المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 701 - بتاريخ: 09 - 12 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٧٠١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 701

- بتاريخ: 09 - 12 - 1946

ص: -1

‌الأمثال العالمية

للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب إلى الأستاذ عبد القادر الكرماني بحلب خطابا ينبئني فيه (أنه يضع كتابا عن الأمثال العالمية بلغة الضاد، وينقل إلى لغتنا العزيزة ما وصلت إليه يده من أمثال الأمم الأخرى على اختلاف أجناسها وأصقاعها، وقد ارهف نفسه للسؤال عن ناحية هامة في المثل وهي: هل وضع الأمثال مقصور على الأسلاف فقط؟ وهل لنا معشر الخلف أن نضع أمثالا أسوة بمن سبقونا؟ وإذا جاز وضع الأمثال لنا وضربها في مختلف شؤون الحياة فما هي الشروط التي يجب أن تتوفر فيما نود أن نتخذه مثلا؟ وإذا كان وضع المثل محصورا فيما تقدمونا فلم هذا الحصر وما هو الباعث له؟ وهل اتفقت الأمم جمعاء على السير في منهاج واحد؟ أم أن اختلافا بين الشعوب الأرض؟. . .)

وأقول: إن مكان هذا الكتاب الذي يشتغل به الأستاذ الكرماني لا يزال ناقصا في اللغة العربية؛ لأنها اللغو الوحيدة فيما نعلم بين لغات الحضارة التي خلت من كتاب جامع لأمثال الأمم أو للأمثال العالمية على حسب موضوعاتها أو على حسب أقوامها، وهو الموضوع الذي جمعت فيه باللغات الأوربية أسفار ضخام تجمع تلك الأمثال بترتيب أغراضها تارة وبترتيب أقوامها تارة أخرى

واحسب أن اللغة العربية أحوج إلى هذه المجموعة من اللغات الأوربية، لأن العرب (سلفيون) يكثرون الرجوع إلى الأمثال، ولأن الناقلين الأوربيين يخطئون فيما ينقلونه من أمثالهم وينسبونه إلى الأمم الشرقية الأخرى لاشتراك هذه الأمم جميعا في الدين وفي أحكام آدابه التي تضرب بها الأمثال. ويبلغ من خطئهم في هذا أننا رأينا آيات قرآنية وأحاديث نبوية منسوبة إلى الغرب أو إلى الهند لأنها وردت في أقوال الحكماء والمتصوفة من أبناء الأمم الهندية أو الفارسية، فإذا اهتم أديب عربي بجمع الأمثال العالمية فهو أحق الناس بتصحيح هذه الأخطاء وتمييز الأمثال الشرقية على حسب الأجناس واللغات. ولا شبهة في لزوم هذا التمييز، لأن الخلط بين أمثال العرب والفرس والهند مخالف للواقع من جهة، ومضلل للباحث في مقابلات الأمثال من جهة أخرى؛ إذ لا يخفى أن مسالة الأمثال مسألة (اثنولوجية) لها دلالتها على أطوار الأمم وعاداتها وبواعث تفكيرها ووسائل تعبيرها. فلا

ص: 1

يشعر الفارسي بالحقيقة الواحدة كما يشعر بها العربي في البادية أو الحاضرة، ولا تقع المقارنة بين الحقيقة كما يعبر عنها المثل العربي والحقيقة كما يعبر عنها المثل الفارسي إلا ظهرت من هذه المقارنة خصائص الأمتين وعادات كلتيهما في المعيشة وأسلوبهما في الملاحظة والتعبير، وقد يكون للمثلين شاهد واحد أو موضع استشهاد واحد، وكن الاختلاف بين الشاهدين هو الذي يدلنا على اختلاف الخصائص والعادات ويفيدنا تلك الفائدة الاثنولوجية التي يبحث عنها علماء الأجناس والسلالات

فكتاب الأستاذ الكرماني منتظر ومطلوب مفيد، ونرجو له التوفيق في إتمامه على الوجه المنتظر المطلوب الذي تتحقق به فائدة اللغة العربية وفائدة المعرفة الإنسانية على التعميم.

أما سؤال الأستاذ عن حق الخلف في ووضع الأمثال، فهو كحق السلف في اعتقادنا بلا اختلاف، لأن أبناء جيل الحاضر سلف بالنسبة للأجيال التي تعقبهم وتقتبس من حكمتهم وتجربتهم وتروي ما بقي من آثارهم وأخبارهم، فإذا تلقى الأعقاب عنهم كلمات صالحة للرواية والاستشهاد، ودارت هذه الكلمات دورتها على الألسنة كما دارت من قبلها كلمات آبائنا وأجدادنا، فتلك هي الأمثال يضربها أبناء جيل لأبناء جيل الأجيال، وذلك هو الحق الوحيد الذي يستند إليه واضع الأمثال.

ولكنني احسب الأستاذ يسأل عن الأمثال التي يضعها أبناء الجيل الحاضر لأبناء الجيل الحاضر، ويرى لها موقعا مختلفا من موقع الأمثال الموروثة عن الأجيال الغابرة، وله الحق فيما يراه.

فالأمثال (سلفية) في طبيعتها ودلالتها، وقيمة هذه الدلالة آتية من اعتقاد الناس أنها دالة على إجماع التجارب واتفاق العبر بين الغابرين والحاضرين. فإذا حدثت حادة اليوم وسمعنا مثلا يلخص لنا الحكم على حادثة مثلها وقعت قبل مئات السنين ونظر الناس اليها يومئذ كما ننظر إليها اليوم، فهذه هي عبرة الأمثال، وهذه هي دلالتها من يروونها ويستشهدون بها في مواقعها، وهذه هي قوة الإقناع التي تستفاد من تجارب السلف ويتخذها الخلف رائدا له في حوادث الحياة.

لهذا ترجح أمثال الجيل الغابر على أمثال الجيل الحاضر، فهي حجة القدم واتفاق التجربة دون غيرها، وهي حجة لا تتاح لأقوال المعاصرين في زمانهم إلا إذا طال بها العهد حتى

ص: 2

توافت عليها العبر وتكررت عليها الشواهد وصح بها الاستدلال.

لكن الثقة بالسلف ليست هي الثقة الوحيدة في مقام الاستشهاد، ونحن نؤكد الرأي بإسناده إلى زعيم موثوق بعقله وصدقه كما نؤكده بالإسناد إلى الآباء والأجداد.

ولهذا يجوز أن يصدر المثل من الجيل الحاضر للجيل الحاضر، ويجوز أن ينهض الزعيم الموقر بين قومه فيتخذ له شعارا يجري بينهم مجرى الأمثال ويكررونه في مقام الاستشهاد والاستدلال.

ولا شروط لشيوع المثل تكفل له البقاء على سبيل الحتم والإلزام، فإن شيوع المثل لا يتأتى بإرادة واضعه ولا بإرادة مروجيه، وإنما يتأتى بشيوع الحاجة إلى تكراره ارتجالا بغير روية ولا اتفاق، فتسقط أقوال كثيرة مع بلاغتها، لأنها لا تخطر على البال في اعم المناسبات وادعاها إلى الاعتبار، وتسري أقوال كثيرة مع بساطتها لألنها تخطر على البال في كل مناسبة وتعبر عن (الحالة) في نفوس قائليها والمستشهدين بها.

ولكن الملحوظ في جميع الأمثال السارية أنها تجمع بين السهولة والبساطة ودواعي الشعور المشترك بين العديد الأكبر من جملة الطوائف والطبقات، وإن الحكم للمصادفة فيها أقوى من الحكم للموازنة والاختيار.

وقد تنسب الكلمة إلى زعيم فتشيع لأنها نسبت إليه وهو لم يفه بها ولم يقصد بها قط ما قصده المرددون والمستشهدون، ومن أمثلة ذلك أن عامة المصريين يقولون في بعض المناسبات: سعد باشا قال: (مفيش فايدة. . .)

وسعد باشا لم يقل هذه الكلمة في المناسبات التي يريدونها، وإنما قالها عدلي باشا بالإنجليزية على مسمع من سعد باشا واللورد ملنر فغضب منها سعد وأنكر أن يعدل المتكلمون عن اللغة التي كانوا يتكلمونها إلى اللغة الإنجليزية ليقولوا بها عن مناقشته ما معناه بالعامية:(مفيش فائدة).

إلا أن الكلمة كان لها شأن خطير في السياسة المصرية، وعرف عامة المصريين ما كان لها من الأثر في علاقات الزعماء والعلاقات بين مصر والدولة البريطانية، ونسوا مناسبتها ولم يذكروا إلا كلمة (مفيش فايدة). . . وإن سعد باشا قالها ونقض يديه من المحادثات الملنرية في ذلك الحين، فسارت مثلا لأنها سجلت (حالة) من حالات زعيم كبير، وهي

ص: 3

حالة قابلة للتكرار في كل يوم، فليس أكثر من الحالات التي تنفض منها اليدان ويرفضها المرء مغضبا وهو يقول:(مفيش فايدة!).

على أن الأجيال تختلف في السليقة (المثلية) أو في السليقة التي تنشئ الأمثال وتجريها على الأفواه.

وربما كان العصر الحاضر من اقل العصور قدرة على تسيير المثل بعد إنشائه، واقلها قدرة على إنشائه قبل تسييره.

وترجع هذه الخاصة فيه إلى سببين: أحدهما أن توقير السلف فيه ضعيف، والآخر أنه عصر السرعة - بل العجلة - فلا يصلح من ثم لتدعيم الكلام بالشواهد والأمثال.

فأما ضعف التوقير في عصرنا لكل قديم، فهو من لوازم الجموح الذي اقترن بالحرية (الشخصية) وخلق لكل فرد من الأفراد اعتدادا بنفسه يخرجه أحيانا عن سلطان الجماعة أو سلطان القبيلة كما عرفوه ووقروه في الزمن القديم، ويصرفه عن التماس الشواهد مما قاله الأقدمون، لأنه لا يتوخى في أعماله أن توافق آراء الأقدمين، بل لعله يفخر أحيانا بتعمد المخالفة والشذوذ اغترارا منه بمعنى المخالفة والشذوذ، وهو القدرة على التحدي والاستقلال.

وأما علاقة السرعة بالأمثال، فهي ظاهرة من الفرق بين طبيعة الأحاديث التي يسترسل بها المتحدث إلى سوق الشواهد والأمثال، وبين طبيعة الأحاديث التي يخطفها المتحدث خطفا ولا يكاد يبدأها حتى ينتقل منها إلى موضوع منقطع عنها، فإن الجالس في المنظرة ليقضي السهرة كلها في قعدة واحدة يستطرد إلى المثل تارة والى العبرة تارة أخرى فلا تقع عند السامع موقع الاستغراب، بل موقع الانتظار والارتقاب.

ولكنه إذا جلس في مرقص الجازبند أو في رحلة السيارة أو في القهوة التي تموج بالداخلين والخارجين فآخر ما يخطر على البال أنه يسترسل بالحديث إلى سوق الشواهد وضرب الأمثال.

وتظهر علاقة السرعة بالأمثال في معرض آخر من معارض اعصر الحاضر، وهو معرض التفرقة بين مناسبات الكلام في محافل أوعظ والتعليم ومناسبات الكلام في الصحف والمجالس النيابية وأحاديث المذياع وروايات المسارح والصور المتحركة. فهذه كللها تتجدد

ص: 4

لمحة بعد لمحة ولا يأتي اللاحق منها حتى يرخى ذيول النسيان على ما سبق منذ لحظات أو منذ ساعات أو منذ أيام، وليست معارض الحديث بالأمس على هذا المنوال، لأنها كانت تتكرر بين الحين والحين ويتسع لها مقام التأمل والاستقرار والترديد.

ولعمري إنه لسبب آخر من أسباب العناية بجمع الأمثال وتقريبها إلى أبناء الجيل؛ لأن هذه العناية تستنفذ أثرا من الآثار الماضية يخشى عليه من طيات النسيان الفضفاضة، وتلقن أبناء الجيل (حالات نفسية) قد تؤدي بهذه العجلة الخاطفة إلى شيء من التؤدة والأناة.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌إلى وزارة المعارف:

وعلى هذا فنحن ندور. . .

للأستاذ كامل السيد شاهين

- 2 -

فإذا طرحنا النظر في منهج التعليم الابتدائي ألفيناه مؤلفا من: قواعد، وإنشاء، ومحفوظات، وإملاء، وخط. وبنظرة فاحصة في كل فرع من هذه، تنثال علينا مثالب لا نجد إلى ردها سبيلا. ولنتعقبها فرعا فرعا لعلنا نجد من تكشيف هذه العيوب سبيلا إلى الإصلاح، وعونا على العلاج.

فأما القواعد، فقد وضعت الوزارة بين أيدي تلاميذ السنة النهائية كتابا ضاق غلافه - على سعته - بأسماء المؤلفين والمراجعين، ومع هذا فقد خرج الكتاب غير مناسب لروح التطور التربيبي، فهو يعقد الباب بعنوان، ثم يجري وراء الأمثلة فيجمعها من كل طريق، مثال من الصحراء، وآخر من السماء، وثالث من الحيوان، غير مراع نسقا خاصا، ولا حافل بانسجام، ثم يناقش الأمثلة أو بعضها ويخلص إلى القاعدة.

وقد كان هذا كافيا وجميلا في وقت ما، أما اليوم فلا كفاية فيه ولا جمال، ذلك بأن التلميذ يتلقى القواعد تلقيا جافا لا روح فيه فيمجها ويملها، وقد درسنا ولا زال المربون يدرسون أن التربية الصحيحة تملى أن يكون درس القواعد بسبب من الإنشاء وان تكون الأمثلة مرتبطة موضوعا، أو شبه موضوع، يقوم في ذهن التلميذ ويتحيز، ويدرك منه أن هناك رباطا وثيقا بين هذه وتلك، ويفيد من ذلك ترابط المعلومات وتغذية ملكة الإنشاء وطرافة العرض، ومن ثم فنستطيع أن نقول إن الأسلوب الذي اتخذه الكتاب أسلوب لا يسد الحاجة، ولا يسير طويلا في طريق التربية الحديثة، ولا يساعد على تغذية وتنمية ملكة الإنشاء، ويضرب في الجفاف والعقم إلى حد بعيد.

فإذا ما ضربنا عن الأسلوب صفحا، ورحنا نبحث في ترتيب المعلومات وتبويبها، ألفينا الجناية الكبرى التي لا تخص مرحلة دون مرحلة ولا جيل دون جيل - ذلك بان القوم في الأزهر ودار العلوم داروا حول كتاب واحد لا يجدون عنه حولا، هو ألفية ابن مالك، فهم

ص: 6

يدرسونه بشرح ابن عقيل، ثم بأوضح المسالك، ثم بالاشموني؛ ومن ثم نجد أن طابعه قد مثل في أذهانهم وتبويبه وترتيبه قد استقر فيها، فتجدهم لا يسيغون طريقة المفصل للزمخشري، ولا ينظرون في كافية ابن الحاجب، وأهملوا الكتب والأصول شر إهمال، فلم يدرسوا شيئا قط من كتاب سيبويه، ولم يعرفوا شيئا قط عن مقتضب المبرد، وكانت عقبى ذلك أن اتجهوا اتجاها خاصا هو اتجاه ابن مالك في بعض كتبه، وفاتهم بهذا الإهمال أن يوازنوا بين اتجاهه واتجاه غيره من النحاة في الترتيب والتبويب، فذلك عسى أن يقودهم إلى اختيار أي السبل أهدى وأقوم

وقد جنت هذه المتابعة على تلاميذنا شر جناية، لأن الأساتذة المؤلفين لم يكلفوا أنفسهم رهقا، فلم يبحثوا عن طريق غير الطريق التي رسمها لهم ابن مالك، ومن يدري فلعلهم لا يعرفون أن هناك سبيلا آخر يصل بهم إلى هذه الغاية.

ابن مالك - ومن ورائه مؤلفينا الفضلاء - يرسم كتابه على: الكلام وما يتألف منه - ثم المعرب والمبنى - ثم النكرة والمعرفة، ثم المرفوعات فالمنصوبات فالمجرورات - ثم التوابع.

