الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 704
- بتاريخ: 30 - 12 - 1946
من استرعى الذئب ظلم
للأستاذ محمود محمد شاكر
في سنة 1927 عرفت رجلا إنكليزياً، فنشأت بيني وبينه مودة، وكان رجلاً حريصاً على أن يعرف أشياء كثيرة، على وجهها الصحيح، وكان صادق اللسان فيما يبدو لي منه، وإن كنت قلق الشك في صدق اللسان الإنكليزي! وكان لطيف المعشر طلق المحيا، فيه دعابة رقيقة لا تبلغ العنف ولا يتجاوز بها حدها. وبقينا معاً سنة كاملة؛ فكان كأكمل الناس أدباً، وأركنهم عقلا وأبعدهم عن الملاحاة والمغاضبة وسوء العشرة. وكان إذا تقصى مني أمراً أخلصته القول، فقد ظننت أني جربته وعرفته ونفذت في طوايا ضميره. وكان هو يحدثني فلا اشك أبداً أنه كسائر أهل جلدته، بل كان خلقاً غير الخلق منهم، فهو يقول ويعني ما يقول، وليس كأمثالهم يتسلل من إهاب ليدخل في إهاب. ولم أزل اطمئن إليه وإلى حديثه وإلى بثه ما في نفسي ونفس بلادي من شعورٍ، فكان لا يتردد في إعطاء الحق لمن كان له الحق، ولا يرضى أن يكون ظالماً ولا متعنتاً ولا مدافعاً بالعصبية والكبرياء أو المماراة.
وفي سنة 1928 جاءت امرأته من بلادها ودعاني مرات فما لبثت أن رأيت هذا الرقيق الوديع المنصف ينقلب خشناً جريئاً على الباطل جائراً في الحكومة، متعنتاً فيما كان بالأمس يعطي النصفة فيه، وإذا هو شديد اللدد تياه الخصومة، وإذا هو ينسلخ من إهاب ليدخل في إهاب كفعل سائر قومه، فكان ذلك آخر عهدي به، وكان من عاقبته أني كرهت هذه الإنكليزية العجيبة التي يقال فيها ما قال الشاعر:(كالعُرِّ يكمُنُ حيناً ثم ينتشرُ) فإن مجيء امرأته أعداه كما يعدي الجرب، فثار ما كمن فيه ثم استشرى، فإذا هو وافد قومٍ هم ما هم.
وفي هذه السنة التي انتفض عليه فيها عر قومه، جلسنا يوما نتحدث فجرى الحديث إلى ذكر السودان، فقال لي إن قضية مصر في مسألة السودان ليست إلا دعوى لا خير فيها، فإن هذا النيل الذي تزعمون أنه يربط بين مصر والسودان رباطاً لا انفصام له لا ينفعكم لإقرار الحجة لدعواكم أن مصر والسودان أمة واحدة. وقال: أرأيت إلى نهر الدانوب، كيف يجوز في العقول أن يدعي مدعٍ ممن يعيش على مده أنه يوجب توحيد الأمم التي عليه لتكون أمة واحدة؟ أو ليس إذا قام شعب من شعوب الدانوب فأدعى بمثل ما تدعون،
فإن الواقع كله يبطل حجته، والعقل يوجب أن يشك المرء في صحة إدراك هذا الشعب؟ فهذه هذه، فليس ينفع قضية مصر أنه تدعي أن النيل بينكما هو الرباط الذي يوجب أن تصير مصر والسودان أمة واحدة. والعجب العجاب عندي أن حديث السودان كان قد جرى بيننا قبل أن يمسه عر قومه، فلم يقتصر يومئذ على أن يسكت؛ بل كان قد وافقني على ما ذكرت له من حجة مصر في قضيه السودان، فإذا هو قد نسي كل هذا بعد أن ارتد إلى سنخه وطبيعته. . . . وهكذا الإنجليز.
ومضى الزمن، وإذا بنا نسمع إحدى الببغاوات التي سلبت العقل وكسيت الريش الجميل، تردد هذا القول المدخول الفاسد من جميع نواحيه. ولو كان قائله إنجليزياً لهان الأمر، وهو هين على كل حالٍ، ولكنه مع اشد الأسف سوداني بالمولد والإهاب، أما قلبه فقد بيع بالمزاد فوقع في قبضة الرجل الذي رفعته إنجلترا بين عشية وضحاها من وهدة البؤس والحرمان، وكان فيهما رجلاً فاضلاً، إلى ذروة الغنى والجاه، فأصبح بعدهما جانحاً إلى النقصان ساعة بعد ساعة.
زعمت الببغاء أن ليس في الدنيا شيء يقال له وحدة وادي النيل، كما انه ليس في الدنيا شيء يقال له وحدة نهر الدانوب، وإن الذي يبطل هذه يبطل تلك في مقام الاحتجاج، ويخرج من هذا إلى إن السودان ينبغي أن يكون أمة وحده، وأن مصر أو أثرياء مصر! (ينصبون فخاخاً تخفي أغراضهم الحقيقية ببراعة بالغة خلف الثوب اللامع من الدين واللغة والتاريخ، وهو الثوب الذي اصطنعوه بأيديهم). هكذا قالت الببغاء التي يزعمون أنها رئيس تحرير جريدة النيل وعضو في وفد حزب الأمة في لندن لهذا التاريخ!
فهذه الببغاء تجمع إلى نقيصة الترديد والتقليد نقائص كل واحدة منها شر من الأخرى هي الجهل بمعنى ما يقول، والكذب على أهل السودان، والجرأة في التهجم على الناس بما ليس يعلم، والتدليس في التاريخ، والعبث بمصير أمته المصرية السودانية، وشرهن جميعاً ما يلوح في خبئ كلامه من العداوة البغيضة التي يورثها هو والمستأجرون من أمثاله بين مصر والسودان.
وقصة هذا الدانوب الذي يحتج به ذلك الإنجليزي ثم احتجت به الببغاء الملقنة، قصة فاسدة المبنى والمعنى، والإغماض في الاحتجاج بها دال على ضيق التصور وقلة العقل وجثوم
الجهل في جمجمة قائلها. فهذا النهر ينحدر من منابعه في بادن مخترقاً المانيا ثم النمسا ثم هنغاريا ثم يوغسلافيا ثم بلغاريا ثم رومانيا حيث ينتهي إلى مصبه في البحر الأسود، فهو مشترك بين ست دول كل واحدة منها لها خصائصها، حتى يبلغ التباين بينها مبلغاً ليس بعده شيء في اللغة والعادات والآداب والتاريخ وأسباب الحياة كلها تقريباً. هذه واحدة.
أما الثانية فهذا النهر واقع في قلب أوربة، وهذه الدول كلها قائمة على حفافيه متاخمة لدول أخرى تحيط بها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فهو ليس نهراً في صحراء جرداء كما ترى في نهر النيل الذي يحده من الشرق صحراء، ومن الغرب صحراء، ومن الشمال بحر ينتهي إليه مصبه، وفيه دلتا مصر.
وأما الثالثة، فهو أنه ليس نهراً تقوم على جوانبه الزراعة في خطٍ ضيق في بلد واحد كالذي تراه في نيل مصر والسودان، بل لعل أكبر فوائده هي النقل لا الزراعة وحدها.
وأما الرابعة فهي أن هذا النهر يمر في دول ستٍ قوام حياتها الصناعة لا الزراعة وحدها. أما نهر النيل فالزراعة هي قوام حياة أهله وسبب أرزاقهم، والذي فيه من مادة الخصب يوجب أن يكون نهراً للزراعة واستصلاح الأرضين البور التي تحف به من شرق وغرب.
وأما الخامسة فهي أن إقامة السدود على نهر الدانوب لا يمكن أن يراد بها إلحاق ضررٍ بالأرضين التي تقع على منحدره، فإذا أراد ذلك مريد وعزم على أن يضر بلداً بمنع ماء الدانوب عنه فقد وقعت الواقعة بين ست دول كلها متأهب للحرب في سبيل رد هذا البغي. فهو كما ترى أمر مستحيل بطبيعته.
وهناك قول كثير ولكن حسبنا هذا لمن يريد لن يفهم فهماً، لا أن يردد الأقوال ترديد الببغاوات التي تباع وتشترى للأغراض الخبيثة التي تريدها إنجلترا بهذه البلاد المسكينة. فهذه المقابلة السخيفة بين مسألة الدانوب ومسألة النيل لا تدل على شيء إلا على جهل الناطق المردد لها، ولا تقوم حجة إلا على خبث النيات التي أخذت تدنس لتفرق أوصال هذا الوادي وتزايل بين روابطه التي لن تفصم، بإذن الله.
ونحن نحمد الله على أن الأحرار أهل السودان ليس لهم برأي أن يقطعوا أرحامهم، ويخربوا بيوتهم بأيديهم، ويمزقوا هذه الوشائج الممتدة من أقصى عهود التاريخ إلى يومنا هذا. فنحن نسوق الحديث إلى هذه الببغاوات التي تنتسب إلى الشعب الأبي الحر لعلها تفئ
إلى الحق، وإلى الذين يهادنون في الحق الأبلج مخافة أن يقال إن مصر تريد أن تبسط سلطانها على السودان في زمن تنادي فيه الأمم بالحق الأبلج أيضاً في تقرير المصير. ولولا أن هذا كله تدليس خفي يراد أن تروع به القلوب، ثم يتغلغل خفية إلى معان بعيدة يراد بها قتل السودان ومصر جميعاً، لكان الرد عليه هو إهماله وازدراؤه.
إن هذا النيل الجاري بين الصحراء الشرقية والصحراء الغربية من أقصى الجنوب إلى أدنى الشمال يوجب أن يكون أمة واحدة، فليس مثله كمثل الدانوب. فإنه إذا قدر للسودان أن يكون وحده مستقلاً، وهذا بعد البعيد، أو تحت سلطان إنجلترا، وهو الشيء الحادث والذي يراد الإيغال في إقراره بفصله فصلاً تاماً عن مصر، فإن الخطر الداهم والداهية المصبوبة تكون على مصر جاثمة حاضرة في كل أوانٍ، فإن أسهل السهل أن تضارنا إنجلترا في ماء النيل، وأن تمنع عنا رفده متى شاءت وتتخذه سلاحاً مخوفاً مفزعاً وحشياً للتهديد والإرهاب بقطع مادة الحياة في مصر بل في الشرق الأوسط كله، فإن قحط مصر هو قحط الشق الأوسط، بل قحط جزء عظيم من حوض البحر الأبيض المتوسط. فإذا كان ذلك فبمن نستنجد؟ ومن أين نؤمل النصرة؟ برمال الصحراء الشرقية وسواقي الصحراء الغربية!! إنه إذا كان مثل ذلك في أي مكان من الدانوب لهبت أمم بأسرها - أمم صناعية - تدفع البغي دفعاً رادعاً راداً للحق مانعاً لاستمرار هذا البغي. أما مصر، ماذا تصنع أيها المأجورون للدسيسة الإنجليزية! أتدافع برجالٍ هدهم الجوع والظمأ والوباء؟ تعست الحماقة!
ولو كانت إنجلترا هي الأمة التي تسكن هذا الجزء من وادي النيل المسمى باسم مصر، لما ترددت ساعة واحدة من أجل هذا وحده أن تفتح السودان فتحاً وتنتهبه انتهاباً، وتحتج لفعلاتها فيه بكل حجة، لأن النيل حياة إذا جاء بمده، وموت إذا أمسك سيبه. وهذه إنجلترا نفسها ليس لها حجة في البقاء الذي تريده في الشرق الأوسط وفي قناة السويس وفي نواح أخرى كثيرة، إلا أنها إذا خليت جلبت على الإمبراطورية كل شرٍ، وقطعت شريان الحياة الذي يمدها بالطعام والمال والقوة والسلطان. أفيجوز في العقل أن تحتج إنجلترا بذلك في سبيل أن تبقى عند قناة السويس وفي فلسطين، ولا نحتج نحن بأضرارٍ محققة إذا كان في السودان إنسان واحد في يده قدرة على الإضرار بمصر إضراراً يصيب أبدان أهلها
وأرواحهم، ثم أبدان ملايين أخر من أهل الأمم التي تجاورنا ونستعين بها وتستعين بنا.
ونحن لا نقول هذا ولا نسوق الحجة على هذا الوجه لندعي - كما يراد لنا اليوم أن ندعي - أن لمصر حقاً في استعمار السودان أو احتلاله أو الوصاية عليه أو غير ذلك من الأباطيل المضللة، بل لنقول إن هذا وحده يوجب عقلاً أن يكون وادي النيل كله دولة واحدة، لها حكومة واحدة، وتشريع واحد، ونظام نيابي واحد، شأن السودان فيها كشأن أسوان، وقنا وجرجا ومديريات مصر كلها، فإن موقع أية مديرية من هذه المديريات كلها هو من الناحية الجغرافية كموقع السودان؛ فلو جاز أن يفصل السودان اليوم عن مصر بحجة، فهذه الحجة تنطبق كل الانطباق على أسوان ثم قنا ثم جرجا إلى أن تبتلع النيل كله. وأيضاً فإن مكان السودان كمكانها من الناحية التاريخية والأدبية والأخلاقية والدينية. وإذن فالنيل يحدث بلسانٍ لا يكذب بأنه لا يمكن أن يتجزأ إلا إذا جاز التجزؤ على هذه المديريات حتى تصبح كل واحدة دولة قائمة برأسها. والشعب الذي يسكن اسفل الوادي (المعروف باسم مصر)، والشعب الآخر الذي يسكن أعلاه (المعروف باسم السودان)، شعب واحد ناطق بلسان عربي مبين لا يعرف نفاق اللسان إنجليزي ولا تكاذبه وخداعه، بأنه أيضاً لا يستطيع أن يتجزأ، ولا هو قابل للتجزؤ.
