الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 706
- بتاريخ: 13 - 01 - 1947
إلى اخْوتنا في أعالي الوادي
يا أشقاءنا الأعزة في أعالي الوادي! ما بال نفرٍ منكم يريدون أن يقطعوا ما أمر الله به أن يُوصَل؟ نحن وأنتم شعب واحد ما في ذلك غلو ولا تجوٌّز. خلقنا الله جميعا من هدا النهر المبارك: من صلصال أرضه ومن سلسال مائه؛ ثم سوَّانا على صور تتشابه في الطباع والملامح، حتى في اللون، فلا يكاد يختلف إلا في الريف لكثرة ما تقلب عليه من أمم الأرض؛ ثم أورثنا هذا الفردوس الأرضي، وارتضى لنا الإسلام دينا والعربية لغة، فكيف يصح في الدين أو في العقل أو في الطبيعة أن يساعد هذا النفر هذه الحية الحمراء على أن تغويكم بالوقعية، وتغريكم بالقطيعة، وتمنيكم شجرة الخلد وملك الأبد؟
إن حية الإنجليز ليست من طينة السودان ومصر، كما أن حية إبليس لم تكن من طينة حواء وآدم. إنما هي واغلة متطفلة، غايتها الاستئثار بجنات الدنيا، ووسيلتها الاستعانة بالحُوَّ الغريرات من صاحبات الهوى وطالبات اللذة. فإذا أصغيتم إلى وسوسة الفجَرة، وأكلتم من ثمار هذه الشجرة، هبطنا جميعا من الجنة بعضنا لبعض عدو، وتنفرد الحية بأعلى الفردوس لتقبض به على أسفله، ثم تأمر المستر رضوان أن يفتح أبوابه الثمانية لعلوج السكسون، وشذاّذ اليهود، ومفاليك الروم، وصعاليك الأرمن، ليجعلوا لها من ثرى الوادي ومجاريه وصحاريه ما لا عين رأت ولا أذن وعت.
لقد خدعت الحية هذا النفر بحق تقرير المصير! ومن قبل زعم إبليس
أنه يقرر مصير آدم إلى عيش لا يفنى ومُلك لا يبلى، فأصاره إلى هذا
الكوكب الشقي المظلم الذي لإبقاء فيه ولا دوام له! وهل معنى تقرير
المصير لكم إلا أن تكونوا لجنوب أفريقية وجورج السادس، بعد أن
كنتم لشمال القارة وفاروق الأول؟ إن مصيرنا ومصيركم قرره رب
السماوات والأرض، منذ أجرى الحياة في هذه الصخور الموات، وجعل
بين عُدْوتَي هذا الوادي المقدس وحدة بشرية متماسكة لا ترى مجالها
الحيوي إلا على ضفافه، ولا تجد قوتها الضروري إلا في شواطئه
وأريافه.
إن أولى الناس بحق تقرير المصير أمم الدومنيون، فإن ما بينها من بعُد الشقة وعوامل الفرقة وكمال الانفصال يجعل علاقة بعضها ببعض علاقة (أسطولية) لا يجددها مدد من الطبيعة، ولا يؤيدها سند من الحق. وإن أعجب ما في منطق القوم أن التاج الذي يجمع بين أوتاوا وكَمبِرَّا، وبين لندن والكاب، وكل مدينة منها في جهة من جهات الدنيا الأربع، ينكر على تاج مثله أن يجمع بين القاهرة والخرطوم وهما بلدان صنوان عربيان يقعان في قطر واحد، ويُسقيان بماء واحد؟!
يا إخواننا في أعالي الوادي! إذا كان رضاع الثدي يؤاخي بين الجيران، ورضاع الكأس يؤاخي بين الندمان، فكيف لا يؤاخي رضاع النيل بين مصر والسودان؟ ليس فينا ولا فيكم من لم يجر في دمائه والحمد لله رحيق أُوغندَه، ولكن فيكم نفراً يجري في عروقهم والعياذ بالله وِسْكى اسكتلندَه!
احمد حسن الزيات
الأمير شكيب أرسلان وحركة الإصلاح
للأستاذ رفائيل بطي
فقد العرب والمسلمون في هذه الأيام شخصية متوهجة جبارة من الشخصيات التي عرفها عصر النهضة الحديثة عند العرب، فقامت بنصيبها من العمل الكبير في نواحي التحرير السياسي، أو إيقاظ الرقود، وبعث الهمم في النفوس، أو إبراز عبقرية هذه الأمة في العلوم والآداب والفنون، بحيث انبثق من هذه المساعي. المشتركة والمتواصلة فحر الانبعاث الذي ينير لنا طريق المستقبل للناطقين بالضاد.
ومما يؤسف له أن هذا الطراز من رجال العلم والعمل قد قل في العهد الأخير فصرنا كلما فقدنا واحداً منهم لا نجد من يشغل مكانه أو يسد الفراغ الذي أحدثه فقدانه. ولاسيما هؤلاء النوابغ الذين دفعتهم علو همتهم وأسعفتهم مواهبهم فجمعوا إلى التبحر في اللغة والتمكن من أسرار البيان فحولة في النظم والنثر، ومعرفة واسعة بما يتصل بقومهم وعشائرهم ودينهم من تاريخ، وخبرة بشؤونهم العامة في السياسة والاجتماع والاقتصاد، يتوج كل هذه القابليات حماسة في الكتابة والتأليف، حبا بأن يشارك القراء الكاتب أو الباحث في صنوف المعارف التي تفيض بها صدورهم. ولعل فقيد العروبة والإسلام الأمير شكيب أرسلان خير مثال لهذه الطبقة من أعلام اليقظة.
تعددت مجالي النشاط الذي أخذ به أمير البيان لتنوير الأذهان، وبعث الأمجاد الخالية، وتوجيه الأفكار نحو طرق النهوض والإصلاح، فقد عنى في أول نشأته باللغة والأدب فنشر (الدرة التيمية) لابن المقفع من أول عهد شدا فيه الأدب قبل نحو خمسين سنة. ثم عالج الشعر فنظم في أبوابه المنوعة وجرت له مساجلات ومراجعات في القصيد مع بعض شعراء جيله، منهم محمود سامي باشا البارودي، الذي انعقد له لواء الزعامة في تجديد ديباجة الشعر العربي البليغ بعد أن أخلقت وعفى عليها الزمن بالركاكة والغثاثة. ومع أن الأمير لم يتفرغ للنظم لتوزع قريحته في أمور ومسائل متعددة بحيث كان مصليا في حلبة الشعر، فإن ما خلفه من القصائد الحسان يعبر عن سليقة خصبة، وطبع سليم مؤات لجيد المنظوم.
واستحكام أواصر المودة بين أمير البيان وأمير الشعراء، مما سجله قلم الكاتب العظيم في
كتابه: (شوقي أو صداقة أربعين عاما) يدل على تجاوب روحي بين هذين العلمين النيرين.
ولما اشتد ساعد شكيب ونضج فكره، دفعه حب الاستطلاع وروح الغيرة المتقد في ذهنه، إلى الاتصال بالصفوة المختارة من رواد النهضة والإصلاح، ولاسيما السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ طاهر الجزائري، فاقتبس من أنوارهم، وثقف من مبتكراتهم، وتطلع إلى سعة آفاقهم، ما أنشأه هذه النشأة الحافلة فظل حياته مهموما بدراسة علل تأخر العرب والمسلمين، وسر تقدمهم في العُصر الخوالي، ووسائل إنهاضهم من كبوتهم. وكم جرى قلمه بمقالات وبحوث، ووعت تواليفه من آراء وخطط تجري في هذه المسالك الرشيدة، والمتابع لسيرة الرجل يجد أنه لم يقصر همه على الكتابة والتأليف في السعي مع الساعين لخلق النهضة الجديدة، إنما خاض غمار مداولات مع رجال الدول والممالك، واتصل بهيئات وجماعات مختلفة الأجناس والمنازع جرياً وراء هذا الهدف القومي السامي.
وقد كان الأمير حريصاً على المكاتبة طويل النفس في المراسلة يمده روحه الحائر العالق بأهداب المجد، بالجلد والمواظبة على هذا الجهد، فلا يقف عند الكتابة، والتصنيف في الموضوعات التي يهواها.
وأمر واحد لم يشتهر به شكيب أرسلان هو الخطابة، فلم يؤثر عنه مواقف خطابية ذات خطر، والعل لانقضاء أمد طويل عليه يطوف في البلدان، ويتنقل في المهاجر، حاملا رسالة البعث العربي الإسلامي وفي قلبه إيمان راسخ، وفي يده قلم عسال، مما احتسبهما لخدمة بني أمه خدمة نصوحاً، جعله أن يبقى بعيداً عن المنابر.
والميزة التي اشتهر بها الفقيد الجليل وستخلد آثاره على وجه الزمن هذه الإحاطة المدهشة بأحوال العرب وشؤون المسلمين تحت كل كوكب، ومن شواهد هذه الخصيصة تعليقاته على كتاب:(حاضر العالم الإسلامي) لستودارد الأمريكي، فإن حواشيه وشروحه والفوائد التي علقها على متن مترجمة الأستاذ عجاج نويهض للكتاب تستوعب مجلدين كبيرين من كتب اليوم وفيها من صفة ديار العرب والمسلمين وأوضاع أهليها ما قلما تعثر عليه في مظنة أخرى. وفي هذا السفر صفحات لامعة كتبها علامتنا في الترجمة لجماعة من زعماء الشرق عرفهم وخبرهم بنفسه ما يكشف عن مغاليق حياتهم ويوجد مفتاح شخصيتهم، كما
شحن الكتاب بذكريات له عن أطوار في سياسة الشرقيين، ووثبات التحرر والانعتاق في ربوعهم.
ومما ألح في هوايته في سنيه الأخيرة وقد ساقه إليه شغفه بحب قوميته وإعجابه بحضارة أمته في الأعوام المطوية (تاريخ الأندلس) بعد أن خلبت لبه آثارها الباقية في بلاد المجد المفقود عندما وقف على مشاهدها فانصرف إلى تأليف كتابه النفيس: (الحلل السندسية) الذي طبع منه بضعة أجزاء ولما يتمه.
وشاء أن يسجل رحلته إلى البلاد المقدسة في رسالة ممتعة هي (الارتسامات اللطاف). وحفزه وفاؤه لإخوانه وبره لأصدقائه إلى وضع كتاب: (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين عاما). تقف في تضاعيفه على مراحل فكرة الجامعة الإسلامية والثورة العربية، وكثير من مناورات دول أوربا وألاعيب الاستعمار في هذه لرقعة من الشرق.
إن مخلفات الأمير شكيب وتصانيفه الخالدة كثيرة، لا تستوعبها هذه الكلمة، فحسبي أنني أشرت إلى بعضها، وعندي أن من واجب أصحاب المروة، وأعوان الفضل، والمقدرين للرجال أن تتألف منهم جماعة (لتخليد ذكرى أمير البيان) وأول عمل تتوجه إليه، لإشادة بناء هذا التخليد البحث عن كتاباته ودراساته ورسائله التي لما تطبع، فتطبعها في كتب يتيسر اقتناؤها إحياء لذكراه، وإتماماً لرسالته وتعزيزاً للفكرة العليا التي اهتدى بها الراحل الهمام في جهاده.
ومن رسائله الطريفة التي تحمل فكرته الإصلاحية ما نشر بعنوان (لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟) وهي فصول كتبها المصلح الإسلامي جواباً على اقتراح من الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراجا جزيرة سمبس برنيو (جاوه)، بأن يكتب لمجلة (المنار) في أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وأسباب قوة الإفرنج واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة، فكتب شكيب رأيه، وطبع في كتاب مرتين بعد أن أذاعته المجلة الشهيرة.
يعتقد الامير الكاتب في بحثه التحليلي هذا أن عز المسلمين قام أول الأمر بالتمسك بأهداب الإسلام الصحيح، والاهتداء بهدي القرآن الكريم، فلما فقد العرب والمسلمون هذا الحماسة وانحرفوا عن التعاليم القوية ضعفوا وهانوا، فلم يبق لهم اليوم سخاء الإفرنج في
المشروعات العامة، والمفاداة في الذود عن حياضهم ببذل الدم والمال، وإن من أول أسباب تقهقرهم في العصور المتأخرة فقدانهم كل ثقة بأنفسهم رغماً عن مقدرتهم على العمل، واستشهد على هذه القدرة على العمل بمشروعي إنشاء خط الحجاز الحديدي ونبوغ طلعت حرب باشا في تشييد بنك مصر والأخذ بمصانعه ومعامله الناجحة.
والسيد الارسلاني يؤمن بان العلم كفيل ببعث الامة، العلم القائم على ركنين: العلم الطبيعي وعلم الدين. ومحصل نظريته في نهضة الشرق العربي والأمم الإسلامية، أن الأمة لا يتم لها النهوض والغلبة إلا بالتضحية أو الجهاد بالمال والنفس، فإذا تعلمت هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف، وإن المضطلعين بالإصلاح غير محتاجين إلى أن يكونوا من كبار رجال العلوم والفنون بل يكفي إذا أوتوا العقل السليم والإرادة النافذة، والتوجه نحو الأعمال، لا الاكتفاء بالتمني والآمال.
وبين ثنايا الكتاب لشواهد وفرائد عن أحوال الناطقين بالضاد وأتباع محمد بالقياس إلى أمم أوربا الناهضة ما يقنع القارئ ويوري زناد الفكر عند من يطلع فيدرك فيتأثر.
وفق الله الامة، لتعمل بإرشاد رجالها المصلحين، فتفوز وتسعد.
رفائيل بطي
يا ليل.
. .!
للأستاذ الأسدي محمد خير الله
(بحث طريف قيم في أصل هذه الكلمة وتطورها، تفضل به
علي (الرسالة) الأستاذ الأسدي أديب حلب ونحويها، وهو
يزور مصر الآن في مهمة ثقافية، فعلى الرحب والسعة).
يا ليل! وكم أرسلت حناجر الشداة ترنم يا ليل! فهل للتحقيق اللغوي أن يتولاها بحفظ من الدراسة؟ سنحاول ذلك. سنبسط في البداءة مذاهب معاصرينا الدائرة حولها ثم نمضي في مناقشتها. حتى إذا دحضتها مقاييس التحقيق أفضى بنا البحث إلى الإدلاء بمذهبنا
المذهب الأول:
حدثنا ضيفنا الأستاذ رجب المصري أن صديقنا الأستاذ خليل مردم بك يذهب إلى أن أصلها (يا ليلي) بفتح اللام. من أعلام النساء، كان يتغنى به العرب. فلما طرقت ديار الفرس التبست عليهم صورتها. فصحفوها إلى (يا ليلي) بكسر اللام، وجرى الناس على غرارهم.
وإذا جارينا نحن هذا المذهب كان علينا أن نقول: إن (يا ليل) المرسلة المطلقة من الإضافة إلى ياء المتكلم إنما هي من مرخم ليلى، كما في قول الفرزدق:
متى ما بعت عانيك يا ليل تعلمي
المناقشة:
1 -
يفضي هذا المذهب إلى أن العرب نادوا ليلى صحيحاً، ثم حرفه الفرس، ثم استعاده العرب منهم محرفاً، فهجروا لفظهم الصحيح، واستعملوا لفظ غيرهم المحرف، وهو ما يستبعد.
2 -
إن الغناء ألصق بحاسة السمع منه بحاسة البصر. فالأذن وهي السبيل الأوحد لدرك النغم - ليس لها بعد أن تتلقف من اهتزازات الهواء (ليلي) أن تأذن للفم أن يعيدها مكسورة اللام استجابة لما قد تتوهمه العين.
3 -
أقام الأصبهاني والنويري وغيرهما معارض واسعة الأبهاء لما يتغنى به الأقدمون، لم
يسجل خلالها أن العرب تغنوا بليلى، ولو أن اسمها تداخل الشعر كثيراً، وبصورة أدق لم يكن (يا ليلي) لازمة غنائية،
4 -
لم يقم بين يدي هذا المذهب حجة ما تدعمه، أو تحملنا - على الأقل - على الاستئناس به
5 -
سألنا من عرفناه ممن يحسن الفارسية: هل هناك إثارة من يا ليلى في الغناء الفارسي؟ فنفى
المذهب الثاني:
جاء في مجلة المجمع الملكي، من مقالة لصديقنا الأستاذ عيسى اسكندر المعلوف: ومن القبطية. . . وقولهم في الغناء (يا ليلي) بمعنى يا طربي
المناقشة:
1 -
انفردت العربية. دون أخواتها السامية باستعمال (يا للنداء)، فما ظنك في أن تشركها لغة حامية.
2 -
في الهيرغليفية (ا) أو (ها) علامتان للمنادى، والقبطية جذرها الهيرغليفية إلا ما استمدته من اليونانية.
3 -
ازدهرت القبطية في القرن الثالث للميلاد، وظلت هي اللغة الرسمية، حتى أبطلها الوليد بن عبد الملك، واستبدل بها العربية، ثم جاء الحاكم بأمر الله الفاطمي فأمر بإبطالها بالمرة، وعاقب من يتكلم بها، وفي خلال كل هذا العهد لم يسجل تاريخ الغناء ولا غيره (يا ليلي).
4 -
تعد القبطية أقل الموارد التي رفدت العربية، فقصارى ما استمدته منها كلمات لا تعدو العقدين انفرد الأستاذ المعلوف بعد (يا ليلي) منها
5 -
لعل ما أغرى الأستاذ بمذهبه هذا كون القبطية كالعربية من حيث أن المضاف يتقدم المضاف اليه - لا بعده - ثم من حيث أن ضمير المتكلم المتصل هو الياء.