مسلك الرجل في الكتاب مسلك من ينظر إلى الصنعة النحوية فقط، مسلك من يهمه آخر الكلمة رفع أو نصب أو جر، ولا يهمه تناسق المعاني، أو افتراقها، وتنافرها أو انسجامها. حسبه أن هذا الحرف ينصب فيجب أن يكون في باب المنصوبات وأن هذا الحرف يجر، فيجر إلى باب المخفوض، وهلم خلطا ومزجا والشر في هذا أكبر من أن يهون، فالتلميذ يعرف أن (لن) تنصب، ويعرف أن (لم) تجزم ويعرف أن (ليس) تنصب الخبر، وأن (ما) في النفي لا تعمل شيئا، وكذلك (لا) ولكنه إذا طلب إليه نفي جملة اسمية أو فعلية، دار بين هذه جميعها وحار، أينفى بلن، أم بلم. . . الخ. والجناية على المعاني جد عظيمة ولا تعدلها بحال الجناية على الضبط، فالذي يقول: لم يتفق المفاوضون، أخف جرما من الذي يقول لم المفاوضون متفقون، وإذن فلا بد أن تكون المعاني مساوقة للإعراب إصبعا إصبعا فيعقد باب للنفي تجمع فيه أدواته وتبين خواص كل أداة، وفي ذلك من اللذة والفائدة ما فيه. ولكن طريقة ابن مالك ومتابعيه لا تعبأ بهذا، بل ترمي (لم) في صندوق الجوازم لأنها تجزم، و (لن) في صندوق النواصب لأنها تنصب، و (ليس) في صندوق النواسخ ناصبة الخبر، ولا

ص: 7

تعرض لما، لماذا؟ لأنها مسكينة فارغة، متصعلكة لا عمل لها في اللفظ، أما أثرها في المعنى فليس للقوم على بال، وكذلك (لا) مستضعفة فارغة فلا ذكر لها ولا وجود!

والجناية في التوكيد مثلها في النفي؛ (فإن - المفعول المطلق المؤكد - ونون التوكيد - والتوكيد المعنوي) كلها مثبتة في الكتاب ولكنها مختصمة متفرقة أبدى سبأ، كل منها في باب، فتوكيد الجملة الاسمية تجده في الحروف النواسخ، وتوكيد الفعل بالاسم تجده في المفعول المطلق، وتوكيد الاسم بالاسم تجده في التوابع، فإذا رمت أن يؤكد لك التلميذ جملة اسمية فقد رميت به في متاهة لأنك بذكر لفظ (التوكيد) قد صرفت ذهنه كله إلى الباب المعقود للتوكيد، وليس فيه إلا الألفاظ التوابع وهي من الضآلة في العربية ما هي.

تلك جناية اللفتة السقيمة إلى آخر الكلمة، تفرق ما بين اللفق ولفقه، وتصيب عقل الوليد بالالتواء والتشويش.

لابد أن نعقد أبواب النحو على طريقة أخرى تتوخى فيها المعاني، فنعقد بابا للتوكيد، وبابا للنفي، وبابا للربط، وبابا للطلب. أمره. ونهيه. واستفهامه. ودعائه. وتمنيه، وهلم جرا؛ فذلك أعود بالفائدة واقرب إلى أن تكون الدراسة ممتعة شائقة غير جافة غثة باردة تعلق نظر الغلام بآخر الكلمة لا يعدوه.

وقد رأيت أن متابعة طريقة ابن مالك قد عادت على المؤلفين بوضع أبواب لا فائدة من دراستها في المرحلة الابتدائية، ذلك بان محط الخطأ إنما هو الأعراب، أما المبني فهو بعيد عن مجال الخطأ كل البعد، وقد جاءت الحروف مبنية، والأفعال كذلك، ونصب المضارع وجزمه سهل التدبير، فإن أدواتهما معدودة ومحدودة، ومدار الخطأ إنما هو في معرب الأسماء التي يتلون آخرها بالضم والكسر والفتح، والذي يتولى كبر الضلال من هذه الأحوال إنما هو الفتح، فأما الضم فإنه يدور حول محور واحد وهو الإسناد، فإسناد الاسم أو الإسناد إليه مقتض رفعه، لا يخرجه عن ذلك إلا ناسخ، وأما الجر فإنه يكون بحرف أو إضافة - فإذا حدد الاسم المرفوع وذلك هين، والمجرور وهو أهون، فما بقي من اسم فهو منصوب لا يكون إلا كذلك، فأما أنه منصوب على المفعولية أو الحالية، فذلك مما لا يعني مادمت احرص على النطق السليم الصحيح، فأنا أبيح التلميذ أن ينصب الاسم متى ظهر أنه ليس مسندا إليه ولا مسندا، ولا مستحقا للجر بالإضافة أو الحرف، وليس في الناس من

ص: 8

يقول إن التلميذ لا يفهم معنى (عاد التلميذ مصابا) حتى يعرف أن مصابا حال، فحسبه إذن أن يقول أنها فضلة. وبذلك وحده نكون قد اهتصرنا ثلث النحو، ونستطيع أن نستغل القراتح في نواحي أخر أجدى وأعود بالفائدة. وبذلك نكون قد خففنا من هول هذا الشبح المفزع الذي يتراءى للتلميذ في يقظته ويروعه في منامه، وهو شبح القواعد.

ولست أزعم إنني مبدع هذا النسق من الدراسة والاختصار فقد سبق إليه الأستاذ إبراهيم مصطفى في كتابه النحو، ولكنه وا ضيعتاه لم يجر عليه في كتب صغار التلاميذ التي هو أحد عشر كوكبا رقشوا غلافها بأعلامهم الكريمة!

وهنا نترك أمر التبويب والترتيب والاختصار والحشو، إلى أمر آخر أقذى من العين، وأشجى للنفس، فإن الكتاب كثيرا ما يغفل عن المقرر إلى أي حد وقف، وعن التلميذ إلى أي مدى درس، فيطلب منه إعراب شيء ما عرفه بعد، فيقف التلميذ حائرا مبهوتا دهشا، أو يجتازه على ضرب من الحدس والتخمين، وما شر من ذاك إلا هذا، فأما المعلم فإنه يبيت - من رحمته بتلميذه وإشفاقه عليه - قلق غير موسد!.

خذ مثلا: مطالبته في آخر تمرين على الضمائر بأعراب الجملة (إننا سلمنا من القادمين) على حين أن التلميذ لم يعرف بعد أن من الخبر ما هو جملة، وبينه وبين معرفة ذلك مدى طويل، فالله أنشدكم ماذا يقول المدرس؟ وكيف يتخلص من أسئلة تصوب إليه في حرص وقوة؟ وكيف فات ذلك المؤلفين الستة والمراجعين السبعة؟

وخذ مثلا آخر: مطالبته بإعراب: (أمسى القانع وهو مغتبط) آخر باب الحال، وأمسى هنا دائرة بين التمام والجملة بعدها حال، أو النقصان والواو زائدة كما قالوا في (فأمسى وهو عريان) فأي البابين افتح على التلميذ الغض، باب تمام أمسى، وهو لا يطيقه، أم باب زيادة الواو، وهو لا يسيغه؛ على أن الواضع - عفا الله عنه - إنما قصد إلى الأول لأنه ذيل بهذا المثال باب الحال. واللجوء إليه يصدم عقول الأطفال الصدمة المضللة بين الناقص والتام، ويفتح عليه بابا من التخليط ليس له رتاج!

وبينما تجد الكتاب في تطبيقاته يحاور التلميذ محاورة الملغز المحاجي، تجده يقف عند بعض الأمثلة في بابين متباعدين لا يعدوهما، فهو يمثل في باب الحال، لشبه الجملة بقوله (وزنت القطن في غرارة) فإذا عددت خمسة أبواب بعدها تقع في نحو خمس عشرة ورقة،

ص: 9

وجدته يمثل في باب النعت، لشبه الجملة بقوله:(رأيت قطنا في غرارة) يا لله، أضاق الأفق عن كل شيء إلا عن القطن والغرارة، نحيرهما بين باب الحال وباب النعت؟ ولو أن الواضع أجرى موازنة بين المثالين في البابين، لقلنا حكمة حكيمة، ولكن الذي اضطره إلى ذلك الكسل العقلي، ولا نقول الأجداب العقلي، فذلك ما لا رضاه وصفا للجلة الفضلاء.

وبعد: أفأنتم مصرون بعد على أن نذوق غصص هذا الكتاب وهذا المنهج؟ إن كان ذلك فحسبكم الله على ما فرطتم في جنب التلاميذ ، والأساتيذ! ولي عودة في نقد المطالعة والمحفوظات إذا شاء الله.

كامل السيد شاهين

المدرس بالمدارس الأميرية

ص: 10

‌تجار الأدب.

. .

للدكتور أحمد فؤاد الاهواني

لا نقصد أولئك الذين يبيعون الكتب ناشرين أو وراقين، بل نعني أولئك الذين يتصدون للآداب والعلوم والفنون والفلسفة فيؤلفون فيهان ويطلعون على الجمهور بثمرة قرائحهم، لا يخدمون بذلك أدبا ولا يفيدون علما، بل يطلبون ربحا ويطمعون في ثروة فجعلوا من الأدب تجارة، وانزلوا العلم منزلة السلع الرخيصة.

ومن سوء الحظ أن هذه الظاهرة صبحت الحرب الأخيرة منذ بدايتها، إذا انقطعت أسباب الحصول على الورق، وتسنى لهؤلاء القوم بأساليب لا تمت إلى الشرف بصلة أن يحصلوا على الورق اللازم للطبع، ووجدوا المطابع متعطشة فدفعوا إليها بهذه الثمار الفجة، وخرجت إلى السوق هذه الكتب العجيبة. ليس فيها اثر من جهد أو بارقة من تفكير، وإنما هي ألفاظ مرصوصة يسود بها أصحابها صحائف الورق، ويملأون دفتي الكتب.

وكيف تريد أن يكون الأمر غير ذلك، وبعض هذه الطائفة يخرج في كل شهر كتاب، لو انفق فيه عالم يمتاز بالضمير ويتصف بالتثبت أعواماً لوجد أنه في حاجة إلى المزيد من الأعوام.

سئل أحد الناشرين: كيف تطبع لفلان؟ فقال: (إن الجمهور يقبل عليها كما يقبل على الفول السوداني) وهو تشبيه يقصد به إلى المدح والذم سواء. ولعله كان يرمي إلى التحقير فما عهدنا أن الكتب توصف بالتشبيهات المادية القليلة الشأن.

ولقد مضى زمن الحرب الذي انقلبت فيه الأوضاع، فعادت سوق الأدب إلى سابق حريتها، ووجد الفضلاء سبيلهم إلى المطابع بالطرق الكريمة التي لا تنافي الذوق أو الشرف، فانكشف أمر أولئك القوم وباءت كتبهم بالخسران، وزحمت رفوف الوراقين وأكبر الظن أن مصيرها سوف يكون إلى باعة (الفول السوداني) يلفون فيها بضاعتهم في (القراطيس).

ولعلك تعجب معي وتسال عن السر في بضاعة القوم كيف يتسنى لهم التأليف في كل شهر، وهل اتسعت مداركهم، وسمت عقولهم، وارتقى تفكيرهم إلى الحد الذي يسمح لهم بتسويد صحائف كتاب جديد كلما طلع الهلال الجديد.

إنهم يفعلون أحد أمرين: الأول السطو على بعض الكتب الأجنبية، ثم نقل فكرتها نقلا

ص: 11

خاطئا، ثم ينسبون الكتاب إلى أنفسهم زورا وبهتانا. وهذه المسألة تعرف بالسرقة الأدبية. وهؤلاء هم لصوص الأدب. يريدون أن يقول الناس عنهم انهم من كبار المؤلفين الذين يرجع إليهم، وهي نزعة تخلو من الأمانة على كلا الحالين، فهم غير أمناء في نسبة موضوع إلى أنفسهم وحقيقته لغيرهم، وغير أمناء في نقل الفكر، ولو كانوا قادرين على النقل وحسن التعريب لأعلنوا ذلك.

والأمر الثاني أن يتجهوا إلى الترجمة الصريحة، وقد زادت هذه الحركة في الأيام الأخيرة ولكننا نرى المتصدين لها، أو اغلبهم، لا يحسنون التصرف ولا يجيدون التعريب، لقلة خبرتهم، ونقص علمهم بالموضوع، وعجزهم في كلتا اللغتين الأجنبية التي ينقلون عنها، والعربية التي ينقلون إليها.

ولكنه بريق الكسب يستهوي هؤلاء وأولئك فيدفعهم إلى التسرع، والسرعة كما قال الزيات في مطلع كتابه (دفاع عن البلاغة) إحدى آفاتها. وهي لعمري إن كانت مزية الحضارة الحديثة فهي آفة الإنتاج الجيد في كل شيء، ماديا كان أم معنويا، وهي في الآثار العلمية والأدبية اخطر.

كنا في صدر الشباب نحضر العلم في الجامعة المصرية على أستاذنا الدكتور منصور فهمي، ومن أقواله المأثورة التي لا يزال طلابه يحفظونها عنه ويروونها في المناسبات (اطلبوا العلم للعلم) وكان بعضنا يتحدث إليه في وجوب السعي لدى أولى الأمر في الحكومة ليفسحوا المجال للخريجين في الجامعة والحاصلين على إجازة كلية الأدب في وظائف الدولة، فكان يرد عليهم بقولته المأثورة (اطلبوا العلم للعلم). وما كنا في ذلك الوقت نحسن تفسير هذا الكلام أو فهم مراميه البعيدة. هل يطلب العلم للعلم وهل يفضل أحدنا العلم على المال؟ وهل يغني العلم وحده في سد مطالب الحياة؟.

لا نقول إن العلم سبيل الحصول على المال، ولو عكسنا القضية لصح المقال، إذ الواقع من التاريخ أن المال كان غذاء العلم، ولقد عاش العلماء في قديم الزمان على بذل الملوك والأمراء والأغنياء وما كنوا ينفقونه عن سعة في سبيل العلم، وأوقاف الأغنياء المحبوسة على مصلحة العلم والعلماء خير شاهد على ذلك. وكان العلماء من جهتهم زاهدين لا يحفلون بملبس أو مشرب أو مأكل لأن همهم كله منصرف إلى طلب العلم ولذتهم في

ص: 12

تحصيله. وكانت أيديهم تزخر في بعض الأحيان بالمال فينفقونه في اوجه الخير والبر.

الخلاف إذن في الغاية، هل العلم غاية في ذاته تطلب لذاتها أم وسيلة لغاية أخرى هي المال؟

ولا مراء في أن التضحية بالعلم والأدب في سبيل الأهداف المادية هو الانحطاط والإسفاف، ومن كانت غايته الثروة فليطلبها في تجارة السلع المختلفة فهي أكثر للمال إدرارا. ولقد حكى ارسطو في كتاب السياسة أن أحد فلاسفة اليونان الأقدمين عيره القوم بقلة ذات اليد والانصراف عن الدنيا ، فاعتزم في نفسه أمرا، فذهب في الشتاء إلى أصحاب المعاصر واستأجرها منهم باجر زهيد، فقالوا: هذا مجنون ماذا يفعل بالمعاصر في هذا الوقت وليس لها عمل؟ فلما جاء الصيف، وأراد الزراع عصر العنب لاستخراج النبيذ، طلب منهم أجرة مضاعفة، ولم يسعهم إلا الدفع لأنه كان قد احتكر جميع المعاصر. وأثرى من هذا الأمر ثروة كبيرة، فاثبت للقوم أن الفلاسفة لو أرادوا المال لحصلوا عليه، ولكن بغير طريقة الفلسفة!

والسؤال الآن: هل نترك هذه الطائفة أحرارا في أعمالهم يسيئون إلى العلم والأدب، ويفسدون الذوق، ويشيعون الخطأ، ويذيعون الباطل، أم يوكل أمر الكتب إلى هيئة تميز بين الغث والسمين والصحيح والفاسد فلا تجيز إلا الصالح؟

يقول قوم نحن في عصر الديمقراطية وأساسها الحرية وعلى الخصوص حرية الرأي والفكر، فكيف تريد أن تحد من هذه الحرية التي ناضلت البشرية في سبيلها أجيالا طويلة؟ إنكم لو فعلتم ذلك، لرددتم الإنسانية إلى اظلم عصورها واحلك أزمنتها، يوم كان عقاب الأحرار أن تحرق كتبهم ويلقى أصحابها في غياهب السجون.

والقياس هنا مع الفارق، لأن فلاسفة القرون الوسطى كانوا يطلعون على الناس بثمرة أفكار جديدة ينتقدون فيها الآراء الشائعة من قديم الزمان، أما مؤلفو مصر في هذا الزمان، فإنهم لا يفكرون تفكيرا جديدا، ولا ينتقدون قديما، ولا ينتقدون كشوفا حديثة، بل يمسخون كتب غيرهم ويغيرون عليها.

