع، ولدَّغت السليم، وذادَتْ عن سُهول هذا الوادي كل حيٍّ من أبنائه حتى ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبتْ وضاقت عليهم أنفسهم. ولم يزل ذلك دأبنا ودأب عدوِّنا حتى أتاح الله الحرب العالمية الأولى فاستعلن من ضغينته وبغضائه ما اكتتم، وأعلن الحماية على أرض مصر. فلما خرج ذلك العدوّ من لأوائها منصوراً مظفّراً، لم يبال الشعب المصري العزيز بسطوة ولا بأس ولا قوةٍ من حديد ونارٍ، فثار ثورته العجيبة في أوائل سنة 1919، وما كان يخيّل للعدو الباغي أن ذلك شيءٌ ممكن، وبعد لأي ما تحقّقَ من أنه شعب حديدُ العزم لا تُرْهبه القوة الباطشة ولا العدوان الغشوم. فاحتال له حيلة أخرى يفرّق بها بين الرجل وأخيه، والأب وبنيه، والأمِّ وفلذات أكبادها، فرمانا بالداهية الدَّهياءِ التي جعلت الناس يختلفون بينهم على غير شيءٍ إلا الحُكم والسلطان، وتدسَّس إلى قلوب الرجال شيطانٌ مريدٌ هو: تلك الحزبية والعصبية للأشخاص، فكادت تنقض بناءَ هذه الأمة حجراً حجراً.

ثم كان من رحمة الله أن جاءت الحرب العالمية الثانية، فخرج منها عدوُّنا مرة أخرى منصوراً مظفراً، فلم يبالِ الشعب المصري وخرج يقول له: (اخرجْ من بلادي، ورُدَّ علّى

ص: 1

جنوب الوادي) وكادَ يكون ما كان في سنة 1919، ولكن العدو كان أسرع حيلة وأرشق حركة، فنَصَّبَ رجالا منَّا ليحملوا بلادهم على سبيل مضَلَّةٍ. فكانت هذه المفاوضات الخبيثة التي ظلَّت تدور شهراً بعد شهرٍ إلى غير نهاية إلى يومنا هذا، بيد أن الشعب نفسه ظل هادئاً متربصاً طوال هذه الشهور وهو عالم ٌ أن المفاوضة كلامٌ لا يغنى فتيلا، وأن (الجلاءَ) حقٌّ لا ينازعه فيه أحد، وأن ضمّ السودان إلى أخته مصر حقٌّ لن يعوقه عنه بطشٌ ولا جبروت، وأن الحرية حقٌّ البشر منذ يولدون إلى أن تُطمَّ عليهم القبورُ. ومضت الأيام والشعبُ يسمع لَجاج المفاوضة وهو غيرُ راضٍ، ولكنه استنكف أن يحولَ بين طائفة من أبنائه وبين ما يظنون فيه الخير لبلادهم، فتركهم يعملون ليعرفوا أخيراً ما عرفه هو بفطرته النقيّة: أنْ لا خير في مفاوضة الغاصب القويّ حتى يرد على المغصوب الضعيف ما سلَبَ منه، وأن الإباء هو خُلُق الأحرارِ، وأن العزْمَ هو المنقذ من ضلال السياسة، وأن اجتماع الكلمة على الجهاد في سبيل الحق هو الخلاصُ وهو سبيل الحرية.

وقد انتهت الآن هذه المفاوضات وجاءنا المشروع الذي يرادُ لنا أن نصدّق عليه ونقبله، فللأمة حقُها اليوم أن تقول كلمتها، ولكل مصريّ أن يقول كلمته، وليس لهيئة المفاوضة ولا لرئيس الوزراء أن يفتاتَ على حقّ الشعبِ بشيء لا يرتضيه الشعبُ، فإن هذه ساعة حاسمةٌ في تاريخ الشعب المصريّ، بل ساعة حاسمة في حياة أبنائنا الذين يدبُّون على الأرضِ، وحياة النّسْل المصري الذي يسرِي في الأصلاب حتى يأتي قدرُه. وانه لهوْلٌ أي هول أن ينفرد رجُلٌ أو فئة من رجالٍ بالتصرُّف في هذه الأنفُس البشرية كأنهم أصحابها وخالقوها والنافخو الحياة في أبدانها. فالله الله أيها الرجال في مصاير بلادِكم وأبنائِكم وورثة المجد القديم الذي يطالبهم كما يطالبنا بان نعيش أحراراً في بلادنا، وبناةً لأمجادِنا، وحَفَظةً على تاريخ أجدادنا.

وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم كما قال الشاعر:

وعلمتُ حتى ما أُسائل واحداً

عن عِلْمِ واحدة لكي أزدادها

وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم مالكو رقابِ هذا الشعب بمالهم أو جاههم أو سلطانهم، وليأذن لنا أولئك الذين هانت عليهم أنفسهم فضاقوا ذرعاً بإباء هذا الشعب أن يكون ككلْب الرُّفقة يشركهم في فضلة الزَّادِ، فإذا ضجروا به قالوا له اخسأ أيها الكلب، وليأذن لنا

ص: 2

المخلصون من الكُتاب الذين يظنون إن التساهل والتغاضي لا بأسَ به ما دُمنا لا نملك أسطولا ولا طائراتٍ ولا سلاحاً ولا قنابل ذرّية، وأنه لذلك لابد لنا من أن نحالف حليفاً قوياً ينصرنا إذا بُغي علينا، ويردّ عنا إذا زحف عدو إلينا - ليأذن لنا أولئك جميعاً أن نتكلم بلسان مصر المظلومة المهضومة، فإنها هي وحدها التي ينبغي أن تنطق وتقول، فإن قولها هو القول الفصْل - لا قول العلماء الذين يرون أن لا علم إلا علمهم، ولا قول أصحاب المال والسلطان ولا قول المتهاونين الذين يرضون من نيل الحق ايسر ما ينال.

إن هذه المعاهدة الجديدة التي تمخضت عنها المفاوضات الطويلة تقوم على أربعة أساس:

الأول: أن الجلاء سيتم بعد ثلاث سنين

الثاني: أن تعد مصر بأن تقوم مع إنجلترا بالعمل الذي تتبيّن ضرورته في حالة تهديد سلامة أي دولة من الدول المتاخمة.

الثالث: مجلس دفاعٍ مشترك يقرّر الرأي في الذي سموه (تهديد السلامة) وجعلوا له حق تنظيم الأسباب التي تسهّل مهمة اشتراك الجيش المصري مع الجيش الإنجليزي في الحرب.

الرابع: أن تكون الأهداف الأساسية في مسألة السودان هي تحقيق رفاهية السودانيين وتنمية مصالحهم وإعدادهم (إعداداً فعلياً) للحكم الذاتي، وممارسة حق اختيار النظام المستقبل للسودان، والى أن يتم ذلك بعد التشاور مع السودانيين تظل اتفاقية سنة 1899 سارية وكذلك المادة 11 من معاهدة 1936 - هذا محصِّل ما تقوله المعاهدة الجديدة.

ومصر تقول إنها لا تثق بالمواعيد الإنجليزية المتعلقة بالجلاء فقد بلتْ ذلك أكثر من ستين عاماً فلم تر إلا شراً، وإنها لا تريد أن تُقِرَّ ساعة واحدة للإنجليز بالبقاء الشرعي في بلادها فكيف ترضاه وتوقع عليه وتعترف بشرعيته ثلاث سنوات طوالا. وتقول إن تحديد السنوات خداع وبيل العواقب غير مأمون المغبة فإنها لا تدري ماذا عسى أن يكون غداً أو بعد غد، وان الإنجليز قادرون إذا شاءوا على الجلاء في أقل من ستة أشهر جلاء كامل عن كل بقعة من بقاع هذا الوادي، فالإطالة مُرَادَةٌ لنفسها لأسباب جهلها من جهلها وعلمها من علمها. وقبيح بامرئ ذاق الذل من وعود الإنجليز ستين عاماً أن يجهل شيئاً عن مثل هذا الوعد المدخول المكتم بالأسرار.

ص: 3

أما الأساس الثاني: فإن مصر تقول إن بلاء البلاد المتاخمة لمصر هو كبلائها مِثلا بمثل، فالإنجليز هم الجاذب الداعي إلى أن يعتدي عليها معتدٍ طاغٍ يريد أن يضرب إنجلترا في مكامنها، كما كانوا سبباً في عدوان الألمان والإيطاليين على مصر في الحرب الأخيرة السالفة. فلماذا يريد الإنجليز أن يتخذوا أعواناً وأنصاراً على إذلال جيراننا، وأن يجعلونا نعترف ضمناً بأن لهم حق الدفاع عن هذه البلاد التي سلطوا عليها بَغْي استعمارهم؟ ولماذا تسفك مصر دماء أبنائها في سبيل المحافظة على هذه الإمبراطورية التي ملأت رحاب الأرض جوراً؟

ثم إن هذا العدوان إذا وقع، فهو النذير العريان بالحرب العالمية الثالثة، والمعتدى فيه معروف منذ اليوم للإنجليز ولغير الإنجليز. والأسباب الداعية إلى انفجار هذا البارود راجع إلى أسباب أخرى غير الرغبة في التوسُّع. وهو جشع الاستعمار القائم اليوم في هذا الشرق الأوسط والشرق الأدنى والهند. يوم يقع هذا العُدوان فالدُّنيا كلها ستهبّ هَبة رجل واحد، ولا يدري أحدٌ منذ اليوم كيف يكون الأمر غداً وأين تكون مصلحته، فعلام تريدنا إنجلترا أن نتعجَّل، وأن ندخُلَ نحن في حروبها التي ضرَّمتْ نيرانها منذ كانت، وأن نفرض على أنفسنا منذ اليوم قيداً لعلْ غداً يأمرنا أن نعيد إلى خلافه حتى لا نكون طعمة للمنصور إذا كانت إنجلترا هي الخاسرة؟ أليس يقول لنا ذلك المنصور يومئذ، لقد قاتلتموني وحاربتموني فأنا أستحلّ دياركم وبلادكم وأقداركم بحكم الفتح؟ فماذا تقول مصر يومَئذ؟ ومن زعَمَ أن سياسة الدنيا سوف تجري غداً على النهج الذي جرت عليه حتى اليوم، فقد أنكر عقله وأنكر تلك القوى العاملة التي تؤثر في سياسات العالم. ثم لماذا تريد إنجلترا أن تكون قيِّمة على مستقبلنا ونحن شعبٌ حيٌّ حرٌّ يريد أن تكون بلاده ملكا له ليتوخى لها مراشدها التي ينبغي أن يتوخاها؟ وإذا كان الإنجليز يؤمنون بأن مصلحتنا غداً ستكون في أن نكون معهم يداً واحدة، فعلام الجزع إذن؟ أو يظنون إننا نخرج غاصباً من بلادنا ثم ندعها نُهْى تتعاورها أيدي لصوص الأمم فلا نؤازرهم فيما نرى أن لنا فيه منفعة وصلاحاً؟ اللهم إن الإنجليز يعلمون أننا على حق في هذا كله وأنهم هم المبطلون، وإنما يريدون بهذا النص أن يمكثوا في بلادنا سادة يستضعفوننا ويمنعوننا أن نفعل في بلادنا ما نريد، أي أن نظل أمة لا جيش لها، ولا مصانع فيها ولا قوة لها، وأن تظل (مجالا حيويا) لهل ولأشياعها

ص: 4

وأفاعيها من نفايات الأمم وحثالات الشعوب، وأن يكون وجودهم بيننا معواناً لهم على تفريق كلمتنا وتشتيت قلوبنا، وأن يظل المصري يحس بهذا الإحساس القبيح الذي يوهن القوى، وهو أنه غريب في بلاده.

أما الأساس الثالث: فهو شيء باطل كله لأنه مبني على الثاني، ولأنه شيء لا مثيل له تاريخ معاهدات الدنيا كلها، ولأن أخطاره على مصر أخطار موبقة. فإن كلمة القوى هي العليا، فإذا قلنا لإنجلترا إننا نرى كذا وكذا وقال إنجليز هذا المجلس، كلا إن هذا ليس لنا برأي! فمن يكون الفَيْصل بيننا يومئذ؟ أليست هي قوة الإنجليز نفسها؟ وإذا كانت مصر تخرج اليوم من استعباد خمس وستين سنة، فهل تظن أن الرجال المصريين الذين سيضمهم هذا المجلس، سوف يكونون أو يختارون إلا ممن ترضى عنهم إنجلترا وتقول إنها تستطيع (العمل معهم)؟ هل يظن غير هذا عاقل؟ يا لهذه من سخرية بنا وبعقولنا وبعقول كل من يقرأ هذه السفسطة الإنجليزية!.

أما الأساس الرابع، فإن مصر لم تعترف قط باتفاقية سنة 1899 ولن تعترف بها، وهذه المعاهدة تريدنا أن نعترف بها، وتريدنا أيضاً أن نرضى سَلفاً عن أبشع المبادئ التي لا عقل فيها، وهي بتر جنوب مصر عن شمالها. فالسودان ليس أمة نحن مستعبدوها بل هي جزء من مصر من أقدم عصور التاريخ، وهي أهم لمصر من مصر نفسها بشهادة عقلاء الساسة من إنجليز وغيرهم. ولو فرضنا أن فئة أضلتها الأموال الإنجليزية والوعود البريطانية والأكاذيب الملفقة، قامت في السودان وقالت: أنى أريد أن أكون أمة وحدي ودولة وحدي، فهل يُقبل هذا إلا إذا قبلت إنجلترا أن تقوم أسكتلندة - وبين الإسكتلنديين والإنجليز من الفروق ما لا يوجد مثله نين مصر والسودان - فتقول: سوف أكون لأمة وحدي ودولة وحدي. افترى إنجلترا تقول يومئذ نعم ونعمة عين وتخلي بينهم وبين ما يريدون، أم تخضعهم يومئذ بقوة السلاح وبالحديد والنار كعادتها في كل بقاع الدنيا؟ ونحن ولله الحمد ليس بيننا وبين السودان مثل هذا، بل السودان كله، إلا من طمس مال الإنجليز قلبه، كلمة واحدة على أنه جنوب مصر لا أنه أمة واحدة أو دولة واحدة. إن مصر لا تستطيع أن تفرط في بتر السودان من جسمانها، فإن في ذلك هلاكها وهلاك السودان جميعاً. فليقلع عن هذا الرأي كل من غفل عن حقيقة الوطن المصري أو الوطن السوداني،

ص: 5

فمعناها سواء.

بقي شيء واحد هو إن إنجلترا قد خرجت من هذه الحرب في المرتبة الثالثة من دول العالم. فإذا جاءت الحرب الثالثة فإنجلترا خارجة منها لا محالة كما خرجت فرنسا - أي إنها سوف تخرج ولا تملك غير الجزيرة البريطانية إن بقيت لها، فعلام نربط مصايرنا بمصير مظْلَمٍ يُفزّع أهله منذ وضعت الحرب الأخيرة أوزارها؟ وكان ينبغي أيضاً أن لا يغيب عن أذهان أولئك الأذكياء أن هذه الفرصة إذا أفلتت فلن تعود، فإن إنجلترا اليوم لا تملك أن ترغمنا على شيءٍ، وإنها لتهددنا وتبدى وتعيد في تهديدها، ولكننا إذا صبرنا وعزمنا وأبينا ميسمَ الذل الذي تريد أن تسمنا به، فهي لن تملك إلا التسليم بلا قيد أو شرط. فكان عليهم أن يكونوا أبصر بخير هذه الأمة المجاهدة المصرية، وأجرأ على تلك الأمة الإنجليزية، ولو فعلوا لرأوا عجباً، فإننا إنما أُتينا من قبل الخوف والهيبة والعجز عن إمضاء العزيمة على وجهها ولكن لم يفت الأوان بعد، فاحملوا على أنفسكم أيها المفاوضون المصريون واملأ قلوبكم إيماناً بالله، وإخلاصاً للوطن، وأجمعوا رأيكم وارفعوا النير عن هذا الشعب بالإباء والأنفة والحميّة، ورفْض المفاوضة والمعاهدة، فإن إنجلترا لن تملك يومئذ صرفاً ولا عدلا، فإن لم تفعلوا فالله من ورائكم محيط. وأحذروا غضبة الشعوب فإن لغضباتها مواسم ككيّ النار هي ذل الدهر وسُبة الأبد.

محمود محمد شاكر

-

ص: 6

‌على هامش النقد:

من مفارقات التفكير. . .!

الأستاذ إسماعيل مظهر وكتاب الأغلال

للأستاذ سيد قطب

لا يزال الإنسان يصادف بين آونة وأخرى صنوفا من مفارقات التفكير، ما كان ليتصورها لو لم تقع فعلا في الحياة، وتبدو آثارها للعيان. فقد تجد الرجل المحقق المتفوق في علم أو فن، يبدي فيه الرأي، فإذا له الكلمة الصائبة، والنظرة النافذة. . . ثم يجاوز مادة تخصصه إلى شأن آخر، فتأتي بالكلام الذي لا تصدق نسبته إليه إلا إذا قامت له البراهين على انه قائله، لأنك تجد عندئذ رجلا آخر لا تعرفه، دون ذلك الرجل بمراحل ومسافات.

