الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 708
- بتاريخ: 27 - 01 - 1947
رحم الله أُودلْف هتلر!
رب يوم بكيت فيه فلما=صرت في غيره بكيت عليه!
كان هتلر - سقى الله ضريحه إن كان له ضريح - رجلا صحيح النية صريح الرأي يقول لنفسه المكروبة بعدما أجال النظر في معاهدة فرساي: تحن جياع وفي رءوسنا الفكر، وفي صدورنا العلم، وفي أيدينا العمل؛ والآخرون شِباع وفي رءوسهم المكر، وفي صدورهم الحقد، وفي أيديهم السرقة؛ فما الذي أجاع العالم وأشبع الجاهل، وأفقر العامل وأغنى المحتال؟
وفي ساعة من ساعات التجلي، وفي حانة من حانات (ميونيخ) ألقى عليه الجواب أن الذي أسغب هنا وأتخم هناك، إنما هو رأس المال! ورأس المال لفظ معناه اليهود وسماسرتهم من هذه الطفيليات التي تعيش على دم المجتمع كما يعيش البعوض والقمل على دماء الناس. فإذا قطعت (رءوس الأموال) قطعت الألسنة التي تكذب، والأيدي التي تسرق، والأسباب التي تفرق. وعلى ذلك حكم المرحوم بالإعدام على وايزمان ورينو وتشرشل! ولو شاء ربك السلام للأرض والوئام للناس نقض هذا الحكم رزفلت واستالين. ولكنه لأمر يريده قضى أن يشنق القاضي ويطلق المجرم! ولو كان في قدر الله أن يكون هتلر قاضي (نورمبرج) لما كان لفلسطين قضية، ولا للسودان مشكلة، ولا في شمال أفريقيا مأساة، ولا في الهند الصينية مجزرة.
مَن هؤلاء الملقون بجثثهم على موارد المسلمين في مراكش والجزائر وتونس وطرابلس، يخضمون أرزقهم خضم الخنازير، ويحتلون بلدانهم احتلال الصراصير، ويفسدون أخلاقهم إفساد الأرضة، ومَن هؤلاء الوالغون في النيل الطهور من منبعه إلى مصبه، يسممونه بالجراثيم، ويكدرونه بالشوائب، ويتحرشون على أهله التماسيح والأفاعي؟ ومن هؤلاء الجاثمون على صدور العرب في فلسطين والعراق، يبيحون العدو ذمارهم، ويمنحون الغريب ديارهم، ويتصرفون في شؤونهم تصرف القيم السفيه؟
هم الفرنسيون طلقاء الحلفاء وعتقاء القدَر الذين يزعمون أنهم أعلنوا حقوق الإنسان، وأقاموا صروح الحضارة، وعبدوا طرق الثقافة، وورثوا اليونان في الآداب والرومان في القوانين!!
وهم الإنجليز أموات دنكرك وأحياء العلمين وصنائع الحظ الذين لا يزالون يتبجحون بأنهم رسل الحرية وجنود الديمقراطية ومنقذو العالم من طغيان نابليون وغليوم وهتلر.
فليت شعري متى تنكشف أغشية الغرور عن قلوب هؤلاء المساكين فيعلموا أنهم لم ينتصروا، وأن خصومهم النازيين لم يكسروا؛ إنما انتصر الضمير الإنساني فلن يجوز عليه خداع، وانهزم الروح الاستعماري فلن يغني عنه بعد ذلك دفاع!
وما أجدر الذي يتنكر اليوم لمصر الكريمة أن يعرف أن الفلك لا يجري بأمره، وأن البحر مهما ارتفع مده فلا بد من جزره!!
أحمد حسن الزيات
مصر هي السودان
للأستاذ محمود محمد شاكر
دخلت المسألة المصرية السودانية في ساعة حاسمة لابد فيها من العمل والتسديد والحزمة والتصميم، وأصبح لزاماً على أهل الرأي ورجال السياسة أن ينزعوا الخوف من قلوبهم ويطرحوا التردد جانباً، ويقبلوا على المعركة مستبسلين لا يخافون. وقد صار أمر مصر والسودان إلى مصير ليس في تاريخ مصر والسودان أسوأ منه، فكل نكول عن أداء الواجب وعن التنبيه والتحذير خيانة لوادي النيل لا يغتفرها لنا آباؤنا ولا أحفادنا من بعدنا. وإذا أضعنا اليوم حق مصر والسودان علينا، فقد ضاع كل ما ترجوه بلاد العرب والمسلمين من أطراف الصين إلى أقاصي المغرب الأقصى، وإذا الفرصة السانحة قد أفلتتْ من يد هذه الأمم إلى غير رجعة. فمسألة مصر والسودان ليست إذن مسألة مفردة برأسها بل هي أمّ المسائل العربية والشرقية جميعاً، وموقفنا حيالها هو المحكُّ لكل ما يرجوه الشرق ويؤمل.
بيد أن مسألة مصر والسودان قد أصابها من البلبلة على مر السنين الطوال ما يخشى معه أن يدع للعدو منفذاً يدسس منه إلى إحداث الفرقة والتنابذ، وقد بدا شيء من آثارهما في العهد الأخير بعد أن استطاعت الدولة الخداعية أن تستميل قلوب نفر من أهل المطامع ورجال السوء في السودان وغير السودان. فلا بد إذن أن نبدأ ونعيد في بيان الحقيقة التي لا تطمس نورها الأكاذيب الملفقة، ولا يطفئ رونقها طول الإهمال والترْك. وآنا لنأسف أن قد مضى على كبار ساستنا زمان وهم يظنون أن علاج المسألة المصرية مفصولة عن السودان هو الطرق إلى نيل الحق عن غاصب وادي النيل، فأصبح الناس وإذا هم يرون ضلال الساسة الغابرين في بتر قضية وادي النيل وشطرها إلى شطرين سموهما باسم المسألة المصرية والمسألة السودانية. ولو هم عملوا منذ ولاهم الله سياسة هذه الأمة، على أن القضية واحدة، وتجزئتها مفسدة للجزأين كليهما، لسار تاريخ مصر والسودان غير هذا السير الخبيث الذي ساقتنا بريطانيا في سراديبه المضللة المظلمة.
إن الجزء المسمى بمصر من هذا النيل المنحدر من منابعه إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، جزء يسير من مجرى هذا النيل، وهو واقع في صحراء جرداء لولا هذا الجزء
من النيل لاتصلت رمال الجانب الشرقي والجانب الغربي من الصحراء وتصافحت على مسيله. وهذا الجزء الخصب بمد النيل، خط ضيق محصور أكثره بين الجبال والرمال، ولا يرجو أهله منه خيراً إلا باسم النيل وبماء النيل وبركة النيل. فإذا حبس النيل ماءه أو منع بركته، أو وجد على الجزء الجنوبي منه (وهو السودان) من يحبس ماءه ويمنع بركته، انقلبت هذه الأرض المصرية نقمة على أهله وشراً وبلاءً. والتاريخ يحدث منذ قديم الأزمان بأنه ما امتنع ماء النيل أو قل إلا حدثت في مصر المجاعات والقحط التي أهلكت الحرث والنسل، حتى اضطر أهل مصر في كثير من أزمان القحط أن يأكل الرجل لحم أخيه وولده من شدة المتربة التي حاقت بهذا البلد الخصيب. فالنيل هو كل شيء في بلدٍ لا تمطره السماء إلا غب، وليس فيه ما يغني أهله عن أن يجعلوا مادة حياتهم وأرزاقهم مما تخرجه الأرض التي يكدحون في زراعتها كدحاً شديداً، والتي لا تنفع فيها زراعة إلا إذا استوفت حظها من ماء هذا النيل.
وقديماً قامت في هذا الجزء الأدنى من النيل أمم وحضارات لا تزال آثارها باقية إلى هذا اليوم، وكان أولى بقيام هذه الأمم والحضارات الجزء الأعلى وهو السودان، لولا أن أهل الزمن الماضي فروا من وقدات الشمس المحرقة في السودان إلى هذا الجزء الأدنى فأقاموا الحضارات على حفافيه، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا وهم مطمئنون إلى أن الجزء الأعلى ليس في دولة قائمة يمكنها أن ترد هذا النيل عن مجراه إلى قرارة هذا الوادي الذي سمي (مصر). ولو كان هناك شيء مثل ذلك لرأينا، كما رأينا في شأن الوجه القبلي والبحري، رجالا ينصبون أنفسهم لضم الشمال إلى الجنوب وتوحيدهما حتى لا يكون في الأرض الواحدة دول منقسمة يناوئ بعضها بعضاً، فلا تقوم لواحدة منهما قائمة، ولا يكون لواحدة منهما مجد أو حضارة أو تاريخ. وبذلك بقي النيل الأعلى (السودان) في سلم دائمة، إذ لم تكن فيه دولة مناوئة، وبقيت صلته بمصر كصلة أي بلد من بلاد الدنيا يكون في أرضها جزء متروك لم يعمر بالهجرة أو الاستصلاح والاستثمار. وهذا الترك لا يدل على اقتطاع هذا الجزء، بل على أن الحاجة لم تدفع بعدُ إلى استصلاحه أو استثماره. هذا هو التاريخ القديم في العلاقة بين جزئي النيل (مصر والسودان).
ومضى التاريخ على هذا إلى أن جاء العصر الأخير، فقام شمال النيل (مصر) ليضم
الجنوب (السودان)، كما قام الشمال من أمريكا لضم الجنوب إليه، وكما قام جزء من بريطانيا نفسها ليضم إليه بلاد الغال وأرض أسكتلندة. ولو بقي شمال أمريكا منفصلاً عن جنوبه، وبقيت بلاد الغال وبلاد أسكتلندة على أحوالها التي كانت عليها منذ قرون، لما كان في الدنيا شيء يسمى الولايات المتحدة، ولا شيء يسمى بريطانيا، وإذن فضم السودان إلى مصر بالحرب لا يمكن أن يسمى (فتحاً) بل هو ضم فحسب فلذلك يخطئ بعض الساسة الذين يحتجون في المسألة المصرية السودانية بهذا الشيء السخيف الذي يسمونه (حق الفتح). وكل ما هنالك هو أن هذا الجزء المتروك من أرض مصر أو أرض السودان - كما تشاء - كان لابد في ضمه من بعض الحرب حتى تستقر الحال ويستتب النظام، كما حدث في كل بلاد العالم منذ أقدم عصور التاريخ، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وهذا شيء بديهي لا يحتاج إلى زيادة.
ويتبع هذا الخطأ في الاحتجاج بحق الفتح خطأ آخر أقبح منه، وهو احتجاج من ، بما أنفقت الأرض الشمالية على الأرض الجنوبية من الأموال، وهذا أيضاً فاسد كل الفساد. فكل داق أنفقته مصر في السودان هو حق السودان على مصر، كحق أي قرية في أرض مصر، وكحق كل شارع أو مديرية. فينبغي إذن أن ننفي من احتجاجنا كل شيء يسمى نفقات أنفقت في السودام، فإن كل ذلك هو حق السودان الذي إذا قصرنا في أدائه وجب عليه أن يطالبنا به بالكلام أو بالسيف أو بكليهما. ومن المؤلم أن يكون هذا الأسلوب الذي جرى ولا يزال يجري على ألسنة بعض الساسة، هو خديعة بريطانية قديمة لم نزل ننزلق في مداحضها ونزل، حتى كادت تكون نكبة عقلية ألمت بهؤلاء الساسة.
فلابد إذن من وضع هذه الحجج حيث ينبغي أن توضع في زوايا الإهمال، وأن ينظر الساسة إلى الحق الطبيعي الذي يجب لمصر على السودان، والذي يجب للسودان على مصر، وأنا أقدم فأقول إن حق السودان على مصر هو الأصل، وهو الحق الأعظم، وهو الحق الذي لا يمكن مصر مهما بلغت من قوة ومجد وحضارة أن تتنصَل أو تتبرأ، فإذا فعلت، فذاك هلاكها وضياعها في هذا العصر وإلى الأبد البعيد.
إن السودان كما كان قديماً، وكما هو الآن، هو حياة الأرض التي تسمى باسم (مصر)، فزراعتها وتجارتها ومالها وأهلها وتاريخها وحضارتها، كل ذلك فضل أتى به النيل. والنيل
فيما بعد أسواره إلى منابعه واقع في الأرض التي تسمى السودان، فإذا أبى السودان أن يفضل على مصر بالقدر الكافي من ماء النيل، فقد حدثت المجاعات، وهلكت الزراعة وبارت التجارة وذهب المال واندثرت الحضارات وانطمس التاريخ، ولم يبق في الدنيا دولة تسمي نفسها الدولة المصرية، بل مكان في الصحراء يقال له مصر ليس إلا، مجرداً من كل ما تكون به دولة أو أمة. فالحقيقة التي ينبغي أن لا نتمارى فيها بالعصبية أو الكبرياء هو أن السودان هو سيد هذا الوادي الذي يمده النيل بمائه، وإذن فالسودان هو أحق الشقيقين باسم الدولة، فإما أن يسمى وادي النيل كل باسم الدولة المصرية برضى أهل السودان، أو أن يسمى هذا الوادي باسم الدولة السودانية برضى أهل مصر. فهذا هو الوضع الصحيح للمسألة المصرية السودانية.
ومن البيّن الذي لا خفاء فيه أن السودان كنز كله، بمائه ومعادنه وغاباته وحيوانه وكل شيء فيه، والذي في مصر من ذلك لا يعدل واحداً من ألف من هذه القوى الطبيعية المكنوزة في أرضه وجباله وسمائه. وهذه القوى هي التي تجعل لصاحبها السيادة العليا على الذي يستمد من فضلها. فمصر تستمد من قوى السودان جزءاً يسيراً وهو الماء، وتستمده برضى أهل السودان ومسالمتهم وأخوتهم، فمن العبث إذن أن تدعي مصر (سيادة) على السودان، بل الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن سيادة السودان هي العليا، وأن مصر جزء من السودان، وهو جزء عظيم خصب صالح للاستثمار في الزراعة وغيرها استثماراً عظيما، فمن مصلحة السودان أن يفضل الماء على هذا الجزء لتزدهر زراعته وحضارته ويكون للسودان ذخراً من القوة يضارع القوة التي فيه. والسودان محتاج إلى هذا الأفضل لأن المنطقة الصالحة للزراعة في مصر أعظم وأجدى من المنطقة الواقعة في الجزء المعروف اليوم باسم السودان. ومن هذا تعرف كيف دبر الله لهذين الشطرين العظيمين أن لا يجد أحدهما مندوحة تغنيه عن صاحبه، وتفرض على كل واحد منهما أن يتشبث بصاحبه، فإذا تنابذا وتنافرا وتدبرا وتقاطعا، حاق بهما جميعاً ما يحيق بكل أخوَين متنابذين متدبرين، وهو الهلاك والضياع الذي تخاف مغبته.
وأنا لا أظن أن في الدنيا شيئاً هو أوضح للعقل السليم من هذا الذي ينبغي أن يكون بين مصر السودان، أي الحقوق الطبيعية التي يفرضها وجود هذين الشطرين المتجاورين:
شطر لا بقاء له وحده وهو مصر؛ وشطر هو القوى الكامنة التي تعطي البقاء للشطر الأول، وذلك هو السودان. والشطر الأول منهما (مصر) هو الذي مهد الله له سبيل القوة والتاريخ والعلم فكان في الوجود أسبق الشطرين إلى قيام الدولة فيه، والشطر الآخر باقٍ ساكن قار. . . شيخ وقور رزين لا يفارق خلوته إلا بسبب من العطايا والمنح التي يرسلها إرسالا إلى الشطر الأول ليحيى ويقوى ويكون سلطاناً في أرضه، وتاريخاً في الزمن، وحضارة في العالم، ولكن الشيخ هو سر السلطان والتاريخ والحضارة - هو السودان. وذلك حسبه.
