المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 709 - بتاريخ: 03 - 02 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٠٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 709

- بتاريخ: 03 - 02 - 1947

ص: -1

‌أولياء. . . وأعداء

حياك الله يا سوريا! ورعاك الله يا لبنان! لشد ما قضيتما حق الاخوة، وبيضتما وجه العروبة! آسيتمانا حين صرح البغي عن محضه، وحسر الباغي عن قناعه؛ وآزرتما النيل حين صمم أن يدافع عن حوضه، وأن يعبئ كل القوى في دفاعه.

أما شرق الأردن ففيه جلوب؛ اما العراق ففيه كرونواليس! والرجلان رجلان من أرجل الأخطبوط الضخم الذي آمن الحوت فسيطر الحوت فسيطر على معظم الماء واكثر اليبس. ورجل الأخطبوط ختم على أفواه الساسة؛ يوضع بحذر، ويرفع بقدر. ولطالما كابد ساستنا مشقة هذا الختم أيام كانوا للأخطبوط أرقاء وأصدقاء!

والاستعمار - كشف الله عنا ضره - على الأفواه كمامة، وعلى العيون غمامة، وعلى الأذان حجاب، وفي الأعناق غل. ولكن الأمم العربية التي تستمد غذائها الروحي من عقيدة الإسلام، وآداب العرب، وتاريخ الفتوح، وحضارة الرشيد، وثقافة المأمون، لا يسعها إلا أن تخالف الرؤساء والزعماء لتتفق في الشعور، وتتحد في الوجهة، وتتعاطف في المكروه، وتتناصر في الشدة. ولن تكون هذه العقارب التي يبسها الأخطبوط على دعاة الوحدة العربية إلا طعمة للنار المقدسة التي يشبها شباب العرب لتذيب الغش وتنفي الخبث وتكشف عن المعدن الصحيح.

برح الخفاء ونصل صبغ الرياء عن طبع إنجلترا فبدا على لونه الأصيل من خبث العنصر ولؤم الفطرة. واصبح الأمر بيننا وبينها في ذمة مجلس الأمن، وهو الجهة التي زعموها موئل الحق ومثابة العدالة. فهل كان يظن جون بول ان مصر التي ظل خمساً وستين سنة يتصرف في حكومتها وشعبها تصرف الراعي في القطيع، تقف منه موقف الند من الند من مجلس القضاء الأممي تدمغ باطله بالحق، وتدحض مراءه بالمنطق؟ الحق أن صرح الإمبراطورية يوشك أن ينهار ما دام أمرها قد انتهى إلى سلطان العدل. وهل هي إلا بنيان شاهق من الزور المتراكم والظلم المتراكم يسنده دعامتان من دهاء السياسة وضخامة الأسطول؟ على أن الدهاء قد فضحته يقظة الناس، والأسطول قد نسفته طاقة الذرة. فماذا بقى لسيدة البحار؟ ان إنجلترا غنية بغيرها، فلا تستغني بنفسها إلا يوم تروض حلوقها ثانية على ازدراد القواقع والسمك. والرجل الذي يعيش على الناس يكون مع القوة لصاً يسلب، ومع الضعف متسولاً يستجدي. وقد زالت وسائل اللصوصية عن إنجلترا باستيقاظ الوعي

ص: 1

في الأمم المستعمرة، وانخزال السلاح البحري عن الأسلحة الحديثة، والتجاء الدول إلى تحكيم القانون فرقاً من المدمرات الخفية، فلن يبقى لها إذن غير التسول بالمفاوضة، والتعلل بالمعارضة، والتسلل إلى البلاد في ثياب الخونة من طلاب الملك أو الحكم أو المال، كما تتسلل الجراثيم إلى الأجساد على أرجل الذباب وأفواه الكلاب وأجسام الفأرة! فإذا عرفنا نقلة الجراثيم عرفنا مصدر الوباء، وإذا أمنا دسائس الخصم أمنا جور القضاء.

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌أفراح الحياة وآلامها

للأستاذ عباس محمود العقاد

تلقيت من بغداد رسالة لصاحب التوقيع الفاضل جاء فيها: (. . . بينما كنت اقلب هذا السفر الحليل - يسألونك - وجدتني اقف أمام جملة في تعقيبكم على كتاب - مع أبي العلاء في سجنه - وهي:

(. . . ما زلت اعقد وازداد مع الأيام اعتقاداً أن بغض الحياة اسهل من حب الحياة، وان الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة اعم وأشيع واقرب غوراً من أدوات النفس لتي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى فالفرح اعمق من الحزن في رأيي ولا مراء. أما الفرح فهو القدرة والانتصار)

فهلا تفضل سيدي بشرح هذه العبارة. . . الخ.

الكاظمية

جعفر آل ياسين

والموضوع يستحق التفصيل؛ لأننا في الشرق لا نزال قادرين على الحزن عاجزين عن الفرح أو قادرين على التشاؤم عاجزين عن التفاؤل. وربما كن فرضاً اقرب إلى السلوب منه إلى الثبوت. فكثير من أفراحنا ناشئ من قلة الفكر وقلة المبالاة، وقليل منها ناشئ من فهم أسباب الكمال ومعارض الجمال في هذه الحياة.

والألم اسهل من السرور لأن أدوات الألم ميسرة للطفل والجاهل مقصورة على الإنسان.