مهما يكن من شيء، فأنا من أنصار الديمقراطية والحرية، ولا احب أن احجز على فكر الناس، ولا على الطريقة التي يذيعون بها أفكارهم، ولكن من واجب الناقدين أن يبصروا

ص: 13

الجمهور بحقيقة ما يظهر من تأليف، وقد كثر عندنا المتعلمون الذين يحسنون تقدير المؤلفين. . . فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

أحمد فؤاد الأهواني

ص: 14

‌لمحات قضائية في قتل عثمان

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

هذه لمحات جديدة في قتل عثمان من ناحيته القضائية، تضع الحق في نصابه، وتبين هل كان في قتله قصاص أولا، وهل سلك المطالبون بدمه الطريق المشروع له أولا، كما تبين كيف سكتوا عن ذلك بعد أن صار أمر المسلمين بيدهم.

فأما عن الأمر الأول فإن الثائرين على عثمان رأوا أن يأخذوه غيلة بعد أن طال حصارهم له، فتسوروا داره من دار مجاورة لها، ونزل عليه جماعة منهم فيهم محمد بن أبي بكر، ولم يكن عنده إلا زوجه نائلة بنت الفرافصة، لأن أهله ومواليه كانوا يشتغلون بالدفاع عنه أمام بابا داره، فدخل عليه محمد بن أبي بكر فاخذ بلحيته، فقال له: يا محمد! والله لو رآك أبوك لساءه مكانك. فتراخت يد محمد حين سمع هذا من عثمان، وخرج عنه ولم يفعل به شيئا، فلما خرج دخل عليه رجلان من الذين تسوروا داره فقتلاه ثم خرجا.

فصعدت زوجه نائلة بعد خروجهما وصرخت: قتل أمير المؤمنين. فدخل كل من كان يدافع عنه فوجدوه قد فاضت نفسه، ولم يمكنهم أن يسألوه عمن قتله.

فانحصر شهود قتله في زوجه نائلة، وقد قام على بن أبي طالب بالتحقيق في ذلك عقب وقوعه، فذهب إلى نائلة وقال لها: من قتله وأنت كنت معه؟ فقالت: دخل إليه رجلان، وقصت خبر محمد بن أبي بكر.

فاحضر علي محمدا وسأله عن ذلك، فلم ينكر محمد ما قالت نائلة، وقال: والله لقد دخلت عليه وأنا أريد قتله، فلما خاطبني بما قال خرجت، ولا اعلم بتخلف الرجلين عني، والله ما كان لي في قتله سبب، ولقد قتل وأنا لا اعلم قتله.

وقد انتهى تحقيق علي في قتل عثمان بذلك، فلم تعرف فيه نائلة ممن دخل علة عثمان إلا محمد بن أبي بكر، ولكنها لم تشهد بأنها رأته يقتله، بل ظاهر شهادتها أن قتله كان بيد ذينك الرجلين اللذين تعرفهما، وحينئذ يكون قاتله مجهولا، وإذا كان قاتله مجهولا فإنه لا يكون في قتله قصاص، بل يكون نصيب قضيته أن تحفظ إلى أن يظهر قاتله، كما يفعل ألان في كل جناية لا يوجد شهود لها، ولا يصح أن يؤخذ محمد بن أبي بكر فيها بشيء، لأنه عزم ولم يفعل، والعزم لا يؤاخذ عليه في الشريعة الإسلامية ولا في غيرها من الشرائع.

ص: 15

وأما عن الأمر الثاني فإنه لما بويع علي بالخلافة طالبه طلحة ابن عبيد الله والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم بدم عثمان، ولكنهم لم يطلبوا ذلك بالطرق السلمية المشروعة في القضايا، بل ذهب طلحة والزبير في عدة من الصحابة إلى علي فقالوا له: يا علي، إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل، واحلوا بأنفسهم.

فقال لهم علي: يا أخوتاه، إني لست اجهل ما تعلمون، ولكن كيف اصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم إعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟

قالوا: لا

فقال لهم: إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق، فاهدؤوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم؟ ثم عودوا.

ولا شك إنها كانت فتنة جامحة، وقد اشترك فيها ألوف من الناس، فلا بد من التريث في أمرها كما رأى علي، ولا سيما أنه لم يعلم من قام منهم بقتل عثمان، حين يتعين فيه القصاص، ويؤخذ دمه بدمه، ثم يحكم على من عداه بقدر تبعته في ذلك الفتنة، وقد كانوا من الكثرة بحيث يجهل أكثرهم، ولا يمكن تمييزهم إلا بعد مضي زمن يكفي لتمييزهم.

ولكن هذا لم يرض طلحة ولا زبير ولا معاوية ولا عائشة، فنادوا بالحرب، وانتقل الأمر بذلك من قضية يجب أن تؤخذ بالسلم كما تؤخذ سائر القضايا إلى حرب مفاسدها أكثر مما يرونه مفسدة، فقابلهم علي حربا بحرب، وجرى الأمر بينهم في ذلك إلى قتل طلحة والزبير وعلي، وآل أمر المسلمين بعدهم إلى معاوية.

وأما عن الأمر الثالث، فإن معاوية لما آل الأمر إليه لم يعد النظر في قضية عثمان، ولا شك أنه وجد نفسه أمام جناية قتل لا يعلم القاتل فيها بيقين، فلا يمكنه أن يأخذ أحداً فيها بقصاص، كما وجد نفسه أمام كلمة قد اجتمعت، واردات أن تنسى الماضي بما له وما عليه، لتأسو الجروح، وتقضى الفتن، فيجتمع الشمل، ويعود المسلمون أخوانا، ويتموا ما بدأ به السلف الصالح من الفتوح، ويعملوا متعاونين على إعلاء كلمة الإسلام.

ص: 16

فلم يجد معاوية مع هذا إلا أن يترك أيضاً أمر النظر فيمن اشترك في تلك الفتنة، حرصا على جمع الكلمة، ونزل في ذلك على مثل ما نزل عليه علي، رضي الله عنهم جميعا.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 17

‌علوم البلاغة في الجامعة

للأستاذ علي العماري

- 5 -

يعيب علينا بعض الكاتبين أننا نستأنس بما كتبه المتقدمون في مقالاتنا هذه التي ننقد بها بعض آراء الجامعة في البلاغة، ويزعمون أن المتقدمين كانوا أصحاب أذواق مريضة، ومن العجب أن حجة الكاتب على ما يكتب هو ما ينقله عن بعض كتابنا المحدثين، أفيحرم علينا أن نستضيء بإمام البلاغة الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ويحل لي أن يتكئ على ما يقوله بعض المحدثين؟ ليفتنا هؤلاء العلماء الأعلام الذين وجودوا في أدب عبد القاهر وبلاغته غذاءهم وريهم، وإذا أنكر منكر على هذا الأمام شيا فلن يكون هذا الشيء ذوقه. يعرف ذلك العالمون المنصفون، ثم أني كنت اعتزمت أن أرد على هذا الذي يجادلني على صفحات (الرسالة)، ولم يجد سبيلا أهدي إلى الحق من أن احتكم إلى عقول قراء (الرسالة) وكثيرون منهم يفهمون هذه المسائل على وجوهها الصحيحة، وهي بين أيديهم.

وعجيب أن نعيب على المتقدمين جهودهم في خدمة علوم البلاغة ونحن لم نفعل شيئا، لقد ظل علماء البلاغة منذ القرن الثاني للهجرة إلى أوائل القرن السابع وهم ينشئون هذه العلوم وينمونها، حتى اكتملت قواعدها على يد أبي يعقوب يوسف السكاكي، فلما جاء من بعدهم من العلماء وقف بهم الاجتهاد، ولكنهم جاهدوا وجهدوا، وخدموا هذه العلوم بما لا نرى موضعا لتفصيله الآن، فماذا صنعنا نحن؟ ملأنا أذهان التلاميذ، وغرف الدراسة بالعيب على المتقدمين والنيل منهم، والطعن في كفاياتهم، ولكن من غير أن نبني قاعدة، أو نهدم بصيرة ونصفة قاعدة، وأني لا أرى خير ما يتمثل به في هذا الموضع المثل العربي:(اسمع جعجعة ولا أرى طحنا).

وقد سمعت أن فضيلة الأستاذ الشيخ أمين الخولي يريد أن يرد على مقالاتنا هذه التي يسميها (حركة رسالة) بكتاب في البلاغة يخرجه للناس؛ وإنا منتظرون بفارغ الصبر هذا الكتاب انتظار المتعطش إلى التجديد في هذه العلوم، وقد نكون أول من يرفع الصوت في امتناحه إذا وجدنا فيه ما يعدون به، ولعله لا يكون صورة لهذه الرسائل الصغيرة التي أخرجها الشيخ ونقدنا بعضها، ثم نعود إلى مناقشته في بعض مسائل القصر إتماماً لما كنا

ص: 18

بدأنا به.

2 -

لا يرتضي تعريف العلماء للقصر الإضافي فيطالعنا هو بتعريف آخر دعاه إليه - فيما نظن - رغبته في أن يربط علوم البلاغة بعلم النفس وهو نوع من التجديد، ووجد انسب ما يلصقه بالقصر الإضافي هذا الذي يسميه علماء النفس (تداعي المعاني) فما يمنع أن يكون القصر الإضافي نظر فيه إلى هذه الفكرة النفيسة؟ والذي حفظناه من مشايخنا وقرأناه في كتب العلماء أن القصر الإضافي يكون حين تتمثل صفتان في ذهن، فد يعتقد اجتماعهما في موصوف وأنت تريد أن تبين له خطأ هذا الاعقتاد فيكون قصر الأفراد، وقد يعتقد ثبوت إحداهما دون الأخرى وأنت تريد أن تعكس عليه اعتقاده فيكون قصر القلب؛ وقد يحاور في أمر الصفتين فإذا اثبت له إحداهما ونفيت الأخرى كان قصر التعيين؛ فمدار القصر الإضافي إذن على صفتين أو أكثر في ذهن المخاطب وأمام بصيرته، وله فيهما اعتقاد، لكن الشيخ يقول:(وأساس القصر الإضافي ما يقرره النفيسون، ويسمونه تداعي المعاني، أي أن المعاني يرتبط بعضها ببعض بطريقة الضدية أو المناقضة أو المنافاة أو التلازم أو التكامل. والقصر الإضافي في الكلام قائم على إفراد معنى من المعاني لا على أنه لا يوجد سواه في الموصوف، ولكن على أساس أن تبعد سواه هذا عن تفكير المخاطب، أي أن هذا النوع حاجز بين الصفة التي تريد إثباتها للمتحدث عنه وبين ما يمكن أن يقفز إلى ذهنه من الصافات عند ذكر هذه الصفة، فمثلا تقول ما نريد إلا رياضي، فعند ذكر كلمة رياضي يحدث تداع في المعاني فتجول في الذهن صفات أخرى نحو مهندس. فلكي. موسيقي. مخترع. أديب. ولكن إذا قصرت وأتيت بالأسلوب على هذا النحو فقد أبعدت كل هذه الوجوه) وهذا كلام واضح وصريح في أن المقصود من القصر هو أبعاد ما عسى أن يجول بذهن المخاطب من الصفات التي تتصل بهذه الصفة المثبتة، وكأنه ليس عند المخاطب صفة ينكرها وأخرى يثبتها، وينبني على هذا - ولا شك - فساد في التقسيم الذي ذكره العلماء للقصر الإضافي. وقبل أن نرد على الشيخ نحب أن نذكر له ولمن يعيب علينا استدلالنا بكلام المتقدمين، أن الشيخ عبد القاهر رحمه الله، تنبه لهذه الفكرة، ولكنه لم يكن يعرف تداعي المعاني أو تناديها فلم يملأ الجو صياحا عجيج، يل مر يذكر المسألة في بساطة وسهولة فقال في كتابه دلائل الأعجاز (واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخر نحو ما زيد

ص: 19

إلا قائم) انك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها ونفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني انك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام نحو أن يكون جالسا أو مضطجعا أو متكئا أو ما شاكل ذلك، ولم نرد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: ما هو إلا قائم أن يكون اسود أو ابيض أو طويلا أو قصيرا أو عالما أو جاهلا، كما أنا إذا قلنا: ما قائم إلا زيد لم نرد أنه ليس في الدنيا قائم واه، وإنما نعني ما قائم حيث نحن وبحضرتنا وما أشبه ذلك) ونلاحظ أن الشيخ عبد القاهر كان دقيقا كل الدقة فلم يقل إن هذا في القصر الإضافي، وإنما ساقه على أنه فكرة عامة في القصر، وأمثلته صالحة لأن تكون قصرا حقيقيا تحقيقيا أو إدعائيا، وأن تكون للقصر الإضافي ولكن بشرط أن يعين المخاطب في ذهنه المثبت والمنفي. ثم نرد على الأستاذ فنقول له: ارجع إلى شواهد القصر الإضافي فسترشدك إلى أن النزاع يكون في شيئين ماثلين في ذهن المخاطب، ولنسق نحن جملة من الشواهد الفصيحة يقول الله تعالى: إنما أنت مذكر ليست عليهم بمسيطر. وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير. ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم. أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون. ويقول صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب. إنما أنا قاسم والله يعطي. وهكذا إذا تتبعنا الأمثلة التي صرح فيها بالمثبت والمنفي وجدنا أن كليهما معلوم للمخاطب وله فيه نظرة، فإذا كان المنفي عاما لم يكن هذا من القصر الإضافي، ولذلك يقول بعض العلماء إن قول الغطمش الضبي:

إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني

أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب

من القصر الحقيقي، ولست - والله - ادري من أين جاء للشيخ أن الغرض من القصر الإضافي أن نحول بين ذهن السامع وبين صفات أخر تتوارد عليه لها بهذه الصفة المثبتة صلة ورباط؟!

3 -

وقد انتهى العلماء منذ زمن بعيد من تقسيم القصر الإضافي، ووقفوا عند قصر الأفراد والقلب والتعيين باعتبار حال المخاطب في اعتقاد الشركة أو العكس أو التردد، ولكن الأستاذ يتنبه إلى أن القسمة العقلية كانت تقتضي قسما رابعا وذلك في حال ما إذا كان

ص: 20

المخاطب خالي الذهن، وينعى على العلماء إهمالهم هذا القسم الرابع يقول (وعلى ذلك يتضح لنا أن إغفال الحالة الرابعة وهي حالة خلو الذهن في باب القصر غير مبني على نظر صحيح). (فمثلا يجوز لك أن تقول لخالي الذهن تماما: لا اله إلا الله اعتمادا على ما يقدرونه في علم النفس من أن الخطأ الأول يصعب إصلاحه، والصورة الأولى يعسر محوها).

(أما نحن فنقول لهم إن أسلوبكم يقتضي أن ترددوا مواقف المخاطب بين هذه الأحوال الأربعة فلم اغتنم الحالة الرابعة؟) والذي نؤكده أن تقسم العلماء مبني على نظر صحيح، وأنه لا حالة رابعة هناك حتى نتهمهم بأنهم أغفلوها، وأدنى نظر في طبيعة القصر الإضافي يرشدنا إلى ذلك فلا يدفعه أن يكون المخاطب عارفا بالمثبت والمنفي فأنت تقول له: شوقي شاعر لا كاتب إذا كان يعلم هاتين الصفتين في شوقي فيثبتهما معا أو ينفي أحدهما أو يتردد فيهما، أما إذا قلت هذا القول وهو يجهل كل الجهل شاعرية شوقي وكتابته كان كلامك خلفا من القول، وبعيدا عن اعتبار البلغاء، فإذا أردت أن تلاحظ هذه العلة النفسية، وأن تؤكد له من بادئ الأمر رجعنا إلى جهة أخرى وهي الكلام على مقتضى الظاهر، ويقال حينئذ إن المتكلم نزل المخاطب الخالي الذهن منزلة المنكر أو المتردد أو العاكس ويرجع الأمر إلى قسم من هذه الأقسام الثلاثة، والعلماء انما يدركون المقاسم الأصلية، أما الأمور المنزلة فيرجعونها إلى مشابهاتها، ومعروف ذلك عند من درس فهم يجعلون اضرب الخبر ثلاثة، ثم ينزلون المنكر منزلة غير المنكر، وينزلون غير المنكر منزلة المنكر، وهكذا. ولا يحق لنا أن نقول إن هذه اضرب أخرى للخير، على أن المثال الذي ذكره الأستاذ (لا اله إلا الله) لخالي الذهن لا يصح مطلقا أن نجعله من القصر الإضافي، وإنما القصر فيه حقيقي تحقيقي، وهذه الأقسام الثلاثة كما هو معروف لا تتأتى في القصر الحقيقي.

