الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 703
- بتاريخ: 23 - 12 - 1946
تناسخ العادات
للأستاذ عباس محمود العقاد
ماذا يقول السائح الغريب إذا نزل بالقاهرة يوم الأحد فرآها - أو رأى الكثير من أحيائها - مغلقة الدكاكين والمصارف وكاتب الأعمال؟
إنه سيحار في تعليل هذه الظاهرة
وربما رفع بصره إلى الأسماء ليتبين أديان أصحابها فيزداد حيرة على حيرة، لأنه يرى بينها اسم محمد وحسن ومصطفى، كما يرى بينها اسم جرجس ونيقولا وكوهين!
فليس اليوم يوم صلاة دينية عند جميع هؤلاء، وليست البطالة لمعنى من معاني الدين يتفق عليه أصحاب الدكاكين أجمعين
العل القوم إذن خاضعون لحكومة مسيحية؟
ولا هذا أيضاً هو سبب البطالة في يوم الأحد. فأن حكومة البلد حكومة إسلامية، ولم يكن حكامها الأجانب - يوم كانوا يحكمونها - ممن يقترفون هذه الغلطة السياسية التي لا تؤمن عقباها، وهي غلطة الإكراه في مسائل المعتقدات
ولا شك أن الحيرة ستزداد وتزداد إذا طال المقام بالسائح الغريب إلى العيد السنوي المشهور باسم عيد الميلاد
أي إلى اليوم الخامس والعشرين من الشهر الثاني عشر من السنة الميلادية
فإنه سيرى أناساً من المسلمين يسهرون في ليلة هذا العيد ويحتفلون به في المنازل والمحافل، ويطربون فيه ويقصفون
أتراهم يقصدون الاحتفال لمعنى من معاني الدين؟
كلا. ولعلهم لا يذكرون ما معناه على التحقيق. ولكن العادة الاجتماعية هي التي حسنت لهم هذا الاحتفال على سبيل المحاكاة، والعادة الاجتماعية تعززها المصالح الاقتصادية هي التي عممت بين فريق من المسلمين بطالة يوم الأحد، لأنهم يربطون بالمصارف والشركات التي تنقطع عن العمل فيه، فلا يحبون أن ينقطعوا يومين كل أسبوع، ولا يستطيعون أن يعملوا أيام الأسبوع كله. فبطالة الأحد إذن أيسر الحالين
لكن ما العمل إذا كان السائح الغريب من أبناء القرن الأول للميلاد ورأى هذه الأعياد
الأسبوعية، وهذا العيد السنوي، في لندن أو باريس أو روما أو برلين، ولا نقول في القاهرة أو دمشق أو بغداد؟
أيخطر على البال أنه لا يرى في الأمر عجباً ولا يحار كما حار صاحبه من إحياء هذه الأعياد بين المسلمين في العصر الحديث؟
أيخطر على البال أنه سيرى الأمر طبيعياً مألوفاً لا يوجب التساؤل ولا يتطلب التفسير؟
كلا. فإن حيرته لأصعب، وإن عجبه لأعجب! لأن الخامس والعشرين من شهر ديسمبر لم يكن قط عيد الميلاد في القرن الأول ولا في القرن الثاني ولا في القرن الثالث للسيد المسيح
ولم يكن يوم الأحد قط يوماً يحتفل به المسيحيون في تلك القرون الأولى
بل كان يوم الأحد قط يوماً يحييه عباد الشمس، لأنه كان عندهم يوم الشمس كما يسمى بالإنجليزية إلى اليوم
وكان اليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر هو يوم انتصار الشمس على أعدائها الثائرين عليها، وهم أرباب الظلام.
ففي هذا اليوم - كما ظهر لهم من حسابهم - يأخذ الليل في القصر ويأخذ النهار في الطول، وفي هذا اليوم - على هذا الاعتبار - ترتد جيوش الظلام أمام جيوش النور، وترجع للشمس حصتها الوافية من الزمن، فلا يسلبها الظلام حصتها من الملوين.
فكان المصريون يحتفلون في هذا الموعد بعيد حوريس، وكان اليونان الأسيويون يحتفلون فيه بعيد مترا إله النور، وكان الرومان يقيمون في الأسبوع كله - من اليوم السابع عشر إلى اليوم الرابع والعشرين - عيدا يسمونه ويتبادلون فيه الهدايا ويقدمون القرابين إلى الأرباب
ولم تتفق كلمة الكنيسة الغربية على الاحتفال باليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر إلا في منتصف القرن الرابع للميلاد. أي سنة 254.
وكان رؤساء الكنائس قبل ذلك يرون أتباعهم يقبلون على محافل الوثنيين في تلك الأعياد فيصرفونه عنها ويحببون إليهم أن يشهدوا الصلوات تكريماً للسيد المسيح بدلاً من شهود المقاصف والملاهي ومعابد الوثنية التي تفتنهم عن الأيمان الصحيح.
ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأنهم يثبتون تاريخ الميلاد ويوم الاحتفال، بل لأنهم يرون السيد المسيح أحق بالتكريم والذكرى من مترا وحوريس والشمس وغيرها من الكواكب. ثم تدرجوا إلى الاحتفال بميلاد السيد المسيح بديلا من ميلاد تلك الأرباب.
على أن المتطهرين الذين اشتهروا باسم (البيوريتان) في البلاد الإنجليزية حرموا الاحتفال باليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر واستصدروا بذلك قرارا من البرلمان سنة 1644، وعللوه باستنكارهم لإحياء السنن الوثنية القديمة، واستندوا إلى التواريخ الإغريقية والرومانية القديمة وإلى تاريخ الإنجليز أنفسهم قبل التدين بالديانة المسيحية. فقد ذكر مؤرخهم الكبير بيد الملقب بأبي التاريخ الإنجليزي أن القبائل الإنجليزية الأولى كانت تحي ليلة الخامس والعشرين من ديسمبر وتسميها ليلة الأمومة لأنهم كانوا يقيمون احتفالهم بها قبيل الفجر استقبالا لمولد النور وهو في باكورة أيامه، ولم يكن (بيد) من المخالفين للكنيسة بل كان من كبار رجال اللاهوت، وعاش في القرن السابع للميلاد بين القساوسة والرهبان.
فعادات اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر مزيج من عادات عشرين أمة أو تزيد، وبعض هذه العادات سابق لمولد السيد المسيح وبعضها لاحق له بل متأخر إلى أيام القرون الوسطى.
فأما العادات السابقة فقد ألممنا بطرف منها فيما تقدم.
وأما العادات اللاحقة فمنها عادات الشجرة التي تسمى بشجرة عيد ميلاد وهي من شعائر البلاد الشمالية ولاسيما بلاد الجرمان.
ومنها عادة تعليق الجوارب إلى جانب الفراش وهي مأخوذة من الفرنسيين والبلجيكيين.
ومنها تسمية القديس الذي يطوف بالهدايا على الأطفال وهم نائمون، وهي مأخوذة من الهولنديين. واسم القديس سانتا كلوز من أسماء التدليل والإعزاز للقديس نكولا الذي سجنه القيصر دقلديانوس وأطلقه القيصر قسطنطين. . فليس هو من الهولنديين في أصلة ولا من الأوربيين على التعمم؛ لأنه من أبناء آسيا الصغرى على أشهر الأقوال، واسمه كلوز هو الاسم الذي يستخف على ألسنة الأطفال الصغار للتدليل والتحبيب.
شيء من آسيا الصغرى، وشئ من فلسطين، وشئ من هولندا، وشئ من أوربة على
الاجمال، ويحتفل به المشارقة والمغاربة في آسيا وأفريقية. . . ومنهم مسلمون.
فأي دواء لعصبية العادات والشعائر أصح من هذا الدواء؟ وأي سخف في العقول أسخف من عداوة إنسان لإنسان أو أمة لأمة لاختلاف عادة يقال إنها عادة دينية، وقد رأينا كيف يشترك اليوم الواحد في احتفال عباد الشمس وعباد حوريس وعباد الله وعباد سائر الأديان بين سائر الأقوام؟
ومن الطريف أن أناسا من هنود أمريكا الحمر تعودوا أن يقطعوا الجبن في ليلة عيد الميلاد ولا يدرون فيم هذه العادة حين يسألون عنها.
ولكن الإنجليز حملوها معهم إلى القارة الأمريكية فأصبحت من العادات الاجتماعية التي لا علاقة لها بشعائر الدين.
وهل لها مع ذلك علاقة بالدين عند الإنجليز أنفسهم قبل الهجرة إلى القارة الأمريكية؟
كلا. . بل هي من بقايا عادات (القلت) التي كان يباشرها كهانهم المعروفون باسم الدرود. . وكانوا يباشرونها قبل غزوة الرومان للجزر البريطانية.
وأطرف من هذا في باب تسلسل العادات أن ولائم هذا العيد لا تخلو في الشرق والغرب من الديك الذي يسميه المصريون بالديك الرومي، ويسميه أهل الصعيد منهم بالديك المالطي، ويسميه الإنجليز بالديك التركي، ويسميه الفرنسيون بالديك الهندي ' ومنها أخذنا كلمة (الدندي) التي نسمي بها هذا الديك في بعض الأحيان.
فما علاقة هذا الديك الموزع الأسماء بين الأمم بعيد ميلاد السيد المسيح؟
أكان له شأن في قرابين عيد الميلاد التي اصطلح عليها المسيحيون الأسبقون؟
لم يكن له شأن قط بذلك العيد بين المسيحيين الأولين. بل لم يكن معروفا في الدنيا القديمة قبل كشف القارة الأمريكية. لأنه كان من طيور أمريكا الشمالية، ونقل منها إلى جنوب أوربة فأخطئوا في نسبته إلى الشرق، كعادتهم يومئذ في نسبة كل وارد جديد إلى البلاد الشرقية.
ومع هذا يراه السائح الغريب حتما على مائدة الشرقي والغربي في ليلة عيد الميلاد، فيحار ولا يرى آخر الأمر مناص من نبذ الحيرة ظهريا في أمثال هذه الشؤون.
فالعادات الاجتماعية وراثة بين البشر أجمعين، وقلما تنحصر عادة من عادات المحافل
العامة في قبيل واحد يستأثر بها من البداية إلى النهاية.
إنها أسرة واحدة. . . ففيم الخلاف على العادات والشعائر والأيام والأعياد؟؟
عباس محمود العقاد
مقالات في كلمات:
في أثناء المرض. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
موازين الرجال:
أصبحت من أيام فوجدت رأسي من ثقل كأنه حجر رحى ركّب بين كتفّي، وكأنه من الصداع بدقّ من داخله بالداقّ، وكأن جفنيّ قد شدَّ إلى الأرض فما أفتحهما حتى يعودا فينطبقا، ووجدت في حلقي إذا أبتلع ريقي مثل حزَّة الشفرة، وفي كل مفصل من مفاصلي ألماً، وفي أعصابي من الخَدرَ مثل مشي النَّمال، ووقفت فاصطكت ركبتاي، ودِير بي، فعدت إلى الفراش. . .
ولم يصدق أهل الدار أني مريض: لأنهم لم يروا علىَّ لمرض أثرا، ولأن المريض عندهم إنما هو الشاحب المهزول البادي العظام، وأكَّدت لهم القول فلبثوا مكذَِبين. يعتقدون أني أتدلل عليهم وأني أتكاسل وأوثر الراحة والاستمتاع برعاية المرض، على إرهاق النفس بمعالجة نسوان المحكمة، وصبيان المدرسة. . . ويئست من إقناعهم بمرضي فأعرضت عنهم وتشاغلت بالتفكير.
فكرت في هؤلاء الناس إذا كانوا لا يميزون المريض من الصحيح، والمرض شئ ظاهرة آثاره، بادية إمارته، فكيف يميزون الطيب من الخبيث، والصالح من الطالح؟ وكيف يقيسون أقدار الناس، وكيف تكون عندهم موازين الرجال؟ أو لا يخطئون في أحكامهم على الناس خطأ أهلي في الحكم على مرضي، إذ يقيسون المرض بالشحوب والهزال، ورب شاحب هزيل ما فيه إلا جلد على عظم وهو الصحيح المعافى الأيد القوى، وربّ سمين يكاد يَنْفَزر من كثرة الشحم واللحم، وهو مَحْمَل أمراض وهو الضعف مجسّما والعجز؟
وفكرت فيَّ أنا، كيف أحكم على الناس؟ فذكرت أنه يدخل علىّ الرجل لا أعرفه فأحكم عليه بادي الرأي بثيابه، فان كان يلبس العمامة والجبة أنزلته من نفسي منازل العلماء، وإن كان بزي الفلاحين أحللته محال الفلاحين، فإذا تكلم بدلت رأي فيه وحكمت عليه بكلامه، فإذا عاملته كان الحكم عليه بمعاملته، فهذه عدة مقاييس: الثياب والكلام والمعاملة، فأيها هو
الصحيح؟
ثم إن للناس مقاييس غيرها تعلو وتنخفض، وتتسع وتضيق، وتصح وتفسد، فهم يقيسون، وبمنصبه، بل إن فيهم من يتخذ مقاييس أعجب وأدنى، فصبَّاغ الأحذية يقيس عظمة الرجال بلمعان أحذيتهم لا بعلمهم ولا بفضلهم، والخياط يعتبرهم بطولهم وعرضهم، ومفتش القطار بدرجات ركوبهم، ونادل القهوة بحلوانهم وأهل السجن يقيسون عظمة النزيل عليهم بجريمته، فالقاتل أعظم من السارق، وكلما عظم الجرم عظم القدر، وعامة الناس العظمة عندهم بالشهرة فإذا نزلت بلدهم المغنية أو الرقاصة ارتج لها البلد وتسامع بها الناس وتباشروا بمقدمها وهرعوا كلهم إليها، وإذا هبط الأديب المفرد، أو العلاَّمة العَلَم؛ لم يدر بمهبطه إلا القليل، ولم يَسْع للسلام عليه إلا الأقل منهم، وتقرأ على أحدهم المقالة تخبره أنها لرجل مغمور فيوسعها ذماً وقدحاً، فإذا أخبرته أنها للكاتب المشهور انقلب القدح مدحاً والذم ثناء وإكباراً. . .
ولو سألت الخاصة ما هي مقاييس العظمة لوجدتهم مختلفين، وقديماً قال المثل السائر:(وقلت للفرنسي فلان عظيم، قال لك: ما هي شهاداته؟ والإنجليزي يقول: ما هي معلوماته؟ والألماني يقول: ما هي أعماله؟ والأمريكي يقول: ما هي آثاره؟). أما نحن فنقول: من هو أبوه؟ لأن القاعدة عندنا اليوم، أن من قصَّر به نسبه أو نشبه، لم يسرع به علمه ولا أدبه!
فما هو الميزان الصحيح لأقدار الرجال؟
نقابة الأشرار:
ولولا أن الفضل عندنا بالنسب لما قامت قيامة جماعة منا، إذ ألغت الحكومة نقابة الأشراف، ولما نادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولما زعموا أنه هد ّركن الدين، وهوت قبة الإسلام، وأحدث الحدث الأكبر الذي لا يزيله إلا غسل صحيفة هذا القرار سبعاً إحداهنَّ بالأشنان والتراب الأحمر. . .
ولقد كانت نقابة الأشراف ملغاة فأعيدت من خمس سنين، فما خسرنا بإلغائها شيئاً في ديننا ولا في دنيانا، وما ربحنا بعودتها إلا ثمن عشرين ذراعاً من الحرير الأخضر اتخذها النقباء عمائم، ولا شئ فوق هذا ولا تحته. . .
وأنا أفهم أن يكون للمحامين نقيب لأن المحامين طبقة خاصة من لم يكن منها كان خارجاً
عنها، وللأطباء نقيب، ولعمال الطباعة، وسائقي السيارات.
