الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 707
- بتاريخ: 20 - 01 - 1947
أشهر الرسائل العلمية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كلمة الرسالة من الكلمات التي يستشهد بها على تطور الكلمات في معانيها ودلالاتها على حسب أحوال الزمن ومناسباته، فالرسالة مكتوب يرسل من إنسان إلى إنسان، والرسالة دعوة دينية يؤديها رسول من الله، والرسالة مهمة من مهام الإصلاح والإرشاد، والرسالة في المصطلح الحديث كتاب صغير في بحث وجيز، والرسالة اسم هذه المجلة التي تجمع بين هذه الدلالات ما عدا الرسالة السماوية التي يختص الرسل من الأنبياء.
وربما كان أصل الكلمة كلها من مادة (الرسل) بمعنى اللبن إذ يفيض سهلاً من الأثداء، ثم استعملت للخصب والسهولة والانطلاق الرخي الذي لا تعويق فيه، ثم كان إرسال الشيء عامة هو نقله من مكان إلى مكان في رفق ولين. ثم كان الإرسال لكل تحريك رقيق أو عنيف ورخي أو شديد.
وهكذا تتطور الكلمات في اللغة العربية وتبقى أصولها كما تبقى معانيها المجازية وهي تتحول مع الزمان وتحولنا معها وإن أبينا عليها التحويل.
والرسائل التي نعنيها في هذا المقال هي المكاتيب بين الآحاد وهي أيضاً قد تحولت مع الزمن وتطورت مع مستحدثاته السابقة واللاحقة، ومنها تعميم الكتابة وتنظيم البريد وشيوع المطبعة على التخصيص.
فانتشار التعليم مع انتظام البريد قد جعل الرسالة كثيرة الأغراض يكتبها العامي الجاهل كما يكتبها الأديب المطلع، وتكتب في الشئون اليومية كما تكتب في الشئون الإنسانية الباقية. فليست كتابتها اليوم موضع احتفاء وتنميق كما كانت يوم كان كتابها جميعاً من العلماء والأدباء. وكانت - لصعوبة انتظام البريد - تدخر للموضوعات النادرة والأساليب الأدبية أو الأساليب التي تلاحظ في مخاطبات الدول والرؤساء.
وشيوع المطبعة قد جعل الطبع وسيلة لنشر المؤلفات العلمية والمصنفات الأدبية. فأصبحت الرسالة الخصوصية كالملابس الخصوصية في قلة الاحتفاء والعناية، وكادت العناية أن تقتصر على الموضوعات التي تذاع وتشاع، خلافاً لما كان في عصور الأمية ونقل الكتب بالأيدي في نسخ معدودات.
فأقل ما يقال عن تطور الرسالة مع الزمن أنها لم تتقدم في عصر المطبعة والبريد، وأنها أصبحت من الموضوعات التي لا تخص بالتجويد والتحسين، وقد خص بالعجلة وقلة الاكتراث.
وهذا سبب من أسباب الحرص على هذا التراث الذي يستحق الإحياء والاستبقاء، ولعلنا نحييه ونحب العناية به إلى كتابه إذا أعدنا ذخائره القديمة إلى الذيوع والتداول، وأضفنا إلى رسائل البلغاء في اللغة العربية نماذج أخرى من رسائل البلغاء في اللغات العالمية، كما فعل صاحب الكتاب.
هذا الكتاب هو (رسائل العالم الكبرى) وجامعه هو لنكولن شستر الأمريكي ومصادره هي لغات العالم القديم والحديث ومنها اللغة العربية. فقد ترجم منها رسالة الاسكندر إلى دارا التي يسمى فيها الاسكندر بلفظه العربي ذي القرنين، وترجم غير هذه الرسالة من الروسية والألمانية والفرنسية واللاتينية والإغريقية. فكان الكتاب من أوفى مجموعات الرسائل الكبرى التي ظهرت في العهد الأخير.
ومن أصحاب الرسائل المجموعة رجال من أعظم أعلام التاريخ في العلم والفن والحرب والسياسة. نذكر منهم كولمبس وباكون وفولتير وواشنطون ونابيلون وروبسبير وهكلي الكبير وبيتهوفن وبيرون ودستيفسي ونتشة ولنكولن وزولا ومارك توين وعشرات من هذه الطبقة في العصور القديمة والحديثة، يفرغون قلوبهم في ودائع أدبية لم يقدروا لها - أو لأكثرها - أن تصل إلى أيدي القراء، ويسرون فيها أحياناً غير ما يعلنون من الوساوس والآراء.
وفي المجموعة رسائل لأناس لم يشتهروا في الشرق كما اشتهر الذين ذكرناهم فيما تقدم، ولكن رسائلهم في الغرب ذخيرة من أنفس ذخائرهم المروية بين الأدباء والأديبات، ومن هذا القبيل رسائل أبيلاب الفيلسوف الكاهن وهلواز الفاتنة المترهبة، وقصة حبها الفاجع كأغرب القصص التي تروي عن عشاق العرب المشهورين.
توفر على ترجمة نخبة من هذه الرسائل إلى اللغة العربية أديب قدير في النقل من الإنجليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنجليزية، وهو الأستاذ محمد بدران، وأصدر الجزء الأول منها في أكثر من مائتين وأربعين صفحة من القطع الكبير، وسماه أشهر
الرسائل العالمية، وأجاد النقل في لغة سهلة صحيحة دقيقة التعبير. فهيأ لقراء العربية مادة من القراءة الممتعة النافعة لم تتهيأ لهم قبل هذا الكتاب، وأعطاهم في كل رسالة من هذه الرسائل التي بلغت خمساً وستين زادا للفكر والعاطفة يقعم القلب والخيال.
ويأبى شتر صاحب المجموعة الإنجليزية أن يصدق أن عصر البرق والتلفون قد جنى على الرسائل وضيق عليها المجال. فهو يقول في مقدمة المجموعة: (إن اعتقاد المعتقدين أن البرق والتلفون قتل فن المراسلة هو في رأي اعتقاد بغير أساس. ومن حين إلى حين ينهض كاتب من كتاب المقالات والفصول فينعاها ويأسف لزوالها في غضب مشروع، وإنه لكمن ينعى وقائع الحب العظمى والصراع العظيم والفن العظيم والمأساة العظيمة والخواطر العظيمة، وقد يجد الجواب المبين في الرسائل الباقية التي احتوتها هذه المجموعة واشتملت على تلك الصيحات المثيرة التي بدرت من أميل زولا وروبرت لويس ستفنسون ومدام كوري وبارتولميو فانزيتي ولورنس وكونراد وتروتسكي وتوماس مان. وغيرهم من المعاصرين الذين انتخبنا لهم بعض الرسائل في هذه المجموعة. . .)
وعندنا أن هذا الإشفاق من الرجل المشغوف بفن المراسلة هو ضرب من إشفاق الوالدين على الأبناء.
فكل فنان متعلق بنفه يأبى أن يسمع نعيه أو يترقب زواله، وكل والد يحب وليده يأبى أن ييأس من حياته ولو أنذره باليأس منه أقدر الأطباء.
ومثل هذا الشغف معقول ومقبول، ولكنه لا ينفى الحقيقة التي تدل عليها عبارة المؤلف هذه وهو يسوقها لنفسه وللقراء مساق الطمأنة والتبشير. فلو قيس ما كان ينبغي أن يكتب في العصر الحديث من رسائل الأدباء إلى ما كتب فعلاً واختاره في المجموعة لظهر أن الواقع لا يتجاوز معشار المطلوب أو المأمول. فإن العصر الحديث يخرج لنا من الأدباء في كل قطر ما يربى عدده في الجيل الواحد على عدد أمثالهم في جميع العصور اليونانية واللاتينية، وهم مع هذا لم يكتبوا جميعاً مثل ما كتبه الأدباء الأقدمون أو ما كتبه معاصروهم من العظماء والرؤساء.
فلا شك في جناية البرق والتلفون والبريد والمطبعة ومقابلات المسارح ودور الصور المتحركة على تبادل الرسائل البليغة ومساجلات العاطفة والفكر بين أبناء البلد الواحد
فضلاً عن البلاد القصبية، ولكن الأمل في دوام هذا الفن منوط بكثرة الكاتبين وإن قل نصيبهم من الكتابة. فإن ألفاً يكتب عشرهم وينقطع عن الكتابة تسعة أعشارهم أوفر أثراً من عشرين أو ثلاثين يتبادلون الرسائل أجمعين، ومن هنا يرجى دوام هذا الفن الجميل في عصرنا الحديث على الرغم من مواعيد التليفون ومقابلات المسرح وقلة الاكتراث بالرسالة الخاصة إلى جانب المطبوع والمنشور.
على أننا نحسب أن هذا الفن على جماله وإغوائه لا يستغني عن التشجيع والاستبقاء، وليس أدعى إلى استبقائه وإغراء القراء به من تزويدهم بالنماذج التي يلتذونها ويقبلون عليها ويستزيدون منها فقد يكون هذا الإقبال مدعاة إلى المحاكاة أو إلى ابتداع فن للمراسلة لا يتوقف على مرسل ومرسل إليه بل ينفرد به كاتب واحد يفتن في الخطاب والجواب.
ولم يكن هذا التراسل المخترع بدعا في العصور الأولى وهي العصور التي ازدهرت فيها الرسالة ولم يكن لأصحابها غنى عنها بالبرق والتلفون. فقد حقق شميدلر الباحث الألماني أن رسائل أبيلارو هلواز قد أنفرد أبيلار بكتابتها كلها ولم تشاركه فيها هلوار على ما هو مشهور في الآداب الأوربية، وعرض برتبراند رسل لهذه الدعوى في كلامه عن أبيلار فقال: (إنني لست من ذوي الاختصاص في تمحيص هذه الدعوى، ولكني أرى إنه ليس في خلائق أبيلار المعهودة ما يمنع قبولها ويجعلها في حكم المستحيل.
فإذا جاز هذا فيما مضي فهو أقرب إلى الجواز في العصر الذي نحن فيه، ولا شك أن صدق الواقع أجدى في كتابة الرسائل من صدق الفن أو صدق الإبداع. ولكن صدق الفن لا بأس به على العلات إذا كان فيه تعويض لجناية البرق والتليفون على نوع جميل من الكتابة تحيق به نذر الزوال.
وليس أولى بتحقيق هذا الغرض المرجو من عمل كعمل الأستاذ بدران، ولعل إقبال القراء على جزئه الأول يجعل بظهور الأجزاء التالية وإضافة النماذج الجديدة إلى النماذج القديمة، من مصادر شتى تفتح له أبوابها معرفته الوافية بالإنجليزية، وهي لا تخلو من أوسع المراجع في هذا الموضوع.
عباس محمود العقاد
الذي قال أنا ربكم الأعلى
للأستاذ علي الطنطاوي
لبس ثيابه واستعد ولكن الباب لم يفتح، فوقف وراءه يصغي فلم يسمع صوتا، فضاق صدره حتى أحس كأن مرارته ستنشق، وأن أعصابه ستتمزق، فجعل يدور في الغرفة وساعته في يده ينظر إليها، حتى فتح الباب وأقبل الحراس ليقودوه إلى المحكمة. . .
وكان يرقب هذه الساعة ويعد لها الدقائق والثواني، لا حباً بالحكمة ورغبة فيها، بل هرباً من الوحدة وخوفاً من لياليها، فقد كان يمر عليه الليل طويلاً ثقيلاً، وهو وحيد في حجيرته (زنزانته) لا رفيق له إلا ذكرياته وأفكاره، ولا مسرح لنظره إلا هذه الغرفة الضيقة، يحدق في جدرانها التي يسيل عليها هذا الضوء الأصفر الشاحب، ويوهمه طول تحديقه فيه أنه يرتجف ويضطرب، وتتراءى له ظلال غامضة لا تلبث أن تضح فيرى فيها صورة مشنقة منصوبة، فيغمض عينيه عنها ويحاول أن ينام فتلاحقه هذه الصور وتزداد بشاعة وهولاً. . . فيحس أنه مشرف على الجنون، ويقوم إلى الباب يشده ويعالجه حتى تكل يداه، فيسقط إعياء وبأساً. . . . ولم يكن يتمنى إلا إنساناً يحدثه، عدواً أو صديقاً يجد عنده صدى خواطره، ورجع أفكاره، ليقنع نفسه أنه لا يزال عاقلاً لم يجن!
لذلك كان يجد هذه الساعة نعمة سابغة، لأنه يلقي فيها أولاده وصحبه، راكبين معه السيارة مقيدين مثله بالسلاسل والأغلال الثقال، ولكن ألسنتهم طليقة فهو يستطيع أن يكلمهم ويكلموه، وهو يلمس من خضوعهم له وإكبارهم إياه ما يثلج صدره، ويعيد له ثقته بنفسه وإنه لا يزال (رباً) معبوداً، وإن قيد وسجن، ولا يزال له عباد مخلصون. . . لم تذهب المحنة سلطانه عليهم، ألم تلق امرأة من أتباعه نفسها تحت سيارة السجن لأنها لا تطيق أن ترى الرب. . . أسيراً مغلولاً؟ ألم يشهد عليه واحد من عبيده غاضاً بصره. فلما قال له الرئيس: أنظر في وجهه. صاح: لا أستطيع، لا أستطيع.؟! فهل يسلمه هؤلاء ويدعون يساق إلى الموت؟ لا. واطمأن ووثق من النجاة، ورأى الدنيا لا تزال على العهد بها، فالشمس مشرقة، والبلد يعج بأهله، والناس يذهبون ويجيئون، ويبيعون ويشترون، ويضحكون ويمرحون، وكان يخيل إليه في وحدته أن الدنيا قد شملها الظلام الذي ملأ نفسه، وإنها فقدت رواءها، وغاضبت منها بهجتها.
وسأل ولده: كم مضى من الشهر؟ فلما أخبره نظر فرأى أنه قد مر على سجنه شهران. شهران فقط وقد كان يحسبهما عمراً طويلاً؟! وجحظت عيناه دهشة وسبح بنظره في الفضاء، لقد أنساه هذان الشهران حياته الماضية كلها، ومحوا منها أيام الحرية والعز والربوبية، فكأنه ولد سجيناً مقيداً، لم يكن قط السيد الذي يطاع، والرب الذي يعبد، وكأنه لم يكن له شعب يعيش به وله، ويبذل الروح في سبيله. ولا يريد من الدنيا والآخرة إلا رضاه.
وأيقظه من ذهوله صوت الجندي يدعوه إلى النزول من السيارة، فقد بلغت المحكمة، فرأى الناس مزدحمين لينظروا إليه ويتسلوا برؤيته، وكان يعرف أكثرهم ويعرفونه، فأغضى وامتلأت نفسه حنقاً على الحكومة لأنها جعلت محاكمته في اللاذقية حيث قام عرش ربوبيته ليراه الناس، ويعلموا مصيره، ولم تجعلها في دمشق المدينة الكبيرة التي لا يعرفه فيها إلا القليل ورأى الناس متلهفين على إشباع أبصارهم منه، والشماتة به، كأنهم في رواية تمثل على المسرح، يريدون أن يأخذوا بحظوظهم من المتعة بها ليعودوا إلى دورهم، ويصلوا ما انقطع من أعمالهم، الحملة هكذا: والرواية رهان على رأسه بين النائب العالم والمحامي أيهما أبلغ مقالاً، وأطول لساناً، وأقدر على سرد مواد القانون. نعم سيعود الناس إلى دورهم، إلا الرب، فل تبقى له دار يعود إليها!
وكان في جلسات المحاكمة الأولى ممتلئاً أملاً، واثقاً بنفسه وبقيام شعبه بنصرته، ولكنه سمع في هذه الجلسة شهادات أتباعه عليه، والوثائق تنهال على عاتقه كأنها ضربات معول صلد على جدار من اللين. . . تضيق عليه باب النجاة، وتسد طريق الخلاص، فتضعضع وأوشك أن يموت في نفسه الأمل.