المذهب الثالث:
هو مذهب الجمهور القائل: أن (يا ليل) إنما هو على حده؛ أعني أنه مناجاة لدنيا الظلام،
لما أنه يسدل أستاره على المتحابين، فهو بهذا جدير أن يرعاه الشعر والغناء. كما في الخانة الثانية من توشيح أما ومن بالجمال أنعم:
يا ليل إن الحبيب وافى
…
فشد يا ليل دهم خيلك
وانهض ورد الصباح عنا
…
دخلت يا ليل تحت ذيلك
وكقول إبن خفاجة:
يا ليل وجد بنجد
…
أما لطيفك مسرى؟
وقول سعيد بن حميد:
يا ليل بل يا أبد
…
أنائم عنك غد؟
يا ليل لو تلقي الذي
…
ألقى بها أو تجد
وعلى هذا المذهب جرى الأستاذ شلفون، مرددا قول شوقي في عبده الحمولي:
يسمع الليل منه في الفجر يا لي
…
ل فيصغي مستمهلا في فراره
كما جرى عليه مؤتمر الموسيقى، قال: الغناء بكلمة يا ليل هو نداء الليل بألحان شجية مع مراعاة المقامات، وقد يكون هذا موزونا بميزان يسمى البمب أو الوحدة المتوسطة أو أوزان أخرى مثل السماعي الدارج والأقصاق والسماعي الثقيل.
المناقشة:
1 -
لاشك أن النفس تأنس بمذهب الجمهور هذا، لما أن اللفظ جاء على حده فلا يحاد عنه إلا بدليل، لكن هذه الظاهرة ظاهرة اللفظ جاء على حده دحضها جمهرة من الألفاظ تولاها الباحثون، دون أن تغرهم هذه الظاهرة، وما عهد قراء مقالتنا:(حلب) ببعيد.
2 -
إن الكثير بل الأكثر الأعم من الغناء، لا مساس له بالليل.
3 -
قد تجيء (يا ليلي) مردفة بقولهم: يا عيني ويا سيدي الأمر الذي يرجح أنها نداء الإنسان.
4 -
ليس في الأدب العربي كله قصيدة افتتحت بياليل وتداولتها الألسن مثل قصيدة (يا ليل الصب متى غده) ادعاها الكثير، وعارضها الأكثر، وحفظها على توالي العصور مئات الألوف من شداة الشعر، فما كان يقعد هؤلاء المعجبين بها المغالين بالإطراء عليها، أن يشيدوا بأنها طبعت الغناء بطابع مطلعها، لو كان ذلك صحيحا؟ إن شيئا من هذا لم يكن.
المذهب الرابع:
يقول الصديق الطبيب فؤاد رجائي في رده على موجز مقالنا هذا وقد نشرناه في مجلة الضاد: س 15 عدد كانون 2 وشباط سنة 1945، كما نشر رده في المجلة نفسها عدد تموز وآب سنة 1945:
(ولا بد لي قبل تفنيد الشق الثاني من مذهبكم أن أذكر لكم مذهبا خامسا كنت قد قرأته منذ زمن بعيد، ونسيت أين قرأته، وهو يقول: (وكان في الأندلس واد يسمى وادي الليل، لأن أشجاره الملتفة كانت تحجب ضوء الشمس، فيخال الجالس في ظلها النهار ليلا، وكان مجمع السمار والأهلين. وحين انقرضت الدولة الأموية في الأندلس، وهجر البلاد أهلها بقيت ذكراه عالقة في الأذهان، فجعل المغنون يرددون اسمه تخليدا لذكراه).
ثم قال: (وسيكون دحض هذا المذهب حين نبرهن أن لفظ (يا ليلي) لم يظهر في عالم الغناء، إلا بعد انقراض الدولة الأندلسية بعصور عديدة، وليس من المعقول بعث هذا الذكرى بعد عصور عديدة قضتها في دياجير العدم).
المناقشة:
رأيت أن الصديق الأستاذ، أورد هذا المذهب على طريقة تسجيله صحيحا كان أو خطأ، ثم رأيت أنه دحضه، وله ملء الحق في دحضه لشيء مما علق عليه ولما نورده فيما يلي:
1 -
ذهبنا نبحث في كتب الجغرافية القديمة عن وادي ليل فلم نجد له ذكرا؛ والأسفار التي روجعت هي المسالك والممالك لابن خرداذبة ط ليدن، أحسن التقاسيم للمقدسي ط ليدن، الأعلاق النفيسة لابن رسته ط ليدن، مسالك الممالك للاصطخري ط ليدن، المسالك والممالك لابن حوقل ط ليدن.
على أن معجم البلدان لياقوت يذكر في الواو: والوادي: بالأندلس من أعمال بطليوس.
2 -
ذهبنا أيضا نبحث في تارخي الأندلس، فلم نعثر على ذكر له. وكانت مراجعنا: الصلة لابن بشكوال ط مجريط، تكملة الصلة لابن الأبار ط مجريط، بغية الملتمس للضبي ط مجريط، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي ط مجريط، المعجم في أصحاب القاضي الصدفي ط مجريط، المغرب في حلي المغرب ط ليدن، المغرب في ذكر بلاد أفريقية
والمغرب للبكري ط الجزائر، نفح الطيب للمقري المط الأزهرية.
3 -
ذاع استعمال يا ليل وما تفرع عنها في الموشحات الأندلسية - كما سيأتي -، فالقول بأنها استعملت بعد الجلاء تخليدا للذكرى لا يرد.
4 -
تحقيقنا الآتي يثبت أنها من أصل (يا مواليا).
المذهب الخامس:
مذهب الصديق الطبيب فؤاد رجائي الرامي إلى أن في الفارسية ألفاظا تعبر عن شعور الوداد، وهي: جانم عمرم ميرم أفندم يا للا يا للن يا للان. وأن يا للا وما تفرع عنها هي مصدر يا ليل، نقلها زرياب إلى الأندلس، فيما نقل، أيام الحكم بن هشام، فتداخلت الموشحات لتتلاقى نقص الموازين الشعرية عن الموازين الموسيقية، وفي هذا إخضاع الشعر للموسيقا، بعد أن كانت الموسيقا هي الخاضعة للشعر.
استعملت هذه الألفاظ إذن لتملأ الفراغ الذي يقتضيه النغم فاملأت (جانم) فراغ تن تن، و (أفندم) فراغ تتن تن، ويا للا فراغ تن تتن وهكذا، لذا أسموها ترنم:(ترل).
ثم دخلتها يا المتكلم العربية، فكانت مع شيء من التحريف يا ليلي، حدث هذا في عهد الفاطميين، أو ملوك الطوائف بدليل أن الموشحات التي هي في حوزة الأستاذ الشيخ على الدرويش خالية من (يا ليلي) لكنها تظهر فجأة في موشح:(أحن شوقا)، وهو من تأليف عبد القادر المراغي وتلحينه، وكان نديم السلطان حسين بن الشيخ أويس التركستاني وتوفى سنة 818هـ كما يقول رؤوف بكتابك، فظهور هذه الياء حدث إذن بعد انقراض الدولة العربية في الأندلس.
ثم تقلص ظل عمرم ميرم أفندم يا للا، وحل محلها يا للي، ويا عيني ويا سيدي.
المناقشة:
1 -
لم تتداخل ألفاظ الترنم الغناء الفارسي. فيصار إلى نقلها إلى الغناء العربي.
2 -
كل ألفاظ الترنم ذات دلالة في الفارسية إلا يا للا وما تفرع عنها، فإن اللغة الفارسية خالية منها.
3 -
لو حكمنا بزيادة (يا)، كان في الفارسية (لا لا) ومدلوها: العبد والمربى، وإنما كان من
مدلولها المربى، لأنه يكون غالبا من العبيد - كما ينص أحمد عاصم - فنداء العبد والترنم بذكره ليس من موضوع الغناء.
4 -
تند (لا لا) عن رفيقاتها المعبرة عن شعور الوداد.
5 -
لم يسجل في ترجمة زرياب الحافلة أنه أدخل هذه الألفاظ إلى الغناء العربي.
6 -
العرب أكثر الأمم عناية بلغتهم، فهل يعد السكوت عن تسجيل هذه الألفاظ إلى العربية مما يتناسب مع العناية؟
7 -
لم يكن لألفاظ الترنم ظل في الغناء العربي فيتقلص اللهم إلا نحو (جانم) مما استمد حديثا من الأتراك.
هذا وإن كنا على غير ما يذهب إليه الأستاذ في صدد (يا ليل)، فإننا نسجل له على مقالنا هذا أنه خير من بحث في الموضوع، فكان رده على مقالنا هذا سببا في ازدياد أواصر الصداقة، ذلك لأن الهدف إنما هو العلم والعلم وحده.
(يتبع)
الأسدي محمد خير الله
داود باشا ونهضة العراق الأدبية
في القرن التاسع عشر
للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى
تذهب طائفة كبيرة من الأدباء والكتاب إلى أن العراق لم يكن له نهضة أدبية علمية في القرن التاسع عشر كما كان في ديار مصر وسورية، وهذه فكرة خاطئة لأن تباشير تلك النهضة المباركة كانت بادية في حواضر العراق كبغداد والموصل والبصرة والحلة وكربلاء والنجف. غير أن الأدباء الذين دونوا كتباً ورسائل عن النهضة العربية في ذلك الزمن أغفلوا ذكر العراق وما كان عليه من النهوض في العلم والأدب والاجتماع. ومصداقاً لقولنا أن الأستاذ أنيس زكريا النصولي لما وضع كتابه (أسباب النهضة العربية) الذي نشره عام 1926 لم يشرك القطر العراقي في تأليفه بصحيفة واحدة.
إن ما يؤاخذ به واضع ذلك السفر أنه لم يكتب كلمة واحدة تشير إلى ما كان عليه العراق في أوائل القرن التاسع عشر من النهضة الأدبية والعمرانية مع أن عنوان الكتاب: (أسباب النهضة العربية)، وقد اقتصر المؤلف على ذكر أسباب النهضة في القطرين السوري والمصري.
لقد استاء فريق من أدباء العراق وامتعض بعضهم وعدوا ذلك الإهمال والسكوت التام إهانة كبيرة لإقليم عربي كانت تباشير تلك النهضة بادية في معظم حواضره ومدنه، وقد انتقد المؤلف الأستاذ سليم أفندي حسون محرر جريدة (العالم العربي) والأب أنستاس الكرملي في مجلته لغة العرب.
وفي نظري أن صاحب الكتاب المشار إليه لم يكتب صحيفة واحدة عن أسباب تلك النهضة في ديار العراق لسببين، إما لجهله ما كانت عليه بلادنا من النشور الأدبي والعلمي أو لتجاهله، فإن كان الأول فهو معذور، وإن كان الثاني فلا يعذر إذ قد سكت عمداً عن قطر عربي أنجب طائفة كبيرة من العلماء والأدباء والشعراء والمصلحين والمجددين.
وعلى ذلك رأيت أن الواجب يحتم على كعراقي يهمه سمعة بلاده أن أدون بضع مقالات تتناول تلك النهضة في فجرها، ولكن يليق بي قبل الخوض في هذا الموضوع أن أنشر ترجمة داود باشا والي بغداد في القرن المنصرم المعدود من أكبر أركان النهضة الحديثة
في العراق.
ولد داود باشا عام 1774م في تفليس قاعدة ديار الكرج، وكان مملوكا نصرانياً اشتراه أحد النخاسين وجاء به إلى بغداد وعمره لم يتجاوز يومئذ الحادية عشرة ليهديه إلى أحد أمرائها، فاشتراه منه مصطفى بك الربيعي وباعه لسليمان باشا الكبير والي الزوراء منذ سنة 1193 - 1217هـ، 1779 - 1802م، وقد ظهرت على محياه مخايل الذكاء وشمائل الفطنة، فلقنه العلم والأدب وأصول الديانة الإسلامية واعتنى بأمره أشد الاعتناء، فشب داود محباً للعلوم والمعارف مغرماً بالفقه والشريعة شهماً فاضلا صادق اللهجة والعمل. وصفوة القول بذل سيده غاية جهده في تثقيفه وتهذيبه، ليكون له في شيخوخته ركناً مكيناً ومعواناً صادقاً إذا تفاقمت عليه الخطوب والرزايا، وقد تمتع في حياته بغرس يمينه إذ رآه نابغة عصره فكان كاتباً تحريراً، وسياسياً محنكاً، وقائداً مدرباً، وبطلاً مغواراً، ذا مقدرة عظيمة في فك المعضلات وحل المشاكل العويصة وأفاد الزوراء فوائد جمة حينما تولى إدارتها كما ستراه فيما يلي:
بعد أن تضلع داود من آداب اللغة العربية أخذ يتردد على أدبائها الكبار ويناظرهم في المسائل المبهمة، وكان أيضاً يناضل علماء الدين فيما وراء الطبيعة والقضاء والقدر والثواب والعقاب والخلود والحشر ونحوها من المسائل التي أرتجت عليه أبوابها، وهكذا صرف شطراً من حياته، ملازماً للعلماء الأعلام منزوياً للمطالعة، وقد أيتح له أن يقرأ بعض المسائل الفقهية العويصة على يد السيد زين العابدين جمل الليل.
كان مجلس المترجم حافلا بوجوه الأدباء والشعراء ومشاهير الكتاب، فكان يطارح هذا ويناقش ذاك، وينظم القصائد ويذكي شعلة المنافسة والمباراة بين شعراء قطره، ويحث الأدباء على التأليف والتصنيف ويجزل العطاء لمن يفوق أخدانه حتى قيل إنه لم يقو على مفارقة الأصحاب ساعة واحدة. وكان يصحب معه فريقا من خواصه في رحلاته، يجلس وإياهم في وقت فراغه، ويتناول المباحث على أنواعها من سياسية وإدارية وأدبية، وقد اشتهر عند الخاص والعام بحب العلم والعلماء، حتى لقب بعالم الوزراء ووزير العلماء، وكانت ترد عليه القصائد الرنانة والرسائل البليغة في مدحه والثناء على أعماله المجيدة، وقد أناط بعهدة جماعة من أدباء بغداد أن يضعوا الكتب الأدبية والعلمية للقطر العراقي
فامتثلوا أمره ومنهم من جمع ديوانه وقد فقد، وله غير آثار أدبية وكان عالماً شاعراً وإدارياً محنكا وقائداً مدرباً.
جلس داود باشا على منصة ولاية بغداد في 5 ربيع الآخر سنة 1232هـ - 22 شباط 1817م، فقرت به العيون، ووفد عليه العلماء والشعراء من كل فج عميق يهنئونه ببلوغ المراد، وما كاد يجلس على منصة الحكم حتى أجرى إصلاحات عديدة، منها إصلاح طريقة تعليم العربية. وقد رُوي أنه أراد أن يتقن العربية ويتفنن بأساليبها، ويقف على شواردها ونوادرها، فأحضر أحد لغوييها الفطاحل في عصره وطفق يتلقن عنه آدابها مدة. ففي أحد الأيام بينما كان أستاذه يقرأ عليه نبذة من علم النحو ويفسر له قواعده وشوارده بأمثلة قديمة مستطرفة سئم تلك الأمثلة البالية كضرب زيد عمراً وقتل خالد بكراً، وخطر له إذ ذاك أن يسأل شيخه على سبيل المداعبة عن الجناية التي جناها عمرو ليستحق أن يضربه زيد كل يوم، وينكل به هذا التنكيل الشديد مع أنه ربما لم يأت أمراً فرياً. وهل كان عمرو جباناً أو رجلا ساقط الهمة ذليل النفس إلى هذه الدرجة حتى أنه يغض الطرف عن الإهانة الملحقة به في كل لحظة، ويتجرع غصص الآلام المبرحة عن طيب خاطر، وهو ساكت لا يبدي أقل حراك.
أستغرب الأستاذ ذلك الكلام كل الاستغراب وعدّه من قبيل الأوهام، ولم يتمالك أن استلقي على قفاه من شدة الضحك، ثم قال لدولة الوالي ليس في الواقع يا مولاي ضارب ولا مضروب بل اعتاد النحاة من قديم الزمان أن يأتوا بأمثلة لتقريب القواعد النحوية والصرفية من أذهان طلاب العربية. فلم يرقه ذلك الجواب وعده أو هي من نسيج العنكبوت؛ فلما طلب منه المزيد استاء الشيخ من لجاجته في مسألة تافهة جداً فسكت ولم ينبس ببنث شفة، فاستشاط الوالي غضباً وأخذ يحرق الأرم وعد ذلك السكوت احتقاراً لشأنه وإهانة ليس وراءها إهانة، ثم قال للأستاذ بلهجة المتهكم والشرر يتطاير من عينيه: أيها الشيخ الوقور ما كان يدور في خلدي أن بضاعة علمك خفيفة هذا الخفة، وكنت أظنك أجل من أن تعجز عن الجواب في مثل هذه المسألة البسيطة التي ربما أجاب عنها أولاد المكاتب، ثم أمر الحاجب بأن يأتي بنفر من الشرطة، ويقاد إلى السجن ذليلا صاغراً ليلقي هناك جزاء جهله وغباوته. ثم استحضر نحوياً آخر وألقى عليه ذلك السؤال بعينه، فأجابه
بنحو ما أجاب الأول، فغضب عليه وأمر بسجنه أيضاً. ومازال يأتي بالنحويين واحداً بعد واحد ويسجنه حتى أتى على أخرهم، فأقفرت المدارس والكتاتيب من النحويين، وضاقت بهم غرف السجون على رحبها، وأصبحت هذه القضية الشغل الشاغل له ولبطانته عن جميع شؤون الدولة ومصالحها. فلما ضاق ذرعاً ولم يدر ما يعمل فتق له عقله أخيراً أن يبث العيون في اقتفاء خطوات النحاة، ليعرض عليهم ذلك السؤال الذي أصبح لديه أعقد من ذنب الضب.