4 -

وهذا بحث جديد يريد أن يطالعنا به أستاذ الجامعة. العلماء قصروا في أغراض القصر، وحصروها في النفي والإثبات وهو أمر يجب أن نؤاخذهم به (والذي نأخذه على صاحب الإيضاح ومن لف لفه من البلاغيين أن شعورهم كان يجب أن يتسع حتى يمل ما وراء القصر بأنما من أنواع القصر، فكان يجب أن يوسعوا حسهم أكثر من ذلك فليس

ص: 21

القصر للإثبات والنفي بل هو للتضييق والتحديد). (فلعله ثبت مما قلناه إن للقصر مرامي أخرى وراء المعنى النحوي أهملها البلاغيون) وهذه الأغراض التي ذكرها ومثل لها هي غرضان: التوهين ومثل له بقوله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) والتأنيب ومثل بقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) قال:

إذا نظرنا إلى قوله تعالى: ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئا. وجدنا أن التعبير بكلمة رسول عنصر أساسي في المعنى قصد به التوهين من شأن الرسول في هذا المقام. محمد دِهْ يطلع إيه؟ مرسال زي بقية المراسيل ييجي ويروح. القصر هنا واضح في أن المقصود به التوهين من اثر الرسول في الدين ولذلك جاءت تسميته هنا برسول ولو قال نذير. هاد. سراج. لقطع الطريق على هذا الغرض) وقال: (ما قلت لهم. . الآية. هذا التأنيب المؤلم مستفاد من وراء الألفاظ، وهو هنا المرمى البلاغي للقصر ويدل عليه) وقبل أن نرد على هذا الكلام المتداعي نذكر ما قاله العلماء في أغراض القصر حتى ننفي عنهم تهمة انهم ضيقوا حسهم أو قصروا. قالوا من دواعي القصر (1) داعي القصر الحقيقي التحقيقي بيان الواقع (2) داعي القصر الادعائي المبالغة وعدم الاكتراث بما عدا المقصور عليه (3) الرد على المخاطب في قصر القلب وقصر الأفراد (4) تعيين المبهم عند المخاطب في قصر التعيين (5) قد يقصد من القصر مجاراة الخصم (6) التنبيه على أمر هو مقتضى الكلام والغرض منه وجعل القصر وسيلة إليه وذلك كثير في انما (7) تنزيل غير المنكر منزلة المنكر لاعتبار مناسب فيخاطب بأسلوب القصر.

أما ردنا على ما ذكره من أغراض فواضح أنه ليس الاقصد في الآيات الأولى الحط من مقام الرسالة في الدين، وهل يريد الله سبحانه وتعالى أن يقول إن محمدا ليس شيئا؟! لا. يا شيخ! المسألة أن الله تعالى يقول لهم: لا معنى لتعلق الدين بمحمد فإن الرسل قبله ماتوا وسيموت هو مثلهم ولا ينتهي الدين الذي يدعون إليه بانتهائهم لان مهمتهم الرسالة والتبليغ، والرسالة ولو أنها أمر له قيمته وخطره لكن لا يجب أن يتعلق إيمان الناس بمدة حياة صاحبها فهو انما يدعو إلى الله. ولعل مما يدل على ذلك أن العرب لم يفهموا أن القصد التوهين من شأن الرسالة، وهذا أبو بكر يستشهد بها يوم وفاة الرسول، فهل كان يريد أني

ص: 22

يقول لهم: إن محمدا ليس شيئا في الدين؟ ما نظن ذلك ولا نرضى لمسلم أن يظنه. وأما التأنيب في الآية الثانية فليس مستفادا من القصر وأنما مستفاد من السياق. استفهام تعجبي، واتخاذ آلهة من دون الله، وهو صادر عن النبي، وهو المدعي عليه أنه دعاهم إلى عبادته وأمه (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله؟) هذا كثير، ومدعاة إلى تأنيبهم، أما القصر فلا يفيد التأنيب، وهب عيسى عليه السلام لم يقل إلا جملة القصر أكان يستفاد منها التأنيب؟ وبذلك تسقط دعواه أن التوهين والتأنيب غرضان من أغراض القصر، ووقفنا عند الأغراض التي ذكرها المتقدمون، ولا تزال في انتظار الجديد.

علي العماري

المدرس بمعهد القاهرة الثانوي

ص: 23

‌الأدب في سير أعلامه:

ملتن. . .

للأستاذ محمود الخفيف

- 34 -

الفردوس المفقود: موضوع القصيدة الكبرى: -

في سنة 1658 اخذ ملتن كما أسلفنا يتوفر على نظم قصيدته الكبرى، ومن ثم تعد هذه السنة بدء هذا العمل العظيم وإن كانت أجزاء قليلة من القصيدة قد نظمت قبل ذلك كما يقول أبن أخته إدوارد فيلبس، ولم تنته سنة 1863 حتى فرغ الشاعر الضرير كما يقول إدوارد كذلك من هذه القصيدة العظيمة التي تبلغ زهاء خمسة آلاف وخمسمائة سطر، والتي تستغرق نيفا وثلاثمائة صفحة متوسطة الحجم، والتي تعد من اعظم الآثار الأدبية في أدب الدنيا قديمه وحديثه، والتي يتبوأ بها ملتن مكانة بين أفذاذ شعراء الملاحم الثلاثة: هوميروس ودانتي وفرجيل إن لم يبرعهم جميعا في أكثر من ناحية من القول كما يذكر كثير من النقدة الملحوظي المكانة في نقد أرادب والشعر.

ويمكن تلخيص موضوع القصيدة في كلمات قليلة؛ فهي قصة إبليس بعد أن فسق عن أمر ربه، فقد تمرد هذا الشيطان الأكبر ومن اتبعه من الغاوين واجترأ على محاربة خالقه فأخذهم الله أخذاً قوياً فإذا بهم جميعا في جهنم جثيا؛ ثم خلقت جنات عدن وخلق آدم وحواء ودلهما الله على الشجرة المحرمة ونهاهما ربهما أن يقربا هذه الشجرة، فوسوس لهما الشيطان فأكلا منها وعصيا ربهما فأخرجهما من الجنة.

وحق للمرء أن يعجب كيف يخلق الشاعر من هذه القصة على بساطتها قصيدة بلغت هذا الذي بلغته من الطول، وما فيها منظر أو فكرة مما يصح حذفه، ثم ما فيها موضع تطرق إليه شيء من الضعف أو شيء مما يبعث السأم في نفس القارئ، بل إنها جميعا تبلغ من السمو والقوة مدى يتخاذل دونه جهد المبدعين ويتقاصر عنه افتتان المفتنين فما يقع المرء فيها إلا على ما يعجب ويطرب وما يشيع في النفس نشوة روحية قوية تشعرها بسر العبقرية وسلطانها وتذرها مسحورة مأخوذة حتى ينقضي هذا الحلم الجميل.

ص: 24

ولكن دواعي العجب لا تلبث أن تزول إذا ذكر المرء مبلغ ما أوتى الشاعر من خصوبة الخيال وقوته، وما رزق من دقة الوصف وروعته، وما وهب من قدرة على الابتكار والتفنن في خلق الصور الذهنية الأخاذة والتصرف في مذاهب البيان، هذا إلى ما يشيعه في قصته من فلسفة وعلم، وما يدخله بين الفنية والفنية من أساطير الإغريق وآلهتهم وسائر مخلوقاتهم مما يملأ قصيدته بألوان من السحر وأفانين من كل ما يفيد ويمتع.

والقصيدة ليست بنت هاتيك السنوات الخمس التي نظمها فيها، وإنما هي متجه خاليه وأرب نفسه منذ أول عهده بالشباب، فقد كان أمله الذي ملأ خياله منذ حداثته أن ينظم قصيدة تجعل له ولأمته مكانا عليا في أدب هذه الدنيا؛ والى ذلك أشار في قصيدته التي ناجى فيها لغة قومه وهو في سن التاسعة عشرة كما سلف أن ذكرنا ذلك في موضعه، وإن لم يك عين موضوع تلك القصيدة بعد.

ولم يتعجل ملتن النظم، بل اخذ يتهيأ لما يطمح إليه فينهل من المعرفة ما يسعه أن ينهل، وفي نفسه أمل يلازمه ولا يبرح يذكره أنه سوف ينظم في يوم ما ملحمة كبرى تسلكه في الخالدين النابهين من شعراء الدنيا، أما ماذا تدور عليه الملحمة فذلك أمر لم يتبينه وحسبه أن يطلب لنفسه ما وسعه من زاد في الفلسفة والعلم.

وكان يفكر كما ذكرنا قبل في الملك آرثر وعصره وبطولته وسيرته عله يستخرج من ذلك ملحمة قومية كان يريد أن يسميها الآثريادا، وتقع إشارتان منه إلى ذلك إحداهما في قصيدة أخرى نظمها عقب عودته إلى وطنه؛ ولكنه ما لبث أن طرح موضوع الملك آرثر جانبا ولم يعد إليه بعد ذلك.

وظل ملتن متعلقا بأمله في نظم قصيدة كبرى، وكان هذا التعلق المتصل بالأمل المنشود هو الفكرة المتسلطة في حياته كلها من جميع أقطارها ولذلك لم يأل جهدا في الإفادة مما حوله فكان انقطاعه للدراسة في هورتون، وكانت رحلته إلى إيطاليا وكان منصبه في الدولة وكانت كتاباته الدينية والسياسية، كل أولئك كان جوانب لدراسته وموارد لثقافته قصد إلى ذلك أم لم يقصد إليه.

وانقطعت صلته بالشعر زهاء عشرين عاما إلا ما كان من مقطوعاته، ولكن خيال القصيدة الكبرى لم يبارحه قط، وليس أدل من ذلك على شدة إيمانه بأنه خلق لرسالة في الشعر

ص: 25

وعلى عظم إخلاصه لفنه، ولقد رأينا ما أحاط به من المحن والكوارث فلم يصرفه ذلك عما خصص له حياته، وإن واحدة منها لكفيلة بأن تقعد المرء عما يخف كثيرا عن ذلك الذي اضطلع به من عبء.

وربما كان خيرا له وللأدب أنه لم ينظم ملحمته الكبرى إلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره فلعلنا كنا لو نظمها في صدر شبابه لا نظفر منه بما ظفرنا به من آثار خبرته بالحياة والناس وطول باعه في البيان وضلاعته في المعرفة وانصقال فنه وما اكتسب شعره من فحولة وقوة. ولقد حال بينه وبين تحقيق أمله في شبابه ورغبته كما رأينا في الاستزادة من الثقافة استزادة تكافئ ما يطمع أن ينهض به من عمل ضخم في دنيا الفن، ثم حيرته في اختيار الموضوع الذي تدور حوله قصيدته، وجاءت بعد ذلك حربه على القساوسة ثم اشتغاله بالسياسة فأخرته على رغمه تلك السنوات الطويلة.

ولقد هم قبل تلك الشواغل سنة 1641 بالنهوض بما منته نفسه به، إذ أنه يتبين من قائمة كتبها الشاعر بين سنتي 1640، 1642 أنه فكر فيما يقرب من مائة موضوع، وكان ثلثا هاتيك الموضوعات مقتبسا من الإنجيل، وكان همه متجها إلى واحد من بينها سماه تارة (الفردوس المفقود) وتارة (آدم يخرج من الجنة) فقد وجد في هذه القائمة بيان أسماء شخصيات لدرامة يرسمها وبيان لما تكون عليه تلك الدراسة وقد وضع لذلك عدة صور لعله كان يفاضل بينها، ولا زالت تلك القائمة محفوظة كأثر من آثار الشاعر العظيم في مكتبة كلية ترينتي بجامعة كمبردج.

ويتبين من ذلك أم ملتن كان يومئذ يريد أن يلبس موضوعه لباس الدرامة لا الملحمة، ويؤيد هذا الرأي ما ذكره في هذا الصدد إدوارد فيلبس، وذلك أن الأسطر التي يخاطب بها الشيطان الشمس في أوائل الكتاب الرابع من الملحمة قد نظمت قبل بدء الشاعر في نظم الملحمة بنحو خمسة عشر أو ستة عشر عاما وأنها نظمت لتكون في مستهل عرض لمأساة.

ثم انصرف ملتن كما رأينا عن الشعر وانشغل عن أمنيته الكبرى حتى كانت سنة 1658 فتوفر على موضوعه، فلما أتمه كان ملحمة تضاف إلى الملاحم الكبرى في دب العالم وسميت الفردوس المفقود.

ونظمت الملحمة في ستة أقسام أو ستة كتب، ولقد أوجزنا موضوعها في أول هذا الفصل

ص: 26

فلنبسط هنا بعض البسط، ولا نجد خيرا من أن نقص خلاصة هاتيك الكتب الستة التي تتألف منها القصة.

افتتح الشاعر الكتاب الأول بمناشدة إله الشعر أو الاهاته العون فيما هو بسبيله على عادة شعراء الملاحم عند بدء ملاحمهم، ثم يعرض الشاعر الموضوع كله فيذكر أول عصيان للإنسان وما يترتب عليه من إخراجه من الجنة حيث كان موطنه، ويشير إلى غواية الشيطان، ويذكر عصيانه وتمرده على خالقه واستطاعة ضم أكثر من قبيل من الملائكة إليه، حتى طرده الله من الجنة ومن اتبعه وألقى بهم في قرار من جهنم سحيق؛ ثم يصف الشاعر كيف كان هذا الهبوط من الجنة حتى يرينا الشيطان ومن معه في قرار الجحيم، في ظلمات بعضها فوق بعض؛ ويظل هؤلاء على وجوههم وعلى جنوبهم في هذا العماء زمنا يتقلبون في بحيرة هائلة تتلظى بالحمم واللهب وفي نفوسهم رهبة ودهشة مما أخذهم من صاعقة، ثم يفيق الشطان بعد لحظة من هذه الغاشية فينادي اقرب اتباعه من منزلة وأولهم بعده مكانة وهو يصلى النار الحامية إلى جواره ويتحاورون فيما أصابهم من هذا الهبوط؛ ويتكلم الشيطان الأكبر في الأباء والعناد والإصرار قائلا إنه لخير أن يحكم في النار من أن يخدم ويطيع في الجنة؛ ثم يدعو الشيطان اتباعه ولم يزالوا مكبين في النار على وجوههم فينهضون فيسوى صفوفهم ويعدهم للقتال ويختار من بينهم قادتهم وكبراءهم ثم يناديهم فيعدهم ويمنيهم باسترجاع مكانهم في الجنة وينبئهم بدنيا جديدة تخلق ونوع جديد من المخلوقات يدب فيها وكل أولئك يجيء وفق نبوءة أو نبأ ترامى إليه وهو في الجنة ولكي يعلم مبلغ ما تحقق من هذه النبوءة وماذا يكون موقفهم من هذه الدنيا يشير إلى مجلس ينتظمهم جميعا حيث ينظرون ماذا يفعلون! ثم يشير الشاعر إلى مأوى الشياطين أو قصر الشيطان الأكبر وقد استوى قائما منبعثا من أعماق العماء وهناك يجلس كبار شياطين الجحيم ليوافيهم اتباعهم ليتشاوروا فيما بينهم كما أراد كبير الشياطين أجمعين؛ وتتزاحم الشياطين على قصر رئيسهم وقد مدوا في اللهب اجتحتهم وملاؤا الجحيم حفيفا بهذه الأجنحة الممتدة، ثم يتساقطون جماعات جماعات حتى يضيق بهم القصر على سعته.

وفي الكتاب الثاني تبدأ المشاورة فيجلس الشيطان الأكبر على عرش هائل ويتحدث إلى اتباعه متسائلا هل هو خير لهم أن يشنوا معركة أخرى لاسترجاع الجنة التي اخرجوا منها

ص: 27

ويدعو كل من يحسن الرأي أن يتكلم بما يرى.