وأقرب مثل يحضرني اليوم هو الأستاذ إسماعيل مظهر. فمما لاشك فيه عندي أن الرجل مثقف مطلع، ذو مشاركة طيبة في الحركة الفكرية المعاصرة. . . ولكنني رأيته يكتب في جريدة الكتلة مرة ومرة عن كتاب (هذي هي الأغلال) بطريقة عجيبة، فمرة يقول: انه يساوي ثقله ذهباً؛ ومرة يرتفع بصاحبه على مقام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة! ويخلو أسلوبه على كل حال من التمحيص والاتزان اللذين أعهدهما فيه. . .

وعجبت من أن يكتب رجل كالأستاذ إسماعيل بمثل هذا الأسلوب، وأن يعتقد في مثل هذا الكتاب وصاحبه ذلك الاعتقاد. . . وظللت متحيراً في هذه الظاهرة العجيبة. وكنت قد قرأت الكتاب فوجدت صاحبه يتعلق بالتافه من خرافات العوام، ومن الأضاليل الخرافية التي حاربها الزمن في البيئة الإسلامية وانتهى من حربها منذ خمسين عاما أو تزيد. يتعلق بهذا التافه فيصول ويجول في الكفاح والنزال، ويبدو - كما قلت في مجلة السوادى - في هيئة (دون كيشوت) يطعن في الهواء يحسب طواحين الهواء فرسانا، وزقاق الخمر قساوسة! ثم ينتهي في التواء إلى أن هذه هي العقلية الدينية الإسلامية؛ فهي إذن عقلية لا تصلح للحياة ولا لوراثة الأرض. بينما الأوربيون يتبعون منطق الحياة، فهم إذن أولى بوراثة الأرض من أصحاب العقلية الدينية. وإذن فما يحق للشرق أن يثور على استعمار ولا أن يحنق على مستعمرين! وتلك هي النتيجة الحتمية لكل مقدمات الكتاب. ولعلها هي

ص: 7

الهدف الأول الذي لف في طواياه!

ولا ينتهي الرجل إلى هذه النتيجة وحدها، عن هذا الطريق الملتوي المليء بالمغالطات، إنما ينتهي إلى نتيجة أخرى - لعلها هي التي قادته إلى سلوك هذا المسلك المريب؛ ولعلها كانت رائدة في كتابه وفي حياته. . . تلك أن العنصر الأخلاقي يجب أن ينفى من الحياة. فكل ما يقال له روح وضمير وخلق ودين. . . إن هو إلا (أغلال) ومعوقات وتعلات فارغة لا تجدي؛ والمعول في الحياة على القوة المادية: قوة الصناعة والتجارة والمال!

ولعل الرجل يطبق في كتابه وسلوكه تلك المبادئ الذهبية! أقول عجبت من أن يبذل الأستاذ مظهر إعجابه كله لمثل هذا الكتاب المريب في هذا الأوان، إلى درجة أن يستخفه الإعجاب، فيفارقه ما عرف به من النفاذ والتؤدة والاتزان. . . ولكن أخيراً تكشف لي السبب، فبطل مني العجب؛ وذلك في كلمة افتتاحية في المقتطف الأخير عن كتاب (هذي هي الأغلال) أيضاً!

إن الأستاذ إسماعيل فيما يظهر قد استغرقته الدراسات الفلسفية والدراسات العلمية - وفي أوربا خاصة - فلم يجد وقتاً يتتبع فيه الحركة الفكرية في الشرق العربي - وفي مصر خاصة. فظل يعتقد مخلصاً في اعتقاده أن أهم ما يشغل بال المسلمين في الآونة الحاضرة من أمور دينهم ودنياهم مسائل من نوع: (الكلام في مثل ما تكلم فيه السيوطي في كتابه (كشف المعمى في فضائل الحمى) وكتابه (الطرثوث في فضل البرغوث) أو ما تكلم فيه ابن حجر العسقلاني في كتابه (بذل الماعون في فضل الطاعون) أو ما ترى فيه كتب المناقب وغير كتب المناقب في الخرافات التي تهلع لها قلوب الأحرار، والأساطير التي تهتز لها الأرض وتفزع السماء، أو البحث في من يحمل فوق ظهره قربة ملئت فُساءً هل تصح صلاته بها أم ينتقض وضوؤه) كما كتب في هذه الافتتاحية العجيبة!

وهذه هي الخرافات التوافه التي أخذ المؤلف يبدى فيها وفي أمثالها ويعيد، ويصم التفكير الإسلامي كله بأنه يصدر عنها؛ ثم أخذ ينازلها كما نازل (دون كيشوت) طواحين السماء، ويشقها بسيفه كما شق (دون كيشوت) زقاق الخمر! والتي خيل للأستاذ مظهر أنها كذلك تشغل بال المسلمين في هذه العصور، فأخِذ بالقوة التي يهاجمها بها مؤلف الأغلال، فقال:

(أنتصر لهذا الكتاب، لأني أشتم فيه ريح القوة والجبروت والعزة التي هي من صفات

ص: 8

الإسلام، وليست من صفات المسلمين!!

وهنا زال عجبي وعرفت القصة. فالأستاذ إسماعيل مظهر بقدر ما هو عالم ومطلع في الفلسفة الحديثة والعلم الحديث، بعيد كل البعد عن حركة الفكر الإسلامي في القديم أو في الحديث. فكل حديث عنها في نظره إعجاز وإبداع!!

ومثل إعجابه البالغ الذي لا يتحفظ فيه بهذا الكتاب كمثل من يعجب أشد الإعجاب برجل يشنها حرباً شعواء على من يقولون: إن الأرض محمولة على قرن ثور. فما تزيد معظم الخرافات التي تصدى لها المؤلف في أهميتها اليوم وفي مقدار اعتقاد الناس فيها، على اعتقاد بعض العامة أن الأرض محمولة على قرن ثور!

ويا ليت إخلاصاً يبدو في ثنايا الكتاب، حتى مع هذا التمحل وهذا التزوير المدسوس على عقلية الشعوب الإسلامية في العصر الذي نعيش فيه؛ إنما هنالك الريبة التي تخالج القارئ حين يذهب في القراءة إلى النهاية، فيشم رائحة غير نظيفة تشيع بطريقة ملتوية خبيثة، رائحة إشعار الأمم الشرقية بأنها لا تستحق وراثة الأرض، ولا تستحق سوى العبودية والذل، وأن الأمم الأوربية هي التي تستحق هذه الوراثة، وأن العرب خاصة في حاجة إلى حماية الإنجليز والأمريكان لهم، لأن الخطر الصهيوني يتهددهم وهم عُزل من كل قوة، ولا سند لهم إلا قوة خصومهم من الإنجليز والأمريكان!

ترى هذه هي (ريح القوة والجبروت والعزة التي يتحدث عنها الأستاذ إسماعيل؟ اللهم إن رجلا بعيداً عن كل اتصال بحركة الفكر الإسلامية، راعته البديهيات الساذجة التي يسوقها رجل مريب، فلم ينتبه في - زحمة الروعة - لهذا العنصر المريب!!

وكتب الأستاذ (عبد المنعم خلاف) في عدد (الرسالة) الماضي يشير إلى ما نبهت إليه من سرقة المؤلف لأفكاره في كتابه (أومن بالإنسان) وادعائه أنه لم يسمع بموضوع هذا الكتاب!

قلت في كلمتي بمجلة (السوادي) إنني لم أحترم هذا التجاهل، لأنه ليس سمة الباحثين المخلصين. وقال الأستاذ عبد المنعم بعد أن قرر أنه فرح لانتشار فكرته التي دعا إليها ست سنوات، فكرة الإيمان بالإنسان والاعتقاد بأن الحياة صادقة.

(ولكن ما لبثت هزة الفرح والابتهاج أن انقلبت إلى أسى ووجوم واشمئزاز إذ رأيت الكتاب

ص: 9

يخلو من أدنى إشارة إلى تسجيل سبقي في هذه الدعوة، وإذ رأيت صاحبه مع ذلك يحدث ضجة مفتعلة حوله، ويصدر غلافه بهذه الجملة:

(سيقول مؤرخو الفكر: إنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل. وإنه ثورة في فهم الدين والعقل والحياة. . .) كأن مؤرخي الفكر عميان لا يتلمسون مصادر الآراء!

(وإني أعجب كيف يجرؤ كاتب أو مفكر يحترم رأي الناس، ويستحي من نفسه أن يسبق التاريخ ويصدر حكمه على عمله بهذه الدرجة من الافتتان والزعم!

(إن المفكر الواثق من أنه أتى بجديد حقاً، يضع آثاره بين يدي التاريخ في صمت، ويدع له أن يحكم، ولا يتعجل الحكم حتى تعلنه الأيام سواء في حياته أو بعد مماته. . . والمفكر الأمين الثقة الغيور على الحق وحرية التفكير يترفع عن أن يغمط حق غيره، وعن أن يغطي جهود من سبقوه بالدعاوة الجريئة لنفسه، لأن هذا إن جاز في مجاز الإعلان عن المتاجر والمهن، فلن يجوز في رحاب الفكر والخلق.

ولكن ما للمؤلف وللحديث عن الأخلاق، وهو كما روى عنه الأستاذ سيد قطب في مجلة (السوادي) يرى (أنه يجب أن ننفي العنصر الأخلاقي من حياتنا، فالحياة لا تعرف العناصر الخلقية، ولا قيمة لها في الرقي والاستعلاء).

والأستاذ عبد المنعم يحاكم الرجل إلى مبادئ ومثل يقول هو عنها: إن التشبث بها هو سبب تأخر الشرق وجموده. فما الخلق؟ وما الضمير؟ وما الحياة؟ إنها كلها (أغلال) تقيد الخطو وتخلق العثرات. إنما المهم كما يقول هي الأخلاق الصناعية والتجارية والمالية!!

والواقع أنها جرأة عجيبة، ولكن لماذا لا يجرؤ الرجل، وفي مصر كتاب كبار لا ينتبهون لهذه الجرأة العجيبة، فيسبغون على فكرة مسروقة ومستغلة استغلالا مريباً كل هذا الاهتمام والإعجاب؟

ولكنني أعود فأستدرك، فلعل هناك اتهاماً للأستاذ عبد المنعم، وطعناً في ضميره وخلقه ووطنيته حين نذكر أن فكرة الأغلال مسروقة من كتابه (أومن بالإنسان).

إنها مسروقة نعم في عمومها وفي الكثير من قضاياها، ولكن الأستاذ عبد المنعم كان يعالج فكرته في استقامة ونزاهة، ويحسب للدين وللخلق وللضمير حسابها في قيم الحياة، وحين

ص: 10

دعا إلى الإيمان بالإنسان مستدلا بما أبدع في الأرض بفكره ويده، لم ينس أنه يهدف إلى قضية أكبر، وهي قضية الإيمان بخالق هذا الإنسان وقضية التسامي بضمير هذا الإنسان.

ولقد وافقت الأستاذ عبد المنعم على قضيته وأهدافه، وخالفته في طريقة استشهاده، ووددت أن يفسح للوجدانات الروحية، وللأعمال الفنية مكانا أكبر في الاستشهاد على عظمة هذا الإنسان، ليكون نشيد الإيمان به أوسع وأشمل، حين نضم إلى إبداع فكره ويده إبداع وجدانه ومشاعره.

أما هذا الرجل، صاحب الأغلال، فيأخذ الفكرة لينحدر بها انحداراً عن مستواها، وليبدو فيها ضيق الآفاق لا يتصور أن الإنسان جسم وروح، وأن الحياة مادة ومعنى. ثم ليستخدم الفكرة في الزراية على الشرق عامة والمسلمين خاصة، وليحطم في نفوسهم كل شعور بالعزة، وليسوّد عليهم مستعمريهم، وليثبت هم أنهم في حاجة إلى قوة هؤلاء المستعمرين، إلى أن يتخذوا طريقهم في الإنتاج!

وما يخدم قضية الاستعمار في طورها الحالي كما يخدمها بث هذه الروح. وإذا كان الشرق يعتز في جهاده للاستعمار بماضيه وبعقائده وبكرامته القومية، وبعدد من مثل هذه المعنويات. فهذا رجل منه يقول له: إنما تعتر بترهات جوفاء. والمستعمر أحق بوراثة الأرض منك، فلتحن هامتك إذن، فتلك سنة الحياة!

وبدلا من أن ينبه النقاد الكبار إلى هذا الاتجاه المريب يؤخذون بالدعاوة المفتعلة، ويبذلون إعجابهم المطلق للكتاب وصاحب الكتاب! والرجل والحق يقال: ماهر في الدعاوة، لا تقيده فيها الأغلال!!

ألا إنه لكتاب يساوي ثقله ذهباً، كما قال الأستاذ مظهر. ولعل من تهمهم مثل هذه الكتب لم يبخسوا الكتاب قدره وكل الدلائل تشير إلى أنهم لم يبخسوه قدره، والحمد لله!

سيد قطب

ص: 11

‌نحو عالم جديد:

أندريه مالرو

فنه وتفكيره

للأستاذ علي كامل

لعل من النادر أن نرى بين أدباء الغرب المعاصرين أديباً بمثل روح العصر الحاضر مثل الأديب الفرنسي الشاب أندريه مالرو. وهو من هذه الناحية ومن حيث تأثير فنه على عقلية شباب هذا الجيل الذي نعيش فيه يقف إلى جانب الكاتب الكبير أندريه جيد. إلاّ أن كل منهما يتميز من حيث المشكلة التي يطرقها ويسعى لحلها. فأندريه جيد يكاد يقتصر فنه على معالجة المشكلة الجنسية التي يعتبرها مشكلة المشاكل، بينما يطرق مالرو الشخصية الإنسانية بأكملها، بكامل غرائزها ساعياً لتحديد موقفها في هذا العصر المضطرب الطافح بالانقلابات والتطورات.

كان أندريه مالرو منذ ابتداء حياته الأدبية كاتباً اجتماعياً لا يستطيع أن يتصور كيف يمكن للأديب أن يبتعد عن معالجة مشاكل المجتمع الذي يعيش فيه واتخاذ موقف محدد حياله. كان ألد عدو لذلك النفر من الأدباء الذين اتخذوا من خيانة الفكر مذهباً أسموه (الفن للفن) أو (البرج العاجي) يقبعون فيه غير عابئين بما يدور حولهم من مآسي الحياة ونكباتها حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى اعتبار أن مجرد المساس بحقائق الحياة المحزنة الدامية تشويه (لجمال) فنهم!!؟ إن هذه الزمرة من الأدباء في نظر مالرو ونظرائه من الأدباء الاجتماعيين ما هي إلا طائفة من المرائين الذين اتخذوا القلم سلماً للوصول والنفعية، وهم قبل كل شيء يعملون - بوعي أو بغير وعي - لخدمة مصالح الطبقات المميزة في المجتمع الإنساني، وهذه الطبقات لا يهمها معالجة مشاكل الحياة القاسية لأنها لا تعاني ويلاتها بل من مصلحتها - إذا لمحتها في طريقها - التغاضي عنها وتعمد تجاهلها؛ لأن أنانيتها لا تتفق وافتضاح الخلل في المجتمع الذي تعيش على حساب تعاسته، وتصعد قمة المجد على جماجم شهدائه

على أن مالرو لم يقتصر على استخدام قلمه لخدمة المجتمع الإنساني، بل كان يهب كلما سنحت الفرصة ليخدم بقوة السلاح المبادئ السامية التي يؤمن بعدالتها. فلم تكد تنشب ثورة

ص: 12

الصين التحررية حتى سافر إليها يعمل إلى جانب جيوش الوطنيين في سبيل المثل الأعلى الذين يدافعون عنه. وعندما قامت الثورة الأسبانية الجمهورية بادر بالسفر إلى أسبانيا ليعمل في جيوش الجمهورية الشابة كطيار مدافعاً عن سماء مدريد الشهيدة. وأخيراً لم تكد تخر فرنسا على ركبتيها عام 1940 صريعة الخيانة حتى عاد مالرو إلى حياة الكفاح العملي فأبى أن يهجر وطنه في محنته وانضم إلى العصابات الفرنسية الداخلية ليكافح الغاصب. وعلى رغم هذه الحياة المضطربة الخطرة لم يهمل مالرو قلمه وهو سلاحه الأول للتعبير عن تفكيره فاشتغل في كتابة قصة طويلة من ثلاثة أجزاء بعنوان: (الصراع مع الملاك) ' وانتهى من الجزء الأول وهو (أشجار التبرج) ' الذي نشر في سويسرا عام 1943

كانت أول أعمال مالرو إصداره كتاباً صغيراً بعنوان: (إغراء الغرب) ' وهو عبارة عن رسائل يقارن فيها الكاتب بين المدنيتين: الشرقية والغربية، ونحس حين قراءتها بألمه وخيبة آماله في مدنية الغرب. وسرعان ما لفت هذا الكتاب الأنظار إلى مؤلفه الذي أحس النقاد بنواحي التجديد في تفكيره وما يختزن في صدره بما يبشر بظهور لون جديد من ألوان الأدب العالمي. وفي عام 1928 ظهر كتاب مالرو الثاني الفاتحون وهو أقرب إلى تحقيق صحفي منه إلى قصة. وفي عام 1931 ظهر كتابه الثالث (الطريق الملكي) وفي عام 1933 أخرج مالرو قصته:(الطبيعة الإنسانية) التي نال بها جائزة جونكور لذلك العام؛ وهي أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية.