أما الأشراف. . .؟ فهل تريدون أن تسيئوا إلى الإسلام كذبا وافتراء فتوهموا الأجانب أن الشرف عندنا بالنسب؟ وأن من شعائر الدين أن يكون لأشرافكم هؤلاء. . . نقيب؟ وإذا كان الشيء يعرف بضده فهل يكون كل خارج عن هذه (النقابة. . .) غير شريف، أي رذيلاً؟ وهل ترون أن نطالب نحن أيضاً الحكومة أن تعمل لنا نقابة أرذال، أو إذا شئتموها على الوزن. . . (نقابة أشرار)؟
إنكم ستسبونني. . . الله يسامحكم! بسّْ قولوا لي من فضلكم: كيف لم يدرك الصحابة والتابعون أن الشرف بالنسب، وحسبوه (جهلا منهم) بالدين والمعاملة والتقوى؟ وكيف لبثوا في الصدر الأول الذي هو الخير القرون مئات من السنين بلا نقيب أشراف ولم تنقض عري الإسلام؟
كيف يا أيها السادة؟ كيف. . . بالله عليكم؟؟ ألم يخطر على بالكم ذلك أبداً؟؟
وظائف الإنشاء:
ودخل علىّ الطبيب، وهو ابن عمي ولِدَني ورفيقي في مدرستي، فرآني أكتب فقال: ما هذا؟ أتجبر نفسك على الكتابة وأنت مريض، أهي وظيفة إنشاء؟ قبح الله وظائف الإنشاء. قلت: ولم؟ قال: لأني ما أفلحت فيها قط ولا أحسنت كتابتها. قلت: ليس بعجيب وأنت طبيب أنك لم تكن تفلح فيها، ولكن العجيب بي أنا، إذ لم آخذ في الإنشاء مادون الدرجة الوسطى، ولم يكن معلم يعتقد أني أصلح للكتابة، وذلك أنهم كانوا يكلفوننا الكتابة في موضوعات لا يكتب فيها، ولقد سئلنا مائة مرة هذا السؤال:(ماذا تحب أن تكون في مستقبلك؟) كأن الدنيا تمشي على ما أحب وما أكره، وكانوا يقدرون الدرجة لا على حسن الكتابة بل على بعد المطمح. ولقد أبعدت فتمنيت أن أكون ملكا وحاكما بأمره وشيخ إسلام وقائداً فاتحاً وما شئت من بعيد الآمال فما أعجب المعلم شئ من ذلك، ولا أعجبه أن أكون معلماً ولا شرطياً ولا تاجراً ولا لصاً. وسئلنا عشرين مرة أن نكتب في (وصف روضة)، فكنت أكتب وصف بستان أعرفه، فيه مزبلة وراء الباب وساقية ماؤها عكر، وغربان تصبح على الأشجار، فلا يرضى عنه لأنه يريد روضة ماؤها سلسبيل وحصباؤها درّ. وعلى دوحها العنادل والشحارير، ومن أين أصل إلى هذه الروضة حتى أصفها؟ وأعجب
من هذا أنهم كانوا يكلفوننا إنشاء الحوار علىألسنة الحمير والقطط وأنواع البهائم، وكيف لي بأن أفكر بعقل حمار حتى أتكلم بلسانه، كما يفكر الأستاذ المحترم حين يصحح الأوراق ويميز صادقها من كاذبها!
وما كان المدرسون ينظرون إلى صورة بارعة أو معنى مبتدع، إنما ينظرون إلى كلمة جاءت على غير الفصيح، أو فعل عدّى بغير الحرف الذي يتعدى به، هذا لأن المدرسين كانوا لا يفهمون إلا النحو والصرف واللغة، أما اليوم فلم يبق ولا هذا، مع الأسف، لأن أكثر المدرسين تعلموا العربية في باريس على أصمعي العصر الشيخ مارسيه. . . والذين نجوا من هذه السَّبة بعثهم الآن ليتعلموا في بلجيكا وسويسرا، أي والله، بل إن شيخاً مدرساً في الجامع الأموي، سيبعثونه ليتعلم علوم الدين في لندن!
على أن الذين تعلوا من طلابنا في الأزهر وجامعة مصر، لم يكونوا أقوى ولا أحسن من أولئك. . . وهذه كلمة حق قلتها ورزقي على الله!
قيمة الفلسفة والأدب:
ولعلّ المرض قد جعلني متشائماً أرى كل شئ في الدنيا أسود. . . وكذلك الإنسان يصيبه صداع يحتاج إلى حبة (أسبرين) أو إمساك دواؤه شربة (زيت خروع) فتبدل نظرته إلى الحياة وآراؤه فيها؛ فلو كان فيلسوفاً لكان متشائماً، ولو كان شاعراً لكان شاعراً أحزان، ولو كان قصصياً لكان مؤلف مآسٍ وفواجع. .
أفتكون قيمة الفلسفة المتشائمة والأدب الباكي، قيمة حبة أسبرين وشربة زيت خروع؟!
ثمرات درس الأخلاق:
ونظرت من الشباك أتسلى، وكان تحته كومة رمل أبيض وضعها جارنا ووكل رجلا وولده بنقلها إلى حديقته. فأقبل تلاميذ المدرسة، فقال عفريت منهم: تعالوا نسرق من هذا الرمل، فقالوا: إن الولد يرانا. قال: نعمل مثل الراعي الكذاب الذي قال لنا المعلم قصته، حين نادى: الذئب الذئب، فجاءوا فلم يروا شيئاً، وضحك منهم، فلما طرقه الذئب حقيقته ونادى لم يجئه أحد، قالوا: وكيف نفعل؟ قال العفريت: انظروا.
وأقبل كأنه يريد أن يسرق فنادى الولد أباه، فترك عمله في الحديقة وأقبل، فلم ير شيئاً
ورأى التلاميذ يضحكون فرجع، وجعل التلاميذ يأخذون من الرمل والوالد ينادي فلا يردّ أبوه ولا يصدقه. .
وكانت هذه ثمرة درس الأخلاق في المدرسة!!
ألف جنيه مصري:
وتركت الشباك، وأخذت جرائد عتيقة فجعلت أصفحها، فوجدت في إحداها إعلانا عن جائزة قدرها ألف جنيه مصري لصاحب أحسن اقتراح يقدم إلى المجتمع اللغوي لإصلاح الكتابة العربية. . . فعجبت من هذه الخرافة التي لا تزال تتردد على الألسنة، خرافة فساد الكتابة العربية وحاجتها إلى الإصلاح، وكنا نعظم أن نسمعها من بعض الكتاب المجددين المفسدين، فانعكس الزمان حتى صرنا نسمعها من ألسنة من أقيموا حراسا للغة القرآن وتراث الجدود، بل لقد سمعنا من كبير فيهم قاصمة الظهر التي أنكرناها على الأتراك، وأذاقوهم غصصها، فلما أَبَتْها هذه الأمة وأبى لها عقلها ودينها قبولها، جاءوهم بها في ثوب جديد، هو إصلاح الكتابة، وأنا لا أدري والله أيجدّ هؤلاء القوم أم هم يريدون شيئا يعملونه ويتسلون به حتى لا يقال انهم يجتمعون على غير شئ، ويأخذون المرتبات في غير عمل، فإن كانوا جادين فليعلموا أن كل تبديل في كتابتنا مهما قلْ يقطع صلتنا بماضينا، ويجعل هذه الكتب بالنسبة للناشئ الجديد كأنها مكتوبة بالكوفي لا يفهمها إلا الخاصة، وهو كما يبدو أقصر طريق لإبادة كتب الدين واللغة، والقضاء على المكتبة العربية حتى تصير من الآثار القديمة، وتعود كأنها اللغة الأجنبية التي لا تفهم إلا بترجمة. ثم ما عيب كتابتنا؟ مالها؟ أنا أراها كاملة لا تحتاج إلى زيادة، صحيحة لا يعوزها الإصلاح، بل هي تفضل من جهات كثيرة كتابة الأمم الأخرى.
ومن قال لهؤلاء الناس المحترمين، إننا أتباع لهم في كل مايقررون، نطيع أوامرهم، ونمشي على آثارهم، ونأتم بهم: نركع إن كبروا، ونرفع إن حمدوا، كلا والله، ولو أن مصر - لا سمح الله - قبلت بهذا، ما قبلنا به نحن، ولا أقررنا أي تبديل في كتابتنا، لأننا نثلج بذلك صدور أعداء الله وأعداء العربية الذين لا يغيظهم منا إلا أننا نتمسك بماضينا وعلومنا، فنتخذ منها دافعاً إلى المعالي، وعاصماً من التردّي في هوّة الإلحاد والضياع.
ألا إن هذه الألف، وهي تعدل تسعة آلاف ليرة سورية وزيادة، ربح لمثلى عظيم، وثروة ما
ملكتها قط، وإني أستطيع كما يستطيع كل واحد، أن يحصر ذهنه ساعة فيتخيل لهل نوعا من (الإصلاح. . .) كما يتخيل إصلاح رجل من الرجال بتقصير أنفه، وترقيق شفته، وتطويل قامته، ولكني لا أريد أن آخذ هذا المال حراما وقد جمع من أيدي الفقراء والمساكين، وبما كان ثمن ألف فراش بيع بالمزاد العلني، أخذ من تحت المكلف لما عجز عن أداء الضريبة. . . فإذا كان يزيد عن حاجتكم ولم يكن من إنفاقه بدّ فردّوه على هؤلاء الفقراء، فما زلنا نسمع منكم، وتقول جرائدكم، إن في مصر المرض والفقراء والجهل، فهل داويتم هذا كله وأصلحتموه ولم يبق إلا إصلاح الكتابة؟! يا سادة، إن الكتابة العربية التي صلحت خمسة عشر قرناً وكتب بها عشرة ملايين كتاب، تصلح قرناً آخر لتكتبوا بها كل سنة خمسة آلاف كتاب، منها كتب الكفر والتضليل والتقليد الأعور والسخف المضحك ككتاب (هذه هي الأغلال)!
فكفوا عنا، اتركونا. . . إننا راضون بما نحن عليه، فأريحونا واستريحوا!
(دمشق)
علي الطنطاوي
فرنسا تَبّرُّ العرب!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كل من شاهد الجريدة الفرنسية السينمائية التي عرضت في الأسبوع الماضي في بعض دور السينما في القاهرة، لاشك قد امتلأ قلبه بكثير من التقزز والاشمئزاز والسخط لمنظر من مناظرها. هو منظر هذه (القطع الآدمية) المشوهة التي جمعتها الدعاية الفرنسية ضد الجزائر والغرب لتعرضها على عيون الناس في العالم كله كنموذج لبرها بعرب الجزائر! لقد جمعت قطعاً من الفقر والتشوه والعري والجهومة والضياع لتؤكلهم ثريداً في عيد الأضحى. .! واجتهدت أن تأخذ لهم صوراً من مقاطع تبرز صوراً فنية للفقر والشناعة! ولو عرضت علينا صوراً لمجموعة من الذباب أو الكلاب الضالة لارتاحت إليها العيون بعض راحة لم تجدها في منظر هؤلاء التعساء! وإن منظر العرايا من زنوج المجاهل العائشين وراء التاريخ، المنقطعين عن العالم لأجمل كثيراً من مناظر هؤلاء الكرام الذين أضناهم البؤس وأضوائهم الحكم المذل المرهق، وجعل على وجوههم سمات من العذاب والضيق؛ فإن الزنوج يتمتعون بالصحة الطبيعية والحرية الطبيعية والمجال الحر في مجاهلهم ومتقلباتهم الواسعة، أما أولئك العرب الذين كانوا مثال الرقة الأندلسية والنظافة الإسلامية والحرية العربية والذكاء اللامع والمشاركة الناجحة في الحضارة، فقد حولهم الحكم الفرنسي إلى مجموعة أشنع من مجاميع الذباب والكلاب الضالة. وإن الكلاب الضالة ربما لا تجد القوت الميسر ولا السهر على مصالحها، ولكنها على كل حال تجد حرية العيش، أما هؤلاء فلا يجدون إلا قيوداً من التعس والذل والحرمان من مقومات الأجسام ومقومات الأرواح.
إنني لا أستطيع أن أفهم من عرض مثل هذه المناظر إلا اهتمام فرنسا بأن تبرهن للعالم على أن هؤلاء العرب الذين ابتلوا بحكمها منذ مائة وعشرين سنة قوم هم حثالة الناس وفي المستوى الأدنى من الحياة، فهم أبعد الناس عن منحهم حق تقرير المصير والحريات العامة، وأقرب الناس إلى فرض القسوة الفرنسية عليهم. ولا أستطيع أن أفهم إصرار فرنسا على إفنائهم عن طريق الجهل والفقر والحرمان والتعس - مع أن فرنسا في زعمها أمة الرقة والجمال وتسجيل حقوق الإنسان - إلا أنها تضمر لتلك الكتلة العربية والإسلامية
عداوة وحقداً موروثاً لأسباب تاريخية لا يجهلها أحد، فهي تثأر منهم وتنكل بهم وتحرمهم أبسط حقوق الإنسان وهو حق الحياة وحق التعلم وحق الصحة. . .
إن عاراً على فرنسا أن تظل جامدة في أسلوب حكمها للمغرب العربي مع أن الإنجليز ابتدءوا يخففون وطأة حكمهم في الهند، درة تاجهم. وأصل بلاء العالم العربي بالاستعمار هو وقوعه على طريق الهند.
وإن من العار أيضاً عليها أن تعرض مثل هذه المناظر للذين ابتلوا بحكمها. لأنها هي المسئولة عما هم فيه من تخلف وحرمان ولو شاءت لرفعتهم واجتهدت في وصلهم بقافلة الإنسانية السائرة. والذين يملكون حظائر للحيوانات يجتهدون أن يعرضوا منها على عيون الناس للفخر بما تصل إليه من شبع وسمن وصحة وسعادة، ولو أنها تذهب بتلك الحيوانات أخيراً للمذبح، أو تجز صوفها أو تأخذ لبنها أو تستخدمها في حرث الأرض وزرعها. فلماذا تعرض فرنسا مثل هذه المناظر التعسة لهؤلاء الذين انحطت بهم عن مستوى الحيوان؟! ألا إنها شهادة مسجلة على فرنسا، سجلتها بيدها لتثير بذلك لعنات الأحرار وسخطهم عليها!.
لقد طالما ذكرنا فرنسا برسالتها الإنسانية التي هي تاج مجدها الحقيقي، والعنصر الباقي لفخرها على مدى الزمان، ولكن الذين في مصر من الفرنسيين أصدقائهم يلوح لي أنهم لا يحركون ساكنا ولا يأبهون للتذكير، وقد أخذتهم سكرة الثقة بقوة فرنسا وغلبها على هؤلاء الضعفاء المبتلين بها.
ولكن لتعلم فرنسا أن الفخر الدولي قد سطع على أوكار الرجعية السياسية الجامدة التي تنقل جراثيم الطغيان والجهالة إلى محيط العالم الواسع كله، فلم تعد العين الإنسانية تطيق أن ترى مثل هذه المناظر التي تذكرها بأشنع صور القسوة الجاهلية، ولتعلم فرنسا أيضاً أن مجدها قد أخذ في الأفول منذ أن تخلت عن رسالتها الإنسانية، رسالة ثورتها، وأن سمعتها قد ساءت بواسطة حكمها للمغرب العربي ذلك الحكم العنيف المظلم الذي يحرم المحكومين النور والصحة والعلم ثم يعرضهم على رءوس الإشهاد ليسمع بهم وليمن عليهم بأكلة ثريد! بينما يأكل أكبادهم بالمرض ويطمس وجوههم بالفقر، وعقولهم بالجهل، ثم يشنع عليهم وينسب إليهم وإلى دينهم ونظام حياتهم ما هم فيه من شقاء.