ويتتابع عدد الشياطين كل يدلي برأيه ويبسط حجته، فكانوا فريقين، فريق رأيه الحرب وآخر يخشى عاقبتها ولا ينصح بها، والشيطان الأكبر يوازن بين حجج كل فريق ولكنه لا يقطع أمراً، حتى ينبعث صوت بمقترح مؤداه أن يدعو الحرب إلى أمر أخر هو النظر في مبلغ صحة تلك النبوءة أو الرواية التي علمت في الجنة على خلق دنيا جديدة، ونوع أخر من المخلوقات يساوي الملائكة منزلة أو هو لا ينزل كثيرا عن مستواهم وهذا هو وقت خلقهم، وتتجه أفئدة الجميع إلى هذا المقترح وسرعان ما يجتمعون عليه، ولكنهم يحارون منذا يذهب في تلك الرحلة العظيمة العسيرة فيستطلع لهم ما يريدون؛ ولا تطول حيرتهم فهذا كبيرهم يعلن أنه يذهب وحده فيأتيهم بنبأ يقين، ويمجده الشياطين شاكرين له هاتفين به؛ وينتفض عن شياطينه المجلس فيذهب كل إلى حيث يقضي الوقت ريثما يعود كبيرهم من رحلته

ويطير الشيطان الأكبر فيقطع في رحلته أرجاء الجحيم حتى يأتي أبوابها فاذ1 هي مغلقة وعلى كل باب ثلاث طبقات من الحديد وثلاث من النحاس وثلاث من الحجر الصلد، وتحرس هذه الأبواب أنماط من الحرس هي في أشكالها أليق ما تكون بحراسة أبواب الجحيم، لا هي من الجن ولا من الوحوش ولا من الأفاعي وإنما هي مزيج من هذا كله ركب بعضه في بعض، وهي أشباح للخوف والوباء والموت، ويزجر الخوف الشيطان ويأمره أن يعود إلى مكانه في النار، ولكنه لن يزال يطلب أن يفتح له باب حتى يفتح له الموت بابا فيلج منه إلى خارج الجحيم في عسر شديد، ويرى مدى ما بين الجنة وجهنم من أمد، وما يزال الشيطان يسبح بأجنحته في العماء في عناء وعسر حتى يصبح بمرأى من الدنيا الجديدة فتقع عليها عيناه.

(يتبع)

الخفيف

ص: 28

‌الأمير عبد القادر وتحرير الجزائر لمناسبة مضي

‌65 سنة على وفاته

(مهداة إلى الأمير سعيد الجزائري)

للأستاذ محمد عبد الوهاب فايد

المدره الأفيق كبير زعماء الجزائر، وموحد اتجاهها السياسي، ومؤلف شتاتها، الأمير العظيم، العالم الشاعر الباسل عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني.

ولد بوهران سنة 1223هـ في مهد العلم والتقوى، وتلقى علوم الشريعة والأدب والتاريخ والحكمة العقلية وغيرها، حتى حذقها، وتوفر على المثاقفة بالسلاح وركوب الخيل، فجمع بين السيف والقلم، واشتهر بالذكاء والفصاحة والطلاقة وسمو الفكر وقوة البدن وشدة البأس والإقدام وصلابة الرأي فيما يزمع والإخلاص وقوة الإيمان.

فعلقت به القلوب واتجهت إليه الأنظار، كل ذلك مع ما كان لأبيه وأجداده من المكانة الرفيعة في البلاد.

رحل إلى المشرق حوالي سنة 1241 مع والده وجماعة من أهله وحاشيته بقصد الحج، فمروا بمصر فأنزلهم محمد علي باشا منزلا كريما، ثم حجوا وزاروا المدينة المنورة والشام وبغداد، فأزداد عبد القادر بهذه الرحلة التي استغرقت أكثر من سنتين رسوخا في العالم وخبرة بالسياسة.

وفي أواخر عام 1830م احتلت فرنسة عاصمة الجزائر، وأخذت تفكر في الاستيلاء على سائر القطر الجزائري، فبدأت الحرب بين أهل الجزائر والفرنسيين، واقتحم أهل وهران الحرب بقيادة السيد محي الدين، فبدأ في هذا القتال من بسالة عبد القادر ومواهبه الحربية وأصالة رأيه وثورة نفسه الإسلامية الحرة وإخلاصه لقضية أمته وبلاده وقوة أيمانه بصدق جهاده ما عقد به أماني الناس.

ولما أراد أهالي تلك البلاد مبايعة السيد محيي الدين أميرا عليهم اعتذر بعلو سنه، فبايعوا ولده عبد القادر عام 1832م فاتخذ مدينة العسكر عاصمة، ولم شعث القبائل، وجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتغير، ودفعها بروح دينية واحدة لا تختلف، وجعل عرق الجهاد

ص: 29

يفور كما يفور العرق المجروح بالدم، وبعث صولة الحياة في الشعب كله، ورتب جنده وكان يتقدم جيشه ببسالة عجيبة، وكأن بينه وبين أرواح جنده نسبا شابكا، فله معنى أبوة الأب في أبنائه لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر، فكانت فيه التكملة الإنسانية لجنده، وكأنه خلق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع، وأن القوى الشديدة تعمل كالعدوى فيمن اتصل بها أو صاحبها، فالأمير قد عدى جنده بقوة شجاعته العجيبة.

ومن نظمه:

تسألني أم البنين وإنها

لأعلم من تحت السماء بأحوالي

إلا فاسألي جنس الفرنسيس تعلمي

بأن مناياهم بسيفي وعسّالي

ومن عادة السادات بالجيش تحتمي

وبي يحتمي جيشي وتمنع أبطالي

واستمر في الحب حتى دانت له كل عمالة وهران تقريبا بعد محاصرته للجنرال بويه وجيشه. ثم تولى قيادة الجيش الفرنسي الجنرال ديميشيل، فكانت بينه وبين الأمير معارك انتهت بعقد المعاهدة المشهورة (بمعاهدة ديميشيل عام 1834) التي اعترفت بها فرنسة للأمير بجميع العمالة الوهرانية عدا مدينة وهران وآرزاو ومستغانم، وكان له الحق بموجب هذه المعاهدة أن يعين قناصل في وهران والجزائر ومستغانم وغيرها، وأن يستورد الأسلحة من أي جهة شاء؛ فعظم شأن الأمير وامتد سلطانه وصار الأمير الشرعي لجميع أهالي الجهات الغربية من المغرب الأوسط. ثم مد رواق ملكه على البلاد التي لم تكن داخلة في حدوده مثل ميدية ومليانة، وأقام فيها معامل للأسلحة، مع احتجاج حاكم الجزائر العام.

وفي غضون ذلك ثار على الأمير قبيلتا الدوائر والزمالة وانضمتا إلى فرنسة، فطلب الأمير تسليم رؤسائهم إليه فأبى الجنرال تريزيل، فبرز عبد القادر إلى القتال فانتصر على الفرنسيين في (يوم المقطع) في 26 يولية 1835 فأرسلت فرنسة جيشا كثيفا بقيادة المارشال كلوزل فاستولى على عاصمته (المعسكر) وناوشه من ورائه بقية من الأتراك كانوا في قلعة تلمسان، وبعثت فرنسة الجنرال بوجو لإغاثة الجنرال دارلنج الذي حصره الأمير، فانهزم عبد القادر ولكنه بقي ثابت العزم، واستطاع بدهائه السياسي عقد صلح مع الفرنسيين على شروط ضمنت له أكثر مما ضمنته معاهدة ديميشيل، وذلك في (معاهدة التفنة) في 30 مارس 1837 التي اعترفت فرنسة له فيها بجميع عمالة وهران وقسم كبير

ص: 30

من عمالة الجزائر.

وشرع بعد ذلك يقوي سلطته على البلاد التي أدخلت حديثا تحت حكمه، واخضع عرب الازارقة، وانشأ معامل للأسلحة والعدد الحربية وملابس الجند في تلمسان ولاغوات وميجانة وزيبان، وبنى حصونا لخزائن بيت المال، وأقام على كل حصن بلدة، منها تاقدت وتازة وسعيدة وبوغار وعريب وسبدو وغيرها.

ثم رتب جيشا منظما على نمط جيوش الدول، وقسمهم إلى فرسان مشاة سماهم العسكر المحمدي، ومدفعية وسماهم الرماة، واختار لتدريبه ضباطا من الجيش التونسي ومن الجند التركي الذي بطرابلس ومن الفارين من الجيش الفرنسي، ووضع لهذا الجيش قانونا لمأكله وملبسه ورواتبه ومدة التعليم وشروط الترقي فيه ومنح الأوسمة، ونظام المرابطة والحرب، وضرب نقودا وسماها المحمدية، وعنى بشؤون الزراعة والتجارة والتعليم، وأقام دهاليز لادخار الحبوب وانابير للأقوات ورمم القلاع، ولم يهمل شيئا مما يجب لتأسيس الحكومات الشرعية. ولم تكن همته زمن السلم اضعف منها إبان الحرب.

ولما كانت معاهدات الدول الاستعمارية مع الأقطار التي تود الاستيلاء عليها هي في الغالب منازل استجمام بين مراحل الحرب فقد تعللت فرنسة في تفسير بعض فقرات (معاهد التفنة) وأرادت التخلص منها بعد أن أعدت العدد وعززت الجيش، مع أن الأمير كان يعمل بها، فاستأنف القتال بينهما فزحف الماريشال فالي والدوق دومال، فنادى الأمير بالجهاد في 20 نوفمبر 1839 فاستمرت الحرب من هذا التاريخ إلى عام 1843 بلا انقطاع وقام فيها الأمير مقامه المحمود الذي طار ذكره في الآفاق، واثبت فيه عبد القادر للدنيا كلها أن الجزائر الجبارة متى شاءت بنت الرجال من أمثاله في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة.

وعدم تكافؤ القوتين المتقابلتين سبب سقوط أكثر حصون الأمير واحتلال العدو أكثر معاقله ومدنه مثل تاغت والمعسكر وتازة ووادي الشليف، فتحول إلى الغرب، فزحف العدو إلى تلمسان ونواحي ندرومة واحتلها، فقصد الأمير إلى الجنوب فباغته الدوق دومال وغنم كثيرا من عتاده، ففت هذا الحادث في عضده وخذله أكثر أعوانه ففر إلى المغرب، وسعى لحمل سلطان المغرب الأقصى على شد أزره فأمده بجيش فكانت بينه وبين الجيش الفرنسي (واقعة إيسلي) في 12 أغسطس 1844.

ص: 31

ولما كان المغاربة يعوزهم من أدوات القتال ما يملكه الفرنسيون انتصر الجنرال بوجو على الجيش المغربي، وكانت بوارج فرنسة ضربت طنجة ومغادور، فاضطر سلطان المغرب عبد الرحمن بن هشام إلى عقد الصلح بالشروط التي تريدها فرنسة وأولها منع الأمير عبد القادر من تجاوز حدود الجزائر، فلبث زهاء سنتين متربصا غرة من العدو ينتهزها، فلما بدت له في ثورة عام 1846 انقض على بلاد الجزائر ثانية وأمعن في الغارة حتى بلغ بلاد البربر، واستأنف الأمر كما بدأ، إلا أن قوته كانت قد تناقصت، وقدم الفرنسيون قد رسخت في الجزائر فلم تستمر غارته، وأحاطت به الجيوش من كل ناحية، فرجع إلى الحدود المراكشية، فطلبن فرنسة من سلطان المغرب تسليمه وما زالت تلح في ذلك حتى ناصرهم وساق عليه قوة عظيمة دهمته فإذا هو بين نارين، فاشتد به الغضب، فاشترط شروطا للاستسلام رضى بها الفرنسيون، وسلم نفسه على يد الجنرال لاموريسيال في ديسمبر 1847 واتفقوا على أن يسافر بأسرته من الجزائر إلى الإسكندرية أو عكا، ولكن فرنسة أخذته إلى طولون ثم إلى إنبواز وأنزلته في قصرها معتقلا إلى عام 1852 إذ بشره لويس نابليون بنفسه بإخلاء سبيله في يوم اهتزت له باريس احتفالا بمقدم الأمير.

اجل لم ينتصر البطل بعد جهاد 15 سنة جهادا عزيز المثال في تاريخ الأبطال، ولكن الأمم احتفت به لأنه يمثل كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار.

ثم سافر الأمير إلى الأستانة وزار السلطان عبد المجيد، ثم أقام ببرصا، وفي سنة 1855 هاجر إلى دمشق، ومر ببيروت فقام واليها وامق باشا بالحفاوة به. ثم بجبل لبنان فاحتفل به مشايخ الجبل وأمراؤه. فلما اشرف على دمشق خفت المدينة إلى استقبال مدره الإسلام، وتقدم الجمع محمود نديم باشا رئيس العسكرية، والعلماء والأعيان، ثم دخلوا المدينة تتقدمهم الجنود بموسيقاها، ونزل ضيفا بدار عزت باشا، إلى أن اختاروا له دار القباقيبي التي كانت مقر الحكومة فحط رحله فيها.

وقضى بقية حياته بدمشق في مثافنة العلماء، والتحقيق العلمي ولاسيما التصوف. ومن أمتع آثاره العلمية المطبوعة (كتاب المواقف) الذي يدل على رسوخه في التصوف علما وعملا، و (ذكرى العاقل) في الحكمة والشريعة و (ديوان شعره).

وقد صرح مؤرخو الفرنج أن مملكته العلمية والدينية كانتا من أكبر أعوانه على تأسيس

ص: 32

الكومة التي أسسها، وإنه كان ينال باللسان ما قد يعجز عنه بالسنان.

وقال الماريشال سوليت الفرنسي في سنة 1840 (لا يوجد الآن أحد في العالم يستحق أن يلقب بالأكبر إلا ثلاثة رجال كلهم مسلمون وهم: الأمير عبد القادر، ومحمد علي باشا، والشيخ شامل).

ولما وقعت دمشق حادثة سنة 1860 عنى الأمير عبد القادر بحماية المسيحيين وإنقاذهم ورد العوادي عنهم، فأخلى لهم دوره والدور المجاورة لها حتى هدأت الفتنة، فأجمعت صحف العالم على حمده وشكره، واستحق بهذا الصنيع ثناء الجميع، فأرسل إليه الخليفة السلطان عبد المجيد وفرنسة وأمريكا وأكثر الدول الأوربية أوسمة رفيعة مع رسائل الشكر والحمد.

وفي عام 1863 حج ثانية ودعاه الخديوي إسماعيل باشا فيمن دعا من أعيان العالم وملوكه وأمرائه لحضور الاحتفال بفتح قناة السويس.

وما زال مثالا للبر والإحسان والتقوى والأخلاق الكريمة يتهجد الليل ويمارس في رمضان رياضة الخلوة على طريقة الصوفية، إلى أن قبض رضى الله عنه في سنة 1300هـ ودفن إلى جانب ضريح الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي بصالحية دمشق. وذاع نعيه في الآفاق وأسف عليه الملوك والأمراء ومن عرفه من الخاصة والعامة، ورثاه الكتاب والشعراء، وابنه العلماء والأدباء.

هذا موجز من سيرة الأمير الكبير، وتاريخ حياته وأخبار نضاله مع الفرنسيين مبسوطة في كثير من كتب المسلمين والفرنج. وللعالم الجليل السد أحمد أخي الأمير تاريخ مفصل لحياة أخيه لم يطبع بعد، فيه حقائق لا توجد في (تحفة الزائر) واذكر بهذه المناسبة أن الشيخ شهاب الدين محمودا قال: عدت قاضي القضاة ابن خلكان فأنشدني لبعض أهل الأدب شعرا في نقيب الأشراف بالمدائن خلب عقلي، وهو هذا:

قد قلت للرجل المولى غسله

هلا أطاع وكنت نصحائه

جنبه ماءك ثم غسله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أواني للحنوط ونحها

عنه وحنطه بطيب سنائه

ومر الملائكة الكرام بنقله

شرفاً ألست تراهم بازائه

ص: 33

لا توهِ أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه

قال الشيخ شهاب الدين فوقع في نفسي أنه أحق الناس بهذا الرثاء وأنه نعي نفسه فمات في ذلك الأسبوع، وقال الصوفي الذائق السيد محيي الدين بن أخي الأمير عبد القادر: وأحق الناس بهذا الرثاء أستاذي العارف الرباني أمير العلماء وعالم الأمراء سيدي الأمير عبد القادر الحسني الجزائري.

محمد عبد الوهاب فايد

ص: 34

‌أفلاطون الشاعر ونظريته في التقمص

للأستاذ جبريل خزام

نظم أفلاطون الشعر قبل أن يعرف الفلسفة وقبل أن يتصل بسقراط، وله مسرحيات شعرية ولكنها ضاعت كلها ولم يصل إلينا شيء منها. . . وليست تهمنا هنا هذه المسرحيات في شيء، ولكن الذي يجدر بنا أن نعرفه أنه كان شاعرا قبل أن يكون فيلسوفا. . . ثم تعلم الفلسفة على يدي أقرا طيلوس العالم الطبيعي القديم الذي كان يعتقد بالتغير المستمر للأشياء، ثم عرف سقراط واعجب به، ولم يلبث أن صار من تلاميذه المقربين.

