الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 702
- بتاريخ: 16 - 12 - 1946
احذَري أَيَتُها العَرَب
للأستاذ محمود محمد شاكر
اليوم، لقدْ أحدَّ الجزَّار شفرته وشمّر عن ساعديه، وأقبل على الذبيحة يردُ أن ينحرَها نحراً فذاً، وهي راضية عنه له، مستسلمة بين يديه، مقرّةٌ له بأن ذَبْحها هو نجَاتها، وأن شفرته هي كما قال الراجزُ في دَلْوه:(قاتِلَتني وملؤُها حياتي)!!
وبالأمس - في سنة 1882 - وطئت إنجلترا أرضَ مصر لتدعم ما تزعزع من أركان عَرْشِها، كما زعمت وزعم لَها من لا يتورّع ولا يتحرّج، ومنذ ذلك اليومِ والسكّين ماضٍ في تمزيق أشلاء ذلك البَدَن أنحدَّر بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة، والذي كان يسمّى العلم والعربي والعلم الإسلاميّ. وما مضى إلاّ قليلٌ حتى طارَتْ أشلاء هذا البدن بدداً متفرقة مفَصَّلَة، ذهبتْ مصر وحدها، وذهب الشامُ وَحْدَه، وذهب العراق وحده، وذهبت مراكش وحدها، وذهبت طرابلُس وحدها، وذهبت تركيا وحدها، وقطعت عُنُق الخلافة، وقضى الأمرُ.
واليوم يوشِكُ أن يكون ما كان بالأمسِ ولكن على أسلوب آخر: أن تُحْشَد هذه المِزَقُ المقطعة حَشْداً جديداً لتساق إى يوم الحشر، لتساق مخَدَّرة بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة مَرْةً أخرى إلى الهُوّةِ المضطرمة التي لا تُبْقى على حيٍّ، إلى الحرب الثالثة.
هذه إنجلترا تريدُ مرّة أُخرَى أن تعود بحِيَلها ورجالها وأعوانها وصنائعها، وبمداورتها وسياستها، لتضرب الضربة الأولى كما ضربتْها في سنة 1882، وتخضع أعناق المصريين شاهدَهم وغائبَهم لأحكام معاهدةٍ عجيبة ظاهرها فيه الرحمة (أي الدفاع عن مصر والشرق) وباطنُها من قِبَله العذَاب (أي نكال الحرب الثالثة). ولن تفرغ منها - إذ قدّر الله أن تفرغَ، ولا قدّرَ - حتى تجملها وتدور بها على أمم العرب واحدةً بعد واحدةٍ، لتنال منها صَكاً مكتوباً، بالأسلوب الإنجليزي ولا ريب، يجعلها جميعاً في قبضة الأسد البريطاني ليوم الحَشرِ، فعندئذ تسوقهم جميعاً كعادتها إلى المجزرة الكبرى مُقدَّمين في الصفّ الأول ليكونوا قُرْباناً لجبّار الحروبِ، ووقاءً للدمِ الإنجليزي أن يُهَراق منه في حروب الإمبراطورية البريطانية إلاّ ما لا بُدَّ منه تَحِلةَ القسم وردَّ العين الحاسدة، كما حدث في الحرب الأولى وفي الحرب الثانية، حيث لم يُسْفَك من الدم الإنجليزي إلا الأقل،
وجملَت العبءَ كله تلك الأنعام البشرية التي جُمِعَت من الأسود والأبيض، من بقاع أفريقية وأرجاءِ الهند ومن نَواحِي هذه الإمبراطورية التي لا تقبّل الشمسُ مواطئ أقدمها حيثما دارت في مَدَرها.
فاحذري أيتها العرب. . . احذري.
إن السياسة البريطانية هي السياسة البريطانية، أي هي الجشَعُ المحتالُ المخادعُ الذي يستَلُّ منك أعزَّ ما تحرصُ علَيه بالشدّ والإرخاء والترغيب والترهيب والظهور والاختفاء، حتى تنهارَ النفوسُ وتسكُنَ من جَهْدِ أو إعياء. انظري ماذا فعلت، أو ماذا كانت تريد أن تفعلَ بمصر. شهرٌ بعد شَهْرٍ بعد شَهْرٍ والدُّنيا كلُّها من حولنا تعج عجيجاً بالمفاوضة والمعاهدة وبالأخذ والردّ، وبالموافقة والمعارضة، وباللين والشدة، وبالسكينة والصخب، حتى دارت الرؤوس على أعناقها، وتحّيرت العيون في حَمَاليقها، وتشتَّت منارُ الهُدَى وخيفَ على صاحب الرأْي أن يزول عن رأْيه، وما زالت إنجلترا تمدُّ للطامعين مدّاً وهُمْ يسعَوْن وراءَ ألفاظها الخلاَّبة حتى أعيتهم، وكادت لهم كيداً شديداً حتى أطغَتْهم فطغوا، وأرادوا أن يضربوا علة عقول هذه الأمة وألسنتِها بالقهر والعنف والاستبدادِ حتى تدَعَ العقلَ واللسانَ، وتقبل منهم ما أرادوا هم أن يفرضوه علينا فرضاً.
ولكن يأبى الله أن يكونَ لهذا الكيد له قرارٌ، فهذه الفئة التي ظنَّت أنها سوف تخدعُ إنجلترا عن نيتها الملفَّقة في الألفاظ الكاذبة، قد جاءها البرهان الساطعُ القاطعُ، بأن هذه الدولة (المفاوِضة) تضع الألفاظَ على قدرِ ما تريدُ، لا على ما يريدُ مفوضها أن يفهم. فإذا خيَّلت له نفسُه أنه فاهمٌ من النصِّ ليقول لها ويبين عن فحوى ألفاظها أرسلت عليه شيئاً يردّه إلى صوابه. فبالأمس كان المفاوض المصريّ يزعم لمصر أنه جاءها (بوحدة وادي النيل)، وأن النص المعلق بالسودانِ كان خيراً كلّه، وأنّ وأنّ. . . فما أصبح الصباحُ حتى طلع عليه شيءٌ من أشياءِ بريطانيا يقول له: جاوزتَ حَدك فاستبْقِ، وأن بريطانيا لا ترضى هذا التفسير المصنوع من جانب واحد، وان السودان وديعة في اليد البريطانية، والودائع مستردَّة، والخيانة فيها تفريطٌ لا يليق بالشرف البريطاني! فنحنُ في السودان أمناءُ عليه، ولن ندعَه لِمصر العادية الباغية تفعل فيه ما تشاء كأنه جزءٌ منها!! بل لا بدَّ لنا من أن نبقى هناك حُرَّاساً حتى يبلغ السودان رشده بعد السنين التي يقتضيها بلوغه الرُّشْد! وعندئذ
يكون للسودان أن يختار بعد أن يكون قد تهيأ لحكم نفسه بنفسه.
هذه هي السياسة الصريحة المتكشفة، وهذه هي بريطانيا على حقيقتها، وهذه هي ألفاظها المكتوبة مفسرةً في تصريح حاكم السودان. فليت شِعْري ما الذي يظنُّه امرؤ في نفسه ذَرةٌ من الإيمانِ بحقّ الإنسان في الحرّية. ما الذي يظنه ذلك في تفسير نصوص المعاهدة التي يُرادُ لنا أن نرتبط بها مع هذه الإمبراطورية؟ ومهما تكن نصوصُ المعاهدة، ومهما يُقَلْ في تسويفها أو تفريطها، وسواء أكانت هذه المعاهدة المعروضة اليوم أم غيرُها، فهل يحِلُّ لمصريٍّ أو عربيٍّ أن يأمَنَ على بلادهِ بعد هذه الخَديعة التي لا تعرفُ وَرَعاً ولا حياءً؟!
وليس هذا فحسب، لقد قال حاكم السودان ما شاء، فماذا كان جواب الحكومة المصرية على هذا التصريح العجيب! كان هذا الجواب الذي ينشر رئيس الوزراء كلمة يحتج فيها على تصرف حاكم السودان، وأنه قد تجاوز حدود وظيفته من حيث هو حاكم إداري، ومن حيث هو موظف مصري بريطاني معاً! أيكون حقاً حاكم السودان من حيث هو حاكم إداري، ومن حيث هو موظف مصري بريطاني معاً! أيكون حقاً حاكم السودان هو المسئول عن تصريحه، وهو ينسبُ ما يقول إلى الحكومة البريطانية بلسانه! هذا، ومن الغفلة أن يظن ظانٌّ أن رجلاً إنجليزياً يدير شيئاً من أمور هذه الإمبراطورية يجرؤ أن يتكلم من ذات نفسه بالنيابة عن حكومته ويوقعها في ورطة سياسية كهذه الورطة. إذن أفما كان أولى وأجمل وأكرم وأنبل وأشجع أن يوجه الاحتجاج رأساً إلى الذي أنطق هذا الرجل بما نطق به ون يقال لهذه الحكومة البريطانية (المفوضة) إنك أنت الملومة لا هذا الرجل! ولكن هكذا كان.
فما الذي سيكون غداً أيها الرجال المدافعون بأقلامكم وألسنتكم إذا جاءتكم لجنة الدفاع المشترك، وجاء البريطاني، ونطق لسانه بما لا تطيقه هذه الأمة ولا ترضى عنه؟ أتظنون أن موقف الرجال المصريين الذي سيختارون ليكونوا أعضاء في هذه اللجنة ممن تستطيع أن تعمل (معهم)، سوف يكون أكرم وأولى أو أشجع من موقف رئيس الوزراء السابق حيال تصريح حاكم السودان؟ ستكونون كما قلتم: هذا مطعنٌ في الضمير الوطني المصري. . . وكلاَّ؟ ليس هذا مطعناً، فإن الرجال الذين سيختارون هذه اللجنة سيكونون ممن (صنعوا على عين بريطانيا) منذ احتلت مصر في سنة 1882 إلى هذا اليوم. ولأن يقال أن هذا الذي تقول مطعنٌ خير من أن تلقى مصر كلها تحت أقدام بريطانيا وفي تنُّور حروبها،
لتكون دماء أبنائها فداء ً للدم البريطاني الطاهر المقدس.
أيتها العرب احذري. . . احذري هذا المصير الذي يرادُ لمصر لا قدر الله أن تصير إليه. ولئن كان هذا يومنا نحن، فغداً يومكم ليُعرض عليكم مثل الذي عُرض علينا، لتكون لكم (لجنة دفاع مشترك) كلجنتنا نحن، فاحذري أيتها العرب، ولا تقري بينك وبين بريطانيا معاهدةً أبداً، فإن بريطانيا تريد بجمعكم اليوم على مثل هذه المعاهدة، كالذي أرادته بكم جميعاً يوم وطئت أقدامها أرض مصر في سنة 1882، تريد أن تمزقكم بعد أن تكونوا وقوداً لنيران الحرب الثالثة.
أيتها العرب احذري. . . فإذا كنت نازلة في ميدان الحرب الثالثة فأنزليها حرة لتموتي حرة، ولكن لا تلقي بفلذات الأكباد في أتون الحرب المسعورة، ليكونوا هناك عبيداً ويموتوا عبيداً، كما تريد المعاهدات الإنجليزية بنا وبأبنائنا وبناتنا وأوطاننا.
أيتها العرب احذري. . . لقد لبثتْ إنجلترا لكم وعليكم وتنشئ أجيالاً من الخلق صاروا لها صنائعاً وأعواناً، أرادوا ذلك أم لم يريدوه، وعرفوه أو جهلوه، وعين إنجلترا بصيرة نافذة فعي تختارهم وتمهد لهم، وتحملها بسلطانها وبحيلتها وبتهديدها حتى ترفعهم إلى الذروة التي تجعلهم أهلا للمكانة في بلادهم، ثم لا تزال تعمل هنا وهناك بأنامل بصيرة قادرة متدسسة حتى يتم اختيارهم، فيتولوا هم زمام هذه الشعوب المسكينة، ثم تقول لهم كما قال الأول:
فعِثْ فيما يليك بغير قصدٍ
…
فإني عائثٌ فيما يليني
وإذا هؤلاء المساكين الذين ارتفعوا إلى غير أقدارهم ومنازلهم يكيدون لأممهم من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، وإذا سياسة الأمم الناهضة في أيد لا تُحسن إلا العيث والفساد، ومصائرها على ألسن لا تُحسن إلا التغرير والدهان والممالة.
أيتها العرب احذري. . . ودعي المفاوضة بينك وبين بريطانيا حتى ترد إليك كل حقوقك كاملة غير منقوصة ولا متهضَّمة، فإذا فعلتْ فانظري في مراشدك. أما إذا قال لك هؤلاء: وماذا تفعلين أيتها العرب إذا لم تفاوضي إنجلترا وتعاهديها؟ إذا ألقوا إليك هذا السؤال العاقل الحكيم الذي يفرض عليك أن تتركي نصيباً من الحرية من أجل كواذب الآمال والوعود، فأعلمي أن هذا التعاقل (الشديد) فسادٌ في الطبائع التي تلقيه عليك:
يرى الجبناءُ أن العجزَ عقلٌ
…
وتلك خديعةُ الطبع اللئيمِ
وأنتم أيها الكتاب العرب: هذه أمانة القلم تعرض اليوم عليكم، وهي أثقل الأمانات، فاحملوها بحقها أو دعوها بحقها، فإن الأيام أسرع مُضياً من البرق في حواشي الغمام. ومن حمل امانته فعليه أن ينذر قومه قبل أن يأتي يوم لا تغني فيه النُّذر، وقبل أن يأتي يوم لا يردّ فيه البكاء على فائت!.
محمود محمد شاكر
على هامش النقد
غفلة النقد في مصر
للأستاذ سيد قطب
في تقديري إن الضجة المفتعلة التي أثيرت حول ذلك الكتاب المريب، كتاب الشيخ عبد الله القصيمي، والتي أنزلق فيها بعض الكبار مخدوعين بما صوره لهم المؤلف من مخاوف تحيط به وبكل تفكير حر في المملكة السعودية، هذه المخاوف التي تدنيه من حبل المشنقة بسبب كتابه. . . إلى آخر ما أجاد المؤلف تمثيله من الأدوار. . .
في تقديري أن هذه الضجة وذلك الانزلاق فضيحة أدبية لمصر، وقد تؤخذ دليلاً على غفلة النقد فيها إلى حد مخجل.
ولقد قُدِّم إلىَّ هذا الكتاب، وأديرت على سمعي (الاسطوانة) التي أديرت على أسماع الكثيرين، وتأثرت ساعتها وتحمست؛ فحياة كاتب ليست بالشيء الهين؛ وإهدار هذه الحياة بسبب رأي أو فكرة مسألة لا يحتملها القرن العشرون فوق ما في الفكر الإسلامي من سماحة تبرئه إلى الجنوح بطريقة محاكم التفتيش.
ولكنني حين عدت فقرأت الكتاب بردت هذه الحماسة، وفتر ذلك التأثر؛ لأنني لم أجد إلا كاتباً مربياً، يتناول مسائل ميتة في الغالب، ومشاكل محلوله - حلها الزمن في البيئة الإسلامية منذ نصف قرن على الأقل - ويزيد عليها فكرة مسروقة بنصها وبجزيئاتها وبشواهدها من كاتب شاب يعيش وكتابه حديث الصدور لك يبعد به الزمن فينسى. . . ليتخذ من ذلك كله ستاراً طويلاً عريضاً يلف به دعوة غير نظيفة، للاستعمار والمستعمرين.
ولم أشعر أن الرجل في خطر، فأمثال هؤلاء يعرفون طريقهم جيداً - كما قلت في مرة؛ ولا خوف عليهم من الشنق ولا غيره. ولو كانوا يعرفون أن الشنق ينتظرهم حقاً، لما أقدموا على فعلتهم؛ لأن الحياة على كل حال أغلى من كل ثمن سواها قد يأتي به الكتاب!
ووجدت أنه من المهانة للفكر أن أنزلق فأكتب عن كتاب تافه مريب مسروق كهذا الكتاب، يسلك صاحبه هذا الأسلوب في الاحتيال لبعث الاهتمام به، وإثارة الضجة حوله؛ كما أنه يثبت على غلافه شهادة من نفسه لنفسه، هذه الجملة المتبجحة: (سيقول مؤرخو الفكر: إنه
بهذا الكتاب بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل)!