وإن وجوه هؤلاء الأطفال الذين خصهم ذلك الشريط السينمائي بالتفاته لها مغزاها في
التشنيع على هيئة شعرهم وعيونهم كان من الممكن، لو أرادت فرنسا، أن تخرج منها وجوه علماء وأطباء ومحامين ومهندسين وقواد وغيرهم، ولكن فرنسا أرادت أن تعطل قوى الحياة في هذه الأجسام إفناء أمتهم وضم أرضها إلى أرض فرنسا. . . ولكن الله العادل الرحيم المقتص من الظالمين قد أراد أن يفني فرنسا ويحطم مجدها ويبلبل عقائدها ويضرب بعضها ببعض وقد دنس بنعال أعدائها حرمات أرضها قبل أن تفنى هؤلاء وتقضي عليهم القضاء الأخير الذي تتربصه منذ مائة وعشرين سنة. وسترى فرنسا أن هذه الأمة المغربية ستنهض وتشترك في تجديد رسالة العلم والحضارة الحقيقية.
وما في فرنسا من براكين الاختلاف كفيل بأن يدمر حياتها
ووقوعها بين قوتي المشرق الروسي والمغرب الانجلوأمريكان سيجعل أرضها مجالا للصراع المدمر الآني لا محالة، وبدلا من أنها كانت تجد في شمال إفريقية مجال لشد أزرها لو أنها أحسنت صنعاً إلى المغاربة وحكمت قلوبهم بالحب، ستجد في هذا المغرب ألبا عليها وقوة تشترك في هدمها. وقد فات أوان الظلام واختلف الحساب وانعكس عليها قصدها من إفناء المغاربة بعد سطوع الفجر الدولي.
وإن الذين يشهدون محافل المغاربة في مصر ليرى العزم المصمم والإيمان الراسخ والجهاد الهازئ بالآلام في سبيل الحرية والحياة.
وإن قلوب المشارقة من العرب والمسلمين لتغلى غليان السخط والعداوة والاحتقار للحكم الفرنسي في شمال إفريقية كلما رأت هذه النخبة الممتازة من شباب تونس والجزائر ومراكش الذين كان من حسن حظ العرب والمغرب عموما أنهم استطاعوا الإفلات من الأغلال الفرنسية ليلفتوا إليها من الخارج متعاونين مع المشارقة. وإنهم لنماذج صالحة تثير الفرح بمستقبل المغرب إذا ما انزاح عنه النير الفرنسي، وإنهم أيضاً ليثيرون السخط على فرنسا حينما نرى وجوههم السميحة وألسنتهم الفصيحة ونقارنها بما رأيناه مع هذه الوجوه المطموسة بسمات الحرمان وإمارات النكال في هذا الشريط السينمائي الذي أرادته فرنسا دعاية لها فكان دعاية عليها.
وإننا لنحس إحساساً صادقاً أن المغرب العربي المبتلى بفرنسا يغلي غلياناً تفور له قلوب العرب في الشرق بالغضب والسخط على ذلك الحكم القاسي الذي يربط على الجناح الأيسر
للعروبة بالحديد ويوقد عليه بالنار ويحبسه أن يخفق طليقا موازياً للجناح الأيمن لها حتى ينهض العرب معاً.
فإذا كانت فرنسا لا تحسب حساباً لصداقة العرب وهم أمة كبيرة في البحر الأبيض على الأقل ولا تعاملهم بقانون الجوار والمصالح المشتبكة فإنها تبرهن بذلك على أنها لا تنظر إلا لحاضرها وانظر إلى أمة لا تنظر حاضرها ولا تسعى لمستقبلها بكسب صداقة سبعين مليوناً من الجيران الدائمين المعتدلين الأوفياء الأشراف.
عبد المنعم خلاف
من نكبات الحزبية في تاريخنا
للأستاذ سعيد الأفغاني
ليس هذا خوضاً في السياسية، فأنا امرؤ ساء ظنه في محترفيها جميعاً؛ وعلى أنى منذ خمسة وعشرين عاماً مولع بتتبع أحداثها في الأقطار العربية وخاصة في الشام ومصر، شغف بعشرة الخبيرين بخفاياها. . لم أخضها يوماً من الأيام كفاحاً وجهاً لوجه لا أنفة منها، ولكن أنفة من حال الخائضين فيها. وإذا سألتني عن السر في تضييع الفرص على الشعوب العربية وحرمانها من خير لم تقصر في السهر علية والجهاد له، أجبتك:(إنه في داء واحد في الأقطار جميعاً هو: أخلاق القادة!)
ارجع بصرك في أحداث الثلاثين سنة الأخيرة، فستجد أن قطراً من الأقطار لم ين عن جهاد صادق سنة من هذه السنين، ولم يبخل على قضيته بنفس ولا نفس. لقد بذل في سبيل ربه ووطنه دماء وأمواله بسخاء كان مضرب الأمثال، ولكن المتصدين للقيادة بهم داء الكلب والتناحر وصغار النفس والتعلق بالسفاسف، لايخافون الله في أمة طوحوا بها في المهالك من أجل تمتع بمنصب أو مال، أو تلذذ بقهر منافس أو معارض. . . غير خجلين من أن يمدوا أيديهم ضارعين إلى أجنبي وصلوا إلى زعاماتهم بمجاهرة أمتهم بعدائه، وهو يتربص بهم يوماً كهذا اليوم تقودهم فيه ضعة نفوسهم إليه صاغرين، فيضرب بهم مستقبل أمتهم ويضيع عليها ثمرات نضالها الطويل، ثم ينبذهم من بعد ذلك إليها نبذ النواة، فإما أن يكون الله كشف عن بصيرة الأمة فجعلتهم نكالا، وإما أن يستغلوا (طيبتها) ثانية فيستأنفوا زعامة من جديد.
ولست أطمع في صلاح نفوس الساسة اليوم، فالله وحده هو الذي يحيي الأرض بعد موتها، ولكني قوي الأمل في الأجيال الناشئة التي لم تشهد أيام الإذعان لسيطرة الاحتلال، ولا عاينت لعب صبيانه بلحى كبارنا وساستنا، وإنما شهدت كفاح هذه القوى الشريرة فنشأت على الإباء والنضال.
إني لأغتنم فرصة احتفال (الرسالة) بالعام الهجري الجديد، فأضع تحت أبصارهم عبرة مائلة لا تنسى أبداً عسى أن يذكروها كلما حاول من سبقوهم أن يجعلوا منهم وقوداً لفتنة تضرمها الأهواء والنزوات، أو كلما نزغ بهم في المستقبل نزغ يحيد بهم عن خير أمتهم
إلى إرضاء أهوائهم، فيذكروا هول الخلاف الذي صلينا جحيمه في صدر دولتنا وما تزال مرارته الأليمة في كل نفس خيرة تدبرت عبر التاريخ.
إني لا أخوض سياسة، وإنما أطلع هذه النفوس المعصومة على عواقب أول خلاف سياسي في الإسلام وما جر من ويلات متتابعات، ناقلا إياه من كتاب انتهيت قريبا من عمله. وأنا أحب أن يجعل الناس بالهم أبداً - كلما قرءوا التاريخ - إلى عبره وتجاربه فيأخذوا من كل شئ أحسنه، ويربئوا بأنفسهم وأمتهم أن يغامروا في تجربة ثبت ضررها وفسادها وخاصة إذا كان الثمن الذي قدمناه فيها دماء عشرات الألوف من أبطالنا:
لقد كان أمر المسلمين الأولين عجباً من العجب: امتلأت نفوسهم بكل ما حباهم ربهم من خير في الإسلام، فأحسنوا فهمه وأحسنوا الاستجابة لرسوله نساء ورجالا. فوطدوا أركانه في الجزيرة، ثم انتقل رسول الله إلى جوار ربه واندفع هؤلاء المسلمون الأخيار في أقطار الأرض يريدون إعلاء كلمة الحق وإنقاذ عباد الله من كل الأجناس والأديان: من شرور الظلم والجهل وامتهان الإنسان؛ فحرر الله على أيديهم بلداناً وشعوباً كثيرة، فأشركوا الناس كافة في سعادتهم وعدلهم وأمنهم. ومن عرف أنهم كانوا قبل عشرين عاماً فقط يأكل بعضهم بعضاً ويعدو قويهم على ضعيفهم، قبائل متعادية، وطوائف يغزو بعضها بعضاً. . . عرف نعمة الله عليهم وعلى الإنسانية بهذا التوحيد الذي ألف بين قلوب ما كانت لتتألف؛ وأدرك المعجزة التي أتى بها الإسلام في توحيدهم وخلقهم خلقاً جديداً جعل من سفكة الدماء أنبياء رحمة ورسل هداية وإسعاد للبشر.
لقد أتوا - وكلمتهم واحدة - بالعجائب في حروب التحرير والفتح ثم البناء والتنظيم، وكان منهم كل الخبر لأنفسهم ولغيرهم فلما صبت الدنيا خيراتها وكنوزها بين أيديهم، وتقادم ما كان جديداً من روعة الدين وعهد الرسول وصاحبيه، وكان أمر الشورى المعلوم، وكثرت في هذه الإمبراطورية الواسعة المناصب والولايات. . . بدأت نوازع الطموح تتحرك في نفوس هؤلاء الأبرار فيكبتونها رهبة من الله. لكن عناصر الشر والغش والفساد من أهل النحل البائدة والأمم المغلوبة كانت أيقظ من أن تغفل عنهم وهي الخبيرة بمداخل الشر ومخارجه، فما زالوا يفتلون لأولئك الطيبين في الذروة والغارب حتى استجاب بعضهم لأهواء نفوسهم من حيث لا يشعرون، ودب دبيب الخلاف بينهم واشتغل بعض ببعض،
ووقفت الفتوح أيام على رضى الله عنه حتى خيف على المسلمين من فلول الروم.
أرأيت ما يفعل الخلاف في الدولة القوية الفتية المتماسكة المتينة الأساس؟.
إنه يطمع فيها حتى المغلوب المشرف على الدمار، دع ما أريق في سبيله من دماء غالية بدأت بالخليفة الصابر الشهيد عثمان بن عفان رحمة الله، ثم رفدت بدماء عشرات الألوف. هذا (يوم الجمل) وهو يوم واحد أسفر عن خمسة عشر ألف قتيل على أقل تقدير في بضع ساعات، فلا تسل عما بعده من (يوم النهروان) و (يوم صفيرة) وغيرها من تلك الأيام التي أعملنا فيها سلاحنا في أنفسنا فأوقعنا الوهي في دولتنا والتفرقة في صفوفنا والعداوة في قلوبنا. . . وكان الله قد غسل هذه القلوب وجمع تلك الصفوف.
ولو أن هذه القوى المتطاحنه يوم الجمل ويوم صفين. . . اجتمعت على الخير فسارت إلى قوى الشر شرقاً وغرباً لأكلت الدنيا بقوتها، ولأحالت العالم حينئذ جنة يتحدث بنعيمها وسعادة أهلها الركبان. لكن الله الذي أيد هذه الأمة أول أمرها قضى أن يكون بأسها بينها، فامتلأ تاريخنا بالحروب الداخلية وتحول عن مجراه السعيد الذي كان جرى فيه لخير الإنسانية عامة؛ قضاء من قضاء الله لا حيلة فيه. ولست أدري ما يكون حال دنيانا الآن لو أن العرب لم يفسدها الخلاف والتطاحن ولم تنزل بأسها بينها؟
ولو ذهب باحث يحصى هذه الدماء المراقة في سبيل الخلاف منذ قتل عثمان حتى اليوم، في المشرق والمغرب والأندلس. . . إذا لأفزعته هذه الملايين منها، ملايين لو بذلت في سبيل الحق لكان تاريخ العالم كله على غير ما نعرف، ولكنا أهل الحضارة حتى الآن وإلى الأبد لا يلم بشمسنا أفول.
وقد خاف رسول الله صلى عليه وسلم على أمته آثار الخلاف، فسأل ربه - فما سأل - أن يجنبهم إضراره، إذ علم أن هذه القوى الهائلة المتراصة التي عمرها إيمان لم تعرف الأرض له مثيلا كفيلة بفتح الأرض كلها لدعوة الخير والحق، لا تقف لها قوة إلا أن تنشق هي على نفسها فرووا عنه أنه قال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة:
سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة (القحط) فأعطانيها.
وسألت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها.
وسألت ربي ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.)
ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
انقضت الخلافة والخلاف بخيرهما وشرهما، ولم يبق منها إلا هذا التاريخ بين أيدينا مملوءاً بالعبر: فلنتعظ به، ولنحذر أي تفرقة بيننا بكل ما نستطيع، ولتكن تلك الدماء الذاهبة ضياعاً حافزة لنا على الواحدة وجمع الكلمة، فلا نعيدن فاجعتها جذعة، ولنهرب من كل خلاف وتفرقة هرب السليم من الأجرب فإنهما يبدأن صغيرين لا يؤبه لهما ثم يعظمان حتى يلتهمان الأخضر واليابس.
وإن أعجب لشيء فلأولئك الذين مازالوا يجتمعون ويتفرقون متجادلين في هؤلاء الصحابة الأخيار: أيهم المؤمن وأيهم الكافر؟ أيهم على الحق فيحمد وأيهم على الباطل فيذم؟ ويتقربون إلى الله في لعن رجال: ما منهم أحد إلا وله السوابق الحسان في نصرة الإسلام وإملاء كلمة الله والدفاع عن رسوله، وما فيهم إلا من بذل ماله ودمه ودم أهله للخير العام، فخلفوا لنا بفضل إخلاصهم هذه البلاد الواحدة على ترامي أطرافها. إنها وحدة جامعة عجزت ضربات الدهر وسطوات الدول ثلاثة عشر قرناً عن أن تنال منها ما يقضي عليها ويمحوها؛ فما زال العراقي إذا هبط أقصى المغرب في مراكش لا يحس بغربة عن أهل ولا وطن. أستغفر الله، بل مازال المسلم الصيني من أقصى الشرق إذا هبط ساحل بحر الظلمات تلقته القلوب بالبشر والترحاب لقد جمعهم الله بمحمد وصحبه على كلمة حق واحدة فلن يفرق أحد ما جمع الله بمحمد وصحبه.
لست بسبيل تعداد المآثر المشهورة لأولئك الأخبار الذين هم موضوع الخلاف كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة. . .، فأصغر أعمالهم عند الله يمحون كل ما يذكر خصومهم من أخطاء، وقد ذهبوا إلى خالقهم الذي أرضوه بأعمالهم ورضي عنهم، وسجل رضاه هذا في قرأنه الكريم يتلى ما بقي على الأرض إنسان.
فلنمحضهم جميعاً محبة واحدة، ولنستغفر لهم ولأنفسنا، ولنذكرهم بكل خير جزاء ما خلفوا لنا من وحدة قوية، ودولة مثالية بنوها بجهادهم في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، جهاداً أرخصوا فيه مهجهم وضحوا بأعز ما يملكون؛ ولنطرح عن عواتقنا مخلفات عصور الانحطاط والشعوبيات، ولنقتد بهؤلاء الأخبار أنفسهم حين يعرض بعض لذكر بعض، فقد نزع الله ما في صدورهم من غل وعادوا إخوانا متحابين كما أمرهم الله أن يكونوا.
وإن الله عز وجل لم يتعبد أحداً بشّم صحابي ولا لعنه، بل عظم من شأنهم وغفر لهم ما أخطئوا قبل أن يخطئوا، ولولاهم لكان العرب اليوم في وثنية أو جاهلية؛ فما هذا جزاء من أنقذنا به من الضلال والفرقة وخلف لنا ملكا وماضياً مجيداً وتاريخاً حافلاً بكل ما يرفع الرأس ويخلد أحسن الذكر وأطيب الثناء. . . .