ولقد استزل الشيطان بعض ساستنا؛ فأخذوا يقولون إن مصر لا تريد أن تستعمر السودان، بل تريد أن تمنحه الاستقلال الذاتي! فحلا حلا أيها الرجال، فإن هذا ما يريده الإنجليز، إنهم يريدون أن تقروا بألسنتكم ما الحق شاهد على بطلانه، وهو أن الشعب المصري شيء، والشعب السوداني شيء آخر؛ ويريدون أن تقولوا إن النيل ممكن أن يتجزأ، ولو بعض التجزؤ، فإن هذا حسبهم منكم اعترافاً وتقريراً. فتوبوا أيها الساسة من هذا الإثم، ولا يرهبكم حق تقرير المصير، ولا مجلس الأمن، ولا هيئة الأمم المتحدة، فإن هذه الرهبة باطل كلها. توبوا أيها الساسة، ولا تخافوا من أكذوبة الدانوب، فهو النهر الوحيد الذي تتعدد الدول على حفافيه، وهو نهر ليس له قيمة زراعية. واعلموا أنه لا يكاد يوجد في الدنيا كلها نهر زراعي واقع مجراه في أكثر من أمةٍ واحدةٍ، وهذه الأمة الواحدة يكون لها كل السلطان عليه من منبعه إلى مصبه. لا تخافوا أيها الساسة وتوبوا وتبرءوا مما قلتم، وخير لكم أن تدرسوا طبيعة النيل والأضرار المخوفة من تمزيقه، وأن تعرفوا ماذا تريد إنجلترا بفصل
السودان عن مصر وضمه إلى الجزء المفضي إلى جنوب إفريقية والجنرال سمطس، فهناك البلاء الأعظم.
أيها المصريون السودانيون: إن النيل هو إفريقية كلها، فاحذروا أن تضيعوا أوطانكم، وتلووا بأمجادكم، وتضعوا أعناقكم في نير العبودية السرمدية إذا احتوشتكم العناصر الغريبة عن إفريقية النائمة التي بدأت تستيقظ من غفوة طالت عليها الآباد. احذروا كذب البغاة الطغاة المفسدين في الأرض، واحذروا ببغاواتهم وصنعاءهم فإنهم الحارقة الآكلة إذا استمكنوا منكم وأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ويسمونكم ذلا مستوراً ببهرج الاستقلال وتقرير المصير. لا تخافوا مجلس الأمن ولا هيئة الأمم إذا قدمتم إليهم قضية فيها كل دليل لا يبطله شيء من تاريخ ولا عقل ولا مصلحة.
وانتم يا إخواننا أهلنا وعشيرتنا في السودان احذروا الدولة التي تريد استقلالكم، وتريد أن ترعاه لكم، كما رعت غيره من قبل!! فإن (من استرعى الذئب ظلم)!
محمود محمد شاكر
في محطة القاهرة
للأستاذ علي طنطاوي
دخل (المحطة) في اليوم السادس من سبتمبر سنة 1928 وخرج من (المحطة) في اليوم التاسع عشر من ديسمبر سنة 1946
دخل من باب، وخرج من باب، وكانت المحطة كأنها النسخة المختصرة من كتاب الدنيا، وكأنها الصورة المصغرة لها: كل يركض إلى غايته، ويزحم بكتفه، ويدفع بيده، ويعتدي ويُعتدى عليه، والحمالون ينهبون أموال الناس ما استطاعوا، والناس يتقونه ما قدروا، والقطر تصفر وتزمجر وتملأ الجو دخاناً وشراراً، وتسرع لتفرق أحباباً، وتجمع أحباباً، وتريق دموعاً وتضحك أفواهاً، وكأن صفيرها لحن الوصال العذب لناس، ونواح الفراق الأليم لآخرين، وكان الباب يفتح أبداً ويغلق، والناس يدخلون ويخرجون، لا يلتفت أحد إلى أحد، ولا يسأل سائل أخاه عن آلامه ولا عن آماله، فهو يستمتع بمسراته وحده ويتجرع أحزانه بلا معين. . .
والمحطة كالدنيا تسعد وتشقى، وما تسعد المرء ولا تشقيه إلا نفسه وذكرياته. هذا يحبها لأنه دخلها في مسرة، واستقبل فيها الحبيب، فهو يذكر كلما مر بها، أو سمع صفير قطرها، تلك الساعة التي كانت عنده العمر، ساعة جاءه البشير بقدوم حبيبه فذهب إليها يكاد يطير من الشوق، وقام ينتظر القطار لا يستطيع أن يستقر في مكان، واستبطأ الوقت فهو يخرج ساعته كل دقيقة، يحسب الدقيقة من الانتظار دهراً، فيراها لا تتحرك عقاربها، حتى إذا صفر القطار وهدر خفق له قلبه، وغلى في عروقه دمه، فركض إليه، فلما أبصره رأى سواده نوراً مشرقاً لأنه يحمل الحبيب، وناره المتقدة برداً على قلبه وسلاماً، ودخانه ارق من النسيم العليل؛ ورآه بثقله أخف من الطيف الساري وأقبل يزاحم الناس، يطأ بقدمه حيث لا يدري لأن بصره معلق بالنوافذ ينظر الوجوه فلا يحفل بها ويبصرها كالسرج المطفأ، لأنه يريد وجهاً واحداً يراه مضيئاً بالسناء، حتى إذا وصل إليه وصل إلى السعادة. . . فهو يذكرها كلما رأى المحطة.
وهذه تكرهها لأنها عرفت الشقاء فيها، وذاقت غصة الحياة بين جدرانها، فقد كانت سعيدة حتى حل الوداع، ودنا السفر، وصحبته إلى المحطة، فوقفت معه، ثم سايرته إلى رصيف
القطار، فصعدت معه إليه، وقعدت تكلمه كما كانت تكلمه كل يوم، تتحدث بتوافه الأمور، ولو علمت أن هذا آخر لقاء ما كان ذاك حديثها؛ ثم صفر القطار فشدت على يده وعانقته عناقاً خفيفاً على استحياء من الناس ونزلت، فوقفت تنظر إليه وهو في شباكه، والقطار يبتعد. . ولكنها لا تزال تعيش بقربه لم تذق بعد طعم الهجر ولم تعرفه، حتى إذا اختفى عن ناظريها ورأت نفسها منفردة، صحت كما يصحو النائم من الحلم الممتع ليس في يده شيء منه، وتبدلت حياتها السعيدة بالوصال شقاء وألماً، وانطفأ النور الذي كان يهديها السبيل، وكانت المحطة هي خاتمة سعادتها، وهي فاتحة شقائها، فهي تحج إليها كل يوم، تقوم حيث قام الحبيب آخر مرة، وتشم عبقه وتتحسس موطئ أقدامه وتبحث عنه حيث تركته في شباك القطار، وتذكر كل حركة من حركاته، وكلمة من كلماته، حتى صار ذلك مدار أفكارها، وعماد حياتها، ولكنها كانت تكره المحطة، لأنها هي سبب الفراق. . .
وما في الدنيا مكان تستقر فيه محجبات العواطف، وتبرز مكنونات الضمائر كالمحطة، وما في الأمكنة ما هو احفل بالذكريات منها، ففي كل إصبع منها ذكرى عزيزة على قلب، وقطعة من حياة إنسان.
هنالك تبصر المختلف من ألوان الحياة قد ائتلف في هذه الصورة المعروضة، والشتيت قد اجتمع، وهنالك أمام الحاجز الحديدي ذي الأبواب المؤدية إلى الأرصفة، لا يفصل باباً عن باب، ورصيفاً عن رصيف إلا جدار. . . ترى جموع الناس في مد وجزر، كما تضرب أمواج البحر صخرة الشاطئ، يدخل الرجل من الباب فيصل منه إلى البلد الطيب، ويدخل الآخر من الباب إلى جنبه فيحمله إلى القرية المقفرة، وهذا الرصيف فيه لقاء الأحبة، وهذا فيه الهجر والبعاد، وكذلك الحظوظ في الحياة تتقارب بداياتها وتتباعد نهاياتها:
يتردد الطالب إذ يخرج من المدرسة بين طريقين لا يفصل بينهما إلا القليل، ولكن هذا يمشي إلى الجنة وهذا إلى النار، ويتردد التاجر بين أن يشتري البضاعة أو يدعها، وما يتردد إلا بين الخسران والضياع والربح واليسار. . .
دخل من باب وخرج من باب، ولكن المحطة لم تنظر إليه. فقد رأت من الناس وشاهدت من الأحداث، وأبصرت من القبل والدموع، ومن المسرات والأحزان، ما جعلها تمل، فأغمضت عينيها؛ وتركت هذا السيل البشري يجري على هواه يحمل معه ما شاء من لذاته
وآلامه، ونامت.
دخل شابا في العشرين متوقدا حماسة، يفور دمه ويتوثب يريد أن يبلغ الذروة بقفزة واحدة، وخرج شيخا في سن الشباب لا يفور دمه ولا يتوثب، ولا يريد أن يبلغ الذروة ولا يفكر فيها. لا يفكر إلا في شيء واحد هو أن يرى نفسه نائما على صفحة النسيم، مرخى الأعصاب، مغمض العينين، لا يصنع شيئا، ولا يعمل فكره في شيء حتى. . . حتى يبلغ ساحل الموت.
دخل يحب الشهرة ويطمع فيها، يريد أن يعرف الناس ويعرفوه، وخرج زاهدا في الشهرة، خائفا من تكاليفها، يفزع من لقاء الناس لا يريد أن يعرف أحدا ولا يعرفه أحد.
دخل المحطة يستقبل الشام، يدفعه الشوق إليها، والغرام بها، يستقبلها ببسمة تبدو من خلال دموع الفرح، كما تبدو شمس نيسان من خلال الغمام، وترك من أجلها مقعده في دار العلوم، ومستقبله في مصر وخرج هاربا من دمشق يريد أن يبتعد عنها حتى لا يأسى على ما يرى فيها، وما يكاد يرى فيها إلا ما يبعث الأسى. . .
كان طالبا في المدرسة همه الارتقاء من فصل إلى آخر، وغايته الامتحان يريد النجاح فيه، فصار موظفا لم تعد لديه غاية يسعى إليها، ولا هم يفكر فيه فتشابهت أيامه، وتماثلت لياليه، وخلت من كل جديد، يصبح خاملا متكاسلا لأنه لا يرقب في نهاره شيئا، ويمسي متكاسلا خاملا لأنه لا ينتظر في ليله شيئاً، ولم يعد يجد ما يعمله إلا أن يشغل نفسه ساعة كل أسبوع بالكتابة للرسالة.
لقد كان إنسانا يحس ويشعر، وكان له عقل يفكر ويدرس، وقلب يحب ويصبو، فعودته الوظيفة الكسل، وسهلت له العيش، حتى خلا رأسه من الفكر، وقلبه من الحب، ويده من الشغل، وصار آلة (تعدد أياما وتقبض راتباً)، ولكنها لا تستبقي من هذا الراتب شيئاً، فالكيس أيضاً خال من المال.
انه لا يشكو المرض الفقر ولا المرض ولا التعب، ولكنه يشكو البطالة، وأن قواه معطلة، وأن عقله صدئ، وأنه كالجواد الأصيل المصفد بالأغلال الذي لا يستطيع أن يتحرك.
هذا هو الرجل الذي خرج من المحطة يوم الخميس الماضي. إنه مدين بحياته للرسالة؛ لا لأنها تنشر له وتذيع اسمه، كلا، فهذا أمر لم يعد له عنده نفع، بل لأنها هي التي تشعره بأنه
حي، هي التي تجعل له كل أسبوع جديداً يرقبه ويعيش له. إن الأيام عنده السبت والأحد ويوم الرسالة. فإذا انقطع عنها أسبوعاً، محي من عمره هذا اليوم الذي يجمل الأيام ونسى أنه يحيا كما يحيا الناس، ويأمل في الحياة أملا.
لقد خرج من باب المحطة إلى البلد الواسع، ولكنه ما يدري ما يجد فيه، فالضيق في النفس لا في البلد وأعظم المدن للقلب المغلق سجن، والسجن للقلب المتفتح جنة فيحاء. . .
اللهم اشرح قلبه، وصب فيه الحياة، حتى يجد القراء في قلبه أدباً حياً. . . فإنه لا يخرج الأدب الحي من قلب ميت، يمده قلب مغلق. . .
القاهرة
علي طنطاوي
على هامش النقد:
القاهرة الجديدة
تأليف الأستاذ نجيب محفوظ
للأستاذ سيد قطب
من دلائل (غفلة النقد في مصر) التي تحدثت عنها في كلمة سابقة، أن تمر هذه الرواية القصصية (القاهرة الجديدة) دون أن تثير ضجة أدبية أو ضجة اجتماعية!.
ألأن كاتبها مؤلف شاب، لقد كان (توفيق الحكيم) قبل خمسة عشر عاماً مؤلفاً شاباً عندما أصدر أولى رواياته التمثلية (أهل الكهف) فتلقاها الدكتور طه حسين، وأثار حولها فرقعة هائلة. كانت هي مولد (توفيق الحكيم) الأدبي. ولم يمنع كونه في ذلك الحين شاباً من إثارة ضجة حوله، أبرزت أدبه للناس فانتفعوا به، كما انتفع هو نفسه لأنه وجد الطريق بعدها مفتوحاً أمامه للنشر والشهرة.
و (القاهرة الجديدة) شأنها شأن (خان الخليلي) للمؤلف نفسه لا تقل أهمية في عالم الرواية القصصية في الأدب العربي عن شأن (أهل الكهف) و (شهرزاد) لتوفيق الحكيم في عالم الرواية التمثيلية.
فماذا حدث؟
هل صحيح أن الملابسات الشخصية كانت أهم العوامل التي جعلت الدكتور يكشف عما في (توفيق الحكيم) حينذاك من ذخيرة فنية. . . ذلك أن ألقى توفيق بنفسه وبأدبه المغمور إذ ذاك في أحضان الدكتور قائلاً: إنه يضع نفسه وفنه ومستقبله بين يدي (عميد الأدب) وأن نجيب محفوظ وأمثاله من شبان هذه الأيام لا يضعون أنفسهم ولا فنهم بين يدي أحد إلا جمهور القراء
أنا شخصياً لا أميل إلى قبول هذا الافتراض؛ ولكني أقدر أسبابا أخرى طبيعية:
فقبل خمسة عشر عاماً كانت (أهل الكهف) شيئاً فذا يلفت النظر بقوة. كان توفيق الحكيم يخطو خطوة واسعة جداً بالقياس إلى كل من سبقه في التمثيلية العربية. حقيقة أنه لم يكن يفتح فصلا جديداً في كتاب الأدب العربي، كما قال الدكتور طه حينذاك. فهذا الفصل كان
مفتوحاً من الناحية الشكلية. إنما كان الجديد الذي له قيمة فنية حقيقية في عمل توفيق الحكيم، هو الانتفاع بالأساطير في عمل فني له قيمة أدبية. مع التقدم الواضح في طريقة الحوار وسبكه وجريانه.
أما اليوم فعمل من نوع (خان الخليلي) و (القاهرة الجديدة) يبدو وليس فيه من البريق ما يلفت النظر. فكثيرون كتبوا روايات قصصية، وروايات تمثيلية، وأقاصيص. . . الخ.