وبينما هو غائص ذات يوم في بحر تلك الأوهام إذ بلغه أنه في المدينة نحوي بارع طاعن في السن قد تنحى عن منصه التعليم منذ بضع سنوات وهو ملازم داره، فأمر في الحال بإحضاره، فلما مثل بين يديه أعاد عليه السؤال واستطلع رأيه فيه. فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وإمارات الفوز بادية على محياه الجليل وقال: إن الجناية التي أتاها عمرو يا مولاي لجسيمَة جداً، ولا أراني مبالغاً إذا قلت إنه يستحق أن ينال من القصاص أضعاف ما نال. فتنفس صاحب الترجمة الصعداء وذهبت عنه كربته، ثم سأله بلهجة المتلهف: وما هي تلك الجناية يا عماه؟ قال الشيخ بكل هدوء إن عمراً القليل الحياء هجم على اسم دولتكم بدون إذنكم واغتصب منه الواو، ولما كان ذلك منافياً لحكم العدالة رأى النحويون من باب اللياقة والإنصاف أن ينتقموا من عمرو لوقاحته انتقاماً شريفاً، فسلطوا عليه زيداً الصارم، وأمروه أن يذيقه جهاراً كل يوم في ردهات التدريس وغرف المكاتب من العذاب ألواناً، حتى كثيراً ما يغمى على ذلك المسكين من شدة السياط جزاء سلبه وسرقته، فأعجب صاحب الترجمة بذلك الجواب كل الإعجاب وأحله محلا رفيعاً بين أبناء الأعراب، وقال له إنك حقاً لنادرة الزمان وأديب العراق وخراسان والعالم الكبير المشار إليه بالبنان. فأسألك ألا تخرج من هنا ما لم تطلب مني ما تشاء فأمرك مطاع وطلبتك مقضية، فقال له الشيخ إذا كان لابد من طلبتي فأتوسل إليكم أن تطلقوا سبيل زملائي المسجونين الذين تركوا عيالهم ومن يلوذ بهم عالة على ذويهم، فامر في الحال بإطلاقهم وأعاد عليهم رواتبهم التي كانوا يتقاضونها في غرة كل شهر، غير أنه اشترط عليهم أن يصلحوا طريقة تعليمهم العربية وينهجوا منهجاً جديداً، ثم أنعم على ذلك الشيخ الرفيع المنزلة بالجوائز والصلات وقربه من مجلسه، وأمسى من تلك الساعة مرشده الوحيد في الملمات، وساعده الأيمن في حل المشاكل
العويصة حتى وافاه الأجل المحتوم فعظم موته على صاحب الترجمة وحزن عليه حزناً شديداً، وقد شيع نعشه بنفسه مع حشمه وأعيان المدينة.
وقد أفاد داود باشا الزوراء فوائد كثيرة، فمن جملة هذه الفوائد تنظيمه الجيش على الطراز المشهور في عصهر وجلبه الصناع المهرة والأساتذة البارعين من ديار الإفرنج وسائر أقطار العالم المتمدين، وإقامته دار صناعة (ترسخانه)، أي معمل لصنع الأدوات الحربية والمدافع والقنابل والبنادق ونحوها من المهمات والذخائر العسكرية وتأسيسه المدارس، وإنشاؤه دوراً للعلم والأدب وتشييده المكاتب العامرة الحاوية من الكتب المخطوطة النفيسة وغيرها من المطبوعات، وإصداره جريدة باسم (جورنال العراق) وكانت تطبع بمطبعة حجرية، وتعميره الجوامع، وشقه الترع والأنهار. ومن بعض آثاره الباقية حتى الآن جامع الباب الشرقي المعروف اليوم بجامع السادة وجامع الثكنة في الرصافة، وهرى السيف الواقع في الجانب الغربي من بغداد (الكرخ) وقد أرخ بناءه الشيخ صالح التميمي بقوله:
أقسم بالله الذي زينت
…
سماؤه بالخنَّس الكنس
أن الذي شيد هذا البنا
…
ذو همة بالفلك الأطلس
داود ذا الأيدي ومن حلمه
…
ما حل في شخص سوى هرمس
فقل لمن يرغب في مكسب
…
من ناطق فيه ومن أخرس
أوف إذا كلت ومن بعد ذا
…
أرخ وبالميزان لا تبخس
1240هـ
(يتبع)
رزوق عيسى
الناحية العلمية من إعجاز القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
نعم! إن الله منزل القرآن ينبئنا في كتابه العزيز أن هناك أرضين أخرى مثل أرضنا. وفرق ما بين الأرض والكواكب الأخرى أن على الأرض حياة، وإلا فالأرض أيضاً كوكب سيار كغيره من السيارات.
وأول ما نجد آيات في سورة فصلت تتعلق بالموضوع: تلك الآيات هي:
(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً؟ ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام، سواءً للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً: قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها؛ وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا؛ ذلك تقدير العزيز العليم!)؟
هذه الآيات الكريمة الأربع فيها فنون من الإعجاز العلمي نكتفي منها بما يتصل مباشرة بالنقطة التي نحن بصدد بحثها. وأول ما نلاحظ من ذلك أن الآية الأولى نصٌّ في صحة ما استنبطنا من أن العالم في آية الفاتحة ليس هو مجرد عالم الإنس والجن، أو عالم الحيوان والنبات، ولكن هو العالم الفلكي الذي يتبادر إلى الذهن من اللفظ. ووجه كونه نصّاً في ذلك أن الآية والتي تليها تتناولان خلق الأرض على شطرين. ولما كان الشطر الثاني في الآية الثانية متعلقاً بتطورات خلق الأرض الضرورية للحياة فيها فإن شطر خلقها في الآية الأولى متعلق بتكوين أرضنا أول ما تكونت عند ميلادها، وتكون خاتمة تلك الآية (ذلك رب العالمين) متعلقة على الأخص بالمعنى الفلكي الذي هو موضوع الآية. ومن لطيف ما ينبغي الانتباه إليه كمثل للإشارات القرآنية العلمية أن يومي الخلق المذكورين في الآية الأولى داخلان طبعاً - في الأربعة الأيام المذكورة في الآية الثانية، إشارة إلى أن طوري الخلق متداخلان كما هما في الواقع. وهو مثل رائع للإعجاز في الإيجاز
فإذا انتقلنا إلى الآية الثالثة وجدناها تنبئنا أن السماء عندما تم خلق الأرض كانت دخانا، وأن السموات السبع لم يكنّ خلقن بعد، بل كن كلهن سماء واحدة بدليل قوله تعالى في الآية
الرابعة: (فقضاهن سبع سموات في يومين). وإذن فقد كان هناك قبل خلق السموات السبع أرض واحدة تم خلقها، وسماء واحدة كانت دخانا. وهذا عجيب من أسرار خلق السموات والأرض لا يعرف العلم منها إلى أن السماء كانت يوماً ما دخانا. ولا تزال كتل هائلة مما سماه الله دخاناً يشاهدها الفلكيون بمراقبهم القوية اليوم في السماء وان تكتّل داخلُ أكثرها نجوما، ويسمونها سُدُماً، ما تكتل منها وما لم يتكتل. وهذا مثل عجيب من الإعجاز العلمي للقرآن: هذه الدخانية التي كانت عليها السماء.
وواضح أن تخلق السماء إذ ذاك سمواتٍ سبعاً المشار إليه في الآية الرابعة كان طاعة من السماء لنصيبها من الأمر: (ائتيا) إذن فما هو نصيب الأرض وقد قالتا (أتينا طائعِين)؟ هل الأرض في قوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً) هي نفس الأرض التي نحن عليها؟ إن الجواب المتبادر هو نعم. لكن القرائن تمنع من هذا المتبادر. وأول هذه القرائن وأهمها أن أرضنا هذه كان قد سبق تشكيلها، وتم خلقها وخلق جبالها وخلق الحياة على ظهرها قبل أن يصدر الأمر، بدليل (ثم) الترتيبية في أول الآية الثالثة، بعد تمام خبر خلق الأرض في الآيتين الأوليين. والأمر أمر واحد:(ائتيا)! فإذا كان أمرَ خلقٍ فيما يتعلق بالأرض المخاطبة. فهل يمكن أن تكون الأرض المخاطبة بذلك الأمر هي الأرض التي تم خلقها؟ أليست هذه قرينة قوية جداً على أن الأرض في الآية الثالثة غير الأرض في الآية الأولى، أي غير أرضنا هذه؟ بلى! وتكن أل للعهد في الآية الأولى، وللجنس في الثالثة. فهل هناك قرائن أخرى على هذا الاستنتاج تؤيده وتزكيه؟
إذا تذكرنا أن المقابلة تامة في اللغة بين كلمتي أرض وسماء، وكذلك هي تامة في الآيات الثلاث الأولى حين لم يكن إلا أرض واحدة وسماء واحدة، كان في ذلك إشارة مغنية إلى أن السبع السموات المذكورات في الآية الرابعة يقتضي وجودهن وجودَ سبع أرضين يقمن بازائهن: أرض تقابل كل سماء. ولما كانت إحداهن موجودة تامة الخلق بالفعل حين صدر الأمر، كان المخاطب المعني بالأمر في (ائتيا) هو الأرضين الست الأخرى المقابلة للسموات الست الجديدة: خلقهن - سبحانه - كلهن من السماء الدخانية الأولى. وتكون أل في لفظ الأرض في الآية الثالثة هي للجنس كما استنتجنا.
ويزداد هذا المعنى والتخريج تأييداً فوق تأييد، وتوضيحاً فوق توضيح، بالآية الأخيرة من
سورة الطلاق (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلَهن، يتنزل الأمر بينهن، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.)
إن ال في الأرض هنا هي حتما للجنس لا للعهد، بدليل قوله تعالى (مثلهن). والسموات السبع متعددة، ليس في ذلك شك فلابد أن تكون الأرضون السبع متعددة أيضاً على نفس النحو والنمط لتتحقق المثْلية المنصوص عليها في الآية، لا أنهن سبع طبقات في أرضنا هذه كما فهم الناس ويفهمون. فأرضنا واحدة وليس يفهم العلم ولا الناس من لفظ الأرض إذا أطلق إلا أرضنا هذه جملة، بحذافيرها وطبقاتها كلها. فتفسير الأرضين السبع بطبقات سبع في هذه الأرض تفسير لا يتفق مع اللغة، ولا العلم، ولا القرآن، ولا مع الحديث الكريم (اللهم رب السموات السبع وما أظْلَلْن، وربَّ الأرضين السبع وما أقللن) لمن يدقق في تفهم الحديث وتوجيه على المعنى المألوف.
هذه النتيجة التي تتفق مع حرفية القرآن وحمله على الحقيقة اللغوية لا على المجاز تحل لنا وللإنسانية مشكلة السموات السبع حلا حاسما. فقد عجز الناس إلى الآن عن الوصول إلى فهمٍ للسموات السبع ليس عليه اعتراض. قالوا إنها السيارات السبعة فظهر من السيارات عشرة ليس من بينها القمر كما كان يقول اليونان. وقالوا إنها سبعة عوالم في السماء فكانوا كأن لم يقولوا شيئاً، إذ ليس هناك ما يحدد معنى عوالمهم هذه، والعوالم والأكوان أكثر من سبعة بكثير. لكن تعال الآن إلى المعنى القرآني المتبين آنفاً، وتذكر الارتباط والمقابلة بين أرض وسماء في اللغة لفظا ومعنى، وطبِّق ما تفهم من السماء بالنسبة لهذه الأرض على كل أرض من الأرضين الست الأخرى، يتحدد معنى السماء وعددُها بتحدد معنى الأرض وعددها؛ أو إذا جئت المسألة من الطرف الآخر، يتحدد معنى الأرض وعددها بتحدد معنى السماء وعددها. (الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلَهن)! سبع سموات وسبع أرضين، كل أرض تحدد سماءها! وأكبر الظن أن مرقب المائتي بوصة الجديد المنتظر إتمام صنعه قريبا سيكشف مع الزمن عن بعض هذه الارضين فتتجدد بذلك آيات أخرى من آيات إعجاز القرآن.
بقيت نقطة واحدة لعل من الخير استيفاءها. أخبرنا الحق سبحانه أن السموات السبع كن قبلُ سماء دخانية واحدة وهذه الأرض مخلوقة، فهل أخبرنا سبحانه في القرآن شيئاً عن هذه
الأرض أين كانت قبل أن تخلق؟ نعم. في آية الأنبياء:
(أوَ لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رَتْقاً ففتقناهما؟)! وإذا تركنا المجاز ولزمنا الحقيقة اللغوية طبق قاعدتنا نتج حتما من هذه الآية الكريمة أن السموات والأرض كانتا شيئاً واحداً متصل الأجزاء. وهذه عجيبة كبرى من عجائب إعجاز القرآن العلمي يؤيد القرآن بها العلم الحديث في قوله بأن الكون كله شيئاً منبثاً واحداً قبل أن توجد فيه أرض أو نجم أو سديم.
وتأمل ان شئت واعجب ما شئت من إعجاز القرآن في التعبير عن هذا السر الحق الهائل في الآية الكريمة آية الأنبياء! تأمل كيف لم يسم ذلك الكون الرتق سماء إذ لم تكن أرض، وإذ كانت السموات والأرضين شيئاً واحداً منبثاً لعله كان دون الدخان
لكننا نكتفي الآن بهذا القدر من الأمثال التوضيحية لما أشرنا إليه في صدر هذا المقال.
إن فيها على الأقل ثلاث معجزات يقينية يستيقنها العلم الآن: تعدد العوامل فلكيا؛ ودخانية السماء في البدء؛ وانفصال الأرض عن السماء بعد أن كانت متصلة بها اتصالا في الأول.
وتبارك اله فاطر الفطرة ومنزل القرآن.
محمد أحمد الغمراوي
إلى السماء.
.!
للأستاذ محمد العلائي
لك الأمر لا يدري عبادك ما بيا
…
لك الأمر لا للناصحين ولا لِيا
وهذي معاذيري وتلك صحائف
…
عليها خطاياها. . . وفيها اعترافيا
وفيها من الأمس الدفين وحاضري
…
وفيها من الآتي وفيها ابتهاليا
وفيها تهاويلٌ. . ومهجة شاعر
…
ينام بها يأساً ويصحو أمانيا
وفيها أعاجيب يكفِّر همها. .
…
ذنوبي وإن كانت جبالا رواسيا!!
ونازعني شوق إليك وهزَّني
…
من الغيب ما يهفو إليه رجائيا
وجئت من الدنيا الأثيمة هارباً
…
بصفويَ من أكدارها ونقائيا
وفي النفس ما أخشى ظلام ضبابه
…
على نور إيماني ومسرى حيائيا
وذكرى من الماضي الشهيد وعالم
…
ورائيَ منه خدعة وأماميا!
وناديت أحلامي إليك وخافقاً
…
تهيَّب أسباب المنى والتماديا!!
أُناديك في ضعف. وأخجل أن ترى
…
جراحَ أمانيه ولون دمائيا
لك الأمر. أشواقي ببابك والمنى
…
ولي أمل ألا يطول انتظاريا!
دعوتك بالسرِّ المغيَّب في دمي
…
وألهمني حبي وفاض عتابيا
ولاح نشيد جئت أشرع لحنه
…
فهابتك أرضي واستحتك سمائيا
وهابتك نفس لم يدع لي شبابها
…
من الروح ما يهدي إليك اشتياقيا
شباب أحس الدهر ثم حملتُه
…
إليك شهيداً لا يحس بكائيا!!
وداريت إلا عنك سر مماته
…
وموطن ذكراه ودمع رثائيا
بعدْلِكَ لا تمنح سواي مثيله!
…
ولا تَرْوِ عني ما طواه اعتزازيا!!
وبارك شهيداً مات بالأمس ظامئاً
…
وما زال مثواه أمامك صاديا!!
منحت جميل الصبر كل مُرزَّأ
…
سواي فلم يلمس هُداك عزائيا
زهورٌ على قبر الشهيد عبيرُها
…
أهاج ضميري واستعاد اللياليا
وأخرج أسراري وعاد بماضى
…
وكشَّف ما بيني وبين زمانيا
لك الأمر. مالي أرتجيك فيلتوي
…
لساني وأمضي بالتوسِّل شاكيا
ذكرتك في نفس هَداها ضلالها
…
إليك وعافت وحدتي وارتيابيا
ومنيت روحي من سناك بلمحة
…
أضمِّد آلامي بها وجراحيا
وأرسلته فيما لديك لعله
…
يعود بأسباب المحبة راضيا
وأنسى تكاليف الظلام وما اختفى
…
وراء تَعِلاَّتي وخلفَ ابتساميا!!
وأشرعُ ألحان السماء فلم يَعدْ
…
جميلا بسمع الدهر لحن شقائيا
تعاليت لم أذكر سواك بمحنتي
…
ولم أرْجُ إلا من يديك جزائيا
وفوَّضتُ عن علم إليك إرادتي
…
وحسبي ما أدَّى إليه اختياريا
ورائيَ آثام وخلفي خطيئة
…
كفاك شعوري نحوها وكفانيا!!
تهافتُّ ظمآن الجوانح ساغباً
…
وأيأسني مما سواك انتباهيا!