وأدوات الألم هي الحواس الجسدية، وهي كافية لإشعار صاحبها بجميع المؤلمات والأوجاع التي يشتمل عليها عالم الحس المتسع لجميع الأحياء، ومنها الإنسان.

كل حي يستطيع أن يشعر بشوكة الوردة. لأن الشعور بها لا يحتاج إلى اكثر من جلد وأعصاب.

ولكن الجلد والأعصاب لا تكفي للشعور بجمال الوردة ونضرتها ومعاني الصباحة والحسن التي تتراءى بها للعيون والأذواق، وتتمثل بها فبعالم الخيال.

وكل حي يستطيع أن يرى ظواهر الأشياء ويسمع ظواهر الأصوات فإذا دخل هذا الحي

ص: 3

دار الآثار أو دار الفنون الموسيقية رأى وسمع كلما يرى بالعيون ويسمع بالآذان. ولم يجد في ما رآه أو سمعه مدعاة للسرور أو مدعاة إلى تكرار الزيارة باختياره.

ولكن إذا ملك من أدوات النفس فوق حاستي البصر والسمع - وهي حاسة الذوق - عرف مواضع الفرح فيما رآه وسمعه. ونظر في دار الآثار إلى جمال الصناعة ودلالة المعاني التاريخية الخالدة، وسمع في دار الفنون الموسيقية آيات التعبير المنسق وأسرار العاطفة الخفية التي تترجم عن نفسها بلغة الألحان.

كل إنسان يستطيع أن يخسر في الحياة، لأن الخسارة فيها مضمونة للعاجز الذي لا يحسن الفهم ولا يحسن العمل. فكل عاجز (قادر) على أن يأخذ نصيبه من خسائر الحياة بغير عناء، وقادر على أن يأخذ الألم مع الخسارة، لأنه يأتي معها بغير دعوة!

ولكن القدرة على الانتصار في الحياة لا تشيع بين الناس شيوع العجز والقصور.

نعم إن القادرين قد يخسرون والعاجزين قد يكسبون. ولكن هذا لا ينفي الحقيقة التي يعرفها القادرون والعاجزون وهي أن القدرة اندر من العجز وأن أدوات العجز ميسرة للأكثرين وأدوات القدرة لا تتيسر لغير القليل.

كل إنسان يستطيع أن يجد في تمثال المرمر وسيلة إلى الألم، لأنه يحصل على الألم بصدمة في الرأس، والقدم. ولكنه لا يحصل على السرور الذي يوحي به التمثيل إلا إذا أدرك محاسن الفنون وعرف صاحب التمثال وما عمله في حياته وما استحق به هذا التخليد بين قومه وقادري فضله وجهاده.

ولا يعنينا هنا أن تكون الأفراح في الحياة اكثر من الآلام أو تكون الآلام اكثر من الأفراح.

وإنما يعنينا أن أدوات الألم ميسرة للأكثرين، وأن الأفراح التي تحتاج إلى فهم غير فهم الظواهر حقيقة مقررة لا يدركها غير القليل.

وصحيح أن النفس إذا ارتفعت شعرت بآلام لا تشعر بها النفوس الوضيعة وأدركت مواطن للشر لا تدركها الطبائع المغلغلة والضمائر العمياء؛ ولكن هذا لا يغير الحقيقة التي أسلفناها! وهي أن الألم في جملته لا يحتاج إلى أدوات نادرة بين الأحياء، وأن كثيراً من المخلوقات تستطيع أن تتألم وهي في المرتبة الدنيا من مراتب الحياة، ولا تستطيع أن تفرح إلا إذا توافرت لها صفة (وجوبية) غير مسلوبة، وهي على الأقل صفة الصحة واعتدال المزاج.

ص: 4

ونعمم هذه الحقيقة فنقول إن المؤلمات سلوب وأن المفرحات ثبوت. لأن الألم يأتي من الفقد، والفرح يأتي من وجود شئ يفرح أو يصدر منه الفرح. ولا حاجة بالإنسان إلى أداة للفقد والخسارة، ولكنه يحتاج إلى أدوات كثيرة للإيجاد والتحصيل.

وقد مضى على الشرق زمن لم نسمع فيه غير الشكاية والحزن في شعره ونثره، وغير الشكاية والحزن في مواعظه وخطبه، وغير الشكاية والحزن في جملة أحواله وأعماله. ولم يكن ذلك الزمن الذي عمت فيه الشكاية والحزن زمن القدرة والعلم بل زمن الفقد والكسل. لأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلاء الحياة أعم وأشيع واقرب غوراً من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى.

والطفل يبكي في اللحظة الأولى من حياته، ولكنه لا يعرف الابتسام قبل بضعة اشهر. لأنه في البكاء لا يحتاج إلى اكثر من صوت وهواء. ولكنه يحتاج قبل الابتسام أن يعرف وجه أمه وأبيه وان يدرك العطف بينه وبين أمه وأبيه.

وإذا تركنا شعور الضرورة إلى شعور المشيئة والاختيار تبين لنا أن الإنسان سريع إلى كشف النقائص والعيوب في الناس بطئ في كشف النقائص والعيوب في الناس بطئ في كشف المحاسن والمزايا. بل مغالط فيها بعد كشفها ومكابر في الشهادة بها لأصحابها.