ثم ما أشعر إلا وضجة عجيبة يثيرها بعضهم حوله. وهنا فقط وجدت أن لا بد من كشف الستار. فهي فضيحة. وفضيحة لمصر خاصة، أن تبلغ غفلة النقد فيها هذا المستوى العجيب!
لكي ننقد كتاباً يعالج مشكلات اجتماعية ونفسية وإنسانية يجب أن نسأل هذه الأسئلة الثلاثة:
1 -
هل يعالج الكتاب مشكلات حية تعيش في هذا الأوان؟
2 -
هل نفذ إلى صميم هذه المشكلات، وصورها التصوير الصحيح، وأقترح لها الحلول المناسبة.
3 -
هل كان أصيلاً في تصويرها وعلاجها؟
وقد سألت نفسي هذه الأسئلة، وكان الجواب باختصار:
1 -
إن المؤلف (دون كيشوت) جديد يطعن برمحه طواحين الهواء يحسبها فرساناً، ويشق بها زقاق الخمر يحسبها قساوسة! ويحمل حملات شعواء على أولئك الذين يمدحون الجهل ويذمون العلم، ويقررون أن الجنة لا يدخلها إلا البله، ويؤمنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما بعثت بخراب العالم. . .
ولكنه لا يقول: إن هذا كله كان من أوهام العوام، كان خرافات سوداء في عهود الظلام، ثم انتهت بانتهاء هذه العهود المظلمة. . . لا يقول هذا، إنما يتهم العقلية الإسلامية بأن هذه هي أهم مشكلاتها وعقائدها دائماً أبداً ليصل من هذا الطريق الملتوي إلى تحقير هذه العقلية في جميع الأزمان، وإلى إيثار العقلية الأوربية لأنها خلعت ربقة الدين، وربقة الخلق، وربقة التطلع إلى الله، وانطلقت تهدف إلى الأرض وحدها، ولا تعلق نظرها مرة واحدة بالسماء. لأن التطلع إلى الله كفيل بإفساد الحياة!
وفي ثنايا هذا الذي يبدو تحرراً فكرياً في ظاهره، يخدع المخدوعين ممن يحسبون التحرر الفكري مجرد التحلل من الأديان والأخلاق على أي وضع من الأوضاع، في ثنايا هذا يدس ما لعل الكتاب كله ألف لأجله: يدس الإيحاء للشرق العربي المسلم بأن لا حق له في كراهية الاستعمار والمستعمرين، لأنهم ورثة الأرض الذين يستحقون كنوزها وخيراتها، لأنهم يتطلعون إلى الأرض وأسبابها، ولا يعلقون أنظارهم بالله ولا بالسماء!
وهناك مسألة أو مسألتان حيتان في الكتاب، ولا تزالان تعيشان لأنهما إنسانيتان: مشكلة الإيمان بالإنسان، ومشكلة الإيمان بالأديان.
فأما الأولى فهي قضية الأستاذ عبد المنعم خلاف في كتابه (أومن بالإنسان). وقد شغلت من كتاب (هذي هي الأغلال) نحو أربعين صفحة أولاً، وتغلغلت في ثنايا الكتاب كله أخيراً.
وأما المشكلة الثانية فقد عولجت بسلسلة من المغالطات والأغلاط تتلخص في أن روح التدين تخالف روح الحياة، وأن المتدين لا يمكن أن يكون رجل دنيا. . . وهذا المنطق لا يستحق الاحترام لأن الشواهد الواقعة تنفيه، ولأن الدين روح حافز للعمل ولا سيما في الإسلام الذي يصب عليه المؤلف جميع أوزار التأخر والانحطاط وإن عاد فالتوي ونفي عن الدين ذاته هذه الأوزار في نفاق ظاهر يستحق الاشمئزاز دائماً، ولا يثير الاحترام.
2 -
ولعل الجواب عن السؤال الثاني يكون قد اتضح من الجواب على السؤال الأول؛ فالنفاذ إلى صميم المشكلات يستدعي قسطاً من الاستقامة والإخلاص. وهذان العنصران مفتقدان في الكتاب كله.
فهو مثلاً يتلخص في سماتِ التفكير الإسلامي من أوهام العامة وخرافاتهم، ومن أقوال لبعض المتصوفة وأمثالهم، بدل أن يستخلصها من مجموعة المفكرين والمشرعين والفاتحين والعاملين في التاريخ الإسلامي الطويل. فالحضارة الإسلامية كلها وعمارة الأرض وسياستها في جميع العصور ليست داخلة في حساب المؤلف، وليست دليلاً على شيء من خصائص العقلية الإسلامية. إنما الذي يصور هذه العقلية وحده دون سواء. أقوال كهذه الأبيات:
من أنت يا أرسطو ومن
…
أفلاط قبلك قد تجرد
ما أن تنمو لا الفراش
…
رأى السراج وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه
…
ولو اهتدى رشداً لأبعد
وكلمات للمتصوفة والزهاد يذمون الدنيا والعلم والعقل، ويمدحون الزهد والبلاهة والغيبوبة.
أولئك هم جميع المسلمين في نظر المؤلف، وهذه هي عقليتها الإسلامية التي يجرد قلمه لينسفها نسفاً، فيقف جماعة من نقاد مصر يعجبون بهذا القلم القوي البتار!!!
وبمثل هذا الالتواء المريب يواجه مسألة التدين ومسألة الأخلاق، ومسألة الأرض والسماء،
فلا ينفذ إلى صميم مشكلة واحدة، لأن عنصري الاستقامة والإخلاص لا يتوفران.
3 -
أما الجواب عن السؤال الثالث فهو فضيحة الفضائح فما عهدت أن يعمد مؤلف إلى مؤلف حي، فيقبض فصولاً كاملة من كتابه قبضاً، ويمهرها بتوقيعه ويطلع بها على الناس.
جرأة نادرة. ولكنها جازت على النقد في مصر!
لقد كنت - وما زلت - أفهم، أن الناقد قارئ متتبع لسير الفكر. فهذا هو الشرط الأول للناقد كيما يستطيع أن يؤرخ خطوات الفكر، ويعرف من السابق ومن اللاحق.
وأنه يتحرج أشد التحرج من إصدار حكم بالسبق والأهمية، إذا لم يكن قد أطلع على كل ما سبقه أو جله، لأنه مسئول عن تقرير أحكامه للضمير وللتاريخ وللقراء.
فما بال كتاب صدر منذ عهد قريب، ونشر قبل ذلك فصولاً في مجلتين مقروءتين، ثم يجيء كاتب، فيهجم هجوماً بشعاً على فكرته، وطريقة عرضها، وبراهينها وأدلتها، ثم لا يجد ناقداً يقول له: مكانك فهذا استغفال!
لقد عملها الرجل، ولم يجد من يقول له هذه الكلمة في مصر إلا بعد حين!
لقد عملها وهو يتحدى: (سيقول مؤرخو الفكر إنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل)!
ترى كان الرجل يتوقع هذه الغفلة، أم قد نزع عن نفسه (الأغلال) لم يكن يبالي وقد صدّفت الأيام ظنه أو تكاد!
إن في مصر غفلة نقد منشؤها أن كثيراً من الكبار الذين كانوا يتولون حركة النقد لم يعودا يقرءون. وإذا قرءوا لم يقرءوا للشبان، استصغاراً منهم لما ينشئ أولئك الشبان.
وهم أحرار في هذا، ولا يستطيع أحد أن يجبرهم على قراءة معينة. فهم في دور الكهلة والشيخوخة كثيرو المتاعب، ولأنفسهم عليهم حق، ولهم أن يقضوا أوقاتهم في لذائذهم الحسية والفكرية حسبما يشتهون. فإن من حقهم أن ينالوا الراحة والحرية بعد الجهاد الطويل.
ولكن عليهم مقابل الراحة والحرية ألا يتعرضوا للنقد، فيصدروا فيه الأحكام إلا بعد تتبع لحركة الفكر في كل كتاب يصدر في الفن الذي يريدون نقده، وإصدار حكم عليه، فذلك هو واجب الضمير الأدبي في أضيق الحدود.
إن القراء يثقون بهم إلى حد، وهذه الثقة تدعو إلى ترحي الدقة، فلا يفتنون بغير علم، أو بعلم ناقص، فتلك تبعة ثقيلة على الرقاب.
وأنا واثق أن بعض الذين كتبوا عن كتاب الأغلال، ما كانوا ليكتبوا لو أنهم أولاً قرءوا الكتاب كله ولم يكتفوا بتصفح بعض فصوله، ثم لو أنهم ثانياً كانوا قد قرءوا كتاب الأستاذ عبد المنعم خلاف، مهما تكن حيلة الرجل بارعة ومهارته في الدعاية قوية.
وقبل أن أنهي هذه الكلمة أوجه إلى فريق آخر من المتزمتين لم يقابلوا الكتاب هذه المقابلة، بل ثاروا عليه وناهضوه وشغلوا أنفسهم بالاحتجاج عليه. وقيل لي: إن بعضهم أخذ يؤلف كتباً في الرد عليه.
هؤلاء يشاركون - من غير قصد - في الضجة المفتعلة التي يثيرها الرجل حول كتابه وحول نفسه.
هونوا على أنفسكم، فالدنيا بخير!
لقد ترددت مرة ومرة في أن أكتب عن هذا الكتاب التافه المريب؛ لأن كل ضجة حوله تبلغ الغاية التي أرادها له صاحبه ومن يهمهم نشر مثل هذه الكتب في اشرق العربي الناهض لمجاهدة الاستعمار.
ولقد كان رجال الإرساليات التبشيرية في الشرق يتعمدون إثارة الضجيج حول حوادثهم في مصر منذ سنوات، في خطف بعض الفتيات والفتيان، ليبرهنوا للجمعيات التي أرسلتهم أنهم ذوو خطر، وأن لحركاتهم في دار الإسلام صدى.
أقول كانوا يتعمدون إثارة الخواطر، بافتضاح الحوادث ليبلغوا هذه الغاية، وصاحبنا في طرائقه ليس ببعيد عن هؤلاء.
فلا تبلغوه غايته من وراء الضجيج والصياح! إنكم أناس طيبون أيها المتزمتون. فلا عليكم من الكتاب والكاتب.
ضجة فارغة حول كتاب مريب أمطرتنا دور الدعاية بعشرات مثله في أيام الحرب. دعوه ليموت فأنه ميت، ولن تنفخ فيه الحياة ضجة مفتعلة منشؤها الخداع والإيهام.
ولولا أن أنفي عن النقد في مصر تهمة الغفلة ما كتبت هذه الكلمات.
سيد قطب
صور من العصر العباسي:
أطباء الخلفاء العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
كان أهل جنديسابور يعنون بالطب. وكان لهم حذق بهذه الصناعة وعلم من زمن الأكاسرة. ذلك أن سابور لما تزوج إبنة القيصر فيليبس بعد افتتاحه أنطاكية بنى لها مدينة على شكل قسطنطينية، وهي مدينة جنديسابور ونقلها إليها، فأنتقل معها من كل صنف من أهل بلدها ممن هي محتاجة إليه، ومنهم أطباء أفاضل. فلما أقاموا فيها، بدءوا يعلمون أحداثاً من أهلها، ولم يزل أمرهم يقوى في العلم، ويتزايدون فيه، ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم، حتى برزوا في الفضائل، وصار أناساً يفضلون طريقتهم على اليونانيين والهند، لأنهم أخذوا فضائل كل فرقة فزادوا عليها بما استخرجوه من قبل نفوسهم، فرتبوا لهم دساتير وقوانين وكتباً جمعوا فيها كل حسنة. ولم يزالوا كذلك حتى جاءت الدولة العباسية، فأصبح أهل جنديسابور أطباء للخلافة والخلفاء ما عدا قلائل منهم.
وقد كان هؤلاء الأطباء من أهل جنديسابور ينالون منزلة كبرى من كل مكان. وكان وجودهم في بلد ما سبباً لكساد الأطباء الآخرين. وقد ذكر الجاحظ عن أسد بن جاني الطبيب البغدادي أنه أكسد مرة. فقال له قائل: السنة أوبئة والأمراض فاشية، وأنت عالم، ولك صبر وخدمة، ولك بيان ومعرفة. فمن أين تؤتى في هذا الكساد؟ قال: أما (واحدة) فإني عندهم مسلم، وقد أعتقد القوم قبل أن أطبب، لا بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطب. واسمي (ثانية) أسد. وكان ينبغي أن أكون صليباً ومرايل ويوحنا. . . وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون (أبو عيسى)(وأبو زكريا). . . وعلى رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون رداء حرير أسود. (وأخيراً) لفظي لفظ عربي، وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جنديسابور.
والحق أن الخلفاء حفلوا بهؤلاء الأطباء. وكانت أسرة بختيشوع ذات مكانة كبرى عندهم، ومنها كان أطباؤهم ووزراؤهم ومنها كان أيضاً الأطباء المحترفون، وأطباء البيمارستانات،
ومعلمو الطب والفلسفة.
أول من تقدر بإحضار رأس هذه الأسرة إلى بغداد، هو المنصور. فانه لما بنى مدينة السلام بغداد سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة وكان كلما عالجه الأطباء ازداد مرضه، فتقدم إلى الربيع بجمعهم، فلما اجتمعوا قال لهم المنصور: أريد من الأطباء في سائر المدن، طبيباً ماهراً. فقالوا: ما في عصرنا أفضل من جورجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور؛ فهو ماهر في الطب. فأمر المنصور بإحضاره، فأنفذه العامل بجنديسابور إلى حضرة الخلافة بعد ما امتنع عن الخروج، ووصى ولده بختيشوع بالبيمارستان وأموره التي تتعلق به هناك. واستحصب معه تلميذيه إبراهيم وعيسى. فلما وصل إلى مدينة السلام أمر المنصور بإحضاره. فلما أحضر دعا للمنصور بالفارسية والعربية. فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره، وأمره بالجلوس، وسأله عن أشياء أجابه عنها بسكون. فقال: قد ظفرت منك يا جورجيس بما كنت أطلب. وخبره بابتداء علته، وكيف جرى أمره منذ ابتداء مرضه. فداواه حتى برئ وعاد إلى الصحة فأنزل في أجمل موضع من دوره، وأمر أن يجاب إلى كل ما يسأل. وأهدى إليه ثلاث جوار روميات حسان مع ثلاثة آلاف دينار. فأنكر جورجيس أمرهن وقال لتلميذه عيسى: يا تلميذ الشيطان! لم أدخلت هؤلاء إلى منزلي؟ ردهن إلى أصحابهن. فأعادهن. فسأله المنصور لم رددت الجواري؟ قال: لا يجوز أن يكون مثل هؤلاء في منزلي لأنا معشر النصارى لا نتزوج أكثر من امرأة واحدة، فما دامت المرأة حية فلا نأخذ غيرها، فحسن موقع هذا من الخليفة، وأمر في الوقت أن يدخل جورجيس إلى حظاياه وحرمه بلا إذن، وزاد موضعه عنده.
وظل جورجيس يخدم المنصور حتى مرض سنة اثنتين وخمسين ومائة مرضاً صعباً. وكان المنصور يرسل إليه في كل يوم يتعرف خبره. فلما أشتد مرضه أمر بحمله على سرير إلى دار العامة وخرج ماشياً إليه وتعرف خبره وسأله عن حاله. فخبره جورجيس بها، وقال له: أن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في الانصراف إلى بلدي لأنظر أهلي وولدي؛ فإن مت قبرت مع آبائي. قال له: يا جورجيس اتق الله وأسلم؛ وأنا أضمن لك الجنة. قال جورجيس: قد رضيت حيث آبائي؛ في الجنة أو النار. ثم خلف بين يدي
المنصور تلميذه عيسى، ومضى إلى جنديسابور ومعه عشرة آلاف دينار وخادم، فوصلها حياً.