فرقت السياسات قديماً أمر المسلمين وشتت شملهم، ثم عززها أهل الكيد والدس بغشهم حتى جعلوها تتغلغل في الأديان والعقائد، وصار الدين الواحد أدياناً والأمة الواحدة طوائف شتى وما الأمر كله بالذي يستدعى بعض ذلك، فلنأخذه بالتوسعة والتسامح، ولكل رأيه في السياسة وفهمه للتاريخ فلا يضيقن أحد بفهم أخيه، ولا نجعلن خلاف الرأي في السياسات الماضية (والحاضرة) والحزبيات البائدة (والحاضرة) مفرقا وحدتنا وصادعاً شملنا ومخمداً نارنا، ولا نجعلن هذه الأحقاد والعداوات تتوارث إلى يوم الدين.
إن الأمم من حولنا كالجياع على القطاع، فلن يجدينا في موقفنا اليوم ذلك الجدل ولا تلك الفرقة، بخويصة أنفسنا ما يشغلنا عن هذا الباطل، وفي مطالب الحياة الجادة ما يلفتنا عن التفرق. . . فلنقابلها صفا واحداً وأمة واحدة كما بدأنا الله، ولننبذ عصور الظلام وآثار الجهل وضيق الأفق بمخلفاتها جميعاً.
إن ربنا واحد وكتابنا واحد ورسولنا واحد، فلنعد أمة كما أراد الله لنا ولنبرأ من كل فتنة وخلاف وفرقة. فالظروف عصيبة ونحن على مفترق الطريق، وإننا لمحاطون بالأعداء داخلاً وخارجاً، وهم دائبون على توسع الشقة بيننا؛ فلا نعينهم على أنفسنا، ولا نضعن في أيديهم السلاح الذي يقتلنا ويجعلنا لهم طعمة سائغة.
ليت الله إذ جمع على هدى أمرنا لم يجعل للفرقة إلينا سبيلاً، ولا جعل بأسنا بيننا، وليت هذه السابقة التي هونت على الأمة الواحدة أن يقاتل بعضها بعضاً لم تكن قط.
فليت الظعينة في بيتها
…
وليتك (عسكر) لم ترحل
ثم ليتنا بعد هذا كله نعتبر بما في الخلاف من ضرر بالغ في كبير أمرنا وصغيره!
سعيد الأفغاني
إلى وزارة المعارف:
وعلى هذا فنحن ندور. . .
للأستاذ كامل السيد شاهين
والظاهرة التي تتجلى في وزارة المعارف بوضوح وقوة، أنها لا تنظر إلى الدراسات التي تجد في مصر نظرة المستفيد، فقد قامت في مصر ثورة قوية على البلاغة ودراساتها العتيقة، حمل لواءها أول الأمر الدكتور طه حسين ثم الأستاذ أحمد أمين، ورسما للنقد الأدبي منهجاً إن لم يكن واضحاً كل الوضوح، فهو - على أية حال - يصح أن يتخذ بذرة لطرق الدراسة التي تصحح الذوق وتقوم الأدب. ورسم الأستاذ الزيات رسماً صحيحاً لطريقة تناول الدراسات الأدبية، ولو أنه لم يعرض للناحية المنهجية، ولكن وزارة المعارف لم تعبأ بهذه الصيحات، وكأنها لا تعنيها هذه الثورة على تلك الدراسات القديمة العقيمة، فليبق تلاميذ المدارس حيث هم - يتلون سورة الاستعارة التصريحية، والمكنية، ويخرجون المجاز المرسل والعقلي، دون أن يصححوا ذوقاً، أو يفهموا نقداً. وآية أخرى على غفلة الوزارة عن الدراسات العلمية أن الأستاذ إبراهيم مصطفى كتب كتابه (إحياء النحو) وفيه ثورة قوية على العوامل، وتيسير كبير على الدارسين، ولكن الوزارة مضت على غلوائها سادرة لا تتلفت ولا تنظر، ولا تقف لإهابه مهيب، ولا تصيخ لصوت داع!.
وها هو ذا المجمع اللغوي يعزم عزمته لتيسير الكتابة، وتسهيل القراءة، ويجمع اللجان ويناقش الآراء ثم يكتب في ذلك الكتب واسعة البسط، وتلقى المحاضرات طويلة الذيل، وتفحص الآراء في المجلات الأدبية والصحف السيارة، ووزارة المعارف مغمضة العين، سائرة في طريقها المعهودة ولو كانت ممتلئة بالأشواك والوحول.
ذكرت ذلك كله عندما أمسكت بكتاب المطالعة المقرر على آخر سنة في المرحلة الابتدائية فوجدته كله مضبوطاً ضبطاً تاماً، على زعم أن في هذا تسهيلاً للقراءة، وإفادة للقارئ ولكن الممعن لا يجد من هذا التسهيل شيئاً، وأكاد أزعم أن فيه إرباكاً له وتشويشاً عليه، ولو أن الكاتب - سهل الله له - ضبط ما هو بحاجة إلى الضبط، ولم يعن نفسه بالضبط التام لكان في ذلك الخير كل الخير. خذ مثلا جملة:(حضارة قدماء المصريين) تجد أن الذي يحتاج إلى ضبط هو (تاء) حضارة (همزة) قدماء، (ميم) المصريين، وليس وراء ذلك ما يدعو
إلى تعنيه الكاتب والطابع قد نقول: إنه محتمل، ولكن - لسوء الحظ - نجد في هذا الإمعان في الضبط مساءة إلى القارئ نفسه، ومشغلة له عن القراءة، فهو لا يستطيع أن يتابع الحروف والضبوط، والمعاني في وقت معاً.
ولو أن للوزارة عيناً ترى وأذناً تعي، لفقهت ما قاله الأستاذ الجارم بك، في تقريره بشأن الضبط فهو يقرر أن القارئ للكلام التام الضبط (يقطع أوصال العبارات، لأنه مشغول بتحديد البصر، وإعمال الفكر، تحسساً لضبط ما يقرأ قبل أن يقرأ حتى يستطيع أن يقرأ).
ولو عنيت بأبنائها لرحمتهم من تلك حال، حال المطالعة في كتابها المضبوط التي يقول فيها عبد العزيز باشا فهمي:(فتراه كالمجذوب المتوجد، أو المكروب المتجلد، جاحظ العينين تارة، أخرزهما أو أخوصهما تارة أخرى، مضروب اللسان باللعثمة أو الغمغمة أو الفأفأة أو غيرها من ضروب الارتتاج).
أفلا يجدر بنا - بعد - أن نقتصر على الضروري في الضبط، حتى نخلص بالتلميذ في بعض الجرائد بعد ضبط ما تلجئ الضرورة إلى ضبطه فكنت أجدهم في القراءة أسرع، وعلى الفهم أقدر، إذ لا يعتور ألسنتهم تلك العقل العاقلة التي تحبسها وتلويها وتحول بينها وبين الانطلاق والإسراع.
وإذن، فما كان أجدر أن يشتمل كتاب المطالعة على موضوعات قصيرة يسيرة خالية من الشكل سهلة حتى يمكن التلميذ أداؤها في ثقة واطمئنان، وتكون محكا لاستفادته في قواعد اللغة، وامتحاناً لقدرته على ضبط أواخر الكلمات ومتونها.
فإذا جاوزنا الضبط، وذهبنا نفتش موضوعات الكتاب وجدناها شكولا وأنماطاً، مجموعة من كل ما تباعد وتناءى وازور ووجدنا الرابط بينها هو التنافر والتناكر، فمكة المكرمة، تجاور الموز وفائدته، وسياسة الرعية تتاخم الورق، وقناة السويس تصاحب الحية والأخوان، والإمام علي يرافق البريد في مصر. فهذا الخلط الذي لا يرعى للقربى ذماماً، محال من المحال أن يكون هذا الترابط الذي ننشده وتنشده المعلومات لتتداعى وتتماسك، وأيا ما كان فالكتاب من حيث موضوعاته يعتبر ثورة قوية ناجحة على طريقة المشروع التي ترمى إلى تأليف المعلومات واجتذاب بعضها إلى بعض! ولو أن ثمت لفته يسيرة لأمكن أن يقوم الكتاب على وحدات متناسقة متآخذة، فإذا جئنا بموضوع مثل مصر، جاز أن نضم إليه:
نهر النيل - قناة السويس - حضارة قدماء المصريين - مصر في عصر فاروق - واجب المصري - مصطفى كامل - سعد زغلول. الخ فنكون بذلك وحدة وثيقة خالية من التكرير المربك بعيدة عن التشتيت المزري.
وأشنع من هذا وأبشع أن الكتاب - الذي يعاد طبعه كل عام - قد خلا من كل ما يتصل بالأحداث الجديدة التي شهدتها التلاميذ وسرت في عروقهم، واستشرفوا للقراءة عنها والحديث فيها - كالحرب الأخيرة، وغلاء الأسعار، وجشع التجار، واختراع القنبلة الذرية، ولؤم الاستعمار، وخطر الصهيونية، ونكبة فلسطين، فكل هذا يشوق التلميذ مطالعته وحرام أن نقتل هذا الشوق في نفس التلميذ ونرميه بموضوعات جامدة صالحة لكل زمان ومكان لا تتغير بتغير الأحداث.
ومن المضحك المبكي أن تقرأ في القطعة الثانية من الكتاب فتجده، يتمدح بالمعاهدة معاهدة سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف، وقد طواها الزمن فيما طوى، وأطفأ لمعانها، وأسقط شهابها، وبرئ منها أهلها، ونادت مصر كلها بسقوطها، وطالبت بإلغائها، ويتمجد بدخول مصر في عصبة الأمم، وقد أصبحت العصبة اليوم في ذمة التاريخ، وذهبت غير مذكورة ولا مشكورة.
ومما ينبغي الالتفات إليه بعين يقظى أن المدرسين يعمدون إلى كتاب المطالعة فيختارون منه قطعا شعرية يحفظها التلاميذ، وقد خبرت هذه القطع فوجدت كثيراً منها خاليا من الروح الشعرية والجمال الفني، ميتا مدرجا في كفن بال، وما يصح قط أن يكون من محفوظات ذلك العصر الذي يعج عجاجه بالممتع الرائع من الشعر الحديث المتصل بالأحداث القائمة أو القريبة العهد. خذ مثلا قصيدة الإمام الشافعي رضي الله عنه، في الحث على السفر:
ما في المقام لذي عقل وذي أدب
…
من راحة، فدع الأوطان واغترب
سافر، تجد عوضاً عمن تفارقه
…
وانصب، فإن لذيذ العيش في النصب
ابحث عن الروح الشعرية الجميلة بين هذا الرصف المرصوف فلن تجدلها أثراً، بل لن تجد مزية له على الكلام المبتذل، إلا مزية النظم، وهي أهون المزايا. حكم، وإن أردت التجديد فقل: نصائح، لا قيمة لها في وزن التلميذ، وأكاد أكتب: لا قيمة لها في نفسها. فهل
بمثل: سافر تجد عوضاً، يلتذ التلميذ، ويجد النشوة والسرور؟ وهل بمثل: فانصب فإن لذيذ العيش في النصب يستفيد فكرة أو عبارة طريقة؟ اللهم لا.
ثم ابحث معي عن كلمة واحدة شعرية في البيتين فلن تجد، وما أكثر ما تجد هذه الطرافة والجدة في قصيدة مثل (العصفور الصغير) للأسمر، و (أنا. .) لإيليا أبى ماضي وغيرهما مما يهز قلب التلميذ، ويثير عواطفه، ويفتح عينه وقلبه للحياة فتحا.
ولست أزعم أن ذلك خاص بالشعر الحديث فالقديم غني حافل ففي رثاء (السلكة)(للسليك) وفي غزل (المنخل اليشكري) وفي تهكمات (ابن الرومي) جمال وإمتاع وشاعرية نابضة قوية ممتنعة على عقول العلماء الذين يقتسرون الشعر اقتسارا، ويعنفون عليه بقوة اللغة، ولا يقودونه بفيض العاطفة، وسلاسة الطبع، وقوة الشاعرية!
ومما يؤسف أن يخصص للمطالعة حصتان قصيرتان لا تقرئان ولا تفيدان، والمطالعة، مادة العربية، تستغل في الثقافة فلابد من المعنى، وفي الإملاء فلابد من تكرير النظر إلى الكلمات الصعبة وفي الإنشاء فلابد من استعادة الجميل من العبارات، وإدخاله مدخلا كريما في مناسبات جديدة، وهيهات أن تتسع الحصتان لذلك كله.
فهذا كتاب المطالعة يا قوم، لا عون فيه على القراءة، ولا انسجام بين موضوعاته ولا تناول لطريف الأحداث، ولا حسن اختيار لقطع الشعر، فماذا بقي؟
لا تبكوا على التلاميذ إذ يكبون في الامتحان، لا تصرخوا ولا تستصرخوا. . .
أيها القوم. . . السم في الدواء!!
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
- 6 -
قلت فيما سبق إن رجال الجامعة لم يصنعوا شيئا في تجديد البلاغة العربية، غير
أن ملئوا غرف الدراسة، وأذهان الطلاب بالطعن على المتقدمين، والتنويه بقصورهم، فلننظر فيها بين أيدينا من كتب لنرى مصداق ذلك. في سنة1931 ألقى فضيلة الأستاذ الشيخ أمين الخولي محاضرة في الجمعية الجغرافية الملكية وسماها (بحثا تاريخيا تجديديا) تحدث فيها عن صلة الفلسفة بالبلاغة العربية، وتكلم طويلا عن نشأة البلاغة وتطورها والمدارس التي احتضنتها، ثم تحدث عن الدراسة في كلية الآداب ودعا إلى تجديد البلاغة تجديداً شاملاً وكان مما قاله (وهي - يعني الكلية - في إخلاص المجدد المستنير بالتاريخ تستطيع أن تختط طريق الدرس الفني وتجعله واضح المعالم مغايراً لطريق البلاغة التي سميناها البلاغة العلمية، كما عزمت على أن تتلاقى ما كان من أثر الفلسفة في تجدد البلاغة وقصور بحثها، لأن إلزامها حدود دراسة الجملة قد حرمها من أبحاث ضرورية للفن الأدبي، أبحاث نراها في بلاغات اللغات الحية ويحب أن نتناولها بالدرس، ومن تلك الأبحاث البحث في الأسلوب واختلافه وأوجه تفاوته، ومزايا أنواعه المختلفة، ومن ذلك البحث فيما وراء المغنى الجزائي - تشبيه، استعارة - كناية - من معنى كلي وعرض يقصد إليه الأديب. . . الخ)
أبحاث كثيرة يدعو الأستاذ إلى تناولها بالدرس، وبذلك يجدد البلاغة العربية.