وأجْهدَني ما لا أُطيق بيانه
…
فجئتك مشبوب الوسيلة عارياً!!
لك الأمر. شاقتني سماؤك وانتهي
…
إليك بأحلام الضمير مطافيا
وأنزلتُ آمالي وفيها ملامح
…
تردُّ أمامي ما تركت ورائيا!
يُطالعني منها زمان عرفتُه
…
بريح لياليه ولون سهاديا!!
تُقلِّب ذكراه الدفين وماضياً
…
تهرَّب منه في الشعاب خياليا!!
أطلَّت مآسيه ببابك فاسمعْ
…
إليها حديثاً لم يسعه بيانيا
ضياؤك أغرى باليقين جوارحي
…
وفجَّر أعماقي وأفضى بذاتيا
وألهمني حتى لخِلْت مشاعري
…
أذابتْ كياني في سناك معانيا!
وأفردني حتى رأيتُ معالماً
…
تلاشى زماني عندها ومكانيا!!
وأحسست أن الدهرَ لمحة خاطرٍ
…
وأن امتدادَ الكون بعض امتداديا!!
وأن دويَّ الحادثات بمسمعي
…
رواسب حلم زارني في مناميا!
وأوشكت أنسى غير أن هواجسا
…
من الأرض نادتني ومست كيانيا
لك الأمر. أسبابي ضعافٌ وخاطري
…
ببابك يخشى رجعتي وانحرافيا
دعوتك ملَْء النفس ألا تردَّه
…
مغيظاً وألاّ تستعيد سؤاليا!!
ويشفع لي أني أتيتك عاتباً
…
وأن لي العُبْتى وأجر انطوائيا!
وهذا رجائي في حماك وهبتُه
…
لعدلك حتى تستجيب دعائيا!!
وحاشاك أن أرضى مع النفس مذهباً
…
بغير يقين منك يهدي شعاعيا!
كفاني أوهاماً فهب لي تميمة
…
بها أتَّقي نفسي وشرَّ ذكائيا!!
وبارك فجاج الأرض إلا مواضعاً
…
شربن دموعي أو شهدن عِثاريا
تناسيتها لولا حديث أهاجه
…
تلفت أشواقي وخوف ارتداديا
وجدَّد لي همس الرحيل مكارها
…
تولَّى شجاها والجراح كما هيا
وأيامي اللاتي ذهبن وعالماً
…
دفنت به عهدَ الصِّبَى وشبابيا
وأودعته سرا حراما ولم أزَلْ
…
أعود فأبكيه دموعاً غوالياً
لك الأمر. هذا من يديك عدالة
…
وهذا قليل في مقام اتصاليا
أتيتك والحق الصريح يمدُّني
…
إليك ولحن البشر ملءُ فؤاديا
وحولي من عرش الجمال ملائك
…
ترف أزاهيراً وتسري أغانيا
وفي النفس فجر من يقين وموكب
…
من الخير يحدوه إليك ولائيا
وفيها رجاءٌ فاض منك جلاله
…
وآفاق نور يستحيها ضيائيا
وأحببت حتى أسكرتني مودَّتي
…
وذاب يميني رحمة وشماليا!!
وهامت بآلام الحياة وسائلي
…
وفاضت على ما ليس مني هِباتيا
وأرسلت أنسامي عبيراً وبهجة
…
لتنفح أشواك الرُّبى والأفاعيا!!
وآمنت حتى كاد يذهب خاطري
…
وتصعد أنفاسا إليك حياتيا!
ولم يبق حرف منك إلا أسرَّه
…
ضميري وأبدَته إليك سماتيا!!
وزُرْتُك ألحاناً ورَجْعَ مواهب
…
وأشهدت سمع الدهر فَيْضَ انسيابيا
لك الأمر آفاق تراءت لخاطري
…
وعادوني منها دبيب شكاتيا!
وذكرني بشرُ السماء منازلا
…
أتيتك منها عابس الوجه داميا
أُقلِّب أوهامي يميناً ويسرة
…
وأرفع آمالا إليك روانيا!!
ينازعني ماض شرقت بعذبه
…
وراودت فيه ما أشاب النواصيا
إذا طاف منه حول نفسي طائف
…
ذكرت زماني والسنين الخواليا
هناك وفي أرض عليها ملاعبي
…
وأطياف آبائي ولغْوُ دياريا
وفيها تَعِلاَّتي وراح مشاربي
…
وزلات أهوائي ودمع متابيا
وأحلامي الموتى وذات مواجعي
…
وأطلال مأساتي ورجع بلائيا
على وطن أفنى شعوري هواجساً
…
وألبسني ثوب الشبيبة باليا!!
ولم يرع لي حق الحياة بأرضه
…
ولم يرع آلامي له ووفائيا!!
بعدلك لا تمنح مشارق نوره
…
حياتي ولا تمنح ثراه رفانيا!!!
لك الأمر. ألهاني حديث أعاده
…
عليك ضميري واستحاه لسانيا!!
وأسرفت في ذكر المساء ولم اكن
…
لأسرف لولا رجفة من صباحيا
وعذْرِيَ أن الكأس فوق مواهبي
…
وأن مقام الحب يشجي المآسيا!
وأن تباشير الصباح تنفست
…
وفاح شذاها واستنار ضلاليا!
ولاحت على وجه السماء بشائر
…
ولاحت أغاريدي ولاحت ظلاليا
وطاف ضيائي بالمواكب رحمة
…
لمن ذاق أيامي وذاق عذابيا
أرد جراحاتي عليهم مسرة
…
ونار جحيمي عزة وتساميا
وأنثر أشواكي عليها أزاهراً
…
وألوان يأسي حكمة وأمانيا
وأمنح أرض الظامئين موارداً
…
تفجر فيهم نشوتي وسلاميا
رجاءً وإيماناً وفيض محبة
…
وتفتح للدنيا كنوز انفراديا!!
بعدلك مالي بعد ذلك غاية
…
من العيش إلا أن تصون اتجاهيا
لك الأمر. نادت بالرحيل خواطري
…
وهبت على نفسي رياح اغترابيا
وذكَّرتها أن الشعاب جديدة
…
وأن عليها من سناك هواديا!
وأن شعابَ الأمس واجهتُ غَيْبها
…
على غير إيمان فكانت مهاويا!!
هي الأرض تبلوني لتبلو خطبها
…
على نور إدراكي وضوء نفاذيا!!
لك الأمر. زلات الشعور تردُّني
…
إلى الظن والأيغال فيما أماميا!
ضميران. . هذا ملء نفسي غناؤه
…
وذاك يداري ظنَّه في غنائيا!!
لك الأمر. مالي في وداعك باهتاً
…
ومالي أخطو شاحب النفس نائيا
لك الأمر. ليست للجديد روائح
…
وليس لهذا الدهر لون ولا ليا
لك الأمر. لاحت من بعيد مذاهبي
…
وآذن حاديها وآن ارتحاليا!!
ورفت عليها من سناك مآثر
…
ورفت عليها غايتي وصلاتيا
تنسمت أمواج الرحيل وأشرقت
…
عليّ أمانيه فبارك شراعيا!!
(الزقازيق - كفر الحمام)
محمد العلائي
وجهة النظر الجديدة في الحياة
للكاتب الصيني الكبير واب يون شينغ
(حديث ألقاه في جمعية الثقافة المركزية بتشنغ كنغ)
بقلم الأستاذ نور ناهين
إني لم ألق محاضرة في مكان عام، في تشنغ كنغ، منذ بضع سنين لسببين: أولهما أنه لم يكن عندي كلام أحب أن أقوله فأحاضر فيه، لذلك أمسكت عن الكلام، لأستر فضيحتي عن أعين الناس. والآخر أنه لو كان عندي شيء من الرأي، لاستطعت أن أنشره في الجرائد والمجلات، وما كنت أود أن أحتل مكانا يحتاج إليه العلماء والأدباء للتعبير عن رأيهم. . . أما اليوم فقد اضطررت أن أقبل ذلك المركز حين دعتني لجنة الثقافة المركزية، وقد اخترت موضوع المحاضرة (وجهة النظر الجديدة في الحياة) لعلي أسترعي انتباه السامعين.
وأبدأكم بأن من الحق ألا أتهور في هذه المحاضرة، فإني لم أتعمق بحث الموضوع، وكل ما جمعت فيه ليس إلا رأيا لا يكاد يجتمع على نفسه ولا نظام له يمسكه؛ لكن يخيل إليّ أني مادمت بشراً يحيا بين أرجاء العالم، وما دام لي شيء بسيط من الفكر، فمن حقي أن يكون لي وجهة نظر في الحياة فيما عدا الضروريات من أكل ونوم وعمل، سواء أكان وجه النظر في الحياة لا تزال تتغير دائما بتغير الأوقات من حيث التقدم والتأخر. إذ من المستحيل أن تظل واحدة مدة الحياة، لذلك طالما تغيرت وجهة نظري في الحياة وتطورت، وأنا أرجو دائما أن يكون تطورها علامة التقدم.
وقع الشك في قلبي من مسألتين، حين قارنت نظم المجتمع ومستقبل الوطن بما أعرف من خلقي الشخصي ومعاملتي للناس.
الأولى أنه قد مضى علينا آلاف ومئات السنين ونحن نبحث عن العفة والفضيلة والخلق الحسن، وندرس عوائد الإنسانية والرأفة والرحمة، منذ عهد كونفشيوس؛ ولكننا مع ما بذلنا من جهد في البحث والدرس، فقد بعدت سيرة الأمة عن القصد كل البعد، حتى خرجنا عن كوننا أصحاب عفة وفضيلة ورحمة. إذن لاشك في أنه لا يكفينا بحث الخلق الحسن
ودراسة الفضيلة فقط في هذا العصر.
والأخرى أننا تعودنا كلما تحدثنا في تاريخ الشعوب أن نقول إن لنا تاريخاً مجيداً وحضارة تليدة منذ خمسة آلاف سنة. نعم، ولاشك في أن لنا تاريخا حافلا طويلا وحضارة مجيدة، وهو تاريخنا وحضارتنا حقا. ولكن لماذا تأخرنا الآن؟ لاشك أنه لا ينفعنا مجد أجدادنا منفردا.
بسبب هاتين المسألتين وشكي فيهما، تذكرت ما قال الفيلسوف (نيتشة). (من الضروري تقدير قيمة كل شيء من جديد).
لقد أفزعتني مصيبة الوطن وأزمة الأمة التي أصابتنا منذ حادث 18 سبتمبر جد الافزاع، وحملتني على أن أفكر فيما يستحق التهذيب من خلقي حسب قواعد المروءة خاصة، ثم فيما يجب عليّ لخدمة الوطن حسب القوانين عامة. وأخيراً رأيت أن أعرض على الناس اقتراحي فيما أسميه (خطوات المرء الثلاث)، وهو يشير بأن لا نعمل شيئاً، إلا (أ) لفائدتنا بدون خسارة الناس، و (ب) لفائدتنا وفائدة الناس، و (ج) لفائدة الناس وإن لم نستفد.
نعم، إن الإنسان كان حيوانا أنانيا، إذ كان يفتح فمه لشرب اللبن منذ أن ولد، ثم يخاصم أمه على شيء من الأكل والشرب في عهد الطفولة. ولكن مهما يكن الأمر، فالواجب على من بلغ سن الرشد الذي هو وقت حاجة المجتمع إلى عناية الفرد أن لا يعمل شيئا إلا حيث يستفيد بدون أن يضر الناس ثم إن استفاد وأفاد فذلك خير، أما إن أمكنه أن يضحي بنفسه وفائدتها في سبيل فائدة المجتمع فذلك ممن بلغوا الذروة في الفضل والتضحية.
إنا إذا ترسمنا خطوات هذا الطريق في سبيل مصلحة الوطن والعالم، ضمنا ألا يعمل إنسان إلا لفائدته بدون ضرر الوطن والعالم، أو لفائدته وفائدة الوطن والدنيا جميعا، أو يضحي بنفسه في سبيل الوطن والعالم، وذلك منتهى الإيثار.
على أساس هذه القاعدة، كنت ألقيت خطابا في جامعة (تسين هوا) بمدينة بنغ بين، ثم كتبت ست مقالات تحت عنوان (إلى شبان الشمال) حين وصلت إلى شنغ هاي، بنيتها على هذه الأساس أيضا. أما من ناحيتي، فكنت ولا أزال أتمسك بهذه المبادئ، لتهذيب خلقي الشخصي خاصة ولأحسن معاملتي مع الناس عامة.
وفي الربيع الماضي الذي كان آخر مرحلة من مراحل حرب الدفاع المقدس، حين بدا لنا
بارق النصر، استأنفت الجهاد في إيقاظ أبناء وطني، ليعملوا جهدهم في إشعال الروح القومية ونبذ الكراهية والتلاوم والمحاباة. وذلك لما لاحظت في قلوب الناس من دلائل الأغلال واليأس من الحياة، قاصداً بذلك الإيقاظ انتشال الناس من المنحدر الذي كادوا ينحدرون إليه، ودفعهم إلى تيار جديد عاصف. ولكنني الآن قد شعرت إزاء أمنيتي تلك أن كل ما عنيت ليس كافيا.
ولماذا شعرت بعدم كفايته؟ ذلك لأن كل ما بقى فيما أشرت إليه من المسألتين المذكورتين لابد أن يعاد تقدير قيمته ثانية.
إني متأكد كل التأكيد أننا لا نقدر أن نتفوق على الهنود في بحث علوم الفلسفة. ذلك لأن فلاسفة الهنود قد بلغوا ببحوثهم أبعد حدود الخيال الجميل، حتى كأنهم كشفوا مرج عبقر حيث يسكن الجن، وكل هذا بدأبهم على البحث ومزاولة الزهد والطمع في نعيم الجنة، حتى أنكروا الحياة وعدوها من البلايا والمصائب، ولكنهم أصبحوا من أضعف الأمم في العالم ولا يزال وطنهم مستعمرا.
وإني لأعتقد كل الاعتقاد، وقد زعمنا أن لنا تاريخا في الحضارة منذ خمسة آلاف عام، أننا لن نقدر أن نتفوق على المصريين من حيث ذلك التاريخ، لأن أسلافهم قد بنوا الهرم الأقدم قبل خمسة آلاف عام، وألفوا التقويم السنوي لمعرفة أيام السنة، قبل ستة آلاف سنة، وكل هذا ظاهر بين، فمن الحقيقة أن المصريين كانوا من الذين بنوا الحضارة، ولكنهم الآن لا يزالون من أضعف الأمم، ولابد أن يبذلوا أقصى جهدهم للنهضة على الرغم من أن بريطانيا سمحت بالاستقلال.
أما علوم الأخلاق وفلسفة الحياة، فقد كان أهل الصين فيها مسهرة متفوقين على غيرهم، ولكن شعب الصين ما يزال الآن متأخراً أيضا.
وكم شعرت دائما حين بدت لي علائم الضعف، بأن ثمة شيئا من الخلل يعبث بحضارتنا، ولابد أن نبحث عن منشئه الأصلي خلف دائرة البهرج الظاهر في حضارتنا.
بحث صديقي (لين تاو تزي) فلسفة نيتشة ونقدها، ثم بين بحثه في مقاله (نظري إلى نيتشة)، ولخص مذهب الفيلسوف في كلمتين، وهما:(إن الابتكار يكتشف ليعطي للناس، ولكن ذلك الإعطاء ليس شفقة بهم). أي أن القصد من الاختراع هو انتفاع العالم، ولم يكن
المخترع رحيما بالعالم فاخترع، إنه يجهد فكره ليستفيد ويتمتع، ثم حين يكتفي بالمتعة، يعرضه على الناس، إنما كان يخترع لنفسه، وما كان يفعل كما فعل (يسوع وبوذا) رحمة للناس وإشفاقا عليهم.
إن النشاط لب الحضارة وروحها حقا، إذ أنه لا تبقى حضارة إلا بالاختراع، ولا يعيش ابن آدم ولا ينمو إلا والاختراع يقدمه من جهاته جميعا.
ومن يوم أن عرفت (أن الابتكار لنفع الناس، ولكن انتفاع الناس ليس ناتجاً عن رحمة المخترع بهم)، اتسع نطاق فكري أو امتدت مسافته، فتمكنت من معرفة بعض أساليب الحياة. خذوا منها مثلا، فالشمس لو أضاءت ونشرت أشعتها وحرارتها، فسرت الحياة في الكائنات ونما النبات وشب الحيوان، ثم توجهنا إلى الشمس وسألناها:(أيتها الشمس! هل أنت أشرقت ونشرت الحرارة من أجل الدنيا وما فيها؟) فقد تجيبنا الشمس مرتبكة حائرة: (لا أدري، لا أدري!) وإذا نحن كررنا السؤال وأبينا إلا أن نعرف السبب في ضيائها، فربما أجابتنا مضطرة (إني أنشر الحرارة لأني أريد الحرارة ولابد لي منها!) تلك إحدى نظريات الحياة وأساليبها عرضتها عليكم أيها الكرام، وهي قانون من قوانين الحياة التي تندفع إلى الأمام بدون تردد، لذلك أعتقد أن الاختراع سيستمر كما فهمت من نظرية الشمس والحياة. وهذه النظرية وإن كانت من أنواع الفلسفة، إلا أنها ليست مما يتفق مع مذهب (نيتشة) بل من فلسفة أعلى من فلسفة نيتشة.
