الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 705
- بتاريخ: 06 - 01 - 1947
لمن الملك اليوم؟
نبوءة من غير نبي
يعيش جارنا طاهر أفندي الكاشف بعد خروجه إلى المعاش عيشة الصوفي المتبتل، يتعبد النهار، ويتهجد الليل، ويُزَجّي ما بقي من فراغه بمطالعة الصحف ومتابعة السياسة ومراقبة الحوادث. وقد آتاه الله ألمعيّة عجيبة يستشف بها حجاب الغيب كأنه رسول ينطق عن الوحي؛ فلا يتظنن إلا تحقق ظنه، ولا يتكهن إلا وقعت كَهانته. وكثيراً ما يرى في المنام أموراً لا يلبث أن يراها في اليقظة. وربما أخذته حال من الذهول عن الوجود الخارجي تنفذ بصيرته فيها إلى غيابة المستقبل، فيكون كما يقول أشبه بالصبي الذي ينظر في فنجال (المندل) يرى ما لا يُرى، ويَسمع ما لا يُسمع!
قص علي في صباح هذا النيروز رؤيا من رُؤَى يقظته لم أجد كلاماً خيراً منها أجعله مقدمة لهذا العدد، وفاتحة لهذا العام. قال: كنت في الساعة التي تفرق بين عام وعام في تقويم الزمن، وتفصل بين فصل وفصل في رواية الحياة، قائماً في غرفتي أصلي ركعتين لله توديعاً لعام قضى، واستقبالاً لعام أهل. . . وكان الجو المتماطر القارُّ قد حبس الناس في الدور فلا أسمع في الشوارع المحيطة صوتاً ولا حركة؛ فوجدت نفسي من جلال الساعة ورهبة الوحدة وعمق السكون، كأنما تنسرح من ثوبها المادي وتندمج في الروح العام والشعور المطلق، ثم تغيب في طوايا المجهول، وتصفَحُ كتاب الغد ورقة بعد ورقة، حنى تقع على عنوان من الدم معقودٍ على ما سجلته يد الأقدار من قضايا الدول ومصاير الشعوب، فتحدّق إلى العنوان، وتدقق في السطور. ثم خيِّل إليَّ وأنا مغمض العينين أني أرى نقطة مربعة من النور تنداح في الحماليق وتنبسط حتى تصير في مثل الصحيفة الكبيرة، وأني قرأت في هذه الصحيفة كلاماً كنت في أكثر الأيام أفكر في بعضه، وقد وعته ذاكرتي حتى لأستطيع أن أؤديه إليك الآن على سرده. فقلت له أعد عليَّ بعضه إن شئت. فقال: اجعل بالك إليّ. ثم انطلق يتلو عن لوح قلبه:
(قال جون بول الماكر لصديقه العم سام بعد أن غسلا أيديهما من دم التنّين الألماني وحمدا الله على السلامة: ما هذا الدب الروسي الذي لجّ في الخلاف وأصرّ على العناد حتى كدر بجموحه صفو السلام، وزور بطموحه معنى النصر؟ ألسنا بما جاهدنا في سبيل الحرية
والحق والعدل أولياء الله وخلفاءه؛ جعل إلينا وراثة الأرض، وكتب علينا سياسة العالم؟ فما سكوتنا إذن عن هذا الدكتاتور الآخر؟ فقال سام وقد تذكر أن استجابة رزفلت لتشرشل قد كسبته نصف الدنيا: من الطبيعي أن ينبو علينا هذا الوحش ما دام طعامه غير طعامنا، وكلامه غير كلامنا، ومرامه غير مرامنا، ونحن خليقان أن ننظر في أمره؛ فما عندك من الرأي؟
قال جون بول وهو ينفض بيبَته على كعب حذائه: الرأي عندي أن نتغدى به قبل أن يتعشى بنا. وسأضع بين يديك موارد الإمبراطورية، لتضمها إلى موارد الجمهورية، فيكون منهما جميعاً ذلك السلاح الذرَّي الخفي الذي يمحو الروسيا والروس في يوم أو بعض يوم. وحينئذ نقسم الكرة بيننا قسمين بالطول أو بالعرض كما تشاء، وأترك لك أن تختار إما غرب جرينتش أو شمال خط الاستواء!
وكان الدب في الوقت نفسه يقول لخليفة استالين: ما هؤلاء الذئاب الذين لبسوا مسوح الرهبان حتى سلموا وأمنوا، وولغوا في دماء المغلوبين حتى بشموا وسمنوا، وظنوا أن قذائفهم الذرية ما نعتُهم من الله فبغوا بغي (موسو)، وطغوا طغيان (هتلر)؟ إن رسالة الشيوعية إعتاق الإنسان من رق الإنسان. ولن يزول من الأرض استعباد الأفراد برأس المال، واستعباد الأمم في سبيل المال، ما دام على ظهرها ناطق بالإنجليزية. ومن المحال أن يتحالف الخير والشر، ويتآلف الصلاح والفساد. فسبيلنا إذن أن نعمم رسالتنا، ونتمم إنسانيتنا، فنبيد هذه الجراثيم بما هيأه لنا الله من قوى المال ومعجزات العلم فيطهُر الكون ويصلح المجتمع.
وما هي إلا مواضعة الرأي بين رب الشيوعية وزبانيتها حتى انبثت عيون الروس في مخابئ إنجلترا وأمريكا تبحث عن أوكار الطاقة الذرية. وفي ساعة من ساعات الليل الكافر أُرسلت عليها صواريخ روسية ألمانية لم يصل العلم السكسوني إليها بعد. فزلزلت الأرض كلها بضع ثوان، ثم سكن الزلزال وسكن كل حيّ وأنقضَّ به كل قائم.
وأصبح الصباح الأغبر الدامي فإذا العالم قد أسلم وجهه لقوة واحدة؛ وإذا عملاق أصلع من عماليق موسكو يخرج من الكرملين كما يخرج العفريت من القمقم، فيطول ثم يطول حتى يضع رجلاً فوق لندن، وأخرى فوق واشنطون؛ ثم يقول وقد ازدهاه النصر وتملكه الفخر:
لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه في الغرب أحد! ولكنه يطلع أمامه فيرى شفقاً من سنا الشرق يغشى بلاد الإسلام من مراكش إلى تركية وإيران وأفغانستان وباكستان وقسم عظيم من ملكوت الصين، وقد تألقت في جنباته المآذن والقباب، وأشرقت من خلاله وجوه تمج أفواهها النور، وتشع أعينها الأمل، وتجيب ألسنتها بصوت واحد تجاوبته الأرض ورددته السماء: الملك لله الواحد القهار! ثم يعلو من بين هذه الوجوه وجه ترمقه الدول العربية، وترقبه الأمم الإسلامية، حتى يواجه العملاق الذاهب بنفسه، ثم يقول له: ألست تزعم أن لك رسالة تشيع وسائل العمل بين العمال، وتفك رقابهم من أغلال رأس المال؟ إن هذه الرسالة آية واحدة من آي الرسالة الإلهية المحمدية شوهتها نقائض العقل البشري بما دس فيها من إفراط وإقساط وتهور. وليس من المعقول أن يسعد الفرد وتصلح الأمة وترقى الإنسانية بإلغاء الوساطة الطفيلية بين المنتج والمستهلك وهي مشكلة واحدة من مشكلات الحياة. هناك علاقة الفرد بنفسه وقد تركتموها كعلاقة الآلة بالمحرك عليها أن تعمل ولها الوقود والزيت والشحم. وهناك علاقته بأسرته وقد جعلتموها كعلاقة الفروج بالفروج في معامل التفريخ الصناعي لا يعرف حنو الجناح ولا يدرك نعيم القنّ. وهناك علاقته بدولته وقد رددتموها كعلاقة قطع الشطرنج باللاعب ينقلها من خانة إلى خانة ولا إرادة لها ولا وعي. وهناك علاقته بربه وقد قطعتموها فانقطع نور الوحي عن ضميره وعقله. وبمثل هذه العلائق الواهنة لا يتماسك مجتمع ولا يترابط شعب. فإذا كنت صادقاً في دعواك، مخلصاً في دعوتك، فاقتبس للعالم الجديد شريعة الإسلام؛ فإنها وحدها هي النظام الذي يحقق الوحدة الإنسانية: يؤاخي بين الناس كافة في الروح والعقيدة لا في الجنس والوطن؛ ويسوي بين الأخوة جميعاً في الحقوق والواجبات فلا يميز طبقة على طبقة ولا جنساً على جنس ولا لوناً على لون؛ ويجعل للفقير حقاً معلوماً في مال الغني يؤديه إليه طوعاً أو كرهاً ليستقيم ميزان العدالة في المجتمع؛ ويجعل الحكم شورى بين ذوي الرأي فلا يحكم طاغ بأمره، ولا يصر مستبد على غيه؛ ويأمر معتقديه بالإقساط والبر لمن خالفوهم في الدين وعارضوهم في الرأي؛ ويوحد بي الدين والدنيا ليجعل للضمير السلطان القاهر في المعاملة، وللإيمان الأثر الفعال في السلوك.
عندئذ يتصاغر عظموت العملاق ويتقاصر طوله، ثم يقول في استسلام وإسلام: تلك مبادئ
الفطرة؛ فإذا كانت هي مبادئ الإسلام فسيدخل فيه الناس بالطبع، ويعتقدونه بالضرورة كلما تقدم العلم وترقى العقل وتهذب الخلق وصحت المعرفة!
أحمد حسن الزيات
المسألة الإسلامية في الهند
للأستاذ عباس محمد العقاد
قرأت في بعض الصحف المصرية خطاباً موجهاً إلى السيد محمد علي جناح زعيم الرابطة الإسلامية في الهند لم أر كلاماً أدل على الجهل بالقضية الهندية والتهجم على الشؤون الكبرى بغير علم ولا بصيرة.
ونحن قد ألفنا في صحافة مصر أمثال هذا التهجم العجيب على الشؤون المصرية الخارجية، ولكن التعرض لمشكلة الهند بمثل ذلك الجهل المطبق قد جاوز حدود التهجم المعهود في الصحافة على إطلاقها إن صح أن يكون للتهجم حدود.
فالذين أساءوا الفهم وأساءوا إلى واجب الضيافة في توجيه الخطاب إلى السيد جناح لم يفكروا في موضوع الهند وإنما فكروا في كلمة واحدة وظنوا أن كلمة الهند تقابل كلمة مصر، فهما إذن قضيتان متشابهتان يصدق على إحداهما ما يصدق على الأخرى بلا اختلاف ولا حاجة إلى بحث طويل أو قصير لمواطن ذلك الاختلاف.
وهذا هو الخطأ الأول.
وهذا كذلك هو الخطأ الأكبر.
فمصر غير الهند في كثير من الاعتبارات، ولا سيما اعتبارات القضية السياسية؛ لأن مصر قومية واحدة، تتكلم بلغة واحدة وتشترك في مرافق واحدة، ولا توجد فيها أقليات منعزلة أو قابلة للعزلة في حيز المكان أو في المصالح الاجتماعية.
أما الهند فعلى نقيض ذلك لا تشمل على قومية واحدة بأي معنى من معاني التعريف الحديثة أو القديمة.
فاللغات واللهجات فيها متعددة تتجاوز المائة، وقد شهدنا بأنفسنا ثلاثة أو أربعة من الهنود المتعلمين يجتمعون في مكان واحد ولا يستطيعون التفاهم بينهم بغير اللغة الإنجليزية، لأنهم يتكلمون في بلادهم بلغات شتى تختلف في الأصول، ولا ينحصر الاختلاف بينها في مجرد اللهجات.
واختلاف الأديان هناك أكبر من اختلاف اللغات واللهجات؛ لأن البرهمية وحدها مشعبة الفرق والمذاهب، متعددة الفرائض والشعائر، فضلاً عن البوذية وطوائفها، وعن الفرق
الأخرى التي نصفها من الإسلام ونصفها من الديانات الوطنية القديمة كالفرقة المشهورة باسم (السيخ) وعدتها نحو سبعة ملايين.
وليس اختلاف الأديان بمعزل عن المسائل الاجتماع وما يلابسها من مسائل الحقوق المدنية والتشريعية.
فإن البراهمة يدينون بالطبقات الأربع، ويحكمون بالنجاسة على طائفة تسمى بالمنبوذين أو الذين لا يجوز لمسهم قد يتجاوز عدد أبنائها في الهند خمسين مليوناً من النفوس البشرية، ولا ذنب للعالم البشري في اعتبار هؤلاء القوم من الآدميين إذا كان البراهمة لا يعتبرونهم كذلك، لعقيدة من العقائد التي هجرها الزمن ويأبى أن يهجرها البرهميون!.
ويظهر لنا مبلغ التعصب في رعاية هذه التقاليد من حقيقة واحدة، وهي أن المهاتما غاندي على اعتباره مثلاً في السماحة الإنسانية قد أنذر بالصيام حتى الموت إذا منحت هذه الطائفة دوائر معينة في قانون الانتخاب.
وفي الهند ثمانون أو تسعون مليوناً من المسلمين لا يعتبرون قلة في قومية واحدة بأي معنى من معاني القلة المصطلح عليها؛ لأنهم كثرة غالبة في بعض الأقاليم، ولهم أصول جنسية ولغة مكتوبة غير التي تشيع بين جمهرة الهنود. وقد يزيد عددهم على العدد المسجل في دفاتر الإحصاء؛ لأنهم يثبتون وثائق زواجهم في غير دواوين الحكومة، ولا يرجعون إلى تلك الدواوين في وثائق الولادة والميراث.
وتشتمل الهند على مائة مليون موزعين في سائر الأرجاء يحكمهم أمراء مستقلون أو على نصيب من الاستقلال.
وقد بينا هذه الحقيقة قبل سبع سنوات في كتابنا عن هتلر حيث قلنا في صفحة 158 منه إن (بين الأمم المستقلة والأمم التابعة أمماً كأهل الهند يتقدمون في طريق الاستقلال، وقد تكون للنازيين مصلحة في الحلول من أهل الهند محل الإنجليز. . . ولكن ما هي مصلحة أهل الهند؟ وما هي مصلحة العالم؟ وما هي مصلحة الأمم الغالبة أو الدول المغلوبة؟ وما هي مصلحة الأمم الواقعة في الطريق؟.
(على أننا لم نذكر الهند لنقرر هذه الحقيقة، فهي غنية عن التقرير، وإنما ذكرناها لنقول إن الحالة الحاضرة في الهند لا ترجع إلى العوامل الخارجية كما ترجع إلى العوامل الداخلية،
وإن بريطانيا العظمى لو رفعت يدها اليوم عن تلك البلاد لما زالت جميع الحوائل بينها وبين قيام الحكومة الوطنية الشاملة، ولا قاربت الزوال.
(فهناك الأمراء الحاكمون في ولاياتهم وهم لا يتفقون ولا يرضون أن يحكمهم مجلس في عاصمة بعيدة عن عواصم الإمارات.
(وهناك المسلمون وهم كثرة في بعض الأقاليم وقلة في بعض الأقاليم الأخرى، ولو شملتهم حكومة واحدة لأصبحوا قلة ضائعة في جميع الأقاليم.
(وهناك المنبوذون وهم عشرات الملايين ينظر إليهم البراهمة نظرتهم إلى الرجس الذي يفرقون من ظله، ولا خير لهم في حكومة تضعهم هذا الموضع وتهملهم هذا الإهمال.
(وهناك اختلاف الأقاليم في الأجناس واللغات وعناصر الثروة ومعادن التربة الزراعية، مما لا يجتمع نظيره إلا في قارة من القارات الكبار.
(فمسألة الهند العضال ليست مسألة السيادة الخارجية وحدها سواء كانت عالمية أو مقصورة على بعض أجزاء العالم. إذ لو فرغت كل سيادة عالمية في الدنيا لما فرغت المسألة الهندية، بل لعلها تبدأ يومئذ من جديد. . .).
نعم تبدأ على نحو لا يخطر على بال أولئك الواهمين الذين يحسبون (الهند) كلمة ولا تزيد معرفتهم بها عن هجاء حروف هذه الكلمة.
فإن نهرو زعيم المؤتمر الهندي شيوعي وليست الشيوعية على مسافة بعيدة من الحدود الهندية، وليس طريق الزحف العسكري على الهند بالطريق المسدود.
وعصبيات الدين في داخل البلاد أعجب ما عرف الناس من مصائب المصيبات في جميع الأقطار.
ففي تلك البلاد أناس يقدسون البقر ويحكمون بالنجاسة على خمسين مليوناً من النفوس، ويتحرجون من ذبح البقر وقد ذبحوا في بيهار وما جاورها أربعين ألف مسلم، لأنهم تقربوا بضحاياهم في عيدهم الكبير!.
فأوجز ما يقال في مشكلة الهند أن حكمها كلها بدستور واحد من هيئة واحدة وراء المعقول والميسور.
وإن نظام (الباكستان) ليس بالنظام العجيب كما يبدو للوهلة الأولى، ولا يمكن أن يوصف
بأنه انشقاق وطني عن قومية واحدة، كما تخيله بعض الواهمين في هذه الديار.
ولم نقرأ في صحافتنا مقالاً يدل على الإحاطة بحقيقة المشكلة كالمقال الذي كتبه الدكتور هيكل باشا في صحيفة السياسة حيث قال في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر الماضي: (ويدل على هذا الجور كذلك أن الهند ليست أمة لها مقومات الأمة من اتحاد في اللغة أو في العقيدة أو في العنصر، بل هي أدنى إلى أن تكون قارة بين أديانها ولغاتها وعناصرها من التباين ما يزيد أضعافاً على ما بين دول أوربا. .)
وقال قبل ذلك: (ما كنا لنعالج هذا الموضوع لولا ما نرى في التعريض بالمسلمين من الدعاة إلى الباكستان من جور لاشيء من الإنصاف فيه. يد على هذا الجور أن هؤلاء الدعاة إلى الباكستان لم يطلبوا أي امتياز للأقليات الإسلامية الموجودة في سائر ولايات الهند. .)
وهذه صورة قريبة من صورة المشكلة الكبرى التي يعالجها نظام الباكستان. ونحن لا نقرر هذه الحقيقة لأن الباكستان في رأينا يحل المشكلة ويحسم الخلاف، فإن الباكستان يحل بعضاً منها ويترك بعضها الآخر في انتظار الحلول. ولكننا نقرر تلك الحقيقة ليعلم الواهمون عندنا أن الهجوم على المسائل العالمية هجوم على ما يجهلون وخلط في أمور لا تؤمن عاقبة الفتوى فيها بغير علم وبغير روية، وإن الحكاية ليست حكاية كلمة إزاء كلمة وثلاثة حروف إزاء ثلاثة حروف، ولكنها حكاية أمم وأرواح وقضايا تجور على سلام العالم كله إذا عولجت بغير حقها من الفهم والدراية وحسن التقدير لعواقب الأمور.
أما النقص في نظام الباكستان كما نراه فخلاصته أن الأقاليم التي يراد لها الاستقلال لا تأوي إليها جميع المسلمين وليس سكانها جميعاً من المسلمين، وان الرابطة الإسلامية يتبعها عدة ملايين وينفصل عنها فريق آخر بعضهم من الشيعة وبعضهم من السنيين، وأن تبادل السكان بين الأقاليم الإسلامية والأقاليم الهندوسية لتسوية عناصر القلة في جميع الأقاليم ليس بالحل الميسور ولا يتأتى إتمامه في بضع سنوات.
فربما كان نظام الاتحاد على المثال المتبع في الولايات المتحدة أقرب إلى تسوية المشكلة مع الأخذ بالأساس المقرر في نظام الباكستان.
وعلى ذكر الولايات المتحدة الأمريكية نعود إلى الواهمين ليفهموا مرة أخرى أن تقسيم
الولايات شيء وجريمة الانشقاق شيء آخر، وأنه إذا جاز هذا التقسيم في بلاد كالبلاد الأمريكية لا تفرق بين أبنائها أمثال تلك الفوارق ولا تعترضهم أمثال تلك المشكلات، فنظام الباكستان في الهند أحق بالتدبر والمعذرة أدنى إلى القبول.
عباس محمود العقاد
الفقر آفة البشر
كيف عالجه الإسلام
لصاحب السعادة الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا
الفقر أعظم آفات الاجتماع البشري، وأعظم ما يثير السخط على الحياة، وأشد ما يفجع الناس في حياة الكرامة والسكينة والاطمئنان، ويثير بينهم الحقد والبغضاء، ويرميهم بحروب الطبقات وحروب الأمم، فإذا عولج المجتمع منه نجا من آثار قرينيه وهما الجهل والمرض اللذان يتبعانه ويكوّنان معه ثالوث الشقاء الإنساني الذي إذا خلا منه وجه الحياة بدا جمالها ورضى الناس عن الحياة ورضى الله عنهم. . . لقد نظر الإسلام في حال الفقير فرآه إما أن يكون عاجزاً عن الكسب لعلة به، وإما أن يكون عاجزاً عن الكسب لفقد الوسيلة إلى العمل.
فأما الذي يعجز لعلة لا علاج لها فقد جعل مواساته حقاً على المجتمع لا تبرعاً وتطوعاً. قال الله تعالى (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) فصان بذلك كرامته الإنسانية.
وأما الذي يعجز لفقد الوسيلة إلى العمل فقد أوجب على الدولة إيجاد الوسيلة لتكسبه، وقد قنح الإسلام السؤال ودعا المسلم للترفع عنه، فاليد العليا خير من اليد السفلى. وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائلاً درهماً وأمره أن يشتري به فأساً وحبلاً ويحتطب، ولا يتعرض لذل السؤال.
والأصل في الإسلام هو العمل والتكسب، وقد حض عليه بجميع الوسائل، حتى لقد فضله على الانقطاع لعبادة الله، ولكنه كذلك أنصف المجتمع بإلزام الدولة أن تعين على إيجاد العمل لمن لا يجده، وأن تحمي من يعجز عنه.
وقد أراد الإسلام أن يجعل مستوى المعيشة متناسقاً ومتقارباً بين أتباعه، فحارب الترف في أعلى المجتمع، وطار البؤس في أسفله، وأتخذ لذلك وسيلتين: وسيلة الضمير وهي أقواهما، ووسيلة القانون، فجعل الحياة السعيدة الخالدة لا تنال إلا بالإنفاق على المستحقين من الأهل والأقربين والمساكين، ولا ينال متاعها المسرفون الذين جعلوا شهواتهم في هذه الحياة أهدافهم.
جعل ضمير المسلم لا يستريح إذا طعم ولبس وتمتع، وجاره ومن حوله قد عجزوا عن القوت؛ وحضه حضاً قوياً على البذل والقناعة والحد من شهواته في سبيل إغاثة الملهوفين والمحتاجين؛ حتى لقد أمر أن يطعم السيد الخادم مما يطعم، ويكسوه مما يكتسي.
قال المعرور بن سويد (رأيت أبا ذر رضي الله عنه عليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه).
ولم يكتف الإسلام بإيقاظ الضمير لهذا، بل جعل للدولة أن تقتضي من فضلة مال الفرد مقادير لا يستهان بها لتكفل بوسائلها هي أيضاً حاجات الفقراء والمساكين.
وفي الحقيقة حين يحارب الإسلام الترف والاكتناز والربا ويقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. هذا ما كنزتم بأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) وحين يقول: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وحين يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) وحين يقتضي الزكاة على الأموال المكنوزة ويحرم الربا، إنما يريد بذلك كله أن يرفع مستوى الطبقات الفقيرة ويخفض من مستوى المترفين، ليجعل حياة الجميع سعيدة متناسقة.
فتحريم الترف يوجه الأموال إلى إنتاج أكثر فائدة للجميع، وتحريم كنزها يوجب تداولها، وتداولها من غير ربا يؤدي إلى المشاركة فيها. وإذا لم يجد الناس في الترف لذتهم وجاههم، وجدوهما في الإحسان والبر. وإذا لم يجدوا في الكنز ضمانا لهم وجدوه في ضمانة المجتمع الإسلامي المتكافل الذي لم يهمل أحداً، ولم يحتقر أحداً. وإذا لم يجدوه في الربا وجدوه في لذة الكسب والمشاركة مع إخوانهم الذين يعملون في أموالهم.
ولو قامت الدولة بواجبها في كفالة المتخلفين من إخواننا لما يصيبهم في أنفسهم أو أبدانهم، أو مما يصيبهم من انقطاع السبل بهم مع رغبته في العمل، وذلك بأن تكون سياستها قائمة على أساس التكافل الذي جاء به الإسلام في قول رسوله (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) فوزعت الصدقة على من لا سبيل له غير الصدقة،
ووزعت العمل على الناس بقصد الخير العام ولو على سبيل الإجبار على عمل معين للقادر عليه، لقاتلت هي أيضاً الفقر بوسائلها الفعالة.
وقد جعل الإسلام في هذا سلطات واسعة لولي الأمر، فله في سبيل الإصلاح العام أن يحدث أقضية بقدر ما يحدث من المشكلات، وله أن يكيف الأحوال لتسير وفق الغرض الأساسي للإسلام، وهو الإحسان.