فهو محجوب عن المحاسن باختياره وبغير اختياره:

محجوب عن محاسن الدنيا ما لم يتهيأ لها بأدوات الذوق والمعرفة وعمق البديهية وسمو الخيال.

ومحجوب عن محاسن الناس لأنه يحب أن يستأثر بالمحاسن لنفسه أو يحب أن يبالغ في تعظيم مزاياه وتصغير مزايا غيره. فلا يحتاج إلى اكثر من الأنانية العمياء يجهل فضائل الآخرين ومظاهر الكمال في المخلوقات؛ ولكنه يحتاج إلى النبل والإنصاف ورحابة الصدر ليعرف تلك الفضائل وينعم بعرفانها ويوفيها حقها من العطف والإعجاب.

فهو في معرض الدنيا معصوب العينين حتى ترتفع العصابة عن عينيه ليتعلم بعد جهل ويقتدر بعد قصور، ويغتبط بجمال من يراه بعد أن كان لا يراه.

وهو في معرض الحياة البشرية يضع كفيه على عينيه باختياره ولا يرفعهما حتى ترتفع عن ضميره عصابة الأثرة والجهود، وينفذ إليه شعاع النور من عالم الحق والإنصاف.

ص: 5

لهذا صح أن يقال إن أدوات الآلام اسهل واعم من أدوات الأفراح، وأن كثيراً من الناس قادرون على الشعور بالألم في اعم حالاته ولكنهم لا يقدرون على الشعور بجميع الأفراح ولا بجميع المرضيات.

وإذا طبقنا هذه الملاحظة على أبي العلاء وجدنا أنها تنطبق عليه وعلى زمانه، وتدل في حالته أيضاً على سهولة أسباب الألم وصعوبة أسباب الفرح بالنظر إليه وبالنظر إلى الزمان الذي عاش فيه.

فهو حسير كسير في عقر داره، وزمانه زمان الفتن والحروب وزمان التقلب والنفاق، وغاية الأمل فيه أن يسلم من الشرور أو يتغلب عليها بشرور أكبر منها وكلاهما بلاء على الكريم وبلاء على اللئيم، وقضاء يلوذ منه الحائر بالقبوع أو بالقنوع.

وبعد فيكفي أن نعلم أن الإنسان مطالب بتحقيق أسباب الفرح وغير مطالب بتحقيق أسباب الألم، لنعلم أن افرح محتاج إلى الأداة وإن الألم لا يحتاج إلى أداة، بل إلى نجاة!

عباس محمود العقاد

ص: 6

‌لغة العبيد.

.!

للأستاذ سيد قطب

عندما قام الرئيس (لنكولن) بحركة تحرير العبيد في أمريكا لم يكن خصومه هم (السادة) وحدهم، بل كان بعض (العبيد) أيضاً حرباً عليه!

كان بعضهم يهرب من (الحرية) التي يهبها له (لنكولن) ليرتد إلى (العبودية) في بيت أسياده لأنه لا يطيق تكاليف الحرية ولا يستطيع مواجهة الحياة مستقلاً!

ليس عبيد أمريكا وحدهم هم الذين يهربون من الحرية؛ فعندنا في مصر، وفي سائر بلاد الشرق (عبيد) من نوع آخر عبيد يتزيون بزي الأحرار، ولكن في أعماق نفوسهم تلك العبودية التي يهربون إليها بين الحين والحين!

في عدد ديسمبر من مجلة (الكاتب المصري) قرأت للدكتور حسين فوزي مقالاً بعنوان (جولة في ما بعد الحرب) جاءت فيه هذه الفقرات:

(شعور واحد يتملكني في عشرة أيامي الأولى بلوندرة: شعور الإعجاب المتناهي بعاصمة الدولة التي أنقذت العالم من اعظم الشرور التي حاقت به في تاريخه الطويل. قلب الأمة الباسلة العنيد التي وقفت وحدها في مواجهة الأفاقين البرابرة الذين تحدوا البشرية جمعاء، والتي تلقت الضربات الوحشية تنصب عليها من السماء حمماً وناراً، ومن قاع البحر حمماً وناراً).

(كنت فخوراً بإنسانيتي، إذ وجدت من هؤلاء الناس درعاً وواقياً للحضارة. وسواء عندي أن يكون دفاع الإنجليزي عن بلاده وحضارته وإمبراطوريته، ما دام هذا الدفاع في ذاته ذوداً عن الحضارة والإنسانية قطعاً).

(أنا هنا بين رجال ونساء راضين بما حققوا. غلبوا على أمرهم، وطردوا من أوربا والملايا، وقطعت عليهم اغلب طرقهم البحرية، وهاجمتهم الطيارات والقنابل الطائرة والغواصات في كل مكان، وانذروا بالفناء قبل الغزو، أو بالغزو فالفناء. ضيق عليهم أعداء البشرية الخناق، على حدود مصر والسودان، وفي العراق وكريت ومالطا والهند، ولكنهم ثبتوا كصخور مالطا ودوفر وجبل طارق، وردوا الضربات بأقل منها، فبمثلها، فبأضعاف أضعافها. ثم جاء دورهم في الغزو، فنزلوا بالقارة الأوربية، وحرروا فرنسا والبلجيك

ص: 7

وهولندا وايطاليا، ثم استعادوا بورما والملايا، واكتسحوا قطعان الذئاب الفاشستية يردونها إلى عقر أوكارهم، حتى قضوا عليها. وهم اليوم يتحكمون في ديارها. إن قدموا الخير فبشعور إنساني كريم وإن اعملوا الشر فبروح انتقام مفهوم، عادل أو غير عادل تبعاً لمزاج من يريد ان يبدي حكماً).