لست أريد الغموض والخفاء بالبحث في الفلسفة والنطق بها في حديثي عن نظرية الشمس، كلا، فانه لا غموض في الأمر ولا خفاء؛ لأن ما قصدت من ذلك هو أن تكون وجهة نظرنا في الحياة متجاوزة نطاق المتاع الشخصي إلى قوانين السماء، المراد بالسماء ما وراء الطبيعة، بل حقيقة الطبيعة، وبكلام أكثر صراحة ينبغي أن تكون وجهة نظرنا في الحياة متعدية تلك الحدود التي يعامل بها بعض الناس بعضا، مسيطرة على الطبائع والكفايات، مستعملة إياها في الابتكار للحياة، وهي مادامت قد استخدمتها على ذلك الأساس فهي عين الفضيلة ولب السعادة للإنسان، وليست تلك الأمور في حاجة إلى مراعاة وغاية، بل هي داخلة في نطاق منافع الحياة عن طريق الابتكار.
إن شدة العناية بالمتاع الشخصي والتجاوز عن مسايرة قانون الطبيعة هو الذي كلف
حضارة الصين الخسارة والضرر. ولاشك أن أكثر العلوم العالية الصينية، كان من فلسفة الحياة وأكثر علمائنا قد بحث علاقات الناس ببعض بحثاً عميقاً ظاهر العمق. خذ مثلا: ما يقال من أن كونفشيوس تشرف بزيارة الكاهن (لووتز) طالباً أدباً؛ وكان كونفشيوس لايزال شابا ناضج العقل ذا عزم وطموح، فقال له (لووتز) بوقار الكهنة:(أترك ما في نفسك من العناد والكبر، ثم امح من نفسك ذلك الشره الذي غلب عليك.) يعني ألا تكون مضطرم الفكر متبرم القسمات؛ وألا تبقى في قلبك شيئا من حب الشهرة والطموح. ثم قال: (إن التاجر الغني هو الذي يخزن سلعه في أعماق متجره، حتى كأن دكانه خال من البضائع؛ وإن الإنسان الكامل من يكون في عنقه الموفورة كالأحمق).
فأولى هاتين الكلمتين تعلم الإنسان أن يكون تاجراً خائنا، يدخر بضائعه لينتهز فرصة للربح الفاحش، وثانيتهما تعلم الناس أن يتحامقوا عمداً. إلا أن كونفشيوس احترم (لووتز) ورأيه كل الاحترام، فانصرف وقال لتلاميذه:(إني تشرفت اليوم بمقابلة السيد الكاهن (لووتز)، وما هو إلا تِنِّين!)
وأعظم الظن أن كونفشيوس قد أخذ يكره تلميذه (تزلو) الشديد الجسور بعد أن أدبه، وكان دائما يشتمه قائلا:(يا للمزاج الهمجي! يا للطبع البربري!) ثم أخذ تلميذه الأستاذ (تزلوا) يتاجر نعد ذلك، فكسب كسبا جزيلا. فلا جدال أن فلسفة (لووتز) فلسفة ماكرة. وأما فلسفة (جواتز)، فقد كانت فلسفة الجبن والضعف، لأنها ستار يحتمي به صاحبه من ضرر الملوك الجبابرة من جهة، وطريق يدرج فيه من جهة أخرى.
ولا جدال في أن الإمبراطورين (ياو) و (شون) كانا من المثل العليا للعفة وحسن الخلق، فلذلك دأب الصينيون على ذكر اسميهما في معرض أمثال العفة وحسن الخلق. ولقد كان (شون) يعتبر الدنيا كحذاء عتيق لما كان أمبراطوراً، وكان يبكي بكاء مراً، ويستغفر الله من قسوة أبيه (قوسى)، حتى هم أن يفر من الدنيا. وفوق ذلك كان دائما يهتم بشأن أخيه (شينغ) التعس الشرير لقلبه الحنون، فكان يسر لسرور أخيه، ويحزن لحزنه أيضا: وإذا كانت شئون النبي أو الإمبراطور لم تخرج عن حيز المتاع الشخصي هكذا، فما شأن من قلت منزلتهم عن النبي والإمبراطور؟
قال لي الأستاذ (فوماوجيغ) إنه حاول أن يكتب مقالا، يتحدث فيه عن شئون موظفي
الصين. وقال: إن الصينيين تعودوا أن يقرنوا ذكر الوزراء بذكر السرايا والمحظيات، بل إنهم يعدونهم طبقة واحدة من الناس، حتى أصبحت السرايا والمحظيات يتخذن أسلوب الوزراء والموظفين في الحديث، وينظرن إلى الحياة نظرتهم تماما، حيث يتملقون أسيادهم رجاء رضاهم وسرورهم ومحبتهم لهم. ويعودون على زملائهم بالكراهة والخصام والحسد، ثم يظلمون من هم أقل منهم بسطوتهم النافذة كل الظلم.
قلت له: ما أصدق ما قلت، إلا أنني أخشى ألا تسمح سلطة الرقابة الجديدة بنشر مقالك هذا، ولست ضامنا لك قط ذلك.
البقية في العدد القادم
نور ناهين
تعقيبات
كلمات تموت:
هي كلمات رددت، فتطلعت إلى الحياة، وتطلبت غذاءها من تحقيق ما تدل عليه، فعللت ومنيت، وعاشت زمنا على التعلات والاماني، حتى أصابها الشحوب والهزال من طول الحرمان، وها هي ذي مشفية على الموت.
تلك هي كلمات (محاربة الأعداء الثلاثة، العدالة الاجتماعية، رفع مستوى المعيشة، إصلاح أداة الحكم، مشروعات السنوات الخمس) وأمثال هذه الكلمات التي توضع في البرامج فتكون لها حلية وزينة، ثم يفتر الحماس لها فتأخذ مكانها على (الرفوف).
وحياة هذه الكلمات بحياة مدلولاتها، فما مدى هذه الحياة عندنا؟ يجيب عن ذلك الأستاذ مريت غالي في مقال له بالأهرام عنوانه (الحساب الختامي لسنة 1946 القومية) قال في مطلعه:(لو جرت العادة على إعداد تقرير سنوي عن شئون الأمة والوطن فكيف يكون التقرير عن سنة 1946؟ أندون فيه نجاحا أحرزناه في نيل الأهداف القومية، أو علاجا قدمناه لمشكلة الموظفين والإدارة، أو معركة كسبناها ضد الأعداء الثلاثة التي تفتك بالشعب، أو مشروعا اقتصاديا أو إصلاحا اجتماعيا حققناه لرفع مستوى المعيشة؟ الواقع المؤلم أن التقرير لابد أن يكون خاليا من كل هذا).
ونحن جميعا نلمس مصداق هذا الكلام الصحيح، فالأعداد الثلاثة لا تزال قوية منيعة الجانب، الجهل لم ينل منه تجاذب الاختصاص وتبادل الموظفين بين الوزارات، والمرض لا تزال ترى فيضه على أبواب المستشفيات وأفنيتها صفوفا متدافعة، لا يرده جشع الممرض ولا جفاء الطبيب. . . والفقر ما فتئ يمد الجهل ويعين المرض، ومستوى المعيشة هو هو، والعدالة الاجتماعية أيضاً هي هي. . . وأداة الحكم ما تنفك في بطئها ووساطاتها وسائر فسادها، والسنوات الخمس لست أدري متى تبدأ. . . أمن وقت انتهاء الحرب؟ وهل بدئ في مشروعاتها؟ أم لا مبدأ لها ولا نهاية. . .؟
وقد ظلت تلك الكلمات تتراقص في أحلام الناس وتهدهد آمالهم، حتى كادت تسقط من فرط الإعياء. وليس من المستحسن أن تموت وفي مقدورنا إحياؤها، وفي إحيائها حياتنا التي ينتفي فيها السخط والانحراف، وتتم لنا فيها مقومات الأمة التي تدفع بها إلى أهدافها لا
يقف أحد في سبيلها.
المعنى الديني:
نشرت جريدة المصري أن البدراوي باشا يريد ان يقوم بنفقات مشروع إنارة مسجد الرسول عليه السلام وكسوة المقام النبوي الشريف. فبعث إسماعيل صدقي باشا إلى (المصري) بكتاب يقول فيه إنه يسعى منذ زمن للترخيص له بكسوة المقام النبوي الشريف، ويرجو البدراوي باشا أن يكتفي بالإنارة ويترك له الكسوة. ولم نعلم بعد ذك ماذا تم بين (المليونيرين) الكبيرين في هذا الموضوع، وإن كنت أود ألا يقبل البدراوي باشا رجاء صدقي باشا حائراً لا يدري كيف ينفق ما أعد للكسوة من مال فيما يعوضه ما يفوته من الثواب، فهو رجل غني ومؤمن، وثمة مؤمنون كثيرون فقراء يحتاجون إلى أن يكون معهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، والوسائل إلى ذلك كثيرة.
هذا وقد تحدث الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر إلى محرر مجلة (الأمانة) في رسالة الأزهر، فقال إنها تقوم على فهم (المعنى الديني الحقيقي) وقد أصاب فضيلته المحز، فما أحوجنا إلى فهم حقيقة الدين والقصد إلى لبابه وجوهره؛ وإني - على ما أفهم من حقيقة ديننا - أعتقد أن تواد المؤمنين وتراحمهم، كأن يساعد الغني الفقير، أرضى لصاحب المقام الشريف، وأوفى إلى تلبية دعوته، وأوفق للعمل بمقتضى رسالته، وأدعى إلى نيل الثواب.
وعلى ذلك جرى أسلافنا الذين كانوا أقرب منا إلى عهد النبوة وأكثر فهما لروح الإسلام. ومن الملاحظ أن الاهتمام بالمظاهر والشكليات كثر أو وجد في العصور المتأخرة، حتى كان الحكام الذين أمعنوا في أخذ أموال الناس بالباطل، ثم يرى أحدهم أنه ما عليه من ذلك بأس مادام يمحو سيئاته ببناء مسجد أو إنشاء (تكية). والله أعلم.
(كتب وشخصيات):
عقب الأستاذ قطب على ما كتبته في الرسالة عن كتابه (كتب وشخصيات) فبين وجهة نظره إزاء ما ارتأيته في مسائل تضمنها الكتاب، وقد كنت أعتبر الأمر منتهيا بذلك - على اختلاف وجهة النظر بيننا في تلك المسائل - لولا ما جاء في رده خاصاً بنقده لتيمور، فقد رأيت فيه ما يحتاج إلى هذه الكلمة.
قلت: (ومما أخطئه الإنصاف فيه نقده لتيمور إذ يصف فنه بالفتور وبأنه يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحيوية) ولم آت بهذا من عندي، بل أتيت به من (كتب وشخصيات)(ص 189) حيث يقول الأستاذ في أقصوصتين من أقاصيص تيمور (وكلتاهما تنبعان من قلب إنسان ولكنه إنسان يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحيوية، ضحكته ابتسامة فاترة، وغضبته سحابة باهتة، ووثبته خطوة وانية، وإشارته إيماءة رتيبة، ولكنه على أية حال إنسان.
(هذه الظلال الإنسانية التي تبدو في بعض أعمال تيمور - مع شيء من الشاعرية اللطيفة في بعض الأحيان - هي وحدها التي تجعل الناقد لا يستطيع أن يغفل فن تيمور، وهو يتحدث عن الأقصوصة، مهما كان في هذا الفن من فتور. . .)
أفليس هذا يا أستاذ سيد من (حقيقة رأيك) فتقول (إن الأستاذ لم ينقل حقيقة رأيي) وتوهم بذلك أنني (أخطأني الإنصاف) في عرض رأيك؟! وإن كنت تقصد أني لم آت بما أتيت به في الرد من كتابك على أنه مآخذ أساسية، فإن المجال لم يكن يتسع لذلك، وقد اكتفيت بما أتيت به من رأيك في تيمور لأن اتجاهات المآخذ الأخرى تجتمع عنده، فتماثيل الشمع مثلا التي مثلت بها شخوص تيمور. . . أي شيء هي إن لم تكن الفتور وعدم الانفعال والحيوية؟
أما ما قلته غير ذلك في هذا الموضوع فإنما أقصد به دفع استنكار لون من الأدب لخلوه من خصائص لون آخر، والأدب مختلف ألوانه. وقد نطقت به وليس بيني وبين تيمور أسباب المودة الآسرة التي قال الأستاذ سيد قطب إنه يتمتع بها، والحمد لله على كل حال.
أبو العباس
الأدب والفنّ في أسبُوع
المجمع اللغوي:
في مستهل الأسبوع المنصرم افتتح مجمع فؤاد الأول للغة العربية دورته الثالثة عشرة بمؤتمر عام جرياً على عادته في افتتاح كل دورة، وقد ألقيت في المؤتمر عدة كلمات وأحاديث تتصل بمهمة المجمع وتتعلق برسالته في خدمة اللغة العربية والنهوض بها.
فتحدث الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف في كلمة الافتتاح عن المهمة التي يضطلع بها المجمع والتي يصح أن تكون هدفه وغايته فقال: (إن مجمعنا الموقر هو حارس اللغة العربية والقائم عليها، يحرسها ليحافظ على سلامتها، ويقوم عليها ليجعلها ملائمة لحاجات الحياة في عصرنا الحاضر. . . وإنني أعتقد أن مهمة المجامع اللغوية ليست هي الخلق والإبداع، بل هي الإثبات والتسجيل، وعندي أن أعظم المجامع اللغوية نجاحاً هو أكثرها تواضعاً وأقلها ابتكاراً، هو ذلك المجمع الذي يتجنب ما أمكن أن يبتدع لفظاً جديداً أو أن يحيي كلمة ميتة، وإنما يقتصر ما استطاع على إثبات لفظ حي، فهو إنما يقف من الألفاظ عند القائم منها الذي تجري به الألسن ويقع به التفاهم، ثم يعمد بعد المقارنة والمفاضلة والترجيح إلى تسجيل ما اختاره من ذلك، يسجله كما هو أو مع تحوير بسيط قد تقتضيه صناعة اللغة، وليست مهمة التسجيل هذه بالمهمة اليسيرة وإن بدت كذلك في ظاهرها، فهي تقتضي الذوق السليم، والحس المرهف، واليقظة البالغة. . .).
ثم ألقى الدكتور فارس نمر باشا الرئيس النائب كلمة قال فيها: (ولما كان في طليعة أهداف المجمع أن يكون جهده لخير اللغة عاماً بين أبناء اللغة في مختلف البلاد العربية وسواها فقد حرص بمعونة أعضائه في الخارج على أن يعرض أعماله على الهيئات العلمية وجمهرة العلماء في الشام والعراق وغيرهما وهو يتلقى ملاحظاتهم ويدرسها، ومما يدل على أن هذا الغرض قد بدأ يتحقق منه قدر جدير بالاطمئنان أن وزارة العدلية في الحكومة العراقية حين وضعت مشروع قانونها المدني ضمنته بعض ما أقر المجمع من مصطلحات هذا القانون وقبلته في كثير من مواده ونشرت كتيباً خاصاً بما وضع المجمع من مصطلحات القانون المدني. .)
وتحدث من بعده الدكتور منصور فهمي كاتب سر المجمع عن أعمال المجمع ولجانه في
الدورة الماضية وما استعد به للدورة الحاضرة، وقد عرض في حديثه لصلة المجمع بالحياة العامة فقال:(فأهل العلم والأدب يتصلون بالمجمع ويغتبطون بجهده المشكور، وأهل الصناعة والفن يقدرون ما يصيبهم من عمله الموفور، حتى أهل الفكاهة والدعابة فلرصيدهم على حساب مجمعنا لطيف الفكاهات وطريف التندرات، فالمجمع إذن يتصل بالحياة العامة على اختلاف ألوانها، وله أن يغتبط حين يشهد انتفاع الجادين بجهوده، كما أنه لا يضره أن يتنادر الظرفاء المتفكهون على حسابه، ولعلنا لا ننسى قصة الشاطر والمشطور، وحكاية الأرزيز والعرعور. . .)
وفي نهاية أشار الأستاذ إلى أن مجلة المجمع ستعود للظهور عن قريب، وأن المجمع سيستأنف العمل في معجم فيشر بعد أن انقطع العمل فيه منذ قيام الحرب الماضية.
ثم ألقى الدكتور طه حسين بك بحثاً ضافياً قيما موضوعه (فن من الشعر العربي يتطور بأعين التاريخ)، وليس هذا الفن إلا الرجز الذي ظلمه علماء الشعر وسموه حمار الشعراء، وقد عرض الدكتور الباحث لنشأة هذا الفن، وتاريخه، وتطوره، كما عرض لذكر أعلامه والمبرزين فيه وما كانوا يؤثرون في تعابيرهم وفي تناول موضوعاتهم، وبعد أن استوفى نواحي البحث أهاب بالمجمع وبرجاله أن يقرءوا هذا الفن من الشعر وأن يعنوا بدراسته فانهم سيجدون فيها كنزاً للغة يمكن الانتفاع به واستخدامه في النهوض بالعربية وتوسيع مادتها. .
وألقى بعد ذلك الأستاذ محمد كرد علي بك بحثاً موضوعه (تطور الألفاظ والتراكيب والمعاني)، فأشار إلى عناية العلماء السابقين بهذه الناحية، وما كان من بالغ حرصهم في تحرير اللغة ورعاية التراكيب العربية إبان نهضتهم العلمية، ثم تحدث عن صنيع الكتاب والمترجمين في هذا العصر وما يرتجلونه من التراكيب الأعجمية والتعابير المخالفة لدستور العربية وأرجع ذلك إلى عجلة كتاب الصحافة حيث لا يجدون وقتاً للتروي والتفكير ثم أشار بما يجب من استغلال الكنوز القديمة التي حفظها لنا القدماء في هذا الباب.