وقد قرر الإسلام في وضوح وعزم مبدأ المساواة، وهو أعظم المبادئ في مقاومة الشرور الاجتماعية وأخصها الفقر، وجعل هذه المساواة مستقرة في ضمير المسلم، ومالكة زمام تصرفاته في العبادة والمعاملة والأدب.
ومن فضل الدعوة المحمدية على البشر أنها تبغض في الاستعلاء والترفع على الناس، حتى ليكاد المسلم يفر من مجرد الخاطر الذي يخطر بذهنه بأنه أفضل من غيره. والمسلم الصادق لا يضمر في نفسه أنه خير من خادمه مع سيطرته عليه.
والله تعالى يشتد على الرسول نفسه ويعاتبه بالقرآن، لأنه تصدى لقوم من رؤوس العرب يرجو من وراء إيمانهم إيمان أقوام يتبعونهم، وتلهى بهم عن رجل فقير ضعيف جاء راغباً في الأيمان فقال:
(عبس وتولى أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى فأنت عنه تلهى)
ولست تجد في أي تشريع احتفالا بالفقراء واعتناء بشأنهم مثل ما جاءت به الدعوة المحمدية، إذ تحض المسلمين على رياضة أنفسهم على احترام الغير وتقديره (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء، عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).
ومتى رسخ هذا المعنى في أذهان الملوك والحكام والعامة والفقراء والأغنياء والملاك والعمال كما أرادته الدعوة المحمدية، استحالت الفرقة الاجتماعية وما يثيرها من حسد وبغض، وما يترتب عليها من خلاف وشر ثم قتال وحرب، وما يكون من تسلط الأقوياء على المستضعفين، أو ما يكون من ظهور المستضعفين واستذلالهم لمن كانوا أقوياء.
ظاهر إذاً أن مبدأ المساواة بالمعنى الإسلامي هو من أكبر دعامات البر وأفتك الأسلحة بآفة الفقر.
وقد دعا الإسلام إلى البر بكل وسيلة، دعا إليه بالترغيب والترهيب، ودعا إليه بقوة القانون والدولة، فقال تعالى:(يمحق الله الربا ويربي الصدقات).
وقال (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقال (أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين) وقال. (كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين).
وكتاب الله وحياة رسوله يفيضان بفضل الإنفاق في سبيل الله، واتخاذ الدنيا مطية للآخرة. ولم يكتف صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم بأن تكون دعوته موجهة بكل قوتها للبر بالفقراء والمساكين والضعفاء والمصابين والمعوزين، بل جعل البر بهم حقاً مفروضاً لا سبيل إلى المماطلة فيه، حتى إن العرب لما ارتدت عن دفع الزكاة عقب وفاة الرسول، ونصح الخليفة الأول بأن يداريهم، وقد تفاقم الشر، قال رضى الله عنه (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه). أي أنه يوجه كل قوى الدول لقتال قوم يمنعون حق الفقير فيما قيمته قيمة حبل يعقل به بعير.
فحقوق الفقراء في الدول الإسلامية مصونة، وليس لأحد أن يمن بها فهي حق الله في ماله وكسبه وملكه، وقد بينت الشريعة الزكاة وأنواعها وكيفية أدائها، كما بينت مستحقيها وما لهم وما عليهم بتفصيل دقيق.
وكان من أثر الدعوة المحمدية للبر والإحسان تلك الأوقاف المحبوسة على الخير في المشرق والمغرب، وكان من أثرها أن تطهرت نفوس المسلمين، حتى حبسوا من أملاكهم على القطط والكلاب والحيوانات. ومن أمثلة هذا أن نور الدين محمود وقف أرضاً في دمشق لتكون مأوى للحيوان الهرم، يرعى فيها حتى الموت.
وتاريخ المسلمين في كل أوطانهم بفيض بالبر والعطف والرحمة بالبؤساء والغرباء، وما الكرم الذي كان به فخر البيوت والأسر والشعوب إلا أثر من آثار روح البر والإحسان الإسلامي.
ولم يكن البر في الدعوة المحمدية خاصاً بأهل الجنس أو الدين، ولكنه كان عاماً للمساكين
من البشر، فما منع اختلاف في الدين دون البر. قال تعالى:(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين)(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)
وتنظيم البر في العصر الحاضر يجب أن يقوم على نفس الأسس والوسائل التي جاءت بها الدعوة المحمدية، لأنها أفعل وأدوم، ولكن يجب كذلك أن نتصرف ونجتهد كي نحقق المقصد والغاية، وأن ننظر في عصرنا، وموارد الثروة فيه، ومصادر الغنى، وحالات الناس لنكفل الخير للجماعة ونرضي الله سبحانه وتعالى، حتى يعود للظهور بيننا من كانوا يأبون أن يتعرضوا لوجوب أداء الزكاة عليهم بإنفاق أموالهم كلها، حتى قيل لبعضهم كم يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال: أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم، وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع.
ولهذا المعنى تصدق أبو بكر رضى الله عنه بجميع ماله، وعمر رضى الله عنه بشطر ماله.
ولا عجب فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وروح الدعوة المحمدية واضحة في أن الزكاة وحدها لا تبرئ أموال المسلمين من حقوق المحتاجين فيها، فما دام محل للبر والصدقة فهي واجبة، وحق المسلم لا ينتهي بأداء الزكاة.
يجب إذاً أن نستلهم من شريعة الإسلام الهدى، وأن نستوحي من روح الدعوة المحمدية نظاماً للبر تقوم عليه الدولة، لتوازن بين الثروات والحاجات، وتقيم التكافل الاجتماعي، ونقضي على حرب الطبقات (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
عبد الرحمن عزام
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره
للأستاذ محمد عرفه
مدير الوعظ والإرشاد
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين)
ما روعتني آية من كتاب الله ما روعتني هذه الآية، وما قرأتها قط إلا ارتعدت فرائصي وخيل إلي أن الأرض تدور بي الفضاء، ذاك لأنها توجب أن يؤثر المؤمنون الله ورسوله والجهاد في سبيله على الآباء والأبناء والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن، ولا ترضي منهم أن يؤثروا الله ورسوله والجهاد في سبيله كما يؤثر المرء الدواء المر البشع، بل لا ترضي إلا أن يكون ذلك الإيثار عن رضى ومحبة، فإذا دعا داعي الجهاد ودعا المال والولد والعشيرة والمسكن وجب أن يستجيب المؤمنون لداعي الجهاد عن رضى ومحبة؛ فإن لم يكونوا كذلك فليتربصوا حتى يأتي الله بأمره، وقد أبهم الله هذا الأمر لتذهب النفس في أودية الخوف كل مذهب، والله لا يهدي القوم الفاسقين الذين فسقوا عن أمر الله وانحرفوا عن الطريق القويم.
تكليف صعب شاق، وهو على صعوبته ومشقته الطريق الوحيد إلى العزة والأمن والقوة والسمو، فالأمة التي تؤثر الحق والجهاد في سبيله على ما سواهما هي التي تمهد طريقها إلى المعالي، وتسلك سبيلها إلى العزة القعساء.
أما الأمة التي انتكست فطرتها فآثرت الباطل على الحق، والدعة على الجهاد في سبيله، فأقل ما يصيبها من أنواع العقوبات الضعف والذلة والاستكانة إلى الأقوياء، والاستعباد للمغيرين، يستذلونها ويستخدمونها كما يستخدم الإنسان الحيوان الأعجم، وهذا البلاء الشديد وغيره مما يشمله قوله تعالى:(فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).
ولا عجب فالمعالي سبيلها غير معبد، ولها صعداء مطلعها طويل، وهي لا تنال على الدعة والراحة والطمأنينة والبلهنية، إنما تنال بالتعب والنصب والكد وتهذيب النفس وتقوية الخلق والإرادة القوية والعزم الشديد. إنما الذي ينال على الدعة والراحة، الهم الطويل، والحزن
الممض.
فليقس كل امرئ إيمانه بهذه الآية ولينظر أيحزن إذا فاته حظ من دينه مثل ما يحزن إذا فاته حظ من دنياه، أم هو لا يبالي بضياع دينه ويأسى على ما فاته من الحقير من دنياه.
أيجد من قوة اليقين ما يستحبه له دينه على الآباء والأبناء والأهل والعشائر والأموال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا وخيراتها، أم يجد من ضعف اليقين ما يستحب له عرض الدنيا على دينه وآخرته.
ومن خدع الشيطان ما يوسوس به في النفوس من أن هذا التكليف لم يتحقق ولن يتحقق؛ فإذا لم يحققه المرء في نفسه فله في جميع المكلفين أسوة. هذا ما يحدث به المرء نفسه، والمرء يلتمس المعاذير، ولكن التاريخ الإسلامي يحدثنا عن كثير من السابقين الأولين أنهم نالوا هذه الدرجة وكان الله ورسوله أحب إليهم مما سواها.
روى أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلة عضل والقارة وقالوا إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله معهم نفراً ستة من أصحابه فيهم زيد بن الدثنة، وخبيب بن عدي، فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع وهو ماء لهذيل استصرخوا عليهم هذيلاً فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، فقال بعضهم والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبدا، فقاتلوا المشركين حتى قتلوا وأسر زيد وعدي، وخرج بهما المشركون إلى مكة فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة، فأخذ حبيباً عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه الذي قتله المسلمون، وابتاع زيد بن الدثنة صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف الذي قتله المسلمون ببدر وبعث به أمية إلى خارج الحرم، وترامى الخبر إلى أهل مكة أن صفوان سيقتل زيداً بأبيه فخرجوا ليشهدوا مصرعه، وكان ممن خرج أبو سفيان فقال لزيد حين قدم ليقتل، أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال والله ما احب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد
محمداً ثم قتل. وأما خبيب فلما خرجوا ليصلبوه قال لهم إن وأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعاً من القتل لا استكثرت من الصلاة، ثم قال حين أوثقوه ورفعوه على خشبة: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. فاضطجع المشركون لجنوبهم حين سمعوا الدعاء، وكانوا يقولون إن الرجل إذا دعى عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه، ثم قتلوه رحمه الله، وكانت آخر كلمة قالها:
ولست أبالي حين أُقتَل مسلماً
…
على أي جنب كان في الله مصرعي
فإذا كانت محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، أكثر من الآباء والأبناء والمال والمساكن يمكن نيلها وقد نالها الرعيل الأول من المسلمين السابقين، وهي السبيل إلى العزة والكرامة، فما أحرى الأمم الإسلامية أن تربي أبناءها على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، لتنال ما ناله السابقون من العزة والتمكين في الأرض، ولتضيف مجداً طارفاً إلى مجدها التليد، ولتنجو من هذا الوعيد الشديد، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين.
محمد عرفه
الإسلام في الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
- 1 -
فتح المسلمون إيران وامتد بهم الفتح إلى كابل سنة أربع وأربعين من الهجرة ثم هبطوا إقليم الملتان؛ ولكنهم لم يستقروا به.
وكذلك حاول العرب فتح الهند من الجنوب من حيث ينصب نهر السند في البحر فغزوا غزوات حتى اعدوا للفتح عدته في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك فسير الحجاج الثقفي جيشاً يقوده ابن أخيه محمد بن القاسم ففتح إقليم السند إلى الملتان؛ ولم يتوغل الفتح العربي في الهند حينئذ؛ ولكن استقر للعرب سلطان هناك زهاء قرنين وبنو المدن وعمروا الأرض.
- 2 -
وفي القرن الرابع الهجري عزم السلطان محمود بن سبكتكين ثاني ملوك الدولة الغزنوية على فتح الهند فأعد لفتحها واحتفل وحشد واجتاز الجبال إلى سهول الهند أكثر من خمس عشرة مرة ما بين سنة 391 و417 ففتح بنجاب وكشمير وكجرات. وبقيت بنجاب في سلطان الدولة الغزنوية حتى غلب الغوريون الغزنويين على غزنة دار الملك فاتخذوا لاهور حاضرة ملكهم سنة 553. فصار في الهند حاضرة دولة إسلامية لأول مرة في تاريخها، وقد مهد فتح الغزنويين وسيطرتهم في الهند أعظمها دولة سلاطين دهلي (من 603 إلى 962هـ) وهي أول دولة إسلامية نشأت في داخل الهند.
وقد فتحت هذه الدول شمالي الهند وبسطت سلطان الإسلام شرقا إلى خليج بنغاله.
- 3 -
وفي القرن العاشر الهجري توجه إلى فتح الهند داهية عبقري لا تنشئ الأجيال أمثاله إلا قليلا: بابر بن عمر بن أبي سعيد ابن محمد بن ميرانشاه بن تيمورلنك، ورث في سنة 899هـ وسنه اثنتا عشرة سنة إمارة في فرغانة وسمرقند، ولقي الصبي من جور أعمامه
ومن غير الدهر، وتقلب الحدثان ما ذهب بإمارته بعد أن جاهد فيها سبع سنوات، فبقي ثلاث سنوات شريداً في جماعة من خلصائه وجنوده، فلما يئس من إمارة أبيه أو كاد، وجه همته العالية، وعزيمته الماضية إلى كابل ففتحها سنة 910هـ.
ولما تمكن ملكه في كابل طمح إلى الأرض الواسعة سعة آماله وعزائمه؛ طمح إلى الهند فأخذ يغزو أطرافها سنة 925هـ، حتى مكنته سياسته وعزيمته أن يمحو دولة سلاطين دهلي في موقعة بانيبات الماحقة التي انجلت عن السلطان إبراهيم اللودي قتيلاً بين خمسين ألفاً من جنده.
ويوم الجمعة الرابع عشر من رجب سنة 932 بعد موقعة بانيبات بستة أيام خطب لمحمد ظهير الدين بابر على منبر دهلي.
وبعد سنتين مزق هذا القائد العبقري جموعاً حشدها أمراء كثيرون من أمراء الهند تألبوا عليه لدرء خطره: قاد سانجا زعيم أمراء رجبوت جيشاً فيه ثمانون ألف فرس وخمسمائة فيل ومائة وعشرون قائداً. فلقيهم بابر في كندها وأدار عليهم من جنده وشجاعته وتدبيره حرباً لا قبل لهم بها فهزمهم هزيمة قاضية سنة 934هـ.
وتوفي بابر سنة 937هـ في التاسعة والأربعين من عمره، وقد وضع القواعد لدولة استمر سلطانها في الهند حتى سنة 1275 (1858م). وهي الدولة التي اتسع سلطانها، وعمت سطوتها حتى خضعت الهند كلها لسيطرتها حيناً من الدهر، وما أعرف دولة في تاريخ الهند الجاهلي والإسلامي جمعت الهند كلها في سلطانها إلا هذه الدولة.
توالى على عرش هذه الدولة ستة ملوك عظام في مائتي سنة من بابر إلى محي الدين أورنك زيب، وقد عمل هؤلاء الملوك في سياسة الهند وعمرانها وإصلاحها ما لم يؤثر عن دولة أخرى.
سن هؤلاء السلاطين سنناً في الدولة حسنة، وسلكوا طرقاً في الإصلاح مأثورة، وجمعوا حولهم - ولا سيما جلال الدين أكبر الذي ملك خمسين عاماً - العلماء والفلاسفة والأطباء والأدباء من الهند وأقطار أخرى.
وجمعوا الصناع من شتى البلاد، وشادوا من الأبنية ما يزال قائماً يملأ الرائي عجباً ودهشة، وتملأ مسلمي الهند فخراً وعزة وجلبوا إلى الهند كثيراً من أنواع الحيوان، وأشجار
الثمار والزينة، وأحسنوا الحضارة في كل مناحيها. فكان عهدهم أنضر عصور الهند فيما يعرف التاريخ.
- 4 -
كانت الدول الإسلامية في الهند خيراً لها وسعادة، جلبت إليها حضارات مختلفة، حضارات العرب والفرس والترك وحضارات أخرى أخذتها هذه الأمم عن غيرها.
كانت الدول الإسلامية في الهند قائمة بعدل الإسلام، رافعة راية الأخوة بين البشر والحرية للناس جميعاً بين أمم فيها العابد والمعبود، والمقدس والمنبوذ، والطاهر والنجس، وفيها السيد والعبد، والعزيز والذليل، وكانت داعية إلى التوحيد الخالص في بلاد تزدحم فيها الأوثان والخرافات والأوهام، وعملت ما علمه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من علوم وآداب وفنون وصناعات حتى لقد علموا تفصيل الثياب وخياطتها ولم يكن أهل البلاد بها عارفين. لقد عرفوا الإنسان كرامة الإنسان، وحرروا العقول من الأباطيل، وطهروا القلوب من الأرجاس، ونزهوا البشر عما لا يليق بالبشر، وسجلوا على التاريخ مآثر لا يزال يرددها مأثورة مشكورة.
- 5 -
ولا يزال مسلمو الهند اليوم، على كر العصور، وتتابع الخطوب، يؤدون واجبهم لدينهم وللناس جميعاً. لا يزالون يجادلون عن أنفسهم، وينافحون عن دينهم، ويدافعون عن حضارتهم، ويطمحون إلى المقاصد العليا التي يدعوهم إليها دينهم وتاريخهم وحضارتهم.
ولا تزال جماعتهم، التي تجمعها وتسوي بينها أخوة الإسلام، مفزع كل مظلوم، وملجأ كل يائس من العدل والحرية والمساواة. فمن لحق بهم ممن لاحق له، ولا حرية، ولا كرامة شملته الأخوة، وأظلته الحرية، وحي قلبه، وكرمت نفسه، ووجد السبل ممهدة له إلى أبعد الغايات، والسلم منصوباً أمامه إلى أعلى المطامح.
وأنا لموقنون أن المسلمين في الهند ماضون على خطتهم، سائرون على سنتهم، حتى يبلغوا المقصد، ويستولوا على الأمر، لخيرهم وخير الناس أجمعين.
عبد الوهاب عزام
شهيد ميسلون
للأستاذ علي محمود طه
(في فجر يوم السبت 24 يوليو من عام 1920 سار إلى ساحة ميسلون القائد السوري العظيم (يوسف العظمة بك) مدافعاً عن دمشق بما أمكن حشده من جنود سورية البواسل مواجهاً هجوماً مفاجئاً لجيش فرنسي يفوقه أضعافاً في العدد والعتاد فكان ذلك البطل الصنديد أول مستشهد في المعركة، وكان استشهاده رمز الوفاء ومثل الفداء، وأول جذوة نفحت نارها في الثورة الوطنية السورية التي انتهت أخيراً بتحرير الوطن من ربقة الاستعباد. إن ذكرى شهيد ميسلون أجمل تحية يقدمها الشعر لدمشق المحررة المستقلة)
هب الكمِيُّ على النفير الصادح
…
مهلاً فديتك ما الصباح بواضح
أي الملاحم بين أبطال الوغى
…
فَجِئتك بالشوق الملح البارح
فقضيت ليلك لا هدوء ولا كرى
…
ووثبت في غسق الظلام الجانح
والشوق من خلف الجبال غمامة
…
حمراء ترعش في وميض لامح
سلت حراب البرق فوق سمائه
…
هوجاء تنذر بالقضاء الجائح
هي صيحة الوطن الجريح وأمة
…
هانت على سيف المغير الطامح
قرنت بحظك حظها فتماسكت
…
ترعى خطاك على رُبى وأباطح
في موكب الغادين مجد (أمية)
…
بجوانح مشبوبة وجوارح
لو قستهم بعدوهم وسلاحه
…
أيقنت أنهمو فريسة جارح
الخائضين الفجر بحر مصارع
…
السابحين على السعير اللافح
الناهضين على السيوف وتحتها
…
شتى جماجم في التراب طرائح
الرابضين على الحصون خرائباً
…
مهجاً تضرم في حطام صفائح
صرعى ولو فتشت عن أجسادهم
…
ألفيت، ما ألفيت غير جرائح
يا (ميسلون) شهدت أي رواية
…
دموية، ورأيت أي مذابح
ووقفت مثخنة الجراح بحومة
…
ماجت بباغ في دمائك سابح
تتأملين (دمشق) يا لهوانها
…
ذات الجلالة تحت سيف الفاتح
جرَّت حديد قيودها وتقدمت
…
شماء من جلاَّدها المتصايح
نسيت أليم عذابها وتذكرت
…
في (ميسلون) دم الشهيد النازح
من هبّ في غسق الظلام يحوطها
…
بذراع مقتتل وصدر مكافح
وتسمعت صوتاً فكان هتافه
…
يا للحبيب من المحب البائح!
أماه! خانتني المقادر فاغفري
…
قَدَري، وإن قل الفداء فسامحي!
(فيحاء) إن نَصَّتْ حواليك القرى
…
أعلامها، وازَّينت بمصابح
وتواكب الفرسانُ فيك وأقبلوا
…
بالغار بين عصائب ووشائح
وشدا الرعاة الملهمون وأغرقوا
…
أبهاء ليلك في خِضَمَّ مفارح
أقبلت بين صفوفهم متقرباً
…
بأزاهري، مترنماً بمدائحي
حيث الشهيد رنا لمطلع فجره
…
ورأى الغمائم في الفضاء الفاسح
وتلفتت لك روحه فتمثلت
…
وجه البطولة في أرق ملامح
حيث الربى في (ميسلون) كأنما
…
تهفو إليه بزهرها المتفاوح
وكأنما غسلته (بغدادية)
…
بدموع مَلْك في ثراك مراوح
أسعى إليه بكل ما جمعت يدي
…
وبكل ما ضمت عليه جوانحي
وهو الحقيق بأن أحيى باسمه
…
في الشرق كل مناضل ومنافح
من كل نجد نافض مما اقتني
…
يدَه، ووهاب الحشاشة مانح
أو كل فاد بالحياة عشيره
…
لا القولِ في خُدَع الخيال السانح
قل للدعاة المحسنين ظنونهم
…
بالغرب ماذا في السراب لماتح؟
لاتغرينكمو وعود محالف
…
يطأ الممالك في ادعاء مصالح
تمضي السنون وأنتمو في وعده
…
تتقلبون على ظهور أراجح
والله لو حسر القناع لراعكم
…
قَيْدٌ أُعدَّ لكم وخنجر ذابح
من كل مصاص الدماء منوم
…
يدعي بمنقذ أمة ومصالح
يا (يوسف) العظمات غرسك لم يضع
…
وجناه أخلد من نتاج قرائح
قم لحظة وأنظر (دمشق) وقل لها
…
عاد الكمِيُّ مع النفير الصادح
ودعاك يا بنت العروبة فانهضي
…
واستقبلي الفجر الجديد وصافحي
علي محمود طه
ما ربحه الدين من العلم في الزمن الأخير
للأستاذ محمد فريد وجدي بك
اعتبر العلم منذ أول نشوئه منافساً للدين، ثم ما لبث أن تطور التنافس بينهما إلى تخاصم بسبب اختلاف وجهتيهما. سار كل منهما في طريقه عاملاً على هدم منافسه، وتجاوزت المخاصمة بينهما في آخر أدوارها حدود الكلام إلى الأخذ بالنواصي والأقدام، وكان رجال العلم في هذا الدور في أوربا هدفاً لأقسى ضروب الاضطهاد، ولم ينقذهم من الفناه إلا نشوء انقسام ديني خطير كانت نتيجته في القرن السادس عشر حدوث عهد جديد من حرية البحث والتفكير، خطا العلم بعدها خطوات سريعة، وخاصة في القرن التاسع عشر، في سبيل استكشاف مجهولات، وإظهار مخترعات وجهت الأنظار إليه، وجعلت المعول في ترقية الإنسانية عليه.
ظل العلم من الناحية الاعتقادية عدواً للدين، رامياً إلى محو أثره من النفسية البشرية، لاعتباره إياه عاملاً أتقضى زمنه، وبطلت الحاجة إليه، وما ليس إليه حاجة مادية أو أدبية، كان وجوده معطلا الآخذين به من التأدي إلى الكمال المنشود.
ولكن في القرن التاسع عشر نفسه الذي نال العلم فيه أقصى مناه من الدين، ظهرت آراء علمية، قضت بها الضرورة، كان لها اثر فعال في إعادة سلطان الدين إليه، منها الحاجة الملحة إلى افتراض وجود عنصر أولي لطيف إلى أقصى حد، مالئ للكون كله دعوه الأثير، لا يخلو منه حيز في الأرض ولا في السماء، وأنه كان موجودا من أزل الآزال، وسيبقى موجودا ابد الآباد، وأنه أصل المادة منه نشأت وإليه تعود. وغلا الأستاذ (هيكيل) المدرس بجامعة (يينا) من ألمانيا فكتب في كتابه وحدة الوجود (المونيسم) يقول:
(نعم، إن نظرية الأثير إذا أخذت كقاعدة للأيمان يمكنها أن تعطينا شكلا معقولا للدين، وذلك إذا جعلنا إزاء تلك الكتلة الجامدة الثقيلة، وهي المادة، ذلك الأثير الموجود في كل مكان، الذي يمكن اعتباره إلها خالقاً).