. . . (والصورة التي انطبعت في رأسي لبريطانيا بعد إقامتي القصيرة في لوندرة. هي صورة شعب عامل مجد، محب للنظام والعدالة، يحترم حكومته لأنه اختارها، ويتبرم بها تبرم الأخ لأخيه يوماً أو بعض يوم. صورة شعب أمين في معاملاته، منطقي في عمله، دون أن يكون للمنطق حساب في تفكيره، يتولاه القلق على معاشه ومستقبله في العالم، مع تمسكه بالقيم الروحية المطلقة التي تترجم بالعلم والفن والأدب، والقيم الروحية في السياسة التي تترجم بالنظر إلى العالم نظرة الشعب المسؤول عن الخير العام للبشرية. وهذه في رأيي مقومات الحضارة في شعب كبير وأمة عظمى). ثم يقول عن فرنسا:

(لحظة اللقاء، لمست أقدامي أرض فرنسا بعد طول الغياب، (أمنا فرنسا)، كما يقول أهل لبنان، ومربيتنا باريس. لن أنساك يا فرنسا قبل أن أنسى نفسي. تقطع يداي قبل أن يغدر بك ربيبك يا باريس!).

كاتب هذه الفقرات مصري شرقي وهو رجل اعرفه، وبيني وبينه مودة، ولكن مودات الأرض كلها لا تخدر ضميري وأنا اقرأ له هذه السطور!

هذا الرجل مصري شرقي، يرى كيف تعامل إنجلترا بلاده، وكيف تعامل فرنسا أمم الشمال الأفريقي، ويعرف كيف تصنع إنجلترا في الهند، وكيف تصنع فرنسا في الهند الصينية. . . ثم يكتب كل هذا (الغزل) في الدوليتين الاستعماريتين اللتين تدوسان قومه وأقرباءه بالأقدام!

وأعجب شئ انه كان (فخوراً بإنسانيته) في لوندرة! أية إنسانية تلك التي ترى الاستعمار ينتهك كل حرمات الإنسانية، ويمتص دماء المستعمرات، ويذل أهلها ويسلب أقواتهم وارزاقهم، ويبقيهم في ربقة الجهل والتأخر والتوحش أحياناً حتى لا يفقد قدرته على استغلالهم. ثم لا تغضب، ولا تتألم، ولا تثور؟

فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يسلبون بلاده إنسانيتها. يفقرونها إلى حد أن يعيش الفلاح في

ص: 8

مستوى اقل من مستوى الماشية. يسرقونها في اسهم قناة السويس، وفي ثمن قطنها وصادراتها لهم في الحرب وغير الحرب، وفي صفقات المناقصات العامة، ويستنزفون غذائها وفاكهتها وملابسها في زمن الحرب بلا مقابل فينشرون فيها السل والأنيميا وشتى أمراض التغذية ثم يكادون يتنصلون من ديونهم القليلة. يستخدمونها في الحرب بكل قواها ثم يتنكرون لها بعد الانتصار. . . أولئك هم السادة الذين يفخر العبيد بإنسانيتهم حينما يرونه ينتصرون!

فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز بعد نصف قرن في السودان لا يزال سكانه في الجنوب عرايا وسكنه في الشمال مبعدين عن إخوانهم في الجنوب بدافع التعصب الديني لأن دماء الصليبيين لا تزال تجري في دماء المستعمرين. وبدافع الاستغلال القذر لأن موارد الجنوب يجب ان تبقى للاستعمار!

فخور بإنسانيته. لأن الهند بعد ثلاثمائة عام في الحكم البريطاني، لا تزال أفقر الشعوب وأقذرها. وهذه القذارة تنفر الدكتور حسين فوزي وتطلق لسانه بشتيمة الهند والهنود في كتاب سابق له. ولكنها لا تحنقه إطلاقا على الحكم البريطاني القذر لأن السادة لا يحنق عليهم العبيد!

فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز حاربوا الصين مرة لسبب واحد، وهو أنها عزمت على تحريم تدخين الأفيون. حينما تقتضي (الإنسانية) ان يظل الصينيون (مساطيل) لا يفيقون لأن (الانبساط) والانسجام خير يجب أن يتمتع به الصينيون.

فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز نشروا وباء الكوليرا في حربهم مع (البوير) في جنوب أفريقيا؛ فكانت هذه وسيلة (إنسانية) للانتصار في الحروب!

فخور بإنسانيته. لأن فاجعة (دنشواي) كانت انتصاراً للروح الإنسانية وللضمير الإنساني في تاريخ الشعوب!

فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يقفون في وجه التحرر لا في مستعمراتهم فقط، ولكن في مستعمرات سواهم، كما صنعوا في أندنوسيا، حينما هبت تحارب وحوش الهولنديين!

فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يرتكبون في فلسطين من الجرائم الإنسانية ما تقشعر له الأبدان في سنة 1937. واليوم يجلدهم اليهود علناً فلا يتحركون!