وحل عيسى محل جورجيس. فأخذ يبسط يده في التشارر والأذية، خاصة على الأساقفة والمطارنة، ومطالبتهم بالرشى وأخذ أموالهم. وكان فيه شرارة وطمع فلما خرج المنصور في بعض سفراته ووصل إلى قرب (نصيبين) كتب عيسى إلى مطران نصيبين يتهدده ويتوعده إن منع عنه ما ألتمسه. وكان عيسى قد ألتمس أن ينفذ له من آلات البيعة أشياء جليلة ثمينة لها قدر، وكتب في كتابه: أليس تعلم أن أمر الملك في يدي، إن أردت أمرضته، وإن أردت شفيته. فأحتال المطران في التوصل إلى الربيع وشرح له صورة الحال وأقرأه الكتاب، فأوصله الربيع إلى الخليفة، فأمر المنصور بأخذ جميع ما يملكه عيسى، وتأديبه، ونفيه ففعل به ذلك.
ثم أن المنصور سأل عن جورجيس ليؤتى به. فأمتنع لضعفه وأنفذ إلى الخليفة تلميذه إبراهيم. فقربه المنصور وأكرمه وخلع عليه، ووهب له مالاً، واستخلصه لخدمته. ولم يزل في الخدمة إلى أن مات المنصور.
وكان أبو قريش طبيب المهدي. وكان يعرف بعيسى الصيدلاني، ولم يكن طبيباً، وإنما كان صيدلانياً ضعيف الحال جداً، فتشكت حظية للمهدي ذات يوم، وتقدمت إلى جاريتها بأن تخرج القارورة إلى طبيب غريب لا يعرفها. وكان أبو قريش بالقرب من قصر المهدي. فلما وقع نظر الجارية عليه أرته القارورة، فقال لها: لمن هذا الماء؟ فقالت: لامرأة ضعيفة. قال: بل لملكة عظيمة الشأن، وهي حبلى بملك! وكان هذا القول منه على سبيل الرزق. فانصرفت الجارية من عنده وأخبرت الحظية بما سمعته منه، ففرحت فرحاً شديداً، وقالت ينبغي أن تضعي علامة على دكانه حتى إذا صح قوله اتخذناه طبيباً لنا. وبعد مدة ظهر الحبل، وفرح به المهدي فرحاً شديداً؛ فأنفذت الحظية إلى أبي قريش خلعتين فاخرتين وثلاثمائة دينار. وقالت: استعن بهذا على أمرك، فإن صح ما قلته اصطحبناك. فعجب أبو قريش من ذلك وقال: هذا من عند الله، لأنني ما قلته للجارية إلا وقد كان هاجساً من غير أصل. ولما ولدت الحظية، وهي الخيزران، موسى الهادي، سُرّ المهدي به سروراً عظيماً. وحدثته جاريته بالحديث، فاستدعى أبا قريش وخاطبه، فلم يجد عنده علماً بالصناعة، إلا
شيئاً يسيراً من علم الصيدلة. إلا أنه أتخذه طبيباً لما جرى منه واستخصه وأكرمه غاية غاية الإكرام وحظي عنده، وخاصة عندما علم أنه عنّين.
واستبقاه الهادي، وظل مكرماً عنده. وعندما مرض الهادي جمع الأطباء. وكان فيهم أبو قريش، فقال لهم: أنتم تأكلون أموالي وجوائزي وفي وقت الشدة تتغافلون عني. فقال له أبو قريش: علينا الاجتهاد، والله يهب السلامة.
ثم استدعى له بختيشوع بن جورجيس من جنديسابور، فداواه وشفى. ثم كادت له الخيزران فاعاده المهدي إلى جنديسابور.
وكان ممن حظي عند الهادي الطيفوري المتطبب، وكان حاذقاً، وكان متطبب ومربيه في رضاعه وطفولته وكبره. وهو جد إسرائيل بن زكريا الطيفوري طبيب الفتح بن خاقان.
أما الرشيد، فقد أعاد بختيشوع؛ فقد مرض سنة 171هـ. من صداع لحقه، فقال ليحيى بن خالد: هؤلاء الأطباء ليسوا يفهمون شيئاً. فقال له يحيى: لما مرض أخوك الهادي، أرسلوا إلى جنديسابور فأحضروا رجلاً يُعرف ببختيشوع. فقال الرشيد: كيف أعاده وتركه؟ قال لما رأى والدتك، والطبيب عيسى أبا قريش يحسدانه، أذن له بالانصراف إلى بلده، فأمر الرشيد بحمله. فورد بختيشوع ودخل على الرشيد فداواه. وأكرمه الرشيد وخلع عليه خلعة سنية. ووهب له مالاً وافراً، وقال له: تكون رئيس الأطباء، ولك يسمعون ويطيعون.
ثم حل جبرائيل بن بختيشوع عند الرشيد محل أبيه. وقد خص بادئ أمره بجعفر بن يحيى؛ وذلك أن جعفر هذا مرض، فتقدم الرشيد إلى بختيشوع بن جورجيس بأن يخدمه. وكان من أدب الطبيب إذا كان خاصاً بالملك أن لا يخدم أحداً من أصحابه إلا بأمره، ولما أفاق جعفر من مرضه قال لبختيشوع: أريد أن تختار لي طبيباً ماهراً أكرمه وأحسن إليه. قال له بختيشوع: لست أعرف في هؤلاء أحذق من أبني جبرائيل وهو من أمهر مَنْ في الصناعة. فقال: أحضرنيه. فلما أحضره شكا إليه مرضاً كان يُخفيه، فدبره في مدة ثلاثة أيام وبرأ. فأحبه جعفر مثل نفسه وصيره رئيس الأطباء، وكان لا يصبر عنه ساعة، ومعه يأكل ويشرب.
وقد أتصل جبرائيل بالرشيد بسبب حظية له. فقد كان للرشيد حظية فُتن بها، تمطت ذات يوم ورفعت يدها، فبقت منبسطة لا يمكنها ردها. والأطباء يعالجونها بالتمريخ والأدهان ولا
ينفع ذلك شيئاً. فقال الرشيد لجعفر بن يحيى: قد بقيت هذه الصبية بعلتها. قال له جعفر: لي طبيب ماهر، وهو ابن بختيشوع تدعوه وتخاطبه في معنى هذا المرض، فلعل عنده حيلة في علاجه. فأمر بإحضاره. ولما حضر قال له الرشيد: ما اسمك؟ قال: جبرئيل. قال: أي شيء تعرف من الطب؟ قال: أبرّد الحار، وأسخن البارد، وأرطب اليابس وأجفف الرطب. فضحك الرشيد وسر. وشرح له حال الصبية. فقال جبرئيل: إن لم يسخط علي أمير المؤمنين فلها عندي حيلة. قال له الرشيد: ما هي؟ قال: تخرج الجارية إلى هنا بحضرة الجمع حتى أعمل ما أريده، وتمهل علي ولا تعجل بالسخط، فأمر الرشيد بإحضار الجارية، فخرجت، وحين رآها جبرئيل أسرع إليها ونكس رأسه، وأمسك ذيلها كأنه يريد أن يكشفها، فانزعجت الجارية، ومن شدة الانزعاج والحياء استرسلت أعضاؤها، وبسطت يدها إلى أسفل وأمسكت ذيلها. فقال جبرئيل: قد برأت يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد للجارية: ابسطي يدك يمنة ويسر، ففعلت، فعجب الرشيد وكل من كان حاضراً، وأمر لجبرئيل في الوقت بخمسمائة ألف درهم، وأحبه، وجعله رئيساً على جميع الأطباء.
وكان محله يقوى ويعلو، حتى أن الرشيد قال لأصحابه: كل من كانت له حاجة إلى فليخاطب فيها جبرئيل، لأني أفعل كل ما يسألنه ويطلبه مني. فكان القواد يقصدونه في كل أمورهم. ومنذ يوم خدم الرشيد إلى أن انفضت خمس عشرة سنة لم يمرض الرشيد، فحظي عنده حظوة كبرى.
ونستطيع أن نعلم حال هذا الطبيب وأبوه وجده من كلمة له قالها لإبراهيم بن المهدي: (إن عيش جبرئيل، وبختيشوع ابيه، وجورجيس جده، لم يكن من الخلفاء، وإنما كان من الخلفاء، وولاة العهد، واخوة الخلفاء، وعمومتها، وقرابتها، ووجوه مواليها، وقوادها. وولى أبوان خدما الخلفاء وافضلوا عليهما، وأفضل عليهما غيرهم ممن هو دونهم. وقد أفضل علي الخلفاء، ورفعوني من حد الطب إلى المعاشرة والمسامرة، وليس لأمير المؤمنين أخ ولا قرابة، ولا قائد ولا عامل إلا وهو يداريني إن لم يكن مائلاً بمحبته وشاكراً لي، على علاج عالجته به، ومحضر جميل حضرته له، ووصفته وصفاً حسناً عند الخليفة فنفعه).
صلاح الدين المنجد
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
- 4 -
مع الأدباء العلميين
تحدثت في آخر فصل وقفت عنده (من هذا البحث) عن عالم فلسطين الرياضي الأستاذ قدري حافظ طوفان، ولم أبلغ نهاية التعريف بآثره، لضيق في المجال الذي أعددته (يومذاك) ولذا فإنني أقف اليوم بالقارئ الكريم (وقفة يسيرة)، عند أثر قيم من آثره، وهو كتابه (تراث العرب العلمي) في الرياضيات والفلك. ولعلنا نقدر مبلغ عنايته باخراجه، حين نسمعه يقول في مقدمته:
(شغلت نفسي بهذا الكتاب أكثر من عشر سنين، وهو خلاصة بحث مرهق ودراسات مضنية، اعتمدت فيها على مظان عديدة قديمة وحديثة، عربية وإفرنجية، ومخطوطات نفيسة حصلت عليها بمساعدة بعض الأصدقاء، من القاهرة وطنجة وتطوان والقدس. . .).
وقد جعل الأستاذ (طوقان) كتابه في قسمين، الأول منهما يحتوي على سبعة فصول، ستة منها تبحث في الرياضيات قبل الإسلام، ومآثر العرب في الحساب والجبر، والهندسة والمثلثات والفلك. والسابع يتناول الرياضيات في (الشعر العربي) وهو فصل طريف لعله الأول من نوعه، أحصى فيه ما قاله شعراء العربية في الجاهلية والإسلام من الشعر الرياضي. فأورد شعر (زرقاء اليمامة) في سرب من الحمام، أبصرته فأحصته عدداً فقالت:
ليت الحمام لِيَهْ
…
ونصفه قدِيَهْ
إلى حمامتَيهْ
…
صار الحمام ميَهْ
وهي مسألة حسابية معقدة (كما ترى)، بسطتها (حذام معجزة الدهر في قوة الأبصار بقالبٍ شعري لطيف.
كما أورد في ذلك الفصل أيضاً، قول الشاعر الرياضي المرح الإمام أبي القاسم البديع الأسطر لأبى حين يتغزل فيقول:
وذي (هيئة) يزهو بخال
…
أموت فيه في كل حين وأبعث
(محيط) بأوصاف الملاحة وجهه
…
كأن به (اقليدس) يتحدث
فعارضه (خط استواء) وخاله
…
به (نقطة) والخد (شكل مثلث)
وقد استلفت نظري (هنالك) أرجوزة (ابن الياسمين) التي جمع فيها بين الأدب والرياضيات، فعرف علم الحساب والجبر وشرحهما ومثل عليهما شعراً. ومن ذلك قوله في تعريف الجبر:
على ثلاثة يدور الجبرُ:
…
(المال) و (الأعداد) ثم (الجذر)
ف (المال): كل عدد مربع
…
و (جذره): واحد تلك الأضلع
و (العدد المطلق): ما لم ينسب
…
للمال أو للجذر. فافهم تصب
و (الجذر) و (الشيء) بمعنى واحد
…
كالقول في لفظ أب ووالد. . .
ثم يمثل عليه في (حل المعادلة) كان قد سلف ذكرها في أقسام المعادلات فيقول:
ف (ربع) النصف من (الأشياء)
…
واحمل على (الأعداد) باعتناء
وخذ - من الذي تناهى - (جذره)
…
ثم انقص (التنصيف) تفهم سره
ويحصى (الأستاذ طوقان) شعراً ما أعذبه وأطلَّه، كثيراً ما تمثلت به لطلابي (في دروس البلاغة)، دون أن أنتبه لما فيه من البراعة في استخدام الألفاظ، مما استنبطه الأستاذ من معانيها في الرياضيات والفلك.
وأما القسم من الكتاب فيحتوي تسعة فصول، يسرد فيها سير العظماء من الرياضيين والفلكيين، وإنتاجهم العلمي، ومؤلفاتهم وانتقالها إلى أوربة، وأثرها في تقدم العلوم فيما بعد.
وتتجلى في الأستاذ روح العالم العامل بعلمه، حين يقول لك: إنه توخى في هذا الكتاب (الإخلاص للحق والحقيقة وإنصاف حضارة العرب، والكشف عن أمجادهم الفكرية في الرياضيات والفلك. . .).
وما دمت في صدد العلم (حين ينسلك في نطاق الأدب)، فلا بأس من أن أذكر (علماء متأدبين) آخرين ساروا في هذا السبيل، فقطعوا فيه شوطاً محموداً، وألفوا فيه ما لا يتيسر من غير جهد، ولا يبلغ بعد هذا الشأو من الجودة إلا نضوج مكتمل.
وبين يدي (أشتات أنباء) عن ثلاثة من هؤلاء (العلماء) وكلهم مارس صناعة التعليم عمراً
من عمره، وربما كان لذلك أثر بين في بعض إنتاجهم، وبعض وجهات نظرهم. وأول هؤلاء الثلاثة:
الأستاذ محمد أديب العامري. وقد كان إلى أمد (ليس بعيداً) مديراً لكلية السلط، وكانت له في ذلك العمل تجارب كثيرة، فألفى (بوحي منها) كتباً لتدريس العلوم الطبيعية، في صفوف مختلفة من مراحل التعليم، طبع بعضاً منها والبعض الآخر في أثره.
وتتألف هذه السلسلة منقسمين، الأول منها (مبادئ حفظ الصحة) للمراحل الابتدائية المتوسطة، الثاني (مبادئ العلوم) وينقسم إلى أجزاء تزامل الطالب حتى تبلغ به المرحلة الثانوية. وترتكز هذه الكتب (في سائر أجزاءها)، على أسلوب محدث وطريقة مبتكرة، يراعي فيها الانتقال من التدرج في الوصف، إلى التعريف والتحديد فالاستقراء والاستنباط.
كما ألف كتابه (فصائل النباتات الشهيرة) للمراحل الثانوية العالية، وصرف في إعداد مجهود (أعوام ثلاثة) في البحث والدرس، والاقتباس عن أشكال الطبيعة مباشرة، وهذا الكتاب وحيد في أسلوبه وطريقة تنسيقه: يشتمل على ما يفتقر إليه الطالب العربي من أركان هذا العلم، وسائر تفصيلاته.
كما ترجم بوحي من ذلك العمل (أيضاً)، كتاب (الكيمياء العملية) للدكتور رئيس دائرة الكيمياء في الجامعة الأمريكية. فأكمل بذلك جانباً كبيراً من النقص الذي يفتقر إليه الطالب العربي في هذا الباب. . .
وله فيما عدا ذلك إنتاج آخر، يدفعه إليه ميله (السياسي الاجتماعي)، وهذا الميل متأصل في نفسه - رغم تخصصه الجامعي في دراسة علم الحياة - وطالما استحوذ عليه، فإذا هو متسرب في مسالكه، منساق إلى أهدافه، متطلع إلى مراميه. . .
وهو إبان هذا الاستسلام المطلق، يكتب في (القصة) آناً، ويكتب في (فلسفة الحياة آناً آخر. وحين أعرفه لك في الحال الأول، أقفك عند كتابه (شعاع النور)، لكي تستعرض معي (متمهلاً) هذه الفقرة في مقدمتها إذ يقول فيها:(. . . إن هنالك شعاعاً من النور ينتظم سيرة الحياة، وهذا الشعاع ذاته هو الذي يومض في نفوس هؤلاء الناس، الذين أقدمهم إليك وأصلهم بك، ولولا هذا الوميض الذي يستمد نوره وحرارته من طبيعة الحياة، الحياة الخالدة المتسامية، لما كان سبيل هؤلاء الناس إلا أن يتلاشوا في العدم، ولكنهم لا يتلاشون. . .).