وتفكير مالرو الذي يسيطر على جميع أعماله يتحدد منذ صدور كتابه الفاتحون ثم يجلو ويبلغ أقصى وضوحه في (الطبيعة الإنسانية). كانت هاتان القصتان حدثاً جديداً في الأدب الغربي إذ لم يسبق أن عالج الفن القصصي مشاكل المدنية الغربية بالطريقة التي عالجها بها مالرو في هذين الكتابين، وسار على نهجهما في كتبه التالية؛ وذلك من حيث التجديد في الفكرة وحرارة الأسلوب وطهارة الإخلاص.

يرى مالرو أن الإنسان منذ فجر التاريخ يميل (بطبيعته) إلى الثورة على الأمر الواقع وتحسين الحالة الراهنة واكتشاف ما يحيطه من المجهول، وكانت الأديان أقوى وسيلة لتهدئة هذا الجموح الطبيعي وإطفاء هذا الغليان الغريزي، وظل تأثيرها قويّ المفعول مدى قرون طويلة وأحقاب عديدة. ولكن الآن والمدنية الغربية قد بلغت مرحلة لا احترام فيها

ص: 13

للعقائد ولا مراعاة لسنن الأديان، بل ولا اعتبار للأسس التي قامت عليها هذه المدنية التي أوشكت أن تنهار دعائمها بعد أن طفحت القلوب بالشك في قيمتها. الآن، ما هو موقف (الإنسان) و (النفس الإنسانية)؟ ما هو موقف الفرد الأوروبي أو غير الأوروبي إذا كان من أبناء المدنية الحديثة المتأثرين بتياراتها المتحررين من كل قيد تقليدي؟ يرى مالرو أن الإنسان الجديد يقف أمام أمرين لا ثالث لهما: فإما الاستسلام للأمر الواقع والتردي في هذه الفوضى الغاشمة التي لا ضابط لها ولا حياد فيها؛ وإما التعلق بمثل أعلى لخدمة نفسه وخدمة المجتمع البشرى كما يتعلق الغريق المحتضر بقارب النجاة.

أما الأمر الأول فهو طريق الضعفاء فضلا عن أنه لا يتضمن جمال الإحساس بالقيام بعمل سام جميل. وأما الأمر الثاني فهو الطريق السويّ الطبيعي لذوي النفوس العالية، والإنسانية الواسعة، وهو الطريق الذي اختاره أندريه مالرو لأبطاله مصوراً حياتهم وطريقة تفكيرهم، وضروب تضحيتهم وسمو إيمانهم. فنرى (جارين) في قصة (الفاتحون) و (كيو) في قصة (الطبيعة الإنسانية) شخصيتين من تلك الشخصيات التي لا تستطيع الخضوع لحياة لا غرض لها إلا قضاء أيام متشابهة مملة. فهما يعانيان ذلك المرض الذي لا يختلف كثيراً عن المرض الذي يسمونه مرض القرن والذي - كما يرى مالرو - هو بالنسبة لفئة من الناس مرض جميع القرون. . . إن هذه الدنيا لا تكفيهم. إنها لا قيمة لها إذا لم تمنحهم الفرصة لانفجار كل نواحي الكفاح والنشاط فيهم. إن حياتهم لا مبرر لها ولا قيمة إذا لم يحققوا للإنسانية أفكاراً سامية.

ولما كانت كل مصائب المجتمع الحاضر مبعثها الظلم الاجتماعي وعلاجها إيجاد مجتمع بشري تسوده العدالة الاجتماعية والإخاء الإنساني. لهذا تعمد مالرو اختيار أبطاله من رجال المثل العليا في السياسة والاجتماع. فإصلاح المجتمع في نظره وتسييره في الطريق الذي تفرضه روح العصر هو الأساس الذي بغيره لا يرجى إصلاح في العلم أو الفن أو الأدب أو الأخلاق أو غيرها.

كان (جارين) ثائراً على كل شيء. كان ثائراً على المجتمع، كان ثائراً على الغرب وماديته فهجره إلى الصين حيث الملايين الحاشدة ينشر بينها تعاليمه الاشتراكية ويبين لها حقها في الحياة. كان ثائراً على الدين لأن الأديان في نظره كانت دائماً على مر القرون هي الميناء

ص: 14

الذي تهدأ عنده ثورة النفوس البشرية ويخمد جموحها. كانت العزاء والملاذ الأخير لكل منكوب (إذ كيف يمكن لمصاب بالبرَص - كما يقول - أن يستسلم لمصيره ولا يسمم الآبار التي يقترب منها إذا لم يَفِض قلبه بالأمل في حياة ثانية حيث تعوّضه العدالة عن مصيبته وينال النعيم الأزلي؟).

فجارين يريد أن يعيش واقعياً بكل ما في هذه الكلمة من معان. إنه يريد أن يحقق الجنة الأرضية لأنه مثالي يؤمن بالمثل العليا ويوقن بإمكان تحقيقها بالجهاد والتضحية. إنه يستهين بالمخاطر ويواجه الموت إلى جانب الأحرار الصينيين في ثورة كتنفرن راضياً مطمئناً. ومثل شخصية جارين نرى شخصية (كيو) وشخصية الطالب (تشن) في قصة (الطبيعة الإنسانية). هذين الشابين الصينيين اللذين آمنا إيمان المؤمن بدينه بعدالة قضية الصين في جهادها التحريري. هذه الشخصيات الثلاث نراها جميعاً تلقي بنفسها في ذلك المحيط الثوري بقوة عنيفة ودافع خفي مستعذبين كل تضحية؛ لأن المثل الأعلى عندهم دين كسائر الأديان، والدين في حاجة إلى شهداء. ومن ذلك نرى أن أندريه مالرو لا يعتقد أن هناك فرقاً بين هؤلاء المثاليين وأولئك المتدينين الأوائل الذين كانوا يحطمون الأوثان وأقصى آمالهم في الحياة أن يتعذبوا من أجل عقيدتهم الدينية. فتصوير هذا النوع الشائع من الشبان المثاليين المتحمسين هو أهم ما يطبع كتب مالرو بطابع القوة والعظمة.

وللقارئ أن يتساءل لم اختار مالرو حوادث قصته (الفاتحون) و (الطبيعة الإنسانية) في الصين النائية كما ذكرنا. أليس في بلاد الغرب مجال لظهور هذه الشخصيات؟ ألم يجد في غير الصين مجالا لظهور الأبطال وأعمال البطولة؟ إن مالرو العالمي التفكير يتبع النهضات القومية أينما ذهبت. فكما اشترك بنفسه في كفاح الصينيين القومي مما أوحى إليه كتابة قصتيه هاتين، كذلك حارب في صفوف الجمهوريين الأسبان كما عرفنا، وكتب عن الجمهورية الشابة قبل أن تتئدها الرجعية الفاشية كتابه المشهور (الأمل)(1957). لقد وجد مالرو في هذه البلاد الحية بحركاتها الشعبية مجالا خصباً لذلك النوع من الأبطال الذين اختارهم لقصصه. فهو يرى أن العالم الغربي أصبحت تسوده للأسف الوطنية المتعصبة. فالحدود مغلقة، والمادية تطغي على كل شيء، والفردية يلمسها المرء أينما حلّ. فأوروبا الحاضرة في نظر مالرو لم يعد فيها إلا نوعان من الكفاح: الأول كفاح العالِم الذي

ص: 15

يفني السنين في اكتشاف علمي وهذا الأمر ليس في متناول غير العلماء المتخصصين، والثاني كفاح رجال الأعمال لتكوين الأموال مما صبغ الحياة كلها بالمادية البذيئة التي لا تعرف الرحمة. أما هناك، هناك في الشرق البعيد حيث ألّف بين الناس البؤس المشترك والشقاء العميم، حيث وحّد بين قلوب الملايين الغفيرة الإيمان القوي والقلق العام والحساسية المرهفة؛ هناك الحقل اليانع لأصحاب المبادئ السامية والمثل العليا الجريئة التي سرعان ما تتشبث بها الجماهير وتتفانى في خدمتها بمجرد إحساسها بأنها طريق الخلاص، واقفة منها موقف المؤمن بدين جديد جاء ليغير حياته ويبعثه بعثاً جديداً.

ولقد كانت في الحرب الحاضرة ومحنة فرنسا مادة غزيرة أمام أندريه مالرو ولدراسة الشخصية الإنسانية في ظروف جديدة وأماكن غير الأماكن التي وقعت فيها حوادث قصصه السابقة. فكتب كتابه الأخير (أشجار التنبرج) وهو كما ذكرنا الجزء الأول من قصة طويلة في ثلاثة أجزاء بعنوان (الصراع مع الملاك).

و (أشجار التنبرج) عبارة عن ثلاثة أقسام: القسم الأول تقع حوادثه في يونية عام 1940 في أحد السجون في بلدة شانز بفرنسا. وفي القسم الثاني يصف الكاتب حياة والده حتى الحرب العالمية الأولى فنعرف منه أن والده ألزاسي المولد بقي في الألزاس حتى عام 1870 ثم عين مدرساً في جامعة استانبول اختير بعد ذلك مستشاراً للجنرال أنور باشا، ثم أُرسل في مهمة إلى أفغانستان وبعد سنين طويلة في تلك البلاد الشرقية يعود إلى وطنه الألزاس حيث يموت والده (جدّ الكاتب) بعد وصوله بفترة قصيرة. وفي الألزاس يشترك في (أحاديث التنبرج) وهي أحاديث تدور على موضوعات معينة في كنيسة قديمة حيث يجتمع تحت زعامة عمه (والتر) نخبة من المثقفين والعلماء والأساتذة من مختلف البلدان، وفي عام 1915 تقوده الحرب إلى جبهة الفستولا، حيث يشترك في هجوم بمساعدة الغازات السامة. وهناك يترك المؤلف والده مغشياً عليه في ساحة القتال؛ منهك القوى أثر المناظر الوحشية التي شاهدها ومن تأثير الغاز. يتركه ليعود إلى نفسه، وعندئذ يبدأ القسم الثالث من القصة فنرى أنفسنا في عام 1939 نصحب المؤلف في سيارته المدرعة حيث يواجه مع رفاقه الموت الحاصد الذي يخرجون منه بأعجوبة فينظرون إلى العالم تحت ضوء فجر جديد لامع، وبعيون جديدة، عيون نسيت الماضي ولم تعد تعرف غير الحاضر.

ص: 16

وهنا تنتهي قصة (أشجار التنبرج) أول جزء من قصة (الصراع مع الملاك).

ومنذ بداية هذه القصة أيضاً في ذلك السجن الموحش المعزول عن العالم الخارجي، نرى أندريه مالرو يعود إلى موضوعه الرئيسي وشاغله الأول في كل ما كتبه وهو (الإنسان). . .

أسمعه وهو يقول: (منذ عشر سنوات لا يشغلني ككاتب غير موضوع واحد هو الإنسان. ذلك هو الموضوع الأساسي في فني). وهذا الشاغل نلمسه يتملك والده أيضاً حين يقص علينا مالرو حياته ويروي لنا (مقابلاته) مع الإنسان، وهي مقابلاته الشخصية مع الموت والقسوة الإنسانية والقدر الغامض. يقول والده:(إن اللغز الأكبر ليس في أنه أُلقى بنا دون حساب بين المواد المتفجرة الغزيرة وبين الكواكب. بل إننا ونحن في هذا السجن كنا نستمد من أنفسنا صوراً قوية لتكذب واقع حياتنا وهو أننا كائنات لا وجود لها) وهذا اللغز هو ما تريد (أحاديث التنبرج) أن تكشفه. فكل المناقشات تدور حول هذه المسألة. هل يمكن إيجاد تحديد معين لمعنى كلمة إنسان؟ (إن الإنسان بمعناه الحقيقي ما هو إلا أسطورة. هو حلم في ذهن المفكر). فما الذي نعرفه عن الإنسان؟ إننا لا نكاد نعرف شيئاً (فحتى الثقافة لا تعلمنا شيئاً عنه. إنها تعلمنا بكل بساطة ماهية الرجل المثقف بقدر ما هو عليه من ثقافة) إننا نعرف فقط (أننا لم نخَيَّر حين ولادتنا وأننا سوف لا نخَيَّر عند موتنا، وأننا لم نختر والدينا، وأننا لا نستطيع شيئاً حيال الزمن، وأن بين كل منا وبين العالم فاصلا معيناً. وعندما أقول إن كل إنسان يحس بقوة بوجود القدر فأنني أقصد أنه يحس - بحرارة ومن وقت لآخر على الأقل - باستقلال الكون عنه وإهمال المجتمع لشأنه).

هذا الإحساس المرير من جانب الفرد بعزلته في هذا العالم مما دفعه إلى التعلق بالقدرة والاستعانة بالخيالات والأوهام لتبرير حياته والرضى بما هو فيه من هو إن هو في نظر مالرو نتيجة تفكك الروابط الاجتماعية في حياتنا الحاضرة، وطغيان المادية على كل اعتبار حتى هانت القيم البشرية، وأصبح الاستهتار بكرامة الإنسان وحياته وتضحيتهما هشيما سهلا في سبيل المآرب الذاتية، أمراً ما أهونه في هذا العصر الذي سماه أندريه مالرو بحق وأطلقه عنواناً لأحد كتبه الخالدة (عصر الازدراء) للمخلوق البشري!

ما القَدر الذي نصادفه دائماً في قصص مالرو؟ هو ذلك الملاذ الغامض الذي يلجأ إليه

ص: 17

الإنسان حين يحس بوحشيته في هذا العالم وتتوالى المظالم والنكبات عليه دون أن يعرف لها مبرراً أو تفسيرا. . . فلكي ننتزع الإنسان من استعباد القدرية ونحرر شخصيته ونرد له اعتباره يجب كما يرى مالرو أن نخلق له مجتمعاً واقعياً تسوده قوانين العلم والمنطق؛ مجتمعاً يحس فيه بوجوده ويدرك بين أحضانه أنه يعمل للمجموع ويعمل المجموع له. وهذا المجتمع لا يتحقق إلا بنظام اجتماعي تسوده العدالة والإخاء البشري وتبرز في ظلاله قوى الفرد ونواحي نشاطه لتتسلط بقوة العقل على قوى الطبيعة الغاشمة وتخضعها لخدمة الإنسان بدل أن تخضعه هي لطيشها وعتوها.

وأسلوب مالرو أسلوب حزين، عميق كتفكيره، جامح كفنه الرائع. ذلك الفن الذي يضعه في مقدمة كتاب العصر التقدميين والذي تنبض أرجاؤه بتلك العالمية الواسعة وذلك الهم الذي يحمله فوق ظهره في سبيل الإنسانية وخيرها.

علي كامل

ص: 18

‌خواطر مسجوعة:

الصديق. . .

للأستاذ حامد بدر

الدمعة التي مستها الراحة جفّت، والنازلة إن شورك فيها خفّت، والطود الذي عظم، ينقص لو قسم؛ وكلنا هدف لنوَب الزمان، لم يأخذ أحد لنفسه الأمان!

نشرب الكأس حَلوة مَرة، ومَرة مُرة. ومن وجدته في الضيق، فذلك هو الصديق، وذلك هو الكنز الثمين، والساعد اليمين. . .!

الصديق الذي يواسيك، في مآسيك، ويؤثرك على ذاته، ويقيك بحياته. فإن ظفرت بذلك، ولا أخالُك، فاهدم حجة من قال: وجود الوفي محال!

وعندي لا صديق غير هذا الطراز، إلا على سبيل المجاز. فاصحب الصديق المجازيَّ على عيبه وداره، وعالجه بإقالة عثاره. وقدر الفضل لأهله وإن قل، ولا تجحد البعض إن لم تنل الكل. وأحسن الظن بالصريح البريء، وتغاض كرماً عن عيب المسيء؛ فالصاحب إن نقدته فقدته، والعيب إن تفقدته وجدته!

أدعو إلى الصداقة ولا أنهى، وإن كنت طعينا منها! صاحبت أخداناً وخلاناً، وخصصت بالثقة فلاناً، وتوالى الجديدان، وطال الزمان، وزعمت أني ظفرت من دنياي، بما لم يظفر به سواي، وفاخرت بصديقي الصحاب، وجعلته حديثي المستطاب. وكل همي إقامة البرهان، على أنه صفوة الإخوان، وأنه الذي لا يتغير عند انتياب الصروف، ولا يتنكر بتنكر الظروف؛ فإن قيل لا وفيّ قلت كلا، هذا هو المستثنى بالا. ولكنه برغم أنفي أعرب، بحجة تقطع شك المريب، على أنه اسم معرب، يتغير بتغير التراكيب!