ص: 9

ثم (أمنا فرنسا، ومربيتنا باريس). . . إلى آخر هذا الغزل السخيف!

(أمنا فرنسا - كما يقول أهل لبنان - ولم يكن منصفاً فيقول: (كما يقول أهل لبنان):

لقد تحرر لبنان من تلك العبودية يا دكتور فوزي. لقد تحررت ارضه، كما تحرر ضميره. ولعلك لا تذكر واقعة اعتقال رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته في قلعة راشيا. تحرر لبنان فلم يعد ينطق تلك الكلمة المجرمة المخنثة (أمنا فرنسا).

لقد تحرر لبنان، وتحررت سوريا. وبقى أن تتحرر مراكش، وأن تتحرر تونس، وان تتحرر الجزائر. وبقي أن تنكمش هذه الدولة المتبربرة في حدودها القومية. فإذا شئتم حينذاك ان تلجئوا إلى حضن أمكم الحنون. فمع السلامة. ولتذهبوا إليها هناك أجمعين!

واسمع هذه البرقية لمراسل الأهرام في نيويورك:

(تلقت جريدة (نيويورك تيمس) رسالة من السيد محمد أبو الاحرص سكرتير (لجنة المطالبة بحرية شمال أفريقيا) طالب فيها بإلحاح بوجوب رفع الستار (الحديدي) المضروب حول مراكش والجزائر وتونس وبالسماح للصحفيين الأجانب بحرية الدخول في هذه البلاد الثلاثة.

وذكر السيد أبو الاحرص الذي يقول انه يمثل عشرين مليوناً من سكان شمال أفريقيا انه حدث في يوم 12 مايو سنة 1943 أن قتل عشرة آلاف وطني تونسي وسجن أربعون ألفا من غير محاكمة؛ وان عبد المنصف باي تونس عزل ونفي مع أن الحلفاء يملكون من الوثائق ما يثبت انه كان يقاوم سلطات الاحتلال الألمانية مقاومة شديدة.

وزعم أخيراً انه في يوم النصر في سنة 1945 ذبح أربعون ألفا من الجزائريين وسجن مائتا ألف ونهبت بيوت ثلاثة آلاف من الوطنيين).

وعلام كل هذا الغزل؟ و (شعور الإعجاب المتناهي)؟ لأن هذه الامة، إنجلترا (وقفت وحدها في مواجهة الأفاقين البرابرة الذين تحدوا البشرية جمعاء)!

أي أفاقية؟ وأي برابرة؟ يا دكتور فوزي؟ وأية بشرية تلك التي تحدوها؟

الأفاقون والبرابرة هم أولئك المستعمرون الذين يمتصون دماء البشرية، ليتوافر للإنجليزي الزبد والويسكي والديكة الرومية في عيد الميلاد!

الأفاقون والبرابرة، هم الذين يتسببون في إصابة مليون مصري بالسل في زمن الحرب،

ص: 10

لأنهم يسرقون المواد الغذائية مقابل عملة ورقية لا رصيد لها، ثم يتنكرون لمصر وللدين المصري الزهيد!

الأفاقون والبرابرة هم الذين يجلدهم اليهود علنا في الشوارع، فلا يحركون ساكنا، بينما يمثلون بالجثث أشنع تمثيل حينما يهب العرب للمطالبة بحقهم المشروع!

ولقد كان جائزا أن تنتشر هذه الأسطورة: أسطورة إن الإنجليز غير الألمان وان هؤلاء وحدهم أفاقون وبرابرة، وان الإنجليز حماة الإنسانية المتحضرون. حينما كانت رحى الحرب دائرة. حينما كان الذهب الإنكليزي - أو البنكنوت المزيف - يتدفق على مراكز الدعاية، وفي جيوب الصحفيين والكتاب، فتنطلق الألسنة بالحمد والثناء لحماة الديمقراطية، وللحرية، وتنطلق بالهجاء والاتهامات للبرابرة الألمان، وحينما كانت الدعاية الإنجليزية تملأ الآفاق ببشريات الحرية العالمية، والأمن من الجوع والخوف والمرض والجهل. وحينما كان المخدوعون يستغرقون في الأحلام اللذيذة على صدى هذه الوعود الجملية.

ويومها كم من أصوات ارتفعت في محطات الإذاعة بالشرق، وكم من أقلام انطلقت في صحافة الشرق، تمجد أولئك الملائكة الأطهار الذين يريقون دماءهم في سبيل البشرية المهددة بالوحوش النازيين!

ذلك إن الذهب الإنكليزي - أو البنكنوت المزيف - كان من القوى والتدفق بحيث ينطق البكم، ويسمع الصم. وذلك أن الوعود المعسولة خدعت بعض المخدوعين، فتاهوا في أحلام الحرية والاستقلال والجلاء. وان كان ضمير الأمة لم ينخدع لحظة واحدة، لأنه كان اصدق حساسية من اولئك المذيعين والصحفيين والكتاب!

أما اليوم، فكيف تبقى عين واحدة مغلقة، اليوم وقد خلع الإنجليز القفاز الحريري وارتدوا جلد النمر. اليوم ما الذي يخدع مصريا واحدا، أو شرقيا واحدا، فيطلق لسانه بمثل هذا الغزل العجيب؟!