وأما قصص هؤلاء الناس (الذين يصلهم بك) فأنه - يا أخي القارئ - ليست من هذا الطراز الذي ألفنا قراءته وتكراره، ولكنها ضرب جديد من القصص، (جديد إلى أبعد ما في خيالك من تصور للجديد)، ما رأيت من مثلها فأقربها إليك تشبيهاً، ولكنني أصفها. وأين الخبَرُ من الخُبْر؟!:
إنك لو وقفت حيال هذه القصص، لألفيتها قائمة على التحليل النفسي للطبيعة البشرية، وعلى تصوير الانفعالات المستندة إلى العوامل الموروثة، التي تمثل النوازع الإنسانية العميقة تمثيلاً صادقاً. وهو في خلال ذلك كله يستهدف الإصلاح الاجتماعي، شاملاً من جميع نواحيه.
وله في هذا الباب قصة أخرى عنوانها (سليم أفندي)، وهي تحليل شامل لما يعترض النفس الإنسانية من اضطراب وقلق، ولما يؤدي إليه مركب النقص من تصرفات وأوضاع، والقصة في إجمالها وتفصيلها تنحصر في دائرة القصة السالفة من جميع نواحيها.
وحين أعرف لك الأستاذ العامري في الحال الثاني (أي حين يكتب في فلسفة الحياة)، أقفك كذلك عند كتابه (نحو الحياة). وهذا الكتاب سرد من التفاؤل المطلق، مرتكز على المحاكمة والاستقراء، وقائم على منطق التدرج. فهو يرى فيه أن طبيعة الحياة إيجابية، وأنها تتقدم من تلقاء نفسها باطراد إلى الأمام، وأن مستقبل البشرية إلى خير، على الرغم مما يبدو في جوها - وما بدا إلى الآن - من اكفهرار واضطراب. وإليك نمطاً يبين الأسلوب الذي يلتزمه في مثل هذا الحال، وذلك حين يقول:
(. . . طبيعة الإنسان نفسها تأبى الردة، الإنسان والحيوان والنبات، هذه الأحياء كلها تبحث عن الجمال والقوة. والحياة تنتج باستمرار أجيالاً أقوى وأجمل. فلو يركَّب في الناس ذوق (مثل حب القبح)، ولو كان (الظلم) هو ما تهواه الطبيعة البشرية في قراراتها، لفكرت أن الحياة يمكن أن تتأخر!!.
الناس اليوم أطول أعماراً من آبائهم الأولين، والناس اليوم أكثر إحساساً بالكرامة. وأرفع مستوى في العيش مما كانوا من قبل. وتوزيع الثروة (وإن يكن اليوم منطوياً على إجحاف) أكثر انتشاراً منه فيما مضى من قريب. والمظلوم اليوم أجرأ وأرفع صوتاً في المطالبة بحق. وحالتنا الحاضرة - في بعض البلاد الراقية - خير من بعض صور (المدينة
الفاضلة) كما رآها بعض المفكرين.
فإلى أي غاية ترمي هذه النزعات الظاهرة، الخالصة الصادقة التي لا تكبح؟!. .).
وما يزال بين يدي الأستاذ مواضيع مختلفة، ينصرف لمعالجتها والتفرغ لدرسها، على الرغم بالمسئولية التي يضطلع بحملها في (دار الإذاعة الفلسطينية) في القدس، ولقد كتب في الرسالة الغراء وغيرها، ودراسات كثيرة، في العلوم والآداب والأبحاث النفسية، التي يميل فيها إلى المذهب التحليلي على طريقة (ادلر).
وله مجموعة مقالات - مما أذاع به أو ألقاه في الألدية كلها تحوم حول الأهداف التي أسلفت الإشارة إليها، وهي تقع في كتاب ضخم جاهز للطبع.
وأما الباحثان الآخران، فقد ألف حدهما بوحي (من عمله التدريسي أيضاً) كتباً علمية لمراحل الدراسة الثانوية، ثم انطلق على سجيته بعد ذلك فإذا هو يكتب في الأدب حيناً، فيؤلف فيه أشتاتاً من الأقاصيص، وألواناً من الدراسات. يعالج فيها جميعاً كثيراً من المشاكل الإنسانية المعقدة، والأدواء الاجتماعية المستعصية. ثم إذا هو (حيناً آخر) يكتب في الفلسفة العلمية ويحلق في أجوائها، فينتهي من ذلك بمجموعة من الكتب القيمة، كل واحد منها يتوجه في سبيل، وينتهي إلى غاية، ثم تأتلف أخيراً لتتحد في ثناياها صورة مشرقة من صور (الأدب العلمي).
وأما الثاني فقد ألف كذلك (بوحي من عمله التدريسي)، ولكنه حالف سابقيه فيما ألف، فخرج من محيط المدرسة إلى محيط الجمهور، وهو محيط أشمل وأعم. سرعان ما يثمر التعليم فيه ويؤتى أُكُله. ثم إذا هو يصنع له من العلم (الحاف المعقد) مادة هينة لينة، رقيقة الحواشي مهلهلة الأطراف، هي على حد قول الإمام الثعلبي:
(يكاد الهواء يسرقها لطفاً، والهوى يعشقها ظرفاً. .)
ويكون من هذه المادة كتاباً لطيف الحجم عظيم النفع، ما يكاد يخرج إلى (هذا الجمهور)، حتى تتخطفه الأيدي، وينتشر في كل مكان، ويقبل الناس عليه أيما إقبال.
ويلمس هذا الباحث مقدار نجاحه، فيمضي في طريقه قدماً، فإذا هو يعيد الكرة من غير ما تريث، ويفاجئ الناس بثاني كتبه، ليظفر بما يترقبه من نجاح، بعد أن مهد له السبيل إلى تلك الغاية ذلك الكتاب الذي سبقه. ووقف المؤلف بعدها يستعد لإخراج دروس جديدة،
يلحقها بذينك، ليؤدي رسالته على الوه الذي ارتضاه.
وأما هذان الباحثان فأولهما: الأستاذ عبد الله الريحاوي، وثانيهما الأستاذ علي شعث. وسوف أحدثك عنهما مفصَّلآً.
القدس:
محمد سليم الرشداق
(أستاذ اللغة العربية وآدابها في كليتي التجارة والأمة)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 35 -
الفردوس المفقود: موضوع القصيدة الكبرى
ويفتتح الكتاب الثالث بمناجاة النور مناجاة تعد من أروع ما في القصيدة من مواضع الجمال، وقد أراد الشاعر بهذه الفاتحة أن يمهد للانتقال من الجحيم والعماء إلى الجنة وما فيها من زينة وبهجة.
ثم يتحدث الشاعر عن الله وقد استوى على العرش وعلى يمنه ابنه، وقد رأى الشيطان طائراً صوب الدنيا وقد تم خلقها قريباً، ويُرى الله ابنه هذا الشيطان في رحلته وينبئه بما سيكون من نجاحه في إضلال بني آدم وغوايتهم. ويبرئ الله عدالته وحكمته من كل مظنة أو لبس فقد خلق الله الإنسان حراً قادراً تمام القدرة على أن يقاوم مضله الموسوس له؛ ومع ذلك فأن الله يكشف عما يشاء لعباده من هدى وسعادة وذلك لأن الإنسان لم يعص كالشيطان بدافع من الشر، وإنما عصى بدافع من الغواية التي لاحقه بها الشيطان حتى أذله وأخرجه مما كان فيه.
ويرفع ابن الله شكرانه على ما أظهره عليه من نية ومشيئة في إسعاد الإنسان؛ ولكن الله يعود فيعلن أن رحمته سوف لا تنال الإنسان إلا على أساس ما ينبغي للعدالة الإلهية من كمال؛ فقد أساء الإنسان إلى جلال ربه بطموحه إلى الألوهية واقتطافه الثمرة المحرمة، ولذلك قدر عليه أن يموت ولا بد أن يدركه وذريته الموت، وما له من خلود إلا أن يوجد من هو كفء لأن يسأل عن خطيئته ويكفر عنها بما يحتمل من ألم وعقاب؛ ويتقدم ابن الله طائعاً مختاراً لكي يكون هو الفداء للإنسان، ويتقبل الأب منه هذا الذي يعرضه، ويأمر به
فيتجسد ويتمثل بشراً سوياً ويرفعه الله مكاناً علياً؛ فهو فوق كافة الأسماء في الجنة وفي الأرض ويدعو الله الملائكة فيأمرهم أن يسجدوا له ويتعبدوا، فيفعلون طائعين ويسبحون بحمد الأب والابن وتمجديهما مرتلين نشيد الحمد جميعاً في نغمة واحدة ترددها أوتار قيثارتهم.
وفي تلك الأثناء يسقط الشيطان حتى يقترب من كوكب خارجي قصي عن هذه الكرة التي هي الدنيا، كوكب يفصل بين الأرض وبين العماء والظلمة الممتدة من الجحيم من تحته؛ وهناك يجد بعد تجواله مكاناً سوف يكون فيما بعد جنة للمغفلين ويصف الشاعر هنا من سوف يسكنون هذه الجنة فثمة من مات من الأطفال قبل تعميدهم وثمة البلهاء والبسطاء والذين ماتوا قبل أن ينزل الدين.
ويتابع الشيطان طيرانه صاعداً حتى برى على باب الجنة، وينظر الشيطان فإذا هو بالغ الروعة والبهاء والزينة، ليس كمثله بناء فيما سيخلق الإنسان في الأرض، فهو معقود من الذهب والماس ويرتفع الداخل فيه صعدا على سلم من الذهب الوهاج، وحوله أنهار من اللؤلؤ المذاب؛ ويستمر الشيطان محلقاً حتى يأتي كوكب الشمس وجد عمده حارسه أَرْيِلْ، فيتنكر ويظهر بصورة ملك من الملائكة الذين هم دون أريل في المرتبة إذ أن أريل من الملائكة المقربين، ويتوسل إلى أريل أن يدله على ذلك الإنسان الذي خلقه الله حديثاً والذي سوف يهبه دنيا جديدة واسعة يعيش فيها وينعم بها. ويقول الشيطان في ضراعة إنه ما قطع هذه الرحلة الطويلة منفرداً إلا ليطلع على بديع ما خلق الله مما سمع عنه هو ورهطه من الملائكة، وذلك لكي يزداد تمجيداً لله وتسبيحاً بحمده؛ ويستطيع الإنسان أن يخدع أريل نفسه فيشير أريل إلى مكان ما ويقول للشيطان أنظر فهذه هي الجنة حيث يقيم آدم وهذه البقعة الداكنة التي ترى هي عشه، وينطلق الشيطان بكل ما في وسعه من سرعة فما زال طائراً حتى يبلغ حيث أراه أريل.
ويبدأ الكتاب الرابع والجنة على مرأى من الشيطان، وقد أصبح على مقربة من المكان الذي يسكن فيه آدم وزوجه، والذي سوف يحاول فيه محاولته الجريئة التي عقد العزم على أن يضطلع بها وحده ضد الله وضد الإنسان؛ ولكنه قبل أن يقدم على عمله أخذت تساوره وهو على مقربة من الجنة هواجس من الشك واليأس، كما أخذت تهجس في نفسه عواطف
الخوف والحسد والبغض؛ وبعد لأي ينطلق من عقال هذه الهواجس جميعاً ويصمم على الشر الذي جاء من أجله، ويسرع صوب الجنة حتى يبلغها.
وبعد أن يصف الشاعر وصفاً ممتعاً رائعاً وصف الجنة الخضراء ويتحدث عن أشجارها وثمارها ويبين أين تنبت شجرة الحياة وأين تنبت شجرة المعرفة، يرينا كيف يتسلل الشيطان فيدخل الجنة واثباً فوق أسوارها.
وفي الجنة يحيل الشيطان نفسه إلى ثعبان ويزحف حتى يستقر فوق شجرة الحياة وهي أعلى الأشجار، ويدور بعينه من فوق الشجرة ينظر ماذا يرى حوله. وهنا يتحدث الشاعر عما يرى الشيطان فيأتي بوصف آخر للجنة ويبلغ في ذلك من الروعة والقوة ما لا يتعلق بمثله وهم شاعر غيره.
وتقع عينا الشيطان على آدم وحواء فيرى أول ذكر وأول أنثى من البشر، ويتفكر الشيطان فيما هو بسبيله من إغواء، ويقارن بين ما هما فيه من نعيم وبين ما سوف يدفعهما إليه من شقاء؛ ويهبط من فوق الشجرة فيتشكل بأشكال ما تقع عليه عيناه من حيوانات حتى يقترب من آدم وحواء فيسترق السمع وهما يتحاوران ويتحدثان؛ ويعلم منهما أن الله نهاهما عن شجرة المعرفة، فأن أكلا منها أخرجهما ربهما من الجنة وكتب عليهما وعلى ذريتهما الموت. ويقع الشيطان هنا على بغيته فقد وجد سبيله إلى إضلالهما فما عليه إلا أن يغويهما بالثمرة المحرمة حتى يأكلا منها فإذا هما من الهالكين؛ ثم يدعهما الشيطان ريثما يعلم من أكثر مما علم بما سوف يعده لذلك من وسائل.
وفي ذلك الوقت ينزل أريل على شعاع من أشعة الشمس، فيحذر جبريل وهو حارس باب الجنة وينبئه أن روحا خبيثا صاعدا من العماء السفلي قد مر وقت الظهيرة بكوكبه متنكرا شكل ملك كريم، وأنه أتجه بعد ذلك صوب الجنة، وقد فطن إلى ذلك بعد ن تدبر في الأمر؛ ويجيبه جبريل بأنه سوف يبحث عنه فيأخذه قبل أن ينبلج الصبح.
وينزل الليل فيميل آدم وحواء إلى الراحة ويتحاوران في ذلك؛ ويأويان إلى عشهما في الجنة ويصليان لله صلاتهما؛ ويصف الشاعر هذا العش وهذه الصلاة وصفا رقيقا جميلا.
ويعس جبريل في الجنة على رأس فريق من الملائكة هم من عسسها، ويضع على عش آدم ملكين قويين غليظين مخافة أن ينالهما بالأذى ذلك الروح الخبيث أثناء نومهما؛ وينظر
الملكان فإذا بذلك الروح يوسوس لحواء في إذنها وهي نائمة فتحلم بالذي يقول، ويأخذه الملكان فيجرانه جرا إلى جبريل، ويسأله جبريل عن فعلته، فيجيب مستكبراً مستهزئاً، ويتأهب للعنف والمقاومة، ولكنه لا يلبث أن يجد نفسه، وقد منع ذلك منعاً من السماء فيطير ويهرب من الجنة.
ويتنفس الصبح فتقص حواء على آدم ما كان في حلمها الذي شغل نفسها؛ وبهذا يفتتح الشاعر الكتاب الخامس؛ ويكره آدم هذا الحلم ويفر منه ولكنه يعمل على تهدئتها ويجتهد أن يصرف عنها ما يشغلها من وساوس.
ويقبل آدم وحواء على عملهما اليومي ويقرآن صلاتهما عند باب عشهما وينشدان نشيدهما يسبحان بحمد ربهما؛ ولكيلا يكون للإنسان على الله حجة يرسل الله روفائيل ليذكرهما بطاعته وامتثال ما نهاهما عنه، ولينذرهما أن الشيطان لهما عدو وأنه على مقربة منهما، ويبين لهما لم كان الشيطان لهما عدواً مبيناً إلى غير ذلك مما يجب أن يعلمه آدم من علم ينفعه.
ويهبط روفائيل فيدخل الجنة، ويصف الشاعر ظهوره في ربوعه؛ وتأخذه عينا آدم من بعد وهو جالس بباب عشه، فينهض للقائه ويسلم عليه ويدعوه إلى مقره، ويقدم له أطيب ما اختارته حواء من فاكهة الجنة؛ ويتحاور آدم وروفائيل حول الخوان؛ وينبئه روفائيل بما جاء من أجله ويحذره من الشيطان ويذكر له ما يضمره له ولزوجه من العداوة والبغضاء؛ ويقص عليه استجابة لطلبه من هو هذا العدو وكيف أصبح لهما عدواً، ولماذا ينطوي على العداوة قلبه مبتدئاً بما كان من تمرده في السماء على خالقه وما أعقب ذلك من غضب الله عليه وإلقائه إلى الجحيم.