وقد كتب الله لمصر أن تكون كما هي الآن، وأن تكون دولة في الدول لها سلطان ظاهر ولها عمل في بعض السياسة، ولها آمال في تحرير نفسها وتحرير العرب وتحرير الشرق من بغاة الاستعمار في أوربا وأمريكا وروسيا، فكيف يجوز في عقل عاقل أن تدع أباها الذي يمدها بكل هذه القوة ينخزل عنها وينفصل ليقع في يد الدولة المستعمرة المعروفة الناس باسم بريطانيا؟ إن مصر هي السودان، ولا مصر بلا السودان، وإذا كانت إنجلترا نفسها تدعي أن الهند لازمة لها، وقناة السويس لازمة لها، وكذلك روسيا فيما تدعيه، وكذلك أمريكا في دعوى مصالحها في الأرض والبحر والجو، فكيف يجوز في عقل عاقل أن يراد لدولة ترجو أن تكون دولة في هذه الدنيا العريضة المتراحبة، وهي ليست إلا خطاً محروماً حظَّ الحياة وأسباب البقاء بانفصال السودان المفضل المتكرم عليها بأسباب القوة التي تمكنها من أن تكون دولة؟
إن واجبنا اليوم هو أن نموت في سبيل السودان، لأن السودان هو حياتنا، ونحن بضعة منه، فدفاعنا عنه وموتنا في سبيله هو دفاع الولد البار عن أبيه، والذي لا حياة له ولا عز ولا مجد إلا بحياته وعزه ومجده. نحن لا نريد سيادة على السودان بهاذ المعنى العامي الجلف، فإن السودان هو سيد هذا الوادي، ولكننا نريد أن تبقى مصر حية قوية في كنف السودان أبينا ومادة حياتنا. إننا لن نفرط ساعة في السودان لأن الدولة المصرية ليست شيئاً، ولن تكون شيئاً في هذا الوجود إلا بالسودان. ولو أنصف القدر وأنصف الناس، لكان ينبغي أن تسمى (الدولة المصرية) الدولة السودانية. أما بريطانيا فهي تريد السودان، لأنها تدرك هذا كله حق الإدراك وتعلم أنها إذا بقيت في السودان، تحكمت في حياة مصر كلها،
وزادت عليه ما في السودان من كنوز لا تزال مطمورة تحت تاريخ الحياة الإنسانية المتقادمة منذ أبعد الآباد. فليحذر السودان، والسودان هو الحياة الحقيقية لمصر. فإذا انفصل أحدهما عن الآخر ماتا كلاهما بين أنياب الوحش الذي لا تشبع نهمته ولا تسكن ضراوته.
محمود محمد شاكر
عدوان على مصر!
للأستاذ علي الطنطاوي
(جل الأمر عن المجاملة والهزل، فدعونا نتكلم بصراحة وجد.
.)
يعرض في مصر الآن فلم اسمه (لبنان في الجامعة)، تظهر فيه الجامعة أولا ببنائها وقبتها حتى لا يبقى عند أحد شك أنها الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول التي في الجيزة، وأن الذي يأتي من الوصف إنما هو لها، هي، بعينها وأذنها لا لجامعة غيرها وأنها ليست قصة جامعة خيالية، حتى إذا وثق صاحب الفلم من أنك عرفتها وحققتها، ساق لك مشاهدها، وعرض عليك صورها، فلم تر فيها مظهر علم، ولا دلائل تهذيب، لم تر إلا الاختلاط الشائن واللهو المحرم، والغرام والغناء، كأن هذا كل ما في الجامعة، وكأنها أنشئت لمثله: يجيئها الطالب اللبناني فيستقبله طاب مصري، يأبى واضع الفلم إلا أن يجعله مغفلا كأنه ثالث المضحكين لوريل وهاردي، وأن يسميه (سونه). . . فلا يمر على التقائه به ثلاث دقائق فقط حتى يعرف به الطلاب فيهتفوا له، ويقودوه رأساً لا إلى بهو المحاضرات ولا إلى المكتبة، بل إلى البركة، مع أنه جاء في وقت الدرس لا في وقت اللعب فترى في بركة الجامعة الطلاب والطالبات بالأجساد العارية، والعورات البادية، ثم تبصرهم يعمدون إلى طالبة لابسة ثيابها الكاملة فيحلونها فيلقونها في الماء، فإذا خرجت كالقطة المبللة حفا بها ضاحكين عابثين، وتمضي المشاهد على هذا النمط لا تظهر غرفة الدرس إلا مرة واحدة، يدخلها عم الطالب اللبناني وهو في الرواية (المضحك) المعروف بشارة وكيم فيقطع على الأستاذ محاضرته، ويفسد عليه درسه، ويسخر منه، ويستخرج ابن أخيه بلا أذن، لأن عاشقته. . . تطلبه. . .
ويعرض (الفلم) بيت الطلبة الذي أنشأته الحكومة المصرية بأموالها لإيواء الغرباء من الطلاب، فطمأن بذلك آباؤهم في الشام والعراق والحجاز ونجد والمغرب واليمن، لأنهم غدوا فيه بأمانة هذه الحكومة فما يخشى المرض على أجسامهم، ولا الفساد على أخلاقهم، فلا يجعل بيت الطلبة إلا (ماخورا) فظيعاً. . وترى اللبناني يدخله فيسقط في حفرة كان
إخوانه حفروها له، فينزلون عليه بجماعتهم فينضوون عنه ثيابه كلها إلا ما يستر العورة الكبرى ولا يكاد، وتجئ طالبة، طالبة في بيت الطالبة - هل تسمعون أيها القراء؟ تقبل عليه فيستحي هو يخجل، ولا تخجل هي ولا تستحي، وتجره من يده فتلبسه من ثيابها. . فيستنوق الجمل، ويتأنث الرجل، ثم يجلسان على مائدة الشراب والغزل، والطلاب ينظرون، ولا يكتفي واضع الفلم بهذا كله حتى يجئ ب (سونة)، فيقفه عليهما وقفة أبله، فيقول للّبناني: هذه خطيبتي فكيف تأخذها مني؟ ثم يضحك ويولي عنه كأن الأمر لا يعنيه، وكأن هذا الفلم قد تعمد فيه أن يكون لعنة على الرجولة والشرف ومصر وجامعتها معاً، وعدوانا على أولئك جميعا. . .
وما هذا الذي ذكرت إلا مثالا مما في هذا (الفلم) فهل يبلغ أعداؤنا منا أكثر من هذا؟ وماذا يقول الناس غدا عن الجامعة المصرية وعن دار طلبتها إذا عرض هذا (الفلم) في بلاد العرب ورآه أهلها الذين يعدون مصر كعبة الثقافة ومورد العلوم؟ هل يرسلون أبناءهم إليها؟ أم يقولون إن هذه هي حقيقة الجامعة ولولا ذلك ما صورها مصريون في هذا الفلم المصري، ولما سمحت حكومة مصر بعرضه، ولما سكتت عنه إدارة الجامعة فلم تطلب منعه، ولم تقاض أهله، ولم تحرك من أجله ساكنا؟
وهذا الفلم مثال مما جرنا إليه تركنا ديننا وأخلاقنا، وتقليدنا الغربيين في رذائلهم وحدها، وحسباننا أن هذا هو التمدن وهذى هي الحضارة. وإذا كان هذا الفلم قد سبق الزمان فصور الجامعة بهذه الصورة المزورة، فإنه سيأتي علينا يوم تكون هذه هي الصورة الحقيقة للجامعة وللمستشفى وللمكتب وللدائرة وللمخزن وللشارع وللترام، ويكون كل مكان يلتقي فيه الرجل بالمرأة ملهى من الملاهي، ولم لا؟ واللذة مطلوبة، والرغبة موجودة، وما ثمة حجاب يمنع العين، ولا قانون يكف الجوارح، ولا دين يزع النفس، ولا شهامة تلجم الشهوات، لم لا؟ ونار الشهوة الكامنة في كل نفس، تؤججها هذه المجلات الصورة، وهذه الأفلام الداعرة؟
أو ليس من العجيب أنك تدخل في القاهرة السينما التي تعرض الفلم الإفرنجي فترى له فكرة وموضوعا وهدفا، وربما رأيت فيها الفلم العلمي أو التاريخي الذي يمر كله فلا تسمع فيه كلمة غرام، ولا ترى فيه قبلة. وتدخل لترى الأفلام المصرية فتجدها كلها إلا النادر
منها، سخيفة النسج، مضطربة الموضوع، عمادها العرى والخلاعة والتخنث ورقص البطن؟
أو ليس أعجب منه أن تكون المجلات الفرنسية أعف في الجملة من مجلاتنا التي لا يخلوا أكثرها من صور الأفخاذ والسيقان والبطون والنهود، تسابقت في ذلك حتى بلغت الوقاحة ببعضها أن نشرت صور نساء عاريات لا يسترهن قليل ولا كثير؟
أو ليس أعجب من هذا كله، أني ذهبت مساء الخميس الماضي إلى مجلس يجتمع فيه عادة فريق من أكابر رجال التأليف والتعليم في مصر، فتكلمنا في هذا الموضوع، فإذا أكثر الحاضرين بين غافل عن هذا الداء لا يبصره، أو متهاون به لا يكبره، أو راض به لا ينكره، وإذا هم جميعا يتسلون في ساعة الخطر ويلهون يوم الجد، ويرددون هذه الكلمات الحلوة (حرية الرأي) و (ضرورات الفن) و (مقتضيات العصر)، والنار مشتعلة في البلد؟!
يا أيها السادة المبجلون:
فكروا قليلا فإنكم قادة الرأي فينا، فلا تكونوا تبعا للعامة من أهل أوربا، فما يفلح قوم قادتهم تبع للعوام من أعدائهم، فكروا بعقولهم التي في رؤوسكم لا بعقول أصحاب الوجوه الشقر، تروا أن الحريات كلها، والفنون جميعا، والحضارة من أساسها، إنما كانت لتزداد بها الأمم قوة، والناس إنسانية؛ فإذا أساء قوم استعمالها وأخذوها من ذنبها فجاءت في أيديهم مقلوبة منكسة حتى تبدل وضعها وضاعت فائدتها، وصارت للأمة ضعفا لا قوة، وأعادت الناس إلى البهيمية لم ترتق بهم في سلم الإنسانية، فقد وجب في شرعية العقل وجوبا درء ضررها، ودفع أذاها، وإلا كانت كالسيف يأخذه الأحمق الغرير، فيجرح به نفسه، وما كان السيف إلا ليرد به العادي ويذاد به عن الحمى، وما أظن أن على ظهر الأرض عاقلاً واحداً، يرضى أن يضحي بأخلاق أمته وعفافها، من أجل مقالة فيها كلام جميل، أو قصة فيها وصف رائع، أو صورة فيها فن بارع، وإن الأمم تعيش من غير أدب مكشوف، وفن عار، ولكنها لا تعيش بلا أخلاق،
وأنا أحب الأدب، وأقدس الحرية، ولكني أفضل أن نبقى مقيدة ألسنتنا وأقلامنا بقيد الإسلام والأخلاق، على أن نهلك ونحن أحرار نقول ما نشاء، فمن هو الذي يخالف في هذا من القراء؟
لقد صارت المجلات تخاطب الشهوات بالصور العارية، بعد أن كانت تخاطب العقول بالعلم الحق، والقلوب بالأدب السامي، وهبط الأدباء إلى درك السفلة من القراء بعد أن كان عمل الأديب رفع القراء إلى العلاء، وانقلبت الجامعات مسرح ظباء وموعد لقاء بعد أن كانت دار العلم والتقى والصلاح، وغدت السينما عندنا (تهريجاً) فاجرا، بعد أن كانت السينما عند الناس درسا وعبرة وفناً، وأوشكت هذه (الحرية. . .) وهذه (الحضارة. . .) أن تكون تعديا لحدود الشرع، وهدما لأركان الخلق، ودعوة إلى الفسوق، لا عمل لها إلا هذا، ولا ثمرة لها غيره.
أفيرضى عقلاء مصر أن تظل على هذا الطريق؟
يا أهل مصر! إن هذه المجلات، وهذه الأفلام، عدوان على مصر وعلى الفضيلة والعروبة والإسلام، فإذا أنتم لم تقاطعوها وتقتلوها، فمزقوا كتب الدين والأدب والتاريخ، لأن كل صفحة منها تمجيد للعرض، وامتداح للنخوة.
يا أهل مصر!
لقد جرب أجدادنا العمل بالقرآن فكانوا سادة الدنيا لكها، فجربوا أنتم مخالفته وانظروا ماذا تكونون!!
القاهرة
علي الطنطاوي
الأساطير الإسلامية
للدكتور جواد علي
من الموضوعات الجديرة بالعناية موضوع: (الأساطير الإسلامية وأثرها على العقلية الأوربية)، وهي أساطير عربية جاهلية اختلطت بعناصر أعجمية في العصور الإسلامية التي امتزجت فيها ثقافات مختلفة متنوعة.
ولما بحث العالم الإسباني (ميكول آسين في (الكوميدية الإلهية) للشاعر الإيطالي الشهير (دانتي) تطرق إلى ذكر العناصر التي أخذ منها هذا الأديب (الفلورنسي) الكبير تلك الصورة البديعة التي رسمها من أوربية وشرقية، وقد أضطر إلى التعرض للقصص الإسلامية التي كانت قد شاعت في إيطاليا أيام هذا الشاعر، فقسمها إلى أقسام وفصول مثل الأساطير الأوربية التي أخذت من (معراج الرسول)، والقصص التي أخذت من أوصاف الجنة؛ وبحث في القصص المختلفة المعروفة مثل أصحاب الكهف والخضر وقصة (بولوقيا) والرحلات المخيفة إلى البحار، وقصص الحيتان البحرية التي تظهر في البحر على صورة جزر عائمة.
وقد بحث مستشرقون آخرون في تأثير القصص الإسلامية في القصص الأوربية، وفي أثر الأساطير العربية في أساطير أوربا في القرون الوسطى، وفي كيفية انتقاها إلى أوربا. وعلى بعض هذه القصص طابع إسلامي واضح، وعلى بعضها أثر التكيف الجديد الذي طرأ عليها في المحيط الأوربي الذي حلت به.
ومن الأساطير الأوربية القديمة قصص مغامرات البحارة ومخاطرات البحار وعجائب البحار وعجائب المخلوقات في هذه المحيطات الشاسعة، وهي قريبة من القصص العربية الواردة في كتاب عجائب المخلوقات، وفي الكتب المؤلفة في حياة الحيوان، وفي كتب السياح العرب الذين دونوا ما شاهدوه في تلك البحار. ومن أمثال هذه الأساطير الأوربية القديمة من الأساطير العربية قصة رحلة (هارولد النرويجي)، ورحلة (كورم الدانماركي) ورحلة (مالدوين الكلتي) ورحلة (أبناء كونال درك أو كورا)، ورحلة (سانت برندن) وهي رحلة حج بحرية مشهورة جداً لراهب ايرلندي وقد جمع فيها عدة قصص لرهبان آخرين مثل وو وومجموعة الرهبان (الأرموريكن) وقد انتشرت في القرن العاشر
للميلاد بين المسلمين كثير من القصص البحرية، ويعود ذلك على توسع الحركة التجارية في خليج البصرة، وبين سواحل البلاد العربية، وسواحل الهند والصين وإفريقية الشرقية، وقد تفرعت منها قصص عديدة، منها ما دون في الكتب ومنها ما ذكر عرضاً بصورة مختصرة أو مبتورة. ومن هذه القصص قصة البحث عن الخضر، وقصة رحلات السندباد البحري وقصة الجزيرة الخضراء وقصص الحيتان.
وقد قارن المستشرق الهولندي (دي كويه) بين قصة (سانت برندن)، وهي من القصص الايرلندية وبين رحلة السندباد البحري، وبعض قصص بحرية ذكرها الشريف الإدريسي، وقصة (بولوقيا)
اختار (سانت برندن) الذهاب إلى قلعة نائية لم تكن مأهولة في جزيرة لم تعرف إنساناً من قبل، ولشد ما تملكه العجب حينما وجد مائدة غنية بأنواع الأطعمة والأشربة فأكل منها وشبع وأطعم أصحابه ولم يؤثر ما أكلوه على كمية الطعام.
وفي قصة (بلوقيا) التي رواها (عبد الله بن سلام) وهو يهودي اعتنق الإسلام تشابه مع قصة (سانت برندن)، فبلوقيا وهو حبر يهودي، وكان والده (أوشيا) من أحبار اليهود وإعيائهم أراد البحث عن (محمد) وأمته، فطاف بلاد الشام حتى بلغ جزيرة من جزائر البحر، فإذا هو بحيات كأمثال الإبل عظما كلمهن ثم مر بشجر كثير وبعالم غريب يشبه ذلك العالم الذي مر به ذلك الراهب.