ثم أيد رأيه هذا الأستاذ (شليسنجر) الألماني الذي أفضى به في خطبة ألقاها في (التينبورغ) بألمانيا وهو.
(إن أحقر مظهر من مظاهر الطبيعة غير الآلية، وأكبر مجلي من مجالي الحياة الآلية،
يمكن أن يعلل وجودها بفعل قوى طبيعية واحدة. وبما أنهما من جهة أخرى يشتركان في الصدور من الأصل الأصيل المتوحد، الذي بملأ الوجود اللانهائي، وهو الأثير، فيمكن اعتبار هذا الأثير إلهاً، ويكون نتيجة ذلك الحكمأن الاعتقاد بالخالق يتفق والعلوم الطبيعية.).
إلى هذا الحد وصل اعتداد الطبيعيين بالأثير، وهو عنصر افتراضي، اضطر الطبيعيون إليه، لأنه لا يمكن تعليل كثير من ظواهر الطبيعة بدون افتراض وجوده، فهل بقي لهم وجه للاعتراض على الدينيين في القول بوجوب وجود قدرة عليا أوجدت الوجود كله، ومتعته بالقوى والنواميس الضرورية، لبنائه على ما هو عليه، من تنوع موجوداته، وتباين كائناته؟.
لعمري أن ما ذكرناه لربح للدين من العلم أعاد إليه ما سلبه منه من الاحترام في نظر أتباعه، فكان هذا جزاء للعلم من جنس العمل على نحو لا يمكن إخفاءه، يجب أن يفطن له الذين يهيمنون على العقائد.
وكان مما فتن أهل العلم منذ أكثر من ألفي سنة ما ارتآه (ديمو كريت) الفيلسوف اليوناني من أن أصل المادة جواهر فردة متناهية في الصغر لا تقبل الانقسام تتألف مادة جميع الأجسام الكونية منها.
انتشر هذا الرأي وأخذ به أهل العلم في كل مكان وزمان، وقارعوا به حجج الدينيين في أن المادة محدثة كسائر الموجودات، وظل الأمر على هذا المنوال قروناً، ودرس الناس في كل أمة علم الطبيعة على هذا النحو حتى أواخر القرن التاسع عشر، فرأى الأستاذ اللورد (رودفورد) من أساتذة جامعة منشستر أن الجوهر الفرد لا يعقل أن يكون حصاة جامدة متناهية في الصغر، وأنها لا بد من أن تكون مجتمع قوي لو أمكن فض اجتماعها أحدث تفرقها قوى هائلة يمكن استخدامها في الشؤون الصناعية. وأخذ من ذلك الحين يحاول حلها. كان ذلك في سنة (1875). وما جاءت سنة (1910) حتى كان بعض الطبيعيين قد تمكنوا من تفتيت الذرة فثبت ثبوتاً علمياً أنها مجتمع من القوى، فرال من الأذهان ما كان يقوله الماديون من قدم المادة حتى أن الدكتور (فيلبون) كتب في مجلة (العلم والحياة) سنة (1917) يقول:
(لقد حلت كلمة (القوة) محل كلمة (المادة) فما يدرينا إذا كانت كلمة (روح) لا تحلمحل كلمة (قوة)؟).
وقال الفيلسوف (جيو) في كتابه (اللاتدين في المستقبل) ولا يتهم بمشايعة الأديأن، قال في طبعته السادسة:
(إن الرأي الذي مؤداه: أن الجوهر الفرد لا يقبل الانقسام ولا التجزؤ، يعتبر من الوجهة الفلسفية من الآراء الطفيلية. فقد أثبت طومسون وهولوتز أن الذرات في ذاتها زوبعات متشابهة ثم قال:
(إذا وسع المذهب المادي مدى نظره، وجب عليه أولاً نسبة الحياة إلى العنصر العام بدلاً من أن يفرضه مادة عمياء).
ثم نقل الفيلسوف جيو بعد ذلك عن سبنسر قوله:
(قال الفيلسوف سبنسر:) كل جيل من الطبيعيين يكشف في المادة المسماة عمياء قوى ما كأن يحلم بوجودها أعلم علماء الطبيعة قبل ذلك بسنين معدودة.). فإننا لما رأينا أجساماً جامدة تحس رغماً من جمودها الظاهر بتأثير قوى لا يحصى عددها؛ ولما أثبتت لنا آلة التحليل الطيفي بأن الذرات الأرضية تتحرك موافقة حركة الذرات الموجودة في الكواكب، ولما اضطررنا إلى أن نستنتج من ذلك أن ذبذبات لا يحصى لها عدد تخترق الفضاء في كل جهة وتحركه، لما رأينا ذلك كله، وجب علينا أن ندرك ما قاله (سبنسر) من أن الوجود ليس بمؤلف من مادة ميتة، ولكنه وجود حي في كل جهة من جهاته، حي بأعم معاني هذه الكلمة، إن لم يكن بأخص معانيها).
وهذا أيضاً ربح عظيم للدين آتاه به العلم بعدما ملأ الخافقين إيذاناً بأن الدين قد قضى زمنه، وانتهت مهمته.
وفي العالم بحوث منذ أكثر من مائة وخمسين سنة موضوعها النفس الإنسانية، كان في مقدمتها ما دعاه مكتشفه الدكتور (مسمر) الألماني حوالي سنة (1770) بالتنويم المغناطيسي، وقد ثبت بتجارب العلماء فيه من خصائص الروح الإنسانية ما كاد لا يصدق لولا أنه شوهد مشاهدة علمية لا تدع عذراً لمستريب. ثبت منه أن الإنسان متى وقع في ذلك الضرب من النوم، ظهر له عقل أرقى من عقله، وذاكرة لا يفلت منها ما كبر أو صغر
من حوادثه، فيدرك ما يراد منه إدراكه بذاته، لا بأية آلة من آلاته، وتظهر له من الخواص ما يفوق ذلك، خصائص روحية لا جدال فيها، وهي مع ذلك تجريبية محسوسة. وقد سلك العلماء سبيلا أخرى للوقوف على ما نجهله من خصائص النفس منذ قرن واحد وصلوا منها غايات بعيدة، ومكتشفات مدهشة.
كل هذا ربحه الدين من العلم في مدى المائة وخمسين سنة الأخيرة، وهي تكفي لدحض كل فلسفة مادية، واكتساب حجة الدين قوة تجعلها فوق متناول الشكوك.
أليس من العجيب بعد هذا أن رجال الدين لا يأبهون لهذه الأسلحة العلمية، بل يوجد فيهم من يكذب بها ويعمل على ملاشاتها! ألا فليتحققوا أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم، وأن أي مدرك من المدركات، لا يمكن أن يأبه به أحد ممن يعتد بهم إلا إذا جاءه من طريق العلم، فلا نجعلن بيننا وبينه حجاباً، ولنستفيد مما وصل إليه من التطور لنجتذب القلوب إلى حظيرة الحقائق الإلهية الخالدة بما تقرر فيه من المكتشفات الباهرة، فإن كان لا بد للقائمين بذلك من دراسة خاصة فلنقم بها، وما يذكر إلا أولو الألباب.
محمد فريد وجدي
من مذكرات عمر ابن أبي ربيعة.
. .
حديث غد. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة): خرجت في صفر من سنة أربعين أريد المدينة أزور فتياناً من أصحابي بها، وأتحسس الأخبار أخبار الفتن المشئومة التي توزعت قلوب المسلمين، وأنظر ما فعل بسر بن أبي أرطأة بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغنا أنه أحدث فيها أحداثاً عظاماً.
غادرت مكة يوم غادرتها وهي كالتنور المتوقد، فقد ذابت عليها الشمس، واحتدم وهجها وبقينا نتنفس بين أخشبيها لظى من فيح جهنم، حتى يحس المرء كأن الدم يفور فوراناً في عروقه، وقد خدر النهار من حوله فلا ريح ولا روح، فلكل نفس لذعة في الخياشيم والصدر تنشف الريق حتى يكاد اللسان ينشق من فرط جفافه، وحتى يكاد يظن أنه الجنون، ما أصبرنا يا أهل مكة على صياخيدها، وما أحبها إلينا على شدة ما نلقى من لأوائها! بوركت أرضاً وتعالى من حرمها وتقدست أسماؤه.
كان النهار حراً ماحقاً منعنا التأويب، فكان سيرنا كله إدلاجاً تحت غواشي الليل إلى أن يسفر الفجر وطرفاً من النهار. ولشد ما أعجبني الليل وراعني حتى تمنيت أيامئذٍ أن الدهر ليل كله، فقد كنت أسري تحت سماء زرقاء ملساء صافية كأن النجوم في حافلتها وعلى صفحتها در يتلألأ على نحر غانية وأنا تحت أنفاسها كالشارب الثمل. وكيف تفعل هذه البيداء بنا وبقلوبنا؟ قيظ يسلخ جلد الحية ويذيب دماغ الضب، لا يلبث أن تنفحنا بعده بنسيم هفافٍ كأن الليل يتنفس به ليخفف عنا بلاء نهارنا، ويفوح من برود الليل شذا الأقاحي فيفعم الفضاء كله أحياناً حتى يخيل إلي أن البادية المجدبة قد استحالت روضةً تنفث أزهارها الطيب من حيث استقبلت، فأجد لها روحاً على كبدي وراحة فأعب من أنفاسها عباً حتى أقول لقد سكرت من غير سكر. ثم ما أندى رويحة الفجر على قلوب السارين في هذه المهامة السحيقة المتقاذفة! فإن عبيرها وبردها والنور المشعشع على أرجائها يجعلك تحس حساً لا يكذب بأنك تحيي في لذاذات لا ينقضي منها أرب ولا يستحيل لها مذاق. ولقد حبب إلى الخروج إلى البادية كلما وجدت في نفسي طائفاً من سآمة أو ملل، فيا بعد ما بين
الحاضرة وجوها الكامد الجاثم ليلا ونهاراً، وبين هذه الرحاب المتمادية التي يبثها النهار لواعجه وحرقه، ويأتي الليل فيناجيها نجوى خافتةً في ضميره العميق المشتمل على أسرار الحياة برها وفاجرها، وتقف النجوم على أرجاء سمائها مصغياتٍ مشرقات زاهرات كأنما يومض بعضها لبعض فرحاً بما سمعت من تلك الأسرار المصونة المكتمة.
كلما أوغلنا في البادية وفي قلب الليل ازددت فتنة بليالي الصحراء وتهامس رمالها وتناجي كواكبها، وأسمع لليل هسهسةً كأنها أحاديث قلوب عاشقة قد تدانى بها السرار، فتمضي الساعات والعيس ماضية بنا فلا نمل ولا نكل ولا نحس وحدة ولا مخافة، كأنا قد دخلنا الحرم الآمن الذي لا يراع اللائذ به. وجعلت نفسي تتجدد وتتطهر كأن برد الليل قد غسلها فما تشوب نقاءها شائبة.
وبعد ليال أفضت بنا المسالك إلى (الربذة) التي بها قبر أبي ذر الغفاري رضوان الله عليه، فلم يبق بيننا إلى المدينة سوى ثلاثة أميال، وأدركنا الفجر وإننا لعلى مشارفها، فقلنا نعوج بها فنصلي الفجر ثم نرتحل حتى نبلغ المدينة في نهار يومنا هذا. فلما أنخنا جمالنا وقمنا إلى الصلاة، سمعت صوت قارئ قد تأدى إلينا من بعيد، فتلمسته حتى تبينت صوتاً راعداً تقياً كأن الجبال والرمال والدنيا كلها تهتز على نبراته القوية العنيفة الصادقة، وكأنه في إهاب الليل المهلهل فيفريه فرياً ويمزقه بمدى من النور، وكأنه يسيل في البطحاء كالسيل المتقاذف فتموج فيه رمالها كأمثال الجبال نسفت من قرارتها، وكأن ألفاظه هبات عاصفة تفض دروع الليل فضاً، وكأن نغماته أنوار مشعشعة تخالط هذا كله فتملأ الفجر فجراً من نورها ونور ألفاظها ومعانيها. وأول ما تبينته حين دنوت منه بحيث أسمع قراءته:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. لن يضروكم إلا أذى، وأن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء يغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)، إلى آخر الآيات، فلما أخذ يكبر سمعت التكبير يملأ جنبات الأرض كلها متردداً ظاهراً كأن لم يبق في الدنيا شيء إلا كبر بتكبيره.
فرغ الرجل من صلاته ووضع عمامته وبقي حيث هو قليلاً ثم قام، فأضاءه لي ذرو من نور الفجر الناهد من قبل المشرق، فإذا رجل في السبعين من عمره وافر اللحية أبيضها، أسمر شديد السمرة طوال جسام فارع كأنه صعدة مستوية، أصلع الرأس شديد بريق العينين، نظر إلينا نظرةً وحيي ثم انفتل راجعاً إلى فسطاط مضروب قريب من حيث كان يصلي. . رأيته وهو يمشي كأنه قائد يحس كأن الجحافل من ورائه تمشي على أثره. وبعد قليل جاءنا رجل كأشد من رأيت من الناس نفاذ بصر؛ فحيانا وقال: من الناس؟ قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. قال: ابن العدل؟ رحم الله أباك، فقد شهد معنا المشاهد بعد عام الفتح. قلت: فمن يكون الرجل الذي أوى إلى فسطاطه يرحمك الله؟ قال أو ما عرفته؟ إنه محمد بن مسلمة الأنصاري صاحب رسول الله وصاحب أبي بكر وعمر. قلت: فما جاء به، وقد سمعنا أن رسول الله نهى عن أن يرتد المرء أعرابياً بعد الهجرة، وأنه ذكر ثلاثاً من الكبائر منها (التعرب بعد الهجرة)، فيعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً. قال: صدقت يا بني، ولكن لذلك خبر:
كأن محمد بن مسلمة فيمن ثبت مع رسول الله يوم أحد، فأعطاه رسول الله سيفاً وقال له:(إنه ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذك فأت بسيفك أحداً فاضرب به عرضه حتى تقطعه، واكسر نبلك واقطع وترك، واجلس في بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة، فإن دخل عليك أحد إلى البيت فقم إلى المخدع، فإن دخل عليك المخدع فاجث على ركبتيك وقل: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين). وقد فعل حين كانت هذه الفتن بين علي ومعاوية فكسر حد سيفه وقعد في بيته، وأطاع نبيه وعصى الشيطان الذي استزل هذه الناس التي يقتل بعضها بعضاً. ولقد قضى في مكانه هذا ثلاث سنوات يدعو ربه أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين التي جعلت تتفانى على دنيا فانيةٍ، وعسى ربك يستجيب لدعاء هذا الرجل الصالح فتحقن الدماء وتوصل الأرحام ويعز بهم دين الله في هذه الأرض.
(قال عمر): فسألت الرجل أن يستأذن لي على أبي عبد الرحمن محمد بن مسلمة فذهب ثم جاء يومئ إلي أن أقبل. فدخلت على أبي عبد الرحمن فسطاطه فإذا فيه سيف معلق على جانب منه، فلما سلمت رد التحية وقال: مرحباً بك يا ابن أخي! ما جاء بك؟ قلت: زائر إلى
مدينة رسول الله يا أبتاه. فدعاني أن أجلس، فو الله لقد أخذتني للرجل هيبة ما وجدتها لأحد ممن لقيت من صحابة رسول الله، ولا من أمراء المسلمين، وكانت عيناه تبصان في سدفة الفسطاط كأنهما قنديلان يلوحان في ظلامٍ بعيدٍ. وجعلت أنظر يميناً وشمالاً فلا ألبث أن أثبت نظري على سيفه المعلق، فلما رأى العجب في عيني قال: لعلك تقول، لقد كسر سيفه وهذا السيف معلق بحيث أرى! ثم قام واستنزل السيف واخترطه فإذا هو سيف من خشب. ثم قال: لقد فعلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذت هذا أرهب به الناس.
(قال عمر بعد حديث طويلٍ): قلت له: يا أبتاه والله لقد آنستني وأدنيتني وأطلقت لساني فلو سألتك! قال: سل ما بدا لك يا أبن أخي. قلت لقد حدثني عن قتلك كعب بن الأشرف إليهودي، وعن قتل يهود أخاك محموداً رضى الله عنه، فهلا حدثتني عن إجلائك يهود عن جزيرة العرب في زمان عمر؟ فقال:
رحم الله الرجل، فقد كأن شديداً في الحق حافظاً للعهد، ولكن يهود قوم غدر، أساءوا الجوار وخانوا العهد وتآمروا على المسلمين، فعزم عمر على أن يجليهم عن أرض العرب ليقطع غدرهم ويحسم مادة النفاق في هذه البقعة المباركة. فأرسل إلي وقال:(لقد عهد إليك رسول الله مرات أن تجلي يهود، فأنا أتبع سنته وأعهد إليك أن تجلي لي يهود عن أرض العرب، فلا تظلمهم ولا تؤذهم، ولكن لا تدع منهم صغيراً ولا كبيراً ولا طفلاً ولا امرأة حتى تستوثق من جلائهم بجموعهم عن أرضنا. ولئن عشت لأجلينهم عن كل مكان كبر فيه المسلمون لله، فإنهم أهل فسادٍ ونفاقٍ وخبث) فخرجت إلى طوائف اليهود في خيبر وسقتهم مستقبلاً بهم الشام، فلما بلغنا غايتنا أقبل علي رجل من ولد الحارث أبي زينب اليهودي ثم قال لي: لقد كنت مسترضعاً فينا يا أبا عبد الرحمن، وكنت أنت وابن الأشرف رضيعي لبانٍ، فما لبث أن جاء هذا الدين واتبعتم ذلك النبي حتى قتلت أخاك ورضيعك، وها أنت تخرجنا من ديارنا وأرض أجدادنا، وترمينا في ديار الغربة، فهلا كنت تركت كل ذلك لغيرك أيها الرجل! فقلت له: يا أخا يهود، لئن كنت قتلت رضيعي فقد قتل قومك أخي محمود بن مسلمة غدراً، وعرضتم لحرم رسول الله بالتشبيب والبذاءة والسفه، وأردتم أن تغدروا بنبي الله وتدلوا عليه صخرة لتقتلوه، أفتظن يا أخا يهود أنا تاركوكم تعيثون في
الأرض فساداً، وتكفرون النعم، ولا ترعون حرمة ولا ذماماً ولا عهداً، وتتآمرون على المسلمين تحت الليل، وتعدون عليهم غارين آمنين؟ ووالله لقد صبر عليكم عمر صبراً طويلاً، ولو كان حز رقابكم جزاء بما تصنعون لقل ذلك لكم.
قال ابن الحارث: لشد ما تهتم علينا أيها الناس، فوالله ليكونن لهذا اليوم الذي إذللتمونا فيه وفضحتمونا وأجليتمونا عن أرضنا وأرض آبائنا يوم مثله يكون لنا عليكم، فقد جاء في كتبنا أنه سوف يجئ يوم تدخل فيه اليهود على أبناء يعرب هؤلاء فتذيقهم بأساً شديداً وعذاباً غليظاً، حتى ترى اللقمة في يد المسلم قد أدناها إلى فيه فإذا على رأسه رجال من أشداء يهود تنفره حتى يدعها لهم. ولتدخلن نساؤنا على نسائكم حتى لا تبقى امرأة منكم إلا نامت بشر ليلة مما تلقي من نسائنا، ولنسوقنكم كما سقتمونا حتى نجليكم عن ديار آبائكم وأجدادكم ولنفعلن الأفاعيل حتى تكون لنا الكلمة العليا ونحن يومئذ أحق بها. ووالله ما نصبر على ما آذيتمونا إلا انتظاراً لما يكون غداً كما قال أنبياؤنا. وكأني أنظر إلى غدٍ، فأرى وجوه الأحباب من بني إسرائيل قد سقطت عليكم من كل فج كأنهم جراد منتشر تأكل يابسكم وطريكم، ولا تدع لكم موطئ قدم إلا كان تحته مثل جمر النار. وإنكم لتقولون إن الله قد ضرب علينا الذلة والمسكنة، فو الله لئن صدقتم اليوم إذ أمر أمركم، لتعرفن غداً أننا شعب الله الذي لا يرضى له الله بالذلة والمسكنة، ولقد كنا ملوك الأرض فدالت دولتنا كما دالت من قبلها دول، ولكن الله بالغ أمره يوم تدولون كما دلنا ويعود الأمر إلينا، فنحن قوم أولو بأس شديد، ونحن أهل الكتاب الأول، ونحن أتباع الحق. فإذا جاء ذلك اليوم يا أبا عبد الرحمن فستعلمون أينا أشد باسا وأشد تنكيلا. فو الله لنتخذنكم لنا أعواناً على أنفسكم، ولنضربن غاديكم برائحكم ومقبلكم بمدبركم، ولنوقعن الفتنة بينكم حتى يصبح الرجل منكم مؤمنا ويمسي كافراً، وليكونن لنا من أنفسكم رجال يخربون بيوتهم وبيوت آبائهم وهم عنا راضون ولنا مطيعون!
قال محمد بن مسلمة: فسمعت الرجل يقول قولاً كبيراً، فقلت له: لئن صدق أنبياؤكم فكان ذلك، فما صدقوا إلا ليصدقوا رسول الله في خبره، فأنتم اليوم أشتات مبعثرون في جنبات الأرض، وليزيدنكم ربكم فرقةً وشتاتاً، فإذا جاء ذلك اليومفدخلتم علينا أرضنا وعلا أمركم في حيث يشاء الله منها، فلكي تتم فيكم كلمة الله وليعذبكم وليستأصل شأفتكم من أرضه،
ولتكونوا عبرة للطاغين من أمثالكم، فقد قال الصادق المصدق رسول الله:(تقاتلكم يهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله)، فو الله ليكون ذلك كما أراد الله، ويومئذ يعض طغاتكم وطواغيتكم أطراف البنان من الندم، فالعرب هي ما علمت يا أبن الحارث لا ينام ثائرها ولا يخطم أنفها بخطام.
(قال عمر) قلت: يا أبا عبد الرحمن! وأن ذلك لكائن؟ قال: يا بني، ما علمي بالغيب! ولكنه إذا جاء فليقضين الله بيننا قضاءه، ويكون يومئذ فناؤهم على أيدينا، فأمر المسلمين إلى ظهور، وأمر يهود إلى حكم الله الذي ضرب عليهم الذلة والمسكنة إلا بحبلٍ من الله وحبل من الناس. والله يحكم لا معقب لحكمه.
محمود محمد شاكر
لا بد للأرض من هداية السماء
للأستاذ محمد محمد المدني
الأستاذ بكلية الشريعة
للإنسانية أهداف ثلاثة إذا وصلت إليها وحققتها فقد وصلت إلى القمة، وحققت خلافة الله في الأرض كما أرادها الله. هذه الأهداف الثلاثة هي: الحق، والخير، والجمال. . وكل واحد منهما ضروري ما دمنا نريد السعادة الشاملة للجنس البشري، وننشد الكمال الذي به يكون الإنسان إنساناً.
ولقد مضى على الإنسان قرون وآماد كان فيها فريسة الجهل والوثنية، يعبد الشمس والقمر والنجوم، بل يعبد الأحجار والأشجار والحيوان، ولا يتمتع بلذة المعرفة وإدراك الحقائق، ولا تتصل روحه، ولا يسمو عقله إلى خالق هذا الكون العجيب، ولا يمتد تفكيره إلا إلى ما بين يديه كأنه واحد من هذه الحيوانات التي تعج بها الأرض لا يمتاز عنها كثيراً!
وكان الإنسان أيضاً فريسة هينة مستسلمة لعوامل الشر والفساد التي تتمثل في ضعفه وعجزه، وتتمثل في تسخير الأقوياء للضعفاء، وتتمثل في ظلم الرعاة والمملكين، وتتمثل في البهيمية الحمقاء التي لا تعرف حدوداً، ولا تهدف إلى غرض، وتتمثل في الانحلال والتخبط والارتجال في كل ناحية من نواحي الحياة!
وكان الإنسان محروماً من إدراك الجمال والتمتع بلذته: فالقانون قانون القوة كما هو الشأن بين وحوش الغاب، وليس للأخلاق موازين، ولا للفضائل مقاييس، ولا للشرف قيمة، ولا للحياة مثل تحتذى أو تراد.
وما لهذا خلق الإنسان، ولا بهذا استحق خلافة الله في الأرض، ولا لهذا أستحق بنو آدم التكريم على سائر ما خلق الله!
فلم يكن بد من (هداية السماء) تكفله وتهذبه وتقرب له السبيل، وترسم له الصراط المستقيم، وتخرجه من الظلمات إلى النور، وبذلك كانت الرسالات الإلهية التي تطورت وتركزت وانتهت إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وختمت بها كآخر قانون سماوي ضمن له الحفظ والبقاء، وألا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا لمجرد أن ذلك هو ما قضت به الإرادة الإلهية، ولكن لأنه القانون الذي أتى وفقاً للطبيعة، وزود من المبادئ بما يجعله
صالحاً لكل زمان ومكان، وبما يجعله قابلاً لكل خير وصلاح تجود به العقول إلى أن يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين!