وسمع النائب العام يتكلم، ويطلب له الموت، ففكر أن يثب إلى عنقه، فيضع يديه على رقبته فلا يرفعهما حتى يخنقه وليصنعوا بعد ذلك ما يريدون، أيقدرون على أكثر من الموت؟ وتصور الموت ففزع منه وخافه، لا، إنه لا يريد أن يموت. . . وسمع محامي الدفاع يقول كلاماً سخيفاً، فأعرض عنه، وأبغضه، وماذا يقول المحامي وهو نفسه لا يستطيع أن ينكر شيئاً مما اتهم به؟
ودنت ساعة الحكم.
تلى كلام طويل، لم يستطع أن يتفهمه، لأن ذهنه كان معلقاً بكلمة واحدة، هي التي تحدد مصيره، قد حبس لها أنفاسه، ووقفت لها دقات قلبه، وخال كل ثانية في انتظارها دهراً، فلما سمع هذه الكلمة خارت قواه، ووهى عزمه، وسقط على كرسيه لقد كانت هذه الكلمة: الإعدام!
ورأى الناس يثبون إليه، ويتدافعون ليحدقوا في وجهه، والمصورين يوجهون إليه آلاتهم ثم شعر كأنه انفصل عن هذه الدنيا ثم ابتعد عنها، حتى رآها وهي تدور من حوله، وقد تداخلت مشاهدها، وخفيت معالمها، ورأى الناس كأشباح تتحرك خلال ضباب الأوهام، وأحس بالقيود توضع في يديه، وبأنه سيق إلى السيارة فألقي على مقعدها، وسمع قهقهة كأنها صاعدة من جوف جب عميق، ولغطاً فيه ذكر اسمه وذكر المشنقة. ثم أخذه الدوار، ولم يعد يدرك شيئاً.
ولما احتوته حجيرته أحس أنه انحطم وسحقت عظامه، كأنما مشت عليه المسالف. . . لقد حكم عليه بالإعدام. . . ولكن الليل قد انقضى وطلع الصباح، ثم نزل الليل مرة ثانية، وهو حي كما كان من قبل الحكم، إلى إن لم يعد يخرج إلى المحاكمة، ولم يعد يرى أولاده ولا صحبه، وكانت الأيام والساعات تمر به فارغة واسعة كأنها أبهاء قصر مهجور، وقد كانت له أعمال يفكر فيها كما يفكر الناس فينسى بها مر الوقت وكر الزمان، فأمسى وليس في حياته إلا الانتظار، وإذا كانت ساعة انتظار النعمة تبدو طويلة مملة، فكيف بمن ينتظر الموت؟ وكان يود لو يتحقق الأمل بالعفو الذي وعده به محاميه، أو يعجل عليه بالموت ليستريح من هذا القلق الذي هو شر من الموت، إذ كان يجهد خياله أبداً ليتصور ساعة الإعدام، حتى ليحس كل لحظة شدة الحبل على عنقه، وحرارة الرصاص في صدره، فأكنه كان يموت في كل لحظة مرة. . . وكان أشد ما يزعجه من الموت هذه الفضيحة، وأن يراه ذليلاً مهيناً من كان يراه بالأمس سيداً ورباً، ولو جاءه الموت طبيعياً كما يموت الناس لما آلمه هذا الألم، أما أن يتحكم فيه بشر مثله، وأن يملك نزع حياته من بين جنبيه وهو لا يملك منحها ولا ردها، فذلك ما لم يستطع حمله. . . وفكر في العفو فرآه سهلاً قريباً، أن في يد رجل مثله مخلوق من لحم ودم، لا يكلفه إلا أن يكتب بقلمه ثلاث كلمات في ذيل العريضة التي قدمها محاميه، فهل يضن بها؟ وهل تهون حياته هذا الهوان حتى لا تساوي
مشقة كتابة ثلاث كلمات؟
وتنبه ضميره فذكر كيف كان يستهين هو بحياة الناس، وذكر كم أزهق من أرواح، وكم أهلك من نفوس، وكيف كان يدع طعامه فيقتل الرجل ثم يعود ليتم طعامه كأنه لم يصنع شيئاً، وكيف كان يقتل وهو يتحدث ثم يرجع إلى حديثه لا يقطعه، ولقد كان فيمن قتل أزواج عاشقون لهم نساء، وآباء لهم أولاد، وشباب لهم أمهات، فما فكر في نسائهم ولا أولادهم ولا أمهاتهم فهل يفكر أحد اليوم في زوجاته وأولاده؟
ومرت به الأصباح والعشايا وهو يرتقب وما من جديد وانحصرت حياته في النوم والطعام والتفكير وما ينام وإنما يهده اليأس فيلقي جنبه على الفراش يرى مروعات الأحلام، وما يأكل وإنما يضعفه الجوع فيدس في فمه لقيمات تقيه الموت، وما يفكر وإنما يرى صور ماضيه ماثلات على جدار الغرفة، فينظر إليها كما ينظر المرء إلى فليم في سينما.
فجعل ينظر إليه. . .
رأى (جوبة البرغال) هذه القرية التي تغلغلت في جبال العلويين حتى وجدت أقفر بقعة فيها وأوحشها وأبعدها عن العمران، في فجوة من الصخر، يطيف بها جبل قائم فيطوقها من جهاتها الثلاث، كأنه حصن حربي فلا يدع لها إلا بابا ضيقاً يطل منه جبل آخر، يمد إلى (خشمه) فينحدر إلى الفجوة حتى إذا توسطها اضطجع وتمدد، فاستقرت الجوبة على عنق هذا الجبل النائم، يحميها كتفه من هنا ومن هناك قلعات الصخر الراسيات من الجبل المستدير، وذراه الشامخات الأعالي، هذه هي عاصمة ملكه، ومعقله ومثوى عرشه الرباني. . . التي ظن أنها ستعصمه من جبابرة الأمس ومن عفاريت الجن، ومن القنابل الطائرة والنازلة والذرية. . . ثم تمده بالقوة والأيد حتى يقرأ منها على الدنيا، مرة ثانية، كتاب الذعر والخوف والاغتيال، الذي كتبه من قبل في هذه الجبال وهذه التلاع اتباع الحسن بن صباح وسنان شيخ الجبل. . .
وتبدل المشهد وعاد به إلى الماضي، إلى أول عهده بالدنيا يوم كان فتى غراً يرعى الأغنام في هذي التلاع، لا يحمل هما، لأن الهم يحتاج إلى فكر ولم يكن له رأس يفكر، ولا يطمع في شيء إلا لقيمات تسد رمقه وتشد صلبه؟ وفراشاً من القش يريح جنبه ألا ليت هاتيك الأيام قد دامت، ودام الفقر والبؤس، ولم يعرف طريق المجد الذي يوصل إلى المشنقة،
وذرفت من عينه دمعة، فأسرع فمسحها وتلفت يخشى أن يراه أحد وهو يبكي، قد كان أشد شيء عليه أن يسخر منه اليوم عباده بالأمس، فلم ير أحداً فاطمأن وعاد يستعرض (فلم) حياته على مهل، فرأى أول فصل في كتاب مجده، وأول صفحة من شعر بؤسه. . .
وكان ذلك في يوم بارد من أيام الشتاء، أقفرت فيه الأدوية وسدت المسالك، وبدت الدنيا كلها في ملاءة بيضاء من الثلج، ورجع الرعاة إلى القرية، وعكف الناس على البيوت، وهبط فيه القرية شيخ علوي ذكي مشعبذ، فمر به فرآه مغمى عليه، وكان به داء الصرع. . . فحصاه وأخذه معه، فعلمه فنون الشعوذة، وأقنعه أنه المهدي المنتظر، وطفق يمخرق به على العامة من أهل الجبل، وأهل الجبل كلهم من العامة، وهم أجهل من الأنعام، وأوحش من الوحوش، يفكرون بالله ويؤمنون بالمهدي، وينكرون الوحدانية ويقولون بالتقمص، ويتسلون بالقتل، ويدينون بالنهب، ويتبعون شريعة الذئاب، فسرعان ما آمنوا به وصدقوه والتفوا حوله، كان ذلك سنة 1933.
ويتغير المشهد فيراه وقد قبض عليه وعلى شيخه وحوكما وسجنا، ثم نفيا من الأرض. . . ثم يعود وكله حنق على الشيخ وعلى الحكومة وعلى الفرنسيين وعلى الدنيا كلها، فبدأ بالشيخ فقتله، وأراد أن يمد يده إلى الفرنسيين فإذا هم يمدون إليه أيديهم يعرضون عليه المال والعتاد والألوهية في الجبل على أن يكون عبداً لهم. . .
فصار المهدي رباً. . .
وكر الفلم فرأى هذه الليلة التي أعلن فيها ربوبين ماثلة أمامه: هذا هو القائد الفرنسي، يزوره متذللاً خاشعاً ويقول لقومه:(هذا هو ربنا وربكم)، ثم يطلب إله أن يطلع الشمس في نصف الليل، فيأخذ الرب الجديد مصباحاً في يده فيلوح به، فيرى الجبليون الشمس ساطعة على الجبل الغربي، أطلعها الجنود الفرنسيون بالأنوار الكاشفة، و (البطاريات) القوية، لما رأوا المصباح يتحرك.
وتتابع الصور، أمام عينيه، فيرى (الرب) يتخذ أنبياء وملائكة، ويتزوج النساء بالعشرات ويأخذ ما يطيب له من الأراضي، ومن يستحلي من البنات، ويقتل ويضرب ويحبس، حتى إذا انتهت الحرب، وأحس الفرنسيون أن أجلهم قد دنا، أقبلوا عليه يحالفونه أن يمدوه بالمال والسلاح، ويجعلوه ملكا على الشام كله كما يجعلوه رباً على الجبل، وتمت المحالفة، وصار
ملك الشعب الحيدري الغساني (؟!) يسن له القوانين، ويشرع له الشرائع، ويجبي الضرائب، ويولي الولاة. . . ويفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل!
وتمر به صورة أخرى من حياته، فيرى الوطنيين يقبلون عليه يسألونه أن يقبل عليهم، وأن ينفض يده من الفرنسيين، فيأبى ويمتنع. أيدع أحلافه الأقوياء لقوم لا حول هم ولا قوة، أيعود واحداً من هذه الأمة ضائعاً وقد صيره الفرنسيون رباً؟ أيرد ما اغتصب من الأراضي ويحمل وزر ما اجترم من الجرائم؟
كلا. إنه لن يصافح اليد الوطنية، إن الفرنسيين لا يمكن أن يخرجوا من الشام أبداً. . .
(لها بقية)
علي الطنطاوي
من الأعماق
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
هاأنذا هارب من الدار، ياتوت، لأبعد عن مواقع خطاك، وأهرب من رؤى مصرعك؛ ولكن كيف أهرب من نفسي؟
الصور، والخيالات، والمشاعر المكنونة، والرؤى الحية. . . أولئك أعدائي. . . وهم معي بين جنبي يا توت - وأنت معنا!
رصاصة صماء، ويد بلا قلب. . . وتنطفئ الشعلة، ويطوي سفر، وينطوي عالم. . . وبأيسر من هذا تتم تلك النقلة التي تدير الرءوس هولاً. والأحياء مع ذلك تعيش، وترجو، وتأمل. . . ألا ما أقسى السخرية البلهاء!
كلب!
ما أيسر ما تلوكها الألسن، وما أهون ما تتلقاها المدارك، وما أقل ما تحفل بها المشاعر! ولكن حين يستحيل هذا اللفظ إلى عشرات من الصور والذكريات، وعشرات من الرؤى والطيوف، وعشرات من الاهتمامات الوجدانية والمشاعر الحية. هنا يستحيل كل حرف فيها وكل صوت من مقاطعها، إلى أفاعي مسمومة تنهش القلب، وتجرح الضمير، وتقتات من دماء الأحياء.
دماء! ويحي! ما الذي دس هذه اللفظة في تعبيري الآن؟ دماؤك أنت - يا توت - تلك التي خضبتك وعقرتك! ويحي! لم أنكأ نفسي هكذا، وأتكئ على جرحي بقسوة؟ إنها صورتك الأخيرة يا توت لا تبرح تواجه خيالي، حين يفري جوانحي ألم ضار مسموم.
لقد تماسكت؛ وقد تماسكت، وحاولت أن أغلف المسألة كلها بغلاف من عدم المبالاة. ولكن حين حملتك - يا توت - بين يدي جثة جريحة دامية، لأواريك المقر في جوف الثري، خذلتني قواي كلها. وبدا لي التماسك سخافة كبرى!
ونمت هناك - يا توت - في مقرك الأبدي الذي سويته لك بيدي الراعشة. . . ولكن أنى لي أن أطيق تلك الصورة الواقعة المستحيلة: إن عيني لن تعود فتراك أبداً. إن أذني لن تعود فتسمعك أبداً. إن هذا الجسد الهامد لن يعود فيتحرك أبداً. . . إن شيئاً مما كان كله لن
يكون أبداً. . . مستحيل مستحيل ذلك الواقع الذي لن يزول!
توت. توت. توت!
سأقولها، وأقولها، وأقولها. فلا تجيب أيضاً. وسأعود فلا أجدك في الحديقة، ولا في الشرفة، ولا في الردهة، ولا في حجرتي، ولا في المطبخ، ولا في المكتب، ولا في مأواك، ولا في مكان ما على ظهر هذه الأرض الدوارة. . .؟
وحينما يحين موعد انطلاقك من مأواك في الصباح، وموعد غدائك في الظهر، وموعد لعبك في الغروب، وموعد مبيتك في المساء، لن تنبح، ولن توصوص بعينيك، ولن تبصبص بذنبك، ولن تتواثب على أقدامنا وأحضاننا، ولن تزوم احتجاجاً ولن تزق شكراناً، ولن (تصوصو) شكوى. ولن يكون شيء من ذلك أبداً. . .؟
وحين أشتاق إليك كالطفل الحبيب، وحين أذهب لأطل عليك في مخدعك قبل أن أمضي صباحاً. وحين أتوقع أن تطلع لي من حيث لا أعلم عند عودتي ظهراً وحين أجلس للطعام فأسرع لأخلص لك العظم المحبوب. وحين أخشى أن تعبث بكتبي وأوراقي التي تحبها حباً جماً. . . عند ذلك تكون أنت - يا توت - هنالك في تلك الحفرة الصغيرة المنعزلة التي سويتها لك بيدي!
وكرتك النطاطة ستظل هامدة على الأرض، ليس فيها من حراك. وصحفة طعامك، وآنية شرابك، وبيتك الخشبي الصغير كل أولئك لن يعود أحد يسأل: أهي مليئة أم خواء؟!
ويدخل الليل، ويلفنا الظلام، وتغمرنا الوحشة. . . وبين فترة وفترة يشق السكون (نباح) هنا أو هناك، فأنسى أنك هناك وأتلفت بنفسي المتطلعة إلى هجمتك الحبيبة على أطراف ثوبي أو قدمي بأنيابك الصغار؟
ويصبح الصباح، ويمتع الضحى، ويميل الأصيل، ويدخل الليل. وتكر الأيام وأنت أيضاً هناك. ساكن في ذلك المأوي القريب، تفصلني عنك الآباد؟
يا دنيا!
لم كانت هذه السخرية الكبرى سخرية الحياة. . . للفناء؟!
- 2 -
لن أصدق. . . لن أصدق!
لقد مضى أمس الأول. ثم مضى أمس. ونحن هؤلاء اليوم. فلم لا تجيء يا توت؟
إن قد مت! أعرف ذلك. ولكن! لم لا تجيء؟!
اليوم هو الجمعة. وأنا هنا في الدار - يا توت - ألا تعلم؟
لقد ضحوت في النوم، فمالك لم تجيء لتوقظني بهمهمتك؟ مالك لا تحاول القفز إلى سريري، مالك لا تزوم محتجاً لأنني لم أستمع إلى ندائك؟ مالك لا تملأ الحجرة نباحاً وقد يئست من إصغائي إليك، فإذا تحركت حركة واحدة عدت تزق فرحاً وابتهاجاً بصوتك الودود الجميل؟
أم لعلك جئت وهمهمت واحتججت ويئست، ثم انصرفت - لتعود - إلى المطبخ، لتتناول نصيبك اليومي من العظام وقد أحضرته لك في الميعاد صديقتك - رقية - التي تحبها وتحبك، وتلاعبها وتلاعبك، وتملأ أوقات فراغها وأوقات خدمتها كذلك مرحاً ووثباً وصياحاً وزياطاً وحيوية، كما تملأ حياة الدار جميعاً!