وهجر أفلاطون الشعر لسببين: أولهما تحوله تحولا كليا إلى الفلسفة التي بهره بها أستاذه الكبير سقراط. وثانيهما أن سقراط كان لا يرضى عن الشعراء لاعتقاده أنهم يزيفون الحقيقة ويقلبون الحق باطلا والباطل حقا. ولكن الذي لا ريب فيه أن أفلاطون وإن كان قد هجر الشعر إلى غير رجعة، إلا أن تأثره الشعري القديم كان عاملا كبيرا من العوامل التي أثرت في فلسفته تأثيراً ملحوظا، فجاءت ممزوجة ببعض الخيال، ويتجلى ذلك في (فيدون) عند استعماله ألفاظا شعرية في حديثه من أمثال: يلوح لي أو يبدو لي أو إن ما أراه. . . تلك التي دعت الكثيرين إلى الشك في نظرية الخلود التي احتوتها هذه المحاورة المعروفة، حتى قيل إن هذه النظرية محض اختلاق، وإنها خيال شاعر أكثر منها فلسفة حكيم.

وأفلاطون يؤمن بأن التأثير الشعري في النفس سابق للتأثير العقلي. فنحن حين ننظر في الوجود وفي الأشياء المحيطة بنا أو عندما نسمع رأياً من الآراء لا نعتبر في حالة قبول تام مباشر لأننا لسنا كالإناء يصب منه الماء، ولكن لنا احساساتنا وعواطفنا التي نسبر بها غور الأشياء أولا قبل أن يستقبلها العقل؛ فالعين تنفعل إذا وقعت عليها الأضواء والألوان، وهي تضطرب بمشاعرها واحساساتها. ثم يتدرج ذلك إلى الشعور العقلي والإحساس الذهني، فتدرك العين ماهية هذا الشيء الذي يسقط عليها، ويستطيع أن ينفرجا تدريجيا.

ومنهجه في الجدل دليل آخر على تفكيره الفلسفي الذي يخالطه الخيال الشعري المتغلغل في نفسه منذ صباه. ومنهجه هذا يتمثل في دورين: جدل صاعد وفيه يصعد أفلاطون من المحسوسات إلى المعقولات، كأن يفكر مثلا في وجود الأشياء الطبيعية حتى ينتهي إلى الله الذي هو كائن معقول غير محسوس، ثم جدل نازل وفيه يهبط إلى الدرجات من عالم

ص: 35

المعقولات إلى عالم المحسوسات ليرى هل هي يعينها تلك التي صادفها في صعوده. فأفلاطون يصعد أولا إلى المعقولات غير المستجدة، وينحدر من عالم المحسوس ليصل إلى نقطة نهائية وهي إثبات وجود الخالق، ثم هو يبدأ في النزول من خالق مضطرا له اضطرار، مكرها عليه إكراها لكي يتأكد من صحة الخطوات التي صعدها، ليعلم بصواب ما ذهب إليه في تفكيره.

وهذا المنهج الجدلي يختلف تمام الاختلاف عن منهج سقراط، فسقراط يطلب من محدثه أن يحدد له الألفاظ التي يستخدمها في حديثه وله في طريقته خطوتان هما: التهكم والتوليد، ففي الأولى يوجه إلى محدثه أسئلة يطالبه بالإجابة عنها حتى إذا أعترف المحدث بعجزه عن الإجابة عنها وقصوره عن إدراك الحقيقة كاملة خطا سقراط خطوته الثانية فيشرح له - عن طريق الأسئلة التوضيحية - رأيه الخاص في الموضوع الفلسفي الذي كان موضوع المناقشة.

وهذه الطريقة العملية البحتة في الجدل، تختلف تماما عن طريقة أفلاطون الصاعدة والنازلة والتي ينزع فيها إلى المعقول ثم إلى المحسوس. زد على ذلك أن سقراط كان جدله بينه وبين الناس. . . أما أفلاطون فكان جدله يجري بينه وبين نفسه، وهذا ما اسماه بمناقشة النفس نفسها أي التفكير المنفرد الذي هو أشبه بالمناجاة الشعرية الفلسفية منه بالتفكير الفلسفي المحض.

وقد قسم أفلاطون العلوم إلى: حساب وهندسة وموسيقى؛ وقد رتبها هذا الترتيب لأن كل علم لاحق يعتمد على العلوم السابقة له، ثم يزيد عليها. فالهندسة تعتمد على الحساب وكذلك الفلك، كما أن الموسيقى تعتمد عليها جميعا.

وقد ذهب إلى أن هذه العلوم تظهرنا على أن فينا قوة تترفع عن الإحساس المادي وهي العقل. وأفلاطون في جميع فلسفته يحاول أن يسمو على الإحساس المقيد إلى التفكير العقلي المطلق؛ ثم هو لا يقف عند هذه الدرجة، بل يقول بأن العقل في جميع مراحله السابقة لا يقنع، ذلك أن العلوم في هذه المرحلة القاصرة. تستخدم مبادئ أعلى منها ولا تبرهن على وجودها، مثال قولنا إن هذا الشيء اصغر من ذاك أو أكبر منه أو مساو له. ويخرج أفلاطون بهذا إلى العلوم والمعارف الإنسانية، فالعدالة والظلم والقبح والجمال والصغر

ص: 36

والكبر والمساواة معان كلية عامة لا نستطيع أن نقول إنها موضوع علم بعينه كالحساب أو الهندسة ولكنها دائرة أوسع وأكثر شمولا للمعرفة العقلية من هذه العلوم. ويخرج أفلاطون من ذلك كله إلى أن الإحساس وحده لا يكفي لإقامة العلم، ويستدل عليه بأن الحيوان يعتمد على إحساسه المادي ولكنه لا يصل إلى مرتبة المعرفة العلمية.

ويتساءل أفلاطون عن كيفية حصولنا على هذه المعاني الكلية فيقول: إنا لم نحصل عليها عن طريق التجربة، لأن هذه المعاني هي نفسها التي ساعدتنا على فهم التجربة، فلا يبقى لنا إلا أن نقول إنها في النفس منذ الميلاد، وما الميلاد عند هذا الفيلسوف الشاعر؟ إنه نزول النفس إلى الجسم بعد أن كانت في عالم الأرواح، أو نزولها من العالم المعقول إلى العالم المحسوس. وهذا ألهمه إياه خياله الشعري القديم. فهو يعتقد أن النفوس الإنسانية وجدت أول الأمر أرواحا هائمة في عالم الأرواح غير متصلة بمادة ما، وأدركت في ذلك العالم الأمور الروحية ومنها المعاني التي ذكرناها والتي أطلق عليها اسم المثل. فلما هبطت هذه النفوس إلى الأجسام المادية وسكنتها واعتراها نسيان لاتصالها بهذه المادة الكثيفة، فبقيت كأنها لا تعرف شيئا حتى تنبهت بإدراك الحواس. وكلما أدركت شيئا ما من حياته الأرضية كان هذا تذكر لما حدث مثاله في حياته الروحية السابقة، وهذا هو اصل العلم عند أفلاطون. والنفس الإنسانية في رأيه قد تعود إلى هذا العالم أكثر من مرة ماد دامت لم تتظهر من التعلق بالأشياء المادية المحسوسة، وفي رجوعها قد تتقمص جسما حيوانيا كما قد تتقمص جسما بشريا، وهذا ما يعرف بالتقمص أو التناسخ.

والواقع أن أفلاطون قد مزج فلسفته بالخيال فجاءت مزاجا عجيبا معجبا في آن واحد. . . عجيبا لأن الشعر والفلسفة متناقضان على خط واحد، فهذا ينشد الخيال في السماء، وتلك غالبا ما تبحث عن الحقيقة في الأرض؛ ومعجبا كذلك لأن فلسفته هذه الممزوجة بالخيال جعلت أسلوبه الجدلي اقرب إلى الفلسفة الأدبية الشائقة منه إلى الفلسفة العلمية الجافة.

جبريل خزام

ص: 37

‌غرام الكهولة.

. .

للأستاذ عتمان حلمي

قلت للنفس حين لجَّ هواك

أنتِ إياكِ والهوى إياكِ

جدَّ بي العمرُ فاهدئي واطمئني

وكفاني مما مضى وكفاكِ

واجعلي ما أصبت في الغيَّ يا نفس ختاماً فإن فيه هُداكِ

وقفةٌ تلك بين عقلي وقلبي

يا لنفسي ما بين هذا العراكِ

ثم يا لي أرجو السلامةَ في عمريَ هذا من قائدي للهلاكِ

عاصف من هواكِ يعصفُ بالقلب وهاتٍ يسوقني في هواكِ

وعنيد لا أستطيع خلاصاً

منه مما يحوك لي من شباكِ

يا لَقلبٍ خلا من الحب دهراً

ثم صادفتِ خالياً فاصطفاكِ

فأطاع الهوى فلا هو يسلو

ك على ضعفه ولا ينساكِ

وأطعتُ الغرام فيك برغمي

ولو أني في الحق لستُ فتاكِ

لا أذود الغرامَ بالعزم إلا

خانني العزمُ فيك حين لقاكِ

فتبسمتُ بالرضى وتبسمت وشعّتْ ليَ بالرضى مقلتاكِ

غمرَ العطفُ منك من كان يخشا

كِ وشجّعتِهِ فما يخشاكِ

فاستعرتُ الشبابَ من بعد أن ولى شبابي لرغبتي في رضاكِ

وتجمّلتُ في خريف حياتي

ومشى بي الهوى على الأشواك

وكأني أصبحتُ غيريَ في الدنيا وأضحيتً غير هذا الشاكي

كيف أشكو النوى وأنتِ أمامي

لم يعكر صفاَء عيشي نواكي

ولقد أتقى لأجلك في القر

ب فضولَ العيون فيما عساكِ

فأداري العيونَ حتى كأنَّ القلبَ خالٍ أو أنه ما حواكِ

وإذا ما التقتْ بعينيكِ عيني

خالَ من خالَ أنني لا أراكِ

وأُنادي على سواكِ فما أنطقُ إِمَّا ناديتُ باسم سواك

فكأني عقدتُ باسمك يا (زين) لساني فما له من فكاكِ

أنتِ في مقلتيَّ أنىَّ توجهتُ أمامي وأين كنتِ أراكِ

ص: 38

صورةٌ منك لا تفارقُ عيني

كل حسنٌ لها إذا غبتِ حاكِ

لستُ أدري ماذا يخبئ لي الغيبُ وماذا يطوي لمثلي هواكِ

فلقد حرتُ بعد عمريَ هذا

كيف لا أستطيعُ أنْ أنساك

ص: 39

‌من (لزوميات مخيمر)

للأستاذ أحمد مخيمر

(إلي أصدقائي الشعراء: عبد الرحمن الخمسي، وعبد العليم

عيسى، والعلائي. . .)

غنوة. . .

سألتكِ هل تدرين أنكِ غنوةٌ

تغنّت بها الآزالُ، فالتفت الدهر

وعشتِ زماناً في ذَراها صغيرةً

ومهدكِ ينمو حوله العشب والزهرُ

وقد كان مثواكِ المغاورُ والربا

ومعلبكِ الغاب المظلل، والنهرُ

فلم تعلمي إذ ذاكِ أنك رغبةٌ

وأشواق روح في جوانحها بهرُ

وأنَّ الليالي أسرعت بكِ دونها

فكم صرعت شهراً ليتبعه شهرُ

فمن أجلكِ انسابت على الأفق شمسها

ورفَّتْ على الظلماءِ أنجمها الزهرُ. . .

منارة الحب. . .

خبَّ بنا يا ليلَ ركبُ الهوى

في جسد من شوقه ناحلِ

لغايةٍ لم يدر ما سرها

من لم يكنْ يا ليلَ بالراحل

منارةٌ أنتِ ليمّ الهوى

أقامها الشوق على الساحل

كأنما في خلدي نورها

غمامةٌ في بلدٍ قاحل. . .

لقيا. . .

سروري بلقياك سلوانيهْ

فلا تبعدي الخطو يا غانيهْ

لئن صح ما زعم الزاعمون

فويلٌ لأيامنا العانيه

ويا أسفا إن طوتكِ المنونْ

فرحتِ، ويا طول أحزانيه

سيخرس بعدكِ هذا اللسان،

وتُطْبَقُ بعدكِ أجفانيه

فما أبتغي نعمةً لا تدوم،

وما أشتهي لذةً فانيه

وكيف؟ وهذا المحيا الجميل

وقد رفَّ مبعث إيمانيه

ص: 40

أرى في سناء الوجود الرحيب

وأكشف أعماق وجدانيه

وأوقن أن رحاب السماء

إذا ما دنا أصبحت دانيه

ويبعث بي فرحة بالبقاء

تبدّد شكّي وأشجانيه

فيا قبسَ الخالد لا تبعدي

فأنتِ على الأرض سلوانيه

ظمئتُ لينبوع تلك الشفاه

فهاتيَ لي القبلة الثانية

كأني بها قطرة من ندى

ترفّ على وردة قانيه

إذا نلتها خلتُ أني إله

أصرّف بالعزم أكوانيه

ويا ملكا غادياً بالحنان

تمرَّدَ في الصدر شيطانيه

أنازعه جاهداً أن يقرّ

ويستمرئ الدهر عصيانيه

تعاليْ إلى روضتي في الخيال

فأسقيك من دماء غدرانيه

وأطمعكِ الثمر المشتهى

تدلَّى بأطراف أغصانيه

نما، وحلا، وغدا في الغصو

ن يرتقب الأيدي الجانيه

تخالينه في حوافي الظلال

كواكب مشرقةً دانيه

ويا فرحاً في ضمير الزمان

بدا بعد لأي فأغرانبيه

وكنتُ ذكرتُ شقاء الوجود

فلما بدا ليَ أنسانيه

وزين لي كل شيء أراه،

وجمَّل بالنور أزمانيه

وأفعم بالحب رحب الفضاء

فقد خلته مهجة حانيه

لأمرٍ أنرتِ ظلام الحياة

فأبصرت الأعين الرانيه

وجَلَّيْت لي خطرات الوجود

وما كنَّ قبلكِ من شانيه

ص: 41

‌البريد الأدبي

على هامس النقد:

كتب الأستاذ علي العماري في عدد الرسالة الماضي يسألني رأيي في الآيات:

(انطلقوا إلى ما كنتم به تكذَّبون. انطلقوا إلى ظلٍّ ذي ثلاثٍ شُعبٍ، لا ظليلٍ ولا يُغني من اللهب. إنها ترمي بشررٍ كالقصر، كأنه جِمالةٌ صُفر).

فهو يرى أن حكمي على بيتي شوقي عن قصر انس الوجود:

قف بتلك القصور في اليم غرقي

ممسكا بعضها من الذعر بعضا

كعذارى أخفين في الماء بضا

سابحات به وأبدين بضا

بأنهما يكشفان عن تزوير في الشعور، لأنهما يبعثان شعورين متناقضين في النفس، ويدلان على أن الشاعر لم يحس بالموقف الذي يصوره إحساسا صادقا. . . الخ.

يرى أن حكمي هذا يصطدم بهذه الآيات القرآنية. ويقول في تعليل هذا:

(فالجو العام للآيات هو تهديد وإنذار وتخويف، يقذف باللهب، ويرمي بالشرر؛ ولكن التشبيه لا يبعث في النفس إلا الطمأنينة والهدوء والظل الأبيض الناصع. نعم إن منظر الجمال الصفر متتابعة مختلطة متحركة في تموج واضطراب هوهو منظر الشرر، ولكن هذا المنظر لا يبعث في النفس، ولا سيما نفس العربي إلا المسرة والبهجة والشعر والجمال، فالجمل أليف إلى نفسه حبيب إليها، وهو حين يكون اصفر يزيد في إعجابه وبهجته. الخ)

وهذا المشهد من مشاهد القيامة قد تحدثت عنه بتوسع في كتابه (مشاهد القيامة في القرآن)، وهو في المطبعي الآن. فأكتفي هنا بكلمة قصيرة إلى أن يظهر الكتاب!