وقصة (بلوقيا) هذه التي قصها الثعالبي استناداً على رواية (أبي بكر بن عبد الله الحزدقي) بإسناده عن عبد الله بن سلام هي قصة، وإن كانت مطبعة بطابع إسلامي إلا أنها من القصص الإسرائيلية البحت. ولأبن سلام قصص أخرى تحمل نفس الطابع، ويحشره العلماء وأصحاب الحديث لهذا السبب في تلك المجموعة التي اشتغلت في إدخال (الإسرائيليات) إلى المسلمين بصورة حديث عن الرسول أو موعظة من المواعظ.
ووجد هذا الراهب في جزيرة من الجزر أشجاراً فاقتطع من أغصانها مقداراً وأوقد ناراً ليصنع طعاماً، فلما تأججت النار تحركت تلك الجزيرة العظيمة وأخذت تموج، فرمى الراهب وأصدقاؤه بأنفسهم في اليم طلبا للنجاة؛ إذ لم تكن تلك الجزيرة سوى سمكة عظيمة من نوع الحيتان البحرية.
ويرى بعض المستشرقين مثل (دي كوية) وو ' أن هذه الجزيرة تشبه الجزيرة الأولى التي وصل إليها (السندباد البحري) وأصدقاؤه وقصة السندباد من القصص العربية المعروفة ولعلها النموذج الأصلي لقصة (روبنسن كروسو).
ونجد مثل هذه القصص في الكتب الدينية القديمة مثل: (التلمود) وهو بعد التوراة عند اليهود وعليه عندهم العمل في الأحكام الفقهية. ومثل (الأفستا) كتاب الفرس المجوس. وقد انتشرت أمثال هذه القصص بين العجائز والأطفال ولا زالت معروفة حتى اليوم.
وزعم نفر من المستشرقين أن قصة (سانت برندن)، والقصص المشابهة لها هي من القصص الايرلندية القديمة، وقد عرفها الشرق عن طريق الصليبيين أو عن طريق أسبانيا؛ ودليلهم على ذلك أن سمكة (الحوت) التي وصفت بالكبر والضخامة لا تعيش في مياه الشرق.
وهذا الرأي لا يستند بالطبع إلى دليل ملموس، ولا يعقل انتقال هذه القصة من ايرلندا إلى الشرق. وهناك أدلة علمية واضحة تنفي انتقالها من ايرلندا. فالجاحظ الكاتب البصري وقد عاش في نهاية القرن الثامن للميلاد إلى ما بعد منتصف القرن التاسع (781 - 869 م) يصف قصص البحارة عن الحيات البحرية فيقول:(فقد زعم هؤلاء أنهم ربما قربوا إلى بعض جزائر البحر وفيها الغاض والأدوية واللحاقيق وأنهم في بعض ذلك أوقدوا ناراً عظيمة فلما وصلت إلى ظهر السرطان ساح بهم وبكل ما عليه من النبات حتى لم ينج منهم إلا الشريد).
ويظهر من كتاب الحيوان أن مثل هذه الأساطير كانت معروفة في العراق، وعلى الأخص في البصرة في أيام الجاحظ، وربما كانت معروفة قبل عصر الجاحظ، وأن قصة (السندباد البحري) التي شاعت بين الناس في القرن العاشر وما بعده أخذت من هذه القصص البحرية. وقد تطرق الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) إلى ذكر الحيتان.
أما الجزيرة الثانية من مجموعة الجزر التي زارها القديس فهي جزيرة نائية كانت مأهولة بالطيور المتكلمة وكانت أرواحها من طبيعة أرواح الملائكة. وفي قصة (بلوقيا) مثل هذه الطيور. فلما سأل (بلوقيا) أحدها قال (أما من طيور الجنة، وأن الله قد بعثني إلى آدم بهذه المائدة لما هبط من الجنة، وإني كنت معه حين لقي حواء وأباح الله له الأكل؛ وأنا ههنا من
لدن ذلك الوقت، فكل غريب وعابر سبيل من عباد الله الصالحين يمر بها يأكل منها وأنا أمين الله عليها إلى يوم القيامة. فقال بلوقيا ولا تتغير ولا تنقص؟ فقال طعام الجنة لا يتغير ولا ينقص. قال بلوقيا فآكل منها؟ قال كل، فأكل حاجته، ثم قال له أيها الطائر وهل معك أحد؟ فقال معي أبو العباس يأتيني. فقال ومن أبو العباس قال الخضر عليه السلام، فلما ذكر الخضر وإذا به قد أقبل وعليه ثياب بيض فما خطا خطوة إلا نبت الحشيش تحت قدميه. ثم قال غمض عينيك فغمضهما، ثم قال له افتح عينيك ففتحهما فإذا هو جالس عند أمه، فسألها من جاء بي إليك؟ قالت طير أبيض يطير بك بين السماء والأرض فوضعك قدامي).
وتشبه هذه الطيور الطيور المذكورة في قصة: (سانت مكاريوس) وقد ورد في الأحاديث المنسوبة إلى الرسول ذكر الطيور البيضاء، وقد فسرها المفسرون بأنها الملائكة. وهو تفسير يتفق مع مذهب الأوربيين في تصوير الملائكة على أنها على صورة طيور بيضاء ذات جناحين طويلين.
ووجد (القديس) في جزيرة رهباناً كانوا يقتاتون بخبز الجنة لا يعرفون الهرم ولا يصل إليهم المرض، وكانوا لا يتكلمون وفي قصة (ذي القرنين) وقصة (جزيرة الحكماء). شبه كبير بهذه القصة. أما (العنب) العجيب الذي عثر عليه القديس في الجزيرة فله أصل في الحديث المنسوب إلى الرسول إذ يروى أن جماعة سألوا الرسول عن الكرم وهل ينبت في الجنة، فأيد الرسول وجوده فيها، وأبان لهم أن الحبة الواحدة لتكفي الرجل وعائلته. وهو يمثل على كل حال رأي الناس في العنب وهو رأي يشابه رأي الأوربيين في عنب جزيرة القديس.
وفي الأدب العربي عدد لا يحصى من هذا النوع من القصص وقد جمع قسماً منها الثعالبي في كتابه (قصص الأنبياء) وتجد طائفة أخرى في تفسير الخازن، وأكثرها من صنع من أسلم من اليهود مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب أبن منبه وإضرابهم. وروى بعضها عن عبد الله بن عباس.
وتعرف هذه القصص عند المسلمين (بالإسرائيليات). والظاهر أنها عرفت عند المسيحيين كذلك إما عن طريق الكتب الدينية والتفاسير الموضوعة على هذه الكتب، وإما عن طريق
اليهود الذين انتقلوا إلى أوربا في عصر الإمبراطورية الرومانية. غير أن وجود العناصر الإسلامية فيها يشعر أنها انتقلت بعد ظهور الإسلام، ولعل ذلك حدث بعد اختلاط الأوربيين بالعرب في الأندلس وفي إيطاليا وفي بلاد الشام وفلسطين، وبعد وقوفهم على كتب الأدب العربية ولا سيما كتب القصص منها، وفيها طائفة كبيرة تلائم العقلية الأوربية والذوق الديني الذي كان يتحكم في نفوس أوربا في القرون الوسطى حيث كان الحكم البابوي هو الحكم السائد، والثقافة الدينية هي الثقافة السائدة، وفي هذه القصص لون من ألوان هذه الثقافة.
جواد علي
على هامش محاضرة:
الشر في طبيعة المستعمر
للأستاذ حبيب الزحلاوي
يحار المرء في تفسير ظاهرة الشر الواضحة في الشعوب الغريبة المستعمرة، أهي طبيعة أصيلة فيهم أم هي نتيجة مباشرة لعوامل الاعتداد بالقوة وحياة الترف ولوازم المدنية؟
لا شك في أن الشعوب الغربية المستعمرة بلغت من الرقي الاجتماعي ومن الآداب والعلوم والثقافة العامة والتسامي في التهذيب أو كادت تبلغ أوج التعاليم الإنسانية، فما السر في أنها تقتتل في الحروب قتال الإبادة والفناء والتدمير والتخريب، ويعمل الظافر فيها على سحق أخيه المغلوب؟
ثم ما بال هذه الشعوب الغربية كالجزار تعمل مداها في تلك الأغنام التي تدر الثروة عليها كلما أحست بحركة تدب في هذه القطعان؟ وما هي إلا الشعوب الشرقية الواقعة تحت سلطانها ودائرة نفوذها؟
أفهم أن يستمسك الوارث بما ورثه عن الآباء والأجداد، كما أفهم في طبيعة الغني القوي جشعاً يدفعه إلى تنمية ثروته وتوسيع جاهه ومد سلطانه كالشعب الإنجليزي المستعمر، أما الذي لا أفهمه ولا أجد سبيلاً إلى إدراكه فهو كيف يجوز لمبذر متلاف كالشعب الفرنسي الذي أضاع ما ورثه عن آبائه وأجداده وفقد بسفهه الأخلاقي والاجتماعي، كيف يسوغ له وهو القاصر المريض أن يزود بأسلحة الشر يعملها في رقاب من أرادوا الخلاص منه والإعتاق من رزاياه من سكان شمالي أفريقيا، خصوصاً وأن الفرنسي كالإنجليزي يستويان في ادعاء تهذيب الشعوب وتدريبها على الحكم الذاتي.
أفهم أن نهم الاستعمار يسيل لعاب الإنجليزي ويدفع يده إلى امتلاك كل بقعة من الأرض مجاورة لما اغتصبته يده من قبل، ولكل قطر سهلا كان أو جبلا، نهراً أو قناة، يقع في طريق إمبراطوريته المترامية الأطراف.
أفهم ذلك والإمبراطورية البريطانية خارجة ظافرة من حرب بذلت في سبيلها مهجاً وأموالا، واكتسبت من جرائها عطف العالم وإعجابه بها، وبذلك لا أستغرب أن أراها تمد يدها تنتزع قطراً من هنا وتحتل مقاطعة هناك، وتتطلع إلى ما هنالك، وهي تتذرع بروح
الديمقراطية وإسعاد البشرية وتهذيب الشعوب وإنقاذها من الخوف والمرض والجوع، إنما الذي يدهشني حقاً هو أن أرى دولة فرنسا في حال من الهوان والبؤس والذل، والفقر والضعف والجوع، ومن الضعة الروحية والفاقة المعنوية، يدهشني أن أراها تشمر عن سواعد نخرة بالية تحمل سلاحاً فتاكا ترمي به العزل من أبناء تونس والجزائر ومراكش، قطعانها التي تعيش على صوفهم وتشبع من لحومهم كأنها تنتقم من الألمان وقد داسوا كبرياءها بحوافر خيولهم.
حفزني إلى هذا التساؤل والاستطراد محاضرة سمعتها من الأستاذ محمود عزمي ألقاها في نادي الرابطة العربية عن مشاهداته في شمال أفريقيا فبدا لي أن أقارن بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في طريقة استعمارهما الشعوب الشرقية المستضعفة الواقعة تحت حكمهما، مكتفياً بهما وحدهما، لأن الحكومات الأوروبية المستعمرة الأخرى وإن كانت أكثر ظلماً، وأوفر شراهة وجشعاً، تهتدي دائماً بهدى الإنجليز والفرنسيين في استذلال الأمم واستعبادها، وتحذو حذوهما في كل ما يقترفان من شرور ومظالم وما يدبران لها من أغشيةللتضليل والتمويه.
نعرف أن السياسة الإنجليزية رأت أن تقف سداً دون انتشار التعليم في مصر فرمت وزارة المعارف بطاغية يدعى دنلوب عمل جاهداً على أن يجعل من النشء الجدد موظفين لدوائر الحكومة محدودي المعرفة مسلوبي الإرادة.
وما كنا نعرف قبل أن عرفنا الأستاذ عزمي أن الفرنسيين في تونس والجزائر ومراكش لا يسمحون بإنشاء مدرسة ابتدائية أو ثانوية إلا بإذن خاص من المقيم الفرنسي العام، وما أندر ما يأذن ذلك الحاكم الأجنبي بافتتاح مثل تلك المدارس بحجة أن التعليم يجب أن يبقى قاصراً في الكتاتيب على حفظ القرآن، وأن ما نسمع عن المدارس العالية هناك فإنما أمرها بيد الفرنسيين وحدهم وأن برامجها موضوعة وفق مشيئة الروح الاستعماري وهو ولا شك أضل وأسوأ من مشيئة دنلوب.
نعرف أن الشعوب الشرقية التي يحتل الإنجليزي بلادها يحكمهم وفق قوانين موضوعة ومحاكم قائمة وأحكام تنشر وتذاع، بيد أن أقطار شمال أفريقيا تحكم، كما روى الأستاذ عزمي، بغير قوانين، وأن ليس في (رباط) قانون عقوبات، إنما لها محاكم شرعية تحكم في
الأحوال الشخصية وتفصل في الملكيات الوراثية، ولها محاكم أخرى تسمى محاكم الباشا عليها مراقبون فرنسيون من رجال الإدارة يرشدون الحاكم المدني إلى الحكم على المتهم.
نعرف أن الإنجليز في مصر من حاكمين ومقيمين أقل الناس استملاك واستثماراً الأراضي الزراعية، بيد أن الحال يختلف مع الفرنسيين من حاكمين ومقيمين في شمال أفريقيا في امتلاك الأرض، وقد سمعنا من الأستاذ المحاضر أن المستعمر الفرنسي يملك الأرض ويستأجر الأهالي لاستغلالها بأبخس أجر ويقرضهم مالا لا يقوون على سداده، وبذلك المال المقرض يبقى الفرنسي المالك قابضاً على عنق المغربي الأجير طول حياته.
نعرف أن المندوب السامي الإنجليزي في مصر حاكم يربض وراء الستار يعمل متوارياً ما يصون مصالح حكومته ومنافعها، وما عرفت مصر مندوباً سامياً يحمل عصا الديكتاتورية المقنعة سوى كرومر، وكتشنر واللنبي، وقل من عرفت منهم من عاش في ظل الأحكام العرفية في أيام السلم. بيد أن الحال في بلاد المغرب تستوي في السلم وفي الحرب، فأن الأحكام العرفية هناك معلنة منذ عام 1912 وحجة الفرنسيين في إعلانها كما قال الأستاذ عزمي أنها تمنح القيم العام حرية مطلقة في الحكم والتصرف الإداري ولولاها لوجب عليه أن يراجع باريس في كل كبيرة وصغيرة من شؤون السياسة والإدارة والقضاء.
نعرف أن الإنجليز في مصر منعوا الخديوي عباس من العودة إلى بلاده وأنهم خلعوه من ولايته الشرعية، وأنهم هيئوا أحد راجات الهند لاعتلاء العرش المصري، وأن السلطان حسين أنقذ البيت المالك بقبوله ولاية السلطنة إبان الحرب العالمية الأولى، وإننا نعرف جيداً أن حادث شهر فبراير المشؤوم ثابت في ذهن كل مصري، ونعرف فوق ذلك أن الحكومات المصرية التي تولت الحكم إبان الحرب الأخيرة أبت على الحكومة الإنجليزية الاشتراك رسمياً معها في الحرب مستمسكة بمعاهدة 1936 التي تنص على حرية الحياد، وعرفنا أن الحكم الفرنسي يستوي والحكم الإنجليزي في معاملة الحاكمين، حدثنا الأستاذ المحاضر عن (المنصف) باي تونس قال: التزم هذا العاهل المخلص لوطنه شروط الحياد التام لبلاده، وقد أبى على الألمان ما أباه على الأمريكان والإنجليز، وقد وقف كذلك في وجه الفرنسيين يصدهم عن تجنيد أبناء رعيته، وقال: كان الجنرال جيرويداً من أيادي المرشال بتان وذنباً من أذناب حكومة فيشى، وأن هذا القائد عندما جاء تونس لينضم إلى الجنرال
ديجول أو يعمل معه، كان أول ما عمله ترحيل المنصف الباي إلى فرنسا وأنه احتجزه في الصحراء ستة شهور حتى اضطره إلى كتابة صك تنازله عن العرش، وعندها حملته طيارة إنجليزية إلى باريس تحرسها شرذمة من الجند البريطاني، في حين أن الضباط الفرنسيين والطيارين الفرنسيين رفضوا نقل هذا العاهل المحبوب من شعبه ومن كل من عرفه أو اقترب من بلاطه.