ترى ماذا كان يتطور إليه الإنسان لو لم يمد بهداية السماء؟ لا شك أنه كان سيعرف بعض صور الواقع الصحيح، وبعض نواحي الخير، ويدرك بعض أسرار الجمال، ولكن إلى أي حد؟ وبعدكم من القرون والدهور؟ أعتقد أن (الهداية الإلهية) قد عجلت على الأقل إلى حد بعيد، وبعيد جداً، بتهذيب الإنسان وتطويره، وأن المبادئ التي اشتملت عليها الشرائع عامة كانت بمثابة بذور غرست فانبتت وما زالت تنبت وتؤثر في الغذاء الفكري للإنسان تأثيراً عميقاً، سواء أحس الإنسان بذلك أم لم يحس، نعم قد يظن الإنسان أنه وصل إلى ما وصل إليه من الرقي بعقله وأنه لو لم تكن الأديان لكان العقل ديناً وهادياً - وقد قال بذلك فعلاً بعض فرق المسلمين - ولكن ما هي مقاييس العقل وهل كان العقل - إذا لم يلقح بهذه اللقاحات السماوية - يمضي قدماً في الطريق المستقيم لا يضل ولا يشقى؟ إني لفي شك من ذلك وينبغي أن يكون ذلك موضع شك، فنحن نرى الأمم البدائية أو المنعزلة تقيم القرون والدهور في عزلتها، وهي على ما هي عليه في أفكارها وعاداتها وتقاليدها ونظرها إلى الأشياء وإدراكها للمعاني دون أن تتطور، ودون أن تتحرك، ودون أن تنبت فيها نابتة من عقل أو أثارة من علم، إلا إذا جاءها ذلك من خارجها، كأن يتصل بها قوم آخرون، أو يرحل عنها بعض أبنائها ثم يعود إليها، أو نحو ذلك. ويومئذ تبدأ في تفكير جديد، وتنظر إلى ما هي فيه، فتعرضه على العقل وتناقشه، وتختلف فيه خلافاً شديداً، وينتهي أمرها بأن تأخذ منه وتدع وتعدل فيه وتقوم، فربما تطورت وتطور التفكير العقلي فيها، وتطورت أساليب حياتها على نحو جديد، وما ذلك إلا لأن اللقاح فعل فعله، وأثر آثاره، وإن لم يدرك الإنسان في أثناء هذا التفاعل أنه حاصل واقع ماض في سبيله موف على غايته!
بهذا نستطيع أن نقيس حالة البشرية عامة لو لم تمد الأرض بهداية السماء. إنها تكون في غيابة من الجهل وضلال من التخبط وتظل فيهما، وأن تلونا بألوان متعددة، الحقب الطوال، والأزمان المترامية والدهور المتعاقبة، وهبنا سلمنا أنها تتحرر من هذا الجهل شيئاً بعد شيء عن طريق الصدفة، أو التفكير العقلي فإن ذلك يحتاج - والفرض أنه لا مدد من الهداية والنور - إلى أحقاب وربما انقضى عمر الإنسان على هذه الأرض دون أن يصل
إلى الغاية الحميدة التي أرادها الله له!
وأحب أن نلتفت في هذا المعنى إلى آية كريمة في كتاب الله تقول (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا).
فهذه الآية تشير إلى الحقب المتطاولة التي مرت بالإنسان وهو في طور الخمول وغمرة الجهالة حتى جاز أن يوصف بهذا الوصف البليغ، فينفي عنه أنه شيء في هذا الوجود يستحق الذكر!
والإنسان هو عماد هذه الأرض، وهو خليفة الله فيها، وهو أكرم من فيها على الله، فإذا وصف من هذا شأنه بأنه لم يكن شيئاً مذكورا، فلا بد أن يكون هذا الوصف تعبيراً عن حالة من الخمول والضعف والتفاهة - لا أقول وصلت به إلى مرتبة الحيوان فإن الحيوان على كل حال شيء مذكور - ولكن أقول: إنه كأن أسوأ حالاً من الحيوان وأبعد وأوغل في الضلال والتسخير!
ثم تذكر الآية بعد ذلك خلق الإنسان وأصله، والغاية من هذا الخلق، وما ركب فيه من استعداد فطري له أدوات ظاهرة من الحواس كالسمع والبصر - سواء أكان المراد بهما هاتان الحاستان الماديتان أم كان مراداً بهما الاستعداد الفطري للتقبلوالفهم والإدراك عامة - وتردف الآية ذلك بنعمة الله عليه في الهداية إلى السبيل، والإرشاد إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وبذر بذور المعرفة والعلم في محيطه، ينتفع بها من ينتفع، ويزور عنها من يزور، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة (إما شاكراً وإما كفورا) ذلك بأنه لا يوصف بالشكر ولا بالكفران إلا من علم.
وكأني بالآية الكريمة حيث ذكرت هذه المعاني الثلاثة في طراد واحد - فلفتت إلى حالة الإنسان في طور جهالته وضؤولته ثم أتبعتها بخلقه واستعداده الذي هيأه الله عليه، ثم ذكرت بعد ذلك الهداية والإرشاد - كأني بها وقد ذكرت ذلك على هذا النحو؛ تلمع إلى أن اعتماد الإنسان على هداية الله وإرشاده ليس بأقل من اعتماده عليه في خلقه، وفي استمداده الوجود منه، فكما لا يوجد الإنسان بدون موجد، ولا يخلق إلا من الخالق؛ كذلك لا يهتدي بدون هاد، ولا يرشد بدون مرشد، ولا يتعلم بدون معلم!
من هنا يجب أن يعترف الإنسان وأن يكون خاشعاً في هذا الاعتراف، بالهداية الإلهية، كما هو خاضع خاشع في اعترافه بالخلق والتكوين ويجب ألا يغره عقله، ولا تسول له علومه ومعارفه أمرا مهما بلغ منها، فيتردد في الاعتراف أنه محدود، وبأنه محتاج، وبأنه موضع فضل إلهي، وفيض ربأني، بهما قوامه وبهما عقله، وبهما سموه عن كل ما خلق الله في هذا الوجود، ولولاهما ما كان، ولولاهما ما صار شيئاً مذكورا!!
وناحية أخرى تتصل بهذا البحث: ذلك بأن العقول تتفاوت وتتضارب، ويرى بعضها الشيء حسنا بينما يراه الآخر قبيحاً، وهذه قضية يثبتها الواقع، ولا يجادل فيها متصل بالحياة! وإنما كان ذلك لاختلاف أسباب العلم واختلاف وسائل العلم، واختلاف الأمزجة والأهواء والبيئات، واختلاف العصبيات والجنسيات، وميل الإنسان بطبيعته إلى الاعتزاز بنفسه، والاعتداد برأيه، وتنفيذ فكرته، وفرضها على سواه فرضاً لا يخضع للمنطق ولا للعقل، ولكن يعتمد على السلطان والنفوذ والقوة الذاتية، فإذا ترك الناس يشرعون لأنفسهم، ويضعون المثل لتفكيرهم وثقافتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم فإنهم لا شك متأثرون بما أوضحنا من عوامل الشهوة والمزاج والبيئة والسلطان، ولا يستطيعون أن يتحرروا منها مهما بلغوا من العلم والحضارة، لأنها طبيعية تتغلب كل ما سواها، وإن استترت فإنما تستتر في الظاهر، وهي تعمل عملها في الخفاء ملحة مثابرة لا يثنيها شيء من الأشياء.
ومن هنا رأينا الأمم الحديثة يعتنق كل منها فكرة ويجعلها مذهباً له في الحياة، ويحاول حمل الناس عليها تارة بالقوة، وتارة بالدعاية. فهذه نازية، وهذه فاشية، وهذه اشتراكية، وهذه شيوعية، وهذه ديمقراطية وهكذا. وكل هذه أوضاع إنسانية متأثرة بما يتأثر به الإنسان عادة. وليس أصحابها وواضعوها من الملائكة المقربين، ولا من القديسين المنزهين عن الأغراض والنزعات، ولذلك اختلفت، وتعاركوا عليها؛ واحتاجوا إلى القوة في حمايتها، فلما تخلت القوة عن بعضها انهار وأصبح في عداد الذكريات التاريخية، ولو كأن حقاً وخيراً لبقي وصار الجميع إليه متفاهمين (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
أين هذه النظم من نظام الإله السميع العليم، المنزه عمن الأغراض والأخطاء، الذي ينظر إلى عباده جميعاً نظرة العدل والرحمة والمساواة؟
أما بعد!
فقد وضح أن العقل وحده غير كاف - حتى في عهود الحضارة والرقي الفكري - للأخذ بيد الإنسانية وتحقيق أهدافها من الحق والخير والجمال، وأنه لا بد من الهداية الإلهية لتوسيع آفاق هذا العقل، ولكفالة استقامته، وضبط تفكيره والحد من طغيانه!
بذلك، وبذلك وحده، يصل الإنسان في هذه الحياة، إلى الغاية التي أرادها الله.
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
نشيد الحرية في عيد الهجرة
للأستاذ محمود الخفيف
معصوبة العينين مغلولة
…
واهنة في أسرها شاحبة
لاهثة في القيد برية
…
ذاهلة عن قيدها واثبه
عصية هوجاء مأخوذة
…
نازعة للطير ما أذعنت
يوماً لهذا الأسير أو هادنت
أو غلبت روح لها غالبة
أبية مهم يعض الحديد
…
فليس بالموهن إصرارها
من بأسه بأس لها أو يزيد
…
والنار تذكي أن طغت نارَها
هازئة في قيدها بالوعيد
…
توعد مَن قيَّدها صيحة
تصغي الأيام مرتجة
وتنقل الأيام أخبارها
تصيح بالسجان يا آسري
…
غداً تريك الأرض زلزالها
تغدو بها المقهورَ يا قاهري
…
يا صانعاً للروح أغلالها
هيهات أخشى القيد من غادر
…
رنين أغلالي في سمعه
ألقى طيوف الرعب في نفسه
والرجفة النكراء أوحى لها
ما ألفت إلا فسيح الرحاب
…
طليقة في جوها طائره
في المرج والموج وفوق السحاب
…
خفاقة رايتها عابره
وضيئة تلمع لمع الشهاب
…
في ظلمة العيش سنا برقها
تهفو إليه الروح مشتاقة
وتجتليه الأنفس الثائرة
كم من فؤاد باسمها خافق
…
مستشرف يرتقب الموعدا
وكم لها في الدهر من عاشق
…
محلق الروح وإن قيدا
في سجنه ينظر من حالق
…
يهزأ بالسجن وأصفاده
ما عرف الإذعان قلب له
يطلقه مما يسام الردى!
معشوقة الإنسان من يومه
…
حياته قبل ضلال الحياه
قبل الذي أغواه من علمه
…
وغره أن الهدى ما يراه
قبل الذي أطغاه من حكمه
…
في رأسه الريش وفي كفه
نصل يلوح الشر في ومضه
والغل والأصفاد صاغت يداه
مذ ألبس الناس لباس الحديد
…
والذهب الوهاج ما يلبس
يا سوء ما يشقى لديه العبيد
…
وليس من يهمس أو ينبس
أين، وقيدٌ كل يوم جديد
…
والناس قطعان ورعيانهم
إن بسم الراعي صفا مرجُه
والغيم والإعصار إذ يعبس
وأصبحت من حلم الحالم
…
وسهده، الحرية الساحره
كم من مُعَنى باسمها هائم
…
يطلبها في الظل والهاجره
يعيش بالأحلام في عالم
…
ينسى به الإنسان أغلاله
بالحق والرحمة في أرضه
والسلم كم تربطه آصره
حورية كم سحرت مهجة
…
راحت بما تشقى به تسعد
ما إن ترى في عيشها بهجة
…
إلا الذي في حلمها توعد
والهول كم خاضت به لجة
…
من ظلمة تأوي إلى ظلمة
تهفو إلى النور الذي شاقها
حتى ترى صبحاً له يولد
عذراءُ كم أغلى الهوى مهرها
…
من الدم الغلي لها يبذل
كم ألهمت نضواً لها سرها
…
من روحها وحي الذي يعمل
يلمح في كل سناً سحرُها
…
كل شاد بالهوى حوله
ذكره باللحن معشوقة
لو تقتضيه الدمَ لا يبخل
كم راسف في قيده موثق
…
يأبى وأن مُنَّي أن يذعنا
أشهى له سجنه الضيق
…
أن يلبس الأغلال مستيقنا
عزاؤه في ضيقه المحرق
…
ما يحرق الطاغين من غيظهم
مما أصرت أنفس حرة
تأبى إلى الذلة أن تركنا
عذابه في القيد روح له
…
يكاد لولا كبره يطرب
ينسيه ما يطلبه هوله
…
ياهول ما حمله المطلب
في قلبه ومض محا ليله
…
فاض كما كان يفيض الضحى
وهو من السجن وأحجاره
في غيهب من فوقه غيهب
يذوي وفي أضلاعه جذوة
…
تدفئه في ركنه الأقتم
تذهله عن موته نشوة
…
فثغره يبسم إذ يرتمي
تمضي إلى الموت به غفوة
…
فيها خيال رف من فوقه
يعرفه! كم ذا رأى وجهه
بغيره في الأسر لم يحلم
فطرية تنشدها الأنفس
…
والأنفس الحرة قربانها
من نفس تحيا به أنفسٍ
…
فيها من العزة برهانها
في لمحها النار التي تقبس
…
نار تظل الدهر مشبوبة
يخشى لظاها كل مستكبر
وينذر الطاغين بركانها
أبطالها في الدهر أيامهم
…
أجمل ما يشدوا به شاعر
توحي إلى الحاضر آلامهم
…
كيف أبى أغلاله الحاضر
أسيافهم شهب وأقلامهم
…
لحن، على الأيام أسجاعه
وحي قلوب خافقات به
في الأرض ما خوفها قاهر
شدوْتُ والهجرة في خاطري
…
أنشودتي الحرية العانيه
إشراقها في قلبي الثائر
…
لحن به أذكيت ألحانه
تبقى بقاء الفلك الدائر
…
توحي إلى الأجيال حرية
ما ولدت (يونان) أختاً لها
والدهر ما جاد بها ثانية!
خوانق الأغلال مفصومة
…
مهاجر حطمها واحد
من حوله الأوهام مهزومة
…
زلزلها البتهل العابد
أسلحة الطغيان مثلومة
…
والناس سوى بينهم دينهم
ما عز إلا الله من حاكم
لغيره ما سجد الساجد
مهاجر عزمته أنطقت
…
بما تدين الأنفس الخائفة
منطلق من أسره أطلقت
…
هجرته الحرية الراسفه
رسالة للروح قد أشرقت
…
تضحي على الأنفس آياتها
قدسية الومض إلهيةٌ
جوانب الأرض بها هاتفه
الروح في منزعها حرة
…
من ربقة الذل الذي يوبق
والعقل قد ثارت به ثورة
…
تأبى من الأوهام ما يوثق
والجسم كم نامت به شرة
…
لا الترف الجامح ماض به
إلى مهاوي الغي يوماً ولا
يخشى من الطغيان ما يرهق
محمد، شرعته قوة
…
تذكى طموح الأنفس الطامحه
حمية توقدها دعوة
…
إلى الهدى حجَّتها لائحه
في كل نفس حرة جذوة
…
صوب العلا تدفعها والفدا
كم ألهبت في زحفها عصبة
هزت بها أسيافها الفاتحة
ودينه الحرية الصادقة
…
لا عوجٌ فيها ولا زخرف
معارج الفكر به شاهقة
…
وسيفه من خلفه المصحف
مراشد الوحي بها ناطقة
…
في الدين لا إكراه من قيم
والأمر شورى فيه لا غاصب
يطغى ولا ذو نزق يعصف
يا مدلجاً أخرجه قومه
…
خطوت لا في البيد بل في الزمن
يا جاهداً تحت الدجى، عزمه
…
والبغي داج ليله، ما وهن
يا واحداً ضاق به خصمه
…
هجرتك الغراء من وحيها
في كل عصر ظالم، هجرة
لكل شاك غربة في الوطن!
قصيدة رددها منشدا
…
ما هتف الدهر وما رجَّعا
لحن له في كل قلب صدى
…
ما أصدق اللحن وما أروعا
شمس هُدى كم ذا تشع الهدى
…
من أفق الوحي شعاعاتها
مطلعها الشرق وكم أشرقت
شمس به، أكرم به مطلعا!
(البقية في العدد القادم)
محمود الخفيف
في بيت المقدس
للأستاذ علي الطنطاوي
كانت (مارييت) تدور في البيت ما تستطيع أن تستقر من جزعها على زوجها وإشفاقها أن يصيبه مكروه، تضم ولدها الرضيع إلى صدرها، تناجيه وتناغيه، ثم يدركها اليأس، ويخيل إليها أنه قد غدا يتيماً لا أب له، فتساقط الدموع من عينيها على وجه الطفل فيفيق مذعوراً ويبكي، فتمزج دمعة الحب بدمعة الطفولة. . . وكان زوجها قد خرج من الغداة لرد الأعداء المسلمين عن بيت المقدس، ومالت الشمس ولم يعد، ولم تعرف ماذا حل به. . . وكانت (مارييت) فتاة باسلة، ثابتة الجنان، لم تكن تعرف الخوف ولا تخلع الحوادث فؤادها، ولكن وقعة (حطين) لم تدع لشجاع من الإفرنج قلباً، ولم تترك لفارس فيهم مأملاً في نصر، فقد طحنت جيوشهم طحناً، وعركتها عرك الرحى، وزعزعت قلوب الكماة عن مواضعها. فكيف بقلوب الغيد الحسان؟ وكان زوج (مارييت) فارس الحلبة، وبطل القوم، وكان قد رأى البنات من الإفرنج والألمان والإنكليز وكل أمة في أوربة، يملأن جوانب القدس، فلم ير فيهن من هي أفتن فتنة، وأبهى جمالاً، من (مارييت) فهام بها وهامت به، وتزوجها فكانا خير زوجين، وكانت حياتهما النعيم كله، ودارهما كأنها لهما جنة عدن. . . ولكن حبه لها لم يشغله عن حبه لوطنه، وتمسكه بصليبيته، وحرصه على أن يبق أبداً فارس النصرانية المعلم وبطلها فكان كلما سمع نأمة طار إليها، وكلما دعا داعي القتال كان أول الملبين. . .
وفتح الباب، فخفق قلب مارييت وتلاحقت أنفاسها، ولم تدر أهو البشير أم هو الناعي، وتلفتت فإذا هي بزوجها يدخل عليها سالماً، يمد لها ذراعيه فتلقي بنفسها بينهما. . . ويحدثها حديث النصر: لقد رد يسوع الأعداء، وفت في أعضادهم فانطلقوا هاربين، قبل أن نباشر حرباً، أو نشرع في القتال، لقد استقر أيتها الحبيبة ملك المسيح في بيت المقدس إلى الأبد، وياليتك أبصرتهم يا مارييت، وقد ذهب الفزع بألبابهم لما رأوا أسوار المدينة، تطل من فوقها أبطال النصرانية، وفرسان الصليب، فهدوا خيامهم، وولوا الأدبار لا يلوون على شيء لا يريدون إلا النجاة. . . لما صدقت أن هؤلاء هم الذين فعلوا تلك الفعلة في (حطين). لقد فروا كالنعاج الشاردة. . . فيا ليت أبطال القدس كانوا في (حطين)، ليروهم يومئذ ما القتال!
ألا تقدس الصليب، وتبارك اسم الناصري، أن أورشليم لنا إلى الأبد!!
ومشت معه إلى الكنيسة الكبرى، لتحضر الاحتفال بالنصر، وكان يحدثها في الطريق عن هؤلاء الوحوش الكافرين، ويصف لها فظاعة ديانتهم، وقسوة رجالهم، وكيف يأكلون لحوم أعدائهم، ويشربون دماءهم، ويصور لها ملكهم (صلاح الدين)، كما وصفه له الكهنة ورجال الكنيسة. فترجف أضالعها خوفاً وفزعاً من هذه الصورة المرعبة، وتضم ولدها إليها وتصلب وتستجير بالقديسين جميعاً، وبيسوع وبالعذراء، أن لا يجعلوا له سبيلاً إليها. . . وأن لا يروها وجهه المخيف. . .
وينقضي الاحتفال ويرجعون من الكنيسة، وهي تحس أن الدنيا قد ألقت إليهم مقاليد الأماني، وأن الدهر قد حكمهم فيه ونزل على حكمهم، وتستلقي على فراشها، وهي تداعب الآمال وتناجيها، حتى إذا بلغ بها التأميل أن ترى هذه البلاد كلها قد عادت للمسيح وأتباعه، ولم تبق في جنباتها منارة مسجد، ولم يعد يتردد في جوها أذان، وترى زوجها قد علا في المناصب حتى صار القائد المفرد؛ أغمضت عينيها على هذه الصورة الحلوة، وأخذتها معها في أحلامها. . . ونامت. . . ولكنها لم تجد إلا حلماً مزعجاً: لقد أحست كأن المدينة تتقلقل وتميد، وكأن حصونها تدك دكا، وتخر حجارتها، وتتهدم كما يتهدم عش عصفور ضعيف بضربة من جناح نسر كاسر، وخالطت سمعها أصوات العويل والبكاء تتخللها صرخات الرجال؛ فعلمت أنه ليس بحلم ولكنها الحقيقة، فوثبت تحمل ابنها، ونظرت إلى سرير زوجها فم تلفه في مكانه. . . فخرجت تسأل ما الخبر، فخبرت أن (صلاح الدين)، قد دار حول البلد حتى حط على جبل الزيتون، ثم صدم المدينة صدمة زلزلتها وهزتها هزاً، وكادت تقتلعها من آساسها، كما تقتلع الشجرة من الأرض الرخوة، ورماها بالمنجنيقات والعرادات، وقذفها بالنيران المشتعلة وهجم جنوده على الأسوار كالسيل المنحط، بل كألبسة الجحيم، لا تحرقهم نيراننا، ولا يقطع فيهم حديدنا، كأن المردة والشياطين كلها تقاتل معهم. . .
وكانت (مارييت) واثقة من قوة الدفاع، فالقدس بلد النصرانية لبثت في أيدي أهلها مائة سنة لا سنة ولا سنتين، وفي القدس ستون ألفاً هم خيرة أجناد الصليب، يقودهم (بليان) ويصرفهم البطريرك الأكبر، ولكن هذه المفاجأة روعتها، وأدخلت الشك إلى قلبها. . .
وطفقت الأخبار تصل إليها متعاقبة تترى، وكل خبر شر عليها من الذي قبله، وكلما مرت دقيقة سمعت نبأ جديداً عن شدة الهجوم ومضائه، وعن تحطم أدوات الدفاع، حتى جاءها الخبر بأن الرايات البيض قد رفعت على الأسوار وأنها قد عقدت الهدنة، على أن يخرج من شاء من المدينة في مدة أربعين يوماً، ومن أراد البقاء بقى في حكم صلاح الدين، وأن تفتح له المدينة أبوابها، وأن يدفع الرجل الذي يريد الخروج عشرة دنانير والمرأة خمسة والولد دينارين.
وتركت (مارييت) القوم في رجتهم وخرجت تفتش عن زوجها الحبيب، ومشت في الظلام تدور حول الأسوار، تنظر إلى الأبواب المفتحة، والجنود الظافرين يدخلون بالمشاعل والطبول، فتشد يدها على ولدها وتمضي متباعدة، حتى تبلغ ساحة القتال، فإذا هي تطأ على أعلام الصليبيين ممزقة مخرقة، مختلطة بجثث الأجناد مقطعة الأوصال، فامتلأت نفسها رهبة وخوفاً، وهمت بالعودة ولكنها غالبت النفس ومشت، فقد كانت تفتش عن زوجها، ولا تستطيع أن ترجع حتى تلقاه أو تعرف خبره، وكان حولها رجال ونساء كثيرون يبحثون كما تبحث، عن قريب أو صديق، وتمثلت ذلك الأمل الضخم: أمل (الوطن القومي) الصليبي، فألفته قد مات هو الآخر، وألقيت جثته. . . ورأت هذه الأرض قد عادت للقوم الكافرين بيسوع وأمه. . . وأحزنها ذلك كما أحزنها فقد زوجها، وتضاعفت به مصيبتها وحاولت أن تتعرف وجوه القتلى، من أحبابها وعشيرتها، فأخفقت وعجزت ولم تبصر شيئاً من الظلام ومما أصابهم من التبديل والتغيير. وتمثلت لها حياتها كلها، فإذا هي قد ذهبت وجاءت في مكانها حياة جديدة؛ حياة رعب وفزع وشقاء لا تعرف عنها شيئا، ولا تدري ولا يدري أحد من قومها كيف يكون مصيره في ظل الحكم الجديد، وذكرت ما قاله لها زوجها عن فظاعة هؤلاء الفاتحين، فأحست عند ذكر زوجها كأن قلبها قد أنتزع من صدرها، وطار في أثره، وفكرت فيه: أي أرض تقله؟ وأي سماء تظله؟ وهل هو قتيل قد تمزق جسمه الجميل، وأنتثرت ثناياه الرطاب، و. . . ولم تستطع المضي في هذه الصورة فأغمضت عينيها، وألقت عليهما غشاء من الدمع، وأحست كأن فؤادها يسيل حزناً عليه، فانكبت على الولد تقبله بشدة، وشغف، كأنها تصب في هذه القبل أحزانها وعواطفها، حتى أوجعت الطفل فصرخ يبكي. . . ورغبت في الفرار من هذه المشاهد كلها، ولم تقدر أن
تتصور كيف يتبدل كل شيء بهذه السرعة، وتتوهم حيناً أنها في حلم، وأنها ستتيقظ فترى كل شيء قد عاد كما كان، ولكن الحقيقة سرعان ما تفجعها بهذا الوهم، وتبدده أمام عينيها. . .