ولكن كان على النقد اليقظ - لولا غفلة النقد في مصر - أن يكشف أن أعمال (نجيب محفوظ) هي نقطة البدء الحقيقية في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة. فلأول مرة يبدو الطعم المحلى والعطر القومي في عمل فني له صفة إنسانية؛ في الوقت الذي لا يهبط مستواه الفني عن المتوسط من الناحية الفنية المطلقة. فهو من هذه الناحية الأخيرة يساوي أعمال توفيق الحكيم في التمثيلية.
أم إنه لا بد لنجيب محفوظ وأمثاله أن يلقوا بأنفسهم في أحضان أحد، ليقدمهم إلى الناس؟.
لقد فات الوقت الذي كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة للظهور، والجمهور لم يعد ينتظر هؤلاء الشيوخ ليقرأ أو يحكم. فعلى هؤلاء الشيوخ أن يؤدوا واجبهم إذا شاءوا أن تظل الأنظار معلقة بهم كما كانت الحال!.
القاهرة الجديدة. . .
هي قصة المجتمع المصري الحديث، وما يضطرب في كيانه من عوامل، وما يصطدم في أعماقه من اتجاهات.
قصة الصراع بين الروح والمادة، بين العقائد الدينية والخلقية والاجتماعية والعلمية، بين الفضيلة والرذيلة، بين الغنى والفقر، بين الحب والمال. . . في مضمار الحياة.
وهي تبدأ في نقطة الارتكاز في الجامعة، حيث تصطرع الأفكار الناشئة هناك بين طلابها - بفرض أن الجامعة ستكون هي (حقل التجارب والإكثار) للأفكار النظرية التي تسير الجيل. . . ثم تدفع بشتى الأفكار والنظريات النابتة في هذا الحقل، إلى مضمار الحياة الواقعية، وغمار الحياة اليومية، وتصور صراع النظريات مع الواقع خطوة فخطوة، تصوره انفعالات نفسية في نفوس إنسانية، وحوادث ووقائع وتيارات في خضم الحياة.
وصفحة فصفحة نجدها في صميم الحياة المصرية اليومية. هذه الأفكار المجردة نعرفها،
وهذه الوجوه شهدناها من قبل؛ وهذه الحوادث ليست غريبة علينا. نعم فيها شيء من القسوة السوداء في بعض المواقف، ولكنها في عمومها أليفة. تؤلمنا ولا ننكرها، وتؤذينا أحياناً، ولكننا نتقبلها!
هذا هو الصدق الفني. فنحن نعيش مع الرواية لحظة لحظة. نعيش مصريين، ونعيش آدميين، وفي المواقف القاسية، في مواقف الفضيحة، حيث تبدو الرذيلة كالحة شوهاء مريرة، نود لو ندير أعيننا عنها كي لا نراها، ولكننا نقبل عليها مضطرين ففي القبح جاذبية!. إنها الدمامل والبثور في جسم مصر وفي جسم الإنسانية كذلك، وإذا انفعلنا لها مرة لأننا مصريون، انفعلنا لها أخرى، لأننا ناس وإنسانيون.
لقد أختار المؤلف من بين طلاب الجامعة أربعة ليمثلوا الأفكار والاتجاهات التي تتصارع في المجتمع الحديث. . .!
الإيمان بالدين والخلق والفضيلة عن طريقه، والالتجاء إليه طلباً للخلاص.
والإيمان بالمجتمع والعدالة الاجتماعية، والصراع العملي لتحقيق الفضيلة الاجتماعية والشخصية من هذا الطريق.
والإيمان بالذات، وعبادة المنفعة، وتسخير المبادئ والمثل والأفكار جميعاً لخدمة هذا الإله الجديد!
وموقف المتفرج الذي يرقب هذا وذاك وذلك لمجرد التسجيل والنظر والمشاهدة. . .!
ونستطيع أن نلمح في ثنايا الرواية وفي خاتمتها ميل المؤلف لأن ينتصر للمبادئ على كل حال، وأن يحقر الإيمان بالذات والتدهور الخلقي والاجتماعي، والقذارة، والانحلال.
ولكنه لم يلق خطبة منبرية واحدة في خلال ثمانين ومائة صفحة ولم يفتعل حادثة واحدة افتعالا. . .
لي بعض الملاحظات على سياقه بعض الحوادث وشكلها. فقد كانت فيها قسوة في مواجهة صاحب الإيمان الثالث بالتجارب التي يحك عليها إيمانه ومبادئه! قسوة لم تكن الرواية في حاجة إليها لتصل إلى أهدافها. . . ولكنها في كل حال بعيدة عن التزوير والافتعال.
فمثلا هذا الشاب الذي أسماه (محجوب عبد الدايم)، ووصفه في هذه السطور:
(كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفة الحرية كما يفهمها
هو، (طظ) أصدق شعار لها. هي التحرر من كل شئ، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامة! وهو القائل لنفسه ساخراً: إن أسرتي لم تورثني شيئاً أسعد به، فلا يجوز أن أرث عنها ما أشقى به!، وكان يقول أيضاً: إن أصدق محاولة في الدنيا هي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق=طظ، وكان يفسر الفلسفات بمنطق ساخر يتسق مع هواه. فهو يعجب بقول ديكارت:(أنا أفكر فأنا موجود) ويتفق معه على أن النفس أساس الوجود! ثم يقول بعد ذلك إن نفسه أهم ما في الوجود! وسعادتها هي كل ما يعنيه؛ ويعجب كذلك بما يقوله الاجتماعيون من أن المجتمع هو خالق القيم الأخلاقية والدينية جميعاً. ولذلك يرى من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة حجر عثرة في سبيل نفسه وسعادتها! وإذا كان العلم هو الذي هيأ له التحرر من الأوهام، فليس يعني هذا أن يؤمن به أو أن يهبه حياته، ولكن حسبه أن يستغله وأن يفيد منه، فلم تكن سخريته من رجال العلم دون سخريته من لرجال الدين، وإنما غايته في دنياه: اللذة والقوة بأيسر السبل والوسائل، ودون مراعاة لخلق أو دين أو فضيلة.
لقد استعار هذه الفلسفة بإرشاد هواه، ولكن تهيؤه لها نما معه منذ أمد بعيد. فهو مدين بنشأته للشارع والفطرة. كان والداه طيبين جاهلين، ولظروفهما الخاصة، أتم تكوينه في طرق بلدة القناطر، وكان لداته صبية شطاراً ينطلقون على فطرتهم بلا وازع ولا تهذيب، فسب وقذف وسرق، واعتدى واعتدي عليه، وتردى إلى الهاوية. ولما انتقل إلى جو جديد - المدرسة - أخذ يدرك أنه كان يحيا حياة قذرة، وعانت نفسه مرارة العار والخوف والقلق والتمرد. ثم وجد نفسه في بيئة جديدة، طالباً من طلاب العلم بالجامعة، ورأى حوله شباناً مهذبين يطمحون إلى الآمال البعيدة والمثل العالية، ولكنه عثر كذلك على نزعات غريبة، وآراء لم تدر له بخلد. عثر على موضة الإلحاد والتفسيرات التي يبشر بها علماء النفس والاجتماع للدين والأخلاق والظاهرات الاجتماعية الأخرى، وسر بها سروراً شيطانياً، وجمع من نخالتها فلسفة خاصة اطمأن بها قلبه الذي نهكه الشعور بالضعة. لقد كان وغداً ساقطاً مضمحلاً؛ فصار في غمضة عين فيلسوفاً! المجتمع ساحر قديم. جعل من أشياء فضائل وجعل من أشياء رذائل، ولقد وقف على سره وبرع في سحره، وسيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل، وفرك يده سروراً، وذكر ماضيه أطيب الذكر، ورمق مستقبله
بعين الاستبشار، وألقى عن عاتقه شعور الضعة. بيد أنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن فلسفته فلسفة سرية. يجوز أن يدعو (مأمون رضوان) إلى الإسلام جهاراً، ويجوز أن يعلن (علي طه) اعتناقه لحرية الفكر والاشتراكية. أما فلسفته هو فينبغي أن تظل سرية - لا احتراماً للرأي العام، فإن من مبادئها احتقار كل شئ - ولكن لأنها لا تؤتى أكلها إلا إذا كفر الناس بها وآمن بها وحده! ألا ترى أنه إذا آمن الناس جميعاً بالرذيلة لم يتميز بينهم بما يتيح له التفوق عليهم؟ لذلك احتفظ بها لنفسه، ولم يعلن منها إلا ما هو في حكم الموضة كالإلحاد وحرية الفكر؛ إلا إذا ضاق صدره أو غلبه شعور الوحشة، فإنه ينفس عن قلبه بالمزاح والسخرية. فبدا للقوم ساخراً ماجناً، لا شيطاناً مجرماً، ومضى في سبيله شابا فقيرا بلا خلق، يرصد الفرص ويتوثب للانقضاض عليها بحرارة لا تعرف الحدود).
وهو تصوير معجب لشخصية هذا (النموذج) وقد صور زملاءه كذلك - كما صور كل شخصية جاءت في الرواية - ويعجبني فيه ذلك التعليل الصامت لاتجاهات (محجوب عبد الدايم) وزملائه. إنهم كلهم في جامعة واحدة، يدرسون نظريات واحدة، ويخضعون لمؤثرات واحدة، ولكن كلا منهم يختط طريقة في التفكير والحياة بحكم مزاجه ووراثاته ورواسب شعوره، ويخلق لنفسه فلسفة يعتمد فيها على نفس الأسباب والعلل التي يعتمد عليها الآخرون في تكوين فلسفة مغايرة! ويصدق سلوكهم فيما بعد هذه القواعد أيضاً.
حقيقة إن محجوب عبد الدايم لم يكن في سلام مع شعوره دائماً وهو يواجه التجارب. فالنظريات شيء - مهما يكن الاقتناع بها، ومهما تكن بواعثها - والتجارب العلمية شيء آخر. ولكنه سار إلى نهاية الشوط، ولم يقف إلا حين صدمته أنانية أخرى ففضحته، وحين إنفضحت الرذيلة في القصة لم يكن ذلك ليقظة في ضمير المجتمع فهو مجتمع مريض. وإنما كانت غلبة رذيلة على رذيلة!!
ولكن - كما أشرت من قبل - آخذ على المؤلف قسوة لم تكن لها ضرورة في بعض التجارب التي تواجه هذا الشاب.
لقد خيرته الظروف بين أن يبقى بلا وظيفة. أو أن يكون في وظيفة مغرية (سكرتير وكيل وزارة ثم مدير مكتب حينما يصبح وزيراً) بثمن! هو في ذاته فادح. أن يتزوج بفتاة عبث بها الوكيل الوزير!
وأدى الثمن - حسب فلسفته - وتسلم البضاعة. وكان هذا حسبه، وكان حسبه أن يقبل الوضع مموهاً من الخارج وهو يدرك حقيقته. ولكن المؤلف جعله يواجه الموقف سافراً بلا تمويه. أيقبل أن يكون زوجاً للفتاة التي هذا موقفها؟. . . ثم أيقبل أن يكون مقره (جرسونييرة) البك، وأن يواصل البك ما بدأ به وفي يوم معين يعلمه محجوب وعليه أن يغادر البيت فيه؟!
هذه قسوة لا مبرر لها ولا ضرورة. ومثلها أن تزف إليه (الفتاة) بلا احتفال. وكان من كمال السخرية أن يكون الاحتفال فخماً!
وشئ آخر آخذه على الرواية: لم جعل الفتى المؤمن المتدين لا تصطدم نظرياته بواقع الحياة؟ لقد اصطدم (علي طه) صاحب الإيمان بالمجتمع. اصطدم في قلبه وشعوره. فقد كانت هذه الفتاة التي زفت إلى زميله هي فتاة أحلامه وموضع إيمانه الاجتماعي. ولكنه احتمل الصدمة ومضى يؤمن بالمجتمع الكبير. واصطدم محجوب صدمات شتى وجف لها واضطرب، ولكنه احتملها في سبيل ذاته المقدسة! فلم لم يصطدم أبداً (مأمون رضوان)؟
هل يريد المؤلف أن يقول: إن إيمانه القوي بالله والدين والرجولة قد أعفاه من الاصطدام، كلا. إن المجتمع الفاسد المنحل الذي صوره في مصر - والذي هو مع الأسف واقع - لا بد أن يصطدم به كل صاحب إيمان، سواء كان إيمانا بالمجتمع أو حتى إيماناً بالحياة!
ربما لاحظ أن التنسيق الفني يحتم عليه ألا يبرز على المسرح إلا شخصية واحدة رئيسية. ولكن لا. فالرواية القصصية من طبيعتها أن تسمح لأكثر من شخصية بالبروز، والتنسيق الفني يتحقق بتنويع درجات البروز.
هذه نقطة من نقط الضعف في الرواية، كالنقطة الأولى كذلك.
وبعد فهناك صفحات رائعة قوية في تصوير المجتمع المصري وما فيه من انحلال يشمل الطبقات الأرستقراطية ودوائر الحكومة وآثام الفقر والثراء، وآفات المظاهر والرياء. . . الخ، ولكن يضيق عنها المقام، وأنا معجل عنها إلى مسألة أخرى لها أهميتها في وزن الرواية، وفي وزن كل عمل فني.
إن هذه الرواية على ما فيها من براعة في العرض، ومن قوة في التصوير - تصوير النماذج وتصوير المجتمع وتصوير المشاعر والانفعالات - هي أصغر من قيمتها الإنسانية
- وتبعاً لهذا في قيمتها الفنية - من سابقتها (خان الخليلي).
رواية خان الخليلي أضيق في محيطها الداخلي ولكنها أوسع في محيطها الخارجي. أضيق في المجال الذي تعالجه وتضطرب فيه حوادثها. فهي قصة أسرة تفر من الموت بالقنابل فيخترم الموت أجمل زهراتها بلا قنابل! وقصة قلب إنساني شاخ قبل الأوان فانطوى على نفسه ورضى بنصيبه، فإذا الأقدار تخايل له بقطرة ندية فيندى، ثم تجف هذه القطرة قبل أن تبلغ فاه. يرشفها منه أعز إنسان عليه: أخوه المستهتر السادر. وحينما يجد هذا المستهتر ويقومه الحب العميق، تخطفه الأقدار فيموت!
ولو استأنت الأقدار لحظة هنا أو هناك، ولو تغير خيط واحد في ذلك المنوال الأبدي لتغير وجه الحياة.
أما رواية (القاهرة الجديدة) فتعالج جيلا وتصور مجتمعاً. ومجالها مع هذا أضيق من مجال (خان الخليلي!).