وهنا يصف الشاعر على لسان روفائيل تلك المعركة التي أدارها الشيطان الأكبر على رأس قبيلة، والتي أجمل الشاعر الإشارة غليها في مفتتح القصيدة
ويستطرد روفائيل في أول الكتاب السادس ليتم كيف دارت المعركة فيصف كيف أرسل ميكال وجبريل ليحاربا الشيطان وهو ثائر متمرد على رأس جنده، وكيف وقف القتال في اليوم الأول عند نزول الليل، وكيف جمع الشيطان مجلساً من أعوانه الثائرين فابتكروا أسلحة أوقعت ميكال وجنده في شيء من الحيرة والاضطراب، وكيف استحر القتال فافتعل
ميكال وجمعه الجبال وقذفوا بها الشيطان وأعوانه وزلزلوا زلزالاً شديداً وأدخلوا على قلوبهم الرعب والدهشة في اليوم الثاني؛ وكيف أصر الشيطان على الرغم من ذلك، فصاول وطاول ولج في شره وعناده حتى أرسل الله في اليوم الثالث ابنه المسيح الذي احتفظ له بالنصر وفخاره؛ وكيف سوى المسيح الملائكة صفاً وفي روحه قوة أبيه، وقذف في صفوف أعدائه بالرعد القاصف، ووثب في مركبته فدفعهم دفعاً إلى أسوار السماء؛ وكيف فتحت أبوابها. فألقى العصاة منها جماعات قد امتلأت رعباً وهوت إلى قرار سحيق أعد لها في الظلام والحمم نكالاً من الله؛ وكيف عاد المسيح بعد ذلك ظافراً إلى أبيه.
هذا هو موضوع القصيدة الكبرى أتيت على سرده كي أتستطيع بعد ذلك أن أتكلم عن فلسفة القصيدة ثم عن الشعر فيها موضحاً ماذا يرمي إليه الشاعر في هذا الموضوع مفصلاً ما أجملت من حوادث القصيدة ومواضع الوصف فيها مبيناً على قدر ما يسعه جهدي مبلغ ملتن فيها من الشاعرية مستعرضاً ما أثبته نقدت الأدب الأعلام من آراء وما عقدوه من موازنة بين هذه القصيد وبين مثيلاتها من الملاحم الطويلة.
فلسفة القصيدة الكبرى:
تدور هذه القصيدة على فكرتين أساسيتين: أولاهما هبوط الملائكة من السماء إلى الجحيم؛ وثانيتهما هبوط آدم أو الإنسان من الجنة إلى الأرض؛ والغرض من هذه القصيدة كما جاء في مقدمتها على لسان الشاعر هو أن يبرر أحكام الله ومشيئته تلقاء الإنسان.
وقبل أن نبسط القول في فلسفة القصيدة يجدر بنا أن نشير إلى أمر كان له أهميته في خلق الكثير من آراء الشاعر، وكان له أثره في توجيه ذهنه اتجاهاً خاصاً بحيث أثر ذلك في فلسفة القصيدة على العموم، وذلك أن ملتن لم يجعل من القصيدة وسيلة لعرض آرائه الدينية مجردة فحسب كما يتبادر إلى الذهن بمجرد النظر إلى موضوع قصيدته، وإنما جعل الشاعر بالإضافة إلى ذلك موضوع قصيدته في أكثر من موضع مجالاً للإشارة إلى ما في نفسه من معان تتصل بحياته الخاصة أو بحياته العامة وحياة قومه من ناحيتيها الاجتماعية والسياسية. وهذا كما ذكرنا جانب من فلسفة القصيدة، إذا أغفلناه نقصت في قيمتها كعمل فني نقصاً كبيراً، بيد أننا نؤثر أن ندع بيان ذلك حتى نعقد له فصلاً خاصاً نكشف فيه عن ملتن وحياته في الفردوس المفقود، ولنقصر همنا الآن على ما أراده من الأفكار الدينية.
ولكي نستطيع أن نتبين هذه الأفكار، يجدر بنا أولاً أن لم أختار الشاعر هذا الموضوع المستمد من الأنجيل، ونتبين الدوافع التي دفعته إلى ذلك دون غيره.
(يتبع)
الخفيف
ضِيزَنَابَاذ
للأستاذ شكري محمود أحمد
موقعها:
أجمعت المصادر القديمة على أن هذه المدينة (موضع بين الكوفة والقادسية، على حافة الطريق على جادة الحج، وبينها وبين القادسية ميل) كما ذكر ياقوت في معجمه.
والذي يظهر لنا أن صاحب معجم البلدان نقل هذا الكلام عن كتاب الديارات لأبي الحسن علي بن محمد الشابستي حيث قال في الكلام على دير سرجس (وهذا الدير كان بطيزناباذ وهو بين الكوفة والقادسية على ساقه الطريق، وبينها وبين القادسية ميل).، وقد نقل هذا الخبر ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار).
تقع آثار هذه المدينة اليوم في الشمال الغربي من قضاء أبي صخير في لواء الديوانية، وبينهما تسعة أكيال، ولا تزال أطلالها ماثلة للعيان يتراوح ارتفاعها بين 15، 20 متراً، وعلى جانب هذه الأطلال آثار أبنية قديمة العهد تشبه أحجارها أحجار الخورنق. وتمتد هذه الأطلال على مسافة كيلين تبتدئ في موضع يسمى اليوم (المصعاد) وتنتهي إلى ما يقرب من قصر الخورنق.
ولا تعرف اليوم هذه المدينة (طيزناباذ) باسمها المشهور، وإنما يطلق عليها الأعراب وسكان تلك المناطق اسم (طُعَيرزات) لأنهم استثقلوا هذا السم الأعجمي في وزنه وتركيبه فاستبدلوه بما هو أخف منه على اللسان.
ضبط هذا الاسم:
ضبط ياقوت هذا الاسم بالحرف فقال: طيزناباذ بكسر أوله وسكون ثانيه ثم زاي مفتوحة ثم نون وبعد الفاء باء موحدة وآخره ذال معجمة، وشكلها ابم خرداذبة والطبري بفتح الطاء وسكون الياء.
وقد صحفت هذه اللفظة كثيراً غيرها من الألفاظ العجمية فقال بعضهم طيزناباذ وقال غيره طرناباد، أما الأستاذ محمد سعيد العريان مصحح كتاب العقد الفريد فقد ضبطه (طيرتاناذ) وذلك عند الكلام على ضروب العروض شعراً، حيث وردت هذه اللفظة في بيت من أربعة
أبيات في كل بيت منها تصحيف مشين.
معناها:
هذه الكلمة أعجمية في معناها وتركيبها فهي مكونة من (ضيزن) و (أباذ)، والضيزن ملك الحضر. قال ياقوت:(وسبب تسميته بهذا السم (طيزناباذ) أنه من عمارة الضيزن والدة النضيرة بنت الضيزن وملك الحضر، وأن الفرس ليس في كلامهم الضاد فتكلموا بها بالطاء فغلبت عليها ومعناها (عمارة الضيزن) لأن أباذ العمارة).
وعلى هذا الرأي أيضاً البلاذري حيث ذكر: كانت طيزناباذ تي ضيزناباذ نسبة إلى ضيزن بن معاوية بن عمرو بن العبيد السليحي، وعلى هذا الرأي أيضاً الكلبي.
ولما غلب الفرس على هذه المواضع غلبت لغتهم على هذه الأرجاء، فاستبدلوا الذاد بالطاء لخلو لغتهم منها، فاشتهرت باسمها الأخير (طيزناباذ).
تاريخها:
كانت طيزناباذ عاصمة الحضر، وكان ملكها (ضيزن بن معاوية) معاصراً لسابور ذي الأكتاف ملك الفرس، وكانت بين الضيزن والروم علاقة صداقة وحلف، فتقدم سابور ليخضع هذا الذي تحالف مع أعدائه، وترك رجاله يغيرون على العراق والسواد.
فلما نزل سابور الحضر تحصن ضيزن بالحصن وأقام فيه مدة طويلة، فحاصره سابور شهراً لا يجد سبيلاً إلى اقتحام الحصن، ولا حياة لدخوله.
تقول الروايات والقصص أن النضيرة بنت الضيزن نظرت في أحد الأيام وقد أشرفت على الحضر إلى سابور فهويته وأعجبها جماله، وكان سابور من أجمل الناس شكلاً. وأمدهم قامة، وأرشقهم جسماً، فبعثت إليه إن ضمن لها الزواج منه هدته إلى فتح الحصن، فضمن لها ذلك، فأرسلت إليه أن يذهب إلى نهر الثرثار - وو نهر من أعلى الحصن - فيرمى فيه التبن ثم ينظر أين يدخل التبن فيدخل من ذلك المدخل، لأن ذلك المكان يفضي إلى الحصن ففعل.
ولم يشعر أهل الحصن إلا وجنود سابور معهم في حصنهم، يمعنون فيهم قتلاً وأسراً. ثم عمدت النضيرة إلى أبيها فسقته الخمر حتى أسكرته طمعها منها في زواجها من سابور،
ولكن سابور عندما أحتل الحصن قتل أباها، وأمر بهدم الحصن.
هذه هي قصة هدم حصن أبي الضيزن، وقد أكثرت كتب الأدب والسير من ذكر الضيزن وحصنه، وخيانة ابنته له، وزوال ملكه، وضربت بذلك الأمثال.
كل ذلك كان بين 236 وسنة 328 بعد الميلاد.
ما قيل فيها:
هي من المواضع التي ذكرت بالجمال والتهتك وشرب الخمر لأنها كانت محفوفة بالكروم والشجر والحانات والمعاصر، وكانت أحد المواضع المقصودة للهو والبطالة، وقد وصفها بهذا الوصف ياقوت والشابشتي والعمري، وغيرهم من المؤرخين الذين ذكروها، ولهذا السبب جعلها الفرس مصيفاً لهم، يصطاف بها أمراؤهم وسراتهم.
وقد بقيت هذه المدينة عامرة جليلة القدر، يؤمها الخلفاء والفتاك، من أهل المجون والبطالات حتى الفتح الإسلامي حين بدأ الخراب يدب فيها. ففي معركة القادسية جعلها رستم قائد الفرس مباءة لجيشه، قال البلاذري في كتابه فتوح البلدان (وقد رستم ذو الأكتاف فكان معسكراً بطيزناباذ).
وسقطت هذه المدينة بأيدي المسلمين في جملة ما سقط من المدن سنة 15هـ 536م فدب غليها الخراب ولكن استعادت بعض مجدها في عهد المسلمين حيث اقتطعت للأشعث بن قيس الكندي فعمرت بعد الخراب، وازدهرت بعد الاضمحلال، وصار للأشعث بن قيس فيها قصر فخم في عهد الأمويين، وكان هذا القصر يعتبر من القصور المشهورة، والمواقع المذكورة.
ثم سما شأنها في عهد العباسيين حيث صارت من أنزه المواضع وأجملها يقصدها الشعراء ويؤمها الفتاك، وقد ذكر ياقوت فيها (لأهل الخلاعة فيها أخبار يطول ذكرها) وقد قال فيها أبو نواس:
قالت تنسك بعد الحج قلت لهم:
…
أرجو الإله وأخشى طيزناباذا
أخشى قضيب كروم أن ينازعني
…
رأس الخطام إذا أسرعن إغذاذا
فأن سلمت وما نفسي على ثقة=من السلامة لم أسلم ببغذاذا
ما بعد الرشد ممن قد تضمنه
…
قُطْرُّ بلٌ قفريُ بنّا فكلواذا
وذكرها أبو نواس في مواطن أخرى مثل قوله:
فتلتني ضيزناباذ
…
وقد كنت تقيا
إذ تركت الماء فيها
…
وشربت الخرويا
أرض كرم تنبت الدهر
…
شراباً سابريا
ثم هي أجمل من بغداد وقصفها ولهوها، بل هي أجمل من أي موضع في العراق لأن أبا نواس قال فيها:
وقائل هل تريد الحج قلت له:
…
نعم إذا فنيت لذات بغداد
أمّا وقطربل مني بحيث أرى
…
فقنة الفِرْك من أكناف كلواذي
فالصالحية فالكرخ التي جمعت
…
شذاذ بغداد ما هم لي بشذاذ
فكيف بالحج لي ما دمت منغمساً
…
في بيت قوادة أو بيت نباذ
وهبك من قصف بغداد تخلصني
…
كيف التخلص لي من طيزناباذ
جاء في ياقوت: قال علي بن يحيى حدثني محمد بن عبيد الكاتب قال قدمت من مكة فلما صرت إلى ضيزناباذ ذكرت قول أبي نواس حيث قال:
بطيزناباذ كرم ما مررت به
…
إلا تعجبت ممن يشرب الماء
إن الشراب إذا ما كان من عنب
…
داء وأي لبيب يشرب الداء
فهتف بي هاتف أسمع صوته ولا أراه فقال:
وفي الجحيم حميم ما تجرعه
…
خلق فأبقى له في الجو أمعاء
أقول أخطأ أقوت في ترتيب هذه الأبيات إذ أن لمعنى مضطرب جداً في البيتين الأوليين، ولأجل أن يستقيم المعنى يجب أن يكون هذا البيت (إن الشراب إذا ما كان. . .) قبل هذا البيت (وفي الجحيم حميم ما تجرعه).
وقد ذكر هذا الموضع الحسين بن الضحاك في قصيدة مطلعها:
أخوىّ، هُبّا للصبوح صباحاً!
…
هُبّاً ولا تعد النديم رواحا
ثم ذكر الدير في طيزناباذ وأسمه دير سرجس فقال:
هل تعذران بدير سرجس صاحباً
…
بالصحو، أو تريان ذاك جناحا
هذه هي أخبار طيزناباذ، وقد اعتمدنا في هذا على المصادر الآتية:
ياقوت: ج6 ص 69، ج6 397، ج4 ص 145. مراصد الاطلاع مادة (طيزناباذ).
الطبري ج1، 2264، 2855، ج 30، 718 الطبعة الإفرنجية.
ابن خرداذبة ص 71 الطبعة الإفرنجية.
لغة العرب: السنة الثانية.
ابن الفقيه: ص 183 الطبعة الإفرنجية.
البلاذري: ص255، 274، 284 الطبعة الإفرنجية.
العمري: 284 دار الكتب.
ديوان أبي نواس: 1898 طبعة إسكندر آصاف ص 272، 354.
الشابستي: مخطوط في مكتبتنا ص 102، 103.
بغداد
شكري محمود أحمد
مدرس اللغة العربية بدار المعلمين الابتدائية
تعقيبات.
. .
للأستاذ عباس حسان خضر
أبكار الهموم وعونها - عثرتان - زواج أم كلثوم - آه من
الأسعار.
أبكار الهموم وعونها:
كتب الأستاذ محمود محمد شاكر بعدد مضى من الرسالة في موضوع أبيات من شعر بعض الأعراب، تحدث فيها الشاعر الأعرابي عن قصته مع أميمة (حوائه) التي أنكرته إذ رأته (شاحباً مهزولاً رثاً أسوأ حالا مما عهدته)، وكان قد آب من سفره الذي دفع فيه لتحقيق أحلامها، وجعلت تسائله مساءلة المتجاهل المزدري: من أي الناس أنت، ومن تكون؟ فإني أراك في حال لا تليق براعي بل، فضلا عن محب يطمع في مثلي! فقال لها - وقد تكشفت له حقيقة حواء -: إذا كان مطلبك وغاية نفسك رونق الجسم واكتناز اللحم والشحم فعليك براعي غنم يعيش في خفض ورغد من لبنها وزبدها. . . إلى أن قال مكملاً وصف هذا الراعي:
سمين الضواحي، لم تؤرِّقه، ليلةً
…
- وأنعم - أبكار الهموم وعُونُها
وقف الأستاذ شاكر عند كلمة (أبكار الهموم وعونها) فخال فيها ما لا أراه يُخال، إذ قال أن هذا الأعرابي (قد أراد أن يعلم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمرا غضاً ناضراً ناعماً لم تؤرقه هموم النفس ولم يضر به الكدح في بوادي الأحلام والآمال، فإنه غني عنها، وعن سائر نساء العالمين - وأن أمثالها لسن له بهمٍّ، وأن له من حاجات النفس وهمومها (أبكاراً) كأبكار النساء و (عوناً) كعونها)، وقال فيما يريد بالأبكار:(فإن للنفس شاعراً هموماً (أبكاراً) لم تمسسها يد ولا فكر ولا حلم) وقال فيما يقصد بالعون: (وللنفس أيضاً هموم (عون) قد أصاب الناس منها ما أصابوا ولكن بقيت منها للنفس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند الإمكان ونبل في الخضوع والتسليم عند العجز).