وكان أشد ما روعها وحز في فؤادها انصراف الناس عنها، وكف أيديهم عن مساعدتها؛ فقد شغلت المصيبة الداهمة كل واحد بنفسه، فكأنه يوم المحشر كل يقول فيه: أنا. . . وكرت راجعة وهي تعرض في ذهنها فصول هذه الرواية التي مثلت الليلة، فابتدأت بالظفر والمجد، والحب والوصال. ثم انتهت بالخيبة المرة، والهزيمة الماحقة، والفراق الطويل، ولم تفهم كيف يمكن أن يهوى في لحظة الصرح الذي أقيم في مائة سنة، وكيف يهدم رجل واحد ما تعاون على إنشائه أهل أوربة جميعاً، أيكون أمير مسلم واحد معادلاً في الميزان لملوك النصرانية كلهم وأمرائهم؟ إذن كيف لو تحالف المسلمون كلهم؟ كيف لو كانت هذه الحروب في أيام الخلافة، إذ كانت مملكتهم مملكة واحدة تمتد من الصين إلى قلب فرنسا؟
وجعلت تسأل كل من تلقاه عن زوجها، فلا يقف لها أحد ولا يرد عليها، وإذا لقيت كريماً منهم رقيق القلب فسألته فعطف عليها بجواب، لم يكن جوابه غير (لا ادري)!
وظهر القمر نحيلاً هزيلاً، من بين فرج الغمام، فألقى على الساحة ضياءً شاحباً حزيناً، جعل الدنيا كأنها وجه مريض محتضر، فرأت قطع اللحم البشري مخلوطة بالوحل تبرز من خلالها الدروع المذهبة، وتبدو من بينها قطع الرماح المكسرة والسيوف، فأشجاها التفكير في هذه الجيف المنتنة التي كانت في الصباح أبطالاً كراماً تخطر على أرض الموعد، وكانت حصن الصليبية وسياجها، وعادت إلى البحث عن زوجها، والتحديق في الوجوه، فمر بها شيخ كان يحدب عليها، ويحب زوجها، فأدركته الشفقة عليها، فأخذ بيدها فاستخرجها من الساحة، وكان الخطب قد حطم إرادتها وتركها كالتي تمشي في نومها، فانقادت إليه طيعة وسارت معه، وسألته هامسة كأنها تخاطب نفسها.
- يا أبتاه. هل رأيت زوجي؟
فلم يحب أن ينبئها بما تكره فلوى الحديث وشغلها بغير ما تسأل عنه، فقالت:
- وما تظن أنهم يصنعون بنا يا أبتاه؟ هل يخطفون ولدي ليأكلوا لحمه أمام عيني؟
- قال: ومن أخبرك بهذه الأكاذيب، إن المسلمين قوم كرام، أهل وفاء ونبل، وأن ملكهم
صلاح الدين خير الملوك قاطبة. . .
ومضى يحدثها عما عرفه من صفة المسلمين، وهي فاتحة فمها دهشة لا تكاد تفهم ما يقول ولا تصدقه. فعاد يقول:
- ولو أنهم ذبحونا لما كانوا معتدين، بل كانوا منتصفين منا، فانا لما دخلنا القدس منذ مائة سنة قتلناهم في البيوت والشوارع والمساجد، وحيثما وجدناهم حتى صاروا يلقون بأنفسهم من فوق الأسوار لينجوا منا، وحتى بلغ عدد من قتلنا منهم سبعين ألفاً ولم يتحرك قلب بشفقة، ولا لسان بإنكار. . .
وأصبح الصباح وهي لا تزال تفتش وتبحث، والولد على يدها ينادي: بابا. فيذكرها به، وما كانت ناسية، وإن كلمة (بابا) لأجمل كلمة في الدنيا، وفاتحة اللغات وأمها. فهي أول لفظ شري يجري به لسان الوليد، وهي كلمة الإنسانية تختلف اللغات وتتحد فيها. وهي كلمة الطهر ينطق بها الطفل قبل أن يعرف الشر ويدري ما المكر، وهي أحلى من كلمة (حبيبي) لأن من الحب ما يمدح وما يذم، أما الأبوة فخير كلها. والحب رابطة يصنعها الإنسان أما الأبوة فمن صنع يد الله.
ولكن (مارييت) لم تكن ترى فيها هذا الصباح إلا ناراً تحرق كبدها، وشفرة تمزقها، وضاق بها أمرها، فهرعت إلى جارات لها واجتمعن يترقبن ما يكون من الأهوال، فإذا القدس ترتج بصرخة واحدة اجتمعت عليها حلوق المسلمين والنصارى، أولئك ينادون: الله أكبر، وهؤلاء يعولون ويبكون، فنظرن فإذا أحد الجنود الفاتحين قد علا قبة الصخرة، فانزل الصليب الذهبي الذي لبث فوقها قرابة مائة سنة، وحسبوه سيلبث إلى يوم القيامة. . .
وجاءتهن الأخبار بما يصنع المسلمون في المدينة، فجعلوا يعجبون، ولا يصدقون، أن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، وأن من شاء الخروج دفع ما اتفق عليه وحمل معه ما شاء وخرج، وأن النصارى يبيعون ما فضل عنهم في الأسواق فيشتريها منهم المسلمون بأثمانها، وأنهم يروحون ويجيئون آمنين مطمئنين لم يروا إلا الخير والمروءة واللطف، وأن المسلمين قوم أهل حضارة وتمدن ليسوا وحوشاً ولا آكلي لحوم البشر، وروى لهن ما صنعوا في الحرم، فقد نزعوا كل ما أحدث النصارى، وردوه إلى حاله الأولى، وجاءوا بالمنبر الذي صنعه نور الدين الشهيد ليقام فيه، فأقاموه في الحرم، وخطب
عليه خطيبهم يوم الإسراء. . .
قال الراوي: ودخلت فلم يمنعني أحد، ولم يسألني من أنا، فاختلطت بالمسلمين، فإذا هم جميعاً يجلسون على الأرض لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عن واحد منهم، قد خشعت جوارحهم وسكنت حركاتهم، وخضعوا لله، فعجبت من هؤلاء الذين كانوا جنا في المعارك، وشياطين يوم القتال، كيف استحالوا هناك رهباناً خشعاً، ورأيت الخطيب قد صعد المنبر فخطب خطبة، لو أنها ألقيت على رمال البيد لتحركت وانقلبت فرسانا، ومضت حتى تفتح الأرض، ولو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة، ومشت فيها الروح، ووجدت هؤلاء الناس لا يغلبون أبداً ما داموا مسلمين، ولو اجتمعت عليهم دول الدنيا، لأن قوة الإيمان أقوى في نفوسهم من كل قوة، إنه لا يخيفهم شيء لأن الناس إنما يخيفون بالموت ومنه يخافون، وهؤلاء القوم يحبون الموت ويريدون أن يموتوا، كلا، لا يطمع قومنا بهذه الديار أبدا، أنا أقول لكم، وأنا قد عرفت القوم وتكلمت بلسانهم وخالطتهم ووقفت على ديانتهم وسلائقهم. كلا، إنه لا أمل لنا فيها، لقد أنزلوا الصليب اليوم، بعد ما لبث مائة سنة فلن يعود، لن يعلو هذه القبة إلا شعار محمد، فلا نصرانية، ولا يهودية، خسأت وخابت اليهودية، إن كل بقعة في هذه الديار تنقلب إذا حزب الأمر وجد الجد (حطين)، وكل وليد فيهم يصير (صلاح الدين)، فلا يهرق قومنا دماءهم هدراً، ولا يزهقوا أرواحهم في غير طائل.
ونظرت (مارييت) فإذا قومها قد آثر فريق منهم البقاء في ظل الراية الإسلامية، حينما رأوا في ظلالها العدل والأمن والهدى، مع الحضارة والتمدن والغنى، وأبى فريق إلا الرحيل، فاختارت أن تكون مع هذا الفريق لا كرهاً بالمسلمين، فقد بددت شمس الحقيقة ظلام الأوهام؛ وكذب الواقع ما سمعت عنهم من الأحاديث، ولكنها لم تستطع أن تقيم وحيدة في البلد الذي يذكرها كل شيء بزوجها، وبحبها، وبسعادتها التي فقدتها. . .
ومشت القافلة وتلفتت مارييت إلى الوراء، تودع هذه البلدة الحبيبة إلى قلبها المقدسة عندها، بلدتها التي ولدت فيها ولم تعرف لها بلداً غيرها، ونظرت إلى موضع الصليب الذهبي الذي كان يشرق كالشمس على قلبها فرأته خالياً منه. فأحست أنها تركت قلبها في هذا البلد الذي كان لقومها، فصار لعدوها، والذي خلفت فيه زوجها لا تدري في بطن أي
طير أو في معدة أي وحش صار قبره. . . وخلفت فيه ذكريات صباها وبقايا سعادتها وحبها ولكنها فرحت بالخروج منه، حتى لا ترى ما يذكرها كل يوم بما فقدت، ولتلحق بديار قومها، وأهل ملتها. . .
سارت وهي سابحة في أفكارها فتخيلت زوجها وهو يمشي معها في الموكب الظافر تحت راية الصليب، فبكت واختلط نشيجها بنشيج النسوة من حولها وهن يبكين من خلفن من الأسرى والقتلى، وإذا بالجنود يقفوهن، فسكتن من الفزع ووقفن وأيقن بالهلاك، فأرجعوهن فإذا على رابية طائفة من المسلمين بينهم شيخ على فرس له، لم يرع (مارييت) وصحبها إلا قولهم: هذا هو السلطان.
هذا هو السلطان، هذا (صلاح الدين) المخيف، آكل لحم البشر وشارب الدماء. وجعلت تختلس النظر إليه فلا ترى ملامح الوحش الكاسر، ولا تبصر الأنياب ولا المخالب، ولا ترى إلا الهيبة والنور والجلال، فلما وقفن عليه، قال: ما تردن؟
قالت امرأة: رجالنا في الأسر، أزواجنا. . .
وتصايحن وبكين، فبكى السلطان رقة لهن، وأمر بإطلاق أسراهن، وأعطاهن الدواب والطعام والمال. . .
لما رأت (مارييت) زوجها صحيحاً معافي، نسيت الشقاء والهزيمة، وألقت بنفسها بين ذراعيه، لم تخف أن يبصرها الناس، فقد جعل كرم السلطان كل واحد يشتغل بسعادته، ثم مشت الطريق بهؤلاء النازحين لم يمشوا هم فيها، لأنهم ملئوها فلم يعد يعرف أول لهم من آخر، فكان الطريق كالنهر الممتلئ بالماء من منبعه إلى مصبه، نهر من الأسى والفرح، والهزيمة في المعركة والظفر بلقاء الأحبة، وكره الغالبين وشكرهم على إحسانهم، وأحست (مارييت) في قلبها بالاعتراف بفضل هذا الرجل المحسن، ورأت خلال الإنسانية والحق والنبل تتمثل فيه هو، لا فيمن رأت من رجال قومها. وكادت تحبه ثم تنبه في نفسها دينها وما علموها من بغض الإسلام فتوقفت وحاولت أن تذكر سيئة واحدة لهذا الرجل ولقومه تستعيد بها بغضاءها إياهم فلم تجد، وجعلت تقابل بينه وبين البطريرك الأعظم، الذي خرج مع القافلة بعدما استلب المعابد كنوزها، وكنس الكنائس وحمل كل ما كان فيها، ولم يعط من هذا المال أحدا، لم يجد به على امرأة ضعيفة تمشي معه، ولا على شيخ عاجز، وذكرت ما
سمعت من أن السلطان تركه يخرج بهذا المال، مع أنه شرط لهم الخروج بأموالهم هم لا بأموال الكنائس، وذكرت ما كان يصنع قومها من إخلاف الوعود، والحنث بالعهود، فتمنت لو أنها كانت مسلمة، ولكنها لم تجهر بهذه الأمنية وخنقتها في نفسها.
وتدفق هذا النهر البشري يحمل أعجب أنواع السلائق الإنسانية وأغرب المتناقضات، ففيه حنو الأمهات وإيثارهن، وفيه أثرة الأغنياء وقسوتهم، وفيه الصبر وفيه الجزع، وفيه الصدق وفيه التزوير، وفيه هذا البطريرك الذي يزعم أنه خليفة المسيح ليساعد الفقراء، ويزهد في الدنيا، ثم يأكل مال الله وحده ويعرض عن الفقراء والمحتاجين.
مشت هذه القافلة في الطرق المقفرة، والمسالك الموحشة، لم تكن تحب أن تعرج على شيء من بلاد الإسلام، كانت وجهتها طرابلس، فلما بلغتها بعد الجهد البالغ، والمشقة المهلكة وبعد أن تركت في الطريق ضحايا الجوع والتعب، ما توا وفي القافلة الأغنياء معهم الذهب، وفيها البطريرك يحمل من أموال الله مائة ألف دينار. . .
. . . لما بلغتها، أغلق أميرها السور في وجه القافلة وردها، ثم بعث رجاله فاستلبوها ما كان معها، فانبرى لهم الشجعان والأبطال ليردوهم، فأوقعوا بهم وقتلوهم، وكان فيمن قتل زوج (مارييت).
وتاه من بقي في البرية كما يتيه الزورق في لجة البحر، وعاد أكثر أهلها إلى دنيا الأمن والمروءة والنبل دنيا المسلمين؛ وكانت مارييت مع التائهين، تمشي معهم قد مات حسها وتبلد شعورها، ولم تعد تستطيع أن تفكر في شيء، تنزل بنزولهم وترحل برحيلهم، وتأكل إن أطعموها، وتصمت أن تركوها، وكأنما قد خولطت في عقلها، أو أصابها مس من الجنون؛ حتى بلغوا أسوار أنطاكية، فطردهم أهلها وردوهم. . .
. . . فرجعوا إلى بلاد الإسلام وقد أيقنوا أنه لن يكون في الأرض أنبل ولا أفضل من هذا الشعب الذي علمه محمد كيف تكون الإنسانية. . .
أما (ماريت) فبقيت مكانها ذاهلة كأنها لا تبصر ولاتعى، فاقبل عليها شاب من أهل أنطاكية من قومها، فأخذ بيدها وواساها، فانقادت له، وسارت معه، حتى احتواها منزله على سيف البحر، فسقطت من التعب والإعياء نائمة. . .
وأيقظها لغط حولها؛ فاستفاقت فسمعت صوت رجل يقول لصاحبه:
- ما ندعك تنفرد بها إنها أجمل امرأة وقعنا عليها.
- فيقول الأول:
- ولكنها صيدي أنا. . . أنا الذي اصطادها.
فتفهم أن الخلاف عليها، على شرفها وعفافها، ويعود إليها ذهنها، فتذكر الماضي كله، وتدرك أنها فقدت زوجها وحاميها ويشد الغضب من عزمها. فتقول لهما:
- ويحكم، أهذه هي مروءتكم وإنسانيتكم، أهذا هو دينكم يا جنود الصليب. . .
فيضحكان ويقهقهان، فيشتد بها الغضب، وتصرخ بهما:
- بأي لسان أخاطبكم؟ بلسان الدين وأنا أراكم ملحدين كافرين؟ بلسان الإنسانية وما أنتم إلا وحوش في جلد بني آدم؟ بلسان المروءة وقد فقدتموها ونسيتم حدودها؟ ويلكم ألا تستحيون أن يكون هؤلاء المسلمون أشفق على نسائكم، وأحفظ لشرفكم منكم، وأن يكونوا أنبل وأفضل وأحفظ لوصايا السيد المسيح؟ لا والله لستم للمسيح ولا لمحمد أنتم للشيطان أولئك هم الذين جمعوا المسيح ومحمداً، أولئك أهل الفضائل أرباب الأمجاد، خلاصة الإنسانية، إنكم لن تغلبوهم، لن تأخذوا أرضكم المقدسة من أيديهم أبداً، كلا. إنهم أحق بها لأنهم أوفي منكم لبادئ المسيح، إنهم أعرق منكم في الإنسانية إن المستقبل لهم، إن لهم المجد والظفر، ولكم أنتم اللعنة، لكم الخيبة والخزي.
فلا تجد منهما إلا إيغالاً في الضحك، وتتلفت حولها فلا تجد ناصراً وأين المعين على الحق، المدافع عن الشرف في بلد ليس فيه مسلم؟ وتراهما قد أقبلا عليها بعيون محمرة، فيجن جنونها، فتلقي بولدها في اليم وترمي بنفسها.
وكان البحر ساكناً فصعدت من الماء فقاعتان، فيهما اللعنة الحمراء التي خرجت من فؤادها المحترق، على هؤلاء الكلاب. . . (الواغلين على فلسطين)!
وعاد البحر ساكناً كما كان. . .
وأسدل الستار على القصة التي تتكرر دائماً منا ومنهم: قصة نبل لا يدانيه في عظمته البحر، ونذالة لا يغسل البحر أوضارها ولا يطهر الأرض من عارها.
(القاهرة)
علي الطنطاوي
قيادتنا الروحية.
.
للأستاذ سيد قطب
في حياة الأمم - كما في حياة الأفراد - فترات خاصة، ترتفع فيها على نفسها، وتسمو فيها على مألوفها فتأتي بالخوارق والمعجزات، حتى لتتأمل فيما بعد ما أتمته في هذه الفترات الصغيرة، وما قامت به في تلك الآماد القصيرة، فلا تكاد تصدق، ولا تدري كيف تأتى لها أن تأتي بذلك العجب العجاب!
هذه الفترات الخاصة هي التي ترتفع فيها الجماعات - كما يرتفع فيها الأفراد - إلى ما هو أعلى من الحياة اليومية، ومن المطالب العادية. وتتطلع إلى غايات عليا لا تتعلق بحياة فرد أو جيل، ولا تقف عند رغبة شخص، ولا أنانية فرد.
وفي هذه الفترات يجد الفرد لذته الكبرى في أن يضحي بلذائده. وغايته الأولى في أن ينسى غاياته. وتنبثق من الجماعة حينئذ إشعاعات وطاقات عجيبة؛ تتخطى اللذائذ والغايات المنظورة إلى لذائذ وغايات أخرى غير منظورة؛ قد لا تستطيع تحديدها تماماً، ولا فهمها نصاً. ولكنها تساق إليها سوقاً بدوافع خفية كامنة فيدو كأنما الكل أبطال في وقت من الأوقات.
هذه الفترات هي التي تسمع فيها الجماعات والأفراد صوت الحياة الأزلية، وتصغي فيها إلى إرادة الحياة الأبدية، فتخفت حينئذ أصوات الرغائب الفردية، وتنطوي رغبات الأفراد الزائلة فتندفع الحياة دفعة كبرى إلى الأمام؛ وتدخر بعد هذه الدفعة رصيداً تنفق منه في خطواتها التالية، حتى إذا نفد ذلك الرصيد بطؤت خطاها، وتراخت قواها، وصحت الجماعة من تلك النشوة تتلفت إلى ذاتها، وتحصر نفسها في نطاقها، وتطلع كل فرد إلى شخصه، وصحت رغائبه ولذائذه، وتفككت روابط الجماعة وعادت أفرادا وأنانيات، وصغرت قيم الحياة العليا، وأنكمش المد الزاخر، وانطوى كل فرد على ذاته، يعبدها، ويملقها، ولا يرى أبعد منها شيئاً، إلى أن تنقضي الدورة، وتزهد الجماعة في هذه الحياة الرخيصة، وتتطلع من جديد إلى آفاق أعلى، وتكون قد ذخرت من الرصيد ما يكفي للوثبة فتفعلها.
والملاحظ في هذه الدورات والفورات، اتفاق يبعده التواتر عن أن يكون مجرد مصادفة.
هذا الاتفاق هو وجود قيادة روحية في كل وثبة من وثبات الأمم والجماعات. قيادة تهتف للجماهير بنسيان الذات الفانية، وتضحية الرغبات القريبة. وتشير إليها نحو هدف آخر أبعد، وأفق آخر أرفع. وكلما بعد الهدف، وارتفع الأفق، كانت الاستجابة أكبر، والتلبية أسرع، والقفزة أعلى، والخطوة أوسع. وكلما كانت التضحية المطلوبة أوسع مدى، كان الدعاء أسرع إجابة.
فإذا كانت تضحية رغائب فرد في سبيل جماعة محدودة، كان عدد الملبين للدعوة قليلاً. وإذا كانت تضحية جماعات في سبيل أمة على نسق الدعوات الوطنية - كانت التلبية أوسع. فأما إذا كانت تضحية الأفراد والجماعات والأمم في سبيل فكرة إنسانية ومبدأ أسمى، فإن الصدى يكون أبعد، والمدى يكون أفسح، والامتداد يكون أقوى.
هكذا كانت المسيحية، ثم هكذا كان الإسلام.
كانت المسيحية تطهيراً للنفس الإنسانية من رغائبها وشهواتها واستعلاء على اللذائذ الشخصية بالحرمان والتزهد، وفناء للذات الفرد في حب يسوع المخلص. . . لهذا صمدت للتعذيب والاضطهاد والاستشهاد. صمدت لبطش الدولة الرومانية، حتى استجابت لها الدولة الرومانية وظلت تصمد لما هو أقوى من الدولة وجندها وبطشها. . . تصمد للغريزة والشهوة والأنانية وهي أقوى من كل قوة. ظلت تصمد إلى أن نفدت الطاقة، وقل الرصيد. وطغت المراسم والشعائر على العقيدة والمشاعر. فاشترى رجال الدين بدينهم ثمناً قليلاً. وأنفلت الأفراد إلى أنفسهم وذواتهم عاكفين عليها. ووقف نمو المسيحية، أو زادت شخوصاً ولم تزد ضمائر. . . اللهم إلا الفلتات التي كان ينبغ فيها أفراد ممن يدعون الناس إلى السماء فيستجيبون لهم بقدر ما في أرواحهم من رصيد. لم يرتفع مرة إلى القمة الأولى.
وهكذا كان الإسلام تجميعاً للطاقة الإنسانية كلها، وتوجيهاً لها إلى الهدف الأعلى، إلى معنى الإنسانية الأسمى: المساواة والحرية والكرامة والعمل والرحمة والاستشهاد، وفي كل واحدة من هؤلاء كان يرتفع بالنفس الإنسانية إلى آفاقها العليا.
كان يرتفع بها في (المساواة) إلى نسيان النعرة الشخصية، والنعرة المحلية، والنعرة القومية، وجميع النعرات التي تمزق الإنسانية طوائف ونحلا، وتغرس العداوات والبغضاء وتعوق النمو البشري والتقدم الإنساني.
وكان يرتفع بها في (الحرية) إلى (المساواة) في آفاقها التي رسمنا. ثم إلى التحرر من الشهوات والمطامع المذلة أو الظالمة (إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. وإن الله على نصرهم لقدير)(ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد من غلب نفسه).
وكان يرتفع بها في (الكرامة) إلى (المساواة) وإلى (الحرية). ثم إلى الترفع على عبادة العبيد، والخضوع للمخلوقين. (إن العزة لله جميعاً).
وكان يرتفع بها في (العمل) إلى (المساواة) وإلى (الحرية) وإلى (الكرامة) جميعاً. . . ثم إلى الإنتاج والتقدم بالإنسانية. (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس: أعطوه أو منعوه). (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
وكان يرتفع بها في (الرحمة) إلى ما فوق الذات، وإلى المشاركة الوجدانية مع الإنسانية، وإلى الشعور بالرحم الأقوى رحم البشرية:(وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم). (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(الفقراء عيال الله وأحبكم إلى الله أرأفكم بعياله).
وكان يرتفع بها في (الاستشهاد) إلى ضمان هذه الفضائل جميعاً؛ وإلى الارتفاع عن الحياة المحدودة إلى حياة أخرى غير محدودة. وإلى الخلاص من أشد قيود الغريزة: من حب هذه الحياة المادية، إلى حب الفكرة المجردة.
بهذا الرصيد الروحي الفخم وثب الإسلام بحفنة من الرجال في الصحراء. شعث غبر فارتفع بهم على هامات الإمبراطوريتين الشائختين في فارس والروم. وبهذا الرصيد الضخم انطلقت الشعلة في الهشيم فأحالته ناراً ونوراً ينهض بالبشرية وينير لها الطريق. واندفع الإسلام يعبر الصحارى والجبال والبحار حتى يصل إلى سد الصين شرقاً وإلى بحر الظلمات غرباً في مثل لمح البصر بالقياس إلى عمر الدهر. فكانت هذه إحدى معجزاته الكبرى.