في (خان الخليلي) ننتهي من الرواية لنجد أنفسنا أمام رواية الحياة الكبرى: الإنسانية والأقدار، الضعف الإنساني والقوى الكونية، أشواق الناس وأهدافهم أمام الغيب المجهول.
وفي (القاهرة الجديدة) نبدأ وننتهي، ونحن أمام جيل من الناس ومجتمع قابل للزوال، فلا تبقى إلا بعض الملامح الإنسانية الخالدة.
المجال هناك أوسع لأنه خالد بخلود الإنسان، والقيمة الإنسانية هناك أكبر، وهي جزء من القيمة الفنية له أثره في وزن الرواية، وراء المهارة الفنية في العرض والتنسيق والاختبار.
سيد قطب
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
- 5 -
مع الأدباء والصحفيين من أهل النثر:
قبل أن أمضي في الحديث عن (الأدباء الصحفيين) لابد لي من البر بوعد قطعته على نفسي في الفصل الماضي، وهو أن أسرد آثار الأستاذين الأخيرين، ممن تحدثت عنهم في (الأدباء العلميين) فأقول: إن للأستاذ عبد الله الريماويى - عدا كتبه المدرسية - كتباً أخرى عديدة بين علمية وأدبية، أذكر منها:(العقل في طريق التكوين)، وقد ترجمه عن كتاب إنجليزي للأستاذ (جيمس هارفي روبنسن) أسماه وهو شرح مستوفي للحلقات التي تكون تاريخ الفكر البشري. ثم كتابه:(من طاليس إلى ناغاساكي) ويبسط فيه بشكل مختصر الأبحاث العلمية في حقلي الكيمياء والفيزياء، التي انتهت أخيراً باكتشاف القنبلة الذرية. ثم كتابه (الحضارة العلمية)، وفيه يحدد العلم في منابعه وأسلوبه، ويعين مكان العلم وحضارته بين مظاهر الفكر البشري. فيبحث علاقته بالفلسفة والدين والفن والاجتماع، وينتهي - بعد ذلك - ببحث رسالة العلم للإنسانية.
ومن كتبه الأدبية: كتابه (مجمع العباقرة)، وفيه يعالج كثيراً من المشاكل الاجتماعية، ثم كتابه (قصة الأيام) وهو قصة يبسط في ثناياها الوضع الراهن في البلاد، وينتقد أساليب التوجيه والغاية التي تهدف إليها.
وأما الأستاذ علي شعث، فله كتابان أخرجهما للناس، أولهما (من طرائف العلماء) وفيه يتخير عدداً من أساطين العلم، الذين ساهموا في بناء صرحه الشامخ، منذ فجر الإنسانية البعيد، حتى ينتهي إلى علماء النهضة الحديثة في أوربة، ويعرج في خلال ذلك على بعض أعلام العرب النابهين في هذا الميدان. وأما كتابة الثاني فهو:(من البنسلين إلى القنبلة الذرية)، وفيه شرح بأسلوب فريد أخاذ للمراحل التي اجتازها العلم في تذليل العقبات الكأداء، وإزالة العراقيل المؤذية من طريق الإنسانية. كما يورد فيه كثيراً من التنبؤات
المبهجة، التي ينتظر أن يحققها العلم عن طريق الذرة، إذا استمر في سيره قدماً، ولم يحل بينه وبين ذلك عارض مفاجئ. والأستاذ شعث - فيما عدا ذلك - كثير من الأبحاث القيمة التي كثيراً ما حاضر أو أذاع بها في الأندية الثقافية في البلاد، ومن دار الإذاعة الفلسطينية. . .
الأدباء والصحفيون:
وحين أتحدث عن (الأدباء الصحفيين)، لا بد لي من أن أعود بالقارئ إلى عام 1911، لأقفه حيال شابين أخوين في مدينة يافا، قد نهلا من الثقافة ما كشف لهما طريق الجهاد في سبيل وطنهما المغلوب على أمره، فإذا هما يستهدفان خدمته عن طريق الصحافة، وينشئان من أجل ذلك جريدتهما (فلسطين) ويكون أحدهما وهو الأستاذ عيسى العيسى (رئيسا للتحرير)، والآخر وهو الأستاذ يوسف العيسى (المدير المسؤول)، وتمضي جريدتهما في طريق محفوف بأشواك العنت التركي، وإرهاق الحكم والاستبداد.
فقد أوقفت الحكومة التركية الجريدة بتهمة (التحريض العنصري)، وذلك حين نبهت للخطر الصهيوني في تلك الأيام. ولكن المحكمة برأت ساحتها حين أثبتت أن مقاومة الحركة الصهيونية ليس معناه مقاومة اليهود.
وقد توقفت هذه الصحيفة (النصف أسبوعية) حين قامت الحرب الأولى، فتفرق الأخوان، إذ نزح أحدهما - وهو الأستاذ يوسف العيسى - إلى دمشق، وهناك اتصل بجلالة المغفور له (الملك فيصل) فيما بعد، وأخلص له الخدمة، ثم أسس جريدة يومية، تناصر الملكية وتعمل من أجلها، وهذه الجريدة هي (ألف باء) الغراء، التي ما تزال تصدر في دمشق إلى اليوم، وهي من أكثر الصحف انتشاراً هناك. وأما جريدة (فلسطين) فقد استأنفت صدورها في يافا بعد الحرب الأولى، واستمرت نصف أسبوعية حتى عام 1929، فصدرت يومية، وما تزال كذلك. وهي اليوم من أمهات الصحف عندنا، وصاحبها الأستاذ عيسى العيسى - الذي هو شيخ الصحفيين بلا منازع - يعتبر من الأدباء المعدودين في المكان الرفيع.
وأما الأستاذ يوسف العيسى، فأنه عرف في سوريا كما عرف في فلسطين، وقد التمع في البلدين معا. وكان - وما يزال - منذ أن أصدر جريدته يتولى كتابة افتتاحيتها بنفسه، ثم يكتب بالإضافة إلى ذلك فصلا انتقادياً، يعالج فيه كثيراً من المشاكل الاجتماعية، ويجعله
تحت عنوان (مباءة نحل).
وقد اجتمع لدى الأستاذ من هذه الفصول مجلدات قيمة، في أبحاث مختلفة. منها ما هو في السياسة، ومنها ما هو في النقد، ومنها ما هو في الأدب. وقد حدثني الأستاذ في صيف هذا العام (في دمشق)، أن لديه إلى جانب ذلك مذكرات يحرص عليها أشد الحرص، ويعنى بترتيبها أيما عناية، وقد أسمعني بعضها وكان مما نشر في جريدته إبان عهدها الأول.
ويعجبك من (هذا الأستاذ) نشاطه الدائم ودأبه المتواصل وهم برغم هذا الانصراف الشديد - الذي ينصرفه للصحافة - ما تكاد تجلس إليه حتى تلمس فيه روح الأديب الفذ، إذ ما يتناول القول عن شيء، حتى يستشهد بحكمة أو مثل أو أبيات من الشعر وإليك شاهد من ذلك من كلمته الافتتاحية في العدد (7257) وعنوانها:(هذا عتابك إلا أنه مقة) ويقول فيها:
(إن أحسن مثل يضرب للصحف في هذه الأيام، هو ما قالته العرب: (مثقل استعان بذقنه)، وهو الجمل يثقل حمله فيعجز عن القيام به. وهذه حالة الصحف يثقل حملها في جميع أبواب نفقاتها، فتمد عنقها إلى الحكومة، فتكون (كالمستجير من الرمضاء بالنار).
إن التحكم والاستبداد بمقدرات الصحافة، أن تطلب جلب الورق فلا يسمح لها بذلك، وأن تنضب مستودعات الحكومات فلا تجد ما تقدمه للصحف من ورق. أليس هذا ما يسمونه ب (نقص القادرين على التمام)؟. . .)
وقد نبهني الأستاذ خليل مردم بك إلى أديب صحفي آخر، عاش في دمشق شطراً من عمره ومات فيها. وهذا الأديب هو الأستاذ (أحمد شاكر الكرمي) نسبة إلى (طولكرم) وهي بلدة في فلسطين، عرف أهلها بثباتهم الذي يبلغ حد العناد، وعروبتهم الأبية الصادقة، وإيمانهم الذي لا يتزعزع. وقد نشأ هذا الأديب في عائلة توارثت (العلم والأدب والقضاء والإفتاء) كابراً عن كابر، فأبوه قاضي القضاة الشاعر الناثر الشيخ (سعيد الكرمي)، وأخوه الشاعر الأستاذ (محمود الكرمي)، وأخوه أيضاً الشاعر اللامع الأستاذ (عبد الكريم الكرمي) المعروف ب (أبي سلمى). وسأتحدث عنهم جميعا حين أتحدث عن شعراء فلسطين
وقد اكمل الأستاذ (أحمد شاكر الكرمي)، ثقافته في الأزهر والجامعة المصرية. وهناك بدأ حياته الأدبية بالكتابة في جريدة (الكوكب). ثم سافر إلى الحجاز، وعمل هناك محرراً في جريدة (القبلة)، ثم رجع منها إلى دمشق، وحرر هنالك في جريدة الفيحاء. ثم أصدر بعد
حين جريدة (الميزان) أدبية سياسية. واستمر في إصدارها حتى عام 1927. وإذ ذاك اهتصرته يد المنية وهو لا يزال في ريعان شبابه.
وله كتب مطبوعة ومخطوطة. منها كتابه (الكرميات) وهو مجموعة خواطر وآراء كلها قيم، ثم قصص مترجمة عن الإنجليزية، منها (خالد)، وفيها تفصيل عن الصحراء، وسرد لما يقع في جنباتها. ثم (الوردة الحمراء) وهو صورة من الأدب الخالد، ومؤلفها الكاتب الذائع الصيت (أوسكار وايلد). ثم كتب في النقد، ومعظمها نشرت مادته في الصحف التي عاصرته، وكانت بتوقيع (قدامه)، وهو الاسم الذي كان يحتجب وراءه.
وقد كان حجة في اللغة العربية، يراعى في أسلوبه التحرر من قيود الرجعية والجمود. وحسبك أن يعترف له بفضل السبق علماء أجلاء، كالمازني والعقاد، وقد صدر ذلك عنهما في حفل أقيم في مصر، وشهده أخوه (أبو سلمى) الذي نقل إلي طرفاً من حديثهما عنه حينذاك وثنائهما عليه وكالأستاذين خليل مردم بك، والشيخ المغربي في دمشق، وقد حدثاني عنه حديثاً يستشف منه إعجابهما به وتقديرهما له.
وهنالك أدباء صحفيون كانوا هم الطليعة الأولى في هذا الميدان. منهم الأستاذ رشدي شعث صاحب مجلة (المنهل)، ثم الأستاذ جميل البحري صاحب مجلة (الزهور)، ثم الأستاذ حنا العيسى صاحب مجلة (الأصمعي)، ثم الأستاذ خليل بيدس صاحب مجلة (النفائس). وسوف أتحدث عنه مفصلا حين أتحدث عن (الأدباء القصصيين) إذ هو أحدهم. ثم الأستاذ نجيب نصار صاحب (الكرمل الجديد)، ثم الأستاذ بولص شحاذة صاحب (مرآة الشرق)، ثم الأستاذ الشيخ علي الريحاوي وهو مؤسس أول مجلة في فلسطين وهي مجلة (بيت المقدس). وحين أوقف لأسباب سياسية أسس جريدة (النجاح). ولكنه شغل عنها بعد ذلك بالسياسة. فسافر إلى الآستانة مبعوثاً عن قضاء القدس وهنالك تعرف إلى كثيرين وعرفوا أدبه القيم. وهو شاعر فحل وسأورد نماذج من شعره حين أتحدث عن الشعراء. ثم الأستاذ الشيخ سليمان الفاروقي. وهو مؤسس جريدة (الجامعة الإسلامية) التي صدرت عام 1933، واستمرت حتى عام 1937 ثم توقفت بعد ذلك بسبب إرهاق الحكومة لها. والأستاذ الفاروقي أديب مطبوع، درس في الأزهر ثم في جامعة الحقوق في الآستانة، ثم اشتغل بالمحاماة أمداً من عمره، وله شعر ونثر يجعلانه في نظر المعجبين بأدبه (معري فلسطين)،
وهو خطيب مصقع إذا تحدث (مرتجلا) ظننته يغترف من بحر، وإذا (أملى) حسبته يستلهم من وراء الغيب. واليك أبياتا من شعره، تلمس فيها الكثير من سخطه، وتتحسس بين ثناياها يأسه المرير وهي قوله:
ولما رأيت الناس ضلت حلومهم
…
فلا أحد يهدِي ولا أحد يهدَى
وشمت وجوه الناس قد غاض ماؤها
…
فلا وجنة تحمر أو جبهة تندى
يئست من الإنسان! إني وجدته
…
يصيب الهدى سهواً ويغشى الأذى عمداً
وأما نثره فإنه يحلق فيه إلى الذروة، وإليك بعض ما يقوله في كلمة عنوانها (الضحايا) يفتتح بها عدد العيد الممتاز الصادر في صباح (15) آذار (مارس) عام 1935 وقد جاء فيها:
(إذا خلا وجه الدهر لأمة، فبسطت على العالم أجنحتها، وسلكت الشعوب بدينها ومدنيتها، وحشرتها فيها كأن لم تكن من قبل ذكرت، وإذا ملأت أمة الماء عوائم، والهواء حوائم، والأرض ذوابل وصوارم، والتاريخ جسائم وعظائم، حقت بالعيد وجدرت، وقمنت بالفخر إذا افتخرت. . . ليس العيد أن تلبس كفنك، وتعبد وثنك، وتجر في باطلك - سادراً - رسنك. وليس العيد ثوباً تستغشيه، وعملا تؤديه، أو مثالا تحتذيه. وإنما العيد حظ الروح، وسمو القلب، وإنما العيد فجوة ما بين جزأي التاريخ، من كد وجهاد، وراحة وجمام)
وهنالك (أيضاً) من الأدباء الصحفيين الأستاذ منيف الحسيني صاحب جريدة (الجامعة العربية)، ثم الأستاذ عبد الله القلقيلي صاحب (الصراط المستقيم)، ثم الأستاذ عيسى بندك صاحب جريدة (صوت الشعب).
وهنالك جرائد محتجبة كثيرة كان يساهم في تحريرها أدباء بارزون أذكر منها: (الكفاح) و (اللواء) و (الشباب) و (المطرقة).