لا. لست في المطبخ. فها هي ذي شقيقتي هناك وحيدة، ساهمة، كئيبة، مفردة، موحشة. . . هي لا تحاول اليوم أن تحسم الخلافات التي تقع بينك وبين (سوسو) في توزيع الجلد والعظام وزوائد اللحوم. أنت لا ترفع صوتك احتجاجاً لأن زميلك قد عدا على نصيبك، وهو لا يموء صارخاً لأنك عدوت على نصيبه. إنه هادئ ساكن. أم لعله حزين!
ألا تكون في الحجرة الأخرى - يا توت - تعابث صديقتك الأخرى شقيقتي الصغيرة؟ تشد منها كرة الخيط المدلاة وتختفي بها تحت السرير فلا تحس بك ولا بها إلا أن تشد خيطها فلا ينشد فتعلن سخطها عليك، وتحذيرها إياك. حتى إذا نظرت إلى عينيك الجميلتين، ورأت فيهما كل معاني الشيطنة والبراءة، داعبتك باللفظ الذي تعرف، وبالصوت الذي تفهم، وبالإيماءة التي تجيب؟
هأنذا يا توت في حجرة المكتب. . . يا توت! تعال يا توت! ألا تجيء أيها الشيطان الصغير؟ تعال فالشمس التي تحبها تملأ الحجرة، والورق الذي تهيم به ينتظرك للشد والتمزيق.
أوه! رحمتك يا الله!
إن آثار فنجانة القهوة التي سكبت من يدي على المكتب، وأنا أضطرب للنبأ الأليم، نبأ
مصرعك الوحشي الغادر، لا تزال. لم يزلها أحد منذ ثلاثة أيام! وهل بقيت في أحد هنا بقية يا توت؟
الفراغ! الفراغ!
ذلك الخواء الموحش العميق المترامي الأطراف، ذلك المخلوق الكئيب الهائل.
ذلك الذي نراه على امتداد البصر وآماد الآفاق.
والصور، والرؤى، والأطياف، والأشباح!
تلك الحيات الكامنة في الضمير، تنهش القلب ويضم عليها جوانحه، وتسمم الحياة والحياة بدونها محال.
والذكريات!
أولئك اللواتي يثبن كلما سكن الحس، وساد الصمت. ولفنا الظلام: ظلام النفس أو ظلام الأرجاء.
وإنا لنهرب إلى أنفسنا - يا توت - فنلقاك هناك. ونهرب من أنفسنا فنلقاك هناك. ونهرب إلى الناس فنحدثهم عنك، وحيثما انجر حديث قفزت إليه من بعيد، واندست ذكراك في مجراه.
يا توت! لم اعترضت طريقنا. ما دمت لا تنوي إلا عمر الأزهار؟
العذاب! العذاب في هذه الحياة!
- 3 -
أبداً لست هنا يا توت. ولو كنت هنا ونحن عائدون هكذا إلى الدار جميعاً، لما وسعتك الحديقة كلها من الفرح، ولملأتها جرياً ووثباً ومراحاً، ولجئتنا عن أيماننا وعن شمائلنا، ولأخذت علينا طريقنا وراء وقداما، ولتواثبت على صدورنا وأقدامنا كالبرق الخاطف أو القذيفة المندفعة، ولملأنا الدار حركة وضجيجاً نتابع بهما حركتك وضجيجك، ونهدئ بهما هذه الشعلة المتوقدة في جوارحك. ولكنك لست هنا يا توت.
فلنخرج صامتين لا نتلفت وراءنا لنرجعك إلى الدار فلا تتبعنا. ولندخل صامتين يجلل الأسى وجوهنا، وتغشى الكآبة نفوسنا، ولنتخاطب فيما بيننا همساً من الكمد، ولتتجاذب عيوننا وقلوبنا بالهم الذي يغمرها جميعاً.
أجل يا توت. ولتمت على شفاهنا ألفاظ قاموس كامل كان لك أنت وحدك ألفاظ التدليل والتنبيه والزجر والتخويف والنداء والاسترضاء. فقد انطوى ذلك كله، وعادت ذكراه تلذع أفئدتنا لذعة الجمر كلما هجست في الضمير.
ووددت يا توت - لو أنساك! فقد كدت أفقد كل ما يعرف عن من اتزان وتماسك؛ وتفزعت أعصابي فلست أنام، وفي جوانحي ذلك اللذع الذي لم يعد يطاق. . . ولكن لا أريد أن أنساك - يا توت - لا أريد أن أفقدك كلك. فعزيز على نفسي أن تفرغ من كل شيء حتى من لذعة ذكراك!
- 4 -
كلنا هنا على المائدة - يا توت - فأين أنت؟
لست إلى يميني هنا باسطاً يديك على الأرض في انتظار نصيبك في النهاية، وعيناك تلتمعان بكل ما تريد أن تقول!
عيناك الذكيتان المعبرتان، لقد كانت بيننا وبينهما لغة مفهومة؛ كما كان بينك وبين أعيننا تلك اللغة المفهومة بلا أصوات!
ولكنهما أطبقتا - يا توت - وانطفأت فيهما تلك الشعلة من الذكاء الحاد، والحس المرهف، والإخلاص الودود.
أطبقتا. أطبقتا إلى الأبد. وهذه هي قسوة الموت. . . العدم. العدم المطلق. المطلق إلى غير حد. . . يا للقساوة الصماء!
وأسرع في ازدراد طعامي - يا توت - لا لأخلص لك نصيبك المعلوم، ولكن لأهرب من الخيال المفزع.
لا. لا. لا طاقة لي بهذا العذاب الدائم المتكرر في كل موضع قدم في هذه الدار.
في كل لفتة ذكرى، وفي كل خطوة صورة، وفي كل خطوة عذاب. عذاب قاس ممزق لذاع.
ولكنني أهرب إلى الخارج، فتصاحبني في كل موضع قدم، وفي كل خطرة فكر، وفي كل لفتة بال.
يا توت. يا توت. لم - يا بني! - ألست بنا في الطريق؟! يا رب. يا رب: رحمتك يا الله!
سيد قطب
يا ليل.
. .!
للأستاذ الأسدي محمد خير الله
- 2 -
المذهب السادس:
وقبل أن نمضي في تحقيقنا نورد هنا مذهباً لنا سادساً، كنا على أن نجهر به قبل أن نتولى البحث بما يفرده العلم من حجج، أي أننا كنا نتحسس به، كما هو شأن أرباب المذاهب المتقدمة، دون حجة ولا بينة، ذلك إننا كنا نرى في (يا ليل) مجرد إرسال النغم، أو قل: تجسيده بألفاظ لا معنى لها، شأن موسيقى اليوم لدى إرسالها بالنغم: لي للي لي لم.
والبحث الذي نستقبله كفيل أن يعلم أن الكلمة تنتمي إلى أصل ذي معنى، ثم استعملت لهذا التجسيد.
نعم كثر ما جاء في الغناء من ألفاظ لا معنى لها، غير أن (يا ليل) ليست من قبيلها. ومن هذه الألفاظ:(على يا در يا در يا در يابو العبيسية)، ومنها (دلي يا دلي دلعونا)، ومنها (ما يستعمله العراقيون في مقام البنج كاه - كما يحدثنا الصديق الطبيب رجائي - في قولهم:(هي داد بداد هي جان دلي دلي داد).
فالكلمة إذن ذات معنى مجهول سيأتي كشفه كما كشف لنا الأب بخاش عن سر (الله يسوي دوص دوص ها بيباها) الترتيلة المستعلمة في أعراس حلب دون غيرها.
مذاهب أخرى:
وهناك مذاهب سمعناها من شتى المصادر لا تنتمي إلى شيء مما يحفل به العلم، وهي أن أصل (يا ليل) يا ويلي (وشفيعه أن الحزن من مستلزمات الغناء العربي، ولا يزال العلويون يغنون:
ويل ويلي بوطنجو
…
علا جنبو قريبينه
أو أن أصلها يا لآلئ جمع لؤلؤ، كأنما ينادي أحبابه الجميلين المشبهين اللآلي. أو أن أصلها يا آلي أي يا أهلي. أو أن أصلها يا لي بالي أي يا من أنت لي. أنشدني زجال لبناني في دار الأستاذ الفيكونت دي طرازي:
قلتلا شو اسمك
…
قالت لولو
قلتلا لي لي
…
قالت لي: لا لا
وهو من تلاعب البديعيين، وقد سبق إليه.
أو أن أصلها يا أليلي بمعنى يا أنيني مما أيدلت نونه لاما، كقول أبن ميادة:
وقولا لها ما تأمرين بوامق
…
له بعد نومات العيون أليل
أو أن أصلها يا ليل بكسر اللام: صنم أضيف إليه، كعبد يغوث وعبد مناة وعبد ود استعملت بعد التحريف للغناء، لأنه ربما يكون إلها للحب كما كان لليونان إله له. أو أن أصلها هلل العبرية، بمعنى سبح، وقد سميت مزامير داود تهليم، أو تصدر جل أبياتها بهللويه أي: سبحوا لله.
تحفيف في يا ليل:
لنمض بعد ما تقدم إلى مهمتنا في التحقيق، ولنتساءل: يا ليل: وأين يا ترى تردد يا ليل؟ أليست تردد في مطلع هذا الضرب الغنائي المسمى لدى العامة بالموال؟ حسن. لنبحث الآن عن الموال في معاجمنا العصرية التي فسحت بعض المجال للمفردات العامية. ها هم أولاء الأستاذة لويس المعلوف في المنجد، وفؤاد البستاني في منجد الطلاب، وحليم دموس في قاموس العوام ينصون في معاجمهم هذه على أن الموال والجمع المواويل محرف المواليا. لنركن إذن إلى هذا النص، ولو جدلا، ثم لنتساءل: ما المواليا؟ ذلك ما يجيب عنه الزبيدي أسمع مؤدي ما ينقل عن حاشية الكعبة للبغدادي، وإذا ذكرت البغدادي لا أتمالك من إبداء عاطفة الزهو والاغباط، إذ إنه احتفظ في آثاره بكثير مما وعته الخزانة العربية الضائعة. نعم لنسمع صدى البغدادي يقول: المواليا نوع من الشعر، اخترعه أهل واسط من مدن العراق، اقتطعوا من بحر البسيط بيتين، وقفوا شطر كل بيت بقافية، تعلمه عبيدهم والغلمان، وصادروا يغنون به على رؤوس النخل لدى جنيه، وفوق مراقي سلالم البناء، ولدى سقى المياه، وفي نحو هذا من الأعمال، وكانوا يرددون آخر كل صوت:(يا مواليا) إشارة إلى سادتهم، فسمى بهذا الاسم، ثم استعمله البغداديون فلطفوه حتى عرف بهم دون مخترعيه إلى أن شاع.
أقول: ولعل في المطلع القديم المشهور الماعا إلي ما ذكر:
القول قول العجم: آه يا مواليا
…
يا بيض لا ترحلوا ضلوا حواليا
ثم اسمع مؤدي ما يحدثنا به زيدان: وفي العصر المغولي الممتد من القرن السابع الهجري إلى القرن العاشر وضع ضرب من الشعر العامي يقال له: المواليا، كان في بغداد.
وها هو ذا ابن خلدون يقول: وكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه الموليات، وتحته فنون كثيرة، يسمون منها القوما وكان وكان، منه مفرد ومنه في بيتين، يسمونه دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان، تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب. . . بمقتضى لغتهم الحضرية.
ثم يمضي ابن خلدون في سرد طائفة منها (نجتزئ) ذكر واحد:
طرقت بابا الخبا، قالت من الطارق؟
…
فقلت: مفتون، لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق
…
رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
والأبشيهي يعقد فصلاً لمختارات المواليا، نورد منها:
وقد أوعدونا الغضايا أننا نخلو
…
في ظل بستان حافف بالتمر نخلو
والظل من فوقنا قد بلنا نخلو
…
ومن كلام الأعادي قط ما نخلو
والبستاني يتحدث عن المواليا: وفي أصل المواليا أقول أشهرها أن هارون الرشيد أمر بعد نكبة البرامكة أن لا يرثيهم أحد بشعر، فرثت إحدى جواريهم جعفراً بشعر غير معرب، حتى لا يعد شعراً، وجعلت تقول بعد كل شطر يا مواليا، قالت:
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس
…
أين الذين حموها بالقنا والترس
قالت: تراهم رمم تحت الأراضي الدرس
…
سكوت، بعد الفصاحة ألسنتهم خرس
قال الأستاذ ويل وهو أول ما عرف من الموال. وقال مؤتمر الموسيقى، يقال إن أول ظهوره كان في بغداد، بعد الفتك بالبرامكة، قال الجلال في شرح الموشح (ثم ذكر القصة المتقدمة وزاد عليها):
قيل إن الرشيد حينما بلغه ذلك دعا الجارية، وأراد معاقبتها على مخالفة أمره، فقالت: يا أمير المؤمنين! أنت منعت رثاهم بالشعر، وهذا ليس بعشر لأنه لا يجري على الفصيح، فاقتنع.
والمواويل نوعان: الخضر والحمر، والنوع الأخير شائع في صعيد مصر، ويمتاز بالإكثار من التغيير في ألفاظ وقوافيه حتى تتجانس.
حين سرده بعض المعلومات المتقدمة ذاهباً إلى أن الاسمين لمسمى بعينه وأن الثاني محرف الأول - على ما نتصور - ثم زاد: والموال هو أحد الفنون السبعة المعروفة اليوم في الأغاني الشعبية بل هو أكثرها شهرة، تصادفه في كل مكان من العراق حتى مراكش، ومنشأه المدن خلاف العتابا الذي نشأ في الصحراء، ويجوز فيه استعمال اللغة الفصحى ولغة المحادثة. . .
ويكون غالباً من أربعة أشطر أو خمسة أو سبعة.
والقافية في الأول واحدة، أو يشذ عنها الشطر الثالث فقط.
وشاع استعمال ذي الأشطر الخمسة في مصر وتلمسان، والقافية فيه واحد دون الشطر الرابع، ويسمى بالموال الأعرج، وتلمسان تسميه بالخوفي. ومن الطريف أن نشير إلى أن ابن خلدون ذكر هذا الاسم وعده من فروع الموال، ولكن طبعة بولاق استبدلته بالقوما.
أما ذو الأشطر السبعة فيدعى بالموال البغدادي أو النعماني ويطلق مايسنر عليه اسم الزهيري (بالإمالة) أو الزهيري كما هو اسمه في بغداد، والقافية فيه قافيتان، فالأشطر الثلاثة الأولى بقافية، والأشطر الثلاثة الأخرى بقافية مغايرة، والشطر الأخير يرجع إلى القافية الأولى.
أما شهاب الدين في سفينة الملك فيسمى الموال المخمس بالأعرج، والمسبع بالنعماني مقتصراً على ذلك.
وعند جميع المحققين أن الفنون السبعة (المتقدمة) منها ثلاثة معربة أبداً، لا يغتفر اللحن فيها، وهي الشعر القريض والموشح والدوبيت، ومنها ثلاثة ملحونة أبداً وهي الزجل والكان وكان والقوما، ومنها واحد هو البرزخ بينهما يحتمل الإعراب واللحن وهو المواليا، وقيل: لا يكون البيت منه بعض ألفاظه معربة بعضها ملحونة، فإن هذا من أقبح العيوب التي لا تجوز وإنما يكون المعرب منه نوعا بمفرده ويكون الملحون فيه ملحوناً لا يدخله الإعراب، وقد أوضح قاعدة الجميع وأمثلتها صفي الدين أبو المحاسن الحلي في ديوانه وسماه بالعاطل الحالي والمرخص الغالي.
انتهى حديث المصادر. ومنها يتضح صحة ما ذهب إليه معجميونا المعاصرون من أن الموال من المواليا، يؤيده:
1 -
التقارب اللفظي بين الموال والمواليا.