ظفر في فم الأماني حلو
…
ليت منه لنا قلامة ظفر
وتمضي خمسة عشر عاما كان يمكن أن ترى فيها أثرا لهذه الدعوة، ولكنا نفاجأ في سنة 1946بكتاب للشيخ أمين يسميه (فن القول) ويقول في الصفحة الرابعة منه (إني أحس إحساسا قويا عنيفا بحاجة حياتنا الأدبية واللغوية إلى دراسات كثيرة واسعة لم نقم بها، ولا هيأنا السبيل لإتمامها؛ ولو استطعنا أن، نعرف بها ونقنع بضرورتها، وندفع بمحاولات أولية فيها لنخلق الجيل الذي يقوم بها ويتمها فذلك خير ما نسدي لعصرنا، وجل ما نؤدي به واجبنا. ولن أظن لحظة أننا قد أوفينا في ذلك على الأمل المرجو، والمثل المنشود أبدا،
لأن الميدان خال بل مقفر. وسترى في البلاغة التي تزاول درسها هنا مثلا لذلك بينا) وإذن فالشيخ أمين لم يصنع شيئا في هذه المدة الطويلة، ولم يصنع غيره كذلك لأن الميدان (خال بل مقفر) فهل يكون هذا الكتاب الذي يخرجه هو العمل المرجو في تجديد البلاغة؟ هذه محاضرات ألقاها في معهد الدراسات العليا، وقد وصلني منها 120 صفحة، وباقيها في المطبعة كما أظن، وكان من حق الشيخ علينا أن ننتظر حتى يتم طبع المحاضرات، ولكنا نقول هنا كلمة ولا يزال الباب مفتوحاً، مائة وعشرون صفحة هي مقدمة لعمل تجديدي في البلاغة، فماذا تناول فيها؟ تحدث في أربع عشرة صفحة عن التفسير الحيوي والاجتماعي لفكرة إنشاء المعهد، ثم التفت إلى ما كان نشره من محاضرات ومقالات فأعاد نشرها بشيء من البسط والإسهاب، فتكلم عن نشأة البلاغة عن منهج دراستها عندنا وعند غيرنا، وتحدث عن اللغة العامية واللغة الفصحى ومشكلات اللغة الفصحى كل ذلك في هذا العدد الضخم من الصفحات اعتبره مقدمة لكتابه. أليس ذلك حسنا؟ لقد ذكروا أن أحد الرجاز أتى نصر بن سيار والى خراسان ومدحه بأرجوزة تشبيها مائة بيت ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله ما تركت كلمة عذبة ولا معنى لطيفا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك. وأنا أرجو ألا كون كتاب (فن القول) كهذه الأجوزة.
لكن جزءا من دعوة الشيخ أمين قد تحقق، فقد أخرج الأستاذ أحمد الشايب كتاب (الأسلوب) وتكلم فيه عن كل المباحث التي دعا الشيخ إلى تناولها، فهل هذا الكتاب عمل تجديدي؟ لننظر. والذي نراه أن الأستاذ الشايب عمد إلى جهات ثلاث فاختطف منها كتابه.
(1)
ترسم خطى أرسطو في خطابته، فقد تحدث هذا عن الأسلوب وقيمته ووضوحه وصفاته الخاصة، والشروط العامة للأسلوب، وفتور الأسلوب وسلامته وشروط ذلك، وشرح ثراء الأسلوب وبسطته ووسائط ذلك، كما بين الأسلوب الكتابي والأسلوب الخطابي والأسلوب الشعري والأسلوب النثري وتحدث عن اختلاف الأسلوب باختلافات الموضوعات وغير ذلك.
(2)
سطا على أبحاث المتقدمين من أمثال عبد القاهر والجاحظ وقدامة وابن رشيق والآمدى وصاحب المثل الثائر والقلقشندي فاختطفها اختطافا، وحسبك أن ترجع إلى ما كتبه العمدة عن فنون الشعر، وما كتبه قدامة في نعت الوصف ونعت الهجاء ونعت الرثاء ونعت
المديح ونعت التشبيه، ثم تقرأ كلام الأستاذ الشايب فسوف تعتقد معي أن المسألة كما يقولون (حذو القذة بالقذة).
وأما عبد القاهر فأمره معروف فقد كتب كتابا خاصا في النظم الذي يسميه الأستاذ (الأسلوب) قال (للخفة والشيوع) والجاحظ كتب عن صحة المعاني وفسادها ومناسبتها للألفاظ، وحسبنا هنا الإشارة.
(3)
الغربيون - كما يقول الشيخ أمين - يعنون في البلاغة بدراسة الأسلوب، ويقول غير مرة إن هذه الأبحاث التي يدعو أليها - وهي قوام كتاب الأستاذ الشايب - مما عنى بع الغربيون عناية تامة، ويخص بالذكر كتاب الأسلوب الإيطالي للباريني.
ولا نستبعد - بل إننا لنوقن - أن الأستاذ الشايب نظر طويلا في البلاغة الغربية وأخذ عنها، وإذن فهل لنا أن نقول كما قال بعض النقاد الظرفاء:(لو قيل لكل معنى في شعر حميد بن ثور ارجع إلى صاحبك لما بقى في يده شئ).
وأعتقد أنا لو حذفنا منه هذه الأبحاث القديمة العربية لبقى الكتاب أبيض مغسولا. على أنه فوق ذلك كتاب وصفي وعمل البلاغة إنما هو وضع القوانين التي إذا ترسمها الأديب استطاع أن ينشئ، وهذا الكتاب في أكثر مباحثه أشد صلة بأدب اللغة منه بالبلاغة، وإن ذكر مؤلفه أنه وضعه في البلاغة، وقدم له بأبحاث فيها.
ومهما يكن من شئ فلازلنا من أن الجامعيين تركوا البلاغة العربية كما كانت على عهد السكاكي، وإذا كانوا صنعوا فإنهم لم يزيدوا على أن رجعوا إلى كتب البلاغة قبل السكاكي، وكتب النقد الأدبي فاغترفوا منها، وهذا عمل يشاركهم فيه كثير من أبناء دار العلوم ومن أبناء كلية اللغة العربية بالأزهر، فأين هو التجديد يا رئيس الأمناء؟!
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي
العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم
للأستاذ عبد المنعم ماجد
لم تكن هناك فروق تميز أهل البيت من بني العباس وبني علىّ، حتى وقت قيام الدولة الأموية على يد معاوية بن أبي سفيان الذي جمع في يده سلطة قوية وحوّل الخلافة من بساطتها وديمقراطيتها إلى نوع من الأرستقراطية المتعجرفة المتعصبة، لذلك أطلق العلويون على أنفسهم لقب الشيعة وعُرف أعداؤهم باسم بني أمية. أما أسم أهل السنة فلم يكن له وجود ولم يظهر إلا بعد قيام الدولة العباسية. وبالرغم من أن العباسيين لم يكونوا قد طالبوا بالخلافة لأنفسهم أيام الخلفاء الراشدين إلا أنه أثناء قيام الدولة الأموية في أواخر عهدها التجئوا إلى الدعوة للرضا من آل محمد، أي من يقع عليه اختيار آل البيت يصير هو الخليفة. وقد وجدت هذه الدعوة أذناً صاغية وقبولا من الشيعة، وذلك لأنهم كانوا يأملون أن تؤول الدعوة إلى بني علىّ، وذلك لأن علياً كان أفضل من العباس باعتراف معظم أهل البيت لأنه زوج بنت رسول الله ولسيرته وسبقه في الإسلام. أما العباسفلم تكن له سابقة ولا سيرة. . . ثم بجانب هذا لم يكن العباس ولا ابنه عبد الله قد طالبوا بالخلافة. . . ولكن لما نجحت الدعوة التي بشر بها أبو مسلم الخرساني في خراسان، وانتهت بقلب الخلافة الأموية والإجهاز عليها في موقعة الزاب حولوا الخلافة لأنفسهم وأقصوا الشيعة عنها وادعوا أن العم أحق بالخلافة من ابن العم، ولذلك كانوا يرون أي فتق يجئ من غير ناحية العلويين سهل الرتق. أما هؤلاء أبناء عليّ فهم الخصم الألد الذي يخاف جانبه ويُخشى بأسه، ولذلك طاردوهم، وشردوهم، وضيقوا عليهم الخناق.
إزاء هذا التعنت الذي ضاقوا به ذرعاً أخذ العلويون من أبناء فاطمة يدعون لأنفسهم سراً؛ ليستردوا هذا الحق المغصوب ويقضوا على هؤلاء الذين أقصوهم عن حقهم الشرعي في الخلافة، فلما ضاقت بهم وبدعوتهم أرض المشرق اتجهوا للمغرب حيث كان مركز الخلافة ضعيفاً، ونجحوا في تأسيس دولة هناك، وكان هذا مبدأ الاحتكاك الفعلي بينهم وبين العباسيين، وأول ضربة توجه للخلافة العباسية في جزء من أملاكها في أفريقيا من أبناء فاطمة بالذات. . ولن تكون الضربة الأخيرة. . .!! لأن غرضهم الأساسي كان القضاء على الخلافة العباسية التي اغتصبت ملكهم وشردتهم وطاردتهم. هذا فضلا عن رغبتهم في
نشر دعوتهم ونظرياتهم في الدين. لذلك شهر المعز لدين الله الفاطمي سيفه في وجه العباسيين، وطعن الخلافة في مصر والشام والحجاز واليمن، ومنع الناس في هذه الأرجاء لبس السواد شعار العباسيين، وخطب له ولحلفائه على المنابر، وارتفع صوت المؤذن منادياً:(حيّ على خير العمل)، وهو آذان خاص بالفاطميين كما ظهر بطبيعة الحال كفاح وتنافس وحزازات بين الدولتين شأن كل قوتين تعتقد كل منهما أنها أحق بالخلافة والسلطان دون الأخرى. وسنلخص العلاقة بين هاتين القوتين المتزاحمتين في ثلاث مراحل:
الأولى - تبدأ حيث عاصرت فيها الدولة الفاطمية عظماء بني بويه وهم المتربعون في الحكم في بغداد والمتغلبون على الخلافة العباسية فيها.
الثانية - التي عاصرت فيها الدولة الفاطمية البويهيين إبان ضعفهم.
الثالثة - التي عاصرت فيها الدولة الفاطمية الدولة السلجوقية التي انتزعت الحكم من الدولة البويهية.
الفترة الأولى:
تبدأ من سنة 258هـ وهي السنة التي دخل فيها الفواطم مصر إلى سنة 372هـ أي إلى موت عضد الدولة البويهي آخر عظماء البويهيين. . استولى الفاطميون على مصر والشام ومست حدود الدولة الفاطمية أملاك العباسيين التي كانت آنذاك تحت رحمة البويهيين وهم الذين ملكوا زمام الدولة وصارت بيدهم مقاليد الأمور منذ سنة 334هـ أو سنة 945م. فاسمهم يقرن باسم الخليفة العباسي في خطب المساجد، وتضرب الدفوف أمام القصر الملكي البويهي في الضُحى والعشى، وهذا تكريم لم يكن يحظى به غير الخليفة من قبل، والبويهيون متشيعون كالفاطميين بل من الشيعة الغالية التي لا تعترف بالخلافة العباسية رغم سيطرتها عليها. بل وتعتبرها مغتصبة من العلويين الذين هم أحق بها في نظرهم، ولذلك في مناسبات عدة يعملون دائماً على إذلال الخليفة العباسي وإشعاره ببطلان خلافته؛ فمثلا الخليفة القاهر عُزل والمستكنى سُمل والطائع أهين، والمطبع عزل حتى قال ت. و. أرنولد في كتابه الخلافة:
ومعنى هذا أن الفواطم حينما امتد ملكهم شرقاً وجدوا تشيعاً في بغداد، ومركز الخلافة
والأراضي الخاضعة لها في العراق والمشرق، وأن صاحب هذا التشريع هو صاحب الأمر والنهي، وكان هذا بطبيعة الحال من شأنه أن يقرب بين الفواطم في مصر والمسيطرين على بغداد أصحاب الأمر والنهي، وأن يوجد نوعاً من العلاقات الحسنه بينهما، وإن كانت العلاقة الطيبة تظهر من ناحية البويهيين أكثر جلاء من ظهورها من ناحية الفواطم، وكان هذا طبيعياً لأن الخليفة الفاطمي كان يُعد في نظرهم إمامهم والرمز الروحي لهم، وهو من النبعة الطاهرة التي يدينون بنحلتهم لها. نلمس هذه الروح والميل الصريح نحو الفواطم مما حاوله معز الدولة البويهي بالكشف عما في قلبه بالبيعة للخليفة الفاطمي لولا أن أشار عليه أصحاب النظرة البعيدة من أتباعه بتركه هذا الأمر خوفا على سلطانه وسلطانهم، ونفوذه ونفوذهم فالخوف هو الحائل الوحيد في سبيل إعلان الفاطميين أئمة عليهم؛ ومع ذلك فالخضوع الروحي للفواطم كان يعلمه الملأ في كل مكان وتحت سمع الخلافة السنية وبصرها؛ فمبدأ الاحتفاظ بسطوتهم في بغداد لا يتنافى أبداً مع إظهار ولائهم للفاطميين، ولعل العلاقة الرسمية لم تكن من القوة والصفاء مثلما كانت في عهد عضد الدولة البويهي. وقد احتفظ لنا أبو المحاسن برسالة من العزيز الفاطمي رداً على رسالة عضد الدولة فيها يشكره على ولاءه وخضوعه، وقد انتهز عضد الدولة هذه الفرصة ووصول مندوب العزيز بهذا المكتوب لُيذل الخلافة السُّنية فأمر المطيع وهو الخليفة السني آنذاك بالخروج لاستقباله. بل تمادى عضد الدولة وقرأ الرسالة مع ما تحمله من خضوع سافر وولاء ظاهر للفواطم في حضرته حتى دهش أبو المحاسن وتعجب، وإن كان ليس هناك ما يدعو للعجب لاجتماع البويهيين والفواطم في رمز واحد وإمام واحد هو (عليّ). ويجعل بنا أن نعرض بعض ما جاء في هذه الرسالة ففيها (،. . إن رسولك وصل إلى حضرة أمير المؤمنين مع الرسول المنفذ إليك فأدى ما تحمله من إخلاصك في ولاء أمير المؤمنين ومودتك ومعرفتك بحق إمامته ومحبتك لآبائه الطائعين الهادين المهديين. . ثم ذكر كلاماً طويلا في المعنى). أما بقية الكتاب فيستدل منها على أن العلاقة لم تقف عند تبادل عبارات المودة والصداقة بل تعدتها إلى تبادل الرأي والمشورة فيما يحيط بهما في العالم الإسلامي من خطر خارجي.
هذه هي مظاهر العلاقة الرسمية بين بغداد والقاهرة. . وهناك مظاهر أخرى لها تتمثل في اشتراك أهل مصر من الشيعة وبغداد في بعض الأعياد الدينية مثل النوح في أيام
عاشوراء، وهذه الظاهرة استمرت منذ أن استقر البويهيون في العراق. . .
هذه هي مظاهر التفاهم بين بغداد والقاهرة، والتي كانت نتيجة للرابطة التي بينهما كما ذكرت فخنقت هذه المعاملة الحسنة كما أنها هي التي منعت كلا من الفاطميين والبويهيين على أن يقضى الواحد منهما على الآخر، وذلك بالرغم من أن غرض الفواطم الرئيسي كان تدمير العباسيين المغتصبين للخلافة، ولكنهم لما وجدوا تشيعاً في بغداد مالكا لها أحجموا عن اتخاذ هذه الخطوة العدائية. ولكن مع هذا لم تكن العلاقة صافية تماماً في هذه الفترة، لأن وجود قوتين متواجهتين يؤدي حتما إلى نوع من التنافس قد يتعدى إلى حوادث أخرى وبخاصة في أول هذه الفترة، ولكن رغم تقلب الحوادث سرعان ما تعود الأمور إلى مجراها بحكم اتفاقهم في المبدأ؛ فمثلا نرى عز الدولة باختيار قد أمدَّ القرامطة بالمال والسلاح عند ما تقدم الفواطم وكادت نارهم تلفح وجه العراق وقد كان مدفوعاً لاتخاذ هذه الخطوة خوفا على ملكة، ولكن سرعان ما عادت الحال إلى الصفاء بعد ذلك. إذ ظهرت بأجلى صورها في عهد معز الدولة وعضد الدولة.