وقبل أن أختتم الحديث في هذا الفصل لا بد لي من أن أشير إلى أديب فلسطيني اتخذ القاهرة له داراً، وأسس فيها جريدته:(الشورى) ثم جريدته (الشباب)، وقد توقفتا كلتاهما، بعد أن كافح فيهما ونافح وجاهد جهاد الأبطال، وذلك الأستاذ هو الأديب المجاهد (محمد علي طاهر) ردّ الله غربته.
(له تكملة)
محمد سليم الرشدان
ماجستير في الآداب واللغات السامية
قطربل
الأستاذ شكري محمود أحمد
قرية بين بغداد وعكبرا، تنسب إليها الخمور وتكثر فيها المعاصر والحانات لكثرة ما فيها من الكروم. لذلك أمها المجان، وطلب أهل الفتك، وتطرح فيها الخلعاء، حتى فتنوا بغلمانها، وشغفوا بظبائها، فكثر ذكرها في شعرهم، ودار اسمها في قصصهم.
كانت في أنزه موضع وأجمل موقع، تركب كاهل دجلة، وتحاذي الصراة الذي يفصل بينها وبين بادوريا، هي في غربة وبادوريا في شرقه.
جمالها الضاحك الطروب جذب قلوب الشعراء فمالوا إليها، واحتفظت بالمجان حتى عكفوا يرتضعون در الكأس، وينزفون النفس في صبوح ضاحك، وغبوق دافق بالمتع واللذاذة، فطوراً هم بدجلة يصطبحون، وطوراً بالصراة يغتبقون.
ولقطربل أخبار، وفيها أشعار - كما يقول ياقوت - في وسعه أن يجمع كتاباً في أجلاد يسجل أخبار الخلعاء والمجان والشعراء والبطالين والمتفجرين في هذه المدينة.
تشوق إليها إبراهيم المدبر، وطرب لذكراها قائلاً:
طريت إلى قطربل وبلشكر
…
وراجعت عما لست عنه بمقصر
وحن لها البحتري فاهتز لمنظرها وقد بدت له مع الشروق، فقال في مدح ابن المدبر:
وقد ساءني أن لم يهج من صبابتي
…
سنا البرق في جنح من الليل أخفر
وأني بهجر للمدام وقد بدا
…
لي الصبح من قطربل وبلشكر
ووصفها الببغاء الشاعر، ذاكراً مواطن الغزل والصبابة، ومنازل اللهو والبطالة، ومعاهد الأنس واللذة، فقال يذكرها ويذكر كلواذي، هي شمال بغداد، وكلواذى في جنوبها:
كم للصبابة والصبى من منزل
…
ما بين كلواذى إلى قطربل
راضعتُ فيه الكأس أهيف ينثني
…
نحوي بجيد رشاً وعيني مُغْزل
ذكرها جحظة البرمكي، وما فيها من الخمور التي تعطر في كل حين بقوله:
قد أسرفت في العذل مشغولة
…
بعذل مشغول عن العذَّل
تقول هل أقصرت عن باطل
…
أعرفه عن دينك الأول
فقلت: ما احسبني مقصراً
…
ما أعصرت خمر بقطربل
قالت: فأين الملتقى بعد ذا
…
فقلت: بين الدن والمبزل
أما الحسن بن هانئ فقد أكثر من ذكرها، وأطال من حديثها، لأنها كانت مسارب لهوه، ومواطن خلاعته. فوصف حاناتها ورياضها، وخمرها وسقاتها، وذكر صحابته فيها. بل إنه أراد أن يدفن فيها.
خليليَّ بالله لا تحفرا
…
لي القبر إلا بقطربل
خلال المعاصر بين الكرو
…
م ولا تدنياني من السنبل
لعلي أسمع في حفرتي
…
إذا عصرت ضجة الأرجل
كان الكرخ مصيفه، وقطربل مربعه، ترضعه درها، وتلحفه بظلها.
قطربل مربعي، ولي بقرى الكر
…
خ مصيف، وأمى العنب
ترضعني درها وتلحفني
…
بظلها، والهجير يلتهب
وهو في القصيدة الآنية يبدع في وصفها، فيذكر حانته بين الجنان الحدائق، في تلك الرياض المحفوفة بالشقائق، وندمانه الغر الكماة الذين ذل لهم الدهر، وساقيه الغرير المتوج بالريحان:
ومجلس خمار إلى جنب حانة
…
بقطربل بين الجنان الحدائق
تجاه ميادين على جنباتها
…
رياض غدت محفوفة بالشقائق
أقمنا بها مع فتية خضعت لهم
…
رقاب صناديد الكماة البطارق
بمشمولة كالشمس يغشاك نورها
…
إذا ما تبدت في نواحي المشارق
يدور بها ظبي غرير متوج
…
بتاج من الريحان ملك القراطق
إذا ما جرى فيه تغنى وقال لي
…
بسكر: الآهات اسقنا بالدوارق
وقد كان أبو نواس معجباً بخمارها (ابن أذين) لأن هذا الخمار كان ظريفاً لبقاً مساعداً، عنده شراب عتيق، وغلمان صباح. وقد ذكره في شعره قائلا:
اسقني يا ابن أذين
…
من سلاف الزرجون
اسقني حتى بي
…
جنة غير جنون
عتقت في الدن حتى
…
هي في رقة ديني
ولنا ساق عليه
…
حلة من ياسمين
ويجمل الشرب في قطربل على الورد في نيسان، لأن شرابها عتيق، وليشرب الأغمار من العسل:
اشرب على الورد في نيسان مصطحباً
…
من خمر قطربل حمراء كالكاذي
واخلع عذارك لا تأتي بصالحة
…
ما دمت مستوطناً أطراف بغداد
نعم شبابك بالخمر العتيق ولا
…
تشرب كما يشرب الأغمار في ماذى
وما كان يطيب المقام لأبي نواس في موضع من مواضع القصف والفتك على كثرتها إلا بقطربل فإنها كانت منقلبه ومرجعه.
ذكر ياقوت في الكلام على القفص بعد ما عرف بهذا الموضع، وذكر ما قيل فيه من الأخبار والأشعار قصيدة لأبي نواس هي:
رددتني في الصبى على عقبي
…
وسمت أهلي الرجوع في أدبي
لولا هواؤك ما اغتربت ولا
…
حطت ركابي بأرض مغترب
ولا تركت المدام بين قرى الكر
…
خ فبُورى فالجوسق الخرب
وباطُرنجي فالقفص ثم إلى
…
قطربل مرجعي ومنقلبي
ولا تخطيت في الصلاة إلى
…
تبت يدا شيخنا أبي لهب
وذكر ياقوت هذا الموضع في الكلام على (بنا) وأورد قصيدة لأبي نواس فيها وصف جميل لخمر قطربل يجمل أن نضعها بين يدي القراء هي:
سقيا لبنا ولا سقياً لعانات
…
سقياً لقطربل ذات اللذاذات
وإن فيها بنات الكرم ما تركت
…
منها الليالي سوى تلك الحشاشات
كأنها دمعة في عين غانية
…
مرهاء رقرقها ذكر المصيبات
تنزو إذا مسها قرع المزاج كما
…
تنزو الجنادب أوقات الظهيرات
وتكتسي لؤلؤات من تعطفها
…
عند المزاج شبيهات بواوات
مر ذكر هذه القرية في مواطن كثيرة من شعر أبي نواس غير ما ذكرنا. ويجمل بنا أن نثبت أخيراً هذه القصة التي ذكرها الصولي عن بعض بني نوبخت ورواها ياقوت في معجمه قال: لما انصرف أبو نواس من مصر في طريقه إلى العراق، اجتاز بمدينة حمص، فرأى كثرة خماريها وشهرة شرابها. فأقام بها مدة يغتبق ويصطبح، وكان بها خمار يهودي
اسمه (لاوى) فقال لأبي نواس: كيف رأيت مدينتنا هذه؟ فأجابه: حدثنا بعض رواتنا أن هذه هي الأرض المقدسة لبني إسرائيل. فقال له الخمار: أيما أفضل هذه أم قطربل؟ فقال: لولا صفاء شراب قطربل، وركوبها كاهل دجلة، ما كانت إلا بمنزلة حانة من حاناتها.
ثم مر أبو نواس بمدينة عانة فسمع اصطخاب الماء في وجداولها فقال: أذكر في هذا قول الأخطل:
من خمر عانة ينصاع الفؤاد لها
…
بجدول صَخب الأذى موْار
فأقام فيها ثلاثاً يشرب. ثم قال لولا قربها من قطربل ومجاذبة الدواعي إليها لأقمت بها أكثر من ذلك. فلما دخل الأنبار تسرع إلى بغداد وقال: ما قضيت حق قطربل، فعدل إليها وأقام ثلاثاً أتلف فضلة كانت معه من نفقته، وباع رداءً معلماً من أردية مصر. ولما أراد الانصراف عنها اجتمع الخمارون للسلام عليه. قال الصولي: فما شبهتهم وإياه إلا بخاصة الرشيد عند تسليمهم عليه يوم حفل له. وقد قال في ذلك قصيدة ظريفة هي:
طربت إلى قطربل فأتيتها
…
بمال من البيض الصحاح وعين
ثمانين ديناراً جياداً أعدها
…
فأتلفتها حتى شربت بدين
رهنت قميصاً سابرياً وجبة
…
وبعت رداء معلم الطرفين
لخمارة دين ابن عمران دينها
…
مهذبة تكنى بأم حصين
وقلت لها إن لم تجودي بنائل
…
فلا بد من تقبيلي الشفتين
فقالت: وهل ترضى بغيرهما هوى
…
با بلج كالدينار فاتر عين
وقد كنت في قطربل إذ أتيتها
…
أرى أنني من أيسر الثقلين
فروحت عنها ميسراً غير موسر
…
أقرطس في الإفلاس من مائتين
وقال لي الخمار عند وداعه
…
وقد ألبستني الخمر خف حنين
ألا عش بزين أين سرت مودعاً
…
وقد رحت منه حين رحت بشين
بغداد
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية
سرفتان قبيحتان:
خطر يهدد القصة المصرية
للأديب كمال رستم
. . . إن المتتبع للحركة القصصية في مصر، لا يستطيع أن يخفي خوفه من الخطر الذي بات يهدد أدب القصة، وأقول (القصة) وأعني في ذلك أن أحمل اللفظ أكبر معناه فتستوي عندي القصة الطويلة والأقصوصة!
. . . ليس فينا من ينكر أن الأدب القصصي مستحدث في العربية، وأن ظهوره كأدب ذاتي متميز لا يرجع إلى أبعد من هذا القرن العشرين. وأقول أدب ذاتي وأنا التمس للتعبير شيئاً غير قليل من التحفظ، فإن لقائل أن يقول: وهل لنا حقا أدب قصصي ذاتي؟
والحق أن الإجابة عن هذا السؤال لا تتطلب كثيراً من الجهد متى ما توفرت لدى الكاتب الشجاعة فيجب من فوره بأن ليس في مصر قصص ذاتي.
. . . أعلم سلفاً أن قولي هذا سيقيم ويقعد جماعة نصبوا أنفسهم آلهة للقصة في مصر، وليس في هؤلاء من يهمني رضاهم أو سخطهم ما دمت أهدف إلى غرض سام أرجو من وراءه أن يعود على أدبنا بالخير والنفع!. . . ويبقى أن ندير السؤال على وجه آخر فنقول: هل القصة المصرية موجودة بالفعل. . . وهل ما تطالعنا به المجلات الأسبوعية قصص مستمدة من صلب الحياة المصرية؟ أكبر الظن أن الإجابة عن هذا السؤال ستكون سلباً. . . فالقصة المصرية لا تعبر عن روح المجتمع بل هي الصدى الشائه لمجتمعات غربية وأجواء أجنبية! إن مقياس الذاتية في القصة أن يجد الإنسان نفسه وأسرته وعاداته وأخلاقه وآماله آلامه في كل ما يكتب الكاتب من القصص، ذلك بأن القصة يراد بها أولا وقبل كل شيء تصوير المجتمع، بل إن مقرري الحالات الاجتماعية لعصر من العصور في بلد من البلاد ليعتمدون في الكثير الغالب على القصة في تقرير الحالة الاجتماعية لهذا العصر باعتبار أنها الصدى الحاكي له. . وليكن المثال التالي مصدقاً لما نقول:
إن مصر ترزح في الوقت الحاضر تحت عبئ ثقيل من الآلام، فأين القصة التي يمكن أن يعتمد عليها مؤرخ في عصر متأخر ليصل منها إلى حقيقة هذا الوقت العصيب الذي تجتازه مصر؟ لقد كتبت قصص في بلاد أخرى كان مدارها علاج المشاكل الاجتماعية لتلك
البلاد، فقومت من الأخلاق وهذبت من العادات، وأسقطت حكومات وأدلعت نيران ثورات، فأين قصتنا المصرية من هذا كله؟
أو ليس عجيبا والشعب يعاني قصصا عللا اجتماعية لا حصر لها ألا نجد بين كتابنا القصصيين من يجعل من هذه العلل عقد قصصه؟. . . بل إن النفس لتقطر أسى حينما نقلب بين أيدينا المجلات الأسبوعية فلا نقف فيها على غير قصص الحب، كأنما الشعب الذي يؤود سواده أعباء الجهل والفقر والمرض يمضي كل وقته متغنياً بالحب وما يتصل بهذا الحب من العواطف والانفعالات؟. حتى هذا اللون من القصة الذي استغرق كل أدبها إنما هو لون واغل دخيل!
لقد دلت التجارب على أن الناسخ أو المقتبس لا يستطيع في الغالب أن يخلق أو يبتكر، وهذه حقيقة معروفة لنفر غير قليل من هؤلاء الذين توفروا على النقل والاقتباس.
ولكن ليس هذا كل ما في الأمر من خطر، ذلك بأن القصة غزت ميداناً واسعاً هو ميدان السينما وتأثيرها على العقول لا يحتاج إلى دليل، فإن أولادنا وبناتنا وزوجاتنا يؤثرون دور العرض على غيرها من ضروب التسلية والترويح عن النفس، وهكذا يبرز جلياً خطر عرض عادات وأخلاق غير عاداتنا وأخلاقنا على النشء والبنت والزوجة مما وضح أثره الأليم في اصطناع هذه العادات والتخلق بهذه الأخلاق حتى أشفق المشفقون على مجتمعنا من الانحلال.