يعرف كل من عاصر الثورة المصرية عام 1919 أن أحداث السنوات الخمس التي تلتها كانت أحداثاً جساماً، وأن الإنجليز لم يجابهوا الثورة مجابهة إلا عندما كانوا يدعون دفع الأخطار عن مصلحتهم أو يتذرعون بحماية أرواح الأجانب وممتلكاتهم، وعندها كانوا يمتشقون السلاح يعملون به ما يتوهمون أنه يقضي علي روح الثورة المتأججة. فكم من دماء أهدرت، وشباب ذوى، وأمهات ثكلت، وزوجات ترملت، وأرواح صعدت إلى باريها تشهد على ظلم الظالمين! وكم من صفحات أضيفت إلى تاريخ الاستعمار البريطاني سطرها اللورد اللنبي بسيفه وقد حاول المرشال ويفل تبريرها وتعزيزها بقلمه، وما تلك الصفحات سوى شهادة صادقة على خنق حرية الشعوب الفتية بأيدي دعاة أنصار الحرية.
أما موقعة الجزائر الأخيرة فقد رواها الأستاذ محمود عزمي، وعززها الأستاذ أمين الجامعة العربية. قال الأول: فعلت دعاية الحلفاء فعلها في نفوس المغربيين وتأثروا كما تأثر سواهم بميثاق الأطلنطي. وسحرتهم الديمقراطية الفاتنة واجتذبتهم الحرية، فما إن ألقى الغربيون المتحاربون سلاحهم حتى هب الشعب الجزائري هبة واحدة يظهر شعور الفرح والغبطة بدنو الحرية، فمشى في الشوارع أفواجاً منظمة يحمل أبناؤه الأعلام واللافتات فيها دعاء للحرية ومطالبة بالاستقلال.
هال المستعمر سماع صوت الشعب وحرارة ندائه فأمر القيم العام البوليس بتفريق المتظاهرين وتمزيق أعلامهم ولافتاتهم، فنفذ البوليس الأمر بغلظة وقسوة. هاج الشعب وغضب لهذه المقابلة الظالمة فعاد ثانية إلى التجمع والمناداة بغضب للحرية والاستقلال، فقابلهم البوليس ثانية برصاص البنادق، ففر الشعب إلى الضواحي يصب غضبه على بيوت الفرنسيين.
قامت قيامة القيم العام فأمر الجيش بإخماد الثورة. . . مشى الجيش بجانبه أصحاب
الأراضي من الفرنسيين وقد نضو ثيابهم المدنية وأخذوا يعملون سلاحهم معه في رقاب الآهلين ونيرانهم في أكواخهم، وما زالوا بهم تقتيلا وتحريقاً حتى طرحوا بقاياهم في الصحراء وقد انجلت الواقعة عن ثلاثين ألفاً من القتلى.
وقد عزز هذه الحكاية سعادة الأستاذ أمين الجامعة العربية بقوله: لما كنت في باريس حادثت أولى الأمر هناك بهذه الواقعة المخزنة فلم أسمع منهم إنكاراً لها، ولكنهم قالوا إن فيها مبالغة، والحقيقة التي اعترفوا بها هي أن عدد القتلى لم يتجاوز الثمانية عشر ألفاً!
وددت لو اتسع المجال لعرض كل ما سمعت من الأستاذ المحاضر ومقارنة أعمال المستعمرين بعضها ببعض، ولكن ما إلى هذا رميت، ولا إلى التشهير قصدت، إنما مرماي هو كشف النقاب عن الظلم الكامن في نفوس الغربيين المستعمرين، ثم ما هو الواجب علينا حيالهم.
أنا لست مؤمناً بالإنسان ولا بعلومه، ولا بعقله، وقد كشف الكثير من أسرار الطبيعة، وأنكر كل الإنكار المدنية والحضارة والتهذيب والكياسة وكل الأخلاق الفاضلة في الشعوب الأوروبية التي لم تقو على محو روح الشر المتأصل فيها ولا اقتلاع جذور الظلم الكامن في جوانبها، ولا هبوط حمى الجشع المستعر في ضلوعها، إنما أومن عن عقيدة بأن الشر يدفع الشر وأن الظلم لا يقتله إلا الظلم.
حبيب الزحلاوي
إمام الحرمين بين المتقدمين والمتأخرين
للأستاذ الأب قنواتي
النضال بين المتقدمين والمتأخرين نضال قديم ساير الاجتماع على ممر الأجيال. فكل جيل طموح ونزعات تجعله ينظر إلى الجيل السابق بعين الاستخفاف بل العدوان. . . ولئن أردنا أن نقيم دليلا على هذه الحقيقة البسيطة وجدنا التاريخ حافلا بالأمثلة العديدة الشائقة في الميادين المختلفة من مذاهب أدبية أو فنية أو سياسية ونظريات علمية ومناهج تاريخية. . . الخ، وقد يرجع هذا النضال إلى طبيعة الإنسان وشغفه بالجديد. . . (سنة الله في خلقه). . . ولكنه قد يرجع أحيانا إلى التقدم الحقيقي والتعمق في البحث. فقبل أن يكتب النصر للجديد المتأخر لابد له من مقاومة القديم وإقناع مشيعيه، وهناك تغيرات واتجاهات لا تخلو من الخطورة على إخفائها وقلة ظهورها في الخارج يجدر بالباحث أن يحاول إماطة اللئام عن سرها وإبرازها بوضوح لأنها كثيراً ما تكون (مفتاحاً) لفهم تطورات أخرى ضخمة. ونريد اليوم أن نقف برهة عند نضال كان له أثره الخطير في تكييف علم الكلام، ونحن نعني طريقة المتأخرين التي حلت محل طريقة المتقدمين في القرن الخامس الهجري.
يقول أبن خلدون في مقدمته إن أول من كتب في الكلام على طريقة المتأخرين هو الغزالي، وقد ردد هذا الرأي كثيرون ممن أرخوا لتطور علم الكلام ولا سيما الشيخ محمد عبده. ما هي في رأي أبن خلدون، هذه الطريقة؛ وكيف تتميز من طريقة المتقدمين؛ وهل أصاب أبن خلدون في رأيه: تلك هي النقط التي أحب أن أعرض لها اليوم على صفحات (الرسالة).
أما طريقة المتقدمين فقد يراها أبن خلدون متحققة في الأخص
عند الباقلاني (المتوفي سنة 4031013). فبعد سرد الظروف
التي هيأت لعلم الكلام نشأته والتكلم عن الأشعري أخذ يقول:
(وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري واقتفى طريقته من
بعده تلاميذه كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر
الباقلاني فتصدر للأمانة في طريقتهم ووضع المقدمات العقلية
التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر
الفرد والخلاء وأن العرض لا يقوم بالعرض وأنه لا يبقى
زمنيين وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه
القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك
الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول.
وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية
والعلوم الدينية، إلا أن صور لأدلة تعتبر بها الأقيسة ولم تكن
حينئذ ظاهرة في الملة. ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ
به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية
بالجملة). إننا - والحق يقال - لا نجد في هذا النص ما يشفى
غلتنا. - فما هو محور طريقة المتقدمين؟. . أهو استعمال
العقل في شرح العقائد؟ هذا لا يكفي، إذ العقل سيظل مستعملا
في طريقة المتأخرين بل سيكون ركنها الركين. هل هو عدم
الاكتراث بالمسائل الفلسفية؟. . ولكنا نجد الباقلاني وهو بلا
شك من المتقدمين يتكلم في الجوهر والعرض الخ فلنواصل
قراءتنا في مقدمة أبن خلدون. يقول مؤرخنا الشهير إن
المتكلمين أخذوا على مر السنين يفرقون بين علوم المنطق
وبين علوم الفلسفة إلى أن قال: (ثم نظروا في تلك القواعد
المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين
التي أدت إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام
الفلاسفة في الطبيعيات والالهيات، فلما سبروها بمعيار المنطق
ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان
دليله كما صار إليه القاضي. فصارت هذه الطريقة من
مصطلحهم متباينة للطريقة الأولى وتسمى طريقة المتأخرين).
ففي رأي أبن خلدون يرجع الفرق الحاسم بين الطريقتين إلى
هذا: يعتقد المتقدمون أن بطلان الدليل يؤدي إلى بطلان
المدلول ويرفض المتأخرين هذا الزعم.
وأقر بكل بساطة، مع احترامي لأبن خلدون وسعة اطلاعه، بأني لم أرتض هذا الرأي لأني حاولت أن أطبقه على كتابي إمام الحرمين - الإرشاد والشامل فلم أعثر على المبدأ الذي يقول به المؤرخ العربي الشهير. كما أني لم أجد في كتب الغزالي الخاصة بعلم الكلام - على القدر الذي أعرفه - دحض هذا الرأي الذي يظهر فساده من أول وهلة. ومن يدرس عن كثب المناقشات الطويلة التي وردت في (الشامل) لا يلبث أن يتحقق أن الأمر خلاف ما ذهب إليه أبن خلدون. ولقد تبادر إلى ذهني أن الفرق الحاسم بين الطريقتين قد يرجع إلى نوع المنطق المستعمل فيهما، أو بالأحرى إلى مدى استعمال المنطق اليوناني فيهما. والذي هداني إلى هذا الرأي هو حدوث شبيه هذا المظهر في القرون الوسطى عند المسيحيين؛ فقد كان يوجد في العالم العلمي الأوروبي حتى القرن الحادي عشر منطق
أرسطو في مختلف أقسامه، وكان يستعمل في المناظرات اللاهوتية ولكن من الوجهة الجدلية فقط. فعندما ترجمت كتب أرسطو الأخرى وخاصة كتابه ما بعد الطبيعة أحدثت في كهان علم اللاهوت انقلاباً عظيما. . . أصبح القياس الأرسطي محور البحث الديني نفسه، والمبادئ الأرسيطة - بقدر ما تكون غير مخالفة للعقائد - القالب العلمي لتقديم العقائد وربط بعضها ببعض والدفاع عنها والتعمق في مضمونها. ولقد تساءلنا عما إذا لم يحدث ما يشبه ذلك في علم الكلام عند المفكرين المسلمين. فلا شك أنهم عرفوا أرسطو منذ القرن الثاني للهجرة فقد كان بعض المعتزلة يقرؤون كتبه ويستفيدون منها. ومن المحتمل بل من المرجح أن مبادئه المنطقية أخذت تتسرب رويداً رويداً إلى علماء الكلام عن طريق المجادلات والمناظرات مع الفلاسفة أو الملحدين، وأخيراً اندمج في علم الكلام نفسه وأصبح من آلاته الأساسية.
ولقد تحدثنا مع الأستاذ الكوثري في هذا الموضوع، فتفضل
وأرشدنا إلى مخطوط لتلميذ للباقلاني أبو جعفر محمد بن أحمد
السمناني (المتوفي سنة 4441052)، وعنوان المخطوط:
(آليان عن أصول والكشف عن تمويهات أهل الطغيان)
يحوي هذا المخطوط باباً خاصا (بالفرق بين الأدلة الصحيحة
وبين فاسدها وذكر أقسامها)، يمكننا أن نعتبرها أنموذجا
خالصا لطريقة المتقدمين، فلا ذكر هنا لقياس أرسطو، ولا
ذكر لإبطال المدلول بأبطال الدليل الذي جعله أبن خلدون
معيار طريقة المتقدمين، بل يكتفي السمناني في القسم الأول
من الأدلة بذكر (حجة العقول التي نبه الله عليها بقول تعالى
لقوم يعقلون، ويتذكرون أفلا يتدبرون) وهذا القسم يقع
الاحتجاج به من وجوه:
الوجه الأول: أن يقسم الشيء في العقل إلى قسمين أو أكثر من ذلك، ومحال أن تكون كلها صحيحة أو كلها فاسدة، فمتى أفسد الدليل أحد القسمين أو كلها إلا قسما واحداً ثبت صحة القسم الباقي.
الوجه الثاني: أن يجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلة، فيجب القضاء على أن كل من وصف في الغائب بتلك الصفة وثبت له ذلك الحكم فإنه لأجل مثل تلك العلة ما يستحقه.
الوجه الثالث: أن تعلم أن الذي يصحح الحكم والصفة إنما هو وجود المصحح، فيجب القضاء لكل من له تلك الصفة أن يكون مصححها مثل ذلك المصحح.
الوجه الرابع: أن تعلم أن حقيقة الشيء هو صفة له، فيجب الحكم بمثل تلك الحقيقة لمثل تلك الذات في الغائب، وكذلك الحد.
الوجه الخامس: أن تستدل بصحة الشيء على صحة مثله وما هو بمعناه، وباستحالة على استحالة مثله وما هو بمعناه.
هذه هي الحجج العقلية التي يبني عليها علماء علم الكلام المتقدمين براهينهم، وهي على ما أظن لا تتجاوز الدلائل العقلية المستعملة في أصول الفقه، ولا صلة لها صلة أساسية بالمنطق اليوناني.
أما الأقسام الأخرى من أقسام الأدلة التي يذكرها السمناني فهي الاستدلال بموجب اللغة، والاستدلال بظهور المعجزات على صدق من ظهرت على يده، لأنها تجري مجرى الشهادة له بالقول، والاستدلال بكتاب الله، والاستدلال بقول الرسول، وإجماع الأمة من أهل كل عصر، والقياس على الكتاب والسنة، والإجماع في الأحكام الشرعية التي لا مجال للعقل فيها بحال.
ومما جعلنا نؤمن بصحة نظريتنا مطالعتنا لرسالة الأستاذ علي محمد جبر من علماء الأزهر: (إمام الحرمين وأثره في بناء المدرسة الأشعرية). فقد درس الأستاذ إمام الحرمين درسا وافيا، راجعا إلى مؤلفاته:(البرهان ولمع الأدلة والشامل والإرشاد) وإلى مخطوطات أخرى مثل (المطالب العالية للرازي وإبكار الأفكار للآمدي). فتمكن من إبراز شخصيته
العقلية والاتجاه الجديد الذي أعطاه لعلم الكلام. وقد انتهى الأستاذ جبر إلى أن إمام الحرمين هو رأس المتأخرين، وأن التمييز بين المتقدمين والمتأخرين يرجع إلى ناحيتين:
أولا: بالنسبة لطريقة الاستدلال على العقيدة، فقد يخالف إمام الحرمين الأشعري والباقلاني، إذ هو جعل الاستدلال على العقيدة بطرق ثلاث: السبر والتقسيم المنحصر بين طرفي النفي والإثبات، وقياس الخلف الذي يثبت الشيء بإبطال نقيضه، القياس المستقيم. والأشعرية قبله لم يستعملوا قياس الخلف ولا القياس المستقيم بل كانوا يستعملون طرقا خطابية تارة وقضايا مسهورة أخرى والسبر والتقسيم بقسميه المنتشر والمنحصر.
ثانيا: بالمسبة لبعض الموضوعات الكلامية مثل الكلام على الصفات الخبرية التي وردت في الكتاب والسنة. فطريقة الأشعرية قبل إمام الحرمين هو عدم التأويل وعدم بيان المراد منها. أما إمام الحرمين فقد أول وبين المراد مهنا. ويقول الأستاذ جبر إن إمام الحرمين هو أو من جعل الأبحاث الكلامية مثل البحث في الجوهر والعرض والكون والطفرة والجزء الذي لا يتجزأ وسيلة وطريقة تؤدي إلى الغاية المطلوبة من نفس علم الكلام وهو إثبات الله وصفاته ونفي القدم عن سواه أكان قدما ذاتيا أم زمنيا.
وليس يتسع لي مجال هنا لمناقشة الأستاذ جميع نتائجه فهذا يستحق بحثا على حدة، غير أني أوافقه في جعل إمام الحرمين ممن أثروا تأثيرا حاسما في توجيه علم الكلام توجيها جديدا. ولو أني أميل إلى وضعه لا في رأس المتأخرين كما يفعل الأستاذ بل في محل وسط بين الفريقين، وكحلقة اتصال بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين.