الفترة الثانية:
تأتي هذه الفترة بعد عضد الدولة إلى نهاية الدولة البويهية. كان طبيعياً، العلاقة الحسنة بين بغداد والقاهرة والتي استمرت على أتم صفاء، وبلغت أقصاها في عهد معز الدولة، وعضد الدولة آلا تستمر إلى الأبد، لأن السلطان البويهي الذي كان عاملا مهماً على التفاهم بدأ يضعف، أصبح الخلفاء العباسيون قادرين على التدخل في أمور الدولة والسياسة وانتهزوا فرصة هذا الضعف لإظهار ما يكون من عواطف البُغض والحقد للدولة الفاطمية. لذلك يجب أن نعتبر أن العلاقة في هذه الفترة على نقيض الفترة السابقة إذ اتخذت مظهراً آخر من القسوة والكفاح وظهرت نيات الطرفين واضحة بالبغضاء. ولعل أول مظهر لاسترداد الخلفاء العباسيين سلطانهم المفقود هو منعهم (كما يذكر أبو المحاسن) الرافضة من أهل الكرخ والطاق من النوح في يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح، ولكن هذا التحرر نوعاً من قيود البويهيين ليُعنى أن الخليفة العباسي قد أُطلقت يده أو أن في استطاعته أن يعمل شيئاً إيجابياً فهذا من المحال. لأن الخلافة العباسية كانت في أخريات أيامها عاجزة عن كل هجوم إيجابي على من قاسموهم سلطانهم وإن كانت لا تعجز عن الهجوم بسلاح آخر هو
سلاح الكلام، والطعن في نسبهم إلى فاطمة، خاصة أن لدولة تأسست على هذا الإدعاء، وكانت دعوتهم قبل أن ينشرها داعيهم أبو عبد الله الشيعي سرية، وذلك خوفا على أئمتهم المستورين من ولاة العباسيين في ذلك الوقت فساعد هذا الجو على الطعن في الظلام، ولذلك صدر محضران الأول في سنة 402هـ في عهد القادر بالله المعاصر للخليفة الفاطمي المستنصر وذلك بعد مضي قرن على إنشاء الدولة الفاطمية، وقد قرأت هذه المحاضر المملوءة بالقدح في نسب الفاطميين ونسْبهم إلى مجوس، في المساجد وأعلنت للناس. ولا يعنى هذا التجريح في نسب الفاطميين بعد قرن أنه لم يكن موجوداً قبل ذلك أي قبل المحاضر فقد أيد هذا الطعن في نسبهم بعض المؤرخين أمثال ابن خلدون، وأما سبب ظهور هذا الطعن بعد مضي قرن فيتحصل كما يظهر للأستاذ الأمير مأمور في كتابة:
1 -
الكراهية المتأصلة في العباسية من نسل علي وفاطمة.
2 -
المرارة من مقاسمتهم أملاكهم وذلك حينما هددوا سلطانهم.
3 -
الحقد الذي تولد من منافسة القاهرة قاعدة الفواطم لبغداد قاعدة العباسيين كمركز للعلم والثقافة والفن والأدب الإسلامي.
4 -
الخوف من امتداد سلطانهم لما بقي في أيديهم.
5 -
الفرصة مواتية لاختلاف العلويين وعدم تضامنهم. فهذه هي الاثنا عشرية والفواطم والأدارسة.
6 -
إمكان التأثير على بعض العلويين وضمهم لجانبهم.
7 -
كذلك البويهيون لا يمانعون؛ لأنه قد نالهم الضعف فقدروا الخطر الفاطمي حقَّ قدره.
8 -
إمكان إثارة العناصر السنية التي توجد في الأجزاء التي امتلكها الفاطميون.
9 -
إعلان هذه المحاضر في مثل هذه الظروف يضعف نفوذ الفواطم، ومن ناحية ثانية فهو لا ضرر منه على العباسيين.
10 -
ملاءمة الوقت لوجود خليفة مكروه وهو الحاكم.
على أية حال كتب المحضران، وحرص الحليفتان على أن يوقع عليهما كبار العلويين والقضاة والفقهاء وذلك حتى يحوز الطعن بعض الأهمية ولا يتسرب الشك إلى الناس
ويذكر مأمور في كتابه رأى بعض المؤرخين في المحاضر؛ فمثلا قال جرايف في دائرة المعارف الإسلامية (لم يظهر الشك في نسب الفاطميين إلا في وقت متأخر، وكما يظهر بوضوح أراد العباسيون اتخاذ أي وسيلة شرعية للقضاء على منافسيهم الخطرين).
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم ماجد
حقائق عن المادة والفكر أيهما أصلح طريقا للمعرفة؟
للأستاذ فؤاد طرزي
الحياة لا تعرف الثبات ولا الاستقرار؛ بل هي في تغير مستمر وفي نزوع دائم نحو التجدد والتحول، تستقر فيها جراثيم التوالد التي لا تنى تنقلها من حال إلى حال منذ الأزل وإلى اليوم وحتى يدركها الفناء. وهذه الخاصة الحية هي نداء الضرورة المطلوبة لإيجاد التوافق بين التغييرات الطبيعية والتبدلات التي تشمل مظاهر الوجود، وبين الكائنات الحية التي لا توجد إلا وهي ساعية نحو الكمال والسمو مهما اختلفت الصور التي تختارها لتعرض نفسها على مسرح هذا الكون.
وقد أطلق على هذا الجوهر الأصيل في طبيعية الحياة اسم التطور، وهو يدل على أن كل ظاهرة من ظواهر الوجود توجد في آن واحد، أي أنها تعمل على خلق حال جديدة لها في نفس الوقت الذي تحيا فيه على حال معين. وبعبارة أبسط إنها تتجدد وتتجدد إلى أن تهرم وتموت. سمة التطور أو الديالكتيك أو ما شئت له من المسميات ولكن بعد أن تعرف أنه الأساس الذي تقوم عليه الحياة وأنه مفروض على الأحياء والجمادات وهو يعمل من غير أن يُطلب أو تُراق لاستحضاره الدماء، بل إن كل ذلك لا يبدْل غايته ولا يغّير وجهته.
كل هذا الذي نقوله متفق عليه من جميع الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وهو ثابت بالبراهين الجلية والعلمية لا ينقضه برهان أو ينكره إثبات، ولكن الاختلاف هو في ماهية هذا التطور أو في الدافع الذي يحركه في سيرة الدائب: فمنهم من يرجع هذا الدافع إلى عوامل مادية، فيقرر أن المادة هي الكل وهي التي تقود التاريخ وتوجه الأحياء، وهي الأصل المفرد الذي لا ينازعه أصل والإله الحقيقي الذي لا يشاركه إله، أو هي - كما يقول انجلز - دورات الوجود الأبدية التي تتم بها الحياة. وأما الآخرون فيؤمنون بأن الفكر الملهم هو الذي يسوس الوجود، وأن العقل المدبر هو الذي يمسك بزمام الطبيعية وهو الذي ينفث القوة في المادة فتكتسب الحياة أو يتركها طينة باردة لا تقدر على الحركة والتحول والإيجاد. فالفكر هو الخالق وهو المبدع، وفي خلقة وإبداعه يستوحي سنة أبدية تعمل بغير انقطاع؛ هاتان الفكرتان ظلتا تتنازعان تارة في ميدان الفلسفة وحينا في ميدان الإصلاح، وأخيراً ظهرت إحداهما وهي الفلسفة المادية في شكل مذهب يعد إقامة المجتمعات وفق أصوله وقيمة.
وإذا أردنا النزول إلى ميدان البحث المقارن، ورغبنا في وزنهما من حيث الأساس الذي قامتا عليه، وجدنا أن التفسير الفكري أقرب إلى الحقيقة التي يتركب منها التطور وأدخل في باب الشروح العميقة التي لا تحكم على المشاهدات المحسة ولا تقنع دون النزول إلى أبعد الأبعاد للتعرف على ماهية الموجودات وهذه جملة أدلة نثبت صحة ما نقوله:
(أولا) المادية امتداد والفكرية عمق. والفرق بين الامتداد والعمق أن الامتداد يشغل مكانا يظهر للعيون والأبصار، وأما العمق فيخلق من غير أن يظهر للحواس فهو يُعرف بالبحث المجرد والتأمل النظري أو هو الحقيقة الفعالة وراء العضويات ينفث فيها الإكسير مادة أثيرية جرى العرف على تسميتها روح الحياة. وإذا أردنا أن نضرب الأمثال لنظهر الاختلاف في هذا بين الماديين والفكريين فلنأخذ ظاهرة اجتماعية كبرى تكاد تكون حادثاً فاصلا في التاريخ، وهي معروفة للجميع، إلا وهي الثورة الفرنسية.
فإذا قلت للماديين ما الذي أشعل نار هذه الثورة؟ أجابوك بأنه السعي وراء الخبز أو الانقياد وراء المادة، يتمثل في ثورة الجياع على المترفين، أو هي شكل من أشكال النضال الطبقي بين المحرومين والمتخومين. وكيف لا يكون ذلك وهذه الجماهير خرجت ثائرة تصرخ (نريد الخبز). أيوجد أكثر من هذا السبب الواضح الذي يؤيد رأينا؟ دون شك أنك تلاحظ أن هذا التفسير الذي عرفناه بأنه التفسير الذي لا يوغل في الأعماق ولا يتعرف إلى الماهيات من معرفة أصولها وجواهرها، وأصحابه لا ينفذون إلى أبعد من مرأى العين ولا إلى ما وراء البصر، في حين أن العين لا تستطيع الإحاطة بأكناه الأشياء، وأن البصر ليس بمقدوره أن يواتي البصيرة الوقادة التي تخترق الحجب وتهتك الأستار لأنها تدرى أن وراء الجسوم قوة مجهولة ووراء الأشكال الظاهرة عوامل مسيرة دافعة. إن الثورة الفرنسية تبدو ثورة من ثورات الجياع لمؤلهي المادة، ولكنها في الحقيقة ثورة أوقد نارها الفكر الثائر قبل أن يضرمها الخبز، وأنها لم تكن لتحدث لو لم يقدح زنادها هذا المشغل المحرق. ولنعلم أن الإحساس بالظلم لم يشعر به الكادحون الذين كانوا في خدر لذيذ يرون العبودية جزءاً من الحياة لا محول عنها بعد أ، لصقت كأشبه ما يكون بالقانون في ضمائرهم، بل أن الذين شعروا به هم المفكرون الذين أيقظوا النائمين ووضعوا خطط التحرير. فهؤلاء المفكرون أحسوا بالظلم وتألموا من الاستبداد في الوقت الذي كان فيه الجائعون ينظرون
إلى أسيادهم كأنهم من ظلال القدرة العلية في الأرض. وعندما تألم هؤلاء عملوا في سبيل وجود أفضل و (مجتمع أصلح) فأخذوا ينفثون القوة في هؤلاء الذين استكانوا للظلم وراحوا يعلمونهم معنى الحق والعدل والحرية. هذه الألفاظ التي خلقوها خلقاً وأوجدوها إيجادا. وأما المطالبة بالخبز فلم تكن إلا جانباً من الشعور بالحق، هذا الشعور الذي ابتدأ فكرة مجردة ثم أخذ يعمل ليكون حقيقة واقعية. فبعد أن تمكنت فكرة الحق من النفوس عرف الناس أن من حقهم أن يشاركوا في الرفاء والسعادة الأقلية المحتكرة. فالفكر هو الذي هدى وعلم ولم يكن أصحاب الخبز إلا تابعين يأتمون بإمامته. كان الفكر هو المحرك وكانت المادة عنصراً من عناصر التي تعاونت معه. كان هو الأصل. . . هو الحقيقة الأصلية، وإن شئت فقل هو الجوهر المفرد الذي يتركب منه الكون. قل لأصحاب المادة - كما يقول لهم الأستاذ أحمد أمين - هذه عناصر الخلية اخلقوا لنا منها خلية كخلايا الوجود. وعندما ستعرف أنهم لا يستطيعون فعل ذلك مهما أوتوا من مقدرة علمية، لأن جوهر الخلية كنه مجهول ينفث فيها الحياة، وهو سر غامض لا ندري ما هو وكل ما نعرفه عنه ما يبدو من آثاره.
(ثانيا) يجول الماديون ويصولون ويروحون ويجيئون في دوائر جهنمية لا حدود ولا منتهى لها. وكل ذلك ليفسروا فلسفة عمياء كليلة لا تملك من مقدمات الأسس المنطقية ما تستطيع بها أن تحيط بالوجود من جميع جوانبه. وهم يريدون تفسير الوجود فكان أمامهم طريقان: إما أن يقولوا إن هناك قوة مدركة حية تحرك الكون وتدير الحياة وهي بمثابة العلة الأولى لكل هذه النتائج، وإما أن يركبوا متن الشطط فيؤمنوا بالمادة الصماء التي لا تعقل ولا تحس، فاختاروا التفسير الثاني وتركوا الأول. ولا أدري لماذا نترك فلسفة تفسير الوجود بالوجود لنتعلق بأهداب فلسفة غامضة تفسر الوجود بالعدم. فأمامكم يا ناس حركة وأمامكم حياة فلم لا تؤمنون بقوة الحركة وبقوة الحياة، لتغوصوا في أعماق مجهولة لتؤمنوا بالجماد الذي لا يتحرك ولا يحس. إن مثلكم كمثل الذي يؤثر الظلمة على النور، أو كمثل الذي يمسك بالحقيقة البينة ولكنه يدعها تفلت منه لأنه يستعذب الجري والركض ولو إلى غير غاية.
(ثالثاً) ومهما تشعب القول فان هذه المادية منقوضة علما ومنطقا، فهي لا تستطيع أن تفسر ما الأمل وما الطموح وما الأحلام. كما لا تستطيع أن تفسر لماذا يموت الجندي في سبيل
وطنه، والتفسير المادي يقتضي منه أن يقدم ذاته على بلده. ولا تستطيع أن تفسر أيضاً كيف تفتدى الأم وليدها في حين أن ظواهر الأشياء ومنطق التفسير المادي يفرضان عليها حب نفسها قبل غيرها. ويثبت المنطق أن الفكرة قوة من القوى والمادة شكل جامد، وأن هذا الشكل لا يكتسب الحركة إلا بعد أن تحل هذه القوة في هيكله. فالفكرة هي التي تدفع وتوجه، والمادة تتشكل وتتخذ أوضاعاً ظاهرة. وقد يقال لا موسيقى بلا أوتار، ولا بناء بلا أحجار، ولا فكرة بغير مادة عصبية؛ ولكن الكمنجة ليست هي الموسيقى، والبناء ليس هو الأحجار، والذهن ليس هو الفكر. إن لحنا من ألحان بيتهوفن - كما يقول الفيلسوف رينان - موجد على الورق، ولكن من يكسبه الحركة والحياة؟ بلا شك العقل. وإن الفعل الإرادي الذي يتمثل في الاهتزاز هو الذي ينقله من عالم الجماد إلى عالم الحياة، وهذا الاهتزاز حقيقة عضوية قابله للوزن والقياس. إن الفكرة قوة تريد أن تكون والمادة تعينها وتنقلها إلى الكينونة والواقع. إن الفكرة هي الموجودة في الواقع وهي وحدها الكامنة، وتطمح إلى الوجود التام بإيجاد التراكب الكيميائية لا ظهارها.