ولست ادري وجها هنا للبس ولا للموازنة بين البيتين والآيات؛ فإن مشهدا يصور جهنم، وقد انبعث منها الدخان الكثيف المتشعب كأنه الظل، ولكن (لا ظليل ولا يغنى من اللهب)! وهي لضخامتها وهولها ترمي بالشرر كل واحدة منها في حجم القصرة - أي الشجرة الغليظة - أو في حجم الجمل. . . وهي تقذف بها في عنف وشدة (ترمي بشرر كالقصر) لا متتابعة في هينة وهدوء كما يريد الأستاذ أن يصور المشهد

وإن مشهدا مفزعا كهذا المشهد، لا يدع للحس فرصة ولا فسحة، يتملى فيها على هينة

ص: 42

واتئاد، وراحة بال واطمئنان خاطر. . . منظر الجمال المتتابعة في رتابة الجمال، ومتتابعة مختلطة متحركة في تموج واضطراب) فكل هذا لا أثره له هنا.

وقد استلقت لفظتا (القصر) - جمع قصرة - و (جمالة) جمع جمل - استقلتا بتصوير الضخامة - وهي المقصودة أولا في المشهد - واستقلت كلمة (ترمي) بتصوير العنف - وهي المقصودة ثانيا في المشهد - ثم جاءت كلمة (صفر) لتعطي لهذا المشهد مجرد اللون، ولتتم الصورة بحجمها وحركتها ولونها على طريقة التصوير في القرآن.

ولو أراد مجرد الضخامة واللون دون العنف لقال مثلا: ترسل بشرر ولم يقل (ترمي بشرر)، فكلمة (ترمي) تجئ هنا لتكمل خاصة معينة للصورة.

واللون الأصفر في هذا المجال لا يشيع في المشهد ما أراد الأستاذ أن يشيع من الوضاءة والهدوء والصفاء!

وأنا أعيذ الأستاذ أن يقف لحظة أمام هذا المشهد الوضئ! ولو - لا قدر الله - شهده، ووقف حياله وقفة المهدد به، لما أغنى اللون الأصفر فتيلا في تخفيف هوله، ولما وجد في خاطره فسحة لتملئ وضاءته! في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغنى من اللهب، وهي ترمي بشرر كالقصر كأنه جمال صفر. إنها هنا صفرة النار التي ترمي بالشرر لا صفرة الظل الأبيض الناصع الذي يمتع النظر!

سيد قطب

تأبين المرحوم الأستاذ طه الراوي:

ستقوم دار المعلمين العالية ببغداد بالاتفاق مع وزارة المعارف العراقية ولجنة الترجمة والتأليف والنشر العراقية بحفلة تأبينية كبرى للمرحوم الأستاذ طه الراوي أستاذ الأدب العربي بدار المعلمين العالية ببغداد سابقا، وذلك في ذكرى وفاته الستينية في اليوم العشرين من كانون الأول (ديسمبر)1946. وقد تشكلت لجنة لتنظيم هذا الاحتفال برئاسة عميد دار المعلمين العالية وعضوية الأساتذة؛ محمد هاشم عطية، والدكتور محمد مصطفى زيادة، والدكتور عبد العزيز الدوري، الأساتذة في المعهد. وقد رأت اللجنة الاتصال بكافة الهيئات والمؤسسات والشخصيات التي لها صلة وثيقة بالمرحوم لتساهم في الحفلة التأبينية. فنرجو

ص: 43

ممن له هذه الصلة ويرغب في المساهمة في الحفلة المنوه عنها أن يتفضل بإرسال كلمته إلى الملحق الثقافي بالمفوضية الملكية العراقية في القاهرة (7 شارع محمد مظهر باشا بالزمالك) ليقوم بدوره بإرساله إلى لجنة التأبين.

إلى اليد ذات السوار رقم 2:

لم تأمرينني بالاعتذار يا سيدتي؟ أبهذا الأسلوب - أسلوب الأمر - تسوق الأديبة طلبها؟ مم اعتذر؟ لم اجن ذنبا ولا جريرة استحق عليهما اللوم والتثريب. إنني لم أسئ إلى قلم الأستاذ الطنطاوي في كثير ولا في قليل. واشهد الله على ما في نفسي أني احمل له كل توقير وتبجيل. ولو كنت غصت إلى أغوار مقالتي لأدركت الرأي الذي أبديه، والقصد الذي ابغيه.

وما كان لي أن استتر تحت اسم مستعار من تلقاء نفسي. ولكن المقام اضطرني إلى هذا على غير رغبة مني. وإن كنت تخشين أن يحاسبك الناس في حاضرهم حسابا عسيرا على مستقبلك فإني والله لا أخشى إلا الذي برأني وسواني. وإن تلك النفخة التي تخافين منها على أدبك الناشئ، فلله الحمد ليس لي حتى كتابة هذه السطور شيء أرتاع لمرآه إن طيره نفخ النافخين، أو أتت عليه أقلام الكاتبين. وعلى كل حال إن المستقبل بيد الله.

إن مقالتك لم تبعث في نفسي وحشة ولا يأسا، وإنما زادتني أنسا بالأدب والأدباء. لو كان في مقالي شيء من التجريح لما احتاج الأمر إلى دفاعك، ولهب الأستاذ من فوره يسوق إلى النقاش، وهو الأديب الأريب الذي له - ولزملائه كتاب الرسالة - مكان الثريا في سماء الأدب.

وما دخل لتشاؤم في موضوعنا؟ إن من سعادة الحياة أن انظر إليها من خلال منظار التفاؤل، ومن حسن الطالع أن حباني ربي صديقات هن مبعث فرحتي ومصدر مسرتي.

دعي هذا يا سيدتي، وتعالي لتشاهدي ضربا من الحياة جديدا. هل سمعت أو رأيت الأصم والأبكم كيف يتكلم؟ إن تلاميذي وتلميذاتي من هذه الشرذمة البائسة التي قضي عليها بفقدان السمع والنطق. وها نحن أولاء أخواتك ذوات الأساور نخفف بلواهم، ونسعى إلى تحقيق مناهم، حتى تربطهم بالحياة وشائج يستطيعون معها مسايرة المجتمع.

لعلك اقتنعت بوجهة نظري بما سقته إليك في هذه العجالة، ولست اختم حديثي بالاسم

ص: 44

المستعار الذي استعرته لنفسك، لأني في الواقع ممن لا يألفن التحلي بالسوار. وهأنذى أكشف لك عن حقيقتي كما احب أن تكشفي لي عن حقيقتك، وإلا ذهبت بي الظنون مذاهب شتى. وعسى أن يكون اصطفاق قلمينا فاتحة صداقة كنت أنت البادئة بها. ومما يشرفني ويعلي قدري أن نبرم سويا عهد هذه الصداقة تحت ظلال دوحة الرسالة الغراء التي لها الشكر أولا وآخره، إذا أفسحت وما تزال تفسح لنا في رحابها مكانا لنشر أحاديثنا، والسلام.

بديعة محمد سبح الله

مدرسة بمعهد الصم والبكم - بمطرية القاهرة

حواء الخالدة:

قصة مسرحية ألفها الأستاذ محمود تيمور بك، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، ومثلتها الفرقة المصرية بدار الأوبرا الملكية.

وبطلا القصة عنترة بن شداد العبسي وصاحبته عبلة، وليست القصة كما روتها أو زعمتها كتب التاريخ والقصص القديمة محيطة بطليها بتهاويل البطولة والحب، وإنما اتخذ المؤلف من زمانها ومكانها وأشخاصها، جوا جديدا، ومادة جديدة، لعمل فتى جديد، قوامه التحليل وعرض العواطف والميول الإنسانية على طبيعتها.

فعبلة امرأة تزهي بحب الرجال إياها، وتتخذه لعبتها، فتشتط في مطالبها، ولا تبالي أن تدفعه إلى الأهوال، وتحمله على ترك الديار وتجشم الأسفار، لتحقيق رغباتها التي يمليها مجرد العبث والزهو.

وعنترة رجل شجاع محب، ذو بأس وذو قلب، يبطش بالفوارس، وترتد عن صفاته الآسنة، ولكن تنفذ إليه سهام الأنوثة ويفعل به سحرها، فينصاع لعبلته، ويسعى في إجابة مطالبها غير مكترث بما في طريقها من المشاق والمصاعب؛ وترمي به الحبيبة المدلة في سفر بعيد يمتد به الزمن، ثم يؤوب كمن صحا قلبه فسلا واقصر باطلة، ولكن لا يلبث أن يتسلل نشيد الحب إلى مكمنه في فؤاده، فيعود به إلى مغانيه، ويظل يروض تلك القطة المزهوة الشرسة حتى ينالها. . .

وواضح من سياق القصة أن المؤلف أراد أن يصور المرأة في إدلالها وزهوها وتمعنها

ص: 45

وتحايلها وأفانينها في اللعب بالرجل - تصويرا أريد أن أقول إنه (كاريكاتوري) مستعيرا له هذه التسمية من ذلك التصوير الذي يقوم على المبالغة في إبراز الخصائص، وعلى هذا يمكن أن تحمل تلك المواطن التي بدت فيها عبلة على خلاف ما تجري به العادة في واقع الحياة، كدؤوبها على العبث واللهو بعد ما قيل من موت عنترة، وكفتورها في استقباله بعد غيبته الطويلة على رغم حبها له.

ولكن ما بال عنترة يستقبل منافسه في خطبة عبلة بالترحيب والتكريم حيث كانت تقتضي طبيعة الموقف وطبيعة الفارس البدوي أن يلقاه بسيفه؟ حدث ذلك عندما جاء هذا المنافس بعد إحضاره النياق العصفورية التي طلبتها منه عبلة، فوجد عندها عنترة، وكان عنترة أيضاً قد عاد من سفره الطويل الذي دفعته إليه لجلب الزمرد الذي اشترطته ليتم زواجهما، ونراه بعد أن يأتي لها به وبعد ما تجشم في سبيله يستقبل خاطبها الآخر ويهنئهما. . . وقد يقال إن أحداث السفر قد غيرته وجعلته يسلو، ولكن ماذا يبرر ذلك الموقف الغريب حينما بعث حبه، وعاد في هواه سيرته الأولى، واستحر العناق بينه وبين عبلة، وفاجأهما منافسه، وإذا عنترة الفارس الذي استعاد صبابته يسلم إلى هذا المنافس حبيبته التي أفلتت من بين ذراعيه، ويخاطبه كالمعتذر. . . ويغادرهما ذاهبا إلى شانه.؟

وهنا نقول إن المؤلف آثر المرأة بعناية، إذ كان يهدف إلى إبراز خصائصها بذلك التصوير (الكاريكاتوري) ولكنه أهمل الرجل فصوره ذلك التصوير العجيب، ولم يدبر أمره على سنن الواقع ومقتضيات الطبيعة، ولم يبد لنا من هذا الصنيع هدف يبرره.

وقد كانت هذه الرواية على مسرح الأوبرا مجلي بالإخراج الفني البارع المتقن، وعرس اللغة العربية في جلوتها ورنين جرسها على السنة الممثلات اللائى أثبتن أنها لغة رقيقة. . . رقيقة. . .

وهي مدعاة إلى استخذاء مؤلفي التمثيليات باللغة العامية الذين صدعوا رءوسنا بهرائهم، ووجعوا بادعاءاتهم التي لا تدل إلا على العجز المبين.

ومن العجيب انهم يمثلون بالعربية الروايات المترجمة، ويؤلفون بالعامية التمثيليات المصرية، كأن العربية في البئية الغربية أبين منها في البيئة المصرية! واعجب العجب تمثيل قصص باللغة العامية وقعت في العصور العربية من جاهلية أو أموية وعباسية! وما

ص: 46

تزال أغانيها العامية تتردد على الألسنة كسلامة القس مثلا! فإلى متى يظل هذا التهريج الفني؟ ومتى يرتفع الفن بالأذواق الساذجة بدلا من تملقها والانحدار إليها؟

وأخيراً، نسوق الحديث إلى محطة الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، لعل عربية (حواء الخالدة) تقنعها باصطناع اللغة الفصيحة في إذاعة التمثيليات القصيرة التي أكثرت أخيراً من إذاعتها بالعامية، وأهملت الفصحى في هذا المجال كل الإهمال فيما عدا المترجم الذي تقدم العجب من الاقتصار عليه في التمثيل بالعربية.

عباس حسان خضر

ص: 47

‌الكتب

كتب قرأتها:

يقظة العرب

تأليف المرحوم جورج أنطونيوس

ترجمة الأستاذ علي حيدر الركابي

بقلم الأستاذ حبيب الزحلاوي

يقول مؤلف هذا الكتاب المرحوم جورج أنطونيوس في مقدمته أنه (لا يرمي إلى تدوين التاريخ النهائي لليقظة العربية. . . بل إلى رسم الخطوط الكبرى لأصول تلك الحركة) هذه الحركة التي مهدت تربتها، وبذرت بذورها، ونبت نبتها، ونضج حبها، وتم حصدها في خلال نصف قرن، لا بأفاعيل طافرة، أو وثبات غير متزنات، بل بعزيمة جبارة، ومثابرة عنيدة، مستمدين من إرادة أمة موحدة لها في بطون التاريخ فصول كتابها أجداد عباقرة اسمعوا الدنيا نداءهم، ولقنوا العالم تعاليمهم، وما هؤلاء الأحفاد سوى جيل وبعض جيل من أبناء الشام أيقظتهم حركة الانقلاب العثماني عام 1908 فاستنهضتهم فنهضوا إلى العمل فعملوا دائبين ملبين غريزة الجد في طبيعتهم، وقد دفعوا كل ثمن وبذلوا كل ما يستطاع بذله، وجادوا بأقصى غايات الجود، ونالوا نصيب المجاهد المؤمن، وفازوا بتحقيق أمانيهم واستقلال بلادهم وحريتها ولم يكن ما قربوه من أرواح وأموال في سبيل الوطن بالثمن الفادح الباهظ

تكاد تكون سطور هذا الكتاب بأبوابها وفصولها ووقائعه بأحداثها وتقلباتها وعظاته بمغامرتها وأهوالها. أقول: تكاد تكون وقائعي (أنا) بالذات، وما أوفر عدد من يقول (أنا) في كتاب يقظة العرب، إذ ما من فتى في بلاد الشام سمع نداء الحرية يهدر كالسيل العرم متدفقا من حناجر الآباء للاستقلال والحرية إلا تيقظ روحه لهما وتلفح وعيه بجوهرهما، وسار على منوال أبيه في اتباع أعمال الرجال الرصناء لنيلهما، وقد ناليهما بفضل إخلاصه لوطنه وقوميته وفنائه في أمته.

ص: 48

مؤلف كتاب (يقظة العرب) عالم بحاثة بفطرته، لا يؤخذ بالظواهر فيعود إلى البواطن، ولا تجذبه الفروع في الشجرة، ولا الجذور المطمورة في التربة، بل يرضيه أن يفتش عن مصادر غذاء تلك الجذور وأنواعها ليعلم الدواعي الباعثة على تلك التغذية والغاية المرومة منها.

نعلم (كلنا) أبناء هذا الجيل أن العامل الأكبر في يقظتنا يعود كما قلت إلى عام 1908 وعندنا على هذا العلم شبه ادله استوحيناها من استقراء عقلية إبائنا ومن بلغ وعيهم القومي وإحساسهم بالوطنية العربية، ولكن المؤلف البحاثة قد عاد بنا إلى البذور الأولى، إلى الفواصل بين الدعوة إلى العروبة والدعوة إلى الإسلام والصلة الروحية بينهما، ثم إلى الفتح العثماني.

للحكم العثماني آثار واضحة المعالم في نفوس العرب، لم يكتف المؤلف بتقصيها في عهد السلطان عبد الحميد، وهي جامعة للأسباب الشاملة للنتائج التي قلبت الأوضاع العربية، من مطالبته بالإصلاح في ظل الحكم العثماني، إلى العمل سرا على الانفصال عن الترك، إلى العوامل التي دفعت بجماعة (الاتحاد والترقي) الذين خلعوا السلطان عبد الحميد الطاغية ليقيموا أنفسهم طغاة مثله، فكانت هي نفسها عوامل فعالة دفعت الأمة العربية إلى عمل إيجابي وهو بناء دولة عربية لحما ودما. أقول: لم يكتف المؤلف بهذا، بل عاد بنا القهقري إلى عهد محمد علي وفتح الشام على يده، وشروعه في تشييد مملكة عريقة، واختلاف ابنه إبراهيم معه في الرأي، لأن الأول كان في طبيعته خلاقا للممالك، بينما كان الثاني يعمل على الاحتفاظ بتلك الممالك، وإن الأول كان يرى أن العرب ليسوا أهلاً لحكم أنفسهم، بينما كان الثاني يعتقد عكس رأي أبيه، ولم ينس المؤلف موقف الإنجليز من محمد علي وصدهم إياه عن تأليف المملكة العربية، وقد خلص من هذا البيان المقتضب إلى ذكر تأليف جمعية أدبية في بيروت قبل مستهل هذا القرن، كان النصارى هم القائمين بها، فما لبثت أن دخلها المسلمون والدروز، ويقول إنها كانت البذرة الأولى لنهضة الفكر القومي ويسهب في وصف الإرساليات ونشرها المعارف، وتزاحم أقطابها وتنافسهم في تعليم أبناء البلاد علومهم، وكيف لم تكن تعاليمهم خيرا محضا، وكيف تولدت الطائفية عند أبناء البلاد من جراء هاتيك التعاليم المتضاربة والأسباب والغايات. يمضي المؤلف البارع في سبيله يتتبع

ص: 49

سير الحوادث، وقد اطردت بانتظام حتى اتقدت نيران الحرب العالمية عام 1914 فيذكر مجيء الشريف عبد الله إلى مصر وتحدثه إلى كتشنر والعروض التي تقدمت للانتقاض على الحكم التركي ومخاوف الإنجليز من عواقب إعلان الترك للجهاد الديني وقيام هؤلاء فعلا بإعلانه، ونشر الراية المحمدية، ووقوف سورية على مفترق الطرق توازن بين الموقف إلى جانب الأتراك، وبين شد عضد الشريف حسين المتحفز للثورة.