وبعد فلعل ختام هذه الكلمة العاجلة هو ما كان ينبغي أن يكون مبدأها، ذلك أني كتبت هذه الكلمة في أعقاب قراءتي قصة لكاتب في عدد المصور الأخير عنوانها (الأرض التي تكفيه)، وقد نسبها الكاتب إلى نفسه، وهي لروائي من أعظم روائي العالم وأبعدهم صيتاً وهو الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي. . . وهي القصة الموسومة باسم:
(كم حاجة المرء من الأرض). . . والنقل على هذه الصورة أبعد ما يتصوره الإنسان من الجرأة، فلو أن الناقل نقل عن كاتب مغمور لالتمسنا له بعض العذر، ولكن أن يضيف إلى نفسه عملا لكاتب لامع كتولستوي فهذا هو ما يحير عقلا كعقلي على الأقل. . فهل ظن الناقل أن أدب تولستوي لا يقرأه شخص عداه؟ فإذا كان شأن، أدباء القصة هنا مع مؤلف (السلم والحرب) و (أنا كارنينا) هو هذا الشأن فكيف شأنهم مع غيره؟
هذه الظاهرة الخطيرة رأيتها كذلك في أدب كاتب معروف هو الأستاذ توفيق الحكيم، فقد ظهرت له قصة في أحد أعداد مجلة أخبار اليوم بعنوان (ليلة الزفاف) وليست هذه القصة غير قصة (البحث عن زوج أمين) لكاتب أمريكي هو: وهي منشورة بعدد مجلة (قصص الحب) الأمريكية الصادر في 7 يونيو سنة 1941. وعذر الأستاذ الحكيم أن المؤلف الأصلي غير معروف لقراء العربية على الأقل، فلم يجد حرجاً في التغرير بعقول القراء! ومهما كانت خطورة اعتماد الناقل في أدبه على ما ينقله من أفكار الغرب، فإن هذه الخطورة ستكون أبعد مدى في تأثيرها في المجتمع المصري كما قدمت. ومن هنا حق لي أن انبه إلى مقاومة هذه الظاهرة والحد من تأثيرها السيئ الذي تخلفه بعض هذه القصص في مجتمعنا من جهة أخرى.
كمال رستم
العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم
للأستاذ عبد المنعم ماجد
(تتمة لما نشر في العدد الماضي)
يظهر أن أثر المحضر الأول كان بالغاً، فالخليفة الفاطمي في مصر وقتذاك وهو الحاكم بأمر الله الذي كان قد أباح للسنيين من اتباع مالك الحرية في تدريس مذهبهم؛ بل أنشأ مدرسة لتدريس هذا المذهب وخاصة من الناحية الفقهية، فإنه لما سمع بالطعن في نسبه في المحضر، ثارت ثائرته، وحظر ما كان قد أباحه. ويقول أبو المحاسن أنه هان في أعين الناس لكتابة العلماء في المحضر وإنه قامت قيامته. والظاهر أن ثورته كانت شديدة حتى أنها تعدت إلى اليهود كما يذكر كردى ساسي في كتابه (الخليفة الحاكم بأمر الله ص33).
كذلك شهد هذا المحضر من أزر من يحقد على الفواطم، فاتخذه كل عدو لهم سلاحا قويا ضدهم، فحاكم المدينة ومكة أبو الفتوح (وكان حاكما من قبل الفواطم) ألغى الخطبة له. هذان المحضران ظهرا بلا شك كنتيجة لضعف البويهيين في هذه الفترة، ومع سوء العلاقة فيها فإن التفاهم يكون ممكناً في بعض الأحيان ما وجد البويهيون. فمثلا استمر التضامن بين أهل الكرخ من الشيعيين في بغداد والفواطم في مصر في الاحتفال ببعض أعياد الشيعة، ولكن حينما زال حكم البويهيين ساءت العلاقة بمجيء السلاجقة، وذلك لأنهم كانوا سنيين كالخلفاء العباسيين لا يعترفون بحق للفواطم بل هم أعداء لهم.
الفترة الثالثة
وتبدأ من سنة 447، وهي السنة التي دخل فيها طغرلبك زعيم السلاجقة بغداد، ولذلك تعتبر بدء العهد السلجوقي. في هذه الفترة تسوء العلاقة بين بغداد والقاهرة، لأن السلاجقة على عكس البويهيين، وقفوا موقفا عدائيا تاما من الدولة الفاطمية، وذلك لأنهم أولاً كانوا من أهل السنة لا يعتقدون بشرعية الخلافة الفاطمية. وثانياً لأن الدولة السلجوقية عملت على تقوية الخلافة العباسية فحفظت لها نفوذها الروحي وكان مفقوداً في عهد البويهيين، ولذا كان طبيعيا أن يظهر العداء بين الطرفين وأن يتحالف السلاجقة مع الخلفاء العباسيين على الشيعيين الفواطم، فيجب أن نعتبر العلاقة في هذه الفترة على أسوأ ما تكون بعكس ما
كانت عليه في الفترة الأولى حينما كان للبويهيين القوة، وحتى في الفترة الثانية كانت العلاقة متوسطة، أما في هذه الفترة فقد أصبح العداء سافراً. ولذلك سنجد كلا من الدولتين تعمل الواحدة منها على القضاء على الأخرى، ولعل أبرز مظاهر هذه العلاقة السيئة ثورة البساسيري، قام بها رجل يدعى أبو الحارث أرسلان البساسيري من موالي الديلم ينسب إلى بلد في فارس اسمها بسا، وكان هذا الرجل من أصل تركي قربه الخليفة القائم إليه، حتى لم يكن يأتي أمراً إلا بعد استشارته، وقلده الأمور، وخطب له على المنابر في العراق وخوزستان إلا انه كان شيعيا كالبويهيين لا يرى الخلافة الحقة إلا في أولاد فاطمة، ورث هذا عن سيده بهاء الدين البويهي فقد كان مملوكا له، وربما يمكننا أن نفسر بهذا السبب انقلابه على الخليفة القائم وتجبره عليه حتى جفاه، وقد رأينا من قبل كيف كان يفعل أسياده البويهيون بالخلفاء العباسيين، وإن كان معظم المؤرخين يذهبون إلى أن سبب سوء العلاقة راجعة إلى جفاءه حتى اضطر القائم إلى إبعاده، وأيد رئيس رؤسائه في عداوته له وفسد الأمر بينه وبين الخليفة حتى أدى الأمر إلى استنجاد القائم بالسلاجقة وما كاد طغرلبك يدخل بغداد حتى فر البساسيري إلى الموصل.
وجدت الخلافة الفاطمية في هذه الحوادث فرصة سانحة للانتقام والعمل على تقويض ملك العباسيين، كما أدركت الخطر من بروز السلاجقة من مواطنهم من تركستان، كقوة فتية على أبواب بغداد، ولذلك مشت الرسل بينها ومدته بيد المساعدة. وفي أبي المحاسن نص يؤيد وصول هذه المساعدة (إن الذي وصل البساسيري من المستنصر من المال خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك، وخمسمائة فرس، وعشرة آلاف قوس، ومن السيوف ألوف ومن الرماح والنشاب شيء كثير).
من قيمة المساعدة يتبين مقدار حماس الفواطم، كما يفسر قبول البساسيري لهذه المساعدة رغبته في الانتقام من أعدائه. ولذلك لم يتردد في المسير إلى بغداد بعد أن مهد لذلك بإيقاع الفتنة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال، وكان قد أطمعه في الملك، حتى خالف أخاه وعصاه على أية حال بالمساعدة القيمة التي قدمها له الفواطم وبولاء أهل الكرخ الشيعيين في بغداد، وبمساعدة حاكم الموصل تم له الاستيلاء على بغداد كلها وسارت جنوده في شوارعها، حاملة الرايات المستنصرية، وعليها ألقاب المستنصر صاحب مصر، ثم خلع الخليفة
العباسي، وبايع الخليفة الفاطمي المستنصر بالله وأرسل البردة والقضيب والمنبر إلى مصر.
وقد فرح المستنصر بنجاح ثورة البساسيري فرحاً شديداً، حتى أنه لما غنته إحدى القيان:
يا بني العباس صدوا
…
ملك الأمر معد
ملككم كان معرا
…
والعوارى تسترد
وهبها هبة كبيرة. ويقول أبو المحاسن، وكان ما وقع للمستنصر هذا تمام سعده، والحقيقة أن ما وقع للمستنصر ما وقع لفاطمي قبله.
واكن كانت هناك حقيقة عظيمة لا تغيب عن الذهن هي أن الدولة الفاطمية كانت قد بدأت بدورها تتدهور هي الأخرى، ولذلك لم تتح لها مواردها السير في مشروعها ضد العباسيين إلى النهاية. كما أن المستنصر خاف من البساسيري فكف عن متابعة إمداده، فما عاد طغرلبك إلى بغداد حتى تمكن من قتل البساسيري وفتك به، وأجلس القائم بأمر الله ثانية على عرش أجداده، وأعاد للخلافة قوة لم تكن تحلم بها في عهد البويهيين وإن كانت روحية أكثر منها مادية. والدولة السلجوقية دولة فتية، ولذلك نجدها تقوم بفتوحات تمتد شرقا وغربا، فتشارك الفواطم ملكهم في الشام، كما نجد أن اتابكة الشام السلاجقة يتدخلون في سياسة مصر وبخاصة أتابكة الدولة الزنكية، وينتهي الأمر باستيلاء صلاح الدين على مصر فيما بعد.
كذلك كانت هناك حركة ثانية حديثة في عهد السلاجقة، وتبين نوعاً من العلاقة بين الفواطم والعباسيين، وإن كانت علاقة غير مباشرة. وهي حركة سرية تعتبر من أقوى ما عرف من الحركات في العالم. هذه الحركة هي حركة الحسن الصباح المشهور بالحميري. حدثت حركته في أواخر القرن الخامس الهجري، وكان هذا الرجل من زملاء نظام الملك الوزير المشهور (في المدرسة) وعمر الخيام الشاعر والفلكي الذائع الصيت. . وكان يأمل أن يصل إلى الحكم كزميله نظام الملك مثلا ولكنه فشل في غرضه، فذهب إلى بلاط القاهرة، فتشبع بروح القاهرة الديني وأكرمه المستنصر كما يقول ابن الأثير وأعطاه مالا وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته. وعلى ذلك ذهب من مصر إلى آسيا فاستولى على قلعة الموت، وكون جماعة عرفت في أيام الصليبيين باسم الحشاشين، ومنها أخذت الكلمة بمعنى قاتل سفاك،
وكانت هذه تقاتل بالسيف والخناجر فأوجدت حالة من الفوضى في الخلافة العباسية فأضعفتها، واستولى على أجزاء منها، وكان يدعو في هذه الأجزاء للإمام الفاطمي، وإن كان في آخر أيامه دعي لنفسه وادعى أن نسب المستنصر باطل، وتسمى بالإمام، كذلك تغالى في دعوته كما هو مذكور في كتاب الشهرستاني فاختلف عن الدعوة الفاطمية.
المهم في هذه الحركة أنها لاقت تأييداً من الخليفة المستنصر وكانت الفوضى التي أثارتها سبباً دعا إلى سقوط الدولة العباسية فيمل بعد بحيث أنهكت قواها الفتن والقلاقل وأضعفتها فلما جاء المغولي هولاكو، وجدها لقمة مستساغة.
فالعلاقة في هذه الحركة لم تكن مباشرة بين بغداد والقاهرة كما كانت في عهد البساسيري، تلك هي العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم مرت بمراحل ثلاث كما ذكرت كانت أولاها على أحسن ما تكون العلاقات وتدرجت في السوء حتى وصلت إلى العداء الصريح في الفترة الأخيرة، تدرجا يتبع مدى تشيع أصحاب الأمر والنهي في بغداد للعقيدة الشيعية التي منها الفواطم.
وسينتهي الأمر بتحكم السلاجقة الشاميين وخاصة أتابكة الدولة الزنكية في شئون مصر الداخلية، ويظهر صلاح الدين الأيوبي الذي يكون على يديه القضاء على الدولة الفاطمية في مصر وتكون الدولة الأيوبية. فنجد أنفسنا بازاء علاقة أخرى هي علاقة الشام بمصر، ولذلك نتركها لفرصة أخرى.
عبد المنعم ماجد
اتحاد شمال أفريقيا
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
مضى عصر الموت والانحلال في شمال أفريقيا وبدأ عصر جديد يلوح في الأفق، وبذلك لا تضيع السنوات الطويلة التي قضاها في الكفاح سدى. وقد تطورت قضايا تونس والجزائر بحيث أصبح من المستحيل تجاهلها. فلأبواق الاستعمار أن تزعم ما تشاء، وللسلطات المحلية أن تتصرف كما تريد، فإن الفترة الحالية لن تدوم طويلا. إن حالة الضغط والاضطهاد والفوضى التي تشمل اليوم هذه الأقطار العربية الشقيقة، إنما هي مظاهر انهيار يشق طريقه إلى القبر بخطى حثيثة، أما هذه النهضة الوطنية المكافحة الصابرة فهي طليعة عصر جديد. ذلك أن قضايا شمال أفريقيا تخرج من حدودها الضيقة المحدودة، إلى حدود أوسع لم يكن لها عهد بها من قبل، فصوتها يرتفع اليوم في العواصم العربية كلها كما يرتفع في باريس ولندن ونيويورك، وليس هناك من يستطيع أن يقف في وجه شعب صمم على أن يعيش مهما كان الثمن الذي يدفعه في سبيل أن يعيش.
وللاستعمار القاسي الشديد مساوئ لا تحصى، ولكن له حسنة في هذه البلاد، فقد عرف الناس بواسطته أن الحديد لا يفله إلا الحديد، ولذلك لم يوجد فيها من يحاول اصطياد الفرص لأنه لا توجد فرص، وإنما عبئوا جهودهم للمقاومة الطويلة الحافلة بالصبر والكدح والشقاء، فأكسبهم ذلك قوة قل أن يتسلح بها شعب دون أن تصل به إلى النجاح، وبذلك برهنوا على أن بلادهم - بالرغم مما قاسته - غير قابلة للموت.
أضف لذلك أن الوضعية في شمال أفريقيا غير طبيعية، فالناس فيها يحكمون بأساليب بعيدة كل البعد عن أن ترضى ما يصبون إليه بعد أن تعرفوا إلى الحياة الحديثة، ونزعوا إلى الحرية والاستقلال. وإذن فليس هناك بد من أن تتغير الحالة الحاضرة سواء رضي السادة المستعمرون أم كرهوا؛ ذلك أنهم يقفون في وجه التاريخ، ولن يكون من اليسير الوقوف في وجه التاريخ طويلا. . .