وعند ما انطلق الفاتحون في مشارق الأرض ومغاربها لم ينطلقوا للاستعمار والفتح، ولكن لنشر الفكرة العليا. وكلما هبطوا وادياً حرروا أهله من مستعبديهم ومن حكامهم ومن ذات أنفسهم. حرروهم من السلطان الغاشم، والاستغلال القبيح، ومن الضلالات والأوهام أيضاً؛
وردوا لهم كرامتهم الإنسانية وساووهم بأنفسهم (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
واختفت في فجر الإسلام نزعات العصبية، ونزعات اللون، ونزعات الجنس ونعرات العزة بغير الله. كلكم لآدم، وآدم من تراب)!
اندفع الإسلام بهذه السرعة الخارقة، وبهذه القوة الجارفة، لأن الذين اندفعوا به قد ارتفعوا على أنفسهم، وتساموا على ذواتهم، وخفتت في أرواحهم سورة الفردية، وغلت فيها فورة الغيرية. ولأنهم تخلصوا من أوهام الحياة المادية المجسمة، وعشقوا فكرة روحية مجردة. . . وصار لقاء الله في سبيل مبادئه، أحب إليهم من لقاء أهلهم وأبنائهم، ورغبوا في النعيم الموعود برضاء الله عن النعيم الذي يلذونه في هذه الحياة:(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون، ويقتلون. وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم).
هذه الروح الإسلامية العالية، وهذا المد القوي الغامر، كان أول من وقف في طريقه، وارتد به سبيله هو معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وإخوانهما وأمثالهما ممن تنكبوا طريق الفكرة الإسلامية الروحية النبيلة، إلى الرغبات والأطماع الذاتية الوبيلة.
وكانوا أول من رد العصبيات الصغيرة المحدودة إلى مكانها، وأول من برر الوسيلة بالغاية، وأول من طعن روح الإسلام في الصميم.
ولم تعد الروح الإسلامية إلى مدها العالي مرة أخرى بعد هذه الفعلة؛ ولكنها كانت ترتفع في فترات، ثم تعود بعدها إلى الهبوط. مع هذا فقد كان المد العالي الأول - وهو أعلى مد بلغته البشرية في تاريخها كله كان كفيلاً بأن تثب البشرية وثبة لا مرجع عنها مهما انحسرت موجتها الأولى فاستمر التيار إلى الأمام وجرف معه الإنسانية جميعاً.
الفكرة الروحية الضخمة تجد التلبية بمقدار ضخامتها. وتتسع موجتها بمقدار اتساعها. وقد ظل العالم الإسلامي بين مد وجزر منذ الموجة الأولى إلى أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد وصل إلى انحطاط وخمول وإفلاس روحي ومعنوي.
وعلى عادة الروح الإسلامية في الانبعاث بين فترة وأخرى على مدى التاريخ رأيناها تنبثق في جمال الدين الأفغاني.
كان هذا الرجل شعلة محرقة مضيئة، ما مست روحاً إلا ألهبتها وأضاءتها بحسب ما فيها من استعداد للهب والإضاءة.
وكان في هذه الروح رصيد ضخم، تزود به كل من لقي الرجل في بلاد الشرق جميعاً.
ثم استقر في مصر فترة فأودعها الشعلة المقدسة التي يحملها ومنذ ذلك الحين، وفي خلال السبعين عاماً الأخيرة، نهضت مصر ثلاث نهضات عامة، وصلت فيها درجة اليقظة القومية حداً عاليا.
كانت النهضة الأولى نهضة (عرابي) لرفع شأن القومية المصرية، وإحلالها المكان اللائق بكرامة الشعوب.
وكانت النهضة الثانية نهضة (مصطفى كامل) لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، الذي لا يستند على أساس من الحق والعدلوكانت النهضة الثالثة نهضة (سعد زغلول) للثورة على هذا الاحتلال، وتقرير مصر في الاستقلال.
وليست هذه النهضات الثلاث بمنفصلة في حقيقة دوافعها - وإن فصلت بينها الأعوام - فهي جميعها تنبعث عن مصدر واحد، هو هذه الطاقة الضخمة التي انتقلت من شعلة جمال الدين قبل ثلاثة أرباع قرن في الشرق الإسلامي.
ولم تكن شعلة جمال الدين سياسية صغيرة محصورة في الأهداف الوطنية المحدودة، إنما كانت شعلة روحية، تلهب النفس الإنسانية فتتفتح منافذها جميعاً. وهذا هو الذي كفل لها الامتداد طويلاً.
وقد ظلت الأمة المصرية تنفق من هذا الرصيد في ثوراتها السياسية الثلاث، تنفق وتستهلك. ولا تضيف شيئاً إلى الرصيد لأن الزعامات الثلاث، كانت بالقياس إلى جمال الدين، ضيقة محدودة. تطوي أنفسها على مطالب قريبة محدودة، وليس لها رصيد روحي جديد.
وهنا كان موضع الخطر.
فالدفعة السياسية تفلح حين يكون وراءها رصيد روحي ضخم تنفق منه وتشتعل به، وهذا الرصيد يحفظ مستواها من الهبوط، ويصونها من الخمود. فأما حين تنفد هذه الطاقة أو تضعف فالفورة السياسية وحدها لا تكفي وهي مهددة على الزمن أن تخبو.
ولا يصعب على الباحث أن يرد ما اعتور نهضتنا القومية الأخيرة من نكسة وفساد تتبدى آثارها في النزعات الحزبية على حساب الوطن، وفي هبوط مستوى الصراع والأسلحة التي تستخدم فيه إلى نفاد الطاقة الروحية أو اضمحلالها، لأن رصيدها المذخور من عهد جمال الدين لم يتجدد أبداً.
وبالمثل يمكننا أن نرد كثيراً مما نراه من الانحلال الخلقي الفردي والاجتماعي إلى خمود الشعلة المقدسة في الوقت الذي تغمرنا فيه موجات من أوربا المنحلة، التي خبت روحها من قرون، واستحالت آلة لا قلب لها ولا ضمير تنفق من رصيد قديم سينفذ بعد حين.
والآن يجب أن نتنبه إلى هذا الخطر. . . إن اليقظة السياسية وحدها لا تبقى ولا تعيش، ولا يرتفع مستواها إلا إذا أمدتها طاقة روحية تنفخ فيها وتقويها، فأين هي القيادة الروحية لهذا الجيل؟ القيادة التي تخلق الشخصيات العظيمة كما خلقتها قيادة جمال الدين؛ وترتفع بالأفراد والجماعات عن المطالب الوقتية إلى المطالب العليا؟
هنالك جماعات تدعوا دعوات إسلامية. ولكنها جماعات هزيلة الروح، ناضبة، خامدة، أضعف من أن تنفخ في الجيل الهابط المنحل.
ترى يتمخض الانحلال عن قيادة روحية عظمى كما عودتنا روح الإسلام على مدى الزمان؛ نرجو أن تكون هناك وثبة قريبة، وأن يظلنا موعدها المرموق.
سيد قطب
هجرة الرسول والطبع العربي
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب
زود الله الشعب العربي المجيد بصفتين كريمتين لعلهما لم يتوفرا في أي شعب آخر بمقدار توافرهما لديه: إحداهما شدة التعلق بالوطن الأصلي؛ والأخرى شدة الميل إلى التنقل والهجرة، وشاءت قدرة البارئ الحكيم - وقد كرم هذا الشعب، وفضله على كثير من خلقه تفضيلا، وخصه في سلم الرقي الاجتماعي واللغوي بأمور تعد من قبيل المعجزات - أن يخصه بمعجزة أخرى في ميوله النفسية، فزوده بهذين الميلين المتضادين المتنافرين (التعلق بالوطن والميل إلى الهجرة)، ولكنه ألف بينهما في نفوس أفراده، فأصبحا بنعمته منسجمين تمام الانسجام، يشد كلاهما أزر الآخر ويكمل نقصه ويخفف من غلوائه.
فما كان العربي لتنسيه هجرته حقوق وطنه الأول، ولا لتنال من مكانته عنده، أو تنقص من حبه له أو حنينه إليه. وما كان تعلقه بوطنه الأول ليحول بينه وبين الهجرة منه إذا كان في هجرته رفع لشأن بلاده، أو توسيع لرقعة ملكها، أو مد لنفوذها وسلطانها، أو تخفيف من أعبائها، أو دفاع عن مذهب يقتنع به، أو فرار من ضيم أصابه، أو ابتغاء للرزق، أو سعي لبغية المكارم والمجد. وفي هذا يقول الشنفري شاعرهم الجاهلي.
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن خاف القلى متحول
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ
…
سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
ويقول أدباء العرب أن أقذع ذم وجه إلى عربي هو قول الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر ويناضل عن بغيض بن لأي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أما حبهم لأوطانهم الأولى، وشدة حنينهم إليها، فلا أدل على ذلك من حنين الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة بعد هجرته منها، مع أن أهلها قد أخرجوه منها وساموه وشيعته سوء العذاب، ومع أنه قد كان في هجرته منها نشر للإسلام وتوطيد لدعائمه. فقد روى أن أصيلا الغفاري قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قبل أن يضرب الحجاب؛ فقالت له عائشة:(كيف تركت مكة؟)؛ فقال: (اخضرت جنباتها، وابيضت
بطحاؤها، وأحجن ثمامها، واغدق إذخرها، وأنشر سلمها)؛ فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وقد أثار هذا حنينه إلى وطنه الأصلي:(حسبك يا أصيل لا تحزني) وفي رواية: (إيهاً يا أصيل! تدع القلوب تقر) وعن أبن عباس رضى الله عنهما قال، قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم في مكة:(ما أطيبك من بلد وأحبك إلي! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك). وعن الضحاك رضى الله عنه أنه قال: (لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله تعالى عليه: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)(قال أي إلى مكة) - ولا أدل كذلك على حب العرب لأوطانهم الأولى وشدة حنينهم إليها من عنايتهم في وثنيتهم بالحج إلى مكة، حتى لقد ارتقت هذه الشعيرة لديهم إلى مصاف الفرائض الدينية الهامة. وما الحج في نشأته الأولى إلا مظهر من مظاهر حنين العرب إلى وطنهم الأول ومنشأ أجدادهم الأولين وهو الحجاز. فمن المحقق أن الحجاز كان المهد الأصلي للشعب العربي، ومنه انتشر هذا الشعب الكريم في جميع أنحاء الجزيرة العربية وغيرها من بلاد العالم.
وأما شدة ميلهم إلى الهجرة كلما دعاهم إلى ذلك داع جدي فلا أدل عليه من هجراتهم المتوالية في فجر تاريخهم وفي عصور جاهليتهم وإسلامهم.
فمن الحجاز واليمن اتجهت في فجر التاريخ موجات الهجرة العربية إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية وإلى غيرها من بلاد العالم. - فمن هذا القسم نزح الساميون إلى العراق وغزوا بلاد السومريين وغلبوهم على أمرهم وأنشئوا مملكة بابل - ومن هذا القسم كذلك نزح الساميون إلى الشمال فتكونت من سلالاتهم الشعوب التي عرفت باسم الشعوب الكنعانية وهي التي تفرع منها الفنيقيون والعبريون - ومن هذا القسم كذلك هاجر بعض قبائل الإسماعيليين (أي أولاد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام إلى خليج العقبة حيث تكون من سلالاتهم الشعب النبطي وهو مخترع الخط النبطي المتصل الحروف الذي انشعب منه خطنا العربي الحالي. - ومن هذا القسم كذلك هاجر عرب الرعاة أو الهكسوس إلى مصر حيث أنشئوا ملكاً كبيراً ونشروا حضارتهم العربية على ضفاف النيل. - ومن هذا القسم كذلك هاجر في أقدم العصور قبائل عربية إلى الهند والحبشة والسودان وشمال أفريقيا وشرقها. - ومن هذا القسم كذلك هاجر في أوائل التاريخ الميلادي بعض القبائل
المعدية (أولاد معد) التي كانت تقطن الحجاز إلى الشام وبعض القبائل القحطانية التي كان موطنها اليمن إلى الشمال والشرق. فنزلت منها غسان بالشام والأوس والخزرج بالمدينة (وهاتان القبيلتان الأخيرتان قحطانيتان هاجرتا من اليمن إلى المدينة وإليهما هاجر الرسول عليه السلام، وفيهما تكون الأنصار رحمة الله عليهم ورضوانه).
وكذلك كان شأن العرب في عصورهم التاريخية السابقة للإسلام مباشرة، والتي اشتهرت باسم العهد الجاهلي. وقد جمعت لنا كتب الأدب طائفة كبيرة من أخبار هجراتهم وتنقلاتهم إلى مختلف أرجاء الجزيرة العربية وإلى غيرها من بلاد العالم؛ حتى أننا لا نكاد نجد قبيلة استقرت في موطنها الأصلي. وقد ساعد على تتابع هجراتهم وكثرة تنقلاتهم عدم خصوبة أرضهم، واشتغال معظمهم بمهنة الرعي، وسعيهم وراء الكلأ والماء. وساعد على ذلك أيضاً كثرة حروبهم الأهلية التي لم يكد يخمد لها سعير في هذه العصور؛ فكانت القبيلة التي تكون في موطنها عرضة للعدوان أو تغلب على أمرها تنزح في الغالب عن ديارها؛ كما حدث لمعظم بطون تغلب بعد أن هزمتها بكر في حرب البسوس.
أما هجراتهم بعد الإسلام فحدث عنها ولا حرج؛ فقد انتشروا في جميع بلاد العالم المتحضر في ذلك العصر من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، ومن أقاصي السودان جنوباً إلى آسيا الصغرى والبلقان وفرنسا وإسبانيا شمالاً، فنشروا في هذه البلاد دينهم وأخلاقهم وتقاليدهم ودمهم العربي. وأسسوا بنيان ملكهم فيها على تقوى من الله ورضوان. وفي هذا يقول شاعرهم الرحالة أبو دلف (وهو خزرجي من سلالة الأنصار الكرام).
فنحن الناس كل الن
…
اس في البر وفي البحر
أخذنا جزية الخلق
…
من الصين إلى مصر
إلى طنجة بل في ك
…
ل أرض خيلنا تسري
إذا ضاق بنا قطر
…
نَزُل عنه إلى قطر
لنا الدنيا بما فيها
…
من الإسلام والكفر
فلم يكن إذن حادث هجرة الرسول عليه السلام وجماعة من أصحابه من مكة إلى المدينة غربياً على الطبع العربي؛ بل كان هذا الطبع يحتمه تحتيماً في مثل الظروف التي تمت فيها هذه الهجرة، كما حتم من قبل ذلك في ظروف مشبهة لهذه الظروف هجرة نفر إلى بلاد
الحبشة وإلى المدينة نفسها من السابقين الأولين إلى الإسلام. فقد أشرنا فيما سبق إلى أن العربي كان يندفع بطبعه إلى الهجرة من بلاده إذا دعاه إلى ذلك داع من مصلحة عامة أو خاصة أو أصابه ضيم بين عشيرته. وهذه الأسباب جميعاً كانت متوافرة في هجرة الرسول عليه السلام.
ومع أن أهل المدينة كانوا يتألفون حينئذ من قبائل قحطانية تختلف في أصولها الشعبية عن القبائل العدنانية التي ينتمي إليها الرسول عليه السلام، فقد آثر الهجرة إليهم دون غيرهم لأسباب كثير أهمها في نظري ثلاثة أسباب:
(أحدها) أن أخوال أبيه عليه السلام كانوا قحطانيين من أهل المدينة. فكان طبيعياً، حسب مألوف العرب، وقد خذله عصبته وساموه سوء العذاب ووقفوا في سبيل دعوته، أن يلجأ إلى بعض فروع خئولته يلتمس منهم العون والحمامة. فالخئولة أقرب الناس إلى العربي بعد عمومته. بل يظهر أن العرب في مرحلة ما من أقدم مراحل تاريخهم كانت لحمة نسبهم بخئولتهم أوثق من لحمة نسبهم بعمومتهم.
(وثانيها) أنه قد آمن به قبل هجرته عدد كبير من أهل المدينة وبايعوه على الدفاع عن دينه. فكان طبيعياً أن يؤثرهم على غيرهم بهجرته ويتخذ منهم أنصاراً لنشر رسالته. (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
(وثالثها) أن أهل المدينة وضواحيها كانوا أكثر استعداداً لقبول فكرة التوحيد التي جاء بها الدين الإسلامي من بقية أهل الحجاز. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى كثرة احتكاكهم بالموحدين من اليهود والنصارى الذين كانت تتألف منهم حينئذ جاليات كبيرة عربية وغير عربية في المدينة نفسها وفيما يتاخمها من مواطن.
صحيح أنه قد ظهرت بمكة قبيل الإسلام مدرسة الحنفيين الموحدين الذين انحرفوا عن الشرك والوثنية (ومن أجل ذلك سموا بالحنفيين أي المنحرفين) وعبدوا الله وحده على ملة إبراهيم وأقاموا الصلاة وصاموا رمضان وكان من هؤلاء محمد بن عبد الله نفسه قبل أن يبعث رسولا، كما كأن منهم نفر من قريش، ولكن أعضاء هذه المدرسة كانوا يتألفون من
بعض النابهين والمتفلسفين من سكان مكة، أما دهماء الشعب نفسه فكانت شديدة التعلق بدينها الوثني، سادرة في ظلالها القديم، تقتفي آثار آبائها فيما كانوا يعبدون. وهذا هو عكس ما كان عليه الأمر في المدينة. فمع أنه لم ينشأ في الأوس والخزرج مدرسة متفلسفة كمدرسة الحنفيين بمكة، فإن السواد الأعظم من الشعب نفسه كان مهيئاً تهيئة كبيرة لعقيدة التوحيد.
علي عبد الواحد وافي
كيف ننشئ أطفالنا
للأستاذ كامل كيلاني
أشرف القائد العام على إحدى القلاع ليزورها فلم يطلق من القلعة مدفع واحد لتحيته والترحيب به. فدهش لإهمال والي القلعة، واستهانته بخطره واستدعاه، فمثل بين يديه ليحاكم عسكرياً على تهاونه وتفريطه في أداء واجبه.
ثم سأله القائد العام، وهو يكاد يتميز من الغيظ:(ما بالك قد استهنت بخطري، فلم تحيني التحية المعتادة؟) فأجابه والي القلعة باسماً: (لم يكن في قدرتي أن أطلق - من مائة المدفع والمدفع - واحداً لتحيتك، فقد منعني من ذلك مائة سبب وسبب) فقال القائد العام: (هات ما عندك من الأسباب وقل فأنا أسمع) فأجابه والي القلعة: (أولاً لم يكن في القلعة بارود) فقال القائد العام وقد سرى عنه: (حسبك هذا عذراً، فلسنا في حاجة إلى سماع بقية الأسباب).
ولقد أصاب القائد العام وأنصف فإن في السبب الأول الذي ذكره والي القلعة غنية عما يليه من الأسباب. وثمة قضايا كبيرة يهدم كل أسبابها سبب واحد فلا تبقى لغيره قيمة بالقياس إليه. وقديماً قال أبو العلاء:
لقد أتوا بحديث لا يصدقه
…
عقل، فقلنا عن أيِّ الناس تحكونه؟
فأخبروا بأسانيدٍ لهم كذب
…
لم تَخْلُ من كرِّ شيخ لا يُزَكُّونَهُ
والأمثلة على هذا أكثر من أن يحصيها العد! فإن صكا - بالغاً ما بلغت قيمته المالية - لا يساوي درهماً واحداً إذا أعوزته الإمضاءة. ومن هذه القضايا التي نحن بسبيلها، قضية اليوم. فإن السبب الأول من أسبابها إذا نقض هدم الأسباب التالية كلها فلم يبق لها خطر. قال لي أحد الوزراء المصريين الكرام:
(لقد أسلمت ولدي إلى مربية أجنبية، لتعنى بأمره وتنشئه أحسن تنشئة، وتربيه على أكمل منهاج أقرته الحضارة، فكان لنا ما أردنا، ولكن وهنا تأتي قصة الإمضاءة التي لا تتم قيمة الصك إلا بها. قال الوزير: (وذا صباح، بينا كنت أسير وولدي الصغير إذا مررنا على مسجد كبير فسألته ما اسم هذه البناية؟) فقال: (هذه كنيسة محمدية) فكدت أخر من هول ما سمعت صعقاً! ثم قال الباشا: (منذ ذلك اليوم وأنا أحذر - كل من أعرف ومن لا أعرف - خطر المربيات الأجنبيات، لأنهم - على ما يسدين إلى أطفالنا من فضل عناية ورعاية -
يسئن إلى وطننا العزيز أبلغ إساءة ويسلفن إلى قوميتنا ضرراً يتضاءل بالقياس إليه كل نفع مهما جل وعظم.
وهنا بلغنا الجرثومة من الصميم ووصلنا نقطة البحث ومدار الحديث، وتمثلت أمام أعيننا قصة الإمضاءة التي لا خطر للصك إلا بها، ولا قيمة لما يحويه من المال بغيرها.
لقد أجمع رجال التربية، وأساطين علم النفس، على أن الطفل جدير بأن يتحلى بأكرم الأخلاق وأنبل الصفات - منذ نشأته - وتواصوا بتثقيفه وتكميله، وتحبيب العلوم والفنون والآداب إلى نفسه بكل وسيلة شائقة مغرية. فإذا تم لهم ما أرادوا، فقد كتب الصك وفيه الرقم الذي نريد، ولم يبق إلا أن يمضى، والإمضاءة هي كل شيء في الصك، أو على الأصح الأدق: هي الشيء الذي لا تتم قيمة الصك إلا به.
نعم يبقى شيء نحرص عليه جاهدين ونتثبت منه مستوثقين، وهو:(على أي أساس نشئ الطفل؟ تنشئة عربية، أم تنشئة أجنبية؟ وهل قيد في دفتر مولودينا نحن أبناء العرب ووارثي تاريخهم وتراثهم وأمجادهم؟ أم أثبت في دفتر مولودي غيرنا من الأمم؟).
فإن كانت الأولى فهو من أبنائنا البررة الكرام العاملين على إعزازنا ورفقتنا. وإن كانت الأخرى قيدناه في دفتر الوفيات وضرعنا إلى الله - سبحانه - أن يجعله فرطاً صالحاً ويعوضنا خيراً منه، ويلهمنا الصبر والسلوان ويعزينا عن فجيعتنا فيه أحسن العزاء، ولا غرو أن نثكله حياً فقد ثكل الشريف الرضي بعض رفاقه الغادرين أحياء فقال مبدعاً:
(أحيا إخاءكم الممات، وغيركم
…
جرَّبتهم فثكلتهم أحياء
إلا يكن جسدي أصيب فإنني
…
قسَّمته فدفنته أجزاء)
رحم الله تلك الأجزاء العزيزة التي ندفنها كل يوم. وماذا يجدينا أن يصبح بعض أبنائنا مثال العبقرية في العالم بعد أن سلخ منا؟ وهل ينفعنا أن يصير أحدهم أشعر شعراء فرنسا أو إنكلترا أو ألمانيا - مثلاً - فيضيف إلى تراثها صفحة خالدة مشرقة ما كان أشد حاجتنا إلى إن يزاد في أسفار أمجادنا العربية الحديثة.
وماذا يعنينا من أمر هذا وأشباهه - مهما عظم خطره وجل - بعد أن يسلخهم منشئوهم من أسرتنا العربية التي نسعى لرفعتها وعزتها مستميتين؟ أو بأسلوب آخر. ماذا يجدي علينا أن تصبح بلادنا أغنى بلاد العالم وأوفرها قصوراً وأعظمها مصانع ما دام أبناء البلاد لا
يملكون من هذا كله شيئاً.
فمسألة المسائل الجوهرية - إن صح التعبير - هي أننا نريد أن يكون كل إصلاح نقوم به في بيت نملكه لا في بيت نكتريه. وفي طفل ينتسب إلينا بعروبته وشمائله لا في طفل ينتسب إلى غيرنا من الأمم برطانته ومواهبه. وجماع القول: إننا نريد أن نسخر قواتنا كلها لخدمتنا ورفعة مجدنا - نحن أبناء العرب - لا لخدمة غيرنا من الأمم وإضافة صفحات إلى أمجدهم ولن تعنينا ساقية تدور في بلادنا، ما دامت تسقي أرضاً لا نملكها وتزيد في ثروة لا تعود على مواردنا بفائدة. كما لا يعنينا أن يصبح أبناؤنا سادة العالم ومناط فخاره، ومبعث مجده. ما داموا لا يمتون إلينا بصلة ولا تربطه بنا آصرة.
ماذا؟ إن الأمر أكبر من هذا كله فإن خطر هؤلاء الأبناء والأخوة لن يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى ما هو شر منه فإنهم بلا شك عامدون - وقد رأينا مصداق ذلك في الكثيرين منهم - إلى تراثنا فمحقروه، وإلى أكرم تقاليدنا فمحاربوها، وإلى أنبل مزايانا الشرقية فمفوقون إليها أخبث السهام وأفتك الأسلحة.