ومهما يكن من أمر، فإني على يقين أننا لا نزال محروم التفاصيل الشافية فيما يخص تاريخ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وذلك للعدد الضخم من المخطوطات التي لا تزال مطوية في أجواف المكاتب، ولو كان لي أن أقدم رجاء فهو أن يهتم شبابنا المثقف من أزهريين وجامعيين (بمعاونة الأزهر والجامعة معاونة روحية ومادية) بنشر النصوص الفلسفية والكلامية القديمة، فد حان الوقت في هذا الميدان أن نطير بأجنحتنا كما يقول الغربيون وألا نظل إلى الأبد عالة على المستشرقين.
إننا نلفت نظر من يهتم بتاريخ الفلسفة الإسلامية والمسيحية في القرون الوسطى إلى ثلاثة كتب قيمة ظهرت حديثاً في هذا الموضوع:
أولا - كتاب مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان واليهود، وهو للأستاذ بينسي وقد عربه الأستاذ أبو ريده تعريباً دقيقاً.
ثانيا - كتاب إبراهيم بن سيار النظام وآراؤه الكلامية والفلسفية للأستاذ أبو ريده (الذي يستحق كل الثناء لما بذله في ميدان نشر الفلسفة الإسلامية).
ثالثاً - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط للأستاذ يوسف كرم وهو لا يقل تركيزاً وتعمقاً من كتابه في تاريخ الفلسفة اليونانية.
الأب قنواتي
يا ليل.
. .!
للأستاذ محمد خير الدين الأسدي
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
نعود الآن فنرهب الموقف، وقد بدا لنا توجيه آخر، ذلك أن الغناء العربي من طابعه الإعادة والترداد، بأن تعاد الكلمات وأحيانا مقاطع هذه الكلمات، على نحو ما نسمعه اليوم، فهل يبعد أن كان ردد مغن مجيد مقطع (لي) من موالي، فكان من وراء هذا الترداد (لي لي) أو قل: ليلي مصدرة بأداة النداء القائمة بالأصل، ثم استحسن هذا التفنن وجرى الناس عليه إلى يومنا.
ولعل ما أغرى المغنين بالتمسك بصورة يا ليلي نزوعهم إلى التفرقة بين الغناء الغرامي والغناء الديني المفتتح بيا مولاي - كما هو شأن التمجيد في المآذن -.
عرفنا بعد ما تقدم أن يا ليلي أصلها يا موالي، فلنسجل هذا المذهب بجازم اليقين، لما أن البينات تدعمه، ثم لنسجل ما تبقى من تطورها بشيء من التحفظ، لما أن تاريخ الغناء ومرور الزمن تألبا على الغموض والإبهام.
انتقال يا ليل من الموال:
وكتب ليا ليل أن تفارق الموال إلى غيره من ضروب الغناء متنكرة بمظهر جديد - كما نرى نحن - منها.
يا ليل في الموشحات:
انتقلت يا ليل إلى الموشح بشكل (يا لا) و (يا لا لا) و (يا لان) و (يا لا لا لا) و (يا للي) كما في موضح (أحن شوقا) وتلحين الموشح كما يحدثنا الأستاذ رجائي:
أحن شوقا إلى ديا إلى ديار رأيت فيها جمال سلمى آه يا لان جانم يا لا يا لا لا يا لان جانم يا لا لا لا يا للي. . .
وقد تظهر بمظهرها الأصلي: يا ليل أو يا ليلي، كما في الموشح الحديث:(زالت الأفراح عنا)، وتلحينه كما يحدثنا الصديق رجائي:
ليلي يا عيني يا ليل زالت زالت يا عيني. . .
وقد تكون يا لللي، كما في موشح (ما احتيالي) وقد تدخل في صلب الوزن الشعري بصيغة يا لالي ويا ليا وهلوليا، كما في (يا لالي هوانم آه يا لالي) و (يامه يا ليا يا زرد خلخالي) و (هلوليا هلوليا عيني يا لينية).
وقد تبقى سالمة بإزالة تضعيف الياء، كما في لازمة من أغاني رقص السماح (مواليا يا مواليا والعشق غير حاليا). وقد تحذف الألف كما في طقطوقة (زوالف يابو الزلف عيني يا مواليا).
يا ليل في الغناء الفارسي:
انتقلت يا ليل إلى الغناء الفارسي بشكل (دلاي)، وكان لها هذا التحريف لتتلاقى مع لفظ ذي دلالة في الفارسية، ذلك أن (دلاي) كلمتان:(دل) بمعنى القلب و (أي) أداة نداء وهكذا تبوأ يا قلبي - وما أحلى هذا النداء - مكانه في الغناء الفارسي، حذو أمها (يا ليلي) في الغناء العربي، فتكرر كثيرا ولا تزال دولتها قائمة، وإن كان معاصرونا يقللون من تردادها. حدثنا بذلك موسى أفندي البهائي ابن أخي عبد البهاء في حفلة أقامها لنا الأستاذ ثابت عريس قنصل سورية بحيفا.
يا ليل في الغناء الكردي:
معظم الغناء الكردي من نوع الموال ولازمته التي تردد هي (لو لو وقد تقسم بين جزئي اللازمة (ده) الدالة على التكرار.
وليست لو لو من لو الكردية بمعنى (يا): أداة النداء، إنما هي عندنا تحريف (ليلي) على شكل ينسجم مع مدلول آخر في الكردية.
يردد المغنى الكردي (لو لو) كثيرا وكثيرا، ولقد عاب أحدهم كرديا بهذا الترديد الكثير الممل، فأجابه - وكنت أسمع -: جانم، وانتوليش بيقول: يا ليلي يا ليلي، فرد الحجر من حيث أتاه.
يا ليل في الغناء التركي:
وانتقلت إلى الغناء التركي، إلى ضرب من غنائهم المسمى (غزل) وهو ما يشبه الموال عند العرب لكنها تحرفت كثيرا، إذ كان مظهرها (ياري) أو (يارهي) يذكرنا بكامة (يار)
الفارسية بمعنى حبيب مذيلة (بأي) أو (هي) أداة الهتاف وكثيرا ما تلحق بأمان أمان.
وإذا لاحظت إمالة الراء في (ياري) وإمالة الهاء في (يارهي) بدا لك أن وزنهما وزن (يا ليل) الممالة واحدة.
هذا في نوع الغزل، أما ما عداه من الغناء التركي فقد استعملوا فيه (واره للي للي للي) حتى جاء منير نور الدين مغني أتاتورك فاستعمل هذه الأخيرة في المقامين: الغزل وغير الغزل.
وبمناسبة الغناء التركي ويا ليلي نورد لطيفة يتحدث بها أهل استنبول، تلك أنهم زعموا أن عربيا صحب شيطانا في سفر له من استنبول إلى بغداد، واقترح عليه أن يقطعا الطريق بالغناء على أن يركب صاحب الدور في الغناء ظهر صاحبه إلى أن ينتهي، فيؤول الدول إلى الثاني وهكذا.
ها هو ذا الشيطان على ظهر العربي وها هي ذي أغنيته تردد البراري صداها، حتى إذا ما انتهى نزل وكان الدور للعربي، فركب وأرسل الصوت بيا ليلي يا ليلي. . . قالوا بلغ بغداد ولم ينته من يا ليلي. . .
يا ليل في الغناء الأرمني:
تستعمل يار الفارسية في الغناء الغرامي المدعو عندهم (أشوغا كان) ونلاحظ التقارب اللفظي بين هذه الكلمة وكلمة (عشق) العربية.
وتستعمل (لو لو في هذا الضرب وتتجلى في أغنية (سيبانا كاجر) أي أبطال جبل سيبان، وهو قرب مدينة وان، وهذه الأغنية قديمة العهد، وشاعرها مجهول.
وقد تستعمل (لي لي) بالإمالة وهذه مستفيضة. وأن (لو لو) و (لي لي) كليهما لا مدلول لهما في الأرمنية.
يا ليل في الغناء القوقازي:
قبيلة غموق في داغستان تستعمل (دلاي) أو (دللاي) في ضرب من غنائها، يرددها المغني كثيراً، وقد ترددها الجوقة دون المغني، وهي لا مدلول لها عندها.
يا ليل في الغناء الديني ليهود حلب:
يهود حلب دون كل يهود العالم يحتفظون في تقاليدهم بكثير من التراث القديم، ولقد كتب لنا أن درسنا في مدراسهم اثنين وعشرين عاما، اطلعنا فيها على الكثير من دينهم ولغتهم وأساطيرهم وما إلى ذلك.
ومما نعرفه ونحن في صدد يا ليلي أنهم ينقلون النغم العربي إلى حفلاتهم الدينية الفرعية بألفاظ عبرانية تشابه جدا الألفاظ العربية كل هذا بتوخ وقصد، ولطالما سمعنا طلابنا الشادين يغنون (يه الي) بإمالة الهمزة، فهي على وزن يا ليلي، وهي قريبة اللفظ منها، ومعنى يه الي: الله إلهي، إذ أن (يه) المقطع الأول من يهوه.
يا ليل في الغناء الغربي:
يستعمل الغربيون عامة لدى تجسيد النغم (لي للي. . . لم) وظني أن هذه الألفاظ التي أهملتها معاجمهم هي من (ليلي) مقفاة بالميم المؤذنة بالوقفة، أو بأمد من السكوت يوحي بع إطباق الفم بها.
فإذا صح ما قدمته صح معه أن دولة يا ليل العربية تمتد من مراكش فشمال أفريقيا فجزيرة العرب ما خلا البادية فالعجم فتركية فأرمينية فالقوقاز فسائر أوروبا، ومن اصطبغ بمدنيتها من أمريكا وسائر المعمورة.
وعلى هذا الامتداد لا يكاد يدور دولاب الزمن نحواً من الدقيقة ألا يتموج الهواء بيا ليل نهار دون انقطاع، وهذا مجد ما بعده من مجد.
(تم البحث)
محمد خير الدين الأسدي
بكم تبيع؟!
للأديب الفاضل ثروت أباظه
كان اليوم يوم جمعة، والشتاء يرسل نذره لطيفة جيناً، عنيفة أحياناً، ولا عاصم من تلك النذر إلا الشمس ضحى لها حيث نتوقعها. . .
وبالجيزة قهوة توثقت الصلة بينها وبين الشمس: فهي دفء ونعيم ومنظر، لجأت إليها وحدي مترقباً صديقاً على موعد. . . جلست أنتظر فإذا رجل منتفخ الأوداج، غليظ الشفتين، حليق اللحية الشارب، أسمر الوجه ذو شعر لولبي يأبى على الطربوش أن يطمئن على الرأس، قصير القامة منبعج في امتلاء، يحاول أن يتأنق ما أتاح له جسمه ذلك، وقليلا ما يتيح. . . إنه عبد الشكور أفندي. . استغفر الله. . . بل عبد الشكور بك. . . ولم لا؟! ألم يهبط من عربة فخمة يقودها بنفسه؟! ألم يغد صاحب أملاك وعمارات. . . لا. . . إنه عبد الشكور بك. وباشا إذا لزم الأمر! كنا أعرفه معرفة قليلة، ويظهر أنه هو الآخر جاء على موعد، فهو يقصد إلى منضدة قريبة ولكنه حين يمر علي لم ينس هذه الانحناءة التي تحاول أن تكون أرستقراطية فيقف دون ذلك قوام أفقي! يفعلها على أي حال تمرين رياضة جسدية، على أنه إن لم تكن تحية ودية، ويقصد إلى المنضدة فيجد عليها رجلا أنيق الملبس، أشيب الفودين، طويل القامة، مليح القسمات، يقف ويسلم على عبد الشكور بك في حركات مهذبة رشيقة، ويجلس الرجلان؛ وأظل شاخصاً إليهما حتى يأتي صديقي ويسألني عمن أنظر إليه فأحدثه حديث عبد الشكور الذي كان كما سمعت بائع دقيق، ثم. . . ثم صار عبد الشكور (بك) منذ سنتين! فيؤكد لي هذه القالة ويخبرني أن الرجل الجالس إليه موظف كبير بوزارة. . . وأنه يتمتع بسمعة لا يحسد عليها. . . التفت إلي رفيي وقلت:
- أتعرف كلمة هذا العهد؟
- ماذا تقصد؟
- ألم تعلم يا صديقي أن لكل عهد كلمة تميزه من سائر العهود، كلمة يخلقها الجو العالمي وتنميها ألسنة الناس، كلمة عهدنا هذا: بكم تبيع؟. بكم تبيع شرفك؟! بكم تبيع كرامتك؟ وخلقك ماذا يساوي. .؟!) تسمع الآن هذه الأسئلة وتسمع بجانبها ناصحاً يقول للمسؤول: (قل! أخبره! إنه سيدفع) وآخر يقول للسائل: (أدفع! إنه سيبيع!) ولكل من الناصحين فائدته
من بذل هذه النصيحة. . .
- ولكن ألا ترى معي يا أخي أن هذا السؤال لا يعترض إلا صغار الموظفين والذين لا يملكون إلا القليل مما تصبو إليه نفوس السائلين، أما الغالب في كبار الموظفين فضمير كبير نماه احترام الموظفين الصغار.
- ضمير!! أنت تفهم مدلول هذه الكلمة، ولعل كبار الموظفين يفهمونه؛ ولكنه في نظر عبد الشكور شيء معوق يجب أن يزول. . فتراه حين يرى ثروة الرجل الكبير يعرف أن الضمير في هذه المرة غالي السعر قليلا فهو يبذل ويبذل حتى تخمد ثورة وتبدأ مفاوضة. . مفاوضة غير مقطوعة. . فالموظف الكبير لا يقبل الدخول في هذه المفاوضة إلا إذا كان السعر المبذول باهظاً والغني الجديد يعلم أن الضمير إن لم يكن بالسعر المفروض فهو بما يقاربه، وكأنني بابن الرومي قد رأى الشاري والبائع فأرسل هذين البيتين:
إن للحظ كيمياء إذا ما
…
مس كلباً أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء كما شا
…
ء متى شاء كائناً ما كانا
كلا الرجلين كلب من كلاب الحظ. . .
- هل تريدني أن أفهم العصامية والنشاط الاقتصادي مجرد كيمياء من الحظ. . لا يا أخي أنت مخطئ. إن عبد الشكور رجل عظيم أنتشل نفسه من وهدة الفقر فعمل وعمل حتى تسنم ذروة الغنى. أنا لا أفهم مطلقاً أن يشرع الكتاب أقلامهم لمحاربة قوم عملوا فربحوا. أنا لا أفهم. . .
- اسمع لي قليلا حتى تفهم. . . تقول إن الكتاب مخطئون حين يهاجمون هؤلاء. ولو لم أكن وثيق الصلة بك لأيقنت أنك لم تكن حياً في أيام الحرب، ولكن الغريب أنك كنت معي وكنا نتشاكى الغلاء معاً. . فلا شك أنك كنت حياً. .
العصامية - يا سيد - شيء نقدره - نحن الشرقيين - نقدره إذا كان عن طريق شريف. . والتاجر الذي يربح في السوق الشريفة يحتاج إلى لباقة وكياسة، وما دام يربح شريفاً فلا حاجة للربح الدنس، فهو يحتقر السوق الملوثة ويحاربها، عندنا من هؤلاء الشرفاء قلة ولكنها محترمة لأنها كانت في أمانة فوصلت. . هذه القلة لم تساعدها كيمياء الحظ مساعدتها لعبد الشكور، وإن كان لم يبخل على اجتهادها بقطرة. . ولكن ذلك العبد الشكور
الذي أصبح غنياً في سنة أو اثنتين لا نستطيع أن نجري غناه على سنن الشرف. . . وإلا فما أيسر الغنى وما أسهل أن تكون غنياً. . . والحقيقة أن هناك مانعاً بسيطاً يحول بينك وبين الغنى المفاجئ. . . أتدريه؟. . . إنه الضمير!! أنزعه من بين ضلوعك وأقذف به على سلم الفقر الذي تقف عليه تجد نفسك ارتقيت درجات الغنى بخفة وسرعة، ولكنه عنى رخيص
- ترى أبنفسك ترة تحفظها لعبد الشكور؟ أم إنها. . .؟!