يعرج المؤلف على ذكر العهود التي قطعتها بريطانيا العظمى للشريف حسين ورسائل مكماهون، فنرى الثورة العربية تعلن في مكة وتندلع نارها وتمتد حتى تدخل قواتها مدينة دمشق ويحتل رجالها البلاد السورية، ونقرأ في فصل الكتاب الثالث عهود الحلفاء المتناقضة ونرى مبلغ تكالبهم على اقتسام غنائم الدولة التركية وتنافسهم في اغتصاب البلاد العربية واتفاق سايكس بيكو ورسالة بلفور إلى الملك حسين ومفاوضات لويد جورج للصهيونيين ووعد بلفور لليهود، ثم التصريح البريطاني الفرنسي. ولعل أمتع ما في هذا الفصل خيانة بريطانيا للعهد ومؤتمر القاهرة وأعمال لورنس في سورية، ثم يأتي دور عقدة فلسطين، وحق العرب، وادعاء اليهود، وهي العقدة الباقية تنتظر الحل العادل.

وددت لو يتسع المجال فأقف برهة ليست بالقصيرة حيال بعض رسوم خطط هذا السفر الجليل أضم بعض حلقات مفقودة لهذه السلسلة المحكمة العقد، وازعم أن لو اتصل المرحوم جورج أنطونيوس مؤلف هذا الكتاب بالكثيرين ممن ألجأهم المرض، أو السن، أو الضرورات، إلى التخلف عن ركوب الجهاد، أو بالذين خلوا الطريق للمتقدمين الطامحين، أو النهازة المتفرصين، لكان استوفى أكثر بحوثه وشارف بها على الكمال

اضطلع بترجمة هذا السفر النفيس حضرة الأستاذ علي حيدر الركابي فحق له الشكر والثناء العاطر يسديه إليه كل عربي بعد إذ يسر لأبناء العربية مراجعة سجل حياتهم وقد سلكوا فيها مسالك بناة الملك.

أبو زيد الهلالي

تأليف الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

ص: 50

لهذا الاسم بريق ولمعان، وماض مجيد، وحاضر خافت راكد، ولكن هذا الحاضر مع خفوته وركوده لم يذهب ببهاء هذا الاسم، ونضارته، وما له في نفوس العامة من أفراد الشعب من التجلة والاحترام. فيكاد يعرفه العامة أكثر مما يعرفه الخاصة - واعني بالمعرفة وفرة المعلومات وكثرتها، لا واقعيتها وحقيقتها - فهو متصل بنفوسهم وحياتهم اتصالا وثيقا. . . يسمعون عن بطولته في المقاهي والأندية الشعبية، ما يلهب حماستهم، ويشعل قلوبهم وأفئدتهم شجاعة وأقداما، ويقدم لهم لو أنا من الخيال الحبيب، يرضيهم ويطربهم، ولا يرتضون بغيره بديلا. .!!

وإذا كان من لوازم الأدب التأثير في النفس، فإن هذه القصة، بلغت درجة لم تبلغها قصة غيرها على كثرة ما كان ينشر ويذاع بين هذه الطبقات. . . إذ ظلت حديث المجتمع المصري ثمان قرون، وظل شاعر الربابة يحدث بها الناس من العهد الفاطمي إلى اليوم، بيد أن شعر القصة اليوم اصبح شبحا ماثلا ولونا حائلا يتلاشى صوته في ضجيج العصر، وجلجلة المذياع.

وليس من السهل تناول هذا الموضوع، فلا يزال حظ الهلالية في التاريخ قليل، وأدباؤنا لا يعنون العانية اللائقة بهذا القصص الشعبي، بل تركوه في أيدي الوراقين - من الذين لا يعنيهم إلا جمع القرش - يتناولونه بالتحريف والتصحيف. حتى اصبح من العسير الوصول إلى الحقائق الناصعة، والنتائج السليمة التي ترضي الباحث ويطمئن إليها الخاصة، ولا يرتابون فيما يقرءون. . . وويل للموضوع يفقد ثقة الخاصة، ولا ينال تقديرهم واحترامهم. . .!!

وبنو هلال وسليم من بطون مضر الكثيرة المتعددة، الذين كانوا يعيشون قبل الإسلام عيشة البداوة والخشونة. ثم دخلوا حظيرة الإسلام، وحملوا رايته، ورفعوا لواءه، أيام بني أمية في الشام، وبني العباس في العراق، ثم بني أمية في الأندلس.

ولأمر ما نزحوا من نجد، وجاءوا إلى مصر، فأسكنهم الخليفة الفاطمي صعيد مصر، بيد أنهم لم يستقم لهم أمر، فعاثوا في الأرض فسادا، واصبحوا خطرا على الدولة، فرمى بهم المستنصر ملك صنهاجة والقيروان المعز بن باديس، وذلك لانحرافه عن مذهب الشيعة إلى مذهب أهل السنة، وفي ذلك كتب اليازوري وزير المستنصر الفاطمي إلى المعز بن باديس

ص: 51

يقول:

(أما بعد، فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وحملنا عليها رجالا كهولا، ليقضي الله أمراً كان مفعولا. . .)!!

وبذلك ضرب المستنصر عصفورين بحجر واحد، وهنا تتجلى بطولة هؤلاء الأعراب، وفروسيتهم التي عمل فيها الخيال الطليق، ما كاد يخرجها من عالم الحقيقة إلى عالم الخرافات والأوهام. . .

ومهما يكن من شيء فقد تناول صديقي وزميلي الأستاذ محمد فهمي عبد الطيف هذا الموضوع في سلسلة (أقرأ)، وهو أديب ناقد، تخرج في مدرسة (الرسالة) الغراء، وكان له فيها جولات، وقد رزقه الله قلما يعرف كيف يصل به إلى نفوس القارئين. فلا عجب إذا لم المتفرق، وجمع الشتيت، جمع الناقد الفاحص، واتخذ من هذا كله مادته في هذا الموضوع، فخلق منه بحثا قيما مفيدا، يجدر بكل أديب أن يمتع نفسه به فترة من الزمن، ليجد ألواناً من الفكر المتزن. فيها جدة، وفيها جرأة، وفيها طرافة ولذة. . .

ولصديقي فهمي عذره في ترداد اسم ابن خلدون كثيرا، فهو يكاد يكون المؤرخ العربي الوحيد، الذي عنى بالكتابة عن الهلاليين، كتابه فيها مقنع إلى حد ما. . . وعسى أن تتاح الفرصة لصديقي فهمي، فيجلو بعض ما في الكتاب من غموض يسير، ويوضح بعض ما فيه من إجمال، اعتقد أن ضيق المقام، وتقيده بعدد من الصفحات هو الذي اضطره إلى ذلك. والكتاب بعد هذا تحفة أدبية لا غنى عنها لأديب.

ص: 52

‌كتب من مراكش

عصر المنصور الموحدي

تأليف محمد الرشيد ملين

للأستاذ عبد الكريم غلاب

وهذا كتاب آخر نقدمه إلى قراء مجلة الرسالة الغراء أصدرته المطبعة المراكشية حديثا لمؤلف شاب استهل إنتاجه العلمي بهذا الكتاب الذي يقول عنه إنه حلقة من سلسلة (العصور الذهبية المغربية) التي اعتزم إصدارها

وقد كتب المؤلف كتابه عن شخصيه وعصر. فصاحب الترجمة هو المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، شخصية فذة في تاريخ مراكش، استطاع الكاتب أن يجعل من تاريخ حياته عصرا يتميز في خططه السياسية والحربية ويتميز في حياته العلمية والفكرية، وبذلك اصبح عصره هذا جديرا بالدراسة والتأليف.

وقد وصل المنصور إلى الخلافة عقب وفاة والده يوسف بن عبد المؤمن عند رجوعه من حرب البرتغال، فتحمل المنصور الأمانة وهو شاب لا تقوى ساعداه على تحمل المسؤولية، وكانت أمانة الملك ثقيلة أعبائها التي تركها له والده: كان البرتغاليون والاسبانيون يغيرون على أطراف المملكة الإسلامية في الأندلس، وكان من الموحدين أن يردوا هذا الاعتداء بصفتهم الحارس الأمين على دولة الإسلام في تلك البقاع. وكان ابن غانية - وهو الذي لقب من نسل المرابطين - يريد أن يرجع دولتهم، فبدأ بمحاربة الموحدين في جزر البليار، ثم انتقل إلى الجزائر وتونس، محاولا أن يكون دولة مرابطية جديدة، وأن يقضي على دولة الموحدين. وكان هناك بعض أعمامه واخوته ينقمون عليه أنه تولى الخلافة وهو أصغرهم، ويرجعون ذلك إلى المصادفة التي جعلته يحضر الغزوة التي توفي فيها أبوه متأثرا بجراحه.

كان على المنصور أن يواجه هذه الأعباء بلباقة وحزم، حتى يستطيع أن يحتفظ بإمبراطوريته الواسعة، التي تمتد إلى الأندلس شمالا، ثم إلى شمال أفريقيا، بما في ذلك طرابلس وبرقة غربا. ولذلك كانت حياته سلسلة من المعارك الطاحنة التي اشترك فيها

ص: 53

الجيش والأسطول، فقد غزا الأندلس عدة مرات، وكانت اشهر معركة خاضها هي معركة الأراك سنة 591هـ تلك المعركة التي تذكرنا بمعركة الزلاقة في عهد يوسف بن تاشفين، فقد انهزم حماة النصرانية في الأندلس في كلتا المعركتين واستتبت سيطرة المراكشيين على الأراضي الإسلامية هناك

أما علي بن غانية، فقد كان خصما عنيدا لم يكن من السهل القضاء عليه، وخاصة بعد ما استولى على بجاية في الجزائر، واخذ من رجال الصحراء جيشا قويا ليحمي به مملكته الجديدة، ويعيد بها مجد أجداده المرابطين، ويقضي على مملكة المنصور. ولكن المنصور تعجل الأمر فبعث إليه جيشا مكونا من عشرين ألف مقاتل أردفه بأسطول ضخم تحت قيادة أحمد الصقلي امهر القواد البحريين في ذلك العصر. ولم يفد ابن غانية التجاؤه إلى الصحراء ثم فراره أخيراً إلى تونس، فقد تتبعه المنصور في معركة أخرى كان من نتائجه أن استولى على كل هذه البلاد، وقضى على خصمه الألد، بل قضى على اتباع قراقوش الذين كانوا يساعدونه. وبذلك خضعت الإمبراطورية كلها لرئيسها الأعلى المنصور الموحدي

أما العقبات التي أثراها أعمامه واخوته الذين تأخروا عن مبايعته، أو أرادوا أن يثورا عليه أثناء مرضه، فقد عالجها المنصور بلباقة وحزم، جعلت أعمامه يخضعون، وجعلته يتمكن من أخيه الذي حاول الثورة ويقضي عليه بسهوله

ذلك هو الجانب السياسي والحربي من حياة المنصور؛ بيد أن هناك ناحية أخرى في حياته لا تقل روعة عن هذا النجاح الحربي، تلك هي ناحية العلم والإصلاح. فقد كان المنصور عالما يعقد المجالس للعلماء ليساجلهم فيما يعرضون من أفكار وآراء، وقد كان من ابرز علماء هذه المجالس ابن رشد الفيلسوف وابن زهر الطبيب. وكان ذلك أديبا وشاعرا، كما كان فقيها ومحدثا. وبذلك اصطبغ عصره بالصبغة العلمية التي جعلته من أزهى عصور التاريخ المراكشي. ونزعة المنصور الإصلاحية واضحة التأثير في العصر الذي نتحدث عنه، فقد وجه جهوده إلى القضاء على كل السباب الفوضى الإدارية والقضائية والاجتماعية، كما وجه همته إلى محاربة الأمية، فجعل التعليم إجبارياً للذكور والإناث، ويكفي أن نقول أنه حارب فكرة عصمة المهدي (مؤسس الدولة الموحدية)، وهي التي قامت

ص: 54

على أساسها هذه الدولة.

ذلك موجز لكتاب (عصر المنصور الموحدي)، وقد وفق المؤلف في عرضه لهذين الجانبين من عصر المنصور، فكان ترتيب الفصول طبيعيا ومتسلسلا، وخاصة في الناحية السياسية. وبذلك توفر في الكتاب نوع من التنظيم قل أن نجده في كتب التاريخ. أما أسلوب الكتاب، فهو سلس وفيه بريق ولا يخلو من مسحة شعرية. ومما يتصل بذلك أن المؤلف لا يكثر من سرد النصوص التاريخية، ولكنه يكتفي بعرض الحوادث في أسلوبه الخاص مشيرا إلى المصدر في أمانة وأخلاص

غير أن لي بعض الملاحظات لا تنقص من قيمة الكتاب: منها أن كتابة التاريخ لم تعد سردا للحوداث ولا تلخيصا لما كتبه القدماء، ولكنها أصبحت فنا يقوم على شيء من التفكير وشيء من الفلسفة. ورب حادثة بسيطة لا تسترعي الانتباه تقوم عليها حياة العصر، ولو وقف عندها المؤرخ قليلا ووهبها شيئا من نفسه وتفكيره لشرحت له دقائقه وأسراره. ولكنا لم نجد في كتاب عصر المنصور أي مجهود من هذا القبيل، ومن أمثلة ذلك أن المنصور تحول من عقائد الموحدين وآرائهم التي قامت على أساسها دولتهم، وأنه وقف مع ابن رشد موقفا غريبا، فقد كان راضيا عنه مقربا له، ثم غضب عليه، ثم عاد فاستدعاه إليه وقربه. يعرض المؤلف هاتين الحادثتين كما رواهما المؤرخون، ولكن لماذا حصل كل ذلك؟ وكيف؟ لا تجد في الكتاب تبريرا لذلك.

ومن الملاحظات الهامة أن دولة الموحدين قامت على عقائد معينة أتى بها المهدي بن تومرت وأقام الدولة على أساسها عبد المؤمن جد المنصور. وقد كان حريا بالمؤلف أن يعقد فصلا لهذه الأفكار والعقائد التي قامت عليها الدولة

ومما يؤخذ على المؤلف أنه يسبق الحوادث أحياناً فيدلي بالنتائج قبل أن يسرد الوقائع التاريخية.

وقد قلت من قبل إن الكتاب نظم تنظيما دقيقا، ولكن المؤلف يعرض أحياناً لبعض الإصلاحات الإدارية والعمرانية والاجتماعية والقضائية ضمن ما كتبه عن الحياة السياسية، فقد كان حريا أن يعقد فصلا مستقلا لما قام به المنصور من إصلاحات.

وكنت احب أن لا اعرض لما وقع فيه المؤلف من أخطاء إملائية ونحوية ولغوية، ولكن

ص: 55

الأخطاء كثرت بحيث لا تكاد تخلو منها صحيفة من صحائف الكتاب ولعل في ذلك أيضاً ما يغنيني عن ضرب الأمثلة. ويجب أن انبه إلى أن مثل هذه الأخطاء تنقص من قيمة الكتاب وتشوه جمال أسلوبه

ولست في حاجة إلى القول بأن هذه الملاحظات لا تغض من قيمة الكتاب العلمية، وحسبي أن أهنئ المؤلف على مجهوده، وأن ارجوا له التوفيق فيما سيصدره من كتب عن العصور الذهبية المراكشية.

ص: 56