وفرنسا، فرنسا أم الحرية، كما يقول عشاقها، كيف بعد حادث راشيا، وكيف بعد مؤامرتها على قتل وزراء سوريا ونوابها في البرلمان، تلك المؤامرة القذرة التي لم تتم بسبب وقوع وثائقها في يد الحكومة السورية في الوقت المناسب.

فرنسا الذي تذبح في يوم النصر أربعين ألفا من الجزائريين. والتي تقيم سورا حديديا حول

ص: 11

الشمال الأفريقي كله، يمنع عنه العلم والنور والحرية والتقدم. فرنسا هذه كيف يختلج بحبها ضمير أنساني واحد، بله أن ينطلق لسان لها بمثل هذا الغزل العجيب!

وليس المتغزلون في إنجلترا وفرنسا وحدهم هم عبيد الشرق المنكوب! هنالك من يتغزل في (روسيا) في هذه الأيام. وحقيقة أن بعدنا عن فم الدب بعض الشيء قد يجعلنا اقل حنقا عليه. ولكن هنالك من ينسى مصريته ليذكر (روسيا) العزيزة1 وتلك لغة العبيد.

لقد سمعنا طويلا: أمنا فرنسا، أمنا إنكلترا، أمنا روسيا! بابا ستالين! كما سمعنا من يقول: تقدم يا روميل! ايام العلمين!

ولقد آن أن يخفت صوت العبودية في هذا كله، ليرتفع صوت واحد: أمنا مصر. عمنا الشرق. أبونا النيل.

أيها العبيد! تحرروا مرة من لوثات الضمير

أيها الدعاة في الحرب وغير الحرب!

كفروا عن جريمتكم وعدوا مصريين. وشرقيين!

أنا أوربا المتبربرة قطيع واحد من الوحوش الواغلة في دماء البشرية، المعتدية على كرامة الإنسانية؛ فليس بإنسان من لا يغضب لكرامته ولكرامة (الإنسان) التي يذلها الاستعمار في كل مكان. وهذه البشرية لن ترفع رأسها إلا يوم أن تسحق هذه اللعنة البغيضة. لعنة الاستعمار والمستعمرين. ونحن في الشرق لا ينبغي أن يقوم بيننا وبين هذا الغراب المتبربر سلام، إلا حين تنكمش هذه الوحوش الآدمية في داخل حدودها أو في داخل أقفاصها!

وما يجوز أن يرتفع صوت واحد بالثناء على قوم حاربوا لأنفسهم، دفاعا عن الزبد الذي يأخذونه من بين شفتي العالم، ليستمتعوا، ويصاب بالسل آخرون

إن هؤلاء المستعمرين هم لعنة هذه الأرض التي لا يجوز أن نضمر لها غير الحقد والضغن. فهم الذين يثيرون الحروب العالمية ويتمسحون في الألمان وغير الألمان.

والألمان مثلهم. . . كلهم سواء. وحوش آدمية متبربرة، تتبدى في أزياء من الحضارة الخادعة. فلن تكون حضارة صادقة مع ضمير متعفن كضمير الاستعمار.

الحقد! الحقد المقدس أيها الشرق المنكوب هو وحده المنقذ حين يفتح فاه، فيلتهم قطاع

ص: 12

الطرق اللصوص.

أما أولئك المتغزلون في أوربا فليتواروا حياء، فليس الوقت وقت الغزل، بل الساعة ساعة الصراع ألا ولتنطلق من كل فم وقلب صيحة واحدة مدوية: الموت للاستعمار والويل للمستعمرين!

سيد قطب

ص: 13

‌العجز قوة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

حينما أرى شيخوخة متهدمة فانية مدبرة الحياة تجرجر جسمها المتهالك كأنما تحمله حملا يبهر الأنفاس ويعيي الأوصال، في مزدحم طريق مكتظ بأجسام القادرين على الزحام من الرجال ذوي الألواح العريضة والأرجل الخفيفة والخطوات الماضية في خيلاء الشباب وطفور القوة وعزة القدرة على نيل الأشياء، وغرور الخدعة بالحياة، وقد احتدمت الحركة والجلبة ومضت (دواماتها) العنيفة بتلك الشيخوخة ترمى بها المرامي وسط هذا العباب الزاخر حينئذ اشعر أن هذا العجز يقبض على قلبي بقوة غالبة تجيش لها نفسي وتستجيب لها استجابة لا أحسها في كثير من الأحيان التي يطالعني فيها مشهد من مشاهد القوة والاجتياح.

وحين أرى طفلتي الصغيرة تبدأ حياتها منذ أن فصلت عن حياة الرحم وكل سلاحها للعيش وآلاتها في الكفاح هو الصراخ واستنجاد بقوى من يحيطون بها من الوالدين والأقربين، وتلك الغمزات الخفية على قلبي ألام والأب، غمز الرحمة لهذا الضعف في ي هذا الجسم الصغير الضئيل الطريح الذي لا يملك دفع الذباب والنمال عن نفسه ولا جلب غذائه، ومع ذلك فجميع من في البيت وما فيه من مسخر لرضاها والسهر على الدفاع عنها وجلب المسرة والمنفعة لها، اشعر كذلك ان العجز قوة يسخر لها هاد الأقوياء، واشرف ما في النفوس البشرية من أريحية كريمة هي التي تبني الاجتماع وتجمل الأخلاق وتعلو بمستوى الإنسان بل والحيوان.