- لا! إنها ترة كل مواطن استنزف عبد الشكور قوته وقت عياله. إنها ترة وطن ودين وخلق، وليس في هذا الكلام ما يشفي هذه الترة، ولكن هناك واجباً على الحكومة لا بد أن تقوم به.
- وبك ما ترى الحكومة فاعلة؟!
- كأنك لم تسمع! لقد سنت مشروع قانون تسألهم فيه (من أين لكم هذا؟) ولكن يظهر أن (بكم تبيع؟) أومضت فجأة في عيون الموظفين فمشى المشروع بنفسه إلى درجة من الأدراج ونام، وعلى الناس السلام. . . أريد من الحكومة أن تفتح الدرج وتوقظ مشروع القانون، أريدمنها أن تمنع الموظفين الكبار أن يسمعوا تلك الكلمة السامة التي إذا لن تصب الهدف في الرمية الأولى أصابته في الثاني أو في الثالثة. . . بكم تبيع؟!
ثروت أباظة
داود باشا ونهضة العراق الأدبية في القرن التاسع
عشر
للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
أعجب داود باشا بهذه الخريدة كل الإعجاب فأهدى إلى ناظمها إمامة قليون نفيسة فأنشد الشيخ طرباً:
إلى إمامة القليون وافت
…
فتاهت في محاسنها عيوني
من المولى المشير إلى المعالي
…
بأيد حطت الفضلاء دوني
فقبلها فمي ألفاً ونادى
…
مفاكهة لقوم يجهلوني
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع الإمامة تعرفوني
وقد مدحه بطرس كرامة بقصائد عديدة منها قوله:
وزير إذا ما سار في حلبة العلى
…
على مهل يأتي أمام ذوي الركض
هو البدر للمجد الرفيع وللندا
…
وللعلم والعليا هو الحكم المرضي
وذو الحزم والرأي السديد مؤيدٌ
…
بكل صواب ما يقول وما يمضي
مهيبٌ حليمٌ جهبذ متجلبب
…
من العلم والآداب بالشرف المحض
ومنها قوله:
إن البلاغة واليراعة
…
عند داود الوزير
وسمعت من ألفاظه
…
داود يلهج بالزبور
فكأنما آدابه
…
روض تنوع بالزهور
إن قال نظما خلته
…
بعقوده درر النحور
صدر العلوم وبدرها
…
بدر لكل ذوي الصدور
شهم إذا حضر النزا
…
ل يصول كالأسد الهصور
وقد مدحه أيضاً عبد الغفار الأخرس الشاعر العراقي الذائع الصيت بقصيدة أرسلها إلى الأستانة نقتطف منها هذه البيات:
بوادي الغضا للمالكية أربع
…
سقتها الحيا منا جفون وأدمع
ومرتع لهو كان للريم ملعباً
…
على أنه للضيغم الورد مصرع
إلى أن قال:
أراني مقيما بالعراق على ظمأ
…
ولا منهل للظامئين ومرتع
وكيف بورد الماء والماء آجن
…
يبل به هذا الغليل وينقع
لعل وما يجدي لعل وربما
…
غمائم غم أطبقت تتقشع
يعود زمان مرّ حلو مذاقه
…
وشمل أحبائي كما كان يجمع
وكنت إذا طاشت سهام قسيها
…
وقتنى الردى من صنع (داود) أدرع
فمن جوده أنى ربيت بجوده
…
وزير له الإحسان والجود أجمع
وردَّ شموس الفضل بعد غروبها
…
كما ردها من قبل ذلك يوشع
وقام له في كل منبر مدحة
…
خطيب من الأقلام بالفضل مصقع
ومستودع علم النبيين صدره
…
ولله سر في معاليه مودع
كأن ضياء الشمس فوق جبينه
…
على وجهه النور الإلهي يسفع
وزير ومرّ الحادثات تزيده
…
ثباتاً وحلماً فهو إذ ذاك أروع
(أبا حسن) هل أوبة بعد غيبة
…
فللبدر في الدنيا مغيب ومطلع
لئن خليت منك البلاد التي خلت
…
فلم يخل من ذكرى جميلك موضع
ففي كل أرضٍ من أياديك ديمة
…
وروض إذا ما أجدب الناس ممرع
يفيض الندى من راحتيك وإنها
…
حياض بنز الآمال منهن تكرع
وإني على خضب الزمان وجدبه
…
إليك وإن شط المزار لأهرع
ولو أنني وفقت للخير أصبحت
…
نياقي بأرض الروم تخدى وتسرع
وكان المترجم مكرماً ومحبوباً من الجميع لما كان يأتيه من العدالة والمساواة والإخاء، وقد مدحه الشيخ صالح التميمي وعدد مناقبه بقصيدة طويلة نثبت منها ما يلي:
زهت الرياض وغنت الأطيار
…
وزها المقام ورنَّت الأوتار
وصفا بها العيش الأنيق وروقت
…
فيها المياه وجادت الأمطار
وعلت على دوح الأراك حمائم
…
وتزاهرت بغنائها الأقمار
وزها بها ورد الاقاح ونرجس
…
وشقائق النعمان والأزهار
وبعد أن مكث في الآستانة مدة عيّنه السلطان عبد المجيد شيخاً على الحرم النبوي، وأرسله إلى المدينة المنورة عام 1260 هـ 1844 م، وهناك أكب على الدرس والمطالعة والتأليف والتعليم وهو شيخ، وقد أفاد أهل المدينة من وجوه كثيرة، وكان الغرض الذي ينشده هو أن يؤسس كلية إسلامية فقهية تكون بمثابة كعبة للعلوم الدينية يؤمها جميع الطلاب المسلمين من أقصى أطراف المعمور وذلك لإنارة أذهانهم وتوسيع نطاق معرفتهم بيد أن المنية أنشب أظفارها به قبل بلوغ المرام في سنة 1277 هـ 1851 م وقد عظم موته على جميع معارفه ومحبيه لما كان له من الدالة عليهم والمنزلة الرفيعة بين ظهرانيهم ودفن بحذاء مدفن عثمان بن عفان، وقد أوصى قبيل موته أن لا تبنى قبة على ضريحه بل أن ينصب شباكا من الحديد حول قبره ووقف في المدينة بستانه العامر المسمى بالداودية، وكان قد أرخ بناءه وغرس أشجاره الشيخ صالح التميمي بقصيدة عامرة الأبيات فأعجب بها الوزير غاية الإعجاب حتى أنقده ألف ريال، وكان رحمه الله ندي الكف للعلماء والشعراء والأدباء، وقد غمر الكثيرين منهم بالجوائز والصلات السنية مقتدياً بالخلفاء العباسيين الذين كانوا يسبغون العطاء على أرباب العلم والأدب.
ومما يجدر بنا أن نجعله مسك الختام لسيرة هذا العالم العامل هو إنشاؤه خزانة كتب في المدينة وقد جمع فيها طائفة كبيرة من التصانيف على اختلاف موضوعاتها وبينها مخطوطات عديدة، وإن أردنا أن نلم بكل الإصلاحات التي قام بها في بغداد والأستانة ضاق بنا المقام عن نشرها، ولما نعته الصحف رثاه شعراء عصره من عراقيين وسوريين بقصائد عددت مناقبه الحميدة وما كان له من الهمة الشماء واليد البيضاء في نشر العلم والأدب في الأقطار العربية. وقد جمع أحد أدباء بغداد كل القصائد التي نظمت في مدحه والثناء على عبقريته وهذا الكتاب لا يزال خطاً.
(بغداد)
رزوق عيسى
من مهرجان جامعة أدباء العروبة بالفيوم
إلى رياض الفيوم
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
منْ لِسارٍ إليك يطوي الصحارَى
…
هزَّه الشوقُ أن يزورَ فزَارا
عابراً كالطُّيوف، ولهْانَ كالأنْسام
…
هيمان كالأماني الحيارى
مُجْهَداً، علَّ في ظلالك مأوىً
…
قلقاً علَّ في رُباك قرارا
صادياً، علَّ في سرابك ماءً
…
ساهداً، علَّ في دجاكِ نهارا
يا جنان الفيوم، نازحُ أيْكِ
…
بان عن عشِّه إليكِ وطارا
قد خلا العش من رفيق صباه
…
فمتى تألفُ القطاةُ الهَزَارا؟
نسلتْ ريشَه الليالي طوالا
…
أترى تصبح الليالي قصارا؟
يعبرُ الليل في خداع الأماني
…
وتمنى آصالا الأسحارا
ويناغي دراريَ الليل حتى
…
تتوارى فيُشهدُ الأقمارا
ويناجي الصَّدى البعيد بعود
…
شدَّ أضلاعه به أوتارا
أتراه هنا سيمسي قريراً
…
في رياض الفيوم، طابت جوارا
يا عذارى الرياض من كلِّ شادٍ
…
أنا أشكو إلى العذارى العذارى
لست بالصادح الذي سئم الصدْ
…
ح وعاف الأسمار والسُّمارا
غير أن القيثار أغفى فمن ذا
…
غيرها موقظٌ ليَ القيثارا؟!
أنا أشْدُو لها جراحي شعراً
…
فعساها تُضمِّدُ الأشعارا
وعساها في جانب النيل تُصغي
…
لِنشيد يشعُّ نوراً وناراً
ذكرْتني هنا بحيرة قارو
…
نَ به والدجى يحوك الستارا
والشَّوادي من حولنا مرهفات
…
سمعَها تستبيننا الأسرارا
وأنا الشاعر الذي أطلق الرو
…
ح شراعاً يغالبُ التيَّارا
كيف أخشى من أن يضل شراعي
…
والجبين الوضَّاء أمسى منارا
والتي قد تخِذْتها مجدافي
…
خُصَلَ أُرسلتْ عليَّ نثارا
والشريدان يذهبان مع المو
…
ج يميناً، ويرجعان، يسارا
يقدّفان الأنفاس لفحَ سعير
…
ينسم الجو شعلة وأوارا. . .
وهتافاً في ضفة النيل يسري
…
مقلةً ثرةً، وقلباً مطارا
يا أحبَّايَ والديار تناءت
…
كيف أنسى أحبتي والديارا؟
لست أنسى ملاعبي والضفاف الخضر
…
تجري من تحتهنَّ نُضارا
لست أنسى بها مواثيق عشْنا
…
نتحدَّى بصدقها الأقدارا
لست أنسى ولا إخالك تنْسين
…
فحتى متى نُطيق انتظارا
قافلة الشعر
(مهداة إلى أدباء العروبة في الفيوم)
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
موكب للبيان فيه اللواءُ
…
يفرَع الدهرَ وخدُهُ، والحداءُ
ضاربٌ في صحرائها يسبق الركْ
…
بَ جلال من هدْيه، ورواءُ
مثلما يسبق الشعاعُ إذا ما
…
أعلن الصبحَ للوجود ذُكاءُ
الطريقَ الطريقَ: قافلة الشِّع
…
ر، وركبُ الوزير، والشعراءُ
لو تحسُّ البيداءُ من سار فيها
…
لتغنَّتْ من شجوها البيداءُ
شاعر في محرابه يُعبدُ الف
…
ن، وتستهدي ضوءه الأضواء
ذو بيانٍ لو عاقرته الندامى
…
لتناهتْ عن شربها الندماءُ
وهتوف يكاد يشرق في أل
…
حانه الخير، والمنى، والرجاء!
ومن الشعر ما يبشِّر بالرحم
…
ة دنيا طغى عليها الشقاءُ
ومن الشعر ما يعلمك الح
…
ق إذا موَّه الوجودَ الرياءُ
ربما استغنت الحياة عن العل
…
م إلى رغم ما أتى العلماءُ
وعلى الفن وحده عاش أجدا
…
دُك دهراً به سعداء!
إن من أطلقوا العقول علينا
…
لست تدري: أأحسنوا أم أساءوا؟
والذي ظنها تراباً، وماءً
…
هو - في نفسه - تراب، وماءُ!!
شدَّ ما تجنح الحياة إلى الرُّو
…
ح وإن كان في الطريق التواء
موكب للبيان فيه اللواءُ
…
ترصد الأرضُ وخدَه والسماءُ
فيه من طاقة البديع أفان
…
ينُ، وفيه البدال، والأدباء
(أجمعوا أمرهم عشاءً فلما
…
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء)
والوزير الضخم المبين مع الرك
…
ب دليلٌ برأيه يستضاء!
شخصت حوله النواظرُ حتى
…
قال: سيروا. . . فكان هذا اللقاء
وإذا نحن في رياضٍ من الشِّع
…
ر لها رونق، وفيها صفاء
طرق الشعر بابها، فإذا شع
…
ر يقول: ادخلوا. . وطلب الثواء
رحِمُ الفن. . .! والقرابة في الرو
…
ح وما كان بيننا غرباء. . .
فسبأنا راووقها وشربنا
…
من رحيق مُنغَّمٍ ما نشاء
وسقينا بجامه شعراءً
…
وسقينا أولئك الشعراء
من أديب يبلُّ قلب أديبٍ
…
وفصيح تحْفى به فصحاء
صلة وثَّقَ البيان عُراها
…
ونماها. . . فكلنا أقرباء
جمع الشعر بيننا في صعيد
…
ومن الشعر منسب وإخاء
في روضات الفيوم
للأستاذ العوضي الوكيل
حداّ الركبَ حاديه فأين مكانيا
…
أُبين من الأشواق ما كان خافيَا
على شفتي من خمرة الحب نشوة
…
تلهَّب ترنيمي بها وغنائيا
لنا ذكريات في الليالي بعيدة
…
ألا منْ يُعيد اليوم تلك اللياليا
أطلُّ عليها والسُّنون سائرٌ
…
وينفك قلبي شاخص الحس رانيا
لياليَ تطوي الليل، والصبح بعده
…
فيطويهما قولا، وأطويه صاغيا
وآخذُ أزْوادَ النشيد مَلاحماً
…
وأقبسُ أحلام الفؤاد معانيا
وقد زعموا لحْظَ الأحبة قاتلا
…
فما بالهُ قد كان للجرح شافيا؟!
وما يسْتتِيه القلب إلا هواتفٌ
…
تطيل على بُعدِ الزمان نجائِيا
فتأخذني منها خوَالفُ نشوة
…
ترى الزمن الماضي من العمر آتِيا
فأحيا على أني دنوْتُ من المنى
…
وما كنتُ لولا أن تذكرت دانيا
سقى الله في الفيُّوم روضات فتنة
…
ونضَّر فيها أربُعاً ومغانيا
تخيَّلتها معنىً فلما رأيتها
…
حسبتُ كأني جئتها اليوم ثانيا
فراديسُ: منضورٌ بها الظل والجنى
…
تألَّقُ نوَّاراً وتسحرُ شاديا
وأين السَّواق والنسيم يديرها
…
وإن كان خفّاقاً، وإن كان وانيا!
وأين الطيور البيض أَمسَّتْ بحيرة
…
ترامتْ على صدْر الفلاة ترامِيا
تسرُّ إلى الشطآن بالحب والهوى
…
وتوسِعُها فرطَ الغرام تناجيا
وتأخذ من روادها كل لهفة
…
فترسلها لحناً مع النسْمِ ساريا
سقى الله في الفيوم روضات فتنة
…
ونضَّرَ فيها أرُبعاً ومغانيا
هدانا إليها في السَّباسب طيبُها
…
على أن برْحَ الشوق قد كان هاديا
فجئنا لإخوانٍ كرامٍ وصحبة
…
سقوْنا من الود المطهر صافيا
إذا ما انتسبنا فالعروبة منسبٌ
…
طوانا كما يطوي القصيد القوافيا
بناءٌ على الأخلاق يُدعم أُسُّمه
…
وحسبك أن كان الدسوقيُّ بانيا
الأدب والفنّ في أسبُوع
الثقافة الروسية والشرق العربي:
إجابة لدعوة من الحكومة السوفيتية تسافر في هذا الأسبوع بعثتان ثقافيتان إلى روسيا، أحدهما من سوريا، والأخرى من لبنان، وسيقوم أعضاء هاتين البعثتين بزيارة أنحاء الاتحاد السوفيتي للوقوف على مظاهر النشاط الثقافي والعلمي هناك
هذا هو النبأ الذي أذاعته وكالات الأنباء البرقية، وهو نبأ يدل دلالة واضحة على ما تتجه إليه روسيا اتجاها جدياً واسع النطاق في الدعاية لثقافتها في الشرق العربي، ووصل عناصر هذه الثقافة واتجاهاتها بتفكير أبناء العروبة واتجاهاتهم العلمية والأدبية.