(الزنكلون)

حامد بدر

ص: 19

‌شهادات للإسلام من غير المسلمين

للأستاذ محمد عبد الوهاب فايد

قال (جول مهل): العرب والرومان أقدر الشعوب في التشريع:

وقال (الأستاذ نيس) إن شريعة الحرب والأنظمة العسكرية عند الأسبانيين تأثرت كثيراً بشريعة الحرب عند المسلمين، كما تأثرت فلسفتهم بفلسفتهم وآدابهم بآدابهم.

وقال (فاندنبرغ): لقد وضع للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه الرسول وأتباعه من الشعور الإنساني النبيل، ففيها نجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تمشي في طليعة الحضارة.

وقال (يورغا): ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها، ويأكلون لحوم القتلى في أيام القحط، وقد أسرفوا في القسوة حتى أنهم كانوا يبقرون البطون ويبحثون في الأمعاء عن الدنانير. أما صلاح الدين فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين، ووفى لهم كل الوفاء بالشروط المعقودة، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطئوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل شقيق السلطان أعتق ألف رقيق، ونودي بأن كل من يخرج من باب معين في المدينة يكون آمناً، ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة في مقدمتهن بزيارة أزواجهن. وكان الجنود الذين يصحبون اللواتي أمرن بالجلاء يعطفون عليهن أشد عطف ويواسونهن كل المواساة. ولا يمكن أن يظهر فضل صلاح الدين وكمال خلقه بأحسن من تهديده السفن الإيطالية حتى ترد أولئك البائسين إلى ديارهم وكذلك كانت سيرة الملك الكامل لما أخذ بمخنق الصليبيين في واقعة دمياط فأحاط بهم النيل وهددتهم المجاعة وإليك ما وصف المسلمين به أحد الذين حضروا الواقعة من مؤرخي النصارى قائلا: هؤلاء الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وأخوتهم وأخواتهم بطرق شتى. . . هؤلاء الذين سلبناهم أموالهم وأخرجناهم عراة من منازلهم، تداركونا وسدوا خلتنا وأطعمونا بعد أن أهلكنا الجوع، وما زالوا يحسنون إلينا حتى غمرونا ببرهم وإحسانهم لما كنا في ديارهم وفي قبضة أيمانهم، فلو ضاع لأحدنا عير لما أبطأ رده

ص: 20

إلى صاحبه.

وقال الأستاذ فارس الخوري:

إن محمداً أعظم عظماء العالم، ولم يجد الدهر بعد بمثله. والدين الذي جاء به أوفى الأديان وأتمها وأكملها، وإن محمداً أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف مسألة علمية واجتماعية وتشريعية، ولم يستطع علماء القانون المنصفون إلا الاعتراف بفضل الذي دعا الناس إليها باسم الله وبأنها متفقة مع العلم مطابقة لأرقى النظم والحقائق العلمية. إن محمداً أعظم عظماء الأرض سابقهم ولاحقهم، فلقد استطاع توحيد العرب بعد شتاتهم وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت العالم المعروف يومئذ، وجاء لها بأعظم ديانة عينت للناس حقوقهم وواجباتهم وأصول تعاملهم على أسس تعد من أرقى دساتير العالم وأكملها.

وقال الأستاذ أيضاً: البون شاسع بين شريعتي موسى ومحمد عليهما السلام، فالأولى: تأمر بالتقتيل بلا إنذار ولا عهد ولا صلح ولا دعوة لإيمان، فلا يقبل من الأعداء اليهود، ولا يعصمهم من القتل والفناء الإيمان، خوفاً من الارتداد فيما بعد، ولا يسمح لهم بالرحيل والجلاء عن بلادهم لتخلو لليهود الفاتحين، خوفاً من استجمام القوى والكر على الغاصبين. والثانية: تأمر بدعوتهم إلى الإسلام، فإن قبلوا الدعوة عصموا دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وإن أبوا فالجزية، وإن أبوا فالقتال. وهذه دعوة دينية قبل كل شيء.

وقال أيضاً: المقايسة بين الشرع الإسلامي والشرع الروماني لا نراها تستقيم لنا بالنظر لاختلاف الهدف والسنة بين الشرعين: الأول منهما قائم على قواعد العدل المطلق ومقتضيات العقول. والثاني على المصالح والمنافع الدنيوية. فيبنى على هذا التخالف أن الأساس في الشرع الإسلامي مصلحة الفرد في الدنيا والآخرة: وفي الشرع الروماني مصلحة الجماعة فقط. وهذه المبادئ ظاهرة آثارها في كل صفحة من صفحات هذين الشرعين تفرق بينهما تفريقاً يتعاصى على المزج والتوحيد، حتى إن الحكيم يكاد يستنبط استنباطاً الحكم بالمسائل المعروضة في كل من الشرعين إذا اعتبر بهذه القواعد ورَجع إليها. وفي الأعم الأغلب يكون ظنه يقيناً؛ مثال ذلك مرور الزمان، إما أن يسقط الحق وإما أن يسقط الدعوى؛ فالشرع الإسلامي لا يمكن أن يقول بسقوط الحق لأن الحق يبقى في الذمة، والفرد لا تبرأ ذمته إلا بالوفاء أو بالإبراء، مهما مر من الزمان على الحق، ولذلك

ص: 21

قال إن الحق لا يسقط بتقادم الزمان وإنما يمنع الحاكم من سماع الدعوى. فلم يكتف الشارع الإسلامي بتأمين مصلحة الدنيا بل استهدف مصلحة الآخرة أيضاً، في حين أن الشارع الروماني اتخذ الجانب الآخر وقال أن الحق المتروك يسقط والساقط لا يعود. ولم يكترث بأثقال الذمة وعقاب الآخرة. لذلك ترى أنه ليس من السلامة القول بأن أحد هذين الشرعين مأخوذ عن الآخر. وإذا طالعت أقوال فقهاء الأمتين في إحدى المسائل تجد كل فئة تعلل اجتهادها بطريقتها الخاصة مراعية المبادئ المتقدم ذكرها، غير متأثرة بالأساليب وطرق التعليل التي سلكتها الفئة الأخرى.

وقال الأستاذ كذلك: من أين لأمير من أمراء القرون الوسطى غير مأخوذ بالعاطفة الدينية وغير حريص على سلامة أخرته أن يجعل رائده تقوى الله في حروبه وغزواته، ويحرص على كل ما ينيله ثواب الخلود والمرتبة العالية في الجنة بالتزام العدل والرحمة والبعد عما يشوب طهارة النفس وفضائل الأخلاق؟ ذلك ما نراه شائعاً بين أمراء المسلمين وقوادهم، وأمثلته كثيرة.

ومن أحسن ما نذكره في هذا القبيل أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد: (ونح منازل جنودك عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحد من أهلها شيئا ً، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها فما صبروا لكم ففوا لهم). ففي هذا الأمر الصريح لا يكتفي أمير المؤمنين ابن الخطاب بالتوصية الحسنة بأهل الصلح والذمة، بل تجاوز في الرفق بهم العهود المقطوعة لهم، وفيها أنهم يضيفون عسكر المسلمين ثلاثة أيام، أما هو فأمر بتنحية العسكر عن قراهم حتى لا يصابوا بأذى ولا معرة. وفي هذه الفقرة بيان يدلي به هذا الإمام العظيم عن ثقل وطأة الفاتحين على أهل البلاد، ومرارة نفس الغالب في عدم الاعتداء على مغلوبه، فقال لقومه: إنكم ابتليتم بالوفاء بحرمة أهل الصلح وذمتهم، كما ابتلوا أيضاً بالصبر على تغلبكم وتحكمكم بهم في بلادهم فعليهم الصبر وعليكم الوفاء.

وقال أيضاً: في الإسلام كثير من الأمور التي تستوقف نظر المطلع فيعجب عندها من فكرة العدل المجرد الراسخة في نفوس زعماء العرب وحرصهم على النهج القويم والصراط المستقيم في أفعالهم وصلاتهم مع محاربيهم ومعاهديهم، من ذلك الأصول التي وضعت للنبذ

ص: 22

عند جوازه، فإذا فسخوا الصلح وأصبحوا في حالة حرب لا يناجزون خصومهم إلا بعد إعلامهم بالفسخ، ومضي الوقت الكافي ليخبر الملك رعاياه في أطراف البلاد وعند تخوم المسلمين، حتى إذا هاجمهم هؤلاء لا يكونون مأخوذين على غرة وغفلة. وهذه درجة من الإنصاف قصر عنها أهل زماننا مع ما عندهم من حقوق الدول وقواعد الحرب، فإن دول العصر الحاضر تبدأ بالهجوم وسائر أعمال الاعتداء حالما تعلن الحرب، دون أن تكون مجبرة على الانتظار بعد الإعلان، حتى إن بعضها تهاجم قبل إعلان الحرب بصورة رسمية كما فعلت اليابان بالمدرعات الروسية الراسية في ميناء سيول في لوريا سنة 1904 وغير ذلك.

ومن هذا القبيل قاعدة عدم أخذ العامة بجرائر الخاصة، وهذا مستند للآية الكريمة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فنهوا عن تحميل المغارم أهل القرى بالجملة لأجل الجرائم التي يقترفها أفراد منهم. وأنت ترى أن حكومات هذا العصر تفرض الغرامات على القرى وتأخذ الطائعين فيها بجريرة العاصين. وأمامنا حوادث التقتيل والتهجير في القرن العشرين بمرأى أوربة ومسمعها، وإن شئت فقل برضاها، تدلنا على أن العرب في عنفوان دولتهم كانوا أقرب إلى العدل والإنصاف من أكثر أهل هذا الزمان.

وقد شرعوا أيضاً أن خروج الشراذم من المعاهدين واعتداءهم على بلاد المسلمين بغير إذن ملكهم لا يعد نقضاً للعهد ولا يوجب الغرم على الملك المعاهد أو على قومه بصورة عامة. وهذا مبلغ من الإنصاف جدير باحترام أرقى الصور وأعلقها بالإنسانية والعدل. وما زالت الدول غير خاضعة لهذه القاعدة ولا عاملة بها، فقد حملت إيطاليا الغرم دولة اليونان بسبب اعتداء بعض اليونانيين على البعثة الإيطالية في اليابان، وفرضت عليها غرامة خمسين مليون فرنك مع أشياء أخرى واحتلت جزيرة كورفو ضماناً لإنقاذ هذه المطالب. وفعلت إنكلترا مثل ذلك مع الحكومة المصرية في مقتل السر لي ستاك باشا فأخذتها بجريمة بعض الشبان. وجرى في بلاد الشام حوادث شتى من هذا القبيل في أثناء الحرب العالمية السابقة، وبعدها في أيام الثورة، كما أخذت النمسا حكومة السرب بجناية اغتيال ولي العهد بيد فتى سربي، وكان كذلك سبباً مباشراً لاضطرام الحرب الكونية (الماضية)، وغير ذلك.

ومن المبادئ العربية العالمية اجتناب قتل النساء والأطفال، وهذا أيضاً تقاصرت عنه

ص: 23

المدنية الحديثة فإن وقائع الحرب العالمية وحوادث ثورة دمشق سنة 1925 و 1926 وما لا يحصى غيرها من فواجع القتال أدلة ناطقة على أن قواعد حقوق الحرب التي تحظر على المحاربين إطلاق القنابل على الأماكن غير المحصنة لا توجد إلا في بطون الأوراق والدفاتر.

وقال (هولتز ندورف) و (ريفي): إنه يوجد في الفقه الإسلامي جميع القواعد الجوهرية التي تتعلق بشريعة الحرب، ولم تقتصر على الفتح والغنيمة بل تجاوزتها إلى فرض الضرائب وذكر المواد المحرمة على التجارة ونظائرها، مما لا يختلف إلا اسمه عما يستعمل في يوم الناس هذا.

وقال (غولد زيهر): إن معاملة الفاتحين من المسلمين لأصحاب الأديان الأخرى في هذا العهد الأول الذي وضعت فيه أسس الشرع الإسلامي كانت معاملة رفق ورحمة، وليست الخطط التي تسير عليها الدول الإسلامية في هذا العصر مما يقرب في أخلاقها السياسية من التسامح إلا وهي مقتبسة من القواعد التي وضعت في النصف الأول من القرن السابع، ومن إطلاق الحرية لغير المسلمين من الموحدين في القيام بفروضهم الدينية. . . وكما أنهم كانوا أحراراً في دينهم فقد كان على المسلمين أن يحاسنوهم في شؤون دنياهم، وعد ظلم أهل الذمة من الذنوب والكبائر.

وقال (المسيو لوران) المؤرخ الفرنسي: إن أرمينية التي سبق لها أن دخلت في طاعة هرقل، أحسنت بعد ذلك استقبال المسلمين للتحرر من ربقة بيزنطة، ولتستعين بهم على مقاتلة الخزر، فعاملهم العرب معاملة حسنة، وتركوا لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها.

أما الأساس الشرعي لاستقلال أرمينية المحلي، فهو عهد أعطاه معاوية سنة 653 إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه، فكانت اضطهادات بيزنطة الدينية دافعاً للأرمن على الدخول في هذا العقد على عجل والرضا بسيادة العرب الذين هم أكثر تسامحاً من الروم. وهذا الشرط الذي منح لأرمينية انتهى أمره بأن أصبح قاعدة للعلاقات بين العرب وجميع النصارى القاطنين في الولايات الأرمينية. وقد أعطى به معاوية عهده للأرمن ما داموا راغبين فيه، من جملته ألا يأخذ منهم جزية مدة ثلاث سنين، ثم يبذلون له بعد ذلك ما

ص: 24

شاءوا كما عهدوه وواثقوه، وعليهم أن يقوموا بحاجة 15 ألف فارس منهم ينفق عليهم من أموال الجزية، ولا يستدعى هؤلاء الفرسان إلى الشام ولكنه يرسلهم إلى سواها حيث يشاء، ولا يرسل إلى معاقل أرمينية أمراء ولا قواداً ولا خيلاً ولا قضاة، وإذا أغار عليها الروم أمدها بكل ما تريده من نجدات. وهو يشهد الله على قوله.

فعلى هذا العقد أصبح الأرمن مستقلين في بلادهم تابعين لسيادة الخليفة العليا، على شروط ارتضوها، فاحتفظوا بأمرائهم ورؤسائهم وأوضاعهم العسكرية وطبقاتهم الدينية، وكان الخليفة يكتب إليهم عهوده كما يكتب إلى أمراء المسلمين، ويلبس الأمير الجديد في موكب حافل تاجاً وخلعة فاخرة وسيفاً ويركب فرساً ويقلد كل رسوم الأمارة وشاراتها، ثم يستعرض الجند في أحسن هيئاتهم وهم يرتلون الأناشيد ويعزفون بالموسيقى، ويتلى بعد ذلك عهد الخليفة.

هذا وعلى ما كان يتمتع به أمراء الأرمن من الاستقلال، فقد كان يشرف عليهم ويراقبهم أمير من لدن الخليفة، وقد يكون في الغالب عامل إحدى الولايات المجاورة.

وقال (الدكتور جب) المستشرق الإنجليزي:

لابد للباحث عن مصير الإسلام أن يتساءل عما إذا كان من الممكن أن يحتفظ المسلمون بوحدتهم الدينية أمام هجمات العلوم الأوربية، وتجاه الفوارق السياسية.

ولابد له أن يفكر فيما إذا كان الإسلام عدواً للمدنية الغربية أو نصيراً لها، وفيما إذا كان اقتباس المسلمين لهذه المدينة سيوجد بينهم فوارق فكرية تجعل منهم أمماً مختلفة الآراء والثقافة؟

يظهر لأول وهلة أن الإجابة على هذا السؤال مستحيلة، إلا أنه يمكن للباحث أن يتنبأ من سير الحوادث بشيء عن مستقبل الإسلام.

لاشك في أن البلاد العربية المتجانسة كمصر والجزيرة وسورية والعراق ستلعب دوراً يكون له الشأن الأول في مصير الإسلام.

لهذه البلاد المتجانسة ثقافة راقية تتقدم يوماً فيوماً بفضل اللغة العربية الفصحى وسهولة المواصلات، مما يساعد على توحيد الثقافة فيها توحيداً تاماً.

إن يقظة الإسلام في مصر وفلسطين والجزيرة والعراق وسورية حقيقة لا تنكر، ولن تقف

ص: 25

في سبيل هذه اليقظة عقبة، خصوصاً وأن من المستحيل أن يجري في البلاد العربية ما جرى في بلاد الأتراك.

العرب يتمسكون بلغتهم وأدبهم، ويتغنون بمجد الإسلام، ولم تقم في بلادهم أية حركة وطنية إلا كانت الروح الإسلامية أساسها. فهل يفكر العرب بعد هذا بإبدال حروف لغتهم بالحروف اللاتينية، أو أن يتنحوا عن لغة القرآن التي تربطهم بالعالم الإسلامي كافة؟ هذا مستحيل، وستبقى الروح الإسلامية تسود بلادهم وتتقدم أبداً بلا كلل ولا ملل، ولا يطرأ عليها أي ضعف أو وهن. العرب بحاجة ماسة إلى هذه الروح لأنها أساس حياتهم القومية، ويجب على كل مسلم أن يتمسك بأهدابها إن كان للمسلمين أخلاق، ولا أظنهم إلا متمسكين بها.