ولقد أدركت من شيخوخة أمي رحمها الله في سنتيها الأخيرتين ما كان يثير في نفسي لوناً من الحنان الغامر والإشفاق والحساسية التي تبعث الدمع الهادئ اللذيذ حين كنت أرى ذلك العجز الذي طرأ عليها بعد قوة ولكنه مع ذلك سلحها بقوى جميع من في البيت، وسخرهم لها يخدمونها في لهفة ويكفونها كل حاجاتها في رضا ويسألونها كذلك الرضا.

وعجز الشيخوخة اشد إثارة للرحمة والشعور والعاطفة من عجز الطفولة؛ لأن يريك الهيكل البشري في هالة من تاريخ قوته، فتشعر انك معه إزاء طلل لبناء عزيز كان عامراً فأضحى غمراً، تعفيه الرياح، وينال منه الإمساء والإصباح، ويدبر منه ما كان مقبلاً.

ص: 14

وقديماً بكى الشعر على الأطلال وبحث في أصباغها الناصلة وشواخصها المائلة عن الأشباح التي كانت تعمرها والصور والظلال والأصوات والذكريات التي وقعت عليها والنفس إزاء عوامل الفناء اشد حساسية وإرهافاً منها إزاء عوامل الحياة، لأن النفس من عالم الوجود فليست عوامل الحياة غريبة عليها غربة عوامل الفناء.

وعوامل الحياة تمدها بالطمأنينة والأمل والشعور بالاستمرار والامتداد، أما عوامل الفناء فتأخذ منها الطمأنينة وتعطيها الرهبة والشعور بالنهاية وتقفها على حافة المجهول الذي مضى إلى هاويته كل ما كان ويمضي إليها كل ما هو كائن.

والعجز هو مدخل الإيمان وحجته الهادئة التي لا جدال معها لمنطق. فهو إن كان يثير اشرف ما في النفس وأعظمه أثرا في بناء روابط الاجتماع على أسس من الرحمة والعاطفة، فهو كذلك يثير اشرف ما فيها وأعظمه أثرا في بناء الإيمان وروابط الإنسان بالله على أسس من الفكر والإدراك. وقفة واحدة مخلصة من فكر الإنسان الضئيل المحدود وسط هذا الكون الجبار الحافل بالقوى ذات الهول والاجتياح والرحابة والدوام، والأجرام السماوية ذات الأحجام والأرقام الفلكية، كافية لأن تطلق من صدر الإنسان آهة عميقة فيها الإقرار بالعجز والاستسلام والإنكار لمزاعم القدرة والاستطالة، وصرخة وجلة دامية فيها طلب اللياذ والاحتماء في صدر كن رحيم حنون، وكنف قوى مأمون هو كنف (الذي) بنى هذا الكون الهائل العاقل من هذه القوى الجبارة العمياء المجنونة التي تسير في نظم ولجم تمسكها يد القهر فلا تفلت ولا تلتوي ولا تجمح!

وإذا كان غرور الحياة في بعض النفوس البشرية قد سول لها أن تزعم مزاعم الاستكبار والإنكار، فذلك لأنها نسيت عجزها وضعفها وسجنها في هذا الكون الذي لا يستطيع منه مهرباً إذ دخلته على غير اختيار وستحرج منه على كره.

وهؤلاء الذين يثيرون بمنطقهم وجدلهم وزخرف قولهم الشغب والثورة على حكومة الكون، ويعييك أن تقنعهم بالحجة الفالجة والحق الدامغ، تستطيع أن تراهم يسرعون إلى الدخول فيما دخل إليه جمهور الناس من إيمان إذا ما ضربهم الزمان بالعجز وقيدهم بقيوده وطرحهم مطارح يرون فيها أنفسهم كائنات تافهة لا تملك لنفسها نفعاً ولا عنها دفعاً ولا يحل بهم الليل والنهار، ولا تنظر إليهم السماء والأرض، ويرون أنفسهم تذهب كما تمضي

ص: 15

ورقة جافة أو تبنه تافهة. . عندئذ يأخذهم العجز بقوته السالبة الغالبة إلى عتبات ربهم يطرحون عليها قلوبهم ويعفرون بترابها وجوههم ويبللونها بدموعهم ويقولون مع أبي نؤاس:

ذهبت جدتي بطاعة نفسي

طلبت طاعة الله نضوا

ومن رحمة الله بالناس أن جعل الدور الأخير من حياة اكرهم فترة عجز وضعف وخمود يدركون فيها حقيقة حياتهم وحقيقة الحياة كلها ويخلصون فيها لأنفسهم، يصفون ما بها من غرور ويبصرون الطريق إلى الإيمان، وتصح أحلامهم ويرعوي بالحلم ويتركون ميادين النزاع والأباطيل ويقولون مع ابن المعتز:

أخذت من شبابي الأيام

وتولى الصبا عليه السلام

وارعوى باطلي وبان حديث

النفس مني وصحت الأحلام

ولو استمر شباب الجسم وعنفوانه يصحب الناس إلى نهاية حياتهم ما ارعوى باطلهم ولا خف طيشهم ونزاعهم، ولا صفت طباعهم من ثورة الأكدار التي تثيرها نوازع الشباب واحتداماته واندفاعاته؛ لأن السر في اندفاع الشباب انه يعتمد على ذخيرة من قوى الحياة التي تقتضيها آلات الجسم الصحيح والعيش الصحيح، ولأنه لم يبصر كثيراً من الأحكام الصحيحة على الحياة إذ هو مشغول بإحساسه بغيض الحياة ونشوتها الغامرة، فلم تترك له عجلتها الدائرة في جلبة وقوة ان يبصر الأشياء الثابتة، لأن حركة الحياة في نفسه تزيغ نظره عن الأوضاع الصحيحة. فإذا ابتدأت العجلة تهدئ من دورانها شيئاً فشيئاً استطاع المرء أن يبصر الأمور في ريث وهينة ويتملى في أوضاعها المختلفة فيحكم عليها حكماً صحيحاً.