وتحدث أخيراً الأستاذ (ماسنيون) نيابة عن إخوانه المستشرقين، فتكلم عن خصائص المعجم العربي فقال: (لقد ألزمنا الطلاب في لجنة تخريج الأساتذة باستعمال المعجمات
العربية المحضة كالمنجد وأقرب الموارد والقاموس المحيط واللسان والتاج وبذلك اضطروا أن يسبحوا في البحر المحيط ومحيط المحيط ولا سفينة لنجاتهم من هذه المخاطر إلا بالالتجاء إلى معجم لا أجد الآن منه نموذجاً كاملا وإن كنت أجد صورة ناقصة منه في المخصص لابن سيده وتهذيب الألفاظ لابن السكيت والألفاظ الكتابية للهمذاني وجواهر الألفاظ لقدامة، ولهذا النوع من المعاجم مستقبل عظيم ونحن إليه في حاجة ملحة لتخريج أساتذة العربية في الخارج.)
وكانت كلمة الأستاذ (ماسنيون) ختام المؤتمر.
الأب أنستاس الكرملي:
نعي إلى أبناء الضاد منذ أيام العالم اللغوي الحجة المرحوم الأب أنستاس الكرملي صاحب مجلة (العرب) وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.
ومكانة الأب الكرملي غير منكورة ولا خافية، فقد أمضى حياته الطويلة باحثاً متقصياً موفراً كل جهده ونشاطه لخدمة العربية وفقهها والتوسع بمادتها، وكانت له في هذا جولات واسعة النطاق، ومباحثات قوية عنيفة، وكان للأب أنستاس نظريات في أصول العربية واشتقاقاتها، وكان له في ذلك اتجاه يناقشه فيه غيره من اللغويين ولكنها على أي حال نظريات تشهد بالجهد والتبحر في فهم أسرار العربية والتمكن من فقه اللغات الأخرى.
ولقد كان رحمه الله طول حياته أوفى ما يكون نشاطا وهمة في الدراسة والإنتاج، وكان مناضلا في الطراز الأول فلا يسكت على مناقشة ولا يتغاضى على خطأ، فلاشك أن فقده جاء خسارة للعربية، وأن نعيه قد شق على زملائه خاصة وعلى أبناء الضاد عامة، ولعلنا نجد من فراغ النطاق ما نوفيه به حقه في ترجمة حياته وشرح نظرياته.
رحمه الله رحمة واسعة وعوض العربية فيه خيراً.
حروف عربية جديدة:
تحدثت الأنباء الواردة من (نيويورك) بأن السيد نصري خطار قد ابتدع طرازاً جديداً من الحروف العربية، ووضع لهذه الحروف قواعد لاستعمالها في الطباعة والآلات الكاتبة، وأن شركة الآلات الصناعية قد قررت استعمالها فعلا في آلاتها الكاتبة.
وقد تحدث الأستاذ الخطار نفسه عن مميزات هذه الحروف فقال: إنها ترجع إلى تسهيل القراءة عل المبتديء، والاقتصاد العظيم في تكاليف الطبع، وتصغير الكتابة دون الإخلال بشرط الوضوح.
ومن المعروف أن مسألة الحروف العربية مثار ضجة كبيرة في دوائر المجمع اللغوي منذ عام، وقد وضعت في ذلك رسائل وكتب، ومن قبل كانت هذه المسألة مثار مناقشة طويلة ومجال اقتراحات متعددة من علماء العربية وخاصة من المستشرقين. ففيهم من يريد أن يختصر المسألة من أقرب طريق، فيقترح استعمال الحروف اللاتينية مكان العربية دفعة واحدة، وفيهم من يقترح تحوير الحروف العربية وتهذيبها حتى تفي بالحاجة.
والطريقة التي آثرها السيد الخطار هي تحوير الحروف العربية إلى ما يشبه اللاتينية في الشكل وكتابتها منفصلة، ومن المعروف أن الحروف العربية في الخط الكوفي وفي الخط النبطي، كانت تكتب منفصلة، فطريقة الانفصال قديمة، وطبيعة الحروف العربية بشكلها الراهن لا تستعصي على الانفصال، فلا ندري لماذا آثر الأستاذ الخطار ذلك التحوير فيها إلى ما يشبه الحروف اللاتينية، وهو تحوير ستكون المشقة به أكثر من الفائدة منه.
الواقع أن المسألة ليست مسألة تشابك الحروف وانفصالها، وليس بنا من حاجة إلى ذلك التحوير في هيئة الحروف التي ألفناها واعتادتها أنظارنا، وإنما العناء يأتي من قواعد الكتابة العربية وتعقدها في استعمال الهمزة والألف اللينة وغير ذلك مما يضجر علماء العربية أنفسهم، فهلا تكاتف علماء العربية على تذليل هذه المسألة فإن ذلك يكون أجدى وأنفع؟!
هل استفاد الأدب من الحرب؟
هذا موضوع مناظرة، أقامتها جماعة الفكر العربي في الأسبوع الماضي، وأيد الرأي فيها الدكتور زكي مبارك والآنسة روحية القليني المتخرجة في كلية الآداب وعارضه الأستاذ علي الجندي والآنسة زينب عبد الحميد.
وموضوع المناظرة جدير بالبحث والدرس، لأنه يمس ناحية كان لها أثرها الظاهر والباطن في الأدب وفي الاتجاه الفكري، ولكن تبادل الكلام بين المتناظرين جرى على الشأن الدارج في مناظراتنا ومحاضراتنا وهو حب الغلبة، والتأثير على الجماهير بالعبارات الضخمة
والكلمات الرنانة والنوادر الفكاهية ومن ثم نستطيع أن نقول إن هذه المناظرة لم تصل إلى الحقيقة في الموضوع، والواقع أن الوصول إلى الحقيقة في هذا الموضوع يقتضي بحثا للعوامل النفسية والاتجاهات الفكرية التي كانت نتيجة للحرب وللظروف التي فرضتها على المجتمع وهذا كله أعمق من أن تكشف عنه مناظرة كلامية في ناد.
المواضع والأمكنة في المعلقات:
تنشر جريدة (البلاد السعودية) بحثا مسلسلا للأستاذ محمد بن بلهيد يحقق فيه أسماء المواضع والأمكنة في المعلقات، ويدل على مواقعها القديمة وما صار لها من الأسماء الحديثة.
وهذا بحث جليل مفيد، يحتاج إليه أبناء العربية في دراسة الشعر الجاهلي. ومن الواجب أن يعمم هذا البحث في جميع الأقطار العربية وأن يحرر تحريراً علمياً ليرجع إليه الباحثون، فقد درجت الجامعات والمعاهد في دراسة الشعر الجاهلي على الاكتفاء بالإشارة إلى المواضع والأمكنة في ذلك الشعر بأنها (أسماء أمكنة) وكفى، ومن المعروف أن الأمكنة لم تزل في مكانها، وإن كانت أسماؤها قد تغيرت، فمن الواجب أن يكون بين يدي الباحثين تعريف لتلك الأمكنة في مواقعها وأسمائها الحديثة.
وبهذه المناسبة نقول إن أبناء العربية يجهلون مواقع البلاد العربية ولا يتحققون من أسمائها الحديثة ومعالمها الظاهرة على حين أن الرحالة الأجانب قد اردوا هذه الأماكن وقاموا بتحقيقها، وألفوا عنها الكتب والبحوث الضافية، ومن الأسف أن كثيرا من أبناء العربية يرجعون إلى تلك الكتب والبحوث فينقلون الأماكن والأسماء عنها محرفة، مما يؤدي إلى الخلط وتوسيع الشقة في التضليل.
الفن الروسي:
تهتم المفوضية الروسية في القاهرة بتعريف المصريين بالفن الروسي وإطلاعهم على نماذجه ولوحاته، وقد سبق أن أقامت أيام الحرب معرضاً بجمعية المهندسين عرضت فيه لوحات فنية لمشاهير الفنانين الروسيين تمثل المواقع الحربية والقواد البارزين في الجيش الأحمر
وأخيراً أقامت المفوضية معرضاً بمدارس الليسيه عرضت فيه رسوماً وصوراً للتماثيل التذكارية ومعالم الثقافة والعمارة في الاتحاد السوفيتي كما عرضت مجموعة فنية للحيوانات البرية والبحرية استلفتت الأنظار وحازت التقدير والإعجاب.
وحسنا فعلت المفوضية فان المصريين أشد ما يكونون حاجة إلى التعريف بالفن الروسي، وخاصة بعد أن اتجهت مصر إلى الأدب الروسي وأقبل الأدباء على نقل روائعه إلى جانب ما ينقلون من روائع الأدب العالمي.
الشاعر الدباغ:
أقيمت أخيراً في يافا حفلة تأبين للمرحوم الشاعر إبراهيم الدباغ ولقد كانت يافا موطن الدباغ مولداً، وهي موطن أسرته وذوبه، ولكنه وفد على مصر في صدر شبابه لطلب العلم، وبين ربوعها تفتحت عبقريته ونضجت شاعريته، وقد آثرها بالإقامة إلى آخر حياته، وفي أرضها وورى جثمانه.
أجل، لقد عاش الدباغ لمصر بشعره وفنه، وفيها غنى بمقطوعاته وهزج بقصائده، وكانت له صلات وثيقة برجال الأدب والصحافة، وجولات واسعة في الأندية والمحافل، ثم ألمت به محنة المرض المعضل فاعتكف في مسكنه، ثم وافاه الموت، فنسى كما ينسى كل شيء في مصر!!
ليت شعري أين أصدقاء الدباغ في مصر، وأين أحباؤه وأصفياؤه، أين الذين منحهم فنه وشعره مديحاً وإشادة فضنوا عليه حتى بحفلة تأبين في مصر دلالة وفاء وحفظ للجميل وتقدير للأدب والفن؟!
الجاحظ
من هنا ومن هناك
أثر أدبي قديم:
نشرت مجلة (الطرائف الأدبية) الفرنسية القصة التالية.
في يوم من أيام (نيسان) عام 1928 عثر فلاح بمنطقة رأس شمرة الواقعة على الساحل السوري تجاه قبرص على عدة قطع وأوان خزفية جميلة، فأرسل حاكم اللاذقية إلى المفوضية الفرنسية يخبرها بهذا الكشف.
ودلت تحريات لجنة الآثار التي تولت بحث الموضوع على أن القطع والأواني التي عثر عليها الفلاح وجدت في مدفن ليس له شبيه في سورية، وهو يشبه مدافن القرن الثاني عشر قبل الميلاد التي اكتشفت على ساحل قبرص. فقررت أكاديمية الآثار القيام بالتنقيب في هذه المنطقة، وانتدبت لذلك بعثة بدأت العمل في آذار عام 1929، واستمرت تباشر البحث والتنقيب حوالي عشر سنين.
وأسفرت دراسات البعثة وتنقيباتها عن حقيقة تاريخية كانت مجهولة، وهي أن مدينة عظيمة قامت في منطقة رأس شمرة منذ القرن العشرين قبل الميلاد، وقد استمرت هذه المدينة حتى القرن الحادي عشر حيث قضى عليها أقوام من الغزاة الخارجين
ومن أهم ما عثرت عليه البعثة المنقبة بقايا مكتبة مؤلفة من ألواح من الفخار على نحو مكاتب بابل وقد نقشت على هذه الألواح رموز وكتابات تبلغ الثلاثين عدداً، ولم يعثر على ترجمة لهذه اللغات وقد تعذر فهمها وفك رموزها لأنها تنتمي إلى لغة غير معروفة بين اللغات الأثرية، ولكن بعد مقارنات ودراسات تبين أنها لغة قريبة من العبرية، وأنها أقدم بنحو عشرة قرون من سائر الكتابات الفينيقية التي اكتشف إلى الآن.
وقد استطاع رجال الآثار أن يميزوا من تلك اللوحات الكتابية ثلاثة آلاف بيت من الشعر الذي يقوم موضوعه على الملاحم والأساطير ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقد وقع عليها كلها باسم (إيليملك).
هذا مجمل القصة التي روتها مجلة (الطرائف الأدبية) الفرنسية، وهي قصة كشف أدبي سيكون له أثره في تاريخ الأدب، وعندما نترجم هذه الأشعار إلى لغة حديثة يمكن لمؤرخي الأدب القديم أن يصححوا كثيراً من الأحكام في ضوء هذا الكشف الجديد.
العاقل لا يعدم حيلة:
في (شرح النهج) لابن أبي الحديد:
قال أبو عثمان (الجاحظ) حدثني أبو عبيد الله الأفوه - وما كنت أقدم عليه في زمانه من مشايخ المعتزلة إلا القليل - قال: كنت ألقي من الذر والنمل في الرطب عندي وفي الطعام عنتاً كثيراً، فاتخذت لطعامي منملة، وقيرتها وصببت في خندقها الماء، ووضعت سلة الطعام على رأسها، فغبرت أياماً أكشف رأس السلة بعد ذلك وفيها ذر كثير، ووجدت الماء في الخندق على حاله، فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان قد أنزلها وأكل مما فيها، وطال مكثها في الأرض وقد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال، وتكلمت في ذلك وعرفت الحال فيه، فعرفت البراءة في عذرهم والصدق في خبرهم، فاشتد عجبي، وذهبت بي الظنون والخواطر كل مذهب، فعزمت على أن أرصدها وأحرسها وأتثبت في أمري فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها تركته جانباً وصعدت في الحائط، ثم مرت على جذع فلما صارت محاذية للسلة أرسلت نفسها. فقلت في نفسي: انظر كيف اهتديت إلى هذه الحيلة ولم تعلم أنها تبقى محصورة ثم قلت: وما عليها أن تبقى محصورة بل أي حصار على ذرة وقد وجدت ما تشتهي
(السهمي)
رفاهية العلماء:
جاء في نبأ من موسكو أن الحكومة السوفيتية ستقوم ببناء منازل في ضواحي المدن الكبيرة لأعضاء أكاديمية العلوم في روسيا، وسيتألف كل منزل من حجرة للاستقبال والجلوس وحجرة لتناول الطعام، ومكتبة وحجرة للنوم في الطابق الأرضي ومطبخ ومخزن للطعام وحمام في مؤخر المنزل، وغرفتين أخريين تواجههما شرفة واسعة، وسيكون لكل منزل حديقة خلفية وحوش متسع، وقطعة أرض مجاورة تزرع فاكهة وأزهارا، ويبنى فيها غرفتان للسائق والميكانيكي الذي يتعهد السيارة بالرعاية ومخزن للأخشاب والوقود وكابينة صيفية وحظيرة للمواشي.
ويقول النبأ إن السلطات السوفيتية قد أرسلت إلى كل عالم تصميما ليوافق عليه فبقى أن
تشرع في البناء، وأنها ستقوم بنفقات إنشاء هذه المنازل وتكاليفها؛ كما ستقوم بالانفاق على هؤلاء العلماء وتتعهد بما يقلق خواطرهم من الناحية المادية حتى تتيح لهم الفرصة في خدمة العلم وقصر جهودهم على العمل في معاملهم.
ومن نحو خمسة عشر عاماً فكرت الحكومة الفرنسية في بناء مدينة للأدباء والفنانين والعلماء على أن تكون في الوضع الذي يلائم أمزجتهم راحة وهدوءاً وطمأنينة، ولكن المشروع لم يخرج عن دائرة التفكير، وعلق كاتب فكه على هذا النبأ قائلا في سخرية:(أولى بالحكومة الفرنسية أن تقول إنها تريد أن نقيم مدينة للمجانين، وإنها تريد أن تريح المجتمع من هذيان أولئك الذين يقولون عنهم إنهم أدباء وفنانون).
وهذا التفكير الحديث في أوربا قد سبق إليه آباؤنا وخرجوا به إلى دائرة التنفيذ والتحقيق منذ قرون، فقد وقفوا على الأزهر الأوقاف الضخمة، وأنشئوا به الأروقة والمساكن، ورتبوا الرواتب للعلماء والطلاب حتى يكفلوا لهم الراحة المادية، ويصرفوا أذهانهم عن التفكير في شئون العيش إلى التفكير في مسائل العلم.
والواقع أنه ليس هناك همٌّ أثقل على نفس العالم والأديب من التفكير في شئون المال وتدبير العيش. ويروي عن الإمام أبي يوسف أنه قال: جلست في بيتي وقد نشرت كتب العلم بين يدي وأخذت أجتهد في تحرير مسائل الفقه والتشريع، فدخلت الجارية عليّ وقالت ليس في البيت دقيق، فطارت من رأسي أربعون مسألة ولم تعد واحدة منهن أبداً.
فنحن نغتبط أن تهتم الحكومات بتوفير العيش والطمأنينة المادية لرجال الفكر حتى ينتجوا ويثمروا، ولكنا لا نرى من الخير لهم وللمجتمع وللعلم أن يعزلوا في أماكن خاصة، لأن المفكر إنما يتعامل مع المجتمع، فهو يأخذ منه ويعطيه، وبهذا يكون عاملا من عوامل تطوره، وإلزام العالم والمفكر بالانتاج لا يجدي، فقد تخطر له الخاطرة، أو تطوف برأسه الفكرة وهو سائر في ضجيج الشارع أو في مجتمع عام صاخب أو وهو يرى مشكلة تواجه المجتمع، وليس من شك في أن عزل العلماء والمفكرين سيصيرهم على مرور الأيام أشبه بطبقة الكهان، وسرعان ما يضيق بهم المجتمع على هذا الوضع، ويضيقون هم بأنفسهم.