2 -
كون النظم في كليهما تعتوره العامية.
3 -
كون الوزن في كليهما من بحر البسيط.
4 -
كون أحكام القافية في كليها واحدة.
5 -
كون الأعاريض في كليهما يشبهها ضربها.
6 -
كون الأعاريض وضربها في كليهما فاعلن وفعلن وفعلان.
7 -
أن في كليهما لازمة تردد: هناك يا موالي وهنا يا ليلى.
8 -
أن المواليا والموال للغناء.
9 -
الغناء في كليهما مرسل.
10 -
أن كليهما مصدر بيا.
11 -
إطلاق الموسوعة الإسلامية كلمة المواليا.
فإذا كانت هذه القرائن كفيلة أن تقييم الدليل على أن الموال من المواليا كان من الحق أن تحكم أن لازمة هذا لازمة ذاك، وبعبارة أوضح أن (يا ليلي) تحدرت من يا موالي محرفة مطورة تطوير الطبيعة حافر الفرس من زعانف السمك، ما في ذلك عندنا من ريب.
فالموال إذن من المواليا، لا فعال من موله بمعنى صيره ذا مال كأنما يمول صاحبه - كما يذهب الزميل الأستاذ أحمد إيرى - ولا أصله مؤول، لما أن القافية الأخيرة تؤول إلى القافية الأولى - كما يذهب الصديق الطبيب فؤاد رجائي -.
وظني أن لازمة الشرقاوي (يايابا) أو (ياياباي) عدول أتى به الأشراف أو غير الموالي، بعد أن تبوأ الموال مكانه في الغناء العربي، فكأنما أقاموا أباهم مقام المولى.
سبيلنا الآن بعد أن بلغنا غايتنا أن نعقد الصلة بين يا موالي ويا ليل - إن كان ذلك متاحا - الحقيقة أن كرور العصور وكثرة التداول طمسا معالم الأصل في يا ليلى ما خلا النداء واللام والياء فبعد الشبه، حتى لا تكاد تتوسم في هذا الفرع ملامح الأصل إذ ليس ثمة لون من ألوان الاشتقاق المعهود في اللغة يصار إليه، الأمر الذي يجعل الملتمس من وراء
الطاقة، وإن كانت إجابة، فإنما هي ضرب من الظن والتخيل، إلا أن تذهب إلى أنه اشتقاق على غير حدود الاشتقاق القياسية، بل ما لنا نطلق كلمة الاشتقاق وللاشتقاق حدود، لنقل: هذه وتلك محرفة بعامل الزمن وبعامل كثرة الاستعمال، كما هو شأن هذه العاديات في المتاحف، وأجدني الآن على حفافي الاطمئنان، وقد لمع في مخيلتي غمر من الكلمات كان شأنها شأن هذا.
(البقية في العدد القادم)
الأسدي محمد خير الله
وجهة النظر الجديدة في الحياة
للكاتب الصيني الكبير وان يون شينغ
(حديث ألقاه في جمعية الثقافة المركزية بتشنغ كنغ)
بقلم الأستاذ نور ناهين
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ومع ذلك فإن في تاريخ الصين ما ينزع إلى الأمور الشخصية مثل الذي ذكرت، فمثلاً في عهد أسرة (تنغ) قد استولت على أفرادها النواحي الحزبية، واستعلن النزاع بين (نيو) و (لي)، حيث عقدوا عهداً سرياً على أن يخصوا الإمبراطور، وهذا أمر داخلي، وأما الأمر الخارجي فإنهم اتصلوا بالأجانب وشايعوهم، ثم اشترك أنصارهم (نان شاو) و (هون تسن) في النزاع واحداً بعد الآخر، حتى غرقت الدولة كلها في بحر المصائب والبلايا. وهذا مثل آخر، أحدث في عهد أسرة (سونغ) من النزاع الحزبي بين (وان غان شي) و (يان يو) حيث نفثوا سم خصامهم حتى انتشر وأهلك دولة (سونغ). وأشد ما يحزن ما عم في آخر عهد أسرة (مين) من بلاء (حزب)(دان لين) الذي أثر على مدة حكم الملك أسوأ التأثير. أما ما حدث بعد إعلان الجمهورية الصينية من النزاع الحزبي والخصام، فخير لنا ألا نذكره مؤقتاً، لنتركه إلى التاريخ.
إن مجتمع الصين كله ككتاب تاريخي شامل لما يترتب على الاهتمام بالأمور الشخصية. فكم من الناس من قديم وحديث نجحوا نجاحاً باهراً في الاعتماد على المتعة الشخصية! وكم من الأشخاص، قد تحاربوا وتنافسوا بسبب الأمور الشخصية أيضاً، ذلك لأن الصينيين لا يهمهم إلا ما يعامل به بعضهم بعضاً ويهملون ما ينبغي عليهم أن يتعاملوا به كأفراد للطبيعة.
فيجب علينا بعد هذا الصينيين، في هذا العصر أن نقصد إلى هدف في الحياة، ولابد أن نهدم ما يحيط بالناس من حدود، ونبتعد عن نطاق المتاع الشخصي، لنتغلب على الطبيعة مع بعض، ثم نجدد نظم المجتمع ونصلح شئون الدولة.
يجب علينا أن نجل المستر (لنكولن) زعيم أمريكا المشهور، وتحترم رأيه العظيم كل
الاحترام إذ إنه يريد ألا يسترق الناس أحد من الناس، ولا يرضي أن يهدد بني البشر أمثالهم، ولم يتردد في إشعال الحرب لإعتاق الرقيق. وكان يبذل جهده لتحرير الرقيق من جهة، ويحث الناس على الهجرة من جهة أخرى، حيث دعاهم بأن يتقدموا نحو غرب أمريكا متحدين، ليفتحوا كنوز طبيعتها البكر، وهكذا مهد الطريق إلى رقى أمريكا بيديه.
إن إسلوب (لنكولن) العظيم، هو هدم الحدود بين البشر لقهر الطبيعة، أو بتعبير آخر أن يتعدى الناس الحدود الضيقة الشخصية في معاملة بعضهم لبعض، ثم حثهم على الكفاح والجهاد لاقتطاف الثمرات الطبيعية للحياة، وهو أسلوب أشبه ما يمكن بأسلوب المخترعين والمكتشفين، بل إنهم من منع واحد.
وبمناسبة ذكر الكفاح والحياة المثالية الطبيعية، أذكر ما أملاه على ركوب البحر من أفكار، ذلك أنن كنت غارقاً في أعمال إدارة جريدتي، في ربيع سنة 15 للجمهورية الصينية، إذ كنت في منصب رئيس التحرير والمدير العام، وكان هدف الإدارة من نواحي العمل والنظم والمقالات كخيط مستقيم، إذ نبهت أبناء وطني للثورة على الضباط الشريرين الذين يضرون الوطن ويزعجون الشعوب. ثم تركت إدارة جريدتي مضطراً، وفررت راكباً من (تيني جيي) إلى شنغ هاي، حين وصل (تشويي يو) و (لأي جنمغ لين) إلى (تين جين) مع قواتهما. ولما خرجت الباخرة من ميناء (تان قو)، لم أر في الدنيا إلا الماء العميق والسماء المرتفعة والتقاءهما عند الأفق، وسارت الباخرة في البحر الواسع رويداً رويداً كمغرفة القرع، وحينئذ شعرت فجأة بسعة الدنيا وصغر البشر، وفكرت في الذين لا يزالون يتنافسون ويتنازعون ويتحاربون في (تين جين)، مثلهم كمثل عرمة الديدان، لو أن تلك الجملة من الناس ألقيت في البحر، لم يبد شيء إلا الزبد والرغوة فحسب. وعندئذ اعتقدت كل الاعتقاد أن مستقبل الإنسان لن يكون فسيحاً متسعاً، إلا بعد أن يبتعد الناس عن نطاق المتاع الشخصي الضيق، ويبذلوا أقصى جهدهم في سلوك طريق الطبيعة العظيمة الأبدية.
ما أشد ما يعلق مستقبل الإنسان بآثار الحرب الحاضرة! فإن من حسن الحظ أن قام الأمريكيون يساعدون إنجلترا بقانون الإعارة والتأجير، ثم يساعدون روسيا والصين أيضاً حتى حولوا موقف دول الحلفاء من الهزيمة إلى النصر، وكان سبباً في هزيمة المحور، وأصبح العالم كله يحلم بمستقبل منير.
وربما رأى بعض الحاذقين أن الأمريكيين من أشد الناس حمقاً، لأنهم يسلمون ما أنتجوا من السلاح والغذاء إلى حلفائهم بدون أي شرط، وهم قد دفعوا الضرائب الثقيلة، وسكبوا عرقاً ودماء. ولكن الأمريكيين أنفسهم ما زالوا يخترعون هكذا، ويعطون هكذا، بل إنهم يستمرون في الاختراع والإعطاء، وبذلك أصبحت أمريكا زعيمة دول الحلفاء، وصار الرئيس روزفلت أول السياسيين في العالم، وصار أهل أمريكا أكثر الناس سعادة. وإن مثل أمريكا الآن مثل الشمس تبعث الحرارة والنور باستمرار، فحصلت عظمتها وجلالها من بذل الحرارة والنور، وهي نفسها لا تعني بتنعمها قط.
وإذا لاحظنا مسألة الأمريكان الاقتصادية بعد الحرب الحاضرة، وقد نفذت اليوم فعلاً ما عرضته على آذان المستمعين الآن من نظرية الشمس والحياة، ظهرت لأعيننا مشكلة النزاع العلني بين فريقين: أولهما الذين يقترحون أن يبقى الإنتاج الجليل كما كان بعد الحرب الحاضرة، كي تتجدد مسألة البطالة، وهم لا يلاحظون حينئذ دفع الضرائب الثقيلة وتحمل الديون. وثانيهما: الذين يقترحون اختصار ميزانية الوطن بعد الحرب الحاضرة والنقص من مدى الإنتاج تجنباً للتضخم المالي.
وإني لموافق على رأي من التوسع في الإنتاج، فأرجو من أمريكا أن لا تنفذ قرار الذي يشير بإنقاص الإنتاج بعد الحرب الحاضرة، بل يجب عليها أن تستمر في الاختراع والإنتاج، لتتمتع الجماهير بالنتائج ويرتفع المستوى المعيشي، ثم تبيع ما يبقى من الإنتاج بعد الاستعمال، ولو بقى شيء من الإنتاج بعد البيع، فما عليها إلا أن تقدمه للناس هدية. إذ إن ثمة بعد الحرب كثيراً من البلدان تنتظر نهضة، وكثير من الأمم تحتاج إلى المساعدة والإنقاذ. ولما كانت لأمريكا هذه القوة على الاختراع وتلك القدرة على الإنتاج، فكيف يجوز أن لا ترفع قواتها إلى أقصى الحد، كي توفر النعمة لجمهورها خاصة وللعالم كله عامة؟
إن السياسيين الأوربيين إذا تحدثوا عن سياستهم الداخلية، طالبوا دائماً برفع المستوى المعيشي، أما السياسيون الصينيون فقد تعودوا أن يبثوا في الناس حب الاقتصاد والزهد، وذلك يوضح مذهب الفريقين المختلفين وفلسفتهما، ويمثل نوعين من السياسة متميزين.
أما كيف يرفع مستوى المعيشة فذلك بالبحث في خامات الطبيعة وقوانينها والأخذ عنها بالاختراع والعمل على زيادة الإنتاج. وأما كيف يكون الزهد والاقتصاد فذلك بالقصد في
الطعام والكساء، وجمع النقود مليماً بعد مليم، وتكديس المئونة قيراطاً بعد قيراط، حتى أصبح الشحاذون هم أصحاب الثراء، وفوق ذلك فإن أكبر ضرر ينتج عدم الإنتاج والابتكار، والزهد والشح هو فتح باب الخداع والرشوة، ولهذا كان ضعف الصين وفقرها.
لقد كان صاحب كتاب (الدول الثلاثة) أعظم الناس عقلاً وأكثرهم تجريباً؛ إذ قال في أول كتابه القيم: (لابد أن تتطور حالة الدنيا بحيث يتحد الناس بعد مدة الفراق من جهة، ويفترقون بعد مدة الاتحاد من جهة أخرى).
ولو أننا رجعنا إلى الخلف خطوة، نبحث في تاريخ الصين عن أسباب السلام والصلح من جهة، وعن أسباب التمرد والعصيان من جهة أخرى، لوجدنا أن السبب الوحيد هو وقوف سياستنا في حدود نطاق المتاع الشخصي الضيق، وحدود الاقتصاد في إنتاج الزراعة البسيطة، وعدم استغلال الطبيعة لتحسين حال المجتمع وخصوصاً العجز عن رفع مستوى المعيشة.
لقد كانت مصر من بناة الحضارة بين أبناء آدم، بل كانت الأولى في العالم من قديم الحضارة وبعد التمدن؛ إلا أن أهلها ما زالوا يعيشون على ماء النيل فقط، فإذا لم يرتفع فيضان النيل إلى درجة موفورة، نقص حصاد الزرع، ومات الناس جوعاً. وإذا لم تكف المؤونة بأن كان إنتاج الزراعة ومحصولها محدوداً مع زيادة السكان، حدثت المصائب دائماً، فلذلك ظلت مصر ضعيفة.
وإلى هنا كشفت المشكلة أمام أعيننا علانية، فلابد أن ننزع ما بين البشر من حدود، ونبعد عن نطاق المتاع الشخصي، ثم نتجه إلى السماء بقصدنا المعين، ونستغل الطبيعة بقوتنا المتحدة وعند ذلك تحسن حالة المجتمع وتصلح شئون الوطن، ونرى أنفسنا متقدمين نحو الأمام مشغولين بالاختراع. تلك هي وجهة نظري الجديدة في الحياة، وهي نفسها نظرية الشمس والحياة.
نور ناهين
داود باشا ونهضة العراق الأدبية
في القرن التاسع عشر
للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى
- 2 -
ومن آثاره الجامع المسمى باسمه في الكرخ قرب مقام الخضر، والشارع الذي وسعه والباب الذي فتحه في الرصافة بالقرب من رأس الجسر القديم بجانب الثكنة (القشلة) وقد نقشت فوق رتاجه هذه الأبيات:
آثار داود آثار بها لبست
…
بغدادُ حسناً يروق العين واضحه
تشكو الرصافة قدماً ضيق مسكلها
…
ويكره الضيف غاديه ورائحه
فأُمْنِحتَ بطريق لازحام به
…
وباب جسر حُسبىِ بالنصر فاتحهُ
يخاطب الملكَ الأعلى كأن به
…
شوقاً إلى المشتري يبغي يصافحهُ
أعيا أبا جعفر المنصور حين بنى
…
حظُّ أبو يوسف المنصور رابحهُ
داود من أُيدت بالنصر دولتهُ
…
وعن لسان الثنا سارت مدائحه
لا زلت تسمع خيراً من مؤرخه
…
بابٌ وداود ربُّ الفتح فاتحهُ
1241 هـ
ومن آثاره أيضاً الجامع القائم بسوق الهرج الذي شيد معالمه بعد درسها وقد كتب فوق بابه ما يلي:
ذا جامع كان قدماً لا شبيه له
…
في حسن بنيانه والدهر غيرَّهُ
وكم وزير أتى الزوراء ثم مضى
…
ولا لغير خيام الجند صيرهُ
حتى أتى ذا العلي داود آصفنا
…
من حك بالسبعة الأفلاك مفخره
فشاد أطنابه من بعدما انهدمت
…
للعابدين ووشاه وصوره
وحين ثم غدا الداعي يؤرخه
…
ذا جامع بالندى داود عمره
1242 هـ
اهتم داود باشا اهتماماً عظيماً بتوسيع نطاق التجارة والزراعة وترقيتهما فكرى الأنهر
وشق الريح ومنها نهر عيسى المعروف اليوم باسم أبي غريب الواقع في الجانب الغربي من بغداد، وقد نظم الشيخ صالح الخيمي قصيدة عامرة الأبيات مطلعها:
لو نهر عيسى يحاكي فيض محبيه
…
لصير الماء في أعلى روابيه
نهر عليه ظباء الوحش عاكفة
…
دهراً فعادت ظباء الأنس تأويه
ولم تم كري نهر عيسى شرع في كري نهر النيل الواقع في لواء الحلة، فأمر بحشد خمسة آلاف فاعل، وقد أنجز حفره عام 1242هـ، فأكثر الشعراء من مدح المترجم بقصائدهم ومنهم الشيخ صالح الخيمي الشاعر المطبوع القائل في مطلع قصيدته هذه:
دع نهر عيسى وحدثني عن النيل
…
واجر الحديث بإجمال وتفصيل
نيل ولا مصر لكن في جوانبه
…
نضارة لم تكن في مصر والنيل
ومن مآثره اهتمامه بفتح المدارس وإنشاء المعاهد العلمية والأدبية وقد بلغت في زمن ولايته نحو ثلاثين مدرسة بين عالية وابتدائية ومنها المدرسة المعروفة باسمه وقد نالت شهرة واسعة.