وقديماً قال أبو العلاء:
(ربيت شبلاً فلما غدا أسدا
…
عدا عليك فلولا ربه أكلك)
ولكن اللوم علينا فقد تنكبنا قول المعري وخالفنا نصيحته التي أوصانا بها في تلك القصيدة البارعة حين قال:
(فلا تعلم صغير القوم معصية
…
فذاك وزر إلى أمثاله عدلك
فالسلك ما اسطاع يوماً ثقب لؤلؤة
…
لكن أصاب طريقاً نافذاً فسلك)
وقد شكا الشاعر العربي من عقوق ولده فقال:
(وربيته حتى إذا ما تركته
…
فتى الحرب واستغنى عن الطر شاربه
تغمد حقي ظالماً، ولوى يدي
…
لوى يده الله الذي هو غالبه)
ولن نمثل في هؤلاء الخارجين عنا إلا بقول ابن الرومي:
(وإخوان تخذتهم دروعا
…
فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات
…
فكانوها، ولكن في فؤادي
وقالوا قد صغت منا قلوب
…
لقد صدقوا ولكن عن ودادي)
ورحم الله القائل:
(أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما اشْتَدَّ ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي
…
فلما قال قافية هجاني
إلى هنا قد بلغنا المدى - في_ما نظن وأدركنا أن أول واجب علينا وعلى كل من يتصدى لتنشئة أطفالنا أن ينشئهم عرباً قبل كل شيء. وبعد كل شيء، وعلى الرغم من كل شيء. فما هي الوسيلة إلى بلوغ هذا المأرب الجليل!
الأمر على خطورته، غاية في اليسر فإن مفتاح كل جنسية من جنسيات الأمم المختلفة الأخرى هو لغتها التي تحوي تاريخ أهلها وتراثهم الأدبي الحافل، ومزاياهم وشمائلهم النادرة وما إلى ذلك من ضروب الفضائل والأمجاد فليكن أول هدف يفوق إليه المصلحون سهامهم المسددة أن ينشئوا أطفالنا على الفصحى لنؤمن أولاً أن السجل قد كتبهم في دفاتر مولودينا، ولم يقيدهم في دفاتر وفياتنا، فإن الطفل إذا أنشئ على لغة أجنبية انسلخ عن قوميته، وإذا أنشئ على العامية انسلخ عن شعوب الشرق العربية كلها، وأصبح بمعزل عن أسرته العظيمة المنتشرة في أقطار تلك الإمبراطورية الفكرية العربية الشاسعة. وأن كل تهاون - بالغ ما بلغ من التفه - بهذا المبدأ الأقدس الأسمى هو إساءة وقد كدت أقول (إجرام) في حق الوطن العربي الخالد.
لقد حدثتنا الأساطير أن مصدر قوة (شمشون الجبار) كانت في شعره. قالت الأسطورة. فلما قص أعداؤه شعره - بعد أن فطنوا إلى هذا سر - وهن الجبان واستكان. وقد حدثنا التاريخ الصادق الأمين وقصت علينا حقائق الحياة وعبرها أن شعر شمشون يتمثل في كل أمة - إذا فحصنا عنه - في لغتها فإن قص هذا الشعر، وهذه اللغة، وهنت الأمة في أثره وضاع خطرها وتفككت أواصرها الوثيقة.
ومتى أقررنا ذلك، وجب علينا أن نمهد لهذه الغاية الجليلة وسائلها ونعبد لها طرائقها ونيسر للطفل منهاج العربية واضحاً لا عوج فيه ولا أمتا، مستعينين على ذلك بكل أساليب التربية الصحيحة، ومغرياتها الرشيدة على ألا تسمح في إثبات لفظة عامية أو عجمية دخيلة لا يقرها اللسان العربي، ولا توائم أساليب الفصحى، فإن كل خطأ في ضبط الكلمات التي نقدمها لأطفالنا، وكل تقصير أو إهمال في تحري فصاحتها والتثبت من صحتها جناية على
لغتنا أي جناية وتعويق لنهضتنا أي تعويق.
وليضع كل من يتصدى لتعليم الأطفال أو التأليف لهم نصب عينيه، وصك أذنيه وملء ضميره وجهد حبه للخير أن كل خطأ ينطبع في أذهانهم وكل وهم أو زلل يعترض سبيلهم إنما هي في الحقيقة مزالق أو حفر يتردى فيها الطفل الوادع المسكين وليس له ذنب في ترديه إلا وثوقه بكفاية معلمه وأمانة أستاذه الذي أبى قصوره أو تقصيره إلا أن يحقق قول أبي العلاء:
(ما الناس إلا سالك مسترشد
…
وأخ - على غير الطريق - يدله)
ولن يغفر التاريخ إثم من يتصدى لتعبيد الطرق للعابرين إذا عرضهم للمخاطر والتلف، ولن تشفع له جهوده العظيمة وحسناته المتوالية في هذا الجرم الشائن.
أما بعد، فليأذن لي القارئ متفضلاً أن أصرخ - قبل أن أختتم هذه الكلمة - صرخة مدوية منبعثة من الأعماق في وجه كل من يتصدى لوضع كتب لأطفالنا ممن لا يدينون بهذا المبدأ المقدس الأسمى، فيملأها رطانة وركاكة وأغلاطاً ويجني بذلك على نهضتنا عابثا أو جاداً، عامداً أ، غير عامد، أكبر جناية يسجلها تاريخ عزتنا، ويدونها سجل قوميتنا، ويقبح جانبها كل غيور على الصلاح، ويلعن جارمها كل محب للعرب منتصر للعروبة.
ألا هل بلغت، اللهم فأشهد.
كامل كيلاني
وحي الشرق
للأستاذ محمود غنيم
مهدَ الهدى ومثابةَ الأقمار
…
نورُ البصائرُ أنت والأبصارِ
فيكَ الشرائعُ والشموسُ تلاقتا
…
فتلاقت الأنوارُ بالأنوار
لله سر في اختياركَ مهبطاً
…
للوحي يا مُستودعَ الأسرار
لمسوح عيسى فوق أرضك خطرةٌ
…
وعصا الكليم وبردةِ المختار
وضعت شرائعك السماءُ وأين من
…
وضع السماء نتائجُ الأَفكار؟
أبصرت غيرك مستعاراً مجدُهُ
…
لكن مجدكَ أنت غيرُ معار
مجدٌ بأسباب السماء تعلقت
…
أسبابُهُ صنعته كف الباري
قالوا الحضارة قلت أزهر نبتها
…
في الشرق قبل منابت الأشجار
أرض ينابيعُ البيان تفجرت
…
من جوفها قبل النمير الجاري
سحر الطبيعة والبيان تسابقا
…
فيها سباق الخيل في المضمار
تتطامنُ الأيامُ إن مرَّت بما
…
ضمَّتْ جوانبها من الآثار
هذا أديمُ الله خصَّ برسْله
…
وبيوتهِ القدسيّة الأحجار
في كل عام للحجيج تمسحٌ
…
بالقدس أو بالبيت ذي الأستار
الشرق مهوى كل وجه ساجدٍ
…
لله لا للقوت والدينار
وإذا النفوس عرين من دين ومن
…
خُلُق فليس لهنّ أيُّ قرار
ليس السلام برائج في عالم
…
بارت به الأرواح أيَّ بوار
وتقطعت بين السماء وبينه
…
شتى الصلات تقطع الأوتار
الغرب سار على هدى أطماعه
…
فتعثرت قدماه أيَّ عِثار
أمم سرت في جنح ليل مظلم
…
قد ضل فيه النجم قبل الساري
تبكي حضارتها بملء جفونها
…
وتئن تحت جدارها المنهار
قل للأولى ضلوا وضلت فلكهم
…
في اليمِّ شرعُ الله خيرُ منار
محمود غنيم
الناحية العلمية من أعجاز القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
القرآن الكريم حجة الله البالغة على عباده؛ وموضع الحجة القاهرة فيه إعجازه الخلق. وينبغي إلا يكون إدراك إعجازه موقوفاً على فصحاء العرب ومن لف لفهم، فإن الإنسانية كلها مخاطبة به، مطالبة بالتسليم له أنه كلام الله ليس لآدمي فيه كلمة ولا حرف. والإنسانية أعجميها أكثر من عربيها، ومع ذلك فلا بد من أن يتضح إعجاز القرآن لكل إنسان، ولو كان أعجمي اللسان، لتلزمه حجة الله إن هو أبى الإسلام.
هذا النوع من النظر والتفكير يؤدي إلى نتيجة لازمة: أن لإعجاز القرآن نواحي غير الناحية البلاغية، وغير ناحية التنبؤات التي كانت في ضمير الغيب حين نزل القرآن، ثم حققها الله فعلاً فيما استقبل الناس من زمان.
الواقع أن موضوع إعجاز القرآن لا يزال بكراً برغم كل ما كتب فيه. لكني لست أريد أن أتناوله في هذا المقال إلا من تلك الناحية التي لا يتوقف تقديرها والتسليم بها على معرفة لغة لا تتيسر معرفتها لكل أحد. هذه الناحية العلمية من الإعجاز.
وإذا فهمنا الناحية العلمية على أوسع معانيها فإنها تشمل كل ماعدا الناحية البلاغية من النواحي: تشمل الناحية النفسية وكيف اقتاد القرآن النفس ويقودها طبق قوانين فطرتها؛ وتشمل الناحية التشريعية وكيف نزلت أحكام القرآن طبق قوانين الفطرة للأفراد والجماعات؛ وتشمل الناحية التاريخية التي لم يكن يعلمها البشر عند نزول ما اتصل بها من آيات القرآن ثم كشف عنها التنقيب الأثري بعد؛ ثم تشمل الناحية الكونية ناحية ما فطر الله عليه غير الإنسان من الكائنات في الأرض، وما فطر عليه الأرض وغير الأرض في الكون.
هذه النواحي هي التي ينبغي أن يشمر المسلمون للكشف عنها وإظهارها للناس في هذا العصر الحديث. ولن يستطيعوا ذلك على وجهه حتى يطلبوا العلوم كلها ليستعينوا بكل علم على تفهم ما اتصل به من آيات القرآن، ويستعينوا بها على استظهار أسرار آيات القرآن التي اتصلت بالعلوم جميعاً. ولا غرابه في أن يتصل القرآن بالعلوم جميعاً، فما العلوم إلا نتاج تطلب الإنسانية أسرار الفطرة، والقرآن ما هو إلا كتاب الله فاطر الفطرة، فلا غرو
أن يتطابق القرآن والفطرة، وتتجاوب كلماتها وكلماته، وإن كانت كلماتها وقائع وسنناً، وكلماته عبارات وإشارات تتضح وتنبهم طبق ما تقتضيه حكمة الله في مخاطبة خلقه، ليأخذ منها كل عصر على قدر ما أوتي من العلم والفهم، وكذلك دواليك على مر العصور.
هذا التدرج في إدراك تمام التطابق بين القرآن والفطرة أمر لا مفر منه في الواقع، ثم هو مطابق لحكمة الله سبحانه في جعله الإسلام آخر الأديان، وجعله القرآن معجزة الدهر، أي معجزة خالدة متجددة: يتبين للناس منها على مر الدهور وجه لم يكن تبين، وناحية لم يكن أحد يعرفها أو يحلم بها من قبل، فيكون هذا التجدد في الأعجاز العلمي هو تجديداً للرسالة الإسلامية، كأنما رسول الإسلام قائم في كل عصر يدعو الناس إلى دين الله ويريهم دليلاً على صدقه آية جديدة من آيات تطابق ما بين الفطرة وبين القرآن.
هذا النوع من الإعجاز يعجز الإلحاد أن يجد موضعاً للتشكيك فيه إلا أن يتبرأ من العقل. فإن الحقيقة العلمية التي لم تعرفها الإنسانية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلاً، والتي ذكرها القرآن، لا بد أن تقوم عند كل ذي عقل دليلاً محسوساً على أن خالق الحقيقة هو منزل القرآن.
وقبل أن نورد بعض الأمثلة التوضيحية يجب أن ننبه إلى أمرين مهمين: الأول أنه لا ينبغي في فهم الآيات الكونية من القرآن الكريم أن نعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت القرائن الواضحة تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه. إن مخالفة هذه القاعدة الأصلية البسيطة قد أدى إلى كثير من الخطأ في التفسير. وسنرى أن من أعجب عجائب القرآن أن المطابقة بين آياته وآيات الفطرة تكون أتم وأيسر كلما أخذنا بتلك القاعدة في فهم كونيات القرآن. هذا أمر.
أما الأمر الثاني فهو أنه ينبغي ألا نفسر كونيات القرآن إلا باليقين الثابت من العلم، لا بالنظريات ولا بالفروض. إن الحقائق هي سبيل التفسير الحق: هي كلمات الله الكونية ينبغي أن يفسر بها نظائرها من كلمات الله القرآنية؛ أما الحدسيات والظنيات فهي عرضة للتصحيح والتعديل إن لم يكن للإبطال في أي وقت.
فسبيلها أن تعرض هي على القرآن بالقاعدة السابقة لتبين مبلغ قربها منه أو بعدها عنه، وعلى مقدار ما يكون بينها وبينه من اقتراب، يكون مقدار حظها من الصواب.
فلنأخذ الآن في تبين طرف من أعجاز القرآن العلمي عن طريق ضرب بعض الأمثال. وستكون الأمثال فردية لأن الناحية العلمية العامة من الأعجاز قد سبق بيانها في بعض أعداد الرسالة، إذ أثبتنا التطابق التام بين العلم الطبيعي الحديث والقرآن من ناحية الموضوع ومن ناحية الطريقة، وبينا أن العلم بموضوعه مأمور به في القرآن على التحديد، وأن العلم بطريقته يقره ويؤيده القرآن.
لنبدأ من الأمثلة بأول آية - بعد البسملة - في أول سورة من القرآن. ولنبدأ بالآية الكريمة فاتحة أم الكتاب. (الحمد لله رب العالمين) ولندع إعجاز شطرها الأول، ولنأخذ في إعجاز شطرها الثاني، ولنقصر من ذلك على ما يتمثل من الكلمة الأخيرة من: كلمة (العالمين).
لاشك أنها كلمة فاجأت العرب من الناحيتين على الأقل: ناحية الجمع، وناحية تذكير الجمع،. فالعرب لم يكونوا يعرفون إلا عالماً واحداً هو الذي كانوا يعيشون فيه. والناس إلى اليوم لا يتحدثون إلا عن عالم واحد هو هذا الذي نبصر ونحس ونعيش فيه. فقصر الحمد على رب العوالم شيء. فجأ الناس إذ ذاك ولم يألفه كل الناس إلى اليوم.
والتمس الناس تلك العوالم المتعددة فقالوا هي عوالم الإنس والجن والملائكة، وقالوا هي عوالم الحيوان والنبت والجماد، ولكن ليس كل ذلك بموف بمعنى ذلك اللفظ، لفظ (العالمين) إنه جمع معرف لا جمع منكسر، وأنت إذا قلت العالم لم تفهم إلا عالماً واحدا هو هذا الشامل لكل ما ترى من أرض وسماء. وإذا أخذنا بحرفية اللفظة في الفهم طبق قاعدتنا الأولى، كان عالمنا هذا فرداً من أفراد، وعالماً من عوالم مثله. فأين هذا المعنى في أي كتاب بأي لسان قبل القرآن؟
ثم جاء علم الفلك الحديث بمراقبه ومراصده، وتحليلاته الرياضية وغير الرياضية، فبين أن المجموعة الشمسية التي نحن فيها ومنها ليست في هذا العالم المجري شيئاً مذكوراً؛ وبين أن هناك عوالم مجرية أخرى مترامية المطارح تعد لا بالمئات ولا بالألوف ولكن بالملايين؟.
لكن العلم لم يهتد إلى الآن في العوالم المجرية الأخرى إلى أرض كأرضنا، وإن اهتدى إلى أن في كل عالم مجرى آلافاً مؤلفة وملايين من الشموس. وستجد أكثر الناس يقنع من التطابق القرآني العلمي في هذا اللفظ الكريم بهذا القدر؛ لكن حرفية المعنى القرآني لا تقنع
بهذا وتؤدي إلى أكثر من هذا. إن عالمنا، وهو العالم الذي نعرف عنه أكثر كثيراً مما نعرف الآن عن أخواته، فيه أرض تدور حول شمس، بكل ما في الأرض وما في الشمس من أسرار. فحرفية اللفظ القرآني وحقيقة الجمع القرآني يقتضيان أن تكون هناك عوالم أخرى فيها أرض تدور حول شمس. أي أنه لا بد حسب حرفية القرآن أن يكون في ملايين العوالم المجرية الأخرى عوالم ولو قليلة يتحقق فيها ما هو متحقق لنا في هذا العالم الذي جمعه الله سبحانه في أول آية من كتابه جمع تذكير، ليكون في ذلك إشارة وتنبيه للناس إلى ما في الكلمة الكريمة من أسرار ليطلبوهافلا يصرفوا أنفسهم عنها بتعليلهم صيغة الجمع بمراعاة الفاصلة، أو التغليب، أو ما أشبه ذلك من تعليل.
فما مبلغ ما وصل إليه العلم الحديث في شأن هذا السر العظيم الذي أشار إليه الخالق سبحانه بكلمة (رب العالمين)، سر وجود الحياة في أرض غير أرضنا في عالم كعالمنا؟ كل ما وصل إليه من هذا أن وجود الحياة على غير كوكبنا هذا أمر ممكن، بل أمر راجح. ومن يرد الاستزادة من وجهة العلماء في هذا الأمر، فليقرأ فصل:(الحياة في العوالم الأخرى) من كتاب: (عوالم لا نهاية لها) للفلكي الملكي الإنجليزي هـ. سبنسر جونز.
وإذا لم يكن لدى العلم إلا ترجيح ما فهمنا من اللفظ الكريم، فهل في كتاب الله ما يؤيد هذا الفهم وهذا التخريج؟ هل في القرآن ما يفصل هذا السر المجمل في لفظ (العالمين)؟ فإن أوثق ما يفسر به القرآن هو القرآن.
(البقية في العدد القادم)
محمد أحمد الغمراوي
في شهيد ميسلون:
وقع اضطراب في ترتيب هذه القصيدة نصوبه فيما يلي:
جاء بعد البيت الثامن الذي أوله: في موكب الفادين (لا الغادين) قوله:
لو قسمتهم بعدوهم وسلاحه. . . والصواب: أن موضع هذا البيت هو بعد البيت الثاني عشر الذي أوله: الرابضين على الحصون.
المجدد المنتظر.
. .
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان المسلمون في الماضي كلما حزبهم الأمر، وبلغ اليأس بهم كل مبلغ، وجدوا في خبر المهدي الذي يأتي آخر الزمان، أو المجد الذي يبعث على رأس كل مائة سنة، ما يحي فيهم ميت الأمل، ويبعث فيهم الرجاء بعد اليأس.
وهاهم أولاء الآن قد حزبهم الأمر بما لم يحصل مثله في ماضيهم، فأصبحوا من الضعف بحيث طمع فيهم من لا ناصر له وغلب عليهم كل مغلب، وشمخ عليهم من ضربت عليه الذلة والمسكنة، فهم في أشد حاجة إلى من ينهض بهم من هذا الضعف فيصلح ما فسد من أمرهم، ويجدد ما بلى من أحوالهم، ويقضي على ذلك الجمود المميت، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ويقود جنود الإصلاح إلى النصر، وينظم صفوفهم في الحرب القائمة بينهم وبين دعاة الجمود، حتى ينتظم ما تفرق من صفوفهم، وترتفع في الخافقين أصواتهم.
فهل يقوم لهم بذلك ما يرجونه من المهدي المنتظر، أو من المجدد الذي يبعث إليهم في رأس كل مائة سنة؟ والجواب عن ذلك يجرنا إلى النظر فيما مضى من أثر الفكرتين في المسلمين.
لقد نبتت فكرة المهدي المنتظر بين فرقة الشيعة من المسلمين فانتظروه شخصاً من آل بيت النبوة يوافق اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ويوافق اسم أبيه اسم أبيه أيضاً، فيكون إماماً معصوماً، ويكون مؤيداً فيما يقوم به من الله تعالى، ويكون له حكم المسلمين جميعاً، فيرجعون إليه في أمور دينهم ودنياهم.
ولا شك أن هذه أمور تغري النفس كل الإغراء، وتثير في كل شخص أن يكون المهدي المنتظر، لتكون له تلك القداسة الدينية، وليكون له ذلك السلطان على المسلمين، وكل ما كان من هذا القبيل يدخل فيه الاحتيال، ويستعان عليه بالتصنع، وما يدخل فيه الاحتيال لا ينطلي عند كل الناس، وما يستعان عليه بالتصنع لا يلبث أن يظهر أمره، فيفترق فيه المسلمون حيث يراد اجتماعهم، ويكون وسيلة خصام، لا وسيلة سلام ووئام.
وقد قامت محاولات كثيرة في ذلك كان الفشل نصيبها كلها ولم يستفد المسلمون منها شيئاً، بل كانت تزيدهم فرقة إلى فرقتهم وكان الخلاف يتسع بها بينهم، ولم تفدهم محاولة منها ما
يطلبونه من إصلاح، ولم توصلهم إلى ما يريدونه من تجديد.
وكانت أول محاولة في ذلك من أبي جعفر المنصور ثاني ملوك بني العباس، وكان من قبله بني العباس قد وضعوا تنبؤات في ظهور أمرهم، وفي ظهور المهدي من بينهم، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس - والظاهر أنه موضوع عليه - أن أم الفضل حدثته أنها مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: إنك حامل بغلام، فإذا ولدت فأتيني به، فلما ولدته أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وألبأه من ريقه وسماه عبد الله، وقال: اذهبي بأبي الخلفاء. فأخبرت العباس - وكان رجلاً لباساً - فلبس ثيابه، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بصر به قام فقبل بين عينيه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: هو ما أخبرتك، هو أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي، حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم.
ومن ذلك ما روي عن ابن عباس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اللهم انصر العباس وولد العباس - قالها ثلاثاً - ثم قال: يا عم، أما شعرت أن المهدي من ولدك موفقا راضيا مرضيا.
وكان أبو جعفر المنصور يسمى عبد الله، وكان له ابن يسمى محمداً، فأراد أن يجعل منه المهدي الذي مهدوا لظهوره بهذه التنبؤات، وكان أبو العباس السفاح قد بايع لأخيه أبي جعفر من بعده، ثم لابن أخيه عيسى بن موسى من بعد أبي جعفر، فلما صار الأمر إلى أبي جعفر المنصور عمل على أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، وأن يضع مكانه ابنه محمداً، فلقبه المهدي. وأشاع حوله تلك الأحاديث والتنبؤات التي ترمي إلى تقديسه وتعظيمه، وتشير إلى أنه يقوم بالأمر فيملأ الأرض عدلاً، ثم أخذ يرغب الناس فيه، ويجتهد في حمل وجوه دولته على الالتفاف حوله فلما تم له ما أراد من ذلك جعله من فعل الله تعالى، وأنه هو الذي أشرب قلوب الناس مودة المهدي، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا به، ولا يجري على ألسنتهم إلا ذكره، لمعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ثم أقدم على الغاية التي أرادها من ذلك، فأراد أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، ويولي مكانه ابنه المهدي، تنفيذاً لما أراده الله من ولايته، لأنه زعم أنه أمر تولاه الله وصنعه، ولم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا
مذاكرة.
ولكن عيسى بن موسى لم ينطل عليه شيء من ذلك، ولم يذعن لهذا الاحتيال الظاهر من عمه أبي جعفر، ورأى أنه لا مهدي يراد، وإنما تراد ولاية العهد لا غير، والباطل يظهر أمره وإن حاول الناس إخفاءه، والحق لا يأتي بمثل هذا الاحتيال والتصنع ولا يقوم أمره على نقض العهود، ولا تستبيح دعوته الحنث في الأيمان.
فلم يزل عمه أبو جعفر يأخذه تارة بالقهر، وتارة بالإغراء، حتى خضع لما أراد، وترك ولاية العهد لابن عمه المهدي، فقام بالأمر بعد أبيه أبي جعفر، وإذا هو ملك كغيره من الملوك، لم يملأ الأرض عدلاً، ولم يحقق للمسلمين أملاً مما يرجونه من المهدي المنتظر، بل سار في الطريق التي سلكها من مضى قبله من ملوك بني العباس وبني أمية، وسلكها من أتى بعده من الملوك ولم يكن ما قام به المنصور من الدعاية له إلا أماني خادعة، واحتيالات لما أراده من قيامه بالأمر بعده.
وكذلك كان أمر كل من ادعى أنه المهدي المنتظر قديماً وحديثاً، يحاول في أمره أن يصله بأمر السماء، ليأخذ الناس بدعوى الولاية، وادعاء التأييد من الله تعالى، ويحملهم على ما يريده من إذعانهم له، حتى يقيم فيهم ملكاً له ولأولاده، أو يجعل له سلطة دينية عليهم، فلا ينخدع به ذلك إلا من تنطلي عليهم خديعته، ويبقى جمهور المسلمين بعيداً عنه، لا يؤمن بخداعه، ولا يرى أن دعوته هي الدعوة التي يرجوها.