من كل الذي ذكرناه نرى أن الفلسفة المادية لا يمكن أن تتوافق مع الغاية التي تتحول إليها الظواهر والشيات والكائنات، لأن هذه كلها ترتفع من الأدنى إلى الأعلى ولا تريد إلى حالة سابقة ولو تعاونت على ذلك كل قوى الإنسان، في حين أن التوحيد المادي ارتداد رجعي إلى حالة سابقة حيث يتحكم كل شئ في الإنسان فلا إرادة تستطيع أن تؤثر على مجريات التقدم لأن هناك قدرا صارما يحكم، ولا قوة عقلية تقدر أن توجه الأعمال إلى غايات مرسومة لأن الحلقة الآلية قد وضعت الحياة في دائرتها فلا تدع لها الحرية في العمل. وكل هذا يعاكس منطق الأشياء حيث نلاحظ أن الإنسان كلما سار مع الزمن استطاع أن يخضع الطبيعة ويخضع التاريخ لمشيئته، وانه كلما اتجه إلى الأمام ارتفع إلى الأعلى ليتحرر من قيود الظواهر المكانية والزمانية ومن دكتاتورية المعاش ويقرب من الغايات المعنوية في كل موجود من موجوداته
إن علائم التقدم والتطور تجمع في كلمتين اثنتين: (الحرية) و (التقدم المعنوي) فالتحرر علامة فارقه لقياس الحضارة، والتقدم المعنوي عمود التطور إذا جسمنا كلمة التطور وألبسناها حلة التشبيه والتمثيل. وليس قولنا هذا محص سفسطة ومغالطة، بل هو منقول
عن الحياة بعد أن خضع لمعاببر العلم وتجارب التاريخ وعبر الأزمان. فالعلم يقرر أن الإنسان كلما ارتفع صعدا في سلم الحضارة دقت عضلاته ومرنت عظامه وخفت حركته، أي كلما تقدم تحرر من قيود جسمه ليماشي الكون في حركته الدائبة نحو الخروج ونحو الانفصال عن المركز إلى الخارج في اندفاعاته الانتقالية. وتحطيم الذرة في عصرنا الحديث ليس إلا مظهراً من مظاهر الشوق الوجودي إلى التحرر والانفصال عن الكتل والهيولى. إن كل ما في الكون في حركة دائمة يريد التحرر من المادة والدنو من الصورة، ويعمل على أن يفك عنه قيود التجسم ليعود إلى النموذج والمثال. فالصراع بين الهيولى والصورة والذي كان لب فلسفة أرسطو العظيم هو ناموس الأبد، بل قل جرثومة التطور وقانون الحياة.
ولعل التقدم المعنوي هو فرع من ناموس الحرية الذي فرض أرادته على الحياة في كل سبيل من سبلها. وإذا أردنا أن نشرح هذا أكثر، فلنأخذ أشد الألفاظ لصوقا بالإنسان وأقدمها في معاصرتها له، ولنسر وإياها في تاريخها الطويل؛ فأننا سوف لا نجدها ألا سائرة من التعبير عن ملابسات المادة إلى السمو والدلالة على تعبيرات الروح والفكر. خذ كلمة (الضحية) وهي الكلمة التي كتب عنها الأستاذ العقاد بحثاً قيماً في عدد من أعداد الرسالة، فهذه الكلمة أول ما وجدت في الحياة، وحياة الإنسان خاصة، كانت تعنى (النذر) التي كانت تقدم للأرباب والمعبودين، ولم تكن تعنى غير هذا المعنى المادي الملموس الدال على تقديم علائم الخضوع في شكل أشياء مادية لاسترضاء الآلهة. ولكن بعد أن سار الإنسان أشواطاً جديدة في ميدان الحضارة أخذت الكلمة تدل على معان جديدة وراحت ترتفع من الدلالة على الأشياء المادية إلى التعبير عن أشياء معنوية كإنكار الذات وفداء النفس في سبيل الوطن أو في سبيل الشرف أو لإراحة الضمير ونحوها من المجازات والدلالات على معاني الأخلاق السامية.
(بغداد)
فؤاد طرزي
هاروت. . . أو الملك الثائر
للأستاذ عثمان حلمي
في جنان الخلد مأواه
…
ملك أكرمه الله
ناعم فيها فما نظرت
…
ما يسيء النفسَ عيناه
همه تمجيد مبدعه
…
من بسحر الخلد سوّاه
من بنور الحسن جمَّله
…
وبحسن النور حلاّه
تفتن الألبابَ طلعته
…
وبشر الحبَّ خداه
فاتن ضاحٍ محياه
…
جل من سوّى محياه
ظل في الفردوس يمرح في
…
ظلها، في ظل مولاه
معجز في حمد بارئه
…
كل لحن يتغناه
لم يدُرْ يوما بخاطره
…
عالم الدنيا ولا ما هو
لا ولم تدرك مشاعره
…
من صميم الشر معناه
ما درى للشر من وطن
…
أو بأن الأرض. دنياه
كاد ما يدريه من قدم
…
عن أبى الإنسان ينساه
نبأ ضاعت معالمه
…
وانقضت في الغيب ذكراه
قصة عن آدم سلفت
…
سجلت فيها خطاياه
آدم المسكين ضيعه
…
ما جنت في الخلد حوّاه
قد أراد الله فتلته
…
فليكن ما شاءه الله
ذاك أقصى ما أحاط به
…
ملك في الخلد مثواه
ثم دار الدهر دورته
…
غيرت في الدهر مجراه
دورة جدًَّت فما ونبت
…
أفقدت هاروت سيماه
فتولاه الأسى وبكى
…
ما قيل ما تولاه
لفتة للأرض واحدة
…
بدلت منه سجاياه
الطروب القلب يزعجه
…
هاتف بالهمّ يغشاه
والتقرير العين مكتئب
…
تتندى منه عيناه
ما الذي بدل فطرته
…
ما الذي جدّ فأشجاه
قد رأى الدنيا وقد وسمت
…
كل شر كان يأباه
ظالم فيها ومجترم
…
قاتل ضجت ضحاياه
ليس يرضى بالدماء وقد
…
رضيت بالموت قتلاه
وأخ يرمي أخاه وما
…
من ضمير ثمَّ ينهاه
وعزيز الجاه ذو صلف
…
وضعيف الجاه يخشاه
وشرور مالها عدد
…
وبنو الإنسان أشباه
ووجود كله ألم
…
صارخ والموت عقباه
ذلك الإنسان أكفر من
…
خلق الله وسوّاه
يا لقلب جُن من هلع
…
لم يصادف ما تمناه
يا له في الخلد من ملك
…
في رياض الخلد مثواه
ثار حتى لم يجد فرجاً
…
أو رجاء يتملاه
وتولى سائلا جزعاً
…
ما الذي يقصده الله
لو سكنت الأرض كنت بها
…
مصلحاً ترجى نواياه
أصلح الدنيا وأجعلها
…
مثلا للخير أرضاه
صوت:
لك هذا، إنه حسَن
هاروت:
ولك العزة والجاه
صوت:
شهْوة الإنسان جامحة
…
ركب فيك ودنياه
آدمي أنت في ملك
…
طاهر طابت خفاياه
فامض واغسل بالطهارة من
…
عالم الدنيا خطاياه
وإلى بابل إن بها
…
ما تؤمله وتهواه
فأتاها باسما فرحا
…
ليس يدري ما سيلقاه
يسرت بالطهر يسراه
…
وسرت باليمين يمناه
إن رأى خيراً يسربه
…
أو أرى شراً تفاداه
ورأته الغيد فابتهجت
…
وسباهن محياه
قلن ما أقواه من رجل
…
في بني الدنيا وأحلاه
وتمنت كل غانية
…
لو غدت فيما تمناه
ورأى فيهن فاتنة
…
وله جملها الله
تخذت من قلبه سكناً
…
ولمهد الحب مأواه
واستبدت في عواطفه
…
فهو يرجوها وتأباه
قوة قد كان يجهل ما
…
سرها والحب أفشاه
كم نهاه عقله فأبى
…
أي عقل كان ينهاه
والهوى طاغ وأحسبه
…
إن طغى جلت ضحاياه
إن أصاب العقل زلزله
…
أو أصاب القلب أراده
يا لهذا الحب كم جهلت
…
كل ما يجنيه قتلاه
يا لهاروت القوي وقد
…
بدل الحب سجاياه
يا لهاروت الضعيف وقد
…
كان ما قد كان يخشاه
الهوى والسهد أعياه
…
والجوى والوجد أضناه
ورأت من كان يعبدها
…
أن سهم الحب أصماه
فدعته فانتشى طربا
…
وهو لا يدرك عقباه
ثم أغرته بكأس طلى
…
ما تأنى إذ تعاطاه
ثم أغرته بقتل فتى
…
كان يقلاها وتهواه
فرماه في الصميم وقد
…
ختمت بالقتل بلواه
وأفاقا وهو في جزع
…
قاتل يلعنه الله
أي عذر بعد فعلته
…
أي صفح يتلقاه
إن سر الخلق يستره
…
عالم بالخلق أخفاه
غاية يضمر منشئها
…
كنهها من يوم أنشأه
الغريبة
(من ديوان (أغاني الليل)، الذي سيطبع قريباٍ)
للأستاذ عمر أبو قوص
خرجتُ عند الأصيل منفرداً
…
أضرب في الأرض حاملاً شجنا
وكان فصل الخريف قد بدأت
…
آفاقهُ تحمل المزُنا
وكانتِ الروحُ وهي والهةٌ
…
تندب حباً رعيته زمنا
فأبصرت مقلتاي عن عرض
…
غريبة قد تهالكتْ وهَنا
فقلت للنفس هاهنا فقفي
…
أو فاطلبي الأفْق بعدها وطنا
يا زهرة في الحديقة انفردت
…
أما ترين الأوراقَ والغصُنا
الركب ولَّي وأنت باقيةٌ
…
تحيين أمجادَهُ وما فطِنا
أأنت قربانُ عاشقٍ دنفٍ
…
قدَّم للحب روحهُ ثمنا
أم شاعر في الحياة معتزل
…
يحُلمُ فيها ليقتلَ الزمنا
أم بسمة في الخريف شاحبة
…
لما تعرَّى ليلبس الكفنا
أم نجمة في النجوم شاردة
…
حطَّت على الأرض تبتغي سكنا
كأن فيك الكافورَ منتشراً
…
يبعث فيَّ الفتور والوهنا
فيذهب الوهم آخذاً بيدي
…
حيث أزور القبور والدمنا
أيّ غريب مضى لطيته
…
يطوي الفيافي والسهل والحزَنا
حتى إذا مات لم يجد أحداً
…
يبكي عليه ولم يجد سكنا
فكنت في البر أنت شاهدة
…
عليه تبكين قلبه حزنا
أم هو في أهله وقد جهلوا
…
أسراره والدموع والشجنا
غريب روحٍ مستوحش أبداً
…
إن حلَّ لم يسترح وإن ظعنا
وعدت للبيت والدجى ظهرت
…
راياته والنهارُ قد جبُنَا
وعاد كلٌّ لأهله فزعاً
…
حتى إذا صار بينهم أمنا
وكانت الريح وهي ثائرة
…
تعصف عصفاً والغيث قد هتنا
البريد الأدبي
الأستاذ علي الطنطاوي في القاهرة:
وفُقت وزارة العدل السورية إلى إيفاد القاضي الفاضل السيد على الطنطاوي إلى مصر سنة كاملة للوقوف على الأنظمة الفضائية واللوائح الشرعية، والاطلاع على تطور الأحوال الشخصية والدراسات القانونية في المحاكم الشرعية والمعاهد الدينية والمجالس الحسبية ومقارنتها بالمتبع في سورية لتهتدي الوزارة على ضوء أبحاثه ودراساته وتقاريره إلى تنفيذ ما تريد في محاكمها من الاقتباس أو المحاكاة أو التعديل. والأستاذ بثقافته الشرعية الأصيلة، ومواهبه النادرة الجليلة، وخبرته العلمية الطويلة، أقدر القضاة على الاضطلاع بهذه المهمة، وقد ورد الأستاذ القاهرة مساء الخميس الماضي، فعلى الرحب والسعة
1 -
أسبوع الأمير:
كان الأمير شكيب أرسلان رحمة الله عليه أضخم شخصية عربية، وكانت له مزايا جمة كل مزية منها تجعل صاحبها لو اقتصر عليها من عظماء الرجال، منها أنه المؤلف المكثر المجود، ولو لم يكن له إلا تعليقاته على حاضر العالم الإسلامي، والحلل السندسية، ولماذا تأخر المسلمون، لكان بها من كبار المؤلفين. ومنها أنه الكاتب الذي ملأ الشرق والغرب نثراً بليغاً، وكان لسان الإسلام ومدره العرب؛ وأحسب أن مقالاته لو جمعت لجاء منها كتاب في ضعف حجم الأغاني. ومنها أنه السياسي الأكبر الصادق الفراسة الصحيح الرأي البعيد النظر، أنذر وحده العرب (لما قاموا باسم القومية يطعنوا الأتراك إخوانهم في الدين في ظهورهم) وحذرهم عاقبة ما هم فيه، قال لهم إن الإنكليز لا وفاء لهم، وإن الشام إن تخرجوه الآن من يد الترك تدخلوه في أيدي غيرهم؛ فكان والله ما قال، فلما انقلب الأتراك وولوا وجوههم عن الإسلام لوى عنهم وجهه وكان حرباً عليهم. وهو الذي أثار الدنيا على الظهير البربري؛ وهو الذي أرجع عرب الجبل الأخضر، وهو الذي كان سفيراً دائماً لنا في ديار الغرب، سفيراً بلا أبهة ولا رتب يرتضى حياة التقشف ويصبر على مر العيش. ومنها همته وثباته؛ ما كتب إليه إنسان إلا أجابه، ولا خاطبه رجل إلا رد عليه، ورسائله تعد بعشرات الآلاف. ومنها وفاؤه ونبله، وهذان كتابان عن شوقي والسيد رشيد يقومان دليلا ولا يعوزنا الدليل. ومنها - ولن تحصى هذه الكلمة مزاياه، ما يحصيها إلا الدرس
الطويل؛ لذلك فكرت دمشق التي روعها نعى الأمير، وجاءها نبأ وفاته وهي تعد لاستقباله، تأمل أن يجيئها أعز زائر وأكرمه وأعظمه، فكرت في أن:
1 -
تقيم أسبوعاً للأمير رحمه الله في مدرج الجامعة السورية في دمشق يتعاقب فيه الخطباء والمؤبنون.
2 -
تنشر ما ينشر من كتبه وتعد نشر المطبوع منها.
3 -
تجمع رسائله الخاصة وتحصيها.
وتألفت لذلك لجنة تمهيدية برياسة صديق الفقيد الأستاذ السيد عارف النكدي رئيس مجلس شورى الدولة، وعضوية الأساتذة السيد سامي العظم المفتش العام في وزارة العدلية، والسيد عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي العربي، والسيد أنور العطار شاعر الشباب السوري، والسيد مظهر العظمة مدير مدرسة التمدن الإسلامي، وعلي الطنطاوي، ورئيس الشرف في هذه اللجنة الأمير عادل أرسلان، لا لأنه وزير المعارف، ولأنه أخو الفقيد، بل لأنه صديقة وما كل أخ صديقاً، ولأنه أعرف الناس به وأشدهم حباً له، ولأنه الشاعر الفحل، والوطني المجاهد، ولأنه الأمير عادل أرسلان. رحم الله الفقيد وألهم هذه الأمة الوفاء له، والاقتداء به.
(ع. ط)
2 -
عالم بين الكتب:
من أنباء المعارف في الشام التي تسر وقل فيها السار، أن الوزارة ستجعل إدارة دار الكتب الظاهرية للأستاذ أبي قيس عز الدين التنوخي، وهو اختيار موقف لأن دار العلم لا يجوز أن يقوم عليها إلا عالم
(ع)
1 -
واجب الوفاء!
تأليف في سورة عدة لجان لتأبين فقيد العروبة والبيان المغفور له الأمير شكيب أرسلان.
وسورية هي الوطن الذي ولد فيه الفقيد، وفي ترابه دفن جثمانه العزيز، فلا أقل من أن تنهض بهذا الواجب حكومة وشعباً جماعات وأفراداً، نحو رجل من أبر أبنائها، وعبقري
من أعظم شخصياتها.