ستصبح القاهرة والقدس بمرور الزمان في الدرجة الثانية عند المسلمين بعد مكة، وسيؤمها طلاب العلم من كل قطر إسلامي؛ وستزودهم هاتان البلدتان بدعاية قوية للفكرة الشرقية يبثونها في بلادهم، وتساعدهم على بثها الصحافة العربية التي بلغت من الرقي والتهذيب درجة سامية. أما الفوارق السياسية التي يخشى جانبها فلا تؤثر أبداً في إسلامية الشرق العربي.

وقال مستر بلانت (في الجزء الثاني من مذكراته) بتاريخ 24 سبتمبر سنة 1909 كتب إلى برنارد شو يقول: أخشى أننا سنلاقي أوقاتاً عصيبة في الهند ولكن على الهنود وعلى المصريين أيضاً أن يعملوا على تحقيق حرياتهم، فليس في وسعنا أن نطلق سراحهم من تلقاء أنفسنا ما لم يتخلصوا هم من بين أيدينا عنوة، وما لم تجابهنا الهزيمة ويتداعى صرح الإمبراطورية في جهات أخرى، فيضطرنا كل ذلك إلى الخروج من تلك البلاد كما خرج الرومان من بريطانية.

محمد عبد الوهاب فايد

ص: 26

‌صحائف مطبوعة:

عمر بن الخطاب الأديب

للشيخ محمد رجب البيومي

أنصف المؤرخون عمر بن الخطاب رضي الله عنه كخليفة عظيم، فكتبوا عنه الأسفار المتنوعة التي تبرز سياسته الفذة في حل المعضلات وتوجيه الأمور، ولكننا لا نجد فصلاً واحداً منها تعرض إلى ما كان له رضي الله عنه من ذوق سليم في نقد الشعر وقدم راسخة في تفهم مراميه، مما انتثر في كتب الأدب عقده، دون أن يظفر بمن يجمع نظامه في سلك خاص. وهكذا نجد كثيراً من عظماء التاريخ قد تعددت مواهبهم، وتشعبت نواحي عبقريتهم فكتب المؤرخون عن أبرز ناحية في شمائلهم، تاركين ماعداها في ذمة النسيان والخمول!

والحق أن عمر رضي الله عنه كان واسع المحفوظ من جيد الكلام، حتى قال محمد بن سلام الجمحي:(ما عرض لابن الخطاب أمر إلا واستشهد فيه بالشعر) ورجل يملك هذه الثروة الواسعة من القوافي، لابد أن يكون ذا ولوع بالمعاني الجيدة، والأساليب الرائعة، فهو ينظر فيما يسمعه نظرة الباحث الناقد، ثم يحفظ ما يروقه ويعجبه، مستشهداً به في موضعه، مثنياً على صاحبه بما يستحق من تقدير.

ولقد كان يقول (أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها في حاجته، يستعطف بها قلب الكريم ويستميل فؤاد اللئيم) ويقول أيضاً (الشعر جذل من كلام العرب تسكن به ثائرتهم، ويطفأ غيظهم ويبلغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل) وفي هذا ما يكشف لنا عن غرامه بالشعر والشعراء. . . وإذا كانت الطيور لا تقع إلا على أشكالها، فإن أبا حفص قد تفرس في أصحابه فوجد عبد الله بن عباس يروي القصائد الجيدة وينتقد ما يعرض له من أبيات فقربه واجتباه، وكثيراً ما اختلى به الساعات الطويلة يتناشدان ويتطارحان، قال ابن عباس (خرجنا مع ابن الخطاب في سفر فقال: ألا تزاملون؟ أنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا ابن عباس زميلي، وكان لي محباً ومقرباً، حتى كان كثير من الناس ينفسون على مكانتي منه فزاملته فأخذ ينشد:

وما حملت من ناقة فوق رحلها

أبر وأوفى ذمة من محمّد

ثم قال: يا ابن عباس، ألا تنشدني لشاعر الشعراء؟ قلت ومن شاعر الشعراء؟ قال زهير،

ص: 27

فقلت لم صيرته كذلك؟ قال: (لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع الوحشي، ولا يمدح أحداً بغير ما هو فيه) فعمر يفضل زهيراً على من عداه، مبيناً أوجه التفضيل، وهذه سنة حميدة في النقد. فلقد كان من قبل عمر من الرواة، إذا نقدوا شعراً قالوا إنه برود يمنيّة تطوى وتنشر، أو قالوا إنه سمط الدهر، أو قالوا إنه مزاد لا يقطر منه شيء إلى آخر هذه التشبيهات المجملة التي لا تفصل حكماً ولا تعلل رأياً، فجاء عمر في نقده بالتفصيل الواضح، والتعليل المقبول.

وليس من الغريب أن يخالف الفاروق ما أجمع عليه كثير من أئمة النقد في الأدب، فيفضل زهيراً على امرئ القيس، لأن عمرذوّاقة، يسبر الشعر بعقله فلا يعجبه منه إلا ما جاء متمشياً مع المنطق السليم، فكان نبيل الغرض، رائع الحكمة، وزهير حكيم فذ يزن الأشياء بميزانها الدقيق، فلا يفحش في غزله، ولا يتعابث في تصابيه، بل يسوق الحكمة تلو الحكمة رائعة ساطعة. تجذب إليها كل مفكر حصيف. أما امرؤ القيس فمن المحال أن يرضى عنه عمر، وجل شعره في مغازلة الحسان، ومعاقرة الخمور، والاسترسال مع الصبوة إلى أبعد شوط، وهذه أغراض لا يهش لها الحكماء من قادة الرأي وأساطين الفكر كعمر بن الخطاب.

سمع رضي الله عنه مرة قول زهير:

فإن الحق مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء

فأخذ يحرك رأسه في عجب ويقول في تبسم: (إنما أراد أن يبين أن مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو دية كما جاء به الإسلام

ولقد كان النابغة الذبياني يلي زهيراً في المنزلة لدى الفاروق لأن زياداً أقرب إلى زهير منه إلى امرئ القيس، فقد كان متئد التفكير، شريف الغرض؛ وإعجاب عمر به يرجع إلى ما سمعه من أبياته التي تتحد مع أبيات زهير في المنطق والسداد (لقي عمر ابن الخطاب وفد غطفان فقال: أي شعرائكم الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

فقالوا النابغة. فقال من القائل:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتآى عنك واسع

ص: 28

فقالوا النابغة. فقال من القائل:

أتيتك عارياً خلقاً ثيابي

على وجل تظن بي الظنون

فقالوا النابغة. قال ذلك أشعر شعرائكم).

وإذن فزهير عندَه شاعر الشعراء، أما النابغة فهو شاعر غطفان!

وطبيعي أن يكون عمر مع هذا النظر الثاقب في الشعر قادراً على أن يلعب به كيف يشاء، ويوجهه حيث يريد شأن الذين يتبحرون في مادة من المواد فلا يكتفون بسردها على الوجه المعروف، بل يذهبون في تأويلها إلى مدى بعيد، لا يقدر على تفهمه واستنباطه غير من فهمها فهماً دقيقاً، فقد يأتي إليه البيت وهو صريح الدلالة على معنى خاص، فيستخرج أبو حفص منه معنى آخر كما يبين مما يلي:

كان بنو العجلان يفخرون بهذا الاسم، لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قرى الأضياف، إلى أن هجاهم النجاشي فضجروا وسبوا به، واستعدوا عليه عمر، فقالوا يا أمير المؤمنين هجانا أبشع هجاء، فقال: ماذا قال؟ فأنشدوه:

إذا الله عادى أهل لؤم ورقة

فعادى بني العجلان رهط بن مقبل

فقال عمر: إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب، فقالوا إنه قال:

قبيلته لا يغدرون بذمة

ولا يظلمون الناس حبة خردل

فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك، قالوا فإنه قال:

ولا يردون الماء إلا عشية

إذا ورد الوارد آخر منهل

فقال عمر: وما في ذلك، هذا أقل للزحام، قالوا فإنه قال:

تعاف الكلاب الضاريات لحومهم

وتأكل من كعب بن عوف ونهشل

فقال عمر: كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه، قالوا فإنه قال:

وما سمى العجلان إلا لقولهم

خذ القعب واحلب أيها البد واعجل

فقال عمر: كلنا عبد، وسيد القوم خادمهم).

فهذه أبيات كلها سب صريح ولكن عمر يتصرف فيها كما شاء له افتنانه، ولقد كان لا يخفى عليه - وهو الباقعة الألمعي - ما تتضمنه من هجو لاذع، ولكنه كان كما يقول صاحب العمدة:(يدرأ الحدود بالشبهات).

ص: 29

ولقد كان الفاروق على علم تام بشعراء عصره يستطلع أخبارهم ويستفسر عن أحوالهم، وربما ذكر له الشاعر فجعل يسأل عن كنيته ولقبه وأوصافه الجسمية والخلقية وكلأنه يريد أن يفهم شعره على ضوء حياته، قام مرة يصلي الصبح فوجد رجلاً قصير القامة أعور متنكباً قوساً، وبيده هراوة، فقال له: أنت متمم ابن نويرة؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: هكذا وصفت لي، فأنشدني مراثيك في مالك أخيك فأخذ ينشده حتى وصل إلى قوله:

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن نتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا

على طول وصل لم نبت ليلة معاً

فقال: عمر والله هذا هو التأبين، ولو وددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك، فقال متمم: لو أن أخي يا أمير المؤمنين مات على ما مات عليه أخوك من الإيمان ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم)

ونحن لو فتشنا جميع مراثي متمم هذا، ما وجدنا أحسن من البيتين اللذين وقف عندهما الفاروق، وفي ذلك الدليل القوي على سلامة ذوقه، ودقة شعوره بمعاني الكلام. ولقد جاء بعد عمر من هام بهذين البيتين من أئمة الأدب فكتبهما على قبر أخيه

على أن أبا حفص كان ينفعل انفعالاً شديداً يظهر أثره في وجهه حين يسمع شعراً يقال في مناوأة الدعوة المحمدية فقد أسكت من أنشده شعر أمية بن الصلت في رثاء قتلى بدر، وكأنه يربأ بالشعر أن ينحط إلى درجة تجعله يحيد عن الحق ويميل إلى الباطل. ولطالما توعد من يقول شعراً في هذا الموضوع البغيض، حتى إن كراهته لأعداء الرسالة من الشعراء ظلت كامنة في قلبه برغم إسلامهم بعد ذلك، فقد كان أبو شجرة بن الخنساء شاعراً مثلها وقد لحق بأهل الردة وأخذ يقول الشعر في تحريضهم على أصحاب محمد وكان مما قاله:

فروّيت رُمحي من كتيبة خالد

وإني لأرجو بعدها أن أعمرا

ولما أخفق في تحريضه ورأى الناس يرجعون إلى الإسلام رجع إليه صاغراً، وقبل منه ذلك أبو بكر، وعفا عنه فيمن عفا عنهم. فلما كانت خلافة عمر، قال: يا أمير المؤمنين أعطني فإني ذو حاجة. فقال عمر: من أنت؟ فلما عرفه صاح: أي عدو الله! ألست القائل:

فروّيت رُمحي من كتيبة خالد

وإني لأرجو بعدها أن أعمرا

ثم جعل يعلوه على رأسه، فطار عدواً إلى ناقته، وارتحل عائداً إلى قومه من بني سليم،

ص: 30

وعمر يكرر البيت في تهكم واستهزاء.

ولقد كان برغم صرامته في الحق يعطف على الشعراء الجيدين. وقصة النجاشي السابقة تؤكد لنا هذا المعنى أبلغ تأكيد، وحسبك أن الحطيئة كان يلقى منه - على سلاطة لسانه وقبح هجوه - كل تسامح محمود، فقد حبسه عمر رضي الله عنه حين هجا الزبرقان بن بدر فنظم عدة أبيات عاطفية يستميل بها قلبه ومنها:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ

زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة

فاغفر عليك سلام الله يا عمر

فرق له عمر، وأطلقه من سجنه ومنحه دراهم كثيرة على ألا يتعرض لهجو المسلمين.

ولقد شاع في الناس حبه للشعر وتأثره به أيما تأثر فعمد كثير من أصحاب الحاجات إلى عرض مطالبهم عليه في أسلوب شعري فكان يردهم أحسن رد، قال عثمان ابن أبي العاص: كنت عند عمر فأتاه شيخ كبير يسمى أمية بن حرثان فأنشده:

لمن شيخان قد نشدا كلابا

كتاب الله لو قبل الكتابا

أناديه فيعرض في إباء

فلا وأبى كلاب ما أصابا

فإنك وابتغاء الأجر بعدى

كباغي الماء يتبع السرابا

تركت أباك مرعشة يداه

وأمك لا تطيق لها شرابا

إذا غنت حمامة بطن وج

على بيضاتها ذكرت كلابا

فقال عمر: مم ذاك يا أخا العرب؟ فقال: هاجر كلاب إلى الشام في جيش الحرب، وترك أبوين كبيرين ولا من عائل لهما: فبكى عمر حتى ما نتبين كلامه ثم كتب إلى يزيد بن أبي سفيان في أن يرحله، فقدم عليه، فقال عمر: بر أبويك إلى أن يموتا؟

وكان لا يطوف في شارع أو زقاق ويسمع شعراً ينشد إلا وقف يتسمعه حتى ينقطع الصوت، وله في ذلك غرائب عجيبة، سمع أعرابية تنشد:

فمنهن من تسقى بعذب مبرد

نقاخ فتلكم عند ذلك قرت

ومنهن من تسقى بأخضر آجن

أجاج ولولا خشية الله فرت

فعلم ما تريد، وبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيره بين خمسمائة درهم أو جارية من الفيء، على أن يطلق زوجته، فاختار الدراهم وطلقها، وهذان البيتان لا يدرك مرماهما

ص: 31

غير من له بصيرة عمر وذكاؤه، ولو سمعهما غيره لظنهما شعراً ينشد وكفى ولكن عمر الدقيق يصل إلى المراد بألمعيته المتوقدة.

وطاف ذات ليلة ببعض خيام المدينة فسمع أعرابية تنشد:

تطاول هذا الليل تسري كواكبه

وأرقني أن لا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غيره

لزلزل من هذا السرير جوانبه

وبت ألاهي غير بدع معلن

لطيف الحشا لا يجتويه مصاحبه

يلاعبني طوراً وطوراً كأنما

بدا قمر في ظلمة الليل حاجبه

يسر به من كان يلهو بقربه

يعاتبني في حبه وأعاتبه

فسأل عنها فقيل إن زوجها غائب في جيش القتال من عام، فذهب إلى زوجته وسألها كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: مائة وعشرين ليلة، فأمر أن يمكث المتزوج أربعة أشهر ويستبدل به غيره. ولو أردنا أن نستقصي ما ورد عن عمر من هذا القبيل لطال بنا حبل الكلام.

على أن ذوق الأديب يظهر واضحاً في قوله، وكذلك ذوق عمر، فقد كانت عبارته ممتعة، ورده بارعاً، مر يوم بمنزل أنيق فقال: لمن هذا؟ فقيل لعاملك فلان، فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. وتنازع عبد الله وعاصم أبناه، فسألاه أيهما أفضل من أخيه، فقال أنتما كحماري العبادى، قيل له أي حماريك شر؟ فقال هذا ثم هذا! وقال: الكوفة جمجمة العرب، وكنز الأمصار، ورمح الله في الأرض) وكتب الأدب مملوءة بلآلئ عمر الفريدة فليقتنصها من شاء.

رحم الله الفاروق، فلقد كان فذاً في سياسته، فذاً في أخلاقه، فذاً في أدبه ونقده، ولله ما أصدق الحطيئة حين قال فيه:

ما آثروك بها إذ قدموك لها

لكن لأنفسهم كانت بك الإثر

محمد رجب البيومي

ص: 32

‌هلال المحرم

(بين مولد عام، ومأتم عام يجد الشاعر مجالاً للتأمل)

للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا

عاد بعد النَّوى وألقى الرحالا

صامتٌ قام يخطبُ الأجيالا

وشهيدٌ على الزمان قديم

كالزمان القديم يأبى الزوالا!

وكأن الظلام حَوْل معاني

هـ غُبارُ الدهور مرَّت ثِقالا

والزمان العجوز. . . داهِية يَرْ

تجلُ الموتَ والحياةَ ارتجالا.!

والزمان العنيدُ. . . أحمق يَرْتا

دُ المنايا، ويركب الأهوالا!

والزمان العجيب أسطورة يَنْ

سِجها الوهم للوجود خيالا.