فهل لهذه الكلمة الفطرية (أبكار الهموم وعونها) قِبَلٌ بتحمل كل هذا؟ وهل كانت نفس ذلك
الأعرابي في باديته وحياته الساذجة تنطوي حقاً على كل هذه الأحاسيس المزدحمة المعقدة. . .؟
يخيل إليُ أن الأستاذ محمود محمد شاكر قد تراءت له في هذه الكلمة أحاسيسه هو، فخالها أحاسيس الأعرابي. . . وهي أمثل به منه، فما أحسب الأعرابي يريد بأبكار الهموم وعونها أكثر من جديد الهموم وقديمها، على ن استعمال (الأبكار) في الجديد من الهم أدنى إلى المعنى الحقيقي من استعمالها في المختص منه، وكذلك استعمال (العون) في قديم الهم أليق من أخذها من مشتركة.
أما تلك الظلال التي يمد الأستاذ شاكر رواقها حول البيت فهي ظلال نفسه المترفعة الآنفة الساخرة العائشة على المثل والمعاني
وأما الشاعر البدوي فما يبغي بأميمته بديلاً، مهما تدللت وبغت عليه، فإن عاتبها أو غاضبها فإليها بعدُ الهوى نفسه، ولديها محط رحاله، وما يليق به وهو ابن الحياة الفطرية الساذجة أن يدعها ويضرب في بيداء المعاني ليتصيد منها أبكار الخيال وعونه.
عثرتان:
ليس من دأبي تتبع سقطات الأقلام في اللغة وقواعدها، ولكن يهوني أيعثر قلم من الأقلام التي يستأنس بها ويتأثرها الناشئون ومن في حكمهم من غير الدارسين. والذي نحن الآن بصدد التعقيب على جموح قلمه، هو الأستاذ ميخائيل نعيمة، وهو من أدباء المهجر الذين جروا فيميدان الأدب العربي الحديث أشواطاً بعيدة، لكنهم أحيانا يصطدمون - في عدْوهم - بأوضاع اللغة، فلا يعبئون لها!
كتب الأستاذ ميخائيل نعيمة في مجلة (الكتاب) مقالاً هنوانه (مهماز البقاءَ) جاء فيه: (فمثلما نجوع إلى أشياء وأشياء كذلك تجوع إلينا أشياء وأشياء، فنحن أبداً جائعون ومجيعون، وآكلون ومأكولون).
فهو يصوغ من الفعل (جاع) اللازم واسم المفعول دون صحبة ظرف أو جار ومجرور، على أن الصياغة نفسها غير صحيحة إذ جعل واو (مجوع) ياء، ولو تروى قليلاً لقال:() فنحن جائعون ومجوع إلينا.
تلك واحدة، والثانية في قوله بنفس المقال:(لَكم نخاطب الأموات ويخاطبونا) فقد حذف نون
الرفع من الفعل المضارع المتصل بواو الجماعة المجرد من الناصب والجازم فقال: (ويخاطبونا) والصواب أن يقول (ويخاطبوننا) فهذا هو الاستعمال القياسي للأفعال الخمسة الذي يجب عليه الألسنة والأقلام، دون التفات إلى الشاذ مثل:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي
…
وجهك بالعنبر والمسك الذكي
زواج أم كلثوم:
نشرت الصحف أخيراً زواج أم كلثوم، وقد فوجئ الناس بهذا النبأ، وقابلوه بشيء من القلق وشيء من الارتياح! وكأنه قد استقر لديهم أن أم كلثوم - بانقطاعها لفن الغناء - قد خلصت لهم مغردة طليقة، فما ينبغي أن ينافسهم فيها منافس يستأثر بها. . .
والذي دعا إلى الارتياح أن زوجها الأستاذ محمود الشريف من رجال الفن والموسيقى، فيرجى أن لا يكون حائلاً بينها وبين المستمعين الذي تنقلهم - بصوتها الساحر - من أماكنهم إلى يث تحلق بفنها الرفيع. . .
وليت شعري هل كان أبو الفتح كشاجم يطوي الزمن فيصف (بحة أم كلثوم) إذ قال:
آه من بحة من غير انقطاع
…
لفتاة موصولة الإيقاع
أتعبت صوتها وقد يُجتبى من
…
تعب الصوت راحة الأسماع
وإذ قال:
أشتهي في الغناء بحة حلق
…
ناعم الصوت متعب مكدود
كأنين المحب أضعفه الشو
…
ق فضاهى به أنين العود
لا أحب الأوتار تعلو كما لا
…
أشتهي الضرب لازماً للعود
ولعل أم كلثوم تواصل حفلاتها الشهرية التي تذيعها محطة الإذاعة، فالناس يتجاوزون للمحطة من أجلها عن كثير. . .
وبعد فإن من حق أم كلثوم التي تبعث إلى قلوبنا البهجة والغبطة - أن نفرح لفرحها ونتمنى لها أطيب التمنيات.
آه من الأسعار:
قال لي صاحبي، وقد لمحت على وجهه ما دلني على أنه ظفر بشيء عزيز المنال: أتحب
أن ترى شيئاً من (السماعيُات) التي تسمع وتقرأ عنها في هذه الأيام؟ ودس يده في جيبه بعناية، فأخرج قلماً ثميناً من (ماركة) مشهورة، فتناولته من يده، وأجريته على القرطاس، فجرى ليناً، يكاد يجر اليد إلى الكتابة جرَُاً. . . بل يكاد يمتح من القريحة متحاً. . . فرددت بصري بين وجه صاحبي الظافر. . . وبين القلم الذي يقول لي: هيت لك! ثم رجع البصر إليُ خاسئاُ وهو حسير. . . وأعجلني صاحبي - سامحه الله - في رد قلمه، وهو مغتبط بالحديث عنه قائلاً:
- أتدري ما ثمن هذا القلم؟
- أعلم أنه يباع في السوق بثمن خمسة عشر جنيهاً، فمن لك به. . .؟
- أحضره فلان من أمريكا بمائتين وخمسين قرشاً!
عجباً قلم يصنعه الصانع في أمريكا، يشتري مواده، ويحليه بالذهب، ويبذل فيه بارع فنه، ثم يشتريه التاجر هناك ليبيعه بربح، فيكون الثمن بعد كل هذا مائتين وخمسين قرشاً، فإذا ما جاء إلى مصر بلد العجائب صار ثمنه خمسة عشر جنيهاً. . .! يا ضيعة المنتج والمستهلك بين أظفار التاجر!
ولقد كنا نلتمس الأسباب لغلاء المستورد من الخارج إلى مصر، ونحار لما يدعو إلى غلاء لحمها وسمنها وفومها وعدسها وبصلها. . . فإذا الحيرة تتردد بين هذا وذاك، وتجول هنا وهناك، كما يجول الكلب الشرطي، وتتشمم كما يتشمم، فتكاد تمسك بالتاجر، وأنى لها أن تنال منه وقد أنتفخ وبدا (سمين الضواحي) فلا تملك إلا أن تردد ما قال شوقي في غلاء ما بعد الحرب التي قبل الماضية:
عبادك رب قد جاعوا بمصر
…
أنيلا سقت فيهم أم سرابا
حنانك واهدِ للحسنى تجاراً
…
بها ملكوا المرافق والرقابا
ورقق للفقير بها قلوباً
…
محجره وأكباداً صلابا
أمن أكل اليتيم له عقاب
…
ومن أكل الفقير فلا عقابا؟!
أصيب من التجار بكل ضارٍ
…
أشد من الزمان عليه نابا
يكاد إذا غذاه أو كساه
…
ينازعه الحشاشة والإهابا
يا ولاة الأمر، إنا نستعيدكم على هؤلاء التجار، وإلا فإنا نستعدي عليكم الشعراء، فإن لم
يهبوا فحسبنا أمير الشعراء، فإن لم يغنِ فحسبنا الله ونعم الوكيل.
عباس حسان خضر
وفاء الشعراء
قضية
(مهداة إلى صاحب (أنات حائرة))
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
قضيةُ أرملٍ نذر الوفاَء
…
حكاها الناس أياماً وِلَاء
حكوْا أنّ الفتى عدِم الرجاء
…
وراح يصبُّ كالحممِ البكاء
وقالوا ضاقت الدنيا عليه
…
وما يجدنَّ في امرأةٍ غَناء
وزادوا أنه نظم المراثي
…
وخلَّدَ ذِكر زوجته رثاء
وأقسَم أن يعيشَ بلا شريكٍ
…
وأفرط في تحدِّيه القضاء
وصار على الوفاءِ لِواَء صدْقٍ
…
وقد عقدوا له فيه اللِّواء
فيا لله من نفرٍ حيارَى
…
فما يدرُون أحسن أم ساء
حكوا أن قد تزوج بعد حينٍ
…
وضم إليه من حسبٍ كفاء
وزادوا أنّ أفراحاً أُقيمت
…
وأنّ عجيجها ملأَ الفضاء
أجل، قد أعرس الرجل المعَّنى
…
ولكن، هل نفى هذا الولاء؟!
عجيبٌ أمرُ هذا الناسِ تعشو
…
نواظرُهم فلا تعدو الغِطاء
هو القلب الصديع ترون شطْراً
…
أمامكم، وسائرُه وَراء
عبد الرحمن صدقي
لجسمك.
. .
للأديب محمد محمد علي
لجسمك أنغام يشيع أهتافها
…
بروحي، وأنسام يهب عبيرها
ودنيا من الأحلام مني قريبة
…
يفيض بقلبي بشرها وحبورها
وسحر يلف الآن روحي نعيمه
…
فتنمو بها أهواؤها وشعورها
لجسمك نجوى يا فتاتي سمعتها
…
ورن بأعماق الفؤاد صداها
تحدثني من غير صوت ولا فم
…
وأسمع منها صوتها ورضاها
كأنك أشواق مجسمة بدت
…
لعيني، أحلامها ورؤاها
لمستك يا أختي بجسميَ مرة
…
فأحسست روحي من ملامسه تنمو
وصرت أرى في كل موضع لمسة
…
عبير أزهار يجسمها الوهم
وللجسم مثل الروح حلم يروده
…
وآفاق حب بين أقطارها يسمو
تعالى نعش في جنة الأرض ساعة
…
تحيط بنا غدرانها وطيورها
فما هي إلا هداة ثم بعدها
…
خُطاً نحو أفق الروح، سوف نسيرها
ومن لم يجب للجسم داعيه لم تزل
…
على روحه ألفافها دستورها
محمد محمد علي
البَريدُ الأدبيّ
مات الأمير شكيب ارسلان:
مات الأمير شكيب ارسلان! بهذا هتف الناعي عشية يوم الاثنين الماضي، فوجمت النفوس للنبأ الأليم، وجزع أبناء العروبة لفقد ذلك الرجل العظيم، واستفاضت الحسرات أسىً ولوعة على علم من أعلام البيان العربي، ورسول من رسل الإصلاح الإسلامي، وقف حياته الطويلة الحافلة على الجهاد للحق، والدفاع عن الحرية، حتى غلبه الموت، وهو الذي طالما غلب الأهوال وارتفع على الشدائد والأحداث.
لقد كان الأمير شكيب - رضوان الله عليه - بالفكرة التي يمثلها،
والغاية التي عاش لها، علماً من أعلام تلك المدرسة المنجبة المنتجة
التي وضع أساسها باعث الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، وتولى
رعايتها المصلح العظيم الأستاذ الإمام محمد عبده؛ فكان يرى الإسلام
عقيدة جامعة، والعروبة رابطة شاملة، والاحتفاظ بتراث السلف دعامة
لنهوض الخلف، فكان هذا هو جماع الفكرة فيما يكتب وينصح به
ويجاهد له.
كان الأمير شكيب في كل ما يكتب يرعى حق الدين وحق الإصلاح الشامل، وكان يفزع لكل مسألة إسلامية، ويزأر لكل نازلة شرقية، ويجاهد لكل قضية عربية، ويوجه خطابه دائماً إلى أحرار المسلمين، ويهيب بجميع أبناء العروبة. ولقد كان له من طيب الأرومة، ونباهة المحتد، واتساع الثقافة والصلة بالناس ما ارتفع بمكانته، وأسمع بكلمته.
وكان الأمير شكيب في مطلع هذا القرن ينهض بفكرته تحت لواء الخلافة العثمانية، وكان يعمل على توثيق الصلة بين الترك والعرب دائماً، وكان يرجو أن تتمازج الوحدة العربية وما يسمونه بالوحدة الطورانية لتكونا وحدة إسلامية جامعة للصفوف، ومانعة من تلصص الاستعمار الغربي. فلما تقلص ظل الخلافة عن الآستانة، ونزل الهلال عن قصور آل عثمان، وقف الأمير شكيب يدعو العرب للوحدة في وجه الاستعمار والتكاتف ضد الدخيل
الأجنبي. وفي هذا السبيل كم احتمل رحمه الله ما احتمل من الأحداث الرهيبة حتى قضى عليه ذلك أن يعيش غريباً عن أهله، نائياً عن وطنه، فأمضى النصف الأخير من حياته يطوف آفاق أوربا، وكان يؤثر الإقامة إما في فرنسا لأنها أكثر مقصداً لرجالات العرب، وإما سويسرا لأنها موطن الأحرار. . وعلى أي فقد كان وجوده في أوربا كأنه الديدبان للأمة العربية، فما كانت تمر كلمة في صحيفة أو فكرة في مجالس السياسة تمس الإسلام وتنال من العروبة إلا تصدى لها وكتب في تفنيدها. وكان وهو في مطارح الغربة يملأ الصحف في سائر الأقطار العربية بمقالاته وبحوثه الضافية، وما شغلته مشاغل الحياة وأعباء الغربة عن القراءة والكتابة ونشاط الذهن لحظة.
ومنذ عام أذاعت الصحف ن الأمير في غربته يشكو مرض القلب، وأن كل ما يرجوء عند موته ويتمناه على الله قبل أن يدركه الموت أن يرى والدته التي حرم رؤيتها منذ سنوات، وأنه لا يوصي بشيء إلا أن يدفن رفاته في تراب وطنه. وبعد مشاورات بين رجالات العروبة والسلطات الأجنبية تم الاتفاق على عودة الأمير، فعاد وهو يحمل ثقل الداء المتمكن وأقام بين عشيرته زمناً يغالب الموت حتى غلبه الموت.
مات الأمير شكيب، ولكنه خلف من ورائه سيرة عابرة بالجهاد للحرية، وحياة حافلة بالكفاح للقومية، وتراثاً من الفكر يضن به الزمن على البلى. وليست هذه الكلمة العاجلة العابرة بشيء في جانب ما أسدى وأجدى خدم به القضية العربية والفكرة الإسلامية، فموعدنا بوفائه سلسلة من المقالات نترحم بها لحياته ونعرض فيها لتراثه في الأعداد القادمة من الرسالة إن شاء الله.
محمد فهمي عبد اللطيف
حفلة المجمع اللغوي لاستقبال الأعضاء الجدد:
كانت الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس الماضي موعداً للجلسة العلنية التي عقدها مجمع فؤاد الأول للغة العربية لاستقبال الأعضاء العشرة الذين عينوا به أخيراً.
وقد حضر إلى دار المجمع في الموعد المحدد - عدا الأعضاء القدماء والجدد - طائفة من رجال العلم والأدب، فافتتح الحفل سعادة رئيس المجمع أحمد لطفي السيد باشا بكلمة وجيزة
رحب فيها بالأعضاء الجدد، وقال إن أمام المجمع مهام جسيمة ترجو بمعونتهم أن نسير فيها، وأشار إلى أن أعضاء المجمع قد بلغوا الأربعين، وهو أقصى ما يمكن أن تتسع له حجرة الاجتماع، وهو لذلك يذكر الحكومة بضيق مكان المجمع الحالي.