ولكن ما بالنا لم نرى أثراً لمثل هذا التفكير إلى الآن في مصر وقد استوطن الفقيد فترات من الوقت، وكانت له برجالاتها صلات وثيقة، وقد عاش طول حياته يفزع لأمورها كما كان يفزع لسورية وطنه، ولكل قطر عربي؟!
لقد قضى المغفور له الأمير شكيب أرسلان حياته ينادي بالوحدة العربية، ويدعو إلى تقوية الصلات الشرقية، ويندد بشنائع الاستعمار في كل بلد عربي، فليس الأمر تأبينه وتخليد ذكراه أمر سوريه وحدها، ولا أمر مصر وحدها، بل هو واجب على العالم العربي جميعه، فهل للجامعة العربية وقد كان الفقيد من أكبر دعاتها ورعاتها فكرة حتى تمثلت عقيدة ثم أصبحت حقيقة، أن ننهض بهذا الأمر؟ وهل للأمين العام للجامعة سعادة عبد الرحمن عزام باشا الدعوة بذلك قياما بالواجب ووفاء بالدين؟!.
2 -
لن يترنم الأطفال بأناشيدهم!
جاء في الأنباء البرقية الأخيرة أن سلطات الاحتلال في ألمانيا حرمت على الأطفال أن ينشدوا أنشودة (الفارس المقدس) التي اعتادوا الترنم بها في الاحتفالات الرسمية لعيد الميلاد، والاحتفالات الشعبية التي ينظمها معلمو بساتين الأطفال فيمدينة شفيرين، كما حرمت عليهم أيضاً إنشاد ترنيمة أخرى وضعها مكتب الشباب في المدينة؛ ومنعت المعلمين كذلك من إخراج روايات عيد الميلاد التي تظهر فيها الملائكة!!
مساكين أولئك الأطفال في ألمانيا. . . لقد شردهم الجوع، وقتلهم البرد، وأفقدتّهم الحرب الجهنمية، الأب الحنون، والأم الرؤوم. والأسرة البرة الراعية، وإن عيد الميلاد ليطالعهم بصبح متجهم. . يفتشون فيه عن اللقمة السائغة فلا يجدونها، وعن اللعبة المسلية فلا يظفرون بها، وعن البهجة المشرقة فتنخلع قلوبهم هولا مما يرون، حتى أناشيدهم المحبوبة أصبحت حراماً على ألسنتهم. .
يقولون إن الإنسانية تحضرت بالعلم، وتهذبت بالفن، ونضجت بالتجربة. . ولكن أين مظهر هذا وجدواه، وما زالت الشريعة بين الغالب والمغلوب قائمة ولها ناب الأسد وظفره، وشراهة النمر وفجوره، ولكن ليس لها أي قلب. .
إن القسوة الغاشمة لا تربى النفوس أبداً على حب الخير والتسامح، فحرمان الأطفال من
أناشيدهم، ومتعهم، لن يربى عواطفهم إلا على الحقد والضغينة؛ وغداً عندما يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال سيكون أول ما يفرجون بع عن عواطفهم المكبوتة هو الثأر من أولئك الذين حرموا عليهم كل شئ، حتى الترنم في العيد بأناشيدهم المحبوبة.
محمد فهمي عبد اللطيف
الكتب
كتب وشخصيات
تأليف الأستاذ سيد قطب
هذا كتاب في النقد، نقد الأدب المعاصر، جاء في أبانه، فقد أصبحت المكتبة العربية الحديثة كما قال المؤلف:(تستحق ناقداً ففيها أعمال أدبية ناضجة، وفيها مذاهب فنية متبلورة كما أن فيها محاولات واتجاهات تستحق الاهتمام، فالناقد خليق أن يجد له عملا في هذه الظروف الجديدة. . .)
وقد تناول المؤلف بالنقد في هذا الكتاب (كتباً) في مختلف أنواع الأدب، ومعها (شخصيات) مؤلفيها من شتى البلاد العربية، وحرص على أن تكون هذه الشخصيات (من جميع الأنماط والمستويات والاتجاهات) كما حرص على أن بصرر شخصية كل أديب تناول أحد كتبه بالنقد، (فالكتاب وصاحبه في هذا الكتاب موصوفان مرسومان مميزان)
لأشك أنك الآن عرفت معنى اسم الكتاب (كتب وشخصيات) وتصورت موضوعة على وجه الإجمال، ولا أسارع - كما فعل المؤلف في أكثر كتبه وشخصياته - فأعطيك (مفتاح) شخصية مؤلفنا، بل أرى أن نحول معا - أولا - في أنحائه، ونتعرف سماته وطرائفه على قدر ما تحتمله هذه العجالة.
بدأ الأستاذ سيد قطب بفصول في النقد العالم، بين فيها أصولا وأسساً نظرية للنقد، أهمها أو رؤوسها أن حق الناقد في الحكم على صحة الحالات النفسية والصور الذهنية رهن بالنسبة بين رصيده ورصيد الفنان من الآفاق النفسية، والتجارب الفنية على السواء.
وأن صعوبة فهم النصوص الأدبية لا ترجع إلى غرابة اللفظ ووعورة التركيب، أمنا (هي صعوبة التصور والإدراك بسبب نقص الرصيد النفسي من التجارب الحسية والذهنية والروحية)
و (أن الطبائع الفنية الممتازة، والنفوس الفنية الموفورة الرصيد، أقل عدداً في هذه الحياة من الطبائع الشائعة المكرورة والنفوس المحدودة التجارب).
وأن مادة الفن الأصيلة هي التجارب الإنسانية، ومهمته أن يعرضها ويصف جزئياتها، ويسجل الانفعالات التي صاحبتها وبصور ما أحاط بها من تصورات وأخيلة، وأن قيمة
العمل الفني في الاحتفاظ لهذا التصوير بالحرارة التي صاحبت الانفعال، وأما من يلقى الحقيقة الأخيرة التي انتهى إليها من تجربته فإن عمله يفقد المتعة الفنية ولا يستثير الحس والخيال بالمشاركة الطويلة المفصلة
وأن التعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلا أدنى إلى الفن من التعبير الذي يلقى المعنى مجرداً.
وأن الشعر يستمد معظم مؤثراته وانفعالاته من وراء الوعي (وكلما فاض الشعور فطغى على الوعي، وانطلق يستمد من الرواسب النفسية ويستوحي الظلال الشعورية، كان يجري في ميدانه الأصيل، وينشئ أجل آثار، وذلك مع عدم إغفال مقومات الشعر الأخرى من عمق وسعة اتصال بالحياة ونفاذ إلى الأسرار الكونية الخالدة).
وبعد النقد العام بحثان: (النفس الإنسانية في الشعر العربي) و (والطبيعة في الشعر العربي) ثم يمضي الأستاذ إلى الكتب والشخصيات على ضوء الأسس العامة السابقة وما يشع من تفصيلات وفروع. وهو يعني في معظمها بالشخصيات أكثر من الكتب، فكثيراً ما يبدأ بتسليم (مفتاح الشخصية) دون أن يبين كيف ضع هذا المفتاح. ولعله يرمي بذلك إلى عرض نتيجة دراسته للشخصية في مختلف آثارها، ثم يسير مع القارئ في الكتاب الذي ينقده. وهذا يفسر اهتمامه بالشخصيات أكثر من الكتب، على أن حظه من التوفيق في إبراز الشخصية كان أكثر في الشخصيات التي جال في أنحائها ودهاليزها وحجراتها قبل أن يعطى (مفتاحها).
وقد تجلت براعة الأستاذ سيد خاصة في أكثر الموازيات التي قام بها بين الشخصيات ومؤلفاتها، كما صنع بين الدكتور طه حسين والأستاذ توفيق الحكيم، وقد خص الثاني بقسط كبير من عنايته في تحليله وتبيين سماته وملامحه.
والجانب الذي يوجه إليه الأستاذ سيد أكثر همة في الأعمال الأدبية، هو الصور والظلال، فهو يجسم أهميتها في فصول النقد العام، ويتلمسها عند كل أديب، ويجعلها أكبر (صنجة) في الميزان، وله ألمعية نافذة في الوقوف والدلالة عليها.
وقد أجاد في تطبيق أسس النقد في العام على الأمثلة التي اختارها لولا (شنشنة) ما كنا نود أن يكون (أخزمها) فقد حرص في كل فصل من الفصول الأولى، عند ذكر ميزات وقيم
الفنون على أن يجرد أو ينقص نصيب الأدب العربي منها: فهذا الأدب يغلب عليه طابع المعاني العامة المتبلورة والقضايا الذهنية الكلية، ويطالع القارئ بنتيجة التجربة النفسية لا بطريقتها التي تشغل الحس وتستثير الخيال؛ وهو فقير في الصور والظلال؛ والشعر العربي لا يستطيع أن يقف على قدميه أمام الشعر العالمي فيما يلمح وراء الألفاظ والمعاني من الظلال الإنسانية والحالات النفسية؛ وأن الطبيعة لم تكن متصلة بإحساس الشعراء العرب اتصال الصداقة والألفة، فالطبيعة في الشعر العربي (تستعمل من الظاهر!)
والأستاذ سيد يطلق هذه القذائف في وجه الأدب العربي؛ ثم يخلو إلى قطع مختارة من الأدب الغربية والهندية والفارسية، معظمها من كتاب (عرائس وشياطين) للأستاذ العقاد، فيعكف على ما فيها من الميزات التي جرد منها الأدب العربي، ويأتي من الشعر العربي بما يراه مجرداً من اللحم والدم. . . وهذا صنيع عجيب لأن القطع غير العربية التي أتى بها مختارة، والأستاذ العقاد الذي اختار هذه القطع من معادنها التي هو خبير بها لم يفعل شيئاً مما فعله سيد قطب في استخدامها في الجملة على الأدب العربي
ولست أرى المجال هنا لإثبات ما نفاه المؤلف عن الأدب العربي، لأنني هنا بصدد التعريف والنظرات العامة.
وأستطيع الآن أن أقول إن الأستاذ يجاوز ميدانه جاهداً، فيثير غباراً تقذى بع عيون بريئة. . .
ولم يكن المؤلف منصفاً كل الإنصاف في الموازنة بين شوقي وعزيز أباظة في الرواية الشعرية، ومرد ذلك - فيما ألمح - إلى ما استقر عنده من هو أن أمر شوقي في الشعر، وقد بدأ تحامله على شوقي في نقد الأبيات الآتية من (مجنون ليلى):
لمْ إذن يا هند من
…
قيس ومما قال تبرا
أنعم (مناز) مساء
…
نعمت سعد مساء
أوغل الليل فلنقم
…
بل رويدا واسمعي (ليل) خلي عني دعني
يأخذ عليه في البيت الأول تسكين ميم (لم) وتسهيل الهمزة في (تبرا) وفي الباقي ترخيم منازل وليلى بجعلهما (مناز) و (ليل) وبعد هذه ضرورات يعيبها عليه. . . مع العلم بأن تسكين هزة (لم) وتسهيل الهزة كثير جداً في الشعر، ولا غبار عليه. . . أما ترخيم المنادى
فليس من الضرورات، فهو يكون في النثر كما يكون في الشعر؛ وهذا، وذاك، وذلك، أمور مستساغة، بل كثيراً ما تستعذب وتستملح.
ومما أخطئه الإنصاف فيه نقده لتيمور إذ يصف فنه بالفتور، وبأنه يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحرية. وهو في هذا يضع موازين (غير مختومة. .) ويزين بها.
فهذا أديب وديع لطيف يصدر في أدبه عن ذات نفسه، فيؤثر فيه اللطف والدعة، أليس هذا من (الصدق الذاتي) في الأدب؟ أولا يكون النتاج معجبا إلا إذا صخب فيه الأديب وعربد. . .؟
وعلى الرغم من كل ذلك فكتاب (كتب وشخصيات) مرحلة من مراحل النقد في أدبنا الحديث، فيها نضج كثير ودنو من المثال، وأسلوب الكتاب هو أسلوب الأستاذ سيد قطب الذي يعرفه القراء دقيق التعبير نابضاً بالحياة، وسيد قطب هو (الناقد اللازم) الآن للمكتبة العربية، وعدته في ذلك (رصيد) ضخم من الطبيعة الفنية، ونفاذ بارع، وجد بالغ، وقدر لا بأس به من التجرد من عوائق مسير النقد في سبيل الإنصاف، على أن هذا القدر يعوز الكثيرين. . .
عباس حسان خضر
أبو عبيدة بن الجراح
تأليف الأستاذ طه عبد الباقي سرور
كتاب تاريخي لعلم من الأعلام الخفاقة في الإسلام. . الزعيم العتيد أبو عبيدة بن الجراح، ولا شك أنه شخصية عزيزة على الإسلام أثيرة عند المسلمين كان لها يد ناصعة في رفعة الإسلام وسيف بارق في فتح البلاد التي غزاها. . . كان أبو عبيدة رجلا كاملا تجتمع فيه الصفات النبيلة كلها فلا يزهبه هذا بل يزيده تواضعاً إلى ربه وخشوعاً. . كان يخاف المديح ويتحاشاه وهو الذي هزأ بالموت وتحداه حتى غلب على أمره. ولم يكن هذا صادراً إلا عن النفسية الإسلامية التي لا تنتظر الجزاء عند الناس بل ونظره وفؤاده إلى الله وحده يرنوان، فتراه حين يتفشى الطاعون في قومه المحاربين بالقدس يأبى أن يعود إلى المدينة، ويرسل إليه عمر ويسر لعاطفة الأمير النبيلة لكنه يخالف الأمر لأول مرة في حياته
ونراه قبل ذلك وهو يستقبل عمر على أبواب القدس، ويعرف عمر بالمرض المنتشر في المدينة فيفكر في الرجوع فيقوم أبو عبيدة في وجهه صارخاً (أفرار من قدَر الله يا عمر! فيجيبه الفروق في تأثر وخشوع: أجل! فرار من قدر الله إلى قدر الله) ويظل النقاش دائراً حتى يأتي عثمان فيدلى بحديث عن النبي (ص) فينحسم النقاش ويرجع عمر أدراجه، ويدخل أبو عبيدة القدس عارفاً بما ينتظره هناك فيتلقاه في رهبة أبي عبيدة وثباته. . . ويجزع أن يجد الخير قد كثر والرزق قد اتسع عليه فيوزع ما لديه حتى لا يصبح عنده إلا ما يمنع العوز ويكفي السؤال. وهكذا عاش أبو عبيدة، وهكذا مات، يضرب الأمثال حيا وحين يموت فإذا هي خالدة تشرئب لذكرها أعناق المسلمين وترتفع بها هاماتهم مفاخرة مدلة بقواد الإسلام وأعلامه.
ولا يسعنا إلا نشكر للأستاذ طه سرور مجهوده القيم، ولكن يبدو أن المصادر كانت قليلة بين يديه فدعاه ذلك إلى الكتابة بأسلوب إنشائي بعض الشيء سبك به القصص التي رواها ولكنه لم يروعن تاريخ حياته ما يروى غلة القارئ، هذا شئ كنا أحوج إليه من الأقاصيص. . . كما أن الأستاذ طه عمد إلى الإنشاء أيضا في التحليل الذي كان يستخلصه من الأقصوصة، وهذا شئ نأخذه عليه؛ لأن التحليل في القصص إنما يكون لرسم الخطوط الرئيسية في الشخصية حتى تخرج من آخر كل أقصوصة بخط جديد، وهذا لا يحتاج إلى
الإنشاء بل إلى التغلغل في الناحية النفسية التي تبرزها لك الأقصوصة.
وليس معنى هذا أننا نبخس المؤلف حقه، إنما نطالبه بما كنا نأمل. وعسى أن تحقق آمالنا في البحث الآني أن شاء الله.
ثروت أباظة