صامت قام يخطب الأجيالا

وَدَّ لو تَرْجمَ الضياء مقالا

وبواكيرُ مِنْ سناء تهادَى

كتباشيرَ من رجاء تَلالا

خطَّهُ الغيب في السماوات سطراً

وَهِمَ الناس إذ دَعَوْهُ هلالا

هو همس في خاطر الكون مَشيو

بٌ يقصُّ التاريخَ والأبطالا

هو فَنٌّ على السماء، ومعنىً

كالمعاني، وهجرة تتوالى

هو شيء غيرُ الأهاليل، يُوفى

كل عام فيوقظ الآمالا

خنجرٌ في يد المحرَّم مَسلو

لٌ على عالم يضج خبالا

قد لواه الطِّعانُ في لجبِ الدَّهْ

ر. . . وعنف الطعان يَلوى النصالا

هيه يا أولَ الطريق من العا

م يميناً فنهتدي. . أم شمالا؟!

أي شيء صَوَّرْتَهُ حين صوَّرْ

تَ من النورِ جابةً وسؤالا؟

أترانا على الطريق أم أنْبَتَّ

ت بنا السُّبْل وانتحرنا جدالا؟

وخرجنا إلى الحياةِ مَثاكي

لَ نجيدُ النُّواحَ، والإعوالا

وقنعنا من المعاركِ بالوَصْ

فِ، وخُضنا غِمارَها أقوالا

ونَصَبْنا لكلِّ ساع شراكا وملأنا طريقه أوحالا

واحتميْنا من الحقائق بالجهْ

لِ، وسرنا ورائه أشكالا

الذي صار عند قوم حراماً

كان في يومه القريب حلالا!

ص: 33

ضلَّةً لِلَّجاج يختل قومي

ويريهم أقوالهم أفعالا.

يا هلالاً في طلعة العام ألْهُو

باً يَسوقُ الأيام وهي كسالى

هات من ذكريات يومك يوماً

يَقْرَع الغافلين، والجهّالا

وأعِدْ قِصة الخلود على العا

لم، واضْربْ فصولَها أمثالا

هي ميراثُ أمة غَالَها الخُلْ

فَ وصاغت من جهلها أغلالا

قصةٌ ترسُمُ البطولة في أحْ

داثها العزم صارماً والنضالا

قصةُ الرأْي حين تجحده الأر

ض عناداً من حمقها، أو ضلالا

قصةٌ تُلْهمُ التأمل مَسرا

هُ، وتُضْفي على الوجود جلالا

ما نظمت التاريخ فيها: ولك

ني ضربت التاريخ فيها مثالا

ص: 34

‌من ديوان عالمي الصغير.

. .

للأستاذ العوضي الوكيل

- 1 - حديقة

أَقمتُ ببيتٍ ماله من حديقة

يطوّف (ممدوح) بها (ودسوقي)

وقد يُرويان الزرع ربِّى سناهما

بشعر كأفياء الخيالِ رقيق

وقد يقطفان الزهر بعد نموه

ويرنو شقيق منهما لشقيق

وقد يخطران الصبحَ فيها بمشية

تسدّ إلى هم الحياة طريقي!

وقد يجعلان العشب فيها مقاعداً

تباكرها أيدي الندى برحيق

وليديّ يسري في عروقي هواكما

فتخفق بالحب الطهور عروقي

وفي مهجتي روض من الحب ناضر

نأى عن رعود للحيا وبُروق

تهب عليه نسمة من هواكما

فتخفق في الأكمامِ أيّ خفوقِ

فإن تقطفا أزهاره فقصائد

كلمحة (ممدوح) وصوت (دسوقي)

- 2 - ممدوح والحب

ممدوح مالك تهوى

من البنات، الحسانا

تهفو إلى قبلات

منهنّ آنا فآنا

وإن أتيحَ عناق

غنمته نشوانا

إني عهدتك تهوى ال

تفاحَ والرمانا

وقد عرفتك تستم

لحُ القدود اللدَانا

تَرِق في القول حتى

ترى حبيبك لانا

هيهات تسلو الغواني

وإن لقيتَ هَوَانا

أحذر بنيّ فإن ال

غرامَ داء عُضالُ

الغيد تفلت منه

ويصطليه الرجالُ

فما لهنّ قلوب

لكن لهنّ حِبالُ

ص: 35

‌صداح النيل

(مهداة إلى صاحب السعادة الأستاذ عزيز أباضة باشا، لمناسبة

عودته من مصيفه بلبنان)

للأستاذ (ابن محمود)

على النيل صداح الأغاريد ساحر

لعذب أغانيه تحن المزاهر

له في ظلال الأيك عش منغم

موارده مخضلة والمصادر

يظل به ما بين غاد ورائح

تماسيه أطياف المنى وتباكر

إذا ما تغنى ردد الطير شدوه

ومالت بأنسام الأصيل الأزاهر

وهدَّأت الأمواج في النهر جريها

يجاذبها من لذة الصوت آسر

ورجعت الشطئان أصداء لحنه

ففي كل شط قبنة ومزامر

أشاعر وادي النيل هل أنت سامعي

وهل أنت للشادي المقصر عادر؟

أعدت إلى ملك القريض مكانه

فعاد وعدنا بالقريض نفاخر

مضت فترة من بعد شوقي كأنها

على الشعر ليل مظلم الأفق عاكر

تعاجم فيها بالنظيم جماعة

وأثخن فيها بالجراح معاشر

يقولون بالتجديد، ضعف قريحة

وعجمة أسلوب، به إلى ظاهر

وعندهم التجديد شكوى وآهة

وبَرْح هوى فيه التخنث سافر

فكلهمو في الشعر مجنون عامر

ولو عاصروه طلق الشعر عامر

أمير القوافي جبت لبنان زائرا

فهل حل في لبنان مثلك زائر؟

كأني بتلك الشامخات تحركت

للقياك ترحيباً وراحت تساير

وبالأرز قد مالت عليك غصونه

كما انسدلت خوف الحرور الستائر

ويارب سفح كالبساط منضر

مشيت عليه وهو بالوشى زاهر

يخصك بالإعجاب حيث تخصه

فما أنتما إلا فؤاد وناظر

يقول أهذا قيس لبنى بعينه

ولُبناه؟ أم حلم على الأرز عابر

فيا سعد لبنان، تملأ قلبه

بقربكما منه وقرت نواظر

ص: 36

رأى الحسب الوضاح يسطع نجمه

مع النسب العالي، فنعم الأواصر

عزيز! كتمت الحب، لكن هاتفاً

من القلب ناداني فرحت أجاهر

وما أنا والمدح الذي إن أردته

نهاني علمي إن باعي قاصر

أنابغة الأشعار هل أنت سامع

لشعري؟ وهل صدقت أني شاعر؟

ص: 37

‌أنغام وأسرار

للشاعر إبراهيم محمد نجا

لمن هذه القطعة الساحرة

توقعها روحك الشاعرة؟

وكيف جرت فوق هذا البِيان

أنا ملك الحلوة الناضرة؟

وما كنت أعلم يا فتنتي

بأنك مفتنَّة قادرة

تُصور بالنغم العبقريِّ

كما ترسم الريشة الماهرة!

كأني أرى مخدعاً للغرام

تقوم به غادة ساهرة

مدلهة أسلمت نفسها

لنشوة إحساسها الغامرة

تعانق أطياف معشوقها

وتلثم أصداءه الطائرة

تضم يديها إلى صدرها

كقديسة برة طاهرة

وتهتف في وَلَهٍ ضارع

وفي لهفة بالجوى زاخرة:

ظمئت إلى الحب يا ساحري

فأين إذن خمرك المائرة؟

وصرت كريحانة تشتكي

بصحرائها وقدة الهاجرة

فأنزلْ عليها نداك الرطيب

وأطلع لها شمسك الباكرة

على وجنتيك شعاع يرف

وفي مقلتيك رُؤى باهرة

وثغرك يبسم في رقة

ولكنها رقة آسرة!

وصدرك يهتز مثل الغدير

تداعبه النسمة العابرة

وروحك تسبح مثل الفراش

ترفرف في الليلة النائرة

ويغمرني منك سحر عجيبْ

به دفء أنفاسك العاطرة

وعيناك تخترقان الأثير

إلى جنة بالهوى زاهرة

أراك بها جد مسحورة

فيالك مسحورة ساحرة!

لقد ذاع سرك يا فتنتي

أذاعته أنغامك الثائرة

فلا تحزني إن سر الهوى

أذاعته أشعاري الحائرة

هو الفن يُظهر ما في الضمير

ويترك أسرارنا سافرة!

ص: 38

‌الجامعة في النضال من أجل التقدم الاجتماعي

للأستاذ جوستافو كولونيتي

مدير المجلس القومي للأبحاث العلمية في روما

(مهدى إلى القائمين على جامعتي فؤاد وفاروق)

إن الذينَ يشاهدون بقلق وضع أوربا المحزن، ويتتبعون باهتمام الجهود المضنية التي تبذلها في سبيل تجديد إنشائها وتعميرها، ليتساءلون أحياناً عما ينقص القارة في هذه الآونة.

وأعتقد أنه ينبغي أن نجيب دون تردد أن أهم ما تحتاج إليه أغلب أقطارنا، إنما هو نخبة جديدة من الرجال يكون بمقدورها قيادة بلادها نحو المستقبل وفي المستقبل.

والواقع أن الطبقة الحاكمة لما قبل الحرب قد أفلست، فقد حسبت أنها قد لبت حاجة المرء إلى الحرية ضمن نطاق الاقتصاد الحر، ولكن هذا الاقتصاد أدى إلى مساوئ الرأسمالية الأكثر أنانية والأكثر ضلالة. وقد ظنت أنها قد لبت حاجة الجميع إلى النظام والعدالة، ولكن ذلك لم يحصل إلا عن طريق دفاع لا هوادة فيه عن الحقوق المزعومة للطبقات المتمتعة بالامتيازات الأمر الذي أدى بصورة مذهبية إلى إعاقة التطور الطبيعي للنظام الاجتماعي نحو توزيع أعدل لخيرات الأرض. وقد خيل إليها أنها قد لبت الحاجة إلى التقدم باستخدام العلم والرقى الفني كأدوات للقوة والجبروت، ولكن ظهر في الوقت المناسب أن العلم والرقى الفني صالحان لزرع الخراب والموت فحسب

ويبدو الآن هذا الإفلاس جلياً في ضمير الشعوب، وأن اللامبالاة التي استسلمت بها الشعوب إلى الطغاة (الديكتاتوريين)، والتردد الخطر الذي تظهره هذه الشعوب في محاولاتها تحقيق الرجوع إلى الأشكال الديمقراطية. كل ذلك يعطينا مقياساً عن فقدانها المطلق للثقة في حكامها السابقين، وعن حاجتها الماسة إلى رجال جدد. ومن واجب الجامعة تهيئة هؤلاء الرجال وتكوين النخبة الصالحة منهم.

ومن ذلك تبدو لنا المسئولية التي تقع على عاتق الجامعة لأنها لم تعرف في الماضي كيف تخرج لنا رجالا قادرين على المعرفة والتنبؤ وتدبير الأمور. ونستنتج من ذلك ضرورة تجديد كيان الجامعة وتحملها للمهمة الثقيلة وهي قيادة الإنسانية نحو نظام جديد

ص: 39

وهي في الحقيقة مهمة ثقيلة الأعباء مفعمة بالمصاعب، ملآى بكل مجهول، إذ لا يعني ذلك إعادة وإنشاء ما أصابه التدمير مادياً فحسب، بل اجتناب الحكم بالتدمير من جديد وبأقرب وقت على ما سنشرع ببنائه. ومن السهل علينا تمييز أسباب الحرب ومسئولياتها، ولكن لو ذهبنا في تعمق الأشياء إلى أبعد من ذلك، لرأينا وجوب التسليم بأن الحرب ما كانت إلا المظهر الخارجي الفاجع لاستحالة استمرار الإنسانية على العيش في ظروف مادية وعلاقات متبادلة، ثبت أن العالم قد تخطى العصر الذي وجدت فيه

ولقد تعينت معالم هذا التخطي عن طريق التقدم العلمي والرقى الفني، هذا التقدم الذي وضع تحت تصرف الإنسانية كمية في تضخم مستمر من الثروة لا تستفيد منها إلا بعض الطبقات الاجتماعية

ولكن هذا الحادث لا يزال في دور التخطيط؛ فالتقدم العلمي والرقى الفني سيستمران في النمو بشكل يزداد على الدوام سرعة ووزناً في النتائج في كافة النواحي

ويوشك أن ينهار بنياننا الاجتماعي الذي لم يستطع مقاومة الغزوات الفنية للنصف الأول من هذا القرن، وستقل مقاومته لصدمة الغزوات الفنية التي ستطبع بلا ريب السنوات القادمة.

ولقد أضحى التقسيم الحالي للبشرية إلى طبقات بالياً ومحكوماً عليه بالزوال وستلغيه فجأة ثورة دامية لا مثيل لها في التاريخ، إذا لم نعرف منذ الآن كيف تتغلب عليها بإيجاد نظام جديد تتاح فيه للناس دون ما تمييز في الطبقات نفس الظروف للتمتع بالخيرات التي وضعها التقدم العلمي والرقى الفني تحت تصرفنا بمقياس واسع وبشكل دائم الاستمرار

فإيجاد هذا النظام الجديد، وصياغته بشكل يتفق واطراد الرقى الفني إلى حد لا يستطاع تحويله كما جرى غالباً في الماضي إلى أدوات اضطهاد في يد فئة قليلة من أصحاب الامتيازات توجهها نحو كتل بشرية محرومة من وسائل الدفاع فاقدة الأمل والاعتراف لجميع البشر، بحق الاقتسام العادل لخيرات الأرض وإمكانية مساهمتهم في التقدم المشترك والتمتع به بصورة مشتركة. هذه هي مهمة الغد العظمى النبيلة الشاقة التي لا تقبل أي تأجيل أو تسويف

وإليكم في الوقت ذاته تحديداً للصورة الجديدة لجامعة الغد: على جامعة الغد أن تكون أول

ص: 40

من يبادر إلى تحقيق زوال التفاوت الطبقي، وذلك بأن تتقبل في أحضانها كل شاب يتصف بالذكاء وحسن النية، مهما كانت ظروف أسرته الاقتصادية والاجتماعية ومهما كانت موارده محدودة

ولقد أضحى هذا الاقتراح منذ مدة مكاناً شائعاً، فنعثر عليه في برامج مختلف الأحزاب السياسية في كافة الأقطار، ولكن علينا ألا نحسب أنه نتيجة مكتسبة ومسلم بها، فهو على النقيض من ذلك، نصر لا يمكن إحرازه إلا مقابل أعنف المعارك وأهولها

وفي الحقيقة إن أغلب أولئك الذين يسلمون نظرياً في كثير من السهولة برأينا لا يقصدون سوى ازدياد قل أو كثر لكراسي الدراسة المجانية التي كان يحسب فيما مضى إمكان حل المشكلة عن طريقها

بيد أن هذه الكراسي المجانية قد أتاحت لعدد من هؤلاء الشباب الخروج بل الهرب من الطبقة العاملة ليأخذوا أمكنتهم بين الطبقة البرجوازية أو الطبقة الحاكمة

وإذا كان من العدل أن نعترف بحسن نية أولئك الذين أسسوا هذه الكراسي الدراسية رغبة منهم في مساعدة أفضل أبناء الشعب على ارتياد مناهل العلم والتربية، فينبغي التسليم أيضاً بأن هذه المؤسسات قد ساعدت على تعيين معالم هذا التسابق نحو إحراز شهادة تعتبر كوسيلة وحيدة لبلوغ أعلى الدرجات في السلم الاجتماعي، هذا التسابق الذي أفسد بصورة خطرة كل حياتنا الجامعية

فالإكثار من الكراسي الدراسية المجانية يبقي المشكلة الاجتماعية على حالها دون أن يحمل إليها حلاً، إذ ليس القصد توسيع أبواب الدخول إلى الجامعات، بل انتخاب أولئك الذين يدعون لدخولها وانتخابهم بشكل أوسع وفي محيط اجتماعي أرحب. وهدفنا من ذلك منح إمكانيات أعلى مراتب الثقافة لكل الذين يحوزون من المواهب الفكرية ما يسمح لهم ببلوغها ولهؤلاء فقط

والغرض من ذلك في الوقت ذاته حمل الرأي العام على تقدير كل شكل آخر من أشكال النشاط المنتج الذي لا تقل حاجة المجتمع إليه عن حاجتها إلى العلماء وتوجيه جميع الذين يعتقدون الآن بأن لهم الحق في الدراسة لا لشيء إلا لكونهم ينتسبون إلى الطبقات المتمتعة بالامتيازات فيجعلون الجامعات مزدحمة بهم، ليصبحوا في المستقبل من المتخلفين عن

ص: 41

مراتبهم لا فائدة فيهم لأنفسهم ولا للآخرين، توجيه هؤلاء نحو هذه الأشكال الأخرى وإعدادهم لها بصورة تدريجية

ولا يمكن بلوغ هذه النتيجة إلا بقلب الوضع الحالي رأساً على عقب، وهو قلب لا تستطيع تحقيقه إلا الدولة، وذلك بإدخال الدراسات العليا ضمن نطاق الوظائف الاجتماعية واعتبار النفقات التي تتطلبها بين تلك التي على المجتمع أن يحتمل أعباءها في سبيل المصلحة العامة

وفي هذا المعنى ينبغي الاعتراف بأن قطراً واحداً قد اقتحم المشكلة بكل اتساعها إلى الآن، ألا وهو الاتحاد السوفياتي

ولقد كانت التقاليد في الأقطار الغربية حائلاً دون أي تجديد. وسنرى عما قريب ما إذا كانت هذه التقاليد التي نعتز بها بحق، ستعرف أن تكون نقطة الانطلاق لنظام جديد يتلاءم فيه الماضي المجيد مع مقتضيات الوضع الجديد

وليس من شك في أننا سننجح بهذا الثمن فقط في الإبقاء على مركزنا على رأس الحركة نحو التقدم الاجتماعي وفي إنقاذ ما تبقى من حضارتنا

وينبغي أن تتجدد الجامعة لا في انتخاب الطلاب فحسب، بل في جهازها الداخلي أيضاً، وذلك لسببين اثنين يجب التسليم بهما:

أولاً: لأنها لم تكافح الفاشية دائماً عندما كان ثمة فسحة في الوقت لمكافحتها في المجال المذهبي كمبدأ لا يتلاءم مع أي شكل من أشكال الحياة الفكرية والبحث الحر عن الحقيقة

ثانياً: لأنها بالغت في تناسي دورها في تكوين العقول وخلق معنى مسئولية الفكر تجاه الوقائع والتاريخ

لقد كونت الجامعة أساتذة فلقنتهم أغمض أسرار الرقى الفني وفتحت أمامهم مسالك العلم السرية، ولكنها أغفلت توجيه انتباههم نحو الخير والشر للذين كان في مقدور العلم والرقى الفني دفعهما إلى البشر، وإفهامهم أنهم مسئولون إلى حد ما عن هذا الخير والشر. ولقد أهملت إفهامهم أيضاً أنه ليس من حقهم التجرد وعدم المبالاة بالروابط التي تربط دراساتهم بحياة البشرية، وتراخت عن تلقينهم أن جهودهم لا تكون نبيلة ولها ما يبررها إلا إذا كانت تتوخى عيشة أفضل للإنسانية جمعاء.