ثم ألقى الأستاذ أحمد أمين بك كلمة المجمع في استقبال الأعضاء الجدد، فبدأ ببيان ما تدل عليه كلمة (مجمع) وذكر تعريف كاتب إنجليزي للمجمع بأنه هيئة متعاونة غرضها تهذيب وترقية الأدب والعلم والفن، يدعوها إلى ذلك العشق الخالص لغرضها. وأشار الأستاذ بكلمة (عشق الغرض) وأثرها في الإنتاج، وقال أن هذا العشق لم يكن بعيداً عنا نحن الشرقيين فقد قامت منا أفراد بما تقوم به المجامع كالأزهري وابن منظور، وذكر أن أمام المجمع مشاكل لا بد أن يجد لها حلولا، وأن له غايات ومطالب، منها وضع معجم واف بحاجات العصر، ومعجم تاريخي مطول، وأن يكون المجمع محكمة عليا للإنتاج الأدبي في العالم العربي، وأن يكون حارساً على اللغة ليشرف على ما يكتب في الصحف وما يستعمل من ألفاظ وأساليب، وأن يستحث الحكومة والأغنياء على التبرع بالمال لتشجيع الأدباء على الإنتاج. وقال إنه وجهت إلى المجمع نقود كثيرة من أن نتاجه قليل أو أنه يختار ألفاظاً لم يستسغها الجمهور؛ ودفع بأن طبيعة المجمع دائماً طبيعة محافظة، وأن طبيعة العلماء تميل إلى التدقيق والبطء، وتفضل النتاج الصحيح القليل على النتاج الكثير في غير نضج، وبأن ليس للمجمع استقلال مالي يشعره بالحرية في العمل. ثم رحب بالأعضاء الجدد وعرف كلا منهم بكلمة قصيرة. ومن الطريف أنه قال بعد ذلك (هذا - أيها السادة - عرض سريع لهذه العشرة الطيبة) فضحك الحاضرون من كلمة (العشرة الطيبة).
ثم قام الدكتور إبراهيم مدكور، فألقى كلمة الأعضاء الجدد فأشاد بفضل المجمع وبين حاجة البلاد إليه؛ وشكر هيئة المجمع على الحفاوة به وبزملائه الجدد، وقال أن المجمع يمتاز بخصائص ثلاثة: عمل صامت، وتعاون صادق، واعتدال وحكمة. ثم أفاض في الحديث عن قوانين علم اللغات المقارن التي من أهمها أن اللغات جميعها تخضع لقانون السير والحركة والتغير والتحول إلى أن قال) إن اللغات في حركة مستمرة، فمن العبث أن تعترضها ونقف في طريقها، أو أن نفرض عليها قوالب جامدة لا تلبث أن تخرج عليها. وإن الصورة المثالية القديمة التي كانت تفرض اللغات لا يقرها العلم المعاصر ولا يقول
بها وأصبح يدعو إلى مثالية أخرى عملية ونافعة فاللغة المثالية هي التي تصدر عن روح والعصر وتتمشى مع حاجاته ومطالبه، على أخضر صورة وأوضح مظهر).
وبهذه المناسبة نذكر أن عدد أعضاء المجمع وقت إنشائه سنة 1932 كان عشرين عضواً، وفي سنة 1940 زاد عشرة فصاروا ثلاثين، وفي 28 نوفمبر الماضي صدر مرسوم بتعيين عشرة جدد هم: الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، والدكتور عبد الوهاب عزام بك، والدكتور أحمد زكي بك، والدكتور محمد شرف بك، وزكي المهندس بك، والدكتور مصطفى نظيف، والشيخ محمود شلتوت، ومحمد فريد أبو حديد بك، والشيخ عبد الوهاب خلاف.
وكنا نأمل أن نرى بين هؤلاء الأعضاء الذين عينوا أخيراً بعض أبناء الأمم الشقيقة، وخاصة غير الممثلة في المجمع كفلسطين وفيها الأستاذ محمد إسعاف الشاشيني، وهو - كما يعلم الجميع - من أعلام العصر في اللغة والأدب.
(ع. ح. خ)
مجلة الأزهر في عهدها الجديد:
الرسالات الروحية مجال واسع للدرس العميق؛ والتحليل الدقيق؛ والإسلام ينال من عناية هذه الدراسات المختلفة في جميع اللغات حظاً غير منقوص والأزهر، وهو القوام على رعاية الرسالة الإسلامية؛ الذائد عنها؛ الممهد لها السب ل في غمرة هذا الزحام المتضاعف من الدعاية الذهبية التي تناهض تلك الرسالات؛ وأمضى سلاح في يد تلك المذاهب ما ترمي به عن قوس الصحافة، لذلك كانت الجهود المبذولة لترقية مجلة الأزهر وتدعيمها تقابل بالتأييد، وتحف بالتشجيع. وقد جاءت - المجلة - حاملة خلاصة مصفاة لتلك الدراسات التي تتناول الجوانب الخليقة بالتناول من تلك الرسالة الخالدة؛ وهذه نفحة من نفحات الأستاذ الأكبر الذي مكنته حياته العلمية النشيطة من الوقوف على ثقافة الجامعات الأوربية وأنظمتها وأهدافها؛ وهذا خير ما تطلبه الحياة الجامعية الأزهرية. وتتجلى فيها أيضاً من مجهودات الأستاذ الباحث الموفق - فريد بك وجدي - رئيس تحريرها ومدير دفتها، حتى تستطيع أن تؤدي رسالتها في خدمة الشرق والإسلام.
محمد عبد الحليم أبو زيد
المسرح والسينما
بمناسبة مشاهدة وفود الجامعة العربية لرواية:
حواء الخالدة
بدار الأوبرا الملكية
للأديب خليل منصور الرحيمي
مسرحية ألفها الكاتب الكبير (محمود تيمور بك) زكي طليمات، ومثلتها الفرقة المصرية. وقد استطاعت هذه المسرحية أن تفرض نفسها على الجماهير - خاصتهم وعامتهم - أياماً وأياماً. وكانت طيالها حديث المشاهد العادي وشغل الأديب والناقد. فهل أتيح لها ذلك كله اعتباطاً وعفو المصادفة، أم تهيأ لها ذلك بما أودعته من خصائص فنية هي وحدها الحكم فيما يكتب له الخلود من ثمرات القرائح. وما يكون نصيبه الموت ساعة ميلاده. ذلك ما سنحاول تبيين أمره في نقدنا للمسرحية.
وقبل الدخول في صميم النقد نحب ن ننبه إلى أمور لها دلالتاه التي يجب ألا تفوت المعنيين بشئون الفن في مصر، وبخاصة الفن المسرحي.
أولاها أن هذه المسرحية كتبت بلغة عربية فصيحة. وكان من الأراجيف الشائعة في الأوساط الفنية، أن لغتنا الفصحى لا تجد استجابة من الجماهير، فضلاً عن أنها تعوق المؤلف عن النفوذ إلى غوار شخصياته مستجلياً خفاياها معبراً عن خلجاتها فكانت استجابة الجمهور لمسرحية (حواء خالدة) شاهداً صادقاً على كذب ما يرجف به القاصدون. فليس باللغة قصور ولا بالجماهير عقم، ولم يعد من الصائغ مد يد الملاينة إلى العامية المبتذلة جرياً وراء ادعاء ثبت بطلانه.
وثانيتها أن المسرحية، من المسرحيات ذات الموضوع، وقد عولجت بطرية علمية، فلم يعمد فيها المؤلف إلى إثارة عواطف الجماهير بالحوادث والمفاجآت والمشوقات المقتسرة. ولكنه استخدم الحوار للتعبير عن الحادث ومغزاه وسببه في آن معاً، فساوق بين العقل والعاطفة في كشفه عما يختلج في طوايا النفوس وما يستتر في أعماقها. وتلك طرفة جديدة في فن المسرحية المصرية، تبعد بها عن (بهلوانيات) الحوادث المفتعلة والاعتماد في
التشويق على النكتة المعتمدة. . . ومن هنا كانت هذه المسرحية بدء النقلة الجدية في حياتنا الفنية، والاتجاه بها وجهة سامية.
ونعود إلى المسرحية فنقول أنها موضوع وعلاج، ثم عرض وإبراز. أما الموضوع والعلاج فمن عمل المؤلف؛ وأما العرض والإبراز فمن عمل المخرج والممثل، ونبدأ حديثنا بالموضوع، وكيف عولج.
تدور المسرحية على قصة عنترة وعبلة، تلك القصة التي انحدرت على ألسنة الرواة من أغوار الماضي، ولا تزال شائعة على ألسنة الناس. فعنترة شاعر فارس تيمه الحب، فلم يعد يرى من الدنيا غير محبوبته، يهجر من أجلها الديار، ويركب في سبيلها الأخطار، ويرضى إكراماً لها بالهوان وإن كان أشجع الشبان. وعبلة حسناء بدوية، امتلأ قلبها بالحب لفارسها الأسود زهدت وفاء له في نعيم الحياة، وانتظرت الهناء في ظله وحده دون الناس جميعاً.
فماذا فعل تيمور بتلك المادة التي تقدمها إليه أقاصيص الرواة بيد جامدة في قفص صلب من جلال الماضي.
لقد ارتفع تيمور بالقصة على أوضاع الزمان والمكان والحادث الخاص، فجعل منها قصة إنسانية عامة، دائمة الحدوث ودائمة التجدد، غير متقيد بما يروي عنها من أخبار فالحادث لا يعنيه، وإنما تعنيه دلالته، وذاتيته لا تهمه، وإنما تهمه إنسانيته. . . فالفرد عنده وحدة تتركز فيها أهواء الإنسانية كلها، بل أنموذج صادق لنوازع النوع البشري عامته، على شتى تباين هذه النوازع. فالمسرحية إذا من مسرحيات النماذج البشرية، التي لا تعرض الأشخاص بخصوصياتهم ولكن بدلالاتهم الإنسانية. تلك الدلالات التي تهيئ لها نوزاع أصيلة واغلة في أعماق النفوس. بدأت مع الناس منذ بدأ الخليقة، وصاحبتهم في موكب الحياة، وستظل لهم مصاحبة أبداً، تلبس لهم كل لباس، وتتبدى لهم في كل لون.
فهي في البادية حيية خجولة، تضع نقابها وعينها من ورائه فاحصة وهي في المجاهل مروعة نفور تستتر بأوراق الشجر، ونفسها مشرئبة متطلعة. وهي في المدينة الحديثة متبرجة سافرة وحيلتها حاضرة عاملة. . . إنها هـ هي، في الماضي، والحاضر، وستكون هي عينها في المستقبل، فهي حوا التي لا تحول، حواء الخالدة.
من هذه الزواية نظر تيمور إلى تلك القصة. فلم تكن عبلة غير امرأة، امرأة من بنات حواء، بل قل إنها حواء نفسها؛ حواء التي مدت يدها إلى آدم بالكأس المرة اللذيذة منذ بدء الخليقة، فتجرعها مستلذاً مرارتها. ولم تزل تمد له يدها ولم يزل يتجرع الكأس ويستلذها، وليس يعنيها من أمره إلا أن تراه أمامها، بل وراءها، بل محيطاً بها من كل أقطارها. تحاربه لتحارب به وتدنيه لتصل به إلى غايتها، ثم تقصيه لتشبع غرورها بلذة سعيه إليها، غير باخلة عليه بكلمات الحب والإخلاص، ودموع العطف والرثاء. فمن هذا المزاج تملأ له الكأس المرة اللذيذة، التي يتجرعها مستلذاً مرارتها. فما هو الدافع الخفي الذي يقف المرأة من الرجل هذا الموقف؟؟ بل الذي يوجه غرائزها وأطباعها إلى ذلك. أرادت أو لم ترد؟؟
إن المرأة تعبد القوة وتهيم بها - قوتها هي - تلك الهبة التي حرمتها منها الطبيعة فكان لزاماً عليها أن تلتمسها في غيرها ثم تفرض نفسها على ذلك الغير لتكون هي الدافعة والمحركة، فهي القوة وهو آلتها، أما وسيلتها إلى تحقيق تلك القوة أو أخذها قسراً من الرجل، فهي شباك الطبيعة المعطاة لها من جمال ودلال، تتلمس بهما إعجاب الرجل، لتفرض عليه شخصها فإن بطل إعجابه بها فقد انهارت قوتها، وحق لها أن تغدر وأن تخون
ونتلمس مدى صدق هذه النظرية في عبلة فنراها تحب عنترة القوي بجسمه وروحه، مفاخرة بنات حيها بذلك الحب. فهي (عن عنترة أخذت بلاغة الشاعر) ثم هي مفتونة به، لأنها لا تجد سواه (من يحمي الذمار ويذود عن الحمى) ولكنها كما قلنا تحب القوة في نفسها، فلا بد أن يكون عنترة لها تبعاً، ومن هنا جاز أن تدفعه إلى المخاطرة بمصاولة الضرغام، ليأتها بجلده. والويل له إذا لم يأت به. لأنها لا تعرف إذ ذاك (ماذا تقول لنساء الحي إذا هو عاد صفر اليدين). فنفسها وغرورها وفرض شخصيتها هو همها الأول.
ولكن للقوة مظاهر غير الشجاع. فهناك قوة الجاه والثراء تعرض لها متمثلة في شخص الأمير (عمارة الكندي)، الذي يزور الحمى فتلاقيه عبلة يدفعها الحنق عن غياب عنترة، وتأخذ في ملاطفته، حتى إذا ما عاد بطلها حاملاً إليها جلد الضرغام نسيت الأمير وجاهه، لأن غرورها وجد وقوده. ولكنها تريد أن تتأكد لنفسها من أنها تستطيع استلاب هذا البطل
أعز ما يملك، ألا وهو سمة رجولته وعنوان شجاعته، فتحتال عليه حتى يحلق لحيته. ثم لا يكون جزاؤه منها إلا التأبي، لأنها لا تريد غير عنترة القوي! ويذهب عنترة إلى فارس وتطول غيبته هناك ويجد الأمير في غيابه منفذاً إلى قلبها، فترضاه خاطباً إن جلب لها مطلبها المرهق من النياق العصفورية. فيرحل هو الآخر في طلبها. ولكن نعىّ عنترة يأتيها فتبكي فيه حبها؛ بل تبكي فيه الطبل الأجوف الذي ينشر أحاديث حبها؛ وسرعان ما تسمع بمقدم الأمير فتخف لاستقباله مراعاة لأدب الضيافة. وأدب الضيافة أحد سيوف المرأة الفواتك. ولكن عنترة لم يمت، فقد عاد إليها من (فارس)، بقلب جديد، لا يؤثر فيه نسيم الصحراء، ولا يسبيه حديث الغرام، ولا يأسره سحر العيون. . . عاد عنترة المدني الجديد. . . فتحتال لاسترجاعه، ولكن كيف، وقد تفتحت عينه على ما لم يدر من الدنيا، فتثور فيها الضغينة على قوتها المفقودة. وإذ ذاك تعد له الطعنة النجلاء، بأن تعيده إلى رقها بما تملك من وسائل، ثم تولى عنه انتقاماً، ويتم لها ذلك، فتطعن عنترة الذي حركت في قلبه الهوى، وتنحاز إلى خطابها الأمير، معتذراً من مداعبتها له بأنها كانت تلهو معه، ولصدقت لقالت (كنت ألهو به)!!
وتزف إلى الأمير وإن قلبها لضائق به. وما أن يعرض لها ركب عنترة، حتى تغري أميرها بنزاله، وتدفعه بيدها إلى الموت بسيف عنترة. ثم تعود لتنظر إليه، وقد أصبح سيد الموقف، وتغنُّ له النداء كما كانت تغنه. فتنسيه ما كابد بسببها من هوان، وما تجشم من أخطار، ويعود إليها منصاعاً مغلوباً على أمره. . . فأي شجاعة في قلبه هذا البطل المقحام. وما غناء شجاعته إذا كانت الحرب بينه وبين حواء!!!