ولست أكتب هذه الكلمة لأتحدث عن الاستعمار الفرنسي ومساوئه الشهيرة، وإنما أريد أن أتحدث عن نوع النظام الذي يجب أن تخضع له هذه البلاد الشاسعة بعد أن يزحزح التاريخ هؤلاء السادة الواقفين في وجهه. ما هي قواعد السياسة في شمال أفريقيا الحرة؟ هل يظل
التقسيم الحالي قائما أم يقوم مقامه اتحاد؟
يظن كثير من الناس أن تقسيم شمال أفريقيا الحالي يرجع إلى الاستعمار الفرنسي، وهذا ليس بصحيح. فقد عرفت شمال أفريقيا هذا النظام منذ زمن بعيد، حتى قبل الإسلام خضعت أجزاؤه المختلفة إلى مقادير متباينة، بحيث لم يستطع أحد أن يوحده في ظل الحرية أو الاستعمار، إلى أن جاء الإسلام، ولم يكد ولاة القيروان يوحدون تلك الأراضي حتى تصدعت هذه الوحدة من جديد. ويكفي أن نقول إن شمال أفريقيا في تاريخه الإسلامي الطويل لم يتوحد إلا مرتين، أولاهما في عصر الفاطميين إلى أن رحلوا إلى مصر، وثانيتهما في عصر الموحدين ملوك مراكش إلى أن انفصل عنهم بنوا زيان في الجزائر، وبنوا حفص في تونس، وهكذا تصدعت وحدة شمال أفريقيا لآخر مرة في القرن السابع الهجري بعد أن لم يكتب لها النجاح في المحاولتين اللتين أسلفنا الإشارة إليهما. وكان هذا على أساس قيام ثلاث دول هي مراكش والجزائر وتونس، وقد ظل الأمر على ذلك منذ هذا الحين.
ذلك هو التاريخ، وهو دون شك عامل حيوي لا يحمل إغفاله. بيد أن ظروف الحياة في العصر الحديث قد تغيرت وبات نظام العالم يدعو إلى قيام كتل دولية كبيرة، تقوم على أساس التعاون وتبادل المنفعة. فإذا أعدنا النظر في اتحاد أو وحدة شمال أفريقيا على ضوء هذا استطعنا أن نلاحظ أشياء جديدة.
هذه البلاد شديدة التشابه من الناحية الجغرافية؛ فهي مثل الجزيرة الخصبة المحصورة بين رمال الصحراء في الجنوب والشرق، ومياه البحر في الشمال والغرب. والاختلاف في الظواهر الطبيعية بينها جميعاً يشبه اختلاف هذه الظواهر في كل قطر على حدة. ولذلك فإن هناك تشابهاً كبيراً بين السكان في الجنس والعادات والخلقة والتنوع.
ولا توجد حدود طبيعية بين هذه الأقطار، ولذلك ظلت حدودها مطاطة وغير مستقرة خلال عصور التاريخ.
وتاريخها شديد الارتباط في حوادثه بالرغم من انفصالها السياسي، وأغلبية السكان الساحقة مسلمون وهم متشابهون في ظروف الحياة، ومستوى الفكر، وتركيب العقلية، وكل اختلاف في طبائعهم يرجع إلى عوامل استثنائية لن تلبث أن تزول مع انهيار الأنظمة الحالية.
أضف إلى ذلك خضوعها في العصر الحديث لدولة واحدة هي فرنسا - مع استثناء الجزء الشمالي الصغير من مراكش الخاضع للنفوذ الأسباني ولا يتعدى سكانه المليون نسمة - ومهما تتعدد الأنظمة وأسماؤها، فقد اصطبغ الاستعمار الفرنسي فيها بصبغة واحدة، لا يختلف في جوهره مطلقاً. قام فيها بإصلاحات مادية واحدة، وأثار فيها مشاكل واحدة أيضاً، هي مشكلة العنصرية ونزع الأراضي وكبت الحريات العامة ومحاولة التوفيق بين التقدم الاقتصادي والاستثمار وبين الحيلولة دون تطور الأهالي واستفادتهم من التقدم الاقتصادي، فنتجت عن ذلك حالة واحدة متشابهة.
ثم إن الموقف الفرنسي إزاء أماني هذه البلاد القومية موقف واحد وهو موقف الحريص على الاحتفاظ بكل شيء وعدم التسامح حتى في المسائل الصغيرة التي لا تقدم ولا تؤخر في صميم النظام الحالي.
وقد قلنا ونحن معتمدون على طبيعة الحياة وقانون التطور - إن هذه البلاد سوف تحقق أمانيها القومية مهما فعل الفرنسيون. فالسؤال الذي نريد أن نطرحه الآن هو: هل في استطاعة هذه الأقطار أن تكون بعد تحررها من النظام الحالي دولة واحدة أو أن تؤلف اتحاداً سياسياً؟.
لقد رأينا أن التاريخ لا يقدم إلينا أمثلة مشجعة على التفكير في قيام دولة واحدة مؤلفة من شمال أفريقيا العربي، ولذلك فنحن نرى استحالة قيامها في المستقبل القريب. أما ما يمكن أن يقوم فهو (اتحاد شمال أفريقيا العربي) وهو مشروع يجب إطالة التفكير فيه، ومحاولة بنائه على أسس مستمدة من التاريخ
كان هذا الاتحاد متعذراً في الماضي يوم كان التاريخ لا يسمح به لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها في هذه العجالة. أما اليوم فإن المآسي الحديثة قد صهرت هذه الأقطار، وقربت فيما بينها، وجعلتها تفكر في مشاكل واحدة، وتقاسي أرزاء واحدة، وتكون على اتصال دائم بحكم النظام المتشابه الذي تخضع له، وتبعيتها لدولة واحدة في العصر الحديث.
كان سقوط الجزائر بيد الأتراك إيذانا بسقوط تونس في يدهم أيضاً. ثم سقطت الجزائر مرة أخرى بيد الفرنسيين فكان سقوطها مقدمة لسقوطهما جارتيها معاً. وإذن فإن من أبسط الدواعي إلى قيام (اتحاد شمال أفريقيا العربي) هو أمن هذه البلاد الإجماعي في المستقبل.
وليس ذلك لأنها لن تستطيع الدفاع عن نفسها منفردة، ولكن لأن الحدود بينها ليست طبيعية ولذلك لا يمكن أن يبنى الدفاع عن واحد إلا على أساس الدفاع عنها جميعها. والحرب الأخيرة نفسها تقدم إلينا أسطع مثال على هذا، إذ كان مصير هذه الأقطار واحداً حين انتصر الألمان، وواحداً حين انتصر الحلفاء، وعجز المارشال رومل عن الصمود في تونس أمام جيوش الحلفاء التي احتلت الجزائر ومراكش.
وعلى ذلك فنستطيع أن نصل إلى نتيجة منطقية سليمة هي أن شمال لن يستطيع أن يكون إلا مجتمعاً؛ وسوف يكون اتحاده مصدر قوة، ولن تتمتع واحدة من بلاده باستقلالها كاملا ما دامت إحدى جارتيها محتلة بالجيوش الأجنبية. وإن السبيل الوحيد إلى ذلك هو قيام (اتحاد شمال أفريقيا العربي).
وإلا فسوف يكون من سخرية الأقدار أن يجمع بينها الاستعمار ثم يعجز عن ذلك الاستقلال.
عبد المجيد بن جلون
تعقيبات.
. .
للأستاذ عباس حسان خضر
أدب حرب - أدباء العروبة - علية بنت المهدي والعصائب -
قصة زواج أم كلثوم. . . . . .
أدب حرب:
كان من فعل الحرب الماضية أن غمرت الأسواق مصنوعات رديئة، خلت لها بانعدام البضائع الجيدة، فلاقت الأولى ما لم تكن تلقاه الثانية من السعر والرواج، واهتبل الفرصة كثير من صغار الصناع والدخلاء في الصناعات، فجدوا، ولم يلبث كبارهم والمهرة منهم أن باروا أولئك فلم يأبهوا بالإتقان واختبار المادة، وأزجى أولئك وهؤلاء بضاعتهم إلى السوق، ورزءوا بها المستهلكين.
ونواحي الحياة من اقتصادية وأدبية وغيرها مشتجرة متفاعلة فكان من الحتم أن يمتد ذلك التيار إلى الأدب، وكان من النتائج ذات المقدمات إن نرى قوما قد استشرى بهم السعار، فراحوا يؤلفون، ويؤلفون. . . أي ينتشون من الكتب ويجمعون ويكونون من الأشتات والنتوشات كتباً يطوفون بها على إدارات الصحف ومكاتب الصحفيين، مرة للإعلان بالثمن ومراراً لرجاء القريظ والتنويه!
أثار بنفسي تلك الشئون والشجون مقال الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في (تجار الأدب) وإن كان الدكتور قصر حديثه على هؤلاء الدخلاء فإن الأمر - من حيث الإكثار وما يقتضيه من عدم الإجادة - قد امتد إلى كبار الكتاب. . . فهذا كاتب يسود الصفحات ذات العدد ولم يبدأ بعد قصته، فإذا أخذ التعريف بأبطالها ترك البطل واقفا ينتظر عودة الكاتب من (مشوار) بعيد. . . وذاك كاتب كثرت مقالاته بكثرة ما يصدر من الصحف والمجلات في هذه الأيام، فيجلس على (مصطبة) كل منها (يدردش) لا يكاد يرتفع حديثه عن هذر الأحلاس بالمقاهي. . . وآخر يملأ الصفحة من حجم الجرائد اليومية بأمشاج من الأخلاط، كلمة من الشرق وكلمة من الغرب، وشطحة لا تدري من أين. . . وأخرى لا تعرف إلى أين. . . ولغيرهم في مثل هذا طرائق قدد. ولا أريد أن أسمي أحداً، فما التجريح وجهة
همي، وإنما أقصد أن المعضلة هي مسألة هؤلاء الكبار. أما أولئك المحتبطون فأمرهم ليس بذي بال، فسينكشفون عن الأدب بتنبيه القراء إلى زيفهم، وأما كبارنا - ولهم في الأدب والنتاج القيم ماض مجيد وبلاء محمود - فيظهر أنهم قد اغتروا بذلك واطمأنوا إليه وحسبوا أنهم بلغوا نهاية الشوط فأخلدوا إلى الراحة من عناء الدراسة والإجادة والإيجاز. . . واستسهلوا الإكثار واستهواهم كسبه.
ولا أنكر على حملة القلم أن يكسبوا من كده ما يمكنهم من العيش الكريم، بل أرى ذلك باعثاً على الإنتاج الأدبي ومشجعاً عليه، ولكنا نريد جودة النتاج وعدم الذهاب إلى جشع التجار.
أدباء العروبة
لعلك قرأت في الصحف أخيراً أنباء أو نشرات عن جماعتين تسميان باسم واحد هو (جامعة أدباء العروبة) ولا بد أنك إذن عجبت، فهو أمر يدعو حقاً إلى العجب! على أن الأعجب منه أن تتصفح ما تتضمنه هذه النشرات من الأسماء فلا تجد بينها (معرفة) في الأدب عدا واحدا أو اثنين من غير الصف الأول!
في أوائل هذا العام دعيت إلى تأليف جماعة أدبية قيل لي - فيما قيل - إنها ستؤلف من أدباء البلاد العربية، فلبيت، وأنا وإن كان بي انقباض عن المجتمعات إلا أنني مصاب بحب الاستطلاع، فرأيت هناك أفراداً من مصر، لقليل منهم بعض النشاط الأدبي، وبعضهم من المتخلفين في الأدب، وسائرهم إما غني (يدفع) أو صاحب (مكان وتلفون) أو مخبر في جريدة ولكل وجهة، وتلتقي الوجهات كلها عند الرغبة في التسلق. . . ووقع الأختيار على رجل كبير، معروف - إلى جانب صفته السياسية بالشغف بالأدب ومودة الأدباء، هو معالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا الذي تفضل فشمل الجماعة بعطفه. . .
وشرعت (جامعة أدباء العروبة) في العمل، وماذا سيعملون؟ حملهم رجل كريم في سيارات إلى القناطر الخيرية ليجتلوا الربيع هناك ثم إلى الأهرام ليناجوا القمر. . . ومكن لهم معالي الوزير من إسماع لم (يقفلوا الراديو!)
ومنذ شرعوا في العمل ظهر بينهم شيء من (مفرزات مركب النقص) ما كدت ألمحه حتى نجوت بجلدي. . . وظل (مركب النقص) يعمل حتى تنازعوا وانقسموا إلى فريقين: فريق ما يزال في كنف معالي دسوقي باشا، والآخر قد اختار لرياسته الأستاذ عبد الحميد عبد
الحق، وكل من الفريقين يتسمى بجامعة أدباء العروبة!
ونعود إلى العجب من تنازع الفريقين اسماً ليس أحدهما حقيقاً به، لأن المتبادر إلى الذهن من هذا الاسم أنه علم على جامعة عربية أدبية، أي جماعة من رءوس الأدباء في البلاد العربية المختلفة، وليس بين هؤلاء ولا هؤلاء واحد منهم، على أن الصفة الغالبة على الرئيسين هي السياسة، فلو أنهما تخليا عن هذه الرياسة لانصرف كل من الفريقين إلى شأنه
علية بنت المهدي والعصائب:
نشرت جريدة (أخبار اليوم) صورة كتبت تحتها: (تسريحة للشعر عرضت في المؤتمر الدولي الثاني للحلاقة الذي عقد في باريس، ويلاحظ تأثير الذوق الشرقي في الحلية التي تستر جزءاً من الجبين في حالة اتساعه عن المألوف.)
صحيح أن هذا ذوق شرقي، ولكن ما أصل هذا الذوق؟ يخيل إلي أنه يرجع إلى علية بنت المهدي أخت الرشيد، فقد أثر عنها أنها كانت من أجمل النساء، لكن بها عيب، كان في جبهتها سعة تشين وجهها، فاتخذت العصائب المكللة بالجوهر لتستر بها جبينها، قال صاحب الأغاني في ذلك:(فأحدثت والله شيئاً ما رأيت فيما ابتدعته النساء وأحدثته أحسن منه)
وما أخال إلا أن هذه (المودة) قد انتشرت بمحاكاة عليه، وسارت بين النساء على اختلاف الأجيال وتعاقب الأزمان حتى الآن، وها هي ذي تأخذ طريقها إلى باريس. . .
وتلك هي سنة الناس في ابتداع (المودات) وانتشارها، وما أظن كثيراً من أوضاع الملابس التي نرتديها الآن، كربطة العنق وثنية السروال، إلا من عيب كان بأحد الناس في سالف الزمن، أو اضطرار لمواجهة حالة، أو ما إلى ذلك.