ص: 42

فعلى الجامعة إذن أن تستعيد السيادة على نفسها. عليها أن تضع حداً للتخصص المفرط وتوسع نطاق التعليم الفني. وعليها أن تبذل عنايتها، لا في تخرج علماء وقتيين فحسب، بل في تكوين رجال بأوسع معاني الكلمة وأجدرها بالفهم والإنسانية، رجال لا يبحثون إلا عن الحقيقة، ويعرفون أنه لا يمكن بلوغها إلا في جو من الحرية

وسيتخذ النضال ضد الفاشية مكانه ضمن نطاق الحياة الجامعية فوراً وبصورة طبيعية، لأن الفاشية إذا كانت قد انهزمت عسكرياً فتوارت عن المسرح السياسي مؤقتاً، فإنها لا تزال تعيش بين ظهرانينا بشكلها المزدوج وهو الكذب وروح الشدة والاقتسار، فينبغي الاستمرار في مكافحتها تحت هذا الشكل المزدوج.

أما الجامعة، فهي المكان الذي يعارض فيه الكذب بالبحث الأمين المجرد عن الحقيقة. الجامعة هي المكان الذي يمكن فيه إلحاق الهزيمة بروح الشدة والاقتسار عن طريق هذه الحرية التي يطالب بها الفكر بإلحاح كأعظم النعم الإلهية.

فعلينا إذن أن نعيد في الجامعة، إلى الحقيقة والحرية، الإجلال والقدسية، وذلك بأن نقصي عنهما كل من قاد زمامهما بالاستسلام إلى الخداع والتهديد أو التضليل

يجب المطالبة والظفر بإكبار الحقيقة وتمجيدها وحتى إعلانها في الجامعة ولا سيما حين لا تروق في عيون ذوي السلطان في الأرض.

يجب أن تكون الجامعة حصناً للحرية، وعلينا أن نطالب وأن نظفر بعدم التنكر لها في الجامعة، وينبغي ألا نضن بالحرية إلا على أولئك الذين يرغبون في استخدامها من أجل قتلها

وعندئذ تمسي الجامعة هيئة يصبح أعضاؤها ويشعرون شخصياً أساتذة وطلاباً أنهم مسئولون عن الشكل الذي يؤدون به رسالتهم الاجتماعية، وسيصبحون ويشعرون أنهم أعضاء نخبة ممتازة مدعوة إلى قيادة العالم نحو مصير أفضل، نخبة ممتازة لا تباعد فيما بين أفرادها الحدود السياسية، وسيكون هذا أولى الصور لهذا المجتمع الدولي الذي سيجنب وحده أوربا كوارث جديدة

وسيكون في وسع البشر أن يصبحوا أخيراً، في عالم حر مغرم بالحرية، سادة مصائرهم، وسيكف التقدم العلمي والرقى الفني عن ترويعنا، ويستخدمان عندئذ لجعل الحياة أقل

ص: 43

خشونة وجفافاً وأجدر بأن نعيشها.

(عن مجلة '

ترجمة

غالب عارف طوقان

ص: 44

‌من يد ذات سوار إلى يد ذات سوار.

. .

لي - يا سيدتي - يدٌ ذات سوار كيدك، وأناملُ ناعمة نعومةَ أناملك،

ونفسٌ مرهَفٌ حِسُّها إرهاف حسك. فأما يدي فأصدقُ سعيها أن تصول

في عالم الكتابة وتجول؛ وأما أناملي فأحبُّ ملمسها أوتارُ قيثارة خالدة

توقع عليها ألحان البيان الرفيع؛ وأما نفسي فغاية مُتمناها أن تصور ما

يجيش في أحنائها تصويراً واضح الفكرة قوي الحبكة رائع الأسلوب،

يبوّئها في ميدان الأدب مكاناً عليّاً ترنو إليه الأبصار فتهوى إليه

القلوب. .

وأني - بلا ريب - لم أبعث إلى (الرسالة الغراء) بمقالي هذا لأفتح لكِ نفسي فتفتحي لي نفسك، فإن لنا في أرجاء المجتمع الوسيع لغَناءً عن التعارف على صفحات مجلة حملت

- وما انفكت تحمل - مشعل الأدب العربي الصميم، وسمحت وما برحت تسمح للأقلام الرقيقة الأنيقة، أقلامنا معشر ذوات الأساور، أن تقوى وتشتد لنكتب في بعض أبوابها فصولاً من معتصرات أدمغتنا، بها ندافع عن كرامتنا إن خدشت، وعن شعورنا إن جرح، وبها نقيم دعائم نهضتنا حين تنقض فرقاً من صواعق الرجعيين الجامدين، أو هَلعاً من زلازل المجدّدين المتطرفين!.

جميلٌ منك - يا سيدتي - أن تثيرك مقالات الأستاذ (الطنطاوي) الأخيرة فتبعثك على الطمع في المثول بين يديه مثول التلميذ بين يدي معلمه. وجميل من (الرسالة) أن ترضي ما صبت إليه نفسك، فتنشر ما جادت به براعتك، ليشهد فيه (صاحب المناظرة الهادئة) صورة صادقة التعبير عن الأدب النسائي المتزن بفكره الثاقب ونظره البعيد.

وإنه لجميل جداً من الأستاذ (الزيات) صاحب هذه المجلة الغراء أن ينقع غلتي فينشر كلمتي، ويسمح لي بإيضاح فكرتي، على عجز قلمي وضعف مُنتي. . .

غير أني لا أطمع - يا سيدتي - في شرف طمعت فيه: فَلأَنْ أبقى طيلة حياتي في صومعة النسيان أكتب لنفسي فلا يحس بي قريب أو بعيد - أحبُّ إليَّ من أن تكون لي (دالة خفيفة) أو ثقيلة، (مشفوعة بالأدب والطواعية) أو غير مشفوعة، على عَلم من أعلام الأدب العربي

ص: 45

لا أستبعد أن يرى بعينيه النقادتين الحادتين من الضعف فيما أكتب إليه خاصة ما لا يراه فيما أكتب إلى الآخرين، فيحاسبني في حاضره حساباً عسيراً على مستقبلي: وإذا نفخة واحدة من نفخات قلمه العاصف - وهو يهتز تأثراً - تذهب بجميع ما يستوقده أدبي الناشئ من نار، وما يحاول أن يرمي به من شرر، فلا ألقى بعد إلا يأساً في قرارة النفس عميقاً، وزهادة بين الضلوع موغلة، وأستوحش شيئاً فشيئاً من الأدب والأدباء، ومن الكتابة والكاتبين.

لا. لست متشائمة يا صديقتي. . . ولا والله ما أحب أن تتشاءمي من حديثي هذا إليك؛ فإني لأعلم أنك - بعد أن تقدمت إلى الأستاذ الطنطاوي بمقالك الجريء الذي أحسنت سبكه وأحكمتِ ربطَه، وعرفتِ بأي لطف وظرف وكياسة تَعرضينه - لن تراعي إذا ما جلجلت مقالات الأستاذ من جديد، فإنها إذا خَطفتْ ببرقها بَصَرَكِ، أو أصمّت برعدها سمعك، لن تزيد في زلزالها عما تعودت من قوتها وتهدارها، ولن يهولَكِ فيها إذاً آتيها بعد الذي مضى، ولا مُقبلها بعد الذي خَلا. . .

ولكن. . .

إن يكن في وسع سيدتي أن تصبر على حملات (الطنطاوي) بعد أن تثيره، فليس في وسعي ولا أحب أن يكون في وسعي أن أصبر على حملة من حملاته من غير أن تخضلَّ عيناي بدموع من الإخلاص سواكب، لأني آمنت بأنه لا يحمل إلا إذا كان على حق، وأيقنت بأن الحدة لا تخرج دفاقة من بين ثنايا مقالاته إلا إذا آلمه الشيء النكر؛ وأنَّى لمثلي - وهي التي يوشك أن يجرفها التيار كما جرف الكثيرات من قبل - أن تصبر على جراح قلم سِلْم للحق، حرب على النكر؛ يجاهد في سبيل الله ولا يخاف لومة لائم!.

إني - على إعجابي بما جاء في مقالك يا صديقتي - لمقتنعة بسداد الأستاذ في موضوعه (مناظرة هادئة) وما سبقه من الموضوعات في معناه: إذ مهما يكن الرجل قواماً على المرأة، ومهما يكن حاملاً من أوزارها، فلتقعنَّ على عاتقها تبعات كثيرة، ومسئوليات جسيمة، ولاسيما إذا كانت مثقفة، عالمة بأوضاع الحياة المختلفة. وإذاً لا غرابة إذا أرسل الأستاذ (الطنطاوي) شُواظاً من نار كلماته الغَضبى على سواد المتعلمات اللاتي أهملن رسالاتهن بعد عرفانها، ونقضن مواثيقهنَّ بعد توكيدها، فاستحققن من (الطنطاوي) وغيره

ص: 46

أن يصفهن بالجمادات الخرساء ولو حملن أعلى الشهادات من بكالوريا ودبلوم وليسانس وماجستير.

لا غرابة في هذا كله.

ولا غرابة في أن يناظر الأستاذ أولئك المتعلمات مناظرة (هادئة) رفقاً منه بالقوارير، وحناناً من لدنه على لابسات الحرير. .

ولكن الغرابة حقاً في أن تثوري لنا من دوننا جميعاً معشر صاحبات (نون النسوة) فتدافعي عن عدد قليل من المتعلمات تصفينه بالجم الغفير، وتُبرزين من سداد رأيه واستقلال فكره وبعد نظره الشيء الكثير، حتى لكأني بك تحسبين أن الطنطاوي جاهل أو متجاهل ذلك العدد القليل الذي غاليت في تمداحه، أو أنه كتب مقالاته من قبل أن يدرس نفسيته وأطواره.

عفواً يا أختاه!.

لقد قلبت الآية فجعلت الكثير قليلاً، والقليل كثيراً.

ألا إن أكثر المتعلمات حظاً من الحيوية والنشاط واستقامة المبدأ لأقلهن عدداً. وإن أقل المتعلمات خلاقاً من الخير والفضيلة وحسن الاتجاه لأكثرهن سواداً.

ولئن عرفتِ جماً غفيراً من صديقاتك المتعلمات اللاتي يعجبن السامعين بحوارهن ونقاشهن فإن أخوف ما أخافه أن يكون حماسك لنا - نحن بنات جنسك - قد بعثك على المغالاة في نثر المديح، فأني عرفت مثلك جماً غفيراً من السيدات والفتيات المتعلمات، لكني أبيت أن أتخذهن صديقات إلا ما رحم بي، إذ ألفيتهن إلا قليلاً منهن - على كثرة ما في رؤوسهن من المعلومات - يرددن ما يحفظن ترديد الببغاء.

وما أحسبك تنكرين الصلة الوثيقة بين العلم والدين، وبين الثقافة والفضيلة، وأنك حين تشايعين الأستاذ على ما يقوله في فتاة العصر من ناحية الدين - والدين كما تعلمين ينبوع الفضائل - فقد شايعتِه على كل ما يلوم عليه أكثر فتيات هذا العصر، لأن علومهن وفنونهن وآدابهن لا تؤتي أكلها المطلوب، ولا ثمراتها المنشودة.

إن الأستاذ الطنطاوي لا يريد من وراء مقالاته أن يسيء إلى شعورنا معشر الجنس اللطيف، ولا أن يجرح كرامة المتعلمات وأنصاف المتعلمات بَلْهَ العاميات اللاتي لا يفقهن

ص: 47

مما يقول حديثاً، ولكنه - كما فهمتُ من غضون كلماته - يقصد إلى تذكيرنا جميعاً بواجبات طال علينا الأمد في الغفلة عنها، فاختار لذلك أعمق الأساليب أثراً، ليكون في توالي صيحاته عبرة لمن يخشى.

ألست معي في أنَّ كثيراً منا بات لا يعتبر إلا بالكلام الجارح، والخطاب الصادع؟.

ألستِ معي في أن أنوثة الكثيرات من المتعلمات فينا قد فقدت غير قليل من جمالها حين استبدلت خشونة مشاركة الرجل في أعماله بنعومة تدبير المنزل وتربية الأطفال؟.

أولستِ معي أخيراً في أن ثقافة هؤلاء المتعلمات لم تحلْ دون تقليد الأجنبيات على عمى، وأن الرقة في خطابهن واللطف في مناقشتهن والهدوء في مناظرتهن لم تزدهن إلا عشقاً لكل جديد ولو كان فيه الموت، وهرباً من كل قديم ولو كان فيه الحياة؟

اغفري لي يا صديقتي إذا قلت: لا سبيل إلى إصلاحنا معشر النساء إلا صرخات مدوية، وغارات متوالية، تهيب بنا أن نوثق عرى إسلامنا قبل أن تنفصم، وأن نجدد شباب عروبتنا قبل أن يهرم، وأن نبث روح الفضيلة في جيلنا قبل أن يموت. . .

فشكراً لك يا سيدي الطنطاوي على نفثات قلمك. . . ولتمسك بيدك القوية الثابتة مع أيدي إخوانك من الرجال المُخلصين بأيدينا الناعمة المرتبكة؛ فقد كنتم معشر الرجال وما تزالون أقوى منا بأساً، وأشد منا ساعداً، وأثبت منا جناناً، وأربط منا جأشاً؛ غير أن الحياة لم تصلح في عهد من العهود إلا على يدين اثنتين: يد الجنس الخشن ويد الجنس اللطيف. وأما أنت يا سيدتي ذات السوار فاغتنمي هذه الفرصة التي هيأتها لك بالكتابة مرة أخرى إلى الأستاذ الطنطاوي معتذرة، واذكري ما عشت تلك التي استعارت اسمك المستعار.

يد ذات سوار رقم 2

ص: 48

‌البَريدُ الأدبي

إلى الأستاذ علي الطنطاوي:

لشد ما تتجلى فيما تكتب غيرتك الصادقة على أن تشيع فينا الفضيلة

الإسلامية في أجمل مظاهرها؛ فالتحلي بحلي الدين خلة شريفة كريمة

هي أعز ما نحرص عليه. وليست المسألة يا سيدي أن مصر أو غير

مصر أنكرت فضائل دينها عامدة متعمِدة، إنما هي أمراض اجتماعية

نريد أن نوفق إلى علاجها، وليس المجال أن تسألني: أحرام تكشف

الفتاة أم حلال؟ فما اختلفنا من قبل في حكمة الله الخالدة، وليس مناط

البحث أنني راض عما أنكرت حتى يصل النقاش إلى هذه المرحلة

الخطيرة.

وإنما الأمم حين تتسلط عليها أشعة الحضارة المنسابة من غيرها ممن هي أعلى شأناً وأقوى مُنه تكون في حالة أقرب إلى الخبل. فإلى أي حد تحتفظ بحضارتها القديمة، وأي قدر تأخذ من الحضارة الجديدة؟ هنا تتراقص المغريات العاجلة، والآراء السطحية وغير السطحية وهذا ما يسمى بدور الانتقال عند الأمم الحديثة حتى إذا ملكت قواها وتماسكت أعصابها عادت إلى رشدها، وأفاقت من غفلتها.