(م. ف. ع)
لن تقوم في الأرض مملكة يهودية فلسطينية:
دعا سليمان يوماً فاستجيب له
…
ونال ما لن ينال الناس من بَعْدُ
ترى أنال غنى؛ والأغنياء على
…
ظهر البسيطة لا يحصى لهم عد؟
أم نال مملكة مهما علت وسمت
…
ففي ممالك أخرى العز والمجد
ما نال إذ نال من شيء يميزه
…
عن العوالم لولا العقل والرشد
أمسى (الحكيمَ) ووصفٌ غير مطردِ
…
أن خصَّ فيه بمعنى ما له حد
فما انبغى قط أن يُعطى حكومته
…
على اليهود يهوديٌّ وإن جدوا
ففوق حكمة أهل الأرض قاطبة
…
جمع اليهود وإن لانوا أو اشتدوا
كالمال (معبودهم) قد بُعثروا بَدَداً
…
وليس مما قضى في أمرهم بد
من معجزات سليمان تآلفهم
…
والمعجزات (كأهليها) لها حد
عيشي فلسطين في أمن وفي دعة
…
فمعجزات سليمان لها عهد
قد قال: (رب هبني. . .) قال: (مملكة
…
على اليهود)، وتمَّ الموقف الفرد
لا ينبغي لسواه بعد أبداً
…
تجميع من ربُّهم في المصرف النقد
محمد التهامي وعبد اللطيف النشار
البَريدُ الأدَبي
أدباء العروبة:
نشرت مجلة الرسالة في عددها الصادر بتاريخ 30 11 1946
كلمة تحت هذا العنوان عجبت كيف قبلتها وهي ملتقى أقلام
أهل الأدب وميدان النابهين من رجال الفكر، وقد أدهشني ما
جاء بهذه الكلمة من أحكام لا تصدر إلى عن تحيز أو غرور.
وأحب أن أبين للقراء ما دق على فهم الكاتب من أهداف (جامعة أدباء العروبة) في رسالتها للنهضة بالأدب العربي، والسير به قدُماً إلى الأمام.
فالجامعة تعمل على إيقاظ الذهن العربي وتوجيهه نحو الآفاق البعيدة الجديدة من آثار المفكرين النابهين النوابغ، وتريد أن تصل الشرق بالغرب في النافع من الثقافة والأدب، وتجد في سبيل توثيق الأواصر بين الأدباء ليسيروا متساندين في خدمة الضاد، سواء أكانوا من المنضوين تحت لوائها أم من أنصارها الذين يعملون للأدب العربي مستقلين لا يرون في التقيد بالجمعيات خيرا كبيرا. فليس هناك احتكار للأدب في أذهان القائمين بأمر جامعة أدباء العروبة كما زعم الكاتب. وإنه ليسر الجامعة أن تعاون كل من يدعو لخدمة الأدب العربي والنهوض به أفراداً وجماعات. وهنا أريد أن أشير إلى ما سماه الكاتب انقساما في صفوف الجامعة، فليس خروج واحد أو اثنين على جامعة الأدباء يعد انقساما يتساوى فيه الفريقان. على أن جامعة أدباء العروبة يسعدها أن تسمع كل يوم عن تأليف جماعة لخدمة الأدب والشعر، وتدعو لها صادقة بالتوفيق والسداد.
ثم كيف تأتَّى للكاتب - وأحسبه من قراء الرسالة - أن يفهم أن هؤلاء الذين توفروا على خدمة أغراض الجامعة، يحتكرون الأدب، وأنهم عدا واحد أو اثنين من غير الصف الأول! لقد أخطأ خطأ مضاعفا؛ فإن الذين يعملون معنا، إنما وقع عليهم الاختيار قبل كل شيء لنشاطهم في خدمة أغراض الجامعة النبيلة فوق ما يتجملون به من أدب وثقافة. وهم فوق ذلك - في مجموعهم - يقفون في الصف الأول من رجال الأدب العربي في هذا العصر.
والجامعة لا تتردد في دعوة البارزين من رجال الفكر والقلم في كافة أنحاء العالم العربي للمساهمة في نهضة الأدب ورفع شأنه بغض النظر عن كونهم من أعضاء الجامعة أو من أنصارها، أو من المستقلين عنها كل الاستقلال.
وإذا لم يكن شاعر مصر الكبير أستاذنا العقاد والشعراء النابهون: ناجي، وغنيم، والأسمر، وأبو فاشا، والغزالي، والعوضي، وبعد المنعم، وشمس الدين، وحمام، والماحي، وعماد، وكامل الكيلاني، ومخيمر، والجرنوسي، وعبد الحميد مرسي، والجمبلاطي، وكبار كتابنا النابغين هم الذين تلمع أسماؤهم في أول الصف الأول من أدباء العالم العربي، فأين يكون هذا الصف الذي يعمل في الخفاء، وينشر رسالة الأدب في خفر واستحياء!
أما ما جاء في ثنايا كلام الكاتب من أن أحد الأعضاء نقل الأدباء في سياراته إلى القناطر الخيرية. . . الخ فهو ضرب من المهاترات الرخيصة التي لا تستحق العناية.
دعونا نعمل، فإننا نرمي لتحقيق غايات شريفة نقصد بها وجه الله وخدمة الوطن، بعيدين عن السياسة والحزبية، والأغراض الذاتية. نرفع راية الضاد عالية يتفيأ ظلها من أراد بشرط أن يكون كفأ ومخلصا في السعي لما نرمي إليه، والله ولي التوفيق.
إبراهيم دسوقي أباظه
الرسالة: نعتذر مخلصين إلى حضرة صاحب المعالي رئيس
(جامعة أدباء العروبة) مما أخذه على كاتب الكلمة. ونؤكد
لمعاليه أن من أمانيّ الرسالة أن تتألف في كل طائفة من
طوائف الأمة جماعة للأدب يقوم عليها وزير أو كبير. ولقد
كانت الرسالة أول من سجل اهتزاز الأدب واعتزاز الأدباء
بتولي معاليه الوزارة؛ إذ لا يستطيع - والأدب من طبعه وفي
استعداده - أن يخلي منه نفسه وهمه وعمله ومجلسه. وإنما
عز الأدب بعز أهله. وحسب الأدب اليوم أن يكون من منتجيه
ومشجعيه وزير! ولو لم يعمل صاحب المعالي إبراهيم دسوقي
أباظه باشا ما عمل للفن الرفيع في وزارته وفي داره وفي
حزبه لما تميز في رأينا على نظرائه الذين تقدموا بالأدب
وتعرفوا به ثم أخروه وأنكروه. وإذا كان في الناس من ظن أن
رياسة الباشا لجامعة الأدباء تشريف ودعاية، فقد ثبت من هذا
البيان الحازم أن رياسته لها تكليف ورعاية.
أعوذ بالله!
أعوذ بالله من. . . أأقولها؟ من صورتي أنا! ولست أعني الصورة التي صورني الله بها؛ فإني راض عنها أحمد الله عليها، ولكن أعني هذه الصورة التي وضعت مع مقالتي في العدد الممتاز وقالوا. . . إنها صورتي! مع أنها لا تشبهني ولا أشبهها وليس فيها ملامحي ولا سماتي، ولم يرها أحد ممن يعرفني إلا قال كما قلت: أعوذ بالله! أهذه صورتك!
لا والله يا إخواننا، ليست صورتي، ولا أدري من الذي صورها، ولكن أدريه أن هذا (المصور. . .) مثل زميله الأول الذي بلغ من حذقه ومعرفته بصناعته، أنه صور (ديكا رومياً) فما شك أحد ممن رأى الصورة، بأنها (خريطة الحبشة)
وأنا أفهم من التصوير الكاريكاتوري أنه لابد فيه مع إظهار المقابح، وتعمد الاضحاك، من إثبات الملامح والدلالة على الشخص المصور حتى لا يتردد كل من يعرفه إذ يرى الصورة، في أن يقول ضاحكا: هذا فلان، فإذا لم يعرف من الصورة صاحبها، ولم يوجد فيها ما يدل عليه، ولم تشتمل على فكرة ولا على إضحاكك ولا تظهر معنى من المعاني، فإنها لا تسمى صورة أصلا.
ولا عبرة بأن هذا (المصور. . .) أبرز ملامح بعض كتاب الرسالة، كعزام باشا مثلا، وأنه يجيد تصوير الوزراء ورجال السياسة، فإن كل إنسان إذا مرن على تصوير رجل يحذق صورته. ولقد كان عندنا في الثانوية ناظر عجوز له شاربان ينزلان على شفتيه وأنف
أعقف كمنقار الصقر، وذقن غائص في وجهه لا يكاد تظهر، ووجنتان فيهما حفرتان، فكنا نصوره بخطوط معدودة فتبرز ملامحه لا يعجز عن ذلك طالب فينا، أما المصور البارع حقا فهو الذي تظهر براعته في كل صورة، ويصور كل إنسان، وعندنا في الشام من ينظر إليك دقائق، فيصور لك صورة تضحك أنت منها، ولا يشك أحد من أصحابك في أنها صورتك
ثم إن هذه الصورة المنشورة مع مقالتي، لفتى في السادسة عشرة وأنا في حدود الأربعين، وهي لشاب حيي مسكين، وأنا رجل شرس ما كنت، ولله الحمد، مسكينا قط.
فإن كان هذا هو (الفن) في مصر، فيا ضيعة الفن في مصر!
علي الطنطاوي
ذكرى باحث الشرق:
في منتصف شهر مارس من عام 1897، انتقل المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني إلى جوار ربه، ففي مارس القادم يكون قد مضى على وفاة ذلك المصلح العظيم خمسون عاماً كاملة.
ومن نافلة القول أن تقول إن جميع أقطار الشرق الإسلامي مدينة في نهضاتها ووثباتها، وما تحقق لها من مظاهر التقدم والحرية للسيد جمال الدين الأفغاني ذلك الرجل الذي قضى حياته يكافح الاستبداد وينافح الاستعمار، ويصيح بالشرق المستسلم أن يستيقظ، وفي هذا السبيل عاش شريداً طريداً تدفعه يد الأقدار أو يد الاستعمار من قطر إلى قطر، وتخرجه من بلد إلى بلد، حتى قضى شهيداً في مطارح الغربة، وليس حول سريره زوج ولا ولد.
ليس من شك في أن الأفغاني - نضر الله قبره ونور ضريحه - قد أقام دعائم النهوض للشرق الإسلامي، وبنى لحراستها قلاعاً من الرجال وإن بقية الخير وطلائع الإصلاح في الشرق هم تلاميذه، أو تلاميذ تلاميذه، وما كان للأفغاني مع هذا من ولد يريد أن يورثه المجد، ويحفظ له المكانة، وما كان له من مطمع في رفاهية الحياة فقد احتقر عروض الدنيا من أيدي السلاطين والحكام، وازدري المال والرفاهية، وعاش حياة خشنة أشبه بحياة الصوفية والمتزهدين. . .
واليوم وقد مضى على وفاة ذلك الرجل الذي وهب حياته للشرق خمسون عاما، فهل للشرق أن يذكر في هذه المناسبة، وأن يذكر أبناء الجيل بما كان في حياته من قدوة، وفي سيرته من أسوة، وفي جهاده من قوة. . .
إن أقل ما يجب في هذه المناسبة، أن ينهض الشرق الإسلامي، شعوبه وحكوماته، هيئاته وجماعاته؛ مدارسه وجامعاته فتقيم أسبوعاً عاماً يدعى بأسبوع جمال الدين الأفغاني، وليس ذلك يعلم الله واجبنا نحو الرجل. بل إنه واجبنا نحو أنفسنا قبل كل شيء حتى ندفع عن أنفسنا معرة النسيان، وتهمة الجحود والكفران.
محمد فهمي عبد اللطيف
القَصصُ
القبر تحت قوس النصر
مأساة عن الحرب العظمى في ثلاثة فصول
للكاتب الفرنسي بول رينال
نحن في منزل بإحدى القرى الفرنسية أثناء الحرب العظمى، وقد جلس رجل في الستين من عمره مع فتاة في العشرين تدعى أود وشاب يرتدي الثياب العسكرية. وسرعان ما تفهم أن هذا الجندي هو ابن الهرم وخطيب الفتاة وأنه قدم من ساحة القتال ليرى أسرته وليقوم بعقد زواجه على خطيبته (اود) فقد حصل من أجل ذلك على إجازة أربعة أيام. ولا يكاد الحديث يدور بينهم حتى يعلم من أبيه الشيخ أن خطيبته قد تكلفت إظهار السرور بعد أن غادرها وذهب إلى ساحة القتال. وأنها فعلت ذلك لكي ترضى والده. ولكنها بعد ذلك أخذ القلق يساورها فبدأت تستفسر عن نشأة ابنه الغائب وعن طفولته وشبابه. كان ذلك عزاءها في غيبته. ويسأل الجندي عما إذا كانت قد وصلت رسالة باسمه إلى المنزل فينكران ألوا ثم يحضران له الرسالة فإذا بها من مركز القيادة التابع له وفيها يأمره بأن يلغي إجازته ويعود إلى خط القتال. ولا يكاد يقرأ تلك البرقية حتى يضحك كما لو كان قد فوجئ مفاجأة سارة، ثم يسأل خطيبته: لماذا ثم تخبريني عند حضوري؟ فتجيبه: لقد كنت مبتهجا. فيذكرها بالواجب الملقى على عاتقه، وكيف استشهد من فرقته ألفان، وأنه لابد أن يكون قد صدر أمر بهجوم جديد ويصمم على السفر في أول قطار يقوم في الفجر إذ أن قائده لم يسمح له بالسفر إلا على شرط الرجوع إذا جد في الأمر شيء. وأن هذا القائد عندما سمح له بذلك كان يقدر الخدمات التي أداها للوطن كجندي باسل.
ولا يكاد الابن يذكر مسألة الزواج التي قدم من أجلها حتى يبدي الأب اعتراضه وتقره (أود) على ذلك فزيارته قصيرة لا تسمح باستيفاء إجراءات الزواج.
ويخرج الجندي ويخلو الأب إلى (أود) فيذكر لها أنه واثق من أن ابنه لم يكن ليفكر في الأخطار الكبيرة التي كان معرضاً لها بقدر ما كان يفكر فيها هي. وفي تلك السعادة الجميلة التي قضت الظروف بحرمانه منها. فتسأله:
- وماذا أفعل لكي أعيش؟.
- سأعينك
أتحميني من الشجن والشقاء؟
وتتطور المناقشة بين الاثنين، فتذكر له العروس أن واجبه نحو ابنه قد انتهى وأن عاطفته نحوه إنما هي استمرار آلي لما كان يشعر به عندما كان ابنه لا يزال طفلا. أما هي فواجبها لم يكد يبدأ بعد. وعندئذ يقول لها في تأنيب خفيف:
- إنه ابني. . . فتجيبه بك روحها: - إنه حياتي
ثم تنبهه إلى أنه ما دام قد حضر فمن غير اللائق أن يدور الحديث على شيء آخر غيره. وأن واجبها الأوحد هو أن تحبه وتذكره بالضحكة التي ضحكها عندما قرأ البرقية الواردة باستدعائه، وكيف أن هذه الضحكة الرهيبة قد أرعدتها وهي تشرح ذلك فتقول إنه يحمل طابع الحرب على شخصيته. ولقد أحست هي نفسها بكل هول الحرب عندما رأت كيف تقلصت عضلات وجهه المحبوب واستحال إلى عنف مخيف بمجرد أن نظر إلى البرقية.
ويلاحظ الأب الشيخ أنها لم تعد تتحدث إلا عن خطيبها، وأن ابنه لا يتحدث إلا عنها. ويبدو له أنهما يشعران بأنه ليس بين الأحياء سواهما. وهو يحس لذلك بغضاضة على نفسه، ويشعر بشيء من الغيرة إذ يسيطر الشباب هذه السيطرة على منزله. ويتحداه كما كان الظافرون يتحدون خصومهم المغلوبين بالسيوف فيما مضى! وهو يخشى أن يكون عقبة بين ابنه وبينها. وتدهش (أود) لذلك وتصارحه بأنه جد مخطئ إذ يفكر في ذلك كله ولكنه يقول برغم هذا: - ما أسعد هؤلاء الشبان. إن الحرب لم تغير كل شيء! مهما حدث على الأرض فلا يوجد دائما إلا مصيبة واحدة. تلك هي الشيخوخة!.
ثم يعود الابن في ثياب مدنية ويخرج الأب بد أن يحاول استصحاب الفتاة معه فيرجو منه ابنه أن يتركها له قليلا. ولا يكاد العروسان يختليان حتى تلتمس منه (أود) أن يصفح عنها، فإذا سألها عن أي شيء تطلب الصفح، أجابته عن أنها استطاعت العيش بعده. ثم تقول له: - إنك تمثل لناظري كل الأمور. إنني لا أملك من حطام الدنيا إلا التفكير فيك إنه غذاء كياني ونار نفسي، وهدف عيني، وطابع صوتي، ومجرى دمي. إنه كل شيء. إنه أنا!.
ثم تذكره بمنشأ علاقتها به، وكيف أنها طالما زهت وفاخرت بمعرفته وكيف تمنت أن تكون
زوجته، فإذا قال لها
- ستكونين زوجتي يوماً ما.
أجابته بعد مجهود كبير: - كنت أود أن أكون زوجتك هذه الليلة.
فيذكر لها أنه ليس من حق أحد في فرنسا أن يكون سعيداً في هذا العام، وأنه يود أن يدعو كل أصدقائه وزملائه في الجيش إلى حضور حفلة زواجه، ويشعر أنهم جميعا يشخصون اليه، ويمدون إليه أيديهم الرقيقة سواء منهم الأحياء والأموات.