وإنها في الواقع لفرصة تنتهزها روسيا في الآونة الحاضرة، فقد مضت أحقاب طويلة والثقافة الروسية معزولة عن الشرق العربي بسد حصين أقامته السياسة والأوضاع الدولية، ففي القديم كانت روسيا هي العدو اللدود لتركيا، ولما كانت تركيا هي المسيطرة على الشرقي العربي يومذاك فقد كان أبناء هذا الشرق ينظرون إلى روسيا نظرة بغض وشحنا، فلم تستطع الثقافة الروسية من خلال هذا أن تنفذ إلى نفوسهم وتفكيرهم، وحاولت روسيا أن تتلافى هذا وأن تجد له الأسباب والوسائل فأنشأت فرعا للاستشراق والدراسات العربية والإسلامية بجامعة (بطرسبرج)، واستقدمت من الشرق العربي الأساتذة لتدريس العلوم العربية، وكان من هؤلاء الأساتذة الشيخ النشرتي والشيخ محمد عياد الطنطاوي من مصر، والسيد سليم نوفل من لبنان، ولكن هذا العمل كله كان ضعيف الأثر، ولم يعن أبناء الشرق بشيء من مآثر الثقافة الروسية واتجاهاتها إلا بما كان من مآثر الفيلسوف الروسي المشهور (تولستوي) لأنه جنح إلى حياة صوفية تلائم الروح الشرقية، ولأنه كتب كتابة طيبة عن النبي محمد صلوات الله عليه حمدها أبناء الشرق.
وبعد الحرب العالمية الأولى وقع الشرق العربي جميعه تحت سيطرة الإنجليز والفرنسيين، ونظراً للفكرة الشيوعية التي تمخضت عنها الثورة الروسية فقد قام هؤلاء بتحصين الشرق العربي تحصينا منيعاً أمام الثقافة الروسية وكل اتجاه روسي، ولم يكن يصل إلى الأقطار العربية من عناصر الثقافة الروسية إلا بضع قصص كانت تأتي عن طريق البريد الإنجليزي والفرنسي مؤداة باللغة الإنجليزية والفرنسية.
ولما قامت الحرب العالمية الأخيرة، وقضت تطوراتها بانضمام روسيا إلى الحلفاء، وجدت روسيا الفرصة السانحة للاتصال بالشرق العربي عن قرب؛ فتبادلت التمثيل السياسي مع دولة، وغمر طوفان الدعاية الروسية بلاده، وكان أن ظهرت في اللغة العربية ألوان كثيرة من الثقافة الروسية في شتى نواحي العلم والأدب والفن، وتعتبر سوريا ولبنان أفسح مجال لهذا النشاط اليوم.
فإذا كانت روسيا اليوم تستقدم البعوث من أبناء الشرق العربي للوقوف على مظاهر النشاط الثقافي في بلادها، وإذا كانت هي ترسل البعوث الثقافية من جانبها لارتياد الشرق، فذلك لأنها تريد أن تستغل الفرصة على أوسع مدى في إيجاد تيار للثقافة الروسية بالشرق العربي إلى جانب تيارات الثقافات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، وكل ما نرجو للشرق العربي أن يجد شخصية وذاتية في مهب هذه التيارات العنيفة.
الأدب العربي في القرن العشرين:
هذا عنوان كتاب أخرجه حديثاً المستشرق الروسي الشهير (يوليفتش كراتشكوفسكي) تناول فيه بالبحث والتحليل التيارات الأدبية في العالم العربي ومؤلفات الكتاب العرب البارزين، وعقد فصلا خاصاً للحديث عن الأدباء المصريين الذين أمتد تأثيرهم إلى العراق وسوريا والأقطار العربية المختلفة، وختم الكتاب بفصل مطول عن المؤلفات التي ظهرت لكتاب العرب في مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، كما تحدث في هذا الفصل عن قصائد الشعراء العرب في الموضوعات الحربية وما نظم منها خاصة في تمجيد بطولة (ستالينجراد).
و (كراتشكوفسكي) وثيق الصلة بالشرق العربي من قديم، وله صداقات كثيرة بعلماء العربية ورجال الأدب العربي، فقد قام برحلة طويلة إلى الأقطار العربية في عام 1908، فزار مكتباتها وتعرف برجالها، ونسخ كثيراً من المخطوطات النادرة، وهو الآن عضو في المجمع العلمي العربي بدمشق.
وقد نشر (كراتشكوفسكي) كثيراً من الآثار العربية النادرة بعد أن قام بتصحيحها واستكمالها، وفي عام 1930 ألف كتاباً خاصاً عن الشيخ عياد الطنطاوي الذي سافر من مصر لتدريس اللغة العربية في روسيا فعاش هناك من عام 1847 كتاباً عام 1861 وتوفي
ودفن هناك، وفي العام الماضي أخرج كتاباً طريفاً بعنوان (مع المخطوطات العربية) وقد تحدث فيه حديثاً قصصاً خلاباً عن رحلته إلى بلاد الشرق العربي وما وقع له من النوادر في البحث عن المخطوطات النادرة وما وفق إلى اكتشافه من هذه المخطوطات.
فالمستشرق (كراتشوفسكي) وثيق الصلة بالأدب العربي القديم والحديث، وقد عاصره عن قرب أكثر أربعين عاماً، فإذا ما تحدث عن (الأدب العربي في القرن العشرين) فلا شك أن حديثه حديث العالم الخبير.
المجمع العربي بدمشق:
يعتبر القسط الذي نهض به المجمع العلمي العربي بدمشق في خدمة التراث العربي وبعثه، قسطا واسع المدى محمود الأثر، فقد نشر هذا المجمع كثيرا من النوادر المطمورة، وجمع كثيراً من المخطوطات الغالية التي بعثرتها واستبدت بها أحداث الزمن عوادي الأيام، وكان آخر ما أخرج في هذه الناحية ديوان الشاعر أبن عنين الذي قام بتصحيحه وشرحه الشاعر الأديب خليل مردم بك الأمين العام للمجمع، ثم كتاب:(المستجاد من فعلات الأجواد) لعبد المحسن بن علي التنوخي وهو يشتمل على أخبار الأجواد ومآثرهم في الجاهلية والإسلام، وقد عنى بتصحيح هذا الكتاب وتحقيقه الأستاذ محمد كرد علي رئيس المجمع وعضو المجمع اللغوي بمصر.
ونحن إذ نشيد بأثر الجمع العلمي الدمشقي في هذا، فارجوا أن يحرص على تعميم آثاره ومطبوعاته في العالم العربي، وأن ييسر الحصول عليها لأبناء العربية، وذلك بإنشاء مكاتب فرعية له تقوم بعرض هذه الآثار في كل قطر، فإن كثيراً من الباحثين وأساتذة الجامعات والمعاهد وطلابها، يعييهم أن يحصلوا على آثاره ومطبوعاته.
الأخطل الصغير:
من أخبار بيروت أن الشاعر الكبير الأستاذ بشارة الخوري المعروف باسم (الأخطل الصغير) قد أعتزم ترشيح نفسه لعضوية مجلس النواب اللبناني في المعركة الانتخابية القادمة، وقد علقت إحدى الصحف البيروتية على هذا النبأ قائلة في سخرية خفية: (إن الأخطل الصغير سيرشح نفسه معتمداً على سمعته الأدبية، ورأس ماله في الشعر والأدب.
).
وأي غرابة بربكم أيها الناس في أن يكون الأدب طريقاً للنيابة ومرشحاً لها! أليس للأديب والشعر في خدمة الفن والثقافة وتهذيب العواطف الإنسانية، وما هو أجدى وأنفع من مال ضخم يملكه حيوان آدمي لا يرضيه إلا أن يمشي على الرؤوس والرقاب، وأن يحتل على كراسي النيابة أكبر فراغ بكرشه المدلى وأوداجه المنفوخة؟!
إن للأخطل الصغير مئات الأبيات التي تعمر أفئدة الآلاف من أبناء العروبة، وتردد ألسنتهم نبراتها ومقاطعها في شغف وسحر، ترى لو أن له بيتا أو بيتين يسكنهما الناس بالكراء، ويدران عليه وفير المال كان ذلك أجدى في نظر أولئك المستهزئين وكانت أصوات المتملقين ترتفع: يجب على (النيابة) أن تسعى إليه، وأن تركع عند قدميه.
لقد آن لنا أن نفهم أن (النيابة) رسالة إنسانية قبل كل شيء، رسالة قوامها العواطف المهذبة الشريفة، ويوم أن ترسخ هذه العقيدة في نفوسنا، سنرى أن أولى الناس بهذه الرسالة (الأخطل الصغير)، وإخوانه من الشعراء والأدباء وحملة المشاعل الإنسانية.
هذه السينما وهذا الفن:
(من أخلاق الصغار تقليد الكبار، فمن أخلاق الأمم الضعيفة الافتتان بكل ما يصدر عن الأمم القوية، ونحن كأمة ناشئة، ضعيفة، أخنى عليها الاستبداد طويلا، ورسفت في قيود الجمود قرونا، نميل إلى التقليد ونسعى إليه سعي المستميت، ولكن أغلب تقليدنا في القشور دون اللباب، وفي العرض لا في الجوهر). . .!!
(ولنخص بالقول هنا السينما، هذه الدنيا الزاخرة المواراة التي أقبلنا عليها إقبال الصادي على المنهل العذب، فلم تتقيد بواجب أو نحيط لمحذور، فكان من أثر هذه الشراهة وهذا التفريط أن أصيبت نفوس ناشئتنا العزيزة الغريرة ونسائنا الساذجات بعادات وخلائق ليس بينها وبين عاداتنا وخلاقنا الأصلية النبيلة أي ارتباط أو صلة، فهبط المستوى الخلقي والأدبي إلى حيث لا ينفع النصح والإرشاد. وإن تسعة وتسعين في المائة من هذا الهبوط والتدني قد جاءنا عن طريق هذه السينما اللعينة التي يعب عشاقها وروادها من شرورها ومساوئها ولا يستوحون منها غير ما يسمم العقول والنوازع لأن فكرة الأفلام لم تستوح إلا تملق غرائز الجماهير واستهواءهم).
(فماذا يمنع حكومتنا ووزارة الداخلية خاصة، أن تقلد الحكومات الراقية في فرض لجان من أهل الرأي والثقافة والغيرة لتراقب كل (فلم) ينقل إلى بلادنا، وماذا يمنعها أن تتقدم إلى أرباب صالات الصور المتحركة بأن يمنعوا القاصرين من أطفالنا، وكذلك الجنس اللطيف من غشياه دورهم إلا في عرض روايات خاصة تخلو مما لا يتفق والمدارك الساذجة والعفة المصونة؟! لماذا لا تعمد الحكومة إلى هذا؟ وإلى متى نحلل كل ما يسيء إلى أخلاقنا وآدابنا باسم الحرية الشخصية وباسم التمدين الحديث؟!)
قرأت هذه الكلمة لكاتب أديب في جريدة (القبس) السورية فقلت يظهر أن العلة شائعة في أقطار الشرق العربي في النكبة بتلك الأفلام التي يسمونها فناً، وما هي في الواقع إلا استهتار رخيص وتملق سافر لأحط الغرائز في الجماهير؟! وإن هذا الذي يقال في سوريا هو الذي يقال أيضا لحكومتنا في مصر. فأن الأفلام السينمائية التي تعرض في مصر والشرق لم تعد بحال من الأحوال أداة للثقافة وتهذيب العواطف، بل إنها عدوة لكل ثقافة وتهذيب، ومعول مسلط على أخلاقنا وتقاليدنا وقوميتنا، سواء في ذلك الأفلام المحلية أو الوافدة من الخارج، ولقد بحت الأصوات في الإهاب بالمسؤولين أن يفزعوا لهذا الخطر ولكن القائمين بتلك الأفلام يملكون من المال ما يغري، ويقدمون من الوسائل ما يحطم كل رقابة. . . وهيهات!!
(الجاحظ)
البريد الأدبي
الكتاب المريب:
مجلة (المقتطف) من المجلات العزيزة على كل مثقف، يعرف تاريخها المجيد، وتقاليدها العلمية النبيلة ولكنها - مع الأسف - تعاني في هذه الأيام أزمة قاتلة من هذه الناحية، كما أنها تحتضر وتوشك على البوار. وذلك من جراء إشراف الأستاذ إسماعيل مظهر عليها، بعد ما كان يشرف عليها من قبل من يعرفون كيف يحافظون على تلك التقاليد.
ولقد كان من أول هذه التقاليد ألا تشتم الناس، وألا تهاتر مهاترات الوريقات الرخيصة، فجاء الأستاذ مظهر يحيد بها عن منهجها، ويقودها إلى الموت الوشيك الذي يأسف له كل من أحبوا هذه المجلة في تاريخها الطويل. أولئك الذين يرجون الله أن يقيض لها من ينتشلها من وهدتها، فلا تصير إلى ما صارت إليه (مجلة العصور) على يد الأستاذ رئيس التحرير!
ولقد سمح الأستاذ مظهر أن ينشر في العدد الأخير من المقتطف شتيمة واطية لجميع من تعرضوا لنقد ذلك الكتاب المريب: (الأغلال) ومن بينهم كاتب هذه السطور. وسواء كان هذا الذي نشر من قلمه، وقد أخزى أن يوقعه، فرمز إلى نفسه بتوقيع (مسلم حر). أو كان بقلم ذلك الرجل المريب صاحب الكتاب - كما يبدو - فإن الأستاذ مظهر هو المسؤول عن تمريغ المقتطف في هذا الوحل.
وكل ما قاله كلام مضحك. وهو منشور في مجلة محتضرة - بفضل رئيس التحرير - فلأعد له نشره في مجلة يقرؤها الناس، فلعل هذا يرضيه، ولعله كذلك يضحك القراء.
قال الرجل المريب أو قال رئيس التحرير:
(وثمة خصم ثالث لهذا الكتاب. وهو رجل يتعاطى صناعة الأدب الصناعي؛ ولكن مقاومته لهذا الكتاب، والأسلوب الذي اختاره للمقاومة، كانا برهانين على براءته من كل صلة بالأدب بكل معانيه ومبانيه).
أفادكم الله يا مولانا!!!
لقد انتهى (سيد قطب)، فما عاد له في عالم الأدب وجود، بعد هذا الكلام المفيد. فلا حول ولا قوة إلا بالله!
أما بعد، فذلك الكتاب المريب قد انتهى. واسأل يا مولانا من شئت من الناس، فستعلم صدق هذا الذي أقول. انتهى لا لأنني كتبت عنه كلمة أو أكثر. ولكن لأنني (كشفت) فقط عن مدى (نظافته) وعن جراثيم الفناء فيه!
ولست - بعد هذا - أوافق على إيصال الأذى الشخصي لصاحبه، كما اقترح بعض النجديين والمصريين، فهو وصاحبه أهون من ذلك جدا. وليس الإيذاء الشخصي علاجا وأنا أكره مصادرة حرية الناس الفكرية، ولو كان الذي يكتبونه تفح منه روائح غير نظيفة فالموت الأدبي الذي لقيه الكتاب وصاحبه يكفي، مل لم تثبت على الرجل جريمة أخرى غير نظيفة يتناولها القانون العادي، وإني لأحسبه أحرص من أن يترك أدلة مادية!
أما أنت يا أستاذ مظهر - وأنا أسميك باسمك ولقبك ولا أشير إليك كما أشرت إلى، لأن الأدب الواجب يحتم على الناس المؤدبين ذلك - أما أنت فأنا شديد الرثاء لك.
إنني أعلم تلك العقدة النفسية التي توجهك. إنها عقدة الفشل، الفشل في كل مشروع هممت به. وأنت تعزو إلى رجال الدين تبعة هذا الفشل في حياتك. . . فكل شتم للدين ورجاله يغذي هذه العقيدة فيك. فلا تسأل بعدها إن كان نظيفا أو غير نظيف، محقا أو غير محق. ومن هنا تعصبك لكاتب مريب وكتاب غير نظيف، وأنت في هذا تستحق المرثية، فالكاتب لا يحارب الدين وحده، ولكنه ينعى على كل خلق نظيف، ويسمى الضمير والخلق والمروءة وما إليها (أغلالا)، ثم يهدف إلى إخضاعنا الدائم للمستعمرين. والناس يعرفون من ماضي الرجل وتاريخه ما يخزي، ويعرفون ما لا أستطيع نشره لأنه يقع تحت طائلة القانون، وأنت مندفع مع عقدتك النفسية. فالله يرحمك ويرحم المقتطف والسلام.