لأنهم يرجون إصلاحاً لا ملكا، ويريدون مصلحا لا يبغي لنفسه من الإصلاح شيئاً، ولا يجعله وسيلة لمآرب شخصية، دنيوية كانت أو دينية، حتى تكون دعوته خالصة لوجه الإصلاح لا يشوبها شك ولا تشوبها ريبة.
ولأنهم يرجون الإصلاح من طريق العلم والاجتهاد، ويريدون أن يؤمنوا به بالدليل والبرهان، لا بتلك التنبؤات الموضوعة، ولا بدعوى الولاية والتأييد من الله تعالى، لأن الإسلام قد أغلق باب الإقناع بهذه الوسائل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفتح باب الاجتهاد والإصلاح، وجعل وسيلته الإقناع بالدليل، حتى يؤمن الناس عن بصيرة، ويأخذوه عن علم لا عن تقليد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه دينهم، وكما كان الأصحاب يأخذون دينهم عنه.
ولأنهم يرجون مصلحاً ينهض بهم والزمان مقبل، والدنيا لا يزال فيها أمل، فيستردون به ما ضاع من مجدهم، ويعيدون به ما ذهب من عزهم، ويكون لهم في ذلك أمل كأفسح ما يكون الأمل، ويكون لهم فيه رجاء كأقوى ما يكون الرجاء. ويواتيهم فيه الزمان كما واتاهم من قبل.
ولا يرجون مصلحاً يأتي لهم في آخر الزمان، والدنيا مدبرة والآخرة مقبلة، فلا يكون أمامهم من فسحة الزمان ما يشيدون فيه كما شيد آباؤهم، ولا يكون عندهم من بعيد الأمل ما ينهض بهم كما نهض بسلفهم.
وهذا إلى أخبار المهدي المنتظر لا يتفق المسلمون على التصديق بها، بل يذهب كثير من العلماء إلى إنكارها، ويرون أنها تنبؤات وضعت لأغراض سياسية، وقد أكمل الله الدين ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقطع ببعثته حجة السماء على الأرض، ولم يبق بعده حاجة إلى اتصال بينهما، كالاتصال الذي تقوم عليه فكرة المهدي المنتظر.
أما فكرة المجدد الذي يبعثه الله في كل جيل من أجيال المسلمين، فلا تقوم على ما تقوم عليه فكرة المهدي المنتظر من دعوى الولاية، وادعاء التأييد من الله تعالى، ولا يقصد صاحبها ملكاً بين الناس، ولا سلطة دينية ينتفع بها في دنياه، ولا يلزم أن يكون شخصاً من آل بيت النبوة، وإنما هو شخص من عامة المسلمين، كمل عقله، وسما علمه، وعرف الداء والدواء، وآمن بالتجديد والإصلاح، فقام يدعو إلى ذلك بالنظر والاجتهاد، ويؤيده بالدليل والبرهان، ويضحي فيه بنفسه وماله، ويستهين فيه بكل ما يلقى من كيد، وما يصادف من عناء، ويرجو من ذلك كله أن تظهر دعوته، وينتصر حقه على باطل غيره، فترتفع راية الإصلاح، وتنتشر دعوة التجديد، ولا يكون له بين المسلمين إلا شرف الجهاد، وحسن الذكرى.
وتلك كانت غاية الأنبياء والرسل من دعوتهم، من بعثة نوح عليه السلام، إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول نوح لقومه في الآية (72) من سورة يونس (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين)
ويقول هود لقومه في الآية (51) من سورة هود (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)
ويقول الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية (104) من سورة يوسف (وما تسألهم عليه أجر إن هو إلا ذكر للعالمين).
وهذا الإخلاص هو الوسيلة لنجاح الدعوة، وجمع الكلمة والثقة بالداعي، إذ لا مأرب له يشوه دعوته، ولا غاية له تشكك في أمره، وليس كالإخلاص في نجاح الأمور، ولهذا عول الدين عليه فيما أتى به من أصول وفروع، وجعله أساساً لصحتها، وركنا من الأركان التي تقوم عليها.
وقد آن للمسلمين أن يزيلوا م أدمغتهم فكرة المهدي المنتظر وأن يلبوا مجدداً ينهض بهم في هذا الزمان، لأنهم لا يجدونه إلا إذا طلبوه، وشعروا بحاجتهم إليه، وقد سبقت الإرهاصات وتوالت البشائر، والأمل قريب بنجاح الطلب، وظهور ذلك المجدد.
خنازير تدس أفواهها في وضوء المسلمين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
خبرت كثيراً من الهيئات الإصلاحية، فوجدت فيها نوعاً من الناس يشترك في توجيهها مع أنها لم تنشأ إلا لتطيره هو أو تطهير المجتمع منه! فكيف تأتي لأمثال هؤلاء أن يتسربوا إلى منابع الطهر ومناطق الإصلاح؟ إنها لا شك غفلة وعبث ومجلبة للأضرار حيث تلتمس المنافع، وإنها خدعة لها ما بعدها من انتكاس الحال وازدياد الفساد وانعكاس القصد وضياع الجهود هدراً، وإنها لفجيعة أن تلتمس لوجهك طهوراً فإذا به نجس!
وأنا أفهم أن الإنسان قد يلبس بعض الشر والضعف الخلقي ويقترفه وهو مؤمن بالفضيلة محب للصلاح والصالحين يدعوا الله أن ينفعه وينقذه بهم وأن يمن عليه بسلوكه مسالكهم ومع ذلك يبتعد عنهم كي لا يلوثهم أو يعطلهم أو يؤثر على توجيههم للناس، ولكنني لا أفهم أن يقترب منهم ويشترك في إرشاد الناس معهم مع أنه يعلم رأي الناس فيه وقلة بضاعته في سوق الهدى والتوجيه.
إن المريض بمرض نفسي ينبغي له ألا يزاول التطبيب فيه، إلا إذا كان له من الشجاعة ما يجعله يقدم نفسه دليلاً وحجة على فساد عكس ما ينصح الناس به، وما يجعله يضرب نفسه مثلاً مجسماً أمام الجماهير، يقول بصدقه وصراحته قولاً بليغاً في نفوسهم؛ لأنه حينئذ يكون كذلك النوع النادر من الأطباء الذين يقدمون أنفسهم قرابين للعلم وفداء للناس بتعريض أجسامهم للأمراض الفتاكة ليخبروها ثم يخبروا الناس عن نتائجها.
ولكنا نجد كثيراً من مرضى النفوس وضعاف الأحلام، ومثال الأنانية، لا يجدون مجالاً لعرض أمراض نفوسهم وضعف أحلامهم وجلو شهرتهم إلا في جبهات الإصلاح يتطرقون إليها في جرأة، ويتدسسون فيها في خبث واستغلال، حتى لتبدوا للناقد الفاحص كأنها جبهات إفساد لا جبهات إصلاح!!
وإن السماح لهذا التسرب الخطر هو نوع من الصد عن سبيل الله، لأن الدرهم الزائف يطرد الدرهم الصحيح من السوق ويجعل طابع التعامل هو الغش والخداع، ويحمل الجماهير على الشك في صحة الدعوة الإصلاحية، بل الشك في جوهر الفضيلة ذاتها. . . وهذا أمر في غاية الخطورة على أمة تلتمس لنفسها السلاح الوحيد لإنقاذها وإنهاضها، وهو
الإيمان بالقيم الخلقية والعقائد التي تثير أعظم ما في الطبائع البشرية وتوجههاً نحو المجد والقوة والفوز ولعل هذا الأمر هو السر في أننا نجد كثيراً من تلك الجبهات الإصلاحية لا تلبث أن تنهض حتى تنهار، ولا يلبث رجالها أن يتعارفوا حتى يتناكروا ويختلفوا وتظهر أعراض اختلافهم وتناكرهم على عيون الأشهاد، وهذا من طبيعة الأشياء إذ كيف يتأتى أن تجتمع الأضداد والمتناقضات من غير احتراب وشقاق؟ وأي بذرة أو نواة استطاعت قوانين الحياة والنماء أن تخرج منها نخلة أو شجرة فارعة مثمرة إذا كانت عوامل السوس والفساد قد تسرب إليها وهي في طور النمو الأول؟ إن الله تعالى يحافظ على مناطق النمو في النبات والحيوان ويلففها بأقمطة ولفائف ويقيم حولها حراساً أيقاظاً تدرأ عنها عوامل الفساد وتحفظ فيها عوامل الحياة ولا تسمح لسوسة أو نملة أو جرثومة مخربة ضئيلة أن تتطرق إليها وتزعم أنها من عوامل التكوين والنمو. تلك هي سنة الله القادر العالم الحفيظ الغيور على ما يصنع حين يكون المصنوع في دور الضعف دور النشوء، حتى إذا قوى واشتد وصار قادراً على احتمال الصراع بين عوامل الحياة وعوامل الفناء تركه يبرز قواه الذاتية وأسراره الخفية في الحرب الأبدية بين الخير والشر. فلماذا لا يصنع محبو الإصلاح المخلصون ما يصنع الله ويسترشدون بسننه وقوانينه؟ أم هم يظنون أنهم قادرون على تبديل سنن الله ما داموا يتكلمون بحذق ومهارة؟ إن الأمر في إنشاء جيل على الصلاح ليكون أساساً لأجيال بعده، أعظم من أن يكتفي فيه بتزاويق الكلام وتحابيره. إنه يلخص في أمر واحد. عمل مجسم صامت في جوانب الحياة لا يعلن عنه أصحابه وإنما يتحدث عنه غيرهم!
وما ينبغي أن يخدعنا الكلام بعد أن وعينا عبرة الأيام التي هي عبرة العمل وحده في الأمم التي تحب العمل. . .
لقد وجدت بعض الملحدين الفاسقين يحسنون القول في الإيمان أكثر من إحسان المؤمنين الصادقين. . .
ووجدت بعض المجرمين يجيدون القول في احترام العدالة والقوانين أكثر من إجادة الطائعين الخاضعين للنظام. . .
ووجدت بعض الضعفاء يعظمون القول في القوة ة والسلطة أحسن من الأقوياء المسلطين.
ووجدت أعداء الحق والفضيلة والصلاح إذا حملتهم المناسبات على القول في أضداد ما يقترفون: أتوا بالقول الساحر والبيان الخالب، طلباً لتصفيق الجماهير البلهاء، لا لوجه الله. . .
ووجدت الجماهير البلهاء أسرع إليهم وأشد احتفالاً بهم من احتفالها بالعاملين الصادقين المحسنين. . .
لقد وجدت هذا. . . فصرت لا أخدع بالكلام. . . وعلمت لماذا كان العمل هو الأمر الوحيد الذي جعله الله ميزان القلوب ومعيار الحساب. . . وعلمت السر في حديث (محمد) سيد المصلحين المخلصين صلى الله عليه وسلم في وصف الدجالين الذين يدسون أفواههم في دعوات الإصلاح كما تدس الخنازير أفواهها في وضوء المتطهرين المسلمين: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان: مالك! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهي عن المنكر وآتيه).
عبد المنعم خلاف
تسبيحة الرمال.
.
في صلاة الصحراء. . .
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
تدفق سلسالا من الوحي صافيا
…
فغنت به الصحراء ركباً وحاديا
وطوَّف يسقى جدْبها من روائع
…
تحدَّث حِجاها أحرفا ومعانيا
سقى فُجرَها تقوى وعدوانها هدىً
…
لك الله من ظمأى تُطاردً ساقيا!
تدافعُها للموتِ حُمَّى تُديرهُ
…
على القوم مَجْنياً عليه وجانيا
يثورُ بهم طبعٌ لئيمٌ إلى الوغى
…
ليلقوا منايا صِرْن فيهم أمانيا
تمرَّدتِ الصحراءُ وارْبدَّ أفقُها
…
وما حجبَ الأصباحَ كالأفقِِ دَاجيا!
ترحلَ كالسر المحجَّب في الدجى
…
وكالهمس بين اثنين حين تناجيا
كالحُلم رفَّافاً وكالطَّيف عابراً
…
وكالنفس المجهودِ ينسابُ خافيا
تسرْبلَ جنحَ الليلِ لم يخْشَ ضارباً
…
من الوحش بل يخشى العصاةَ الضَّواريا
فندَّتْ رمالُ البيد ميمونَ خطْوه
…
وهبَّت سواِفَيها عليْهِ حَوَانيا
تقبَّل فيه الفجرَ أبلجَ رائعاً
…
ينيرُ النهارَ الحقَّ أروعَ ضاحيا
جلاها من النور السماويِّ شرعةً
…
أشعتْ فشقَّت بالضياءِ اللياليا
طرائفُ لم يبل الزمانُ جديدَها
…
سيبلَى جديداهُ؛ وتلك كماهيا!
بناها على حقٍ وأرسَى بناءها
…
فبوركَ من مبنىً وبُوركَ بانيا
تحدَّى بها الباغينَ فاْندكَّ صرحُهم
…
وشادَ بها صَرْحاً على الحقِّ عَاليا
تجنَّوْا فقالوا الحربُ، كانت أداته
…
ولم يكُ إلا للأسنَّةِ شاكيا
إذا المنطقُ استعصى على الشرِّ هدُ به
…
فليسَ سِوى نطق اللأسنَّةهاديا
وصاحت بهمْ أوهامهم: إنه فتىً
…
من السِّحر، فاقَ السَّاحرين الدواهيا
لقد صدقت تلك الأفاعي بكذبها
…
فما كلُّ سحارٍ يروضُ الأفاعِيا
وماذا عليهم لو يقولون: شاعرٌ
…
يغنِّى بليلاهُ ويشدُو القوافيا
نعم. إنها (ليلى)، وأحمد (قيسها)
…
وما ضرَّ أن يلقى عذُولاً وشانيا
أضاليلُ من حُمقِِ الصَّحارى، كمائها
…
سَرَاباً، وكالأغصانِ فيها عواريا
مزاعمُ مِنْ جدْبِ الرمالِ، أثابها
…
إلى الرُّشد، من رَوَّى الرمال الصواديا
تعهدها الرَّاعي بجدْ واهُ فارتوت
…
واخصبَ واديها وطابَ مجانيا
أفاءت على الدنيا ظِلالاً وريفةً
…
ورَّفت على الدنيا قُطوفا دوانيا
وأملتْ على الأيامِ أكرمَ قصةٍ
…
سيبقَى لها الدهرُ المخاتِلُ راويا
صحائفُ منمجد البطولة لو وَعى
…
لها الشرقُ معنى ما تعَّثر وانيا
ولالتأمَ الجرحُ الذي باتَ ناغراً
…
ولازْدهر الغصنُ الذي بات ذاويا
ولانبثق الفجر المغلفُ بالدُّجى
…
ولانبلجَ الصبحُ المنوَّرُ زاهيا
مواكب أجيالٍ ودنيا رغائبٍ
…
على يد فاروقٍ سترتدُّ ثانيا
الجامعة الإسلامية بعد الجامعة العربية
للسيد محمد أكرم نعماني
من كبار العلماء في الهند
قبل نشوب الحرب العالمي الأخيرة عمدت بريطانيا إلى التفرقة بين دول الشرق الأدنى، مستخدمة شتى الوسائل لفصل بعضها عن البعض الآخر، إلى حد جعل المبادئ الإسلامية العظيمة تنهار، تلك المبادئ التي تدعو، وتهدف إلى اتحاد جميع الدول الإسلامية.
ثم نشبت الحرب التي أثبتت أنه من المستحيل على الدول الصغرى أن تعيش في عصر بلغت فيه الأسلحة وبالأخص القنبلة الذرية من القوة ما بلغت في هذه الأيام.
وكيف تقف تركيا، على سبيل المثال، في وجه الاعتداء الروسي إذا وقع؟ إن القضاء على أداة الحرب التركية أمر سهل لسبب بسيط هو أن مساحة تركيا محدودة، فلا يمكنها أن تنقل المصانع الحربية التي يعتمد عليها جيشها إلى حيث يعجز الأعداء عن الوصول إليها، أما روسيا، وهي الدولة الكبيرة، فإن اتساع أراضيها من الأسباب التي جعلت الألمان يعجزون عن مد أيديهم إلى مصانعها الحربية، لأنها أقيمت على مدى أبعد من أن تصله قاذفات قنابلهم.
إن (حياة) الدول الإسلامية، وبينها تركيا، تعتمد قبل كل شيء على استمرار الخلاف بين روسيا وبريطانيا، وإذا حدث، بطريقة ما، أن تم الاتفاق بينها، ثم تفرعت الدولتان لتقسيم الدول الإسلامية فيما بينهما، فلن يكون لهذه الدول من مستقبل إلا أن تقيد إلى الأبد في سلاسل العبودية، ولن تكون قادرة في يوم من الأيام على تحطيم هذه السلاسل.
وقد يقال إن اتحاد روسيا مع بريطانيا أمر مستحيل، لأن الاختلاف في مبادئ الدولتين اختلاف جوهري، ومع ذلك فإن بريطانيا دولة (نهازة للفرص) ولا يمكن الاعتماد على ميول سياستها الخارجية أو (وعودها) لسبب بسيط، هو أن هذه الميول والاتجاهات عرضة للتغيير إذا اقتضت الحاجة ذلك!
وإذا قررت الدول الإسلامية أن تتحد وتقيم حكومة تشرف على هذا الاتحاد، فسيعني ذلك (بعث) العالم الإسلامي بطرقه الجوية، والبحرية، والبرية، الممتدة من الشرق إلى الغرب، عالم يتحكم في سواحل البحر الأبيض المتوسط من مراكش إلى اسطنبول، عالم يملك البحر
الأحمر، والخليج الفارسي وبحر العرب ويسيطر على آبار البترول العظيمة، وعلى المواد الخام الأخرى المكنوزة داخل حدوده، وهي من حقوقه الخاصة. إن مثل هذا العالم، لو أنشئ، أصبحت مساحته. . . ،. 26 ، 22 ميل مربع وتعداد سكانه. . . ،. . . ، 671 مليون نسمة، وستكون الحكومة التي تشرف عليه حكومة اتحادية أساسها ثقافة واحدة وفلسفة واحدة ودين واحد.
إن الحاجة شديدة اليوم إلى إقامة مثل هذا الاتحاد بين دول الإسلام، لكي يتمكن العالم أجمع من الاحتفاظ بسلم دائم.
وإن في إمكان عالم إسلامي متحد أن يحفظ التوازن بين الدول الكبرى، وبصفة خاصة، بين روسيا وبريطانيا.
إن سياسة روسيا الخارجية، في الوقت الحاضر، هي الاحتفاظ بنفوذها (كدول حاجزة) إذا هاجمتها دول الغرب، ومع ذلك فهي لا تسمح لهذه الدول بالاحتفاظ بقوة كبيرة قد تستغلها بمساعدة، أو بدون مساعدة دول أجنبية في تهديد روسيا نفسها؛ ولا تحب روسيا أن تجد حكومة اتحادية قوية ملاصقة لحدودها الغربية كما أنها ستخاف أن يكون في اتحاد الدول الإسلامية إغراء للجمهوريات التركمانية التابعة للاتحاد السوفيتي على الانضمام إلى هذا الاتحاد، ومما يذكر أن روسيا تعتمد على هذه الجمهوريات.
ومع هذا فإن إقامة هذه الحكومة الاتحادية قد تدفع بروسيا إلى القول بأن الوقت قد حان كي تسلم بريطانيا قناة السويس إلى مصر (التي ستكون قادرة على حراستها) بمقتضى الاتفاقية المبرمة بينهما، وسيكون هدف روسيا مقصوراً على إخراج قناة السويس من القبضة البريطاني؛ وهكذا يضعف النفوذ البريطاني في شرق البحر الأبيض المتوسط. ولا شك أن هذا سيكون في صالح روسيا.
وإذا اقتنعت روسيا بذلك فلن تكون قد أوغلت في الخطأ؛ لأن إقامة حكومة اتحادية إسلامية قوية ستمكن مصر من حراسة قناة السويس.
وهذا ما سيجعل بريطانيا تعارض في إقامة هذا الاتحاد؛ لأن طرقها الجوية والبحرية والبرية إلى بلدان الإمبراطورية في الشرق تمر بالدول الإسلامية، ولن تحب بريطانيا أبداً أن تتحد هذه الدول وتحتفظ بقوة تهدد طرق الإمبراطورية، ولهذا السبب لم تف بالوعد
الذي بذلته في الحرب العالمية الأولى، بإقامة حكومة عربية، وعمدت إلى تمزيق الشرق إلى دول صغيرة.
أما اليوم فإن الخطر الروسي قد يلزم بريطانيا الاحتفاظ بعلاقات ودية مع الدول الإسلامية لأنها ترى في ذلك سلامة طرقها الجوية والبحرية وسلامة إمبراطوريتها الهندية، ومع ذلك فان بريطانيا لن تسمح للدول الإسلامية في يوم من الأيام، بإقامة حكومة اتحادية تضم شملهم لأن ذلك يضرها أكثر مما يضر أي دولة أخرى
ومن الطبيعي أن واجبنا نحن هو أن نسعى إلى ما فيه مصلحتنا، ولهذا يجب أن نندمج جميعاً في الحكومة الاتحادية للدول الإسلامية.
وفيما يلي بيان المبادئ الرئيسية التي أقترحها لتشكيل الحكومة الاتحادية التي تضم جميع الدول الإسلامية:
1 -
تعلن جميع الحكومات الإسلامية القائمة، أنها حكومات إقليمية محلية تابعة للاتحاد الإسلامي الدولي.
2 -
تسلم أعمال وزارات الخارجية والحربية والمواصلات إلى مجلس شورى مشترك من جميع البلاد الإسلامية.
3 -
على مجلس الشورى هذا أن ينتخب الرئيس.
4 -
على الرئيس أن يعين وزيراً مسئولاً لكل من الوزارات الثلاث التي سبق ذكرها.
5 -
تقسم هذه الوزارات الثلاث إلى تسعة فروع بالصور الآتية:
(أ) وزارة الخارجية. 1 - الشؤون الخارجية. 2 - الوحدة بين المسلمين
(ب) وزارة الحربية. 3 - قوات برية. 4 - قوات جوية. 5 - قوات بحرية. 6 - دفاع
(ج) وزارة المواصلات. 7 - المواصلات والنقل الجوي والبحري. 8 - المواصلات والنقل بالطرق والسكك الحديدية. 9 - المواصلات والنقل بطرق البريد.
6 -
يعهد بكل فرع إلى مندوب عن جميع الولايات (دول في الوقت الحاضر).
7 -
تمثل كل ولاية (دولة الآن) بصورة متساوية مع باقي الولايات في مجلس الشورى.
8 -
يختار كل حزب سياسي من كل ولاية (دولة الآن مندوبيه بنفس النسبة التي يتمتع بها هذا الحزب في برلمان ولايته).
9 -
تجري الانتخابات مرة كل ثلاث سنوات.
10 -
لن يكون للحكومة المركزية الحق في التدخل في منطقة نفوذ حكومة الولايات (دولة الآن).
11 -
لن تستعمل الحكومة المركزية أي قوة، في صالح، أو ضد أي ملك مسلم.
12 -
لا يعلن رئيس الحكومة المركزية الحرب أو الصلح ضد أو مع أي دولة غير إسلامية مستعملاً سلطته الخاصة، فإن هذه مسألة تتقرر بأغلبية الأصوات في جلسة مشتركة بين مجلس الشورى، ووزراء الحكومة المركزية، ورؤساء وزارات الولايات الإسلامية (الدول الآن).
13 -
الحكومة المركزية هي الحكم في أي خلاف ينشب بين الولايات الإسلامية.
14 -
تتطوع كل ولاية بنصيبها من الأيدي العاملة بنسبة تعداد سكانها وعليها أن، تتحمل جميع الالتزامات المادية التي يتطلبها جيشها.
15 -
تتحمل الولايات مرتبات الوزراء الذين يمثلونها في الحكومة المركزية.
16 -
تشكل لجنة استشارية للشؤون الخارجية من وزراء خارجية جميع الولايات، وتكون مهمتها مساعدة وزير خارجية الحكومة المركزية.
17 -
تتحمل كل ولاية مرتبات عضوها في اللجنة الاستشارية للشؤون الخارجية.
18 -
تشكل لجنة استشارية للشؤون الحربية من وزراء حربية جميع الولايات، وتكون مهمتها مساعدة وزير خارجية الحكومة المركزية.
19 -
تتحمل كل ولاية مرتبات عضوها في اللجنة الاستشارية للشؤون الحربية.
20 -
تغطى باقي أبواب الميزانية من إيراد السكك الحديدية، والبريد والضرائب الأخرى.
21 -
جميع الاتفاقيات التي تعقدها الولايات الأعضاء مع دول غير إسلامية تؤيد ويتمسك بها ما دامت لا تقف في طريق تقدم دولة واستقلالها.
محمد أكرم العماني