لقد لفت نظري في كلمتك الموجهة إليّ (ولا نستطيع أن نصدق، ولو أكدت القول لنا أن في الدنيا شاباً متدفق الشباب يعيش بين بنات ناضجات الأنوثة. . . إلى آخر ما قلت) ثم سقت الحديث إلى تصوير المعلمين والتلميذات تصويراً جانبياً ثم بنيت عليه أحكاماً عامة ورتبت قضايا خطيرة.

ولا يسعني إلا أن أستفتي سماحة القاضي: ما قولكم دام فضلكم في خمسة أو عشرة من الرجال ارتكبوا ذنباً في مدينة من المدن، ولم يثبت لدى القاضي ثبوتاً قطعياً أن أهل المدينة شاركوهم في هذا الذنب: أيقول القاضي سدّاً للذرائع: اذهبوا بأهل المدينة جميعاً إلى النار؟

أما الرجال في مدارس البنات العصرية فالواقع أن وزارة المعارف تنتقيهم بقدر جهدها من

ص: 49

خيرة المعلمين ديناً وعقلاً وخلقاً وهم متزوجون في غالب الأحيان. والذي بينهم وبين التلميذات هو رسالة العلم وحدها. والرجل مضطر أن يزن سلوكه وحديثه فلو أفلتت منه كلمة تؤول تأويلاً سيئاً حذره أخوه في المدرسة وإلا أكل يوم أكل الثور الأبيض، وقد اعتادت الرياح أن تنقل كل ما يخالف الواجب والقانون إلى وزارة المعارف، وأقل ما يلقاه هذا المعلم وأمثاله أن يروا أنفسهم سريعاً في مدارس البنين النائية. هذا المعلم وأمثاله يعدهم المعلمون في مدارس البنات بُلْهاً قصار النظر. ومع ذلك فكلما اتسع التعليم العالي للبنات وتخرج العدد الكافي من مدارس المعلمات استغنى عن الرجال على التدريج.

وأقبل يا سيدي الأستاذ تحياتي وشكري لهذه الغيرة المحمودة على الدين والأخلاق. والله الهادي إلى سواء السبيل.

حسنين حسن مخلوف

المفتش بوزارة المعارف

جحا قال:

عزيزي المحترم الأستاذ كامل كيلاني:

حظيت اليوم بنسخة من قصص جحا (سارق الحمار) وكنت حظيت من قبل بنسخة من (برميل العسل) وغيرها؛ ولقد تصفحت الأولى وعاودت قراءتها وقدمتها للصغار من أولادي هدية فإذا الكبار يستولون عليها ويجدون في قراءتها لذة ومتعة شهدت تباشيرها على أساريرهم وآثارها في نقاشهم، وما كدت أدخل عليهم بالثانية حتى هبوا يختطفونها ويتسابقون لبلوغ الأولوية في الفوز بمطالعتها. ولو شهدت أنت يا سيدي مثل هذا المنظر لكان فيه ما يرضيك ككاتب وفنان وما يرضي كبرياء نفسك كمبدع لهذا اللون من القصص الفكه المظهر والعميق المغزى، والجزل اللفظ والمتين المبني. قواك الله وجزاك عن أطفال الجيل أجمل الجزاء؛ إذ أنك بما تكتب تدعم بناء صرح جيل صالح مستنير، ما أحوجنا - في إبان نهضتنا هذه - إلى صفاء ذهنه ونقاء معلوماته ونظافة خلقه وطهارة لفظه وعفة نفسه. والسلام.

أمين إبراهيم كحيل

ص: 50

مدير الجامعة الشعبية

حول كتاب (دور القرآن في دمشق):

تكرم الأستاذ عبد الرحمن محمد عبد الوهاب فدلني على تراجم بعض الأعلام الذين وردت أسماؤهم في كتاب دور القرآن، ولم أعثر على ترجمة لهم فله مني الشكر الخالص.

وألفت نظر الأستاذ إلى ما يلي:

1 -

ذكر الأستاذ أن الخضر بن المغير هو الخضر بن كامل

بن سالم بن سبيع الدمشقي السروجي المعبر المتوفي سنة 608

ثمان وستمائة (شذرات 533).

ويعلم الأستاذ أن اسم الخضر قد ورد في كتابي عند الكلام على أن وجيه الدين ابن المنجا - شيخ الحنابلة بدمشق - المولود سنة ثلاثين وستمائة، 630 هـ، والمتوفى سنة إحدى وسبعماية، 701 هـ= (دور القرآن ص 1 - شذرات ج 6 ص 3) - قد سمع حضوراً من الخضر بن المقير.

فإذا كان ابن المنجا قد ولد سنة ثلاثين وستمائة، فلا يُعقل أن يسمع الحديث ممن توفى سنة ثمان وستمائة.

وعلى هذا، فإن الخضر المذكور في دور القرآن، هو غير الذي تفضل الأستاذ بإيراد ترجمته.

2 -

ورد اسم (أبو مسلم الكاتب) خطأ مع الذين لم أهتد إلى تراجمهم. والواقع أني أوردت ترجمته في ص 85 من كتابي برقم 20. فمعذرة.

وللكاتب الفاضل أجمل تحية وأصدق شكر.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

على هامش النقد:

ص: 51

الأستاذ النابغة سيد قطب ناقد من الطراز الأول، وله فكرة خاصة في النقد أبرزها في كتابه (التصوير الفني في القرآن)، وهو كتاب جدير بالإعجاب والتقدير.

ولعل من ذيول هذه الفكرة ما كتبه أخيراً في (الرسالة) عن (مواضع النقد). وهو يرى أن ملاحظة الشعور العام هو أهم ما يعني الناقد في الآثار الأدبية، وأن الناقد يجب أن ينظر أولاً في صاحب الأثر هل أحس إحساساً صادقاً بالصورة الفنية التي يرسمها، أم أنه لم يحس بها أو أحس إحساساً كاذباً، والذي يدلنا على مدى هذا الإحساس من الصدق أو الكذب أن نتأمل ما يهيجه الأثر الأدبي من الشعور، فإن بعث في نفس القارئ شعوراً واحداً فصاحبه قد أحس به إحساساً صادقاً، وإن بعث شعورين متناقضين كان إحساس الشاعر أو الكاتب به مزوراً، وضرب لذلك مثلاً قول شاعرنا شوقي:

قف بتلك القصور في اليم غرقى

ممسكاً بعضها من الذعر بعضا

كعذارى أخفين في الماء بضَّا

سابحات به وأبدين بضا

فالبيت الأول يبعث في النفس شعور الذعر والخوف، والبيت الثاني يبعث البهجة والانشراح. وقد ذكرت حين انتهيت من مقاله قول الله سبحانه وتعالى (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين) فرأيت أننا لو سايرنا الأستاذ فيما ذهب إليه لغُمَّ علينا الأمر في هذه الآيات، فالجو العام للآيات هو تهديد وإنذار وتخويف، يقذف باللهب؛ ويرمي بالشرر، ولكن التشبيه لا يبعث في النفس إلا الطمأنينة والهدوء والظل الأبيض الناصع. نعم، إن منظر الجمال الصفر متتابعة مختلطة متحركة في تموج واضطراب هو منظر الشرر، ولكن هذا المنظر لا يبعث في النفس ولاسيما نفس العربي إلا المسرة والبهجة والشعر والجمال، فالجمل أليف إلى نفسه حبيب إليها، وهو حين يكون أصفر يزيد في إعجابه وبهجته فهذا اللون من الألوان المحببة، ولذلك جاء في وصف بقرة بني إسرائيل أنها (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين)

وإني سائل الأستاذ سيد قطب رأيه في هذا الجو البياني؟ ولست أتعجل فأنقض عليه رأيه قبل أن أعرف كيف يذهب في تطبيق نظريته على مثل هذا وللأستاذ تحياتي وتقديري.

علي العماري

ص: 52

(المدرس بمعهد القاهرة)

ص: 53

‌الكتب

دعوة في وقتها:

الرسالة الخالدة. . .

بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا

الأمين العام لجامعة الدول العربية

عرض وتعليق

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(تتمة)

أما ثالوث الفساد فهو الغدر والكذب والنفاق، وقد أصبح اصطناع هذه القباحات فلسفة سياسية خطرة. والغدر غير الخدعة في الحرب، فإن الخدعة قدرة أمرها متعارف عليه مباح في قوانين الحرب بخلاف الغدر فهو خسة وعجز عن المواجهة بالقوة. وهو قبيح حتى بين الأشقياء واللصوص، والكذب في السياسة والرياء فيها صار طابعاً عصرياً يفخر به ساسة هذه العصور المتأخرة منذ أن سن لهم (مكيافللي) طريقته التي ينكرها الإسلام الذي لا يعرف إلا سياسة الوضوح والصدق، ويرى الكذب والنفاق صفتين أدنأ من الكفر (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)

في البحث عن سند روحي للحضارة

في فصول هذا الباب الستة يتجلى عزام باشا كرائد إنساني عظيم من الباحثين عن سلام العالم ونظام جديد له، وهو يقف في الشرق الأدنى بين العقلية الشرقية والعقلية الغربية حين يحاكم آراء (ويلز) و (سانكي) في الغرب و (غاندي) و (نهرو) في الشرق

وهو يبدأ بالسؤال الآتي: هل الوصاية على الحضارة للأقوى أم للأتقى؟ ويستقرئ مراحل تاريخ المدنية للإجابة على هذا السؤال فيراها شعلة متنقلة بين الأجناس لم تثبت في مكان واحد ولا دامت لقوم وحدهم، مما يدل على أن التاريخ يأبى أن يشهد لقوم دون قوم

ص: 54

بالصلاح الذاتي والاختصاص بالقدرة على حمل رسالة الحضارة

وقصور علم الإنسان (أنثروبولوجي) عن إدراك الفروق الروحية بين الأنواع لا يسمح لنا بالاعتماد عليه في تفضيل قوم على قوم والفروق البدنية لا تكيف الحضارة، لأن أغلب الأنواع خليط من دماء وأجناس مختلفة قبل الحدود الأخيرة

وإنما الحضارة بجميع نتاجها المادي والأدبي أثر للحالات النفسية وغير لازمة للصفات البدنية التي تميز قوماً على قوم. وهذا مصداق للقانون القرآني: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)

وتداول العلم والجهل دليل على استعداد مشترك ومتساو للخير والشر، وهو يشير إلى وحدة الروح وتساويها، وبعبارة أخرى وحدة القوى الذهنية أو تشابهها. وهذا يكفي لنفي امتياز عنصر على عنصر بصفات ذهنية تجعل لأحدهما رجحاناً دائماً.

ومتى وضح ذلك انهارت الدعاوى العنصرية وانهار معها مبدأ القوة كسند للحضارة. فالقول بالحق للأقوى هو قول يرجح بعض الأقوام على بعض دون سبب طبيعي، ويبيح استبداد القادرين بالمستضعفين، وهو أمر تأباه الحقيقة الدينية والشريعة المحمدية خصوصاً كل الإباء، فهي قد جعلت الناس سواسية، وجعلت الوصاية للأتقى والأبر

وقيام المدنية ودوامها رهين بالقانون القرآني (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فما من قوم خرجوا على الدنيا برسالة العمران والعرفان إلا كانوا مهيئين لذلك بإيمان قوي وأدب قوي ودعوة قوية. وذلك الإيمان والأدب والعرف الصالح هو بارود القذيفة تدفع الأمم بقدر ما فيها من قوة واستقامة. وساعة الفصل بين التقدم والتأخر رهينة بحلول السيطرة المادية محل السيطرة الروحية، حين تغلب شهوات الأبدان شهوات الأرواح ويتغلب الترف الذي يورث أهله الضعف عن حمل أمانات الحضارة

ولا منقذ لهذه الحضارة الحالية من وعيد الله، إلا أن يرزق الله العالم بقوم خماص البطون يحبون الكفاح للحق كما يحب المترفون المال والمتاع، ويرثون هذه الحضارة ويردون للدنيا ذلك العقل الضائع والإيمان القوي

ولابد من وضع نظام جديد للعالم يجعل الوصاية على الحضارة دائماً للأتقى، ولأجل ذلك

ص: 55

يجب أن نتحرر من النظريات القديمة التي كانت موضوعة للعالم قبل أن يضيق نطاقه وتتقارب مسافاته بسرعة النقل. والمدنية في رأي (كبلنج) هي النقل. وعلى ذلك يكون الفرق بين عالمنا والعالم القديم هو ما بين سرعة النقل في العالمين

ويجب أن نراعي في وضع النظام الجديد فروق السرعة بين ما في عالمنا وعالم الغد، فلا نضع نظاماً جامداً بل مرناً يسمح بالتصرف في الأزمان الآتية، وهذا يكون بوضع نظام سلبي نمتنع فيه بتاتاً عن تسليط ما بأيدينا من قوى التدمير والتخريب وعن مضاعفة العوامل التي اضطرب لها وجودنا، ولا أمل في شيوخ الساسة والعامة، بل الأمل في القدرة العليا التي جعلت الحياة الإنسانية مرنة تتكيف بحسب الظروف. ولنؤجل النظم المثالية المجردة ولنبدأ بعمل الواجب قبل المطالبة بالحق، ولندرب الناشئين على فهم ذلك، لأنه هو الطريق المجرب في الإصلاح دائماً، ولنجعل أعمال الواجب والتضحية هي أعمال الفخر والتقدير، ولنحول الغرائز ونتسام بها، ولنصلح الرأسمالية بعد أن تضاعف خطرها باستخدام الآلة التي ضاعفت من مشكلة التعطل، ولنضح بالاستعمار لنجاة الحضارة، ولنفهم أن عالمنا واحد لا يتجزأ السلم فيه، فيجب أن تكون له قيادة عالمية مشتركة تتدرج إلى حكومة عالمية. وسبيل ذلك أن نوجه النشء إلى أن تكون الحكومة العالمية هي أملهم وذلك باتخاذ تربية عالمية بجوار التربية القومية وبتعويدهم الغضب للمصلحة العالمية العامة.

ويجب أن نتعهد النواة الصالحة في (هيئة الأمم المتحدة) ونحذر اليأس ونصبر ونصابر حتى تصير هذه الهيئة محكمة حقيقية للأمم تضحي في سبيل استمرارها وقدرتها كثيراً من حقوق السيادة عن طيب خاطر.

في انتشار الدعوة

فصول هذا الباب الأربعة تعتبر ملحقاً بالكتاب يبين تاريخ انتشار الإسلام منذ ظهوره، والمقصود بهذا الباب هو دفع التهم والأوهام التاريخية في زعم أن الإسلام انتشر بالسيف والإكراه. ولابد من إدراك ما في هذه الفصول كخطوة أولى في سبيل فهم القوة الذاتية للإسلام، تلك القوة التي تدفعه إلى الانتشار بما فيه من الحق والصلاح والاقتناع، لا بالإكراه ولا بقوة السلاح.

وقد بين المؤلف تاريخ انتشار الإسلام في الوثنيين وانتشاره في الأمم المسيحية المحيطة

ص: 56

بمهده الأول، وانتشاره في (الصليبيين) الذين جاءوا لمحوه ومحو أهله فسحر كثيراً منهم وجندهم له.

ثم بين تاريخ انتشاره في الأمم الأوروبية. وفي كل هذا البيان اعتمد على المراجع الأوروبية المنصفة وعلى الأسانيد والتحليل للعوامل والظروف، بما جلى تاريخ انتشار الإسلام بالحجة والإقناع

ختام

وقد ختم الكتاب بهذه العبارة التي تناشد الروح الجديدة في الشرق أن ينهض برسالة الإنقاذ. قال:

(وبعد) فهل يكتب لسكان الشرق من المسلمين والمسيحيين الذين تتعلق نفوسهم دائماً برحمة الله وتترقب هداه إذا اشتدت الكروب والظلمات، أن ينهضوا مرة أخرى بميراثهم السامي الذي يقوم من عوج النزاع الفكري والاقتصادي والعنصري، ويلطف من حدة المزاج الغربي، حتى يؤمن بالأخوة الإنسانية ويعمل لخدمة السلام العام بإخلاص نية وحسن توجيه، بما مكن الله له في الأرض!

ذلك ما نسأل الله رب العالمين أن يعجل بتهيئة أسبابه (إن الله بالناس لرءوف رحيم).

هذا ختام الكتاب، ولكنه بدء دعوة ستجد من يحملها بقوة وإيمان، لأنها نداء الحياة والزمان وروح الحضارة العالمية التي اشترك في حمل شعلتها جميع الأمم، والحياة الحالية نبوة! نبوة الطبيعة وقوانينها وحقائق الأشياء وبراهينها فلا تحتمل شكاً أو جدلاً في قيمتها، وإنما تحتاج إلى الفهم والإيمان والإخلاص والعمل لإنقاذ الإنسانية وإنقاذ الحضارة من فلسفات الشك والهدم والمادية الصماء.

عبد المنعم خلاف

ص: 57