شعره
كان صاحب الترجمة يحسن العربية ويجيد قواعدها وشواردها وله وقوف على آدابها، وقد نظم قصائد عديدة، ودبجت براعته رسائل كثيرة بعث بها إلى أصحابه وإخوانه؛ غير أن آثاره الأدبية فقد معظمها ولم يثبت منها سوى الشيء النزر في بطون الدواوين وعلى صفحات المهارق، وقد ورد في سجع الحمامة وهو ديوان بطرس كرامة ص324 ما نصه: وقال مخمساً والأصل بيتان لبعض شعراء العراق شطرهما داود باشا وإلى بغداد سابقاً:
زند الأسى بين الجوانح قدوري
…
لما تأخر ذو الإمام إلى ورا
أين الوفا والغدر قد عم الورى
…
ولقد يشق على النواظر أن ترى
ذاهمة في ذلة وصغار
أضحى النبيل الفرد منفصم العرى
…
مما يؤمل جاهداً فوق العرا
يا لهف نفس مرة مما عرى
…
ما كنت أوثر أن أشاهد أو أرى
كبراء قوم في أكف صغار
فالدهر خصم إن بدا إطراقه
…
وإذا الزمان تراجعت أخلاقه
سلب الرئاسة من يد الأحرار
لعب الزمان بنا فليس يغادر
…
شهماً يميز عاذراً من غادر
يا طالباً شمساً بليل غادر
…
ماذا تؤمل من زمان جائر
جعل الخيار بقبضة الأشرار
ومنها قصيدته المعروفة بالدرع الداودية، فقد وجدت في خزانة جرجس بك صفا، أوقفه عليها الأمير سعد حفيد الأمير بشير الشهابي الكبير، وهي من مخلفات شعر جده بطرس كرامه، وها نحن أولاء ندرجها كلها لأننا لم نقف على غيرها من نظم ذلك الوزير الشاعر:
الدرع الداوودية
أما آن للأحباب أن ينصفوا معنا
…
فزاغوا وما زغنا وحالوا وما حلنا
نعم هجروا واستبدلوا الوصل بالجفا
…
وخانوا عهوداً ماضيات وما خنا
رعينا حقوقاً لا علينا نعم لنا
…
عليهم حقوق سالفات ولا منا
وفينا ولم نغدر فكان جزاؤنا
…
جزاء أم عمرو فافهم اللفظ والمعنى
وإنا لقوم نحفظ الود غيرة
…
ونرعى ذماماً إن حضرنا وإن غبنا
وإن جيشوا جيشاً من الصد والجفا
…
بنينا من الصبر الجميل لهم حصنا
هم زعموا أن كل برق يخيفنا
…
فخابوا بما قالوا وقلنا وما خبنا
إذا ضيعوا حقي فهم يعرفونني
…
إذا هبت النكباء كنت لهم ركنا
وإني أبيُّ أن ألم برببة
…
وأستعطف الخب اللئيم أو الأدنى
وما كان عيبي عندهم غير أنني
…
إذا بيعت الأرواح لا أدعي الغبنا
وإن قام سوق الحرب إني أشدهم
…
لأعدائهم بأساً وأكثرهم طعنا
وأثبتهم جأشاً وأطولهم يداً
…
وأوفاهم عهداً وأكبرهم سنا
وأحكمهم عقداً وأمعنهم حمى
…
وأصدقهم قولاً وأوسعهم مغنى
أجامل أقواماً ولا لامهابة
…
فيزعم قوم أننا منهم خفنا
وأسكت إيفاء لود علمته
…
وعندي مقال يحطم الظهر والبطنا
ولو وقفوا يوم الرهان مواقفي
…
لأهديتهم روحي ومالي وما يفنى
فيا أسفي ضيعت عصر شبيبتي
…
بكل خفيف القدر لا يعرف الوزنا
فإن وصلوا حبلي وصلت حبالهم
…
وإن قرعوا سني جدعت لهم أذنا
إذا همُ في إسعادنا لملمة
…
ألمت بنا قد أسعفونا فلا عشنا
وظنوا بأن الآل يشفي من الصدى
…
فخاضوا به للورد جهلاً وما خضنا
وقد بدلوا الغالي الذي تعرفونه
…
بصفقة لهم تبت يدا كم وما أغنى
صحائف عندي غيرة قد طويتها
…
ولو نشرت يوماً لقوا لها ذقنا
أجول بطرفي في العراق فلا أرى
…
من الناس إلا مظهر البغض والشجنا
فخيرهم للأجنبي وقبحهم
…
على بعضهم بعض يعدونه حسنا
وشبانهم شابوا المودة بالجفا
…
وشبنا وما للصفو في كدر شيئا
حضرنا متى غابوا بموقف حربهم
…
وإن حضروا في موقف للخنا غبنا
سمرنا مع السمر العوالي ليالياً
…
وهم سمروا في ذكر سعدى وفي لبنى
جفوا فوصلنا حبلهم بعد قطعه
…
فدع منهم يبدو الجفاء ولا منا
ألا نخوة منهم فيصغون للذي
…
أيادي سبأ قد لاعبت ذلك المغنى
ألا حازم للرشد شد حزامه
…
لداهية ينسى بها الطائر الوكنا
ألا مرشد منهم عن الغنى قومه
…
فيوقفهم منه على السنن الأسنى
ألا رافع عن قومه بني ظالم
…
إذا فقدوا في الحرب من ينطح القرنا
وكان إذا أبدى التشاجر نابه
…
يفرون مثل الجمر عنه وما كنا
لقد حملوا ما يثقل الظهر من خنى
…
كأنهم من ماله حملوا سفنا
متى تعتذر أيامنا من ذنوبها
…
وهيهات من غدر لمومسة لخنا
فكم طحنت قوماً بجؤجؤ صدرها
…
وما أصلحت يوماً دقيقاً ولا طحنا
وعصبة لؤم قد تناجوا لحربنا
…
فياويحهم ماذا يلاقونه منا
تراموا وحاشا المجد أن يتقدموا
…
علينا وهاموا بالأماني وما همنا
وطاشوا ببرق لا أبالهم
…
وسلوا علينا المرهفات وما خفنا
فقل لي بماذا يفخرون على الورى
…
إذا عدت الآباء أو ذكروا إلا بنا
فهبهم على مجد الأثيل تسمنوا
…
ألا يعلمون المجد بالقول لا يبني
ألا غيرة تدعو الصريخ إذا دعا
…
ليوم عبوس شره يوقظ الوسنى
وطينا عن الزوراء لا در درها
…
بساطاً متى ينشر نعد به طعنا
وإني وإن كنت ابنها ورضيعها
…
فقد أنكرتني لاسقاها الحيامزنا
إلى الله أشكو من زمان تخاذلت
…
وصار الكريم الحريستر فد القنا
ألا مبلغ عني سراة بين الوغى
…
وأقيال عرب كيف صبرهم عنا
أهم بأم الحزم في حومة الوغى
…
ومن ناهز السبعين أنى له أنى
إذا كفى اليسرى أشارت لناقص
…
قطعت لها زنداً وألحقتها اليمنى
وأنا إذا صاح الصريخ لحادث
…
أجبنا ولبينا لمن فيه أنبأنا
على الكرخ في الزوراء مني تحية
…
وألف سلام ما بها ساجع غنى
صحبتهم طفلاً على السخط والرضى
…
وشبت فلا سيفي أفاد ولا أغنى
وبعد مضي أربع عشرة سنة على ولايته في بغداد سولت له نفسه أن يستقل بالقطر العراقي ويسمى أميره كما فعل محمد علي باشا والي مصر، غير إنه لم يفز بوطره إذ فشا على أثر خروجه على الدولة العثمانية طاعون شديد الوطأة في بغداد وما جاورها من البلاد بحيث ثبط عزمه وشتت شمل جيوشه. فلما انتهى إلى الآستانة خبر عصيانه أرسل السلطان محمود خان نحو عشرين ألف مقاتل يقودهم علي رضا باشا وإلى حلب لكبح جماح الوالي المتمرد، فباغت قائدهم مدينة بغداد وشدد عليها الحصار بينما كان أميرها المستقل منهمكاً في تحصين أسوارها وتقوية حاميتها، وبعد مناوشات عديدة وهجوم ودفاع رأي أن لا طاقة له على القراع والكفاح لموت معظم جنوده بالوباء، فأذعن لخصمه وسلم نفسه أسيراً، فأرسل على الفور إلى الآستانة مخفوراً، وقد برح عاصمة العباسيين قاصداً القسطنطينية عام 1247هـ - 1831م حيث عفي عنه، ولقي مزيد الحفاوة والإكرام لكثرة خدماته السابقة للدولة، وبقي مشمولاً بالرعاية والالتفات، مدة إقامته في عاصمة المملكة.
لقد جمعت المترجم لحمة الأدب بالشاعر بالفلق المعلم بطرس كرامة الذي أتحفه بقصيدته الخالية التي بعث بها إلى طائفة من أدباء وشعراء بغداد وطلب منهم أن ينسجوا على منوالها ويباروا صاحبها وهاك مطلعها وبعض أبياتها:
أمن خدها الوردي أفتنك الخال
…
فسح من الأجفان مدمعك الخال
وأومض برق من محيا جمالها
…
لعينيك أم من ثغرها أومض الخال
رعى الله ذياك القوام وإن يكن
…
تلاعب في أعطافه التيه والخال
ولله هاتيك الجفون فإنها
…
على الفتك بهواها أخو العشق والخال
مهاة أفتديها ووالدي
…
وإن لام عمي الطيب الأصل والخال
أقترح صاحب الترجمة على الشيخ عبد الباقي العمري أن ينسج على منوال خيالة بطرس كرامه فعارضها بقصيدة غراء مطلعها:
إلى الروم أصبو كلما أومض الخال
…
فأسكب دمعاً دون تساكبه الخال
وعن مدح داود وطيب ثنائه
…
فلا القد يثنيني ولا الخد والخال
وقد ختمها بهذين البيتين:
وإني وإن كنت الرديف نظامه
…
لمسبوقة حسن الردى لها الخال
فذي معجزاتي ما أرى ابن كرامة
…
يعارضها حتى يصاحبه الخال
(يتبع)
رزوق عيسى
من أغاني الرق:
عبيد الرياح
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(في غروب يوم قائظ، ماتت رياحه وسكن فيه كل شيء، إلا
غناء شقي يتهاتر أنينه من هؤلاء المعذبين الأبطال. ساروا
مصفدين بحال السفن، يصارعون تيار النيل في عراك جبار
مع الطبيعة، علهم يشقون في صدرها طريقهم إلى الجنوب!).
رأيتهمُ في غروب كئيبْ
…
يعز على شمسهم أن تغيبْ
جدتهم بأشلاء ضوء ذبيح
…
يعصفر أشباحهم باللهيب
جبابرة عوذا للهواء
…
وبثوا رقاهم لريح المغيب
يلوحون صفاً وئيد الحراك
…
كأنهمُ صُلبوا في الكئيب
يسيرون سير الهوان المريب
…
ويمشون مشي الزمان الكئيب
فتحسبهم أوغلوا في الخيال
…
وعينُك تأخذهم من قريب!
على صدرهم من غضون الكفاح
…
أفاعي حبال تلف الجُنوب
تجاذبهم خطوهم للوراء
…
فهم من عناد بقايا حروب
سواعدهم موثقات الزنود
…
ولكنها عدة للهبوب
تشق الفضاء بأصدافها
…
فتنشق أجوازه أو تذوب
وأجسادهم حانيات لها
…
ركوع المحمل ثقل الذنوب
كأنهمُ في سفوح الزمان
…
شياطين تحدو المساء الرهيب
حواميمهم خلف نعش الرياح
…
(هواهو)(هواهو) غناء رتيب
سقاهم (سليمان) من سره
…
فكادوا يمسُّون سمع الغيوب
أقاموا جنازاً يئن الفضاء
…
بأصدائه، وينوح الغروب
يكاد يعزى، ويمشي النخيل
…
وراءهمُ، وتلوذ السهوب
شدوا وإستجاروا وخاب النداء
…
فغاصت خطاهم وشقوا الجيوب
ومروا حفاة عراة لهم
…
شهيق الثكالى وزفر الغريب
على الأرض خُرْس وإن همهموا
…
فهذي صلاة تذيب القلوب
يجرون أيامهم خلفهم
…
وذكرى شقاواتهم والكروب
عبيدَ الرياح، كلانا رقيق. . .
…
فغنوا وسلوا عبيد الخطوب!!
محمود حسن إسماعيل
الصفقة الرابحة.
. .
لطاغور
(تعال يا من يستأجرني).
رفعت صوتي بهذا النداء وأنا أذرع شارعاً معبداً في الصباح. أقبل الأمير في عربته الفاخرة وسيفه في يده، ثم أمسك يدي وقال (لاستأجرنك بقوتي وسلطاني، ثم مضى. . .)
ولكن قوته لا تساوي شيئاً.
وفي مر الظهيرة والشمس حانقة على الوجود، كانت المنازل مغلقة الأبواب، غير إني تابعت سيري في الدروب الملتوية، وأقبل رجل كبير السن في يده حقيبة ملأى بالذهب. . . فكر ملياً ثم قال:
(لاستأجرنك بذهبي. . .)
ثم وزن ذهب قطعة بعد قطعة، ولكنني تركته يعد ذهبه وانفلت هارباً.
وأقبل المساء وأسوار الحديقة تكللها الأزاهير، وبدت فتاة جميلة وقالت:
(لاستأجرنك بابتسامة. .)
شحبت ابتسامتها، وذابت في دموع غزيرة، ثم عادت أدراجها وحيدة وغابت في الظلام.
تلألأت الشمس على الرمال، وهدرت أمواج البحر في عناء، وجلس طفل يلعب بالقواقع على رمال الشاطئ. رفع رأسه وكأنه يعرفني وقال:
(أما أنا فإني أستأجرك بلا شيء. . .).
ومن ذلك الوقت تعلمت معنى الحرية من صفقة طفل يلهو بقواقعه على الشاطئ.
(بغداد)
إبراهيم أبو الفتوح
الأدب والفن في أسبوع
مكتبة الأب أنستاس الكرملي:
كلفت اللجنة الثقافية بالجامعة العربية مندوب بغداد الاتصال بالحكومة العراقية على أن تحرص على اقتناء مكتبة فقيد اللغة والأدب الأب أنستاس الكرملي قبل أن تتبعثر وتتخطف الأيدي كنوزها النادرة.
وقد كان الأب الكرملي رحمه الله من الباحثين الذين يهتمون باقتناء الكتب النادرة، وقد صرف كثيراً من عنايته إلى هذه الناحية. ومما يذكر أنه في صدر حياته جمع مكتبة ضخمة في خزانة دير الآباء الكرمليين، وقد كانت هذه المكتبة تضم حتى عام 1914 أكثر من 11 ألف كتاب عربي مطبوع وأكثر من 8 آلاف كتاب إفرنجي مطبوع و783 كتاباً من نوادر المخطوطات كان ضمنها ديوان امرئ القيس وديوان السموأل وديوان المزرد ونسخة كاملة في 32 جزءاً من كتاب مرآة الزمن لابن سبط الجوزي، ونسخة كاملة من الخصائص لابن جني، ونسخة من كتاب العين للخيل بن أحمد، ونسخة تامة من ديوان الأدب للفارابي. ولكن هذه المكتبة النفيسة ضاعت إبان الحرب العالمية الأولى، فكان ضيعاها فجيعة قاسية على نفس الأب الكرملي، وظلت الحسرة على ضياعها تلازمه حتى مماته.