سيد قطب
كلمة في بيت:
قرأت كلمة الأستاذ محمد أحمد عيد في عدد الرسالة (707) تصحيحاً لخطأ وقعت فيه في نص قول الشاعر: (فقالت من أي الناس أنت؟ ومن تكن؟) إذ جعلت: (من تكن) استفهاماً وهو شرط، كأنه قال:(ومهما تكن، فإنك راعي صرامة لا يزينها). والبيت بهذا التصحيح أدق معنى وأبلغ في سياقه العاطفة التي أوحت بالشعر. ويكون قولي في شرحه أيضاً خطأ.
وأنا لا أزال أشكر الأخ الكريم على حسن تسديده للمخطئ، وكمال أدبه في دقة القراءة. وقد أحسن إلي من حيث أساء غيره ممن جعلهم الله على مدرجة المثل الذي جرى على لسان الأوائل، والذي وضعوه لمن يضع نفسه حيث لا يستأهل، وهو قولهم:(متى كان حكم الله في كرب النخل!!).
على أني أحب أن أقول قولا آخر أخشى أن يكون له وجه وإن كنت أوثر هنا القول الأول، وهو أن الفعل ككثير من الأفعال التي كثر استعمالها، قد تلعب به العرب لكثرة دورانه على ألسنتها، حتى حذفوا منه الحرف الذي لا يحذف من أمثاله كقولهم (لم يك) في (لم يكن) وهو حرف من نفس الفعل. فلست أرى ما يمنع هذه العرب الجرئية الألسنة، أن تعلب به في الاستفهام في قولك:(من تكون؟) فإنها إذا وقفت عليه كما تقف على قولك: (من تعرف؟) وهي تنوي الرفع، فيكون عندئذ (من تكون؟) فتحذف أضعف أحرفه لالتقاء الساكنين فتقول:(من تكن؟) في الاستفهام أيضاً. وقد فعلت العرب مثل ذلك في وقولك: (لم أبال) فتوهمت الوقف على حرف لا وقف فيه لأن أصله (أبالي) المكسورة اللام من نفس الفعل بعد حذف الياء للجزم، فكانت عندها:(لم أبال) فحذفت الحرف المستضعف في الكلمة وهو ألف العلة وقالت: (لم أٌبل)، واعتمدت ذلك وجرت عليه في غير الوقف.
وكالذي روى عنهم أيضا (رواه سيبويه وغيره) من قولهم (لا أدر) فحذفوا الياء لكثرة استعمالهم له كقولهم: لم أبل ولم يك. قال أبن سيده ونظيره ما حكاه اللحياني عن الكسائي: أقبل يضربه لا بآل، مضموم اللام بلا واو. وقال الأزهري ربما حذفوا الياء من قولهم:(لا أدرِ) في موضع: (لا أدري)، يكتفون بالكسرة منها، كقوله تعالى:(والليل إذا يسرِ) والأصل يسرى. وقال الجوهري بمثل الذي قال به سيبويه أيضا في تأويل الحذف في (لا أدر). وهناك شواهد أخرى لا خير في الإطالة بذكرها.
فهذا رأى عسى أن يكون فيه وجه من الحق، ودلالة على مقطع من مقاطع الصواب. فإن العرب أجرأ على لغتها وأعرف بها وبما ينبغي لها وما لا ينبغي. ولولا ما تبعثر من ذخائر الذاكرة لاعتمدت هذا الرأي بشاهد آخر في هذا الحرف بعينه، كان مر بي فأنسيته. ولعل الأخ يجعل باله إليه عسى أن يجده أو يقع له.
محمود محمد شاكر
طريق الهجرة النبوية:
كتب الأستاذ محمد عبد الوهاب فايد في الرسالة الغراء كلمة وجيزة نقل فيها عن (عيون الأثر) و (مجمع الزوائد) أسماء الأماكن والمواضع التي مر بها ذلك الداعي الكريم محمد العظيم عليه الصلاة والتسليم، أثناء هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ وهو بهذه الكلمة يشارك في تحقيق ذلك المقصد الجليل وهو تحقيق المواضع التاريخية وتحديد مواضعها؛ ولكني ألاحظ أن مجرد سرد هذه السناء في الكتاب أو المقالات، لا يغني كثيرا، فنحن نعرف سلسلة طويلة من هذه الأسماء، ولكنا لو طولبنا بتوضيحها على الخريطة الجغرافية، أو أردنا العثور عليها في مواضعها الحسية، لما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولذلك أرى فيما يتعلق بتحديد هذه المواضع، ومقابلة أسمائها بمواقعها من البسيطة، أن تنصرف جهود الباحثين والمؤرخين والعارفين إلى تحقيق (المصورات الجغرافية) التي يوضحون عليها مواقع هذه الأسماء، وإلى تنظيم الرحلات العلمية إلى هذه المواقع ليصفوا لنا حاضرها، أو ما أصابها من تغيير بمرور الزمان، وتتابع الحدثان.
ويسرني أن أزف إلى قراء الرسالة الغراء بشرى طيبة، وهي أن الأستاذ المفضل الشيخ محمود السيد الحمصاني - هو مدرس بمدرسة التعاون الإنساني بدمنهور، وقد شاب في سبيل الله والوطن والتاريخ، وضحى بالكثير من ماله وأعصابه قد حقق مواضع القرى والآبار والأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته، وأفنى في ذلك سنوات قضاها في الرحلة والبحث والضبط والاستقصاء، ورسم بيده خريطة جليلة مضبوطة سماها (خريطة الهجرة النبوية)؛ وأبان فيها جميع هذه الأماكن، وعلق عليها بقوله:(ليست خريطة الهجرة مجرد شكل يفرح المتأمل لرؤيته، ولكنها إرشاد يوحي بأمجد ذكرى لأكبر حادث في تاريخ البشر، تغير له وجه الأرض بظهور نور الإسلام على سائر الأديان، فما كاد صلى الله عليه وسلم يخطو في طريق هجرته حتى بدأت الدنيا تتقلقل، كأنما مر بقدميه على مركز الأرض فحركها، وكانت خطواته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ، وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين الشرق والغرب)!!. . .
وعندي أنه يجب - تقديراً لمجهود الأستاذ محمود الحمصاني، وتشجيعاً لغيره من الباحثين
على متابعة التحقيق والضبط - أن تطبع هذه الخريطة، بالملايين، وتوزع على تلاميذ المدارس وطلبة المعاهد، ليستفيدوا منها تاريخيا وجغرافيا، حتى يتسع أفقنا التاريخي، ونحيط علما بأجزاء وطننا الأكبر، وسيرة رسولنا الأعظم.
وبمناسبة هذه الكلمة أذكر أن للأستاذ الحمصاني خريطة ثانية وضح فيها (مناسك الحج)، وخريطة ثالثة وضح فيها مشروعا (لتيسير الحج) عن طريق (رأس بناس) الواقع على ساحل البحر الأحمر، وهو مشروع يجعل الوصول إلى مكة ميسورا في ثلاثة أيام بالسفر الطبيعي، ولذلك المشروع الجليل حديث مفصل قد عرضه صاحبه في مذكرة مطبوعة يرحب بكل من يطلبها منه، فجزى الله العاملين!!. . .
أحمد الشرباصي
المدرس بمعهد الزقازيق الثانوي
من الأستاذ محمود تيمور بك إلى مؤلف (نهاية الطريق):
تحيات خالصة مشفوعة بجزيل الشكر على هديتكم النفيسة (نهاية الطريق) وإني أتقدم إليكم بتهنئتي الصادقة على توفيقكم في هذه المجموعة الفريدة التي راعني فيها طلاوة أسلوبها وما فيه من عذوبة وسلاسة، وما حوته في تضاعيفها من معان طريفة، وخواطر جديرة بالتقدير والإعجاب.
ولا ريب في أنكم بهذه الباكورة الأديبة قد قفزتم قفزة ملحوظة في ميدان الأدب دلت على ما أنتم عليه نبوغ وتفوق في كتابة القصة الحديثة، فأكرر لكم تهنئتي، وأرجو لكم دوام التوفيق، شاكر لكم حسن عواطفكم وجميل التفاتكم.
وتقبلوا خالص مودتي ووافر احترامي.
محمود تيمور
القصص
غرامي الأول:
لذة الحب لحظة. .
للكاتب الفرنسي موريس دوناي
ترجمة المرحوم الأستاذ يونس السبعاوي
سأحدثكم عن حبي في أيام شبابي منذ نصف قرن مضى. ومالي لا أعيد تلك الصفحات وأنا أرى هذا الشباب الجديد سابحاً في عالم بعيد عن الشعر والخيال؟. . .
ومن حقه أن يكون كما تراه، فهو في زمن أزمات وضيق سدت في وجهه أبواب الأمل ونشرت على خطواته ظلام اليأس فلم يأمن على المستقبل ولم يطمئن إلى الغد.
منذ نصف قرن مضى كان العهد عهد خيال، وكان للنساء في أفكارنا وتصوراتنا مقام غير مقامهن في هذه الأيام، ولقد قرأنا الكثير من روايات الغرام، وكان أدبنا كما قال عنه (بركسون) شواني الاتجاه. فلا تقرأ فيه إلا ما يحدثك عن الحب والنساء.
عرفت إنجيل فكانت يوم عرفتها فتاة في الثامنة عشرة ولكنها جمعت نضوج النساء ودل وضعها على أن لها ماضياً ما حاولت أن أسألها عنه. وكانت تعمل في أحد محال الأزياء وتعيش مع أبوين فقيرين من عامة الناس. ولقد طالما سألت نفسي كيف استطاع هذان الأبوان البسيطان أن يلدا هذه الحسناء البارعة الجمال! فقد كانت تمثل في امتشاق قامتها واعتدال جسمها واتساق حركاتها نضرة الربيع فتفتن الناظرين بيدين ورجلين طويلة ناعمة وبشعر أصفر ذهبي وأنف صغير وعينين كبيرتين.
رأيتها لأول مرة في ثوب فتان وتحدثت إليها فلم أر منها ازوراراً عن أحاديث الأدب، وهي وإن لم تكن بارعة الثقافة فإن لها إلماماً بكل ما يتيسر لواحدة من طبقتها من العلوم. فكنت أنظم فيها الشعر فتقرأه وتلحن، وماذا يضيرني أن تلحن إنجيل وهناك كثير من الفتيات يقرأن الشعر أحسن قراءة فلا يجدن من يقول فيهن شعراً! وكانت تهوى الفن وملاعب الفنانين وتحب الموسيقى والشعر والرسم فتحب معها الموسيقيين والشعراء والرسامين، ولكنها تفضل الأخيرين لأن هذه الحسناء المفتونة بحسنها يعجبها أن ترى
رسمها في صورة رسام أكثر مما تراه في أبيات شاعر أو أنغام موسيقى.
وكان لي أصدقاء من الموسيقيين والشعراء والرسامين فعرفتها بهم وأنا فخور، ولكن الغرور قرين الرعونة كما يقولون. . .
وكانت في أول أيام تعارفنا لا تعرف غير الأناشيد القديمة تعلمتها من روايات سخيفة فتنشدها بصوتها الهادئ الحزين فتخرج على تفاهتها حاملة للسامع كل معاني الحزن والألم، فأخذت بعد حين تحدثني عن أحدث الأناشيد وتنشد ما لم أكن قد سمعته، وأصبح صوتها شيئاً آخر غير ذلك الصوت الهادئ الحزين. وقد راعني هاذ منها ولكني لم اسألها عمن علمها هذا الغناء الجديد.
وسارت إنجيل على هذا المنوال فأصبحت تقرأ أحدث الروايات وولعت ببعض الكتاب دون أن أدلها عليهم، فأخذت أتلمس فيها تغيراً ورقياً كنت أعزوهما لتأثيري عليها فأزداد تيهاً.
ثم أصبحت تتغيب عن مواعيدي كثيراً. ولقد طالما انتظرتها حتى إذا ما دنت ساعة اللقاء جاءني منها كتابها الأزرق الصغير الذي أعرف خطها في عنوانه فأفتحه بقلب واجف وأقرأ ما فيه بهلع لأنتهي منه فأعرف ما كنت أخشاه، وهو أني حرمت متعتي في ذلك المساء فتنتابني الهموم وتساورني الشكوك فأسأل نفسي أين هي الآن؟ وماذا تعمل؟ وأكثر من هذه الأسئلة التي طالما رددها المحبون المظلومون وسألوا فيها عن أحبابهم الغائبين. وأعود إلى غرفتي فأجلس في مقعدها الوحيد ثم أحذ كتاباً فأحاول أن أقرأ فيه ولكن الأفكار تساورني من جديد فأسأل نفسي أين هي الآن؟ وماذا تعمل؟
ولقد ولعت من أيام الدراسة بالفريد دي موسيه فحفظت له (الليالي) عن ظهر قلب، وعودت قلبي على احتمال الآلام فكنت أذكر لقاءنا الأول وأيام حبنا الأولى فتأخذني الأفكار وتمر الساعات وتكون الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهكذا أقضي ليلة الفرح المنتظر في ترح وشجون وأبيت حليف الآلام والهموم.
وكان لي صديق ظريف كنت أتحدث إليه ذات يوم عن الحب والنساء فبادرني بهذا السؤال:
- أتجتمع كثيراً بإنجيل؟
- أجتمع بها ولكن أقل مما أريد.
- وهل تحبها؟
- وكيف لا؟
- وهل تحبك؟
- ومن يعرف حقيقة قلوب النساء؟ ولكن أعتقد إنها تحبني.
- وهل أنت واثق من إخلاصها لك؟
وسكت عند هذا السؤال وسكت معه طويلا، وكنت أعرف في هذا الصديق ميلا إلى المزح والنكتة، فأخذت أحدق فيه عسى أن المح علامات المزح فيما يقول فوجدت أثر الجد ظاهراً عليه ففار دمي وزاد ألمي؟ وأحس بهذا مني فأراد التراجع قائلا: إنه لم يقصد شيئاً بما قال. فألححت عليه أن يبوح بما يسر لأني أريد أن أعرف الحقيقة، فقد أصبحت من شهور رهين الوساوس والشكوك، وإن الذي ينقذني من هذه الشكوك يسدي إليّ جميلاً لا أنساه مدى الحياة.
فقال على عادته في المزح: تقصد أنك لا تنسى له هذه الإساءة ما دمت حياً. فقلت له: إنك لا تعرفني جيداً وإن عليك أن تبوح لي بكل ما تعرف.
وهنا أخذت أصف له آلامي وصفاً صادقاً. فرق لحالي وحمله قلبه الطيب أن ينير الطريق أمام هذا الصديق الأعمى؛ فراح يصف لي خيانتها وتعلقها الآن بصديق من أصدقائنا لا يخلو من الرقة على ضخامته.
والواقع أني لم تدهشني هذه الأخبار فقد أعددت لها نفسي من زمن فأشبعت رغبتي في معرفة أحوال إنجيل، ولم يكذبني صديقي فيما قال فقد سألتها أول مرة رأيتها فيها بعد هذا الحادث وطلبت منها أن تفصح لي عن الحقيقة فإذا بها تثور ثورة الملكة المغضبة وتركتني بلا كلام ولا سلام.
فعدت لنفسي وقلت إني قد أكون مخطئاً في حكمي، وإن من الخير لي أن أعرف الخبر اليقين من صديقها الجديد. فعثرت عليه في ليلة حالكة من ليالي الشتاء ودام بيننا الحديث ساعة أو يزيد وكنت أكلم هذا المنافس السعيد بصراحة تامة أملاً أن يصارحني بمثلها ولكنه أخذ يفند ما اتهمته به ويقسم أنه لا يعرف شيئاً مما قلت، وإن علاقته بإنجيل صداقة لا
غير، ولكن اضطرابه واحمراره ومغالاته في التظاهر بالبراءة حملتني على الاعتقاد بأنه يكذب فيما يقول.