هي - الأموات؟
هو - أصدقائي الذين استشهدوا والذين لو بقوا لكانوا هنا الآن. أين هم؟ إنني أدعوهم. فلو ظلوا أحياء لكانوا الآن في مراكزهم بساحة القتال. ولكنهم ماداموا قد ماتوا ففي مكنّهم الحضور! إنني أنتظرهم. سيظهرون، ليحضروا، فلن أتمتع بكل بهجتي وسروري بدونهم. إنني أناديهم.
ثم يبدأ في مناداة أصدقائه من المحاربين الأموات إلى أن يصل إلى اسم صديق تعرفه خطيبته (أود) فيذكر لها كيف أن ذلك الصديق قد سقط مضرجا بدمه في أحد الحصون وكيف أنه طلب إليه أن يرفع تمنياته الصادقة إليها وأن آخر كلماته له وهو يحتضر بين يديه: (كونا سعيدين) وتعجب (أود) بهذه العظمة التي تتجلى في شخصية خطيبها. وتشعر أن نفسها عاجزة عن مجاراته فيها فتقول له: - إنني بجانبك أحس في نشوة بعظمتك. وفي اضطراب بشقائي. . أنت توقن بأنك عظيم فيجيبها في حزم وزهو: - أجل.
- هذا ظاهر! إن هذه الروح التي لا تتجلى إلا في جبهة القتال جعلتك مختلفا عنا وأسمى منا، إننا لا نستطيع أن نفهمك.
ثم تطلب إليه أن يرفعها إلى مرتبته وأن يسمو بها إلى درجة البطولة، أن يرفعها إلى تلك السماء التي تخضبت بدم الشرف الحربي فيقول لها: - إن من يطلب ذلك بهذه اللهجة فلاشك إنه يحصل عليه.
- كلا.
- إنك أنت تلك البطلة التي ترغبين فيها.
ثم يطمئنها بعد ذلك ويخبرها أن الحرب قد وضعت أوزارها وأنها لن يندلع لهيبها بعد.
ويتجاذبان أطراف حديث قصير. ثم يهبط الستار وهما يضحكان.
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في غرفة العرس التي قضى فيها العروسان ليلتهما. وهما يتحدثان عن تلك الليلة فنفهم أن (أود) قد وهبت خطيبها الجندي أعز ما تملك الفتاة العذراء! وهي تذكر له أن هناك أشياء كثيرة لا يزالان يجهلانها ومن بينها ما هو في منتهى البساطة. وهي تعطي مثلا على ذلك أنها لم تره من قبل، ذلك أنها لم تره قط وهو مغمض العينين. ولذا تطلب إليه أن يغمض عينيه، فيفعل. ثم يخبرها أنه قد فهم ما تريده من وراء ذلك فإن عينيه المغمضتين تذكرانها بموته! فتنكر ذلك في ضعف. ولكنها تعود فتسأله ثانية عما إذا كانت الحرب قد انتهت حقا كما كان قد أخبرها. وتلح في سؤالها إلحاحاً شديداً وعندئذ يصارحها بأن الحرب لم تنته وبأنه لا يزال أمام النصر النهائي مدة طويلة؛ وهي تذعر من هذا النبأ وتلومه على أنه أطاعها وصارحها بالحقيقة، وتخبره بأنه ما كان يجب أن يعبأ بإلحاح امرأة مفتونة! وهو يلحظ مبلغ وقع النبأ عليها. وكيف أنها أحست بشبه خيبة في حبها له. فسوف تضطر مرة أخرى إلى انتظار مدة طويلة وهي تتوسل إليه أن يبقى إلى جانبها ولكنه يجيبها أنه وحده دون باقي زملائه في الثكنة قد استطاع الحصول على إجازة. وأن قائده قد اشترط عليه وجوب العودة بمجرد استدعائه. وها هو قد استدعى. ولابد أن يكون الجيش في خطر. فقد أخبره قائده أنه لن يستدعيه إلا إذا كان هناك خطر داهم. وهو بناء على معلوماته وبعد ورود تلك البرقية أصبح يوقن بأن المعركة الفاصلة ستدور رحاها يوم الأحد القادم، ولذا يجب الرحيل عند الفجر. وهو ينتقل بعد ذلك فيلقي كلامه كما لو كان ينطق بلسان كل جنود الجيش الفرنسي. فيذكر لها كيف يحب أولئك الجنود نساء فرنسا. وكيف يموتون وهم يذكرونهن ويتمثلون ابتساماتهن الساحرة. وتتملكه فجأة نوبة يأس وأسى فيخبرها أن هذه الحرب لا تعدو أن تكون كسابقاتها من الحروب، لا تكاد تضع أوزارها حتى يكتفي الشعب بأن يلبس الحداد في استهتار وعدم اكتراث مدة ما. وتلقى بعض الخطب بجانب التماثيل المقامة للشهداء. ثم سرعان ما ينسى كل شيء ويعود الجميع إلى السرور والمرح واللهو والعبث. وهو لا يغار من السعادة التي سوف يفوز بها الذين سيبقون بعد موت أولئك الشهداء، فهو يعلم أنه يفني حياته لكي يمهد السعادة للباقين ولكنه يرجو على الأقل أن تحتفظ فرنسا بذكريات أولئك الشهداء، وهو يربأ
بذلك التمثال الذي شادوه من حطام آلامهم وأحزانهم أن يدفن في رمال الأجيال والقرون، وهو يرى أنه يجب على فرنسا أن تستمر على معرفتهم وأن ترثي لهم وتترحم عليهم! وتنصت (أود) إلى قوله في صمت ثم تؤكد له أن الأموات من جنود الوطن يسمعونه، فيناديهم بأسمائهم، ويخبرها أنه قد تبين أصواتهم فقد أجابوه وقالوا له جميعاً:(كونا سعيدين).
ثم تطلب إليه أن يدنو منها وهي تقول له في لهجة شعرية رائعة أخاذة.
- دع شفتي حتى أستطيع أن أحدثك. . . ضع فمك بقربهما تماما. لا. اعطني إياه. آه كم كنت أود أن أتمكن من إعطائك قبلاتي وكلماتي في آن واحد! أغمض عينيك كما أغمضهما أنا. أطفئ هذا الضوء الشرير (يطفئ المصباح وعندئذ تظهر على زجاج النافذة بشائر الفجر، الفجر الفظيع الرهيب الذي تحدد لرحيل الجندي العاشق. ولكنهما لا يزالان مغمضين عيونهما فلا يرياه) إنني إذ أكون لك أنسى العامل. خذ مني كل ما في من شباب. إنني أعطيك إياه. إنه لك. لك وحدك. لك دائما وإلى الأبد. أنت وحدك الذي سوف يعرف حرارة جسدي، إنني أذوب في حياتك. ثم تتذكر الفجر فتفتح عينيها وتقول وهي مضطربة: أنظر.! لا تنظر.! إنه هو. كلا. إنه ليس هو. قل إنه ليس هو. إنه ليس هو الفجر! فيقف ويحييها في جرأة وإقدام: إنه الفجر.
فتمسك به وهو على حافة الفراش وتقول: ليس هذا هو الفجر، لا شك أنه هو!
ويتأثر الجندي الشاب لذلك الحنان العجيب الذي تظهره (اود) فيذهب إلى النافذة ويسدل عليها الستائر. وهو يقول: إنه ليس الفجر ما دمت تريدين ذلك
- وماذا تساوي إرادتي؟
مادمت هنا فهي التي تسود العالم
- إذن فلا تسافر
- حسن. سأبقى
ثم يطلب إليها أن تنام لتستريح فتبدي له خوفها من أن يغادر المنزل وهي نائمة. فيؤكد لها أنه سيبقى. وتشعر أنها جد سعيدة إذ تراه بجانبها يتحدث إليها وهي في الفراش. فهذا أبدع من سماع الموسيقى. فالموسيقى تدلل الجسد، أما الحديث فهو وحده الذي يدلل الروح.
وتلتمس منه أن يقسم لها بأنه لن يتركها فيقسم وعندئذ تتمتم: إنني سعيدة
وتنقضي فترة ثم يسألها: أتنامين؟
(تجيبه هامسة: (اجل) فيذهب غلى النافذة ويزيح الستار. ثم يرى (اود) نائمة فتخونه شجاعته ويقطع الغرفة ذهابا وإيابا في تهيج واضطراب ويلمس فمها بإصبعه ليتأكد من نومها وهو يتمتم):
- (أتنامين؟)
فاذا وثق من أنها نائمة وضع رأسه على المائدة وأخفاه ثم أخذ يبكي وقد بدا ضوء المصباح يغمر الغرفة وهو يحاول جهد طاقته ألا يوقظ اود. . . ويبكي ويبكي. . . مع أنه لم يكن يعرف البكاء من قبل!
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في غرفة أخرى من غرف المنزل اجتمع فيها الأب الشيخ بابنه الجندي وخطيبته أود. وأنت تفهم منذ بداءة الفصل أن الجندي قد عدل عن الوعد الذي قطعه على نفسه أمام خطيبته، واعتزم الرحيل من جديد والعودة إلى ساحة القتال. وهو يذكر ذلك لوالده ويلفت نظره في سخرية إلى أن هذا الرحيل سوف يتيح له - أي للأب الشيخ - الفرصة للاستمتاع بذلك النظام اليومي الذي إعتاده في حياته مع (أود). سوف يعود إلى تلقي قبلتها في المساء قبل أن تذهب إلى فراشها، وإلى سماع صرير المفتاح في باب غرفتها، وإلى التلذذ بالسكون الفاتر يسود جو المنزل. وأنت تحس بأن الشيخ يحوم حول معرفة ما فعله الشابان في الليلة الماضية، وهو يرغب في معرفة ذلك، فهو يذكر أنه لم يرضوءا في غرفتهما عندما أغلق نافذته في منتصف الساعة الرابعة ويتساءل عن سبب ذلك وهو يستشف من خلال إجاباتهما ما يثيره ويستفزه، فهو يهاجم ابنه إذ اجترأ على تلويث فتاة عذراء كانت تحت حمايته هو! وأنت تحس من طريقة إلقاء ذلك الشيخ ولهجته أنه يغادر من ابنه غيرة لا يكاد هو نفسه يشعر بها، فهي غيرة تشتعل في عقله الباطن، ويتجاهل أن تلك الفتاة إنما هي خطيبة ابنه وحليلته، وهو لا يستطيع أن يضبط غيرته من الشباب الذي يتمثل في ابنه وخطيبته. ويشعر الابن الجندي بذلك ويجابه أباه به، وينكر أن للأبوة حقاً في أن تتعرض لمثل ما تعرض له أبوه. فلا يمكن أن يحكم على تصرفات جندي إلا من عرض حياته للفناء في ساحة القتال، ويثور الابن فيصارح
أباه بأنه إنما ينتقده لأنه لا يريد أن يحرم من التمتع بذلك النظام الذي اعتاده في حياته مع (أود) أثناء غيبته في الحرب، ثم يقول بمنتهى الصراحة:(إنه مما يضايقك أن أظل حياً! ويدهش الأب الشيخ لذلك، ولكن الابن الجندي يعلل هذا بما سبق من أن أباه يغار منه دون أن يشعر بتلك الغيرة، وهو يحس الآن بأن غيرته قد جرحت بعد الذي علمه مما دار بين الخطيبين في الليلة الماضية). ويثور الابن على شيوخ العالم ويقول: (إن الشبان قد اختفوا في هذه الحرب وعاد الشيوخ إلى احتلال مكانتهم كرجال وشبان من جديد. ويتهم والده بأنه يكرهه. وهنا تطلع (اود) والد خطيبها على ما ذكره لها خطيبها من أن الحرب ستطول وأنه أخفى عليهما ذلك. ويدهش الأب لهذا، وتخشى (اود) أن يموت خطيبها في تلك الحرب! وعندئذ يقول الجندي لها:
إذا مت فإنني أمانع في بقائك هنا - ثم يبدي رغبته في أن يصطحبها معه إلى باريس، فتمانع في ذلك، ويظن الأب الشيخ أنها تمانع من أجله فيشكرها. ويلح الجندي في ذلك ويطلب إليها أن تختار بينه وبين أبيه؛ ويدور بينها وبين الشيخ هذا الحوار العجيب!
هي - سيرحل؟
الشيخ - هل طرده أحد!
هي - سيذهب؟
الشيخ - ليذهب
هي - سيعود إلى وطيس المعركة
الشيخ - فليؤد واجبه
هي - إنه يواجه الموت
الشيخ - يتوهمون ذلك دائما!
وفي تلك الأثناء تكون أود بجانب الشيخ فيظهر عليها الاشمئزاز منه وتتراجع وهي تنظر إليه في احتقار وازدراء وتقول في صوت قوي: إنك ترعبني! فيصيح الشيخ: (اود!)
ولكنها تلتفت إلى الجندي وتقول: (خذني!) وتصارح الشيخ بأنها تشمئز منه وأنها لا تريد البقاء. وتؤكد لخطيبها أنها لم تفكر في أحد غيره. وأنها له وحده. تفخر وتزهي بأنها زوجته أو بأنه جعلها زوجته! ويسألها الشيخ عما إذا كانت لم تشعر بحبه لها أو بحبها له.
ولكنه ينتبه إلى وجوب التزام الوقار والحكمة! وتلتفت إلى خطيبها فتعاهده بأنه إذا مات مستشهداً في ساحة القتال فسوف لا تعرف في الحياة بعده إلا ذكراه. . . وينصح لها الشيخ ألا ترتبط بمثل ذلك التعهد فتسخر منه وتكرر قسمها بأنها سوف تقنع بذكرى خطيبها إلى أن تلحق به. . . فإذا عاد الشيخ إلى نصحها غالت في قسمها وعاهدت خطيبها على أنه إذا مات فستلحق به. ثم يشتد بها الضجر من الجو الذي يحيطها فتطلب أن يأخذها معه فيتوسل الشيخ إلى ابنه قائلا: اتركها لي. وعندئذ تلتفت إليه وتقول: أتوجه إليه الكلام!
الشيخ للجندي - قل لها أن تبقى. وتسخر منه اود فيعترف بأنه وهب قلبه لها للمرة الأولى في حياته. فتنبهه أي أنه يجب أن يهبه لابنه وحده. ثم تسأله: هل تعرف شيئا عن الحرب؟
الشيخ - أعرف اليوم للمرة الأولى. ثم يعترف بأنه لا يمكن لامرئ معرفة الحرب إلا بعد أن تدميه وتمزق قلبه. وها هو يشعر بقلبه يتمزق! وعندئذ تشير إلى الجندي قائلة: إذن أنظر إليه الآن!
الشيخ (نعم) - يا صغيري المسكين!
وتطلب إليه أن يحييه ويستغفره فيتقدم الشيخ إلى ابنه ويسأله الصفح وهو يقول: إن البطولة أيها الشبان من حقكم الطبيعي. إنني أتوسل إليك أن تعفو عما ارتكبته من حطة وضعة. لا أطلب شيئا آخر. . . سافرا. . . انسياني. (لابنه) ولكن لا تسافر قبل أن تقول لي أنك عفوت عني. فها أنا ذا والداك أجثو تحت قدميك. عفوك. فيتأثر الابن الجندي ويعفو عن أبيه ثم يقول: إنه لشيء جميل أن يكون رجل هرم مثلك بهذا الحنان. لا تأسف على ما شعرت به من الألم. فإذا تألم الشيخ أصبح شابا. لا وسيلة غير الألم لكي تقترب منا نحن الشبان.
وهذا هو في الواقع محرر القصة كلها، فقد وفق المؤلف توفيقاً تاماً إلى الغرض الذي يرمي إليه. إذ كان واجب الابن الجندي أن يرفع خطيبته ووالده إلى مستوى البطولة، وأن يسمو بهما إلى المثل العليا النبيلة التي وصل إليها حماة الوطن من جنود الجيش الفرنسي أثناء الحرب. . . وها هما قد ارتفعا وسمت نفساهما إلى السماء. . . وها هو الابن يعرض على (أود) أن تبقى مع والده بعد أن صفح عنه، فيأبى الوالد هذه المرة ويرفض. ولكن الابن يلح فيقبل الشيخ في خجل وحياء أن يحمي زوجة ابنه. ويلتفت الجندي إلى خطيبته فيطلب
إليها ألا تنفذ ما قالته له من أنها ستلحق به إذا مات في ساحة القتال فهو لا يريد ذلك. بل هو يتوسل إليها أن تبحث لها بعده عن شاب يكون قد خاض غمار الحرب وأدى واجبه القومي. ويجب عليها ألا تترفع عن حبه إذا بادلها هو الحب. فإذا وصلت شخصيات القصة الثلاث إلى هذا الحد من السمو والتطهر اقتربت اود من خطيبها وهي تقول: أحبك. . . ويقول الوالد لابنه في صوت قوي: إبق حيا.
ويظهر الابن الرضى والاطمئنان ويتقدم إلى الباب وهو يقول: حسن.
وتنتهي القصة هكذا.
الشيخ - عد إلينا ناجيا
هي - أحبك
الشيخ - إنني في حاجة إلى يدك لكي تغمض عيني.
هي - أحبك
ويكون الجندي إذ ذاك قد بلغ الباب فيلتفت إليهما ويقول في لهجة مفعمة بالحب: كونا سعيدين!
ثم يختفي ويسمع صوت الباب الخارجي وهو يغلق ثم صوت العربة وهي تبتعد. وتظهر علامات الأسى على (اود) فتسقط على أحد المقاعد ويشترك الشيخ والشابة في البكاء والأنين!
(البصرة)
سهيل