على إنه. رحمه الله أخذ في تجديد تلك المكتبة، وجهد في جمع النوادر لها، وقد استطاع أن يضم فيها قرابة 20 ألف كتاب مطبوع وألفي كتاب مخطوط. ومما يذكر أن الكرملي ألف أكثر من أربعين كتاباً في اللغة والأدب والتاريخ، وقد طبع بعض هذه الكتب، ولكن أكثرها لا يزال مخطوطاً، وفيها ما لم يكمل تأليفه. وكان رحمه الله يعتز بهذه المؤلفات ويبالغ في المحافظة عليها، ولما قامت الحرب جمعها في خزائن حديدية ودفنها تحت الأرض حتى لا تفتك بها الأحداث، وقد صرف الكرملي حقبة طويلة من عمره في تأليف قاموس عربي كبير قسمه إلى ثلاثين جزءاً، أنجز منها 22 جزءاً، وكان في آخر حياته شديد الحرص على إتمام هذا الأثر، ولكن المنية عاجلته قبل أن يبلغ غايته.
ومما هو معروف أن الفقيد كان عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية، فإذا كانت الحكومة العراقية ستقوم من جانبها باقتناء مكتبته،
فلعل هذين المجمعين يقومان بالواجب عليهما نحو الفقيد ونحو أبناء العربية فيحرصان على نشر آثاره الخاصة وطبع مؤلفاته، حتى لا يضيع جهد ذلك الباحث العظيم على اللغة، وتكون نهايته أن يدفن في خزانة. . .
هل نهضنا؟
زميلتنا مجلة (الأديب) البيروتية دعامة من دعامات النهضة الأدبية العربية، وصفحة مشرقة تنشر مفاخر الآباء ومآثر الأبناء وتسجل حلقات التطور في الفكر العربي، ثم هي تجمع إلى ذلك روائع التفكير الغربي، فهي بحق تضطلع بمهمة شريفة كريمة في خدمة القومية العربية والنهضة الفكرية.
ولكن هذه الزميلة العزيزة كتبت في عددها الأخير تقول إنها تواجه أزمة مالية تهددها، وإنها لذلك وضعت مستقبلها بين يدي أنصارها وأصفيائها، وطالبتهم أن يعينوها باشتراك مادي مضاعف حتى تستطيع السير في خطتها؛ وتقول (الأديب): إنها تقصد بالأنصار أنصار الرسالة الواعية والفهم القومي، وإنها تأمل أن يجد نداؤها صداه البعيد في نفوس الذين في وسعهم تلبيته.
وهذا داء معضل نعرفه في الشرق العربي، فلا نجد صحيفة أدبية تخدم الأدب الصحيح، وترفع لواء الرأي الصريح، وتخلص للقومية العقيدة الرشيدة تصيب من التقدير والإقبال ما يعينها في مهمتها، ويساعدها على ما تضطلع به من إعياء، على حين نجد عشرات الصحف والمجلات التي تعيش على تملق الغرائز والتجارة بالكلام التافه تصيب من التقدير والإقبال ما يغدق عليها وفير المال.
يقولون إننا في الشرق العربي قد نهضنا في الأدب، وأنا أقول أجل! إننا نهضنا ولكن بغرائزنا لا بعواطفنا، ونهضة الغرائز ضراوة وانحلال، ويم أن تنهض عواطفنا، وتتهذب مشاعرنا، نستطيع أن نقدر الفكر القويم، والأدب الكريم، والإنتاج المهذب.
إنها في الواقع ليست محنة (الأديب) إذ لا تجد، ولكنها تهمة لأبناء العروبة إذ لا يقدرون.
كتب الله السلامة (للأديب)، وبصر بحالها كل ندب أريب. . .
جورج ديهامل:
يزور مصر في هذه الأيام مفكر ممتاز وأديب فرنسي كبير له صيته ومكانته، هو الأستاذ جورج ديهامل عضو الأكاديمية الفرنسية. وليس مسيو ديهامل بالمجهول لأبناء العربية عامة ولأبناء مصر خاصة، فقد سبق له أن زار مصر كما زار بلاد الشرق، وقد ترجم الدكتور طه حسين بك نخبة من آثاره إلى العربية، كما ترجم له الدكتور محمد مندور كتاب (دفاع عن الأدب) فأدى بذلك خدمة جليلة للأدب العربي في مرحلة التطور التي واجهها الآن.
ومسيو ديهامل في نحو الستين من عمره، وقد درس في أول حياته الطب، واشتغل بهذه المهنة، وكانت نفسه تنزع إلى الأدب فاستجاب لهذه النزعة وأخذ يجمع بين الطب والأدب، ولما قامت الحرب العالمية الأولى خدم فيها، واشتغل طبيباً في المستشفيات الحربية، وقد كان هذا من عوامل التطور في حياته وفي تفكيره. لأنه لمس آلام الإنسانية بيديه، وتمثلت مشاكلها الباطنية لعينيه.
وقد خرج من ذلك بعقيدة ثابتة وهي أن القلب موطن السعادة ومبعثها، وأن العلم والعقل والحضارة لا تستطيع أن تسعد إنساناً إذا لم تشف قلبه وتغمره بالرضا والبهجة والاطمئنان وهذه العقيدة هي محور التفكير عند هذا الأديب الكبير في كل ما ينتج.
وإيماناً بهذه العقيدة يحب ديهامل وطنه فرنسا ويفنى في هذا الوطن كما يقول، لأنه نشأ فيه وترعرع، ولأن فرنسا قد أسدت أكثر من أي أمة خدمات جليلة إلى الفن والأدب وبذلت كثيراً لإسعاد الروح الإنسانية، وقد كان مسيو ديهامل في بيروت قبل أن يصل إلى مصر وقد ألقى هناك عدة محاضرات، وسيلقي في مصر عدة محاضرات أخرى. وفي مساء الأربعاء الماضي ألقى محاضرة الأولى بدار جريد (البروجريه اجبسيان)، وكان موضوع المحاضرة (فرنسا حياتي) فقال إنه ابن فرنسا، وإنه نما وترعرع تحت سمائها؛ وعاصر فيها عدة مراحل سياسية وتاريخية، ولهذا فهو خبير بها مخلص لها، ثم تساءل: بأي مقياس نحكم أن دولة أعظم من دولة، أبكثرة عدد سكانها، أم بما تملك من وسائل الإنتاج الاقتصادي والرواج التجاري، أم بما تحشد من عدد الجنود والأساطيل، ثم أجاب على هذا التساؤل: كلا، بل بما تهب الدولة للعالم الإنساني من رجال عظام يخدمون الإنسانية في شتى نواحي الأدب والفن والعلم والاختراع، ثم أشاد بما وهبته فرنسا للعالم من رجال عظام
ونساء عظيمات خدموا الإنسانية في كل فن ومذهب.
ويظهر أن مسيو ديهامل لا يقوم الآن بزيارة الشرق لمجرد الرحلة، بل ليؤدي واجبه نحو الوطن الذي يقول (إنه حياتي) وسيذيع سلسلة محاضرات في تمجيد الثقافة الفرنسية في وقت تتطاحن فيه الدعايات في الشرق للثقافة الأمريكية والثقافة الإنجليزية.
تراث المعري:
لما تجمع أدباء العربية في العراق منذ ثلاثة أعوام للاحتفال بذكرى أبي العلاء المعري رأى الدكتور طه حسين بك - وكان يومذاك مستشاراً فنياً لوزارة المعارف - أن خير ما يجب لأحياء ذكرى ذلك المفكر العظيم هو إحياء تراثه وطبع مؤلفاته. وقد أسرع بتنفيذ هذه الفكرة فألف لجنة من وزارة المعارف قوامها الأستاذ إبراهيم الأبياري وعبد السلام هارون وحامد جادو وعبد الرحيم محمود ومصطفى السقا، وضم إلى اللجنة السيدة ابنة الشاطئ ولكنها لم تقدر على احتمال هذه المهمة الشاقة فانصرف أو صرفت عنها.
واعتكفت هذه اللجنة في حجرة دار الكتب، وجمعت حولها كل تراث المعري وكل ما تحتاج إليه من الأضابير ومجفو الطوامير، واستطاعت أن تحصل على المصادر التي ليست بالدار وما تبعثر من آثار المعري في سائر الأقطار، وقد استطاعت بعد قليل أن تخرج كتاب (تعريف القدماء بأبي العلاء) جمعت فيه كل ما قاله السابقون في المعري، وهو كتاب يغني الباحث عن الرجوع إلى عشرات الكتب كما يجد فيه ما لا يمكن أن يصل إليه لندرة المصادر.
ثم أخذت في إخراج كتاب (سقط الزند) مكملاً بالشروح الثلاثة للتبريزي والبطليوسي والخوارزمي وقسمت الكتاب إلى أربعة أجزاء على أن يضم إليه خامس يشمل فهارس مفصلة، وقد أنجزت منه إلى الآن ثلاثة أجزاء.
وإنه لعمل جليل نافع، يزينه إخلاص أعضاء اللجنة وما يتحلون به من صبر العلماء وتفرغهم لخدمة العلم والأدب منقطعين عن ضجيج الحياة الفارغ، على حين أن الوزارة لا تكافئهم بما يكفي من الأجر، ولا تجازيهم حتى بكلمة شكر. . .
ولكن الأمر الذي يؤسف له أن اللجنة تخرج ما تنجزه من الكتب ثم تسلمه لوزير المعارف ليتصرف فيه بحكمته. ووزارة المعارف توزع الكتب هدية، ولكنها تكون هدية إلى من
يستحق ومن لا يستحق، بل إن الوزارة تحبس كثيراً من النسخ لديها ولا تسمح لأحد بالحصول عليها، أليس معنى هذا أن الوزارة تبعث تراث المعري لتقبره من جديد!
فكرة ماتت:
كان تفكير القائمين على دار الكتب المصرية قد اتجه إلى بحث مصادر الأدب المصري التي لا تزال إلا الآن مخطوطة مطمورة بالدار، على أن ننشر نشراً علمياً يستوفي الأسباب والوسائل الكافية، ويقوم بتصحيح كل كتاب أستاذ معروف بقدرته وخبرته.
والفكرة وجيهة رشيدة، بل إن النهوض بها واجب يقتضي الإسراع في إنجازه، فإن من العار أن يبقى أدبنا الذي يمثل شخصيتنا والذي هو منار فخارنا مطموراً منسياً إلى اليوم، وإن من الهوان أن يبقى الأدب المصري في أزهى عصوره مجهولاً حتى الآن.
ولكن يؤسفنا أن نقول إن هذه الفكرة الطيبة قد ماتت وطوى خبرها كما تطوى كل فكرة طيبة في مصر، وليس هذا من سبب إلا لأن الذين فكروا فيها واتجهوا إليها قد بعدوا في مجال العمل عن الإشراف على دار الكتب، فلما جاء الخلف عز على نفوسهم أن ينفذوا فكرة صالحة للسلف.
فهل للقائمين بأمر الدار أن يمضوا في هذه الفكرة، وأن يعجلوا بإنجازها وتنفيذها تقديراً للقومية العربية وإحياء لتراث عظيم مبعثر، قبل أن يندثر ويقبر؟!
مجمعان علميان:
أخذ الحكومة العراقية بالأسباب لإنشاء مجمع علمي عربي على نظام المجمع العلمي العربي بدمشق، وستجعل من مهمته التأليف والترجمة والنشر، على أن تلغي اللجنة التي تضطلع بهذه المهمة.
وكان دولة رياض الصلح بك رئيس الوزارة اللبنانية يفكر في إنشاء على هذا الغرار في بيروت، فلما عاد إلى الوزارة في هذه الأيام كان أول ما انصرفت إليه اتجاهه، هو تنفيذ تلك الفكرة، ويقولون إنه بسبيل تحقيقها وإخراجها إلى الواقع.
وإنشاء المجامع من هذا الطراز يخدم العلم واللغة والأدب، وينظم الإنتاج الفكري ويدعمه، ثم هو يقوي الروابط بين الأقطار العربية، لأن صلات الهيئات تكون أقوى وأشمل من
صلات الأفراد.
وإذا ما تم إنشاء هذين المجمعين إلى جانب مجمع دمشق ومجمع اللغة في مصر يكون في بلاد الجامعة العربية أربع مجامع، أي أربع دعامات لخدمة العلم والأدب واللغة، والهدف الذي نرجو أن تتوجه إليه جهود هذه المجاميع هو أن تعمل متحدة متضافرة على جمع التراث العربي المبعثر في الآفاق، الموزع في الأقطار، فمنه جانب في مكاتب الأستانة، وجانب في الأسكوريال، وقسم كبير في مكاتب أوروبا ومتاحفها، ولقد انقضت السنون وما زلنا نعيش على انتظار ما تجود به علينا أيدي المستشرقين من هذا التراث.
جامعة أدباء العروبة:
افتتحت جامعة أدباء العروبة فرعاً لها بمدينة الفيوم، وأقامت لذلك حفلاً رائعاً، في مساء الخميس الماضي خطب فيه معالي دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات فتحدث عن أغراض الجامعة ومراميها، وشرح ما تهدف إليه من غاية في رعاية الأدب وتقوية الروابط، ثم تعاقب الشعراء والخطباء في إلقاء قصائدهم وكلماتهم فأنشط وخطب الأساتذة الدكتور إبراهيم ناجي، وطاهر أبو فاشا وأحمد عبد المجيد الغزالي، وخالد الجرنوسي، والعوضي الوكيل، وعبد المنعم إبراهيم، وطه عبد الباقي سرور، وعبد الوارث الصوفي، وهم من الفريق القاهري، وعبد العظيم بدوي، ونبيه أبو زهرة، ومحمد النشرتي، وغيرهم من الفريق الفيومي. وكان موضوع القصائد والخطب حديث عن الفيوم، من الوجهة التاريخية والأدبية، وإنه لموضوع له قيمته، ويا حبذا لو أن الشعراء والخطباء عنوا بتجريده وتخليصه من شوائب المناسبة وسجلوه لتعميم الفائدة.
في موكب الجلاء والحرية:
أقام لبنان الشقيق في مطلع هذا الشهر احتفالاً رائعاً شاملاً احتشدت فيه المواكب المختلفة بمناسبة جلاء الفرنسيين عن البلاد وخلوصها من براثن الاستعمار، ولقد ظلت بيروت أربعة أيام كاملة وهي تفيض بالسرور وتهزج أهازيج الفرح والنشوة.
هذه المناسبة الطيبة الرائعة كانت ربيعاً للشعراء والأدباء، فقد هزت عواطفهم بخالد الشعر ورائع البيان، فانطلقوا يتحدثون عن تاريخ حافل بمآثر الأدباء والأجداد، وذكر عامر
بمواقف النضال والجهاد، كما راحوا يشيرون بأصابعهم إلى ما كان من بلايا الاستعمار ورزايا الاستعباد:
إرث من الماضي البغيض مجمع
…
في كل عضو منه سوس ناخر
مشت السياسة في حواشيه كما
…
يمشي على البلد الأمين الغادر
وطغت على حركاته أمواجها
…
فمغامر من أجلها ومقامر
ومؤتمرات تشتري في سوقها
…
وتباع بالسلع العجاف ضمائر
ولقد مضى أسبوعان وما زالت صحف لبنان تفيض أنهارها بآيات البيان شعراً أو نثراً في تمجيد يوم الجلاء والابتهاج بيوم الحرية والخلاص، وكنا نود أن نسجل هذه الآثار ولكنها شيء كثير؛ فلعل المسئولين في لبنان يعنون بجمع هذه الآثار وتسجيلها في كتاب يذاع إكباراً لتلك المناسبة الكريمة، وتمجيداً لتلك الذكرى المجيدة.