قصة زواج أم كلثوم
إن كان حقيقياً ما يقال وما تدل عليه الدلائل فقد انخدعنا - كما نخدع سائر الناس - في ما كتبنا بالتعقيبات الماضية عن زواج أم كلثوم، إذ أيقنا أن هذا الزواج أو العزم عليه حقيقة واقعة، وكانت طريقة إذاعة النبأ تحمل على الوثوق به، ولكن يظهر أنها طريقة أمريكانية.
أسبوع واحد جرت فيه الأعاجيب: استعداد تام لعقد الزواج الذي لا بد أن يكون قد فرغ من بحث مقدماته، فإذا المقدمات تتأخر عن ظرفها حتى تبرز في هذا الأسبوع المسحور فتعرف أم كلثوم أن خاطبها متزوج، فترده! ولا ينبغي أن تسأل لم لم تعرف من قبل؟ وهل يخفى مثل ذلك في مثل هذه الحال؟! ليس لك هذا، لأن الأسبوع المسحور يجب أن يتسع لكل شئ
قالوا لأم كلثوم: إن بعض (أفلامك) لم تنجح أخيراً، لأنه لم يعمل لها الدعاية اللازمة، وسنكفيك هذا الأمر، فالرواية من عندنا، والدعاية علينا. . .
ويزاد في ذلك أن ما نشر عن هذا الزواج هو الحوادث الأولى في (الفلم) الجديد الذي يلحن أغانيه محمود شريف وقد يغني فيه من قلبه المفجوع. . . وتغني أم كلثوم مصورة أحاسيسها وانفعالاتها. . .
وسواء أكان ذلك صحيحا أم لم يكن فإن أم كلثوم ليست بحاجة إلى دعاية ولا إلى نجاح (أفلام) ففنها يتركز في أنها (مطربة حفل) وهي ناجحة فيه (بدرجة فوق الممتاز) وهذا حسبها، وأكثر ما يجنى من الدعاية للقائمين بها. . . أما أن هذا لائق أو غير لائق فهو موضوع آخر، وإن كان يجب ألا يغفل حسابه. . .
البريد الأدبي
في النحو:
نقد الأستاذ عباس حسان خضر في مقالة له في (الرسالة الغراء) - 702 - الأستاذ ميخائيل نعيمة في مقالة له في (الكاتب) الغراء في قوله (مجيعون) لبنائه اسم الفاعل من (جاع) اللازم مثل هذا البناء وفي قوله (ويخاطبونا) لحذفه نون الرفع من الفعل. واليقين أن الأستاذ نعيمة بنى ما بنى من (أجاع) لا من (جاع) ومعناه أنا نجوع ونجيع غيرنا (جائعون ومجيعون). وإذا كان للحماسي أن يقول:
كل له نية في بغض صاحبه
…
بنعمة الله نقليكم وتقلونا
وللإمام محمد بن إسماعيل البخاري أن يروي في كتابه المشهور:
(. . . وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون بها الله إلا أعطيتهم إياها)(. . . قال إبراهيم وكانوا يضربونا على الشهادة والعهد ونحن صغار)(. . فقال أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً. . .).
إذا كان للحماسي أن يقول ما قال وللإمام البخاري أن يروي ما روى فللأستاذ ميخائيل نعيمة أن يكتب (ويخاطبونا). قال الإمام التبريزي في (تقلونا) حذف النون الثانية عن الإعراب وهو لغة حجازية، وعلى هذا قول الآخر:(إلى من بالحنين تشوقيني).
والحذف عند التقاء النونين في كلام الأقدمين والمحدثين في شعرهم ونثرهم - كثير.
(السهمي)
(حول كتب وشخصيات):
كتب الأستاذ (عباس حسان خضر) في عدد الرسالة الماضي كلمة مشكورة عن كتابي الأخير: (كتب وشخصيات)
وطبيعي أن يكون له ولغيره من القراء والنقاد وجهة نظر في بعض المسائل تخالف وجهة نظري، ولا سيما في كتاب نقد يتناول عدداً كبيراً من الشخصيات الأدبية تختلف حولهم الآراء.
ولكني أحسب أنه من حقي كذلك أن أوضح وجهة نظري للقراء في مواضع الخلاف:
1 -
قال: إنني قررت في كتابي أن الأدب العربي (يغلب عليه طابع المعاني العامة المتبلورة، والقضايا الذهنية الكلية، ويطالع القارئ بنتيجة التجربة النفسية لا بطريقتها التي تشغل الحس وتستثير الخيال، وهو فقير في الصور والظلال. . الخ) ثم قال: (والأستاذ سيد يطلق هذه القذائف في وجه الأدب العربي، ثم يخلو إلى قطع مختارة من الآداب الغربية والهندية والفارسية معظمها من كتاب (عرائس وشياطين) للأستاذ العقاد فيعكف على ما فيها من الميزات التي جرد منها الأدب العربي، ويأتي من الشعر العربي بما يراه مجرداً من اللحم والدم. . . وهذا صنيع عجيب لأن القطع غير العربية التي أتى بها مختارة، والأستاذ سيد لم يطلع على كثير غيرها في آدابها. . . الخ) وكان فيما قاله! (وقد أجاد في تطبيق أسس النقد العام على الأمثلة التي اختارها، لولا (شنشنة) ما كنا نود أن يكون (أخزمها) فقد حرص في كل فصل من الفصول الأولى عند ذكر ميزات وقيم الفنون على أن يجرد أو ينقص نصيب الأدب العربي منها)
فأحب أن أقول للأستاذ: إنه ليس بيني وبين الأدب العربي عداوة تحملني على أن (أحرص) على تجريده من المزايا. فثقافتي عربية ودائرة بحوثي على وجه عام هي الآداب العربية. ولكنني (ناقد) يجمع الخصائص ويقدر القيم ويضع القواعد. فإذا لاحظت من مجموع دراستي فقر الشعر العربي في الصور والظلال بقدر احتشاده بالمعاني والأفكار - كما قلت - فإن محبتي للأدب العربي لا يجوز أن تقف بي عند تقرير هذه الظاهرة بإخلاص.
أما مدى دراستي للشعر العربي وهي التي تخول لي إصدار هذا الحكم، فتلك مسألة بيني وبين ضميري الأدبي، وأنا مستريح من هذه الناحية. ولعل مما يطمئن الأستاذ أن لي بحثاً كاملا عن (الصور والظلال) في الشعر العربي رجعت فيه إلى كل ما يملك فرد أن يرجع إليه من مصادر الشعر العربي، وهذا البحث لم ينشر بعد ولكنه بين يدي. والإحصاء الدقيق النسبي يقرر هذه القاعدة التي قررتها عن الشعر العربي بدون حاجة إلى الموازنة بين هذا الشعر والشعر العالمي الذي قد تنقضي مصادره على نحو واسع.
وأحب مرة أخرى أن أقول للأستاذ أنني في الموازنة التي قمت بها لم يكن كل اعتمادي ولا جله على مجموعة (عرائس وشياطين) ففي المكتبة العربية الآن مجموعة من الشعر
العالمي - ليست مختارات فحسب - تكفي لبيان الاتجاه العام في التعبير. وبينها وبين الشعر العربي فوارق أصيلة في طريقة تناول الموضوع والسير فيه، وفي طريقة التعبير.
وإذا كانت للشعر العربي القديم ظروف تاريخية وعقلية خاصة جعلته يختار طريقه، ويكون تقاليده، فإن من واجب النقد في العصر الحديث أن يكشف عن الطرائق الأخرى لينتفع بها من يريدون التجديد الداخلي العميق لكيان الشعر في العصر الحديث.
على أنني حرصت على الاختيار من الشعر الفارسي والهندي والمصري القديم، ومن (الكتاب المقدس)، ومن (القرآن الكريم) لبيان خصائص التصوير والتظليل التي تقاس في الشعر العربي، وهي مصادر كاملة في المكتبة العربية لا مختارات.
ولو رجع الأستاذ إلى نقد: (ابن قتيبة)، وأبي هلال العسكري للأبيات:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
أو للبيتين:
إن الأولى ذهبوا بلبك غادروا
…
وشلا بعينك ما يزال معينا
لعلم أن النقد العربي القديم لا يقيم وزنا للصور والظلال ولا يعدها قيمة فنية من قيم الشعر. . . وهذا وحده يكفي.
2 -
قال: (ولم يكن المؤلف منصفا كل الإنصاف في الموازنة بين شوقي وعزيز أباظة في الرواية الشعرية ومرد ذلك فيما ألمح إلى ما استقر عنده من هوان أمر شوقي في الشعر، وقد بدا تحامله على شوقي في نقد الأبيات الآتية من مجنون ليلى:
لم إذن يا هند من
…
قيس ومما قيل تبرا
أنعم (مناز) مساء
…
سعدت سعد مساء
أوغل الليل فليقم. بل رويدا
…
واسمعي (ليلَ. . .)
(يأخذ عليه في البيت الأول تسكين ميم (لم) وتسهيل الهمزة في (تبرا) وفي الباقي ترخيم منازل وليلى، ويعد هذه ضرورات يعيبها عليه، مع العلم بأن تسكين ميم لم، وتسهيل الهمزة كثير جداً في الشعر ولا غبار عليه، أما ترخيم المنادى فليس من الضرورات. . . وهذا وذاك وذلك أمور مستساغة بل كثيراً ما تستعذب وتستملح).
وهنا أجدني آسفا لأن الأستاذ لم يعرض وجهة نظري كاملة. فلم تكن تلك الأشياء التعبيرية
هي التي أخذتها على شوقي في الصميم، إنما كان الذي أخذته هو الضعف في رسم الشخصيات والخوالج النفسية الإنسانية في أبطال الرواية، والتفكك الفني في سياقها، والخطأ في رسم نفسية (المجنون) وعواطفه. . . الخ وقد برهنت على هذا بالأمثلة التي أستطيع نقلها هنا. أما هذه الضرورات فقد لاحظت كثرتها كثرة شديدة، تخرج عما يستعذب ويستملح)، مما لا يلجأ إليه إلا صغار النظامين الذين تعوزهم المرانة. . . وقد استغربت هذا من شوقي فقلت:
(ومن العجيب أن تخون شوقي في روايته الشعرية أقوى خصائصه التي بهرت أهل زمانه، وهي قوة الأداء، ووضوح التنغيم) فهذا عيب إذن خاص بالروايات لا بشوقي الشاعر، كما بينت هناك في وضوح. وقد ذكرته على الهامش ولم يكن هو صميم النقد.
3 -
وقال: (ومما أخطئه الإنصاف فيه نقده لتيمور إذ يصف فنه بالفتور، وبأنه يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحيوية. وهو في هذا يصنع موازين (غير مختومة) ويزن بها.
(فهذا أديب وديع يصدر عن أدبه عن ذات نفسه فيؤثر فيه اللطف والدعة. أليس هذا من (الصدق الذاتي) في الأدب؟ أولا يكون الناتج معجبا إلا إذا صخب فيه الأديب وعربد؟). . .
ومرة أخرى أجدني آسفا لأن الأستاذ لم ينقل حقيقة رأيي ولم يعرض مواضع نقدي (فأخطأه الإنصاف) فيما يقول:
فالذي يقوله الأستاذ هنا بديهية لا تبلغ بي الغفلة ألا ألتفت إليها. وليس كل أديب مكلفا أن يخصب ويعربد. وليست الدعة واللطف بأقل أصالة في الفن من الصخب والعربدة.
ولكن أكان هذا مأخذي على فن تيمور؟
أرجع إلى كتابي ص185 فأجدني أقول:
(لقد كان لتيمور الحق أن يتبوأ مكانه الذي ينسبه إليه بعض من يكتبون في النقد هذه الأيام، لو أنه وفق إلى منح الحياة لأبطال أقاصيصه وبث الحياة في تضاعيفها - ولو إلى حد، ولكنه - فيما عدا القليل من هذه الأقاصيص - يخونه التوفيق في إطلاق روح الحياة المتحركة. . .)
(ولطالما خيل إلي - وأنا أجول بين شخوص تيمور - أنني في (متحف الشمع)، فتماثيل الشمع هي التي تمثل هذه الشخوص أوضح التمثيل. . .)
(ويحاول تيمور أن يرسم نماذج بشرية من خلال شخصيات محلية، وهي محاولة لو أفلحت لأنشأت فنا إنسانيا رفيعا؛ ولكنه فيما يخيل إلي بعيد كل البعد عن (الناس) وعن البيئة. فالناس - حيث كانوا - لا يتصرفون هذه التصرفات مجتمعة. والناس في مصر ليسوا كما يتوهمهم المؤلف لا في طبيعتهم ولا في أحاديثهم، ولا في خلجاتهم النفسية ولا في سمة من السمات المحلية الكثيرة التي تبرز طابعهم. إنهم ليسوا مصريين لأنهم ليسوا آدميين)!
هذه هي المآخذ الأساسية: فقدان الحياة. أما حكاية الصخب والعربدة فقد جاءت في كتابي هكذا:
(إنه لا يخطر لهذه الشخوص - مرة واحدة - أن تنفعل انفعالا قويا - كما يقع للآدميين - وحتن تنفعل يبدو التكلف والبعد عن الحقيقة البسيطة. . .)
(والحركة العنيفة ليست مطلبا في ذاته؛ ولكنها علامة من علامات الحياة تصدر من البنية الحية في ميعادها فتدل على الحياة الكامنة فيها).
هكذا قلت. وأحسبني كنت أعرف هذه البديهية الواضحة.
إن (تيمور بك) يجد دائماً وفي كل عمل يعمله من يشيد بفضله على الفن، ومن يصعد بفنه إلى السماء. دائماً دائماً يجد من يقول له هذا. فإذا وجد ناقد يملك أن يتخلص من كل الملابسات ليقول مرة واحدة كلمة حق، فيجب أن يكون لهذا الكلمة مكان في وسط التعاويذ والرقي ومجامر البخور!!!
وإلا فأسباب المودة الآسرة التي تربط تيمور بك بنقاده جميعا كانت كفيلة بأن تنطقني بغير ما نطقت. فأنا أتمتع بها والحمد لله. وليس هناك ما يدعوني ألا أنصف ذلك الرجل الوديع الودود.
وبعد فشكرا للأستاذ عباس حسان خضر على جميع الحالات.
سيد قطب
ملتن:
بقي في دراسة الأستاذ الخفيف للشاعر ملتن بعض الكلام أرجأه إلى أن تنشر هذه الدراسة القيمة كتاباً حتى لا تتجزأ بين السنة الرابعة عشرة والسنة الخامسة عشرة من الرسالة.