لقد استطاع تيمور بحق أن يعرض لنا صورة عارية للمرأة، تلك التي تلعب بالرجل لتعوض به نقصها، بل لتسلبه قوته نفسها، وهو هو المطية الذلول، سواء أكان أشجع الشجعان أم أهو من أهل الهوان، كل هذا في أسلوب شائق جذاب، وحبك محكم يستحق عليه تهنئة الناقد وتقدير الأديب.
خليل منصور الرحيمي
القَصَصُ
وفاء. . .!
للقصصي الفرنسي جي دي موباساق
بقلم الأديب السيد كمال الحريري
كانت عربة القطار غاصة بالركاب منذ (كان)، والأحاديث تدور على ألسنتهم، بعد أن تعارفوا أو تآلفوا. وحين مر القطار (تاراسكون) قال أحدهم.
- في هذا المكان تجري حوادث القتل. وهنا طفق الركب يتكلمون عن سفاك مجهول، أعجز الأمن وأخذ عامين يعيث فتكاً بأرواح المسافرين فكل أخذ يبدي عنه افتراضاً ويدلي برأيه، أما النساء فكن ينظرن برعب إلى الليل البهيم من خلال زجاج العربة، وقد خفن أن يبصرن فجأة رأس ذلك السفاح، يطالعهن من باب غرفة القطار.
ثم أفاض المسافرون في سرد قصص مرعبة ومصادفات مفزعة ومجابهات مع المجانين في عربات القطار.
كل حاضر كان يعلم حادثة من هذا النوع يسردها على شرف جرأته. وما منهم على زعمه، إلا سبق له أن خوف لصاً أو صرع مجرماً أو جندل أثيماً: في ظروف غريبة وبديهة حاضرة وشجاعة فائقة. وأراد طبيب أعتاد كل شتاء عبور جنوب فرنسا أن يدلي بدلوه بين الدلاء فقال:
- أما أنا فلم يسعدني الحظ باختبار شجاعتي في ظروف كهذه، بيد أني أعرف امرأة من زبائني المرضى (وتوفيت الآن) حدث لها أغرب حادثة يمكن أن تحدث في هذا العالم.
لقد كانت روسية، واسمها ماري بارانواي، وهي من كرائم العقائل، ذات جمال ساحر وحسن رائع. وأنتم تعلمون كم هن جميلات الروسيات، أو على الأقل كم يظهرن لنا حساناً فاتنات بآنافهن الدقيقة، وثغورهن الصغيرة، وعيونهن الزرقاء السنجابية
وإن فيهن مزيجاً غريباً من الوقاحة المغرية، والكبرياء الحلوة والقسوة العطوف، التي تجذب القلب الفرنسي وتأسره. وفي الحق قد يكون اختلاف الجنس هو الذي يريني فيهن هذا النوع من الجمال.
لقد كان طبيبها منذ سنين عديدة، يراها مهددة بمرض صدري عضال، وكان يسعى كثيراً أن يحملها على السفر إلى جنوب فرنسا للاستشفاء ولكنها كانت ترفض بإصرار مغادرة (بطرسبورغ).
غير أنه، في الخريف الأخير، وقد أيقن الطبيب أنها هالكة توصل إلى إقناع زوجها الكونت، بالإيعاز لها بالسفر إلى (مانتو). فاستقلت القطار وجلست في مقصورة وحدها بالعربة، أما خدمها ومرافقوها، فقد شغلوا غرفة خاصة بجانبها. وهناك لبثت حزينة، بقرب نافذة القطار تطل على الجبال والدساكر والقرى، وهي تمر مراً خاطفاً أمام عينيها. بينما هي وحيد ة منبوذة من الحياة، ايس لها ولد ولا قريب، غير زوج زال حبها من قلبه، فألقى بها إلى البلد النازح كما يبعث السيد بتابعه العليل إلى مصحة دون أن يرافقه. وعند كل محطة كان وصيفهه (إيفان) يأتيها مستعلماً أما إذا كان هناك حاجة تنقصها. ولقد كان خادماً قديماً في خدمة مولاته، متفانياً في إخلاصه لها، مستعداً دائماً لإنفاذ كل رغبة أو إشارة. واعتكر الليل والقطار يدوُِي ويهوي هوياً على السكة الحديدية، وجفن (الكونتس) لم يغتمض لتهيج أعصابها وثوران نفسها. خطر لها فجأة أن تعدّ ما خلفه لها زوجها حين توديعه إياها من نقود ذهبية فرنسية. ففتحت حقيبتها الصغيرة وأفرغت منها على حجرها موجاً براقاً من المعدن الذهبي. ولكن على حين غرة هبت عليها نسمة باردة. وما كادت ترفع بصرها مذعورة مصعوقة من المفاجأة حتى أخذت قبضة باب العربة تتحرك وتهتز، فذعرت الكونتس وألقت بغتة على نقودها المنتشرة شالاً كان في حضنها ثم راحت تنتظر. ومرت لحظات ظهر بعدها رجل عاري الرأس، جريح الذراع، يلهث وهو في ثياب المساء. فأغلق باب العربة وجلس يحدق بعينين لماعتين، إلى جارته. ثم إنه ربط كفه التي كانت تقطر دماً بمنديل. فشعرت الصبية بالخوف يهدها هداً، وتحقق لديها أن الرجل عاينها وهي تعد النقود، وإنما أتى إليها كي يقتلها ويستلبها ما عندها. كان يحدق بها منبهر الصدر لاهث النفس متشنج عضلات وجهه، وهو متهيئ لأن يهاجمها ويسطو عليها بلا ريب. وقال بغتة:
- لا تراعي مني أيتها السيدة. فلم تنطق بكلمة لعجزها عن فتح فمها رعباً، واستمعت له وقلبها خفاق من الذعر، وأذناها تطنان طنيناً مدوياً. قال لها:
- إني لست فاتكاً ولا مجرماً أيتها السيدة. بيد أنها ظلت ملتزمة جانب الصمت، وبدت منها حركة فجائية، اقتربت منها ركبتاها إلى بعضهما فجرى الذهب من حجرها إلى بساط الأرض، كما يجري الماء من الأنبوب. ودهش الرجل، فأخذ يحدق في هذا الجدول الجاري من الذهب. . . ثم مال فجأة إلى الأرض لالتقاطه. أما هي فريعت ونهضت ملقية على الأرض جميع ثروتها، ثم هربت إلى باب عربة القطار تود أن تقذف بنفسها؛ غير أنه أدرك ما عزمت عليه، فوثب من مكانه وأمسكها بيديه، ثم أجبرها على الجلوس وقال لها وهي ترتعد بين يديه:
- اصبغي أيتها السيدة. لست شريراً ولا فاتكاً، ودليلي على هذا إني سألتقط هذه النقود وأردها إليك. . . إني رجل هالك ومحكوم علي بالموت، إن لم تعينيني على اجتياز الحدود الروسية، وليس بوسعي أن أبسط لك القول أكثر من هذا. ففي خلال ساعة سنصل آخر الحدود الروسية، فإن لم تنجديني إني إذاً من لهالكين. ومع ذلك أيتها السيدة، أقسم لك أني لم أرتكب قتلاً، ولا اقترفت سرقة أو جرماً يسيء الشرف ويخدش الكرامة. احلف لك على هذا، وليس بمقدوري أن أزيدك في القول. ثم جثا الشاب على ركبتيه، وأخذ يلتقط النقود، وينقب حتى أصغر قطعة متدحرجة منها، وحين أفعمت محفظة النقود كما كانت، ناولها لجارته دون أن ينبس بنت لسان، ثم انتقل وجلس في الزاوية الثانية من عربة القطار، وظل الاثنان ساكنين، لا يبديان حركة، ولبثت هي في صمتها وسهومها وجمودها: أسيرة الخوف الذي بدأ ينجلي عنها شيئاً فشيئاً. أما هو فلم يظهر حركة أيضاً، ولم يبد إشارة. بل استمر مستقيم الجلسة تحدق عيناه إلى الأمام، ووجهه مصفر اصفرار وجوه الموتى.
على أنها كانت من حين لآخر ترميه بنظرة خاطفة. كان رجلاً في الثلاثين من سنيه، شديد الفتنة سليم القسمات، في وجهه سمة النبل والاستقامة. وظل القطار يخترق حجب الظلام، ملقياً في أذن الليل الدامس صفارته الحادة الصارخة، ولا يكاد يهدأ من سيره ويخفف قليلاً من سرعته حتى يستأنف لجبه وهويه وهديره، ولكن فجأة، خفف من مشيته، ثم انطلقت من قاطرته عدة صفارات ووقف تماماً عن السير.
وبدا الوصيف (إيفان) على باب الغرفة، يتلقى أوامر سيدته فتأملت الكونت ماري مرة أخيرة رفيقها الغريب، ثم قالت لتابعها بصوت أجش:
- إيفان ستعود إلى زوجي (الكونت)، لأني لست بحاجة إليك الآن. فصعق الرحل وأطل عليها بعينين مفتوحة دهشة ثم تمتم:
- ولكن يا مولاه. . . فقاطعته
- لا، لن تأتي معي، لقد بدا لي فغيرت رأيي، وأريد أن تبقى في روسيا. هاك نفقة رجوعك، وهيا ناولني معطفك وقبعتك.
فتجرد الخادم المدهوش من معطفه، وأنزل قبعته عن رأسه طائعاً دون كلمة، لأنه تعود من مولاته كل إرادة فاجئه أو رغبة وهوى لا سبيل إلى مقاومته. ثم غادر عربة القطار، وعيناه تفيضان من الدمع. وتحرك القطار ثم إنقذف مخترقاً الحدود، وحينئذ قالت (الكونتس) لجارها:
- هذه الملابس هي لك يا سيدي، فأنت منذ الآن (إيفان) تابعي. على أني اشترط عليك شرطاً واحداً جزءاُ ما قدمته إليك من جميل الصنع: هو أن تكلمني ولا تفتح معي باباً من حديث، سواء أكان من أجل شكري؛ أم من أجل توضيح هذا التصرف معك. فانحنى الرجل المجهول أمامها طائعاً، ولم تتحرك شفته بكلمة. وبعد قليل وقف القطار من جديد، ثم طفق موظفون بملابس وبذلات خاصة، يفدون إلى عربات القطار، فمدت الكونتس إليهم أوراق السفر، ثم أشارت إلى الرجل الغريب القابع في زاوية العربة وقالت:
- هذا تابعي (إيفان)، وهاكم جواز سفره. وأستأنف القطار جريانه وهديره، ومرَّ عليهما الليل بطوله ورأسها إلى رأسه لا ينطق ولا تنطق. وأقبل الصباح وقد جاز القطار قرية ألمانية فنزل الرجل المجهول من العربة، ثم وقف على بابها يقول:
- اعذريني أيتها السيدة، إذا أخللت بشرطي معك. . . ولكني حرمتك من خادمك، فمن الظرف والعدل، أن أحل مكانه. . . هل أنت محتاجة إلى أمر أنفذه، فقالت في برود.
- نعم استدعى وصيفتي، فغادر العربة ليقوم بما أمرته ثم اختفى عنها. . .
ولما نزلت إلى مشرب المحطة (بوفيه)، بصرت به عن بعد يرامقها النظر ثم. . . ثم بلغ القطار (مانتون).
وسكت الطبيب المتحدث لحظة، ثم واصل كلامه يقول: ففي ذات يوم، بينما كنت أتقبل زبائني في عيادتي، شاهدت فتى غرانقاً يدخل عليَّ ويقول:
- سيدي الطبيب، لقد جئت استعلم منك، عن صحة الكونتس (ماري بارانواي) فإني برغم كوني نكرة عندها، صديق وفىّ لزوجها. فأجبته في أسى: إنها مشرفة على التلف، ولن ترجع إلى روسيا ثانية. فاستخرط الفتى في بكاء مرّ. ثم نهض خارجاً من الغرفة، وقد رنحه الخبر ومال بعطفه.
وفي نفس المساء، أنهيت إلى الكونتس، بأن غريباً جاء يستخبرني عن أنباء صحتها، فبدا عليها التأثر، وراحت تقصّ كل ما سردته على مسمعكم ثم أضافت.
- هذا الرجل الذي ما كنت أعرفه قبل ذلك الوقت، يتبعني الآن كظلِّلي. وإني لألتقي به دائماً، في مراحي ومغداي. وأراه ينظر إليّ نظرات غريبة دون أن يناقلني الحديث، ثم أطرقت لحظة واستأنفت.
- انظر. إني لأراهنك على أنه الآن واقف تحت نافذتي. قالت هذا، ثم غادرت كرسيها الطويل، وراحت تزيح الستار عن النافذة. فإذا بها تبصر الرجل الذي استقبلته في عيادتي. وكان جالساً على مقعد من مقاعد النزهة، وعيناه شاخصتان إلى نافذة الفندق. وبمشاهدته إيانا، نهض وابتعد دون أن يلتفت إلينا. . .
ومنذ يومئذ، كنت شهيد مأساة غريبة: لحب صامت أخرس، يقوم بين شخصين لا يعرف كل منهما عن الآخر شيئاً. أما هو فقد كان يتعلق بها قلبه، وتهفو إليها جوانحه. بإخلاص الحيوان الشاكر منقذه من الموت. وفي كل مساء كان يزورني متلهفاً.
- كيف حالها يا سيدي؟ يقول هذا وهو يعلم أني لأفهم من يقصد. ولقد كان يستعبر بمرارة، حين يعلم أن الضعف والمرض يتخونانها يوماً بعد يوم. وكانت هي تقول لي:
- إني لم أحاوره في حياتي إلا مرة واحدة. ومع ذلك يخيل إلي أني أعرفه منذ عشرين سنة. وكانا حين يلتقيان صدفة ويحييها ترد إليه تحيته في ابتسامة وقورة فاتنة. وكنت أشيم دلائل السعادة في وجهها: فهي المهجورة المتروكة من الزوج والأهل، وهي التي استيقنت من موتها القريب، كان يُشيع في وجهها الرضى والاطمئنان أن ترى نفسها محبوبة بمثل هذا الاحترام الخالص والشاعرية الملتهبة والإخلاص المحض ومع هذا كانت ترفض بيأس استقباله والتعرف إلى شخصه واسمه حتى ومكالمته ولو بكلمة ولقد كانت تقول:
(لا، لا إن ذلك ليفسد علينا ما نحن فيه من صداقة غريبة. وينبغي لكل منا أن يظل غريباً
عن الآخر).
وفي الحق، لقد كان هذا الشاب، صورة ثانية لشخصية (دون كيشوت) لأنه لم يحاول مرة الاقتراب منها، كأنما كان يريد أن يستمسك حتى النهاية بالوعد الذي قطعه على نفسه في القطار: أن لا يحدثها أبداً. وفي الغالب، حين تشتد عليها نوبات مرضها وضعفها، كانت تنهض من كرسيها، وتروح تزيح الستار عن النافذة، لترى إن كان هو هناك؛ يرقبها وإذ تبصره جالساً على المقعد جلسته المتأملة الساكنة، تعود إلى كرسيها وعلى شفتيها بسمة الرضى والسعادة. . .
وماتت الكونتس، في الساعة السادسة من صبح ذات اليوم. فبينما كنت خارجاً من الفندق أقبل عليّ الفتى منطفئ اللون بادي الاضطراب وكان على علم بالنعي الأليم فقال ملتاعاً:
- أتمنى عليك يا سيدي رؤيتها لحظة، ولو أمامك. فرافقته إلى غرفة المتوفاة ولما مثل أمام سرير الميتة، تناول يدها وأذ يلثمها لثمات حراراً طويلة ما لها نهاية. . . ثم انفلت من الغرفة كمن فقد صوابه وصمت الطبيب من جديد، ثم قال:
هاكم يا سادتي أغرب حادثة أعرفها عن السفر، ويجب الاعتراف بأن الرجال مصابون بالخبل. فتمتمت امرأة بصوت خافت:
- إن ذينك المخلوقين اللذين ذكرت هما أقبل خبلاً وجنوناً مما تظن. لقد كانا. . . لقد كانا بيد أنها لم تستطع متابعة جملتها لأن البكاء قطعها عليها، وبما أن الحاضرين انحرفوا بالحديث عن وجهته كي يهدئوا جأشها، لم يعلم أحداً أبداً ما كانت المرأة تود أن تتم به كلمتها. . . لقد كانا. . .
(حلب)
كمال الحريري