ترجمة مائة كتاب:
من بين القرارات التي اتخذتها أخيراً لجنة الثقافة بالجامعة العربية العمل على اختيار مائة كتاب من الكتب التي صدرت باللغات الأجنبية، والقيام بترجمتها وتوزيعها على بلاد الشرق الأوسط، وقد ألفت لجنة خاصة للإشراف على هذا العمل والقيام بتنفيذه.
وتقول اللجنة في تبرير هذا العمل إنه مما يقوي العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب، ونقول نحن إنه كذلك يؤدي خدمة ثقافية لأبناء العروبة، ويعينهم على تتبع التطور الفكري في العالم، ولكن ألا توافقنا هذه اللجنة على أن هذا العمل ينطوي على دعاية للغرب في الشرق، وهي دعاية تحرص عليها الأمم الغربية في الظروف الراهنة وترصد للقيام بها الأموال الكبيرة.
هذا صحيح! ولقد كنا نود من اللجنة أن تحرص أولاً على اختيار مائة كتاب عربي وتعمل على نقلها إلى اللغات الأجنبية الذائعة وتقوم بتوزيعها في أوروبا وأمريكا لتكون دعاية للشرق في الغرب، وليعلم أولئك الذين لا يزالون يتصوروننا شعوباً بربرية إننا لا نتخلف عنهم في كثير إن لم نكن لا نتخلف عنهم في شيء، وما أحوج الشرق العربي في هذه الظروف إلى الدعاية السياسية والدعاية الفكرية!
الجاحظ
من هنا ومن هناك
ناظم حكمت أكبر شعراء الترك ينظم وهو في السجن:
في أحد السجون التركية يعيش الآن ناظم حكمت أكبر شعراء الترك في العصر الحديث وقد انقطع عن دنيا الناس منذ عشر سنين ولا يزال يرسل خواطره وأحاسيسه إلى العالم المفكر كأنه يقول لهؤلاء الذين قيدوه ولحدوه أن الفكر الحر لا يحصره مكان ولا يعقله قيد.
ولد ناظم حكمت في أوائل هذا القرن في مهد مترف من مهود الأسر التركية الأرستقراطية. ولما أتم دراسته العامة أدخل المدرسة التجهيزية البحرية، فقضى فيها ردحاً من الزمن ثم فر منها عام 1918 ليقصر وقته وجهده على بعث الشعر التركي من جموده، وتحرير الشعب التركي من قيدوه، فدخل جامعة موسكو ليضيف إلى ثقافته الفرنسية التي شب عليها، الثقافة السلافية التي صبا إليها. ولكن الثقافات الأجنبية لم تشغله عن ثقافته التركية، فأحيا في شعره ما مات من الأساطير التركية والأغاني الشعبية، ووصل بين قديم الشعر وحديثه دون أن يجعل باله لما نظم الشعراء الانتقاليون بين هذا العصر وذلك. فهو في الشعر التركي بمثابة مياكوفيكسي ولوركا في الشعر الروسي، وهو في ذيوع الاسم وسمو المكانة بمنزلة يحيى كما أمير الشعر القديم، فلا غرو إذا جعلوه خليفته في إمارة الشعر الحديث.
وناظم حكمت يعشق الحرية ويركب في سبيلها الأهوال، لذلك لم يغض الكماليون طويلاً عن آرائه (الهدامة)، فاتجهوا بالنظر السياسي إليه، وفتشوا داره فيما فتشوا من دور الضباط التلاميذ في الجيش والبحرية، فعثروا على طائفة من قصائده تبرر اتهامه بالتحريض على قلب نظام الحكم الحاضر وإفساد الشباب، فقدموه إلى المحاكمة، فحكم عليه مجلس الجيش ومجلس البحرية بالسجن أربعين عاماً. وقد قضى الشاعر من هذه المدة عشر سنين لم يكف أثناءها عن الكتابة. ولقد نظم فيما نظم قصيدة مطولة في الشاعر التركي الفيلسوف بدر الدين أحد شعراء القرن الخامس عشر الذي حاول أن يؤلب الشعب على طغيان السلاطين فألقوه في السجن ولم يخرج منه إلا إلى المشنقة. وظل ناظم حكمت كما كانت بدر الدين مؤمناً بخلوص الفطرة في شعبه المكظوم المظلوم. فأخذ يقويه بالغذاء الأدبي النافع من مآثر أجداده وتقاليد أبطاله. وهو ينظم الآن ملحمة كبيرة شارفت على
التمام عنوانها: (أسطورة الاستقلال)، وموضوعها الحرب التي شنها الشعب التركي على مضطهديه ما بين سنتي 1920 و1922، ومن فصولها فصل عن (نساء الأناضول) وهن يجددن عهود البطولة بنقل الذخائر والمؤن إلى المقاتلين في سهول الأناضول المقفرة.
ذلك هو ناظم حكمت الذي قضى عشر سنين سجيناً في بلاده ربع المدة التي حكم بها، وكل ما اقترفه من الذنوب أنه فكر بحرية، وكتب ما يعتقد في سبيل الحرية!!
طانيوس عبده وشريعة اليونان:
قرأ الشاعر الرقيق المرحوم طانيوس عبده، أن شرائع اليونان تعاقب المرأة الخائنة بجذع أنفها، والرجل الخائن بقلع عينه، فكتب على هامش الكتاب ما يلي:
فلو وصلت شرائعهم إلينا
…
على ما نحن فيه من مجون
لأصبحت النساء بلا أنوف
…
وأصبحت الرجال بلا عيون
طريق الهجرة النبوية:
خرج النبي صلوات الله عليه معه الصديق رضوان الله عليه من غار ثور بمكة فمرا بالبحرة، والمستدل، وخيمات أم معبد، وقديد، وحذوات، وثنية الرمحاء، وثنية الكوبة، والمرة، وذات كشد، والمدلجة، والعسيانة، وأمج، والحزار، وثنية المرة، ولقف، ومحاج، ومرجح، والأجرد، وذي سمرة، وتعهن، والقاحة، والعرج، وثنية الاعتبار، وكوبة، ورثماء، وقباء فالمدينة المنورة، على ما ذكر في عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس) و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي) وخريطة الهجرة النبوية للأستاذ الحمصاني، ومعجم البلدان لياقوت، وغيرها
محمد عبد الوهاب فايد
كتابة الأعداد وقراءتها:
ورد في كتاب النحو الواضح المقرر للمدارس الابتدائية (ج2 ص111 الطبعة الثالثة عشرة) المثالان الآتيان:
(غزا المدينة جيش يتألف من ألفين وأربعمائة. . .)
(قرأت من الكتاب مائة وعشرين. . .)
لقد قدم الأستاذان الفاضلان ما حقه التأخير وأخرا ما حقه التقديم: قدما الألفين على الأربعمائة والمائة على العشري مع أن الأصل - على ما أرجح - تقديم الأربعمائة على الألفين والعشرين على المائة، لأن التمييز لا يكون إلا للعدد الكبير دون الصغير إذا اجتمعا أي للألفين لا للأربعمائة وللمائة لا للعشرين، ولها يمتنع الفصل بين المميز المضاف التمييز المضاف إليه إلا للضرورة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى لا يجوز كتابة الأعداد وقراءتها من اليسار إلى اليمين، لأن اللغة العربية على عكس غيرها من اللغات لا تكتب ولا تقرأ إلا من اليمين إلى اليسار، فالألوف مثلاً لا تكتب قبل المئات والمئات لا تكتب قبل العشرات والعشرات لا تكتب قبل الآحاد.
وقد ظل أبناء هذه اللغة يكتبون الأعداد ويقرءونها من اليمين إلى اليسار كما هو شأنهم في كتابة الجمل وقراءتها حتى أوائل العصر التركي أو الفترة المظلمة؛ وفي هذا العصر استعجمت الأعداد وبعض الألفاظ أو بعبارة أسح استتركت وأصبح أكثر الكتاب والمؤلفين منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يكتبون الأعداد ويقرءونها من اليسار إلى اليمين خلافاً للقاعدة المتبعة في كتابة اللغة العربية وقراءتها.
وإني لأرجو أن يقوم الأستاذان الفاضلان بتصحيح المثالين المذكورين عند إعادة طبع هذا الكتاب حتى لا يلقن الطالب فيما بعد قواعد مغلوطة.
(عمان)
لطفي عثمان
داء قديم:
جاء في كتاب الكامل للمبرد في أخبار الخوارج هذه القصة (خرج مصعب بين الزبير إلى (باجميرا) ثم أبى الخوارج خبر مقتله يمسكن، ولم يأتي المهلب وأصحابه فتوقفوا يوماً على الخندق فناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب؟ قالوا: إمام هدى. قالوا: فما تقولون في عبد الملك قالوا: ضال مضل. فلما كان بعد يومين أتي المهلب قتل مصعب، وأن أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك بولايته فلما تواقفوا نادهم الخوارج ما تقولون في مصعب قالوا لا
نخبركم. قالوا فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا! إمام هدى. قالوا يا أعداء الله بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله).
قلت: وهذه قصة الدنيا ما بقى فيها عبيدها، فلست تجد زمناً خلا منها، ولا جماعة من الجماعات تحللت من هذه العبادة المخزية، غير أن القصة إذا جرت بين قوم يحرمون على الناس عبادة الشهوات كانت أدعى إلى العجب، وأبعد عن الأدب.
على العماري
البريد الأدبي
(لا غير) أيضاً:
إلى الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشبي
تحية وإجلالاً.
إن النقطة الأساسية في ملاحظتي حول (لا غير) هي بيان علة التلحيق وأنها ليست كما ذكرتم أولاً. وقد جاء في ردكم الأخير ما يشعر بتأييدكم لما ذهبت إليه، وبذلك تم البحث في هذه النقطة كما هو تام في خصوص صحة تلك العبارة (لا غير) لدى المحققين، وأحسب أنني قد أشرت إلى ما في عبارة (التاج) التي نقلتموها بقولي:(كما جنح إليها كثير من المحققين) الخ.
أما فيما يتعلق بالاستشهاد بما جاء في تلك (الجريدة) إزاء الرد على ابن هشام فإنني لا زلت غير مطمئن إليه لأن ابن هشام قد لحن جميع عبارات المولدين التي انتظمت (لا غير) بحجة أنها لم تسمع عن العرب، ومن ضمن هذه العبارات ما شملته (الجريدة) فالاستشهاد بها ضده استشهاد بما هو منتقد وخطأ في نظره، وهذا ما لا تسمح به قوانين البحث التي تحظر الاستدلال بموضع النزاع، ومن أجل هذا أرى أن الرد عليه لا يكون بهذا الوضع، على أن الاستدلال بكلام أئمة اللغة من المولدين موضع نزاع بين العلماء، والجمهور على عدم جوازه كما هو مبسوط في الخزانة للبغدادي وغيرها من كتب هذا الفن.
والسؤال عن الفاء في (فلم تقنع) فجوابه أن الفاء واقعة في موضعها والتحريف فيما بعدها حيث انقلبت النون ميماً والصواب (فلن تقنع) بالنون كما هو مرسوم في الأصل المحفوظ ولا أدري أكان هذا التحريف وقت الكتابة أم كان وقت التصفيف بالمطبعة ومثل هذا فإن جواب الشرط قد يقترن بالفاء، ولو لم يكن من نوع ما أشار إليه ابن مالك بقوله:
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل
…
شرطاً لأن أو غيرها لم ينجعل
وممن نص على جواز دخولها على الجواب المنفي بلم أبو علي أحمد بن جعفر الدينوري كما نقله عنه غير واحد من النجاة.
وأما السؤال عن صحة هذا التعبير: (فيا حبذا لو أن الأستاذ الخ. . .) فجوابه أنني لم أهتد
إلى ما يمنع من صحة هذا التركيب بعدما صرح النحاة بأن لو تكون مصدرية كما في قوله تعالى: (ودوا لو تدهنوا فيدهنون) وبعد ما ذكروا أن المخصوص يحذف كما في قول مداد بن هماس الطائي:
ألا حبذا لولا الحياء وربما
…
منحت الهوى ما ليس بالمتقارب
وأظن أن مبالغتكم في التحدي بقولكم: (وعن ورود مثل هذا التركيب (فيما حبذا لو أن الأمر كذا وكذا) في كلام قديم أو مولد متقدم أو متأخر) مما ساعدت على الإجابة بما يأتي:
جاء في مقال الأستاذ الكبير محمد كرد على الذي نشرته الرسالة في عدد 92 تحت عنوان: (الدرر الكامنة) ما نصه: وحبذا لم شفع الناشر. وجاء في قصيدة رواية المصاهرة للأستاذ غنيم التي نشرتها الرسالة أيضاً في عدد 301:
هذا كلام واضح صريح
…
يا حبذا لو أنه صحيح
إن الأوان هذه الأيام
…
يا حبذا لو صحت الأحلام
وفي الختام أشكر لحضرتكم الاعتناء بتلك الملاحظة والرد عليها حياكم الله وبياكم والسلام عليكم ورحمة الله.
(طرابلس الغرب)
عبد الرحمن الفلهود
علية ابنة المهدي في طيرناباز:
اذكرني المقال الذي دبجه الأستاذ الفاضل شكري محمود أحمد بشأن طيزناباذ وما قيل فيها (الرسالة ذات الرقم 702) بأبيات صاحبة الفن علية ابنة المهدي التي تعتذر فيها إلى أخيها الرشيد - رجل الدنيا وواجدها في ذلك الزمان وكان قد انتهى إليه أقامت في تلك المدينة أياماً بعد انصرافها من الحج فغضب. فقالت:
أي ذبن أذنبته أي ذنب
…
أي ذنب لولا رجائي لربي
بمقامي بطيرناباذ يوماً
…
بعده ليلة على غير شرب
ثم باكرتها عقاراً شمولاً
…
فتن النساك الحليم وتصبي
قهوة قرقفاً يراهاً جهولاً
…
ذات حلم فراجة كل كرب
قالوا: وصنعت في ذلك لحناً، فلما سمع الرشيد الشعر واللحن رضى عنها.
قلت: هذا الاعتذار أفظع من الذنب. . . ولكنها شفاعة الشعر والفن.
وفي أخبار هذه (العلية) الظريفة، مما رواه أبو الفرج في أغانيه، هذه الحكاية اللطيفة:
قال أخوها إبراهيم بين المهدي - وهو مثلها صاحب فن - ما خجلت قط خجلتي من علية أختي؛ دخلت عليها يوماً عائداً فقلت: كيف أنت يا أختي جُعلت فداءك، وكيف حالك وجسمك؟ فقالت: بخير والحمد لله. ووقعت عيني على جارية كانت تذب عنها، فتشاغلت بالنظر إليها فأجبتني وطال جلوسي، ثم استحييت من علية فأقبلت عليها فقلت: كيف أنت يا أختي جعلت فداءك، وكيف حالك وجسمك؟ فرفعت رأسها إلى حاضنة لها وقالت: أليس هذا قد مضى وأجبنا عنه؟
قال إبراهيم: فخجلت خجلاً ما خجلت مثله قط وقمت وانصرفت.
ورجعة إلى طيرناباذ نسأل فيها الأستاذ الفاضل بعد السماح:
هل الأطلال التي ما تزال ماثلة للعيان في تلك المدينة المندثرة هي القباب التي ذكروها فقالوا: (لم يبق بطيرناباذ إلا قباب يسمونها قباب أبي نواس).
هذا وللأستاذ أفضل الحمد
(نابلس)
قدوي عبد الفتاح طوفان
1 -
إلى الأستاذ عباس خضر:
استوقفتني بعض التعقيبات التي نشرها الأستاذ في العددين 699، 702 من الرسالة الغراء، فليسمح لي بهذا التعليق المتواضع:
1 -
لا أستطيع أن أوافق الأستاذ على رأيه في (رؤيا لم تقص) في قصة: (قطر الندى) للأستاذ العريان، فهو يرى بعض النقص في هذا الموضع ويسأل كيف عرف المؤلف تمام رؤيا لم يقصه رائيها.
ونحن نعرف أن للقصة أصلاً تاريخياً، ولعل ذلك هو الذي دفع إلى هذا التساؤل، ولكني أحب أن أقول إن مؤلف القصص التاريخي لا يقف عادة موقف المؤرخ المحقق، وإنما له
حقه - كأديب فنان - في أن يخلق بعض الحوادث الخيالية لكي يتم لقصته ما يريد من التأثير ما دامت الغاية فنية، وليست تحقيقية.
ونحن لن نسأل سؤال الأستاذ قبل أن نسأل أسئلة كثيرة أخرى من قبيله: كيف رأى دانتي صنوف العذاب في جحيمه؛ وكيف رأى شوقي قرية الجن في قصة المجنون؟ وكيف يعرف توفيق الحكيم حوادث قصصه ومعظمها خيالي؟؟
ومع إننا جميعاً نعرف أن أدباء المهجر لا يعبئون بقواعد اللغة كما يقول الأستاذ، إلا إنني لا أصدق بمثل هذه السهولة أن الكاتب يخطئ هذين الخطأين الواضحين الفاضحين، وأرجح أنه أراد في الأولى (مجيعون) على صيغة اسم الفاعل من (أجاع) وأن في الثانية خطأ مطبعياً لا نستطيع أن نجزم بعد وجوده لأنه خطأ مطبعي بسيط منتظر، ولو أنه خطأ لغوي كبير غير منتظر.
وإلى الأستاذ سلامي وتقديري.
2 -
إلى الأستاذ محمود شاكر:
رأيتك أيها الأستاذ الفاضل تورد هذا البيت هكذا:
فقالت من أي الناس أنت؟ ومن تكنْ؟
…
فإنك راعي صِرمة لا يزينها
بعلامة استفهام بعد (ومن تكن)
وأغلب ظني أن (من) هنا شرطية وليست استفهامية، والدليل على ذلك هذا الجزم في الفعل المضارع، فإنه لا محل له هنا في حالة الاستفهام، وهذا هو رأيي الضعيف والسلام.
محمد أحمد عيد
القصص
الصعلوك. . .
لجي دي موباسان
ترجمة الأستاذ أحمد عبد الرحمن
لقد عرف في حياته أياماً خيراً من هذه، على رغم ما به من عاهة وبؤس. كان قد فقد ساقيه وهو في الخامسة عشرة من عمره حينما صدمته عربة في شارع فارفي الكبير. ومنذ ذلك الحين وهو يطلب الصدقة ماضياً في الطرقات متنقلاً بين المزارع متكئا على عكازيه اللذين جعلا كتفيه يرتفعان إلى ما فوق أذنيه، فكانت هامته تبدو كأنها غائصة بين مرتفعين.
وإذ كان طفلاً لقيطاً قد عثر عليه راع يبيت في نفق، أمسية يوم الموتى فسماه معمده بهذا السبب نيقولا توسان. ثم كانت تربيته مما يجود به أهل الخير فنشأ بعيداً عن كل ثقافة مجرداً عن أية معرفة، قد جرى له هذا الحادث عقب شربه بعض أقداح من الزبيب قدمها إليها خباز القرية، وكان أضحوكة بين الناس ثم غدا ذلك الحين شريداً، فأنه لم يكن يحسن عملاً من الأعمال إلا أن يمد يده.
كانت البارونة أثاري فيما مضى قد تركت له إلى جانب حظيرة الدجاج بالمزرعة الملاصقة للدار كوخاً حقيراً مليئاً بالقش ينام فيه. وكان هو واثقاً في أشد الأيام مجاعة أنه واجد دائماً كسرة من الخبز وكوباً من شراب التفاح في المطبخ. وكثيراً ما كان يتلقى بعض الدريهمات من السيدة العجوز تلقيها عليه من أعلى الدرج أو من نوافذ حجرتها. أما الآن فقد ماتت هذه السيدة.
لم يكن يظفر بشيء في القرى. فلقد عرفه الناس جيد المعرفة وقد برموا به وعيوا بأمره منذ أربعين سنة وهم يرونه يتنقل ببدنه البشع وأثوابه المرقعة على أقدامه الخشبية بين الخرائب والأنقاض، ومع هذا فهو لم يكن يريد أن يبرح المكان. لأنه لم يكن يعرف على الأرض شيئاً غير هذه الزاوية من البلد، هذه القرى الثلاث أو الأربع التي قضى فيها حياته التسعة. لقد وضع حدوداً للأمكنة التي قد أعتاد أن لا يعدوها ألبته
كان يجهل ما إذا كان العالم يمتد إلى ما وراء الأشجار التي تحيط ببصره، ولم يكن يسائل
نفسه في هذا الشأن. وحينما كان الفلاحون يضيقون بملاقاته على أطراف حقولهم وحافات إنفاقهم كانوا يصيحون به: لما لا تذهب إلى القرى الأخرى بدلاً من تنقلك هنا على الدوام؟ لم يكن يحير جواباً، بل يبتعد عنهم وهو يشعر بنوع من الخوف المبهم من المجهول، خوف البائس الذي يخشى أموراً كثيرةً لا يتبينها، كالوجوه الجديدة، أو اللعنات، أو النظرات المرتابة التي يرميه بها أناس لا يعرفونه، أو الشرطة الذين يمرون بالطريق اثنين اثنين، والذين كانت رؤيته إياهم تحمله بالغريزة على الإمعان في الشجيرات الوحشية أو الاختفاء وراء كومة من الحطب.
حينما كان يلحظهم من بعيد، ويرى بريق ثيابهم تحت أشعة الشمس، كان يجد للتو خفة غريبة خفة الوحش الذي ينشد الملاذ ويطلب النجاة. فينسلت من بيع عكازيه ويسقط على الأرض كالخرقة، ثم يتدحرج كالكرة ولا يلبث أن يتصاغر ويتضاءل كمنظر أرنب في حجرها وقد اختلطت أسماله القائمة بالأرض.
ومع هذا لم يسبق أن كان له معهم شأن من الشؤون. ولكنه كان يحمل هذا الشعور في دمه كما لو كان قد ورث هذا الخوف والمكر عن أبويه اللذين لم يعرفهما البتة.
لم يكن له بيت يؤويه، فلا سقف يغطيه ولا كوخ يضمه ولا ملجأ يحميه. كان في الصيف ينام في أي مكان. وفي الشتاء كان ينفذ إلى مخازن الغلال أو في زرائب الماشية بمهارة ملحوظة، كان يبادر دائماً إلى الفرار قبل أن يحس وجوده أحد. وكان يعرف الثقوب التي يمكن بواسطتها النفاذ إلى المنازل والأبنية. ولما كان طول استخدام عكازيه قد أكسب ذراعيه قوة غير عادية، فقد كان يصعد متسلقاً إلى سطوح الأهراء معتمداً على قوة راحتيه وحدهما حين يظل أحياناً أربعة أو خمسة أيام دون حركة حينما يكون قد جمع مؤونة كافية.
كان يحيا كوحش الغابة وسط الناس دون أن يعرف أحداً أو يحب أحداً. ولم يكن يترك في نفوس الفلاحين إلا نوعاً من الازدراء الخالي من الاكتراث، والبغض الذي يمازجه الأغضاء وقد لقب كلوش لأنه كان وهو يترجح بين قدميه الخشبيتين أشبه بالناقوس وهو يترجح بين محوريه.
وقد مضى عليه يومان لم يطعم فيهما شيئاً ولم يمنحه أحد شيئاً، فقد ضاق به الناس جميعاً وأرادوا أن يفارقهم ويذهب عنهم.
وكان الفلاحات يصحن به على أبوابهن حينما يرونه مقبلاً من بعد: ألا تريد أن تذهب عنا أيها الوغد، ألم أعطك قطعة خبز منذ ثلاثة أيام.
فكان يدور على وتديه، ثم يمضي إلى البيت المجاور حيث يستقبل كما استقبل في الأول.
وتصايح النساء من باب لآخر:
ليس من سبيل مع هذا إلى كفاية هذا المتبطل الكسول من الطعام طوال السنة.
ومع هذا فإن المتبطل الكسول كان في حاجة إلى الطعام كل يوم.
كان قد طاف في شوارع سانتهلير وفارفي وبييت دون أن يربح سنتيماً أو يحصل على كسرة من الخبز، ولم يبق له من أمل إلا في تورنولا؛ ولكن كان عليه أن يقطع إليها فرسخين على الشارع الكبير، وقد كان به من الإعياء ما لا يستطيع معه السير، إذا كان خاوي البطن كما كان خاوي الجيب.
ومع هذا فقد استأنف السير.
كان الوقت في ديسمبر. وكانت ريح باردة تهب فوق الحقول وتصفر من خلال الأغصان اليابسة. وكانت السحب تتلاحق وسط السماء القاتمة الغائمة مغذة في السير إلى حيث لا يعلم لها غاية، والمعوه يسعى ببطيء ناقلاً عكازيه الواحد بعد الآخر في جهد وإعياء متعمداً على ساقه الملتوية التي بقيت له والتي تنتهي بقدم بشعة المنظر قد لفت ببعض الخرق البالية.
ومن حين لآخر كان يجلس على حافة النفق ويستريح بضع دقائق. وقد ألقى الجوع في نفسه الكثيفة المظلمة شعوراً بالغم والحرج. ولم يكن يحمل إلا فكرة واحدة: وهي الأكل، وكلنه لم يكن يعرف الوسيلة إلى هذا.
وشعر بالألم والإعياء بعد مسير ثلاث ساعات على الطريق الطويل ولما بصر بأشجار القرية من بعد جد في السير.
وأجابه أول فلاح التقى به وسأله كلوش الصدقة.
ها أنت لا تزال على حالك القديم، أليس من سبيل إذن إلى التخلص منك؟
فابتعد كلوش وجعل يمر بالمنازل وينتقل من باب إلى آخر فيرده الناس رداً جافياً ويصرفونه دون أن يعطوه شيئاً، فيواصل مع هذا تجواله في صبر وإصرار، فلا يحصل
فلساً واحداً.
ثم قصد إلى المزارع وجعل يعبر الطرق المبللة بالمطر، وقد أخذ منه التعب ونالت منه المشقة حتى ما يستطيع أن يرفع عكازيه ولكنه طورد في كل مكان فقد كان هذا يوماً من هذه الأيام التي يشتد فيها البرد وتشيع فيها الكآبة فتنقبض لها القلوب وتضيق فيها الصدور وتظلم لها النفوس ولا تنبسط فيها اليد لإعطاء أو معونة.
فبعد أن طاف بكل المنازل التي يعرفها قصد إلى حظيرة السيد (شيكيه) فاستلقى هناك في زاوية نفق عند طوال الحظيرة، وفك وثاقه كما كان يقال تعبيراً عن الكيفية التي كان يترك بها نفسه ويسقط بين عكازيه بأن يدفعهما من بين ذراعيه. ومكث وقتاً طويلاً لا يتحرك، وقد اشتد به الجوع وطغي عليه الألم، ولكنه كان من البلادة والسذاجة بحيث لا يستطيع إدراك ما هو فيه من بؤس وسوء حال.
كان ينتظر شيئاً مجهولاً، فلقد اعترته تلك الحالة التي نجدها كثير في أنفسنا وهي حالة الانتظار الغامض لشيء مجهول. كان ينتظر في هذا الركن من الحظيرة تحت هذا الجو القارس تلك المعونة التي يتوقعها المرء دائماً من السماء أو من الناس دون أن يسأل نفسه كيف ولماذا وعلى يد من ستبلغه، ومر به عدد من الدجاج الأسود يبحث عن غذائه في الأرض التي تطعم جميع الكائنات، وبي اللحظة والأخرى كانت الطير تميل بمنقارها فتلقط من الأرض حبة أو تصيب بعض الحشرات الدقيقة، ثم تواصل بحثها البطيء الوئيد.
وكان كلوش ينظر إليها دون أن يفكر في شيء. ثم عرض له (وأحرى أن يقال إنه أحس من أن يقال إنه فكر أو قدر) أن إحدى هذه الدجاجات يطيب أكلها إذا هي أصلحت وأنضجت على النار.
وما اختلج في نفسه قط إنه مقدم على سرقة ثم تناول حجراً كان على مقربة منه. ولما كان بارع اليد فقد أصاب للتو أقرب دجاجة منه. فسقطت على جانبها وهي ترفرف بجناحيها، وفرت بقية الدجاج متحاملة على مخالبها الدقيقة، وعاد كلوش فركب عكازيه ثم سار إلى حيث يأخذ القنيص بحركات أشبه بحركات الدجاج.
وما إن اقترب من الجسم الصغير الأسود وقد انتشرت على رقبته بعض النقط الحمراء، حتى تلقى في ظهره دفعة رهيبة أطارته عن عكازيه وأرسلته على الأرض إلى مسافة
عشرة أقدام. وانقض السيد شيكه على السارق وقد اشتد به الغيظ وزاد به الغضب فأوسعه ضرباً. فكان وهو يضربه كالمطروق أو كمن به مس، كان يضربه كما يضرب كل فلاح من سرقه أو سلبه شيئاً، فانهال ركلاً ولكماً على المعوه الذي لم يستطع عن نفسه دفاعاً.
وجاء أهل المزرعة بدورهم فاشتركوا مع السيد في ضرب المتسول بما لديهم من الآلات، حتى تعبوا من ضربه، ثم حملوه إلى حظيرة الحطب فأودعوه فيها ريثما يرسلون في طلب الشرطة.
ومكث طريحاً على الأرض وقد سالت دماؤه وأهلكه الجوع وأشرف على الموت حتى جاء المساء ثم تبعه الليل وأعقبه الفجر دون أن يطعم شيئاً. وأقبل اثنان من الشرطة عند الظهيرة ففتحا بشيء من الحذر إذا كانا يتوقعان مقاومة. فقد زعم السيد شيكه أن الصعلوك قد هاجمه وإنه لم يدفع عن نفسه إلا بجهد جهيد.
وصاح به الشرطي أن قف.
ولكن كلوش لم يقو على الحركة. وقد حاول أن يتحامل على عكازه فلم يستطع؛ فظن الشرطة أنه يتصنع العجز ويلجأ إلى الحيلة وينوي شراً، فأمسك به الرجلان المسلحان بعنف وشدة وحملاه بالقوة على عكازيه.
وأذهله الخوف، هذا الخوف الفطري في نفسه من الحمائل الصفراء، خوف الطريدة من الصائد. أو خوف الجرذ من القط. فبذل جهداً خارقاً حتى استطاع الوقوف.
وأمره الشرطي بالسير، فسار على مشهد من عمال المزرعة وهم يرمقونه جميعاً بنظراتهم فكان النساء يشرن إليه مهددات، والرجال يتضاحكون ويسبونه ويحمدونه الله أن وقاهم شره وأراحهم منه.
ومضى كلوش بين حارسيه ولا يزال به رمق من حياة وفضل من قوة كان لابد منهما لكي يواصل السير إلى المساء، واستغلق عليه الأمر واشتد به الانزعاج بحيث لم يستطع أن يفهم شيئاً مما نزل به. وكان المارة يقفون في الطريق لمشاهدته ويتحدث الفلاحون عن لصوصيته؛ وبلغوا قصبة المقاطعة نحو الليل، ولم يكن قد سبق لكلوش أن بلغ قط إلى هذا المكان، فلم يكن يتصور ما وقع له ولا يفكر فيما عسى أن يحل به. وقد أصابه الوجود واستولت عليه الدهشة لهذه الحوادث المباغتة وهذه الوجوه والمنازل التي لم يكن له بها
عهد.
ولم ينطق بكلمة واحدة، وما كان لديه ما يقوله إذ لم يكن يفهم شيئاً، وقد مضى عليه سنوات لم يتحدث فيها إلى أحد حتى فقد على التقريب سهولة النطق ومرونة اللسان، وكانت أفكاره من الغموض والاختلاط بحيث لا يمكن الإبانة عنها بالألفاظ وأودع في سجن القرية. ولم يفرض الشرطيان أنه قد يكون في حاجة إلى الطعام، ثم ترك إلى اليوم التالي.
ولكن حين جيء لاستجوابه في الصباح المبكر وجد على الأرض طريحاً وقد أسلم الروح، فيا للمفاجأة!
أحمد عبد الرحمن