فلنرد النفس في فترات إلى الشعور بالعجز وسط جبروت الكون، وهول الطبيعة وإصرارها على قوانينها، ودوامها في سلطانها، حتى تشعر دائماً إنها في الكون شئ ربما يكون غير مذكور ولنأخذ من العدل قوانين تعدل قوانين تعدل قوانين القوة والبطش التي لا يدين الناس لغيرها.

وليكن ما في العجز من ظلال عكسية لأوضاع القوة في الحياة سبيلاً لإيقاظنا إلى واجبات لا نراها إلا في الظلال، تلك الواجبات التي لا تسوقنا إليها القوة، وإنما تسوقنا إليها

ص: 16

الرحمة.

عبد المنعم خلاف

ص: 17

‌في يوم المولد النبوي:

يا سيدي يا رسول الله!

للأستاذ علي الطنطاوي

(تسمعون السنة كلها حديث الدنيا فاسمعوا اليوم حديث الدين)

الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله ورحمة الله وبركاته هذا يوم تشرفت في مثله الأرض بمولدك، واستضاءت بنورك، قد جعلناه بعدك عيداً - واشهد ما شرعت لنا إلا (العيدين) - فنصبنا الأعلام، و (اذعنا) الانغام، واجتمعنا على الخطب والكلام ن والشراب والطعام، فالطرقات مزدحمة بالسرادقات، والمساجد والمقابر ملأى بالزائرين والزائرات، والصحف والمجلات، فياضة بالفصول والمقالات، وفي كل مكان مظاهر الأفراح والمسرات: في الشوارع والساحات، والأزقة والحارات. . .

فعلنا ذلك حباً بك، وابتهاجاً بمولدك، ثم ابناً إلى مساكننا فهجعنا هادئة ضمائرنا، هانئة سرائرنا، إذ قد وفينا لهذه الذكرى، التي لم يمر على ذهن التاريخ الإنساني اعظم منها أثراً، ولا أعلى قدراً، ولا أبقى ذكراً. . .

أما اتباع دينك، والاهتداء، والوقوف عند أمرك ونهيك، فلم نفكر فيه ولم ندخله في (برنامج الاحتفال)!

فهل يعجبك يا رسول الله ما فعلنا؟ هل يرضى به ربك عنا؟

لقد بعثت بـ (لا اله إلا الله). دعوت العرب إليها فأبوها، فأمرت أن تقاتلهم حتى يقولوها، وخيرتهم بين السيف وبينها فاختاروا السيف عليها، واثروا أن يهلكوا عن أن ينطقوا بها، استصعبوها لأنهم عرفوا معناها، فعلموا أنها ليست كلمة تقال بطرف اللسان، ولكنها دستور للحياة كلها، وصرف لها عن وجهتها وتبديل لكل صغيرة أو كبيرة فيها.

لا اله إلا الله: لا ينفع ولا يضر إلا الله، فلا تخش في الحق غيره ولا تذل في الرجاء لسواه.

لا اله إلا الله: هو القادر فلا تخف أحداً إن كنت معه، هو البصير فلا تستتر بذنبك منه، هو الرحمن فلا تيأس من رحمته، هو الجبار فلا تأمن غضبه، هم معك حيثما كنت يراك أبداً

ص: 18

فاعبده كأنك تراه. هو الخالق الباري المصور، أعطاك البصر فلا تنظر به إلى عورة، والسمع فلا تلقه إلى سوء ن واللسان فلا تحركه بمحرم، واليد فلا تستعملها في عدوان، والرجل فلا تمشي بها إلى ظلم والبطن فلا تدخل فيه إلا حلالاً، وأنت منه واليه لا مخرج لك عن ملكه. وهو المحيي المميت، منحك الحياة فلا تنفق دقيقة منها فيما يكره، وكتب عليك الموت فاذكره أبداً وتهيأ له ولا تنس انه ملاقيك!

لقد كانوا أذكياء ففهموا معناها وكانوا أشرافاً فلم يحبوا أن يقولوا بأفواههم، ما لا يحققونه بأفعالهم، ولذلك استسهلوا القتل واليتم والثكل على النطق بها، ثم لما أعدهم الله لها، وكتب السعادة لهم فقالوها، صاروا بها سادة الدنيا وخلاصة الإنسانية، وملائكة البشر.

ونحن يا سيدي يا رسول الله، نحن نقولها كل يوم على منائرنا ومنابرنا، وفي أسواقنا وفي منازلنا، وعند دهشتنا ومسرتنا، لا نرى كلمة أخف منها على اللسان، ولكنها لا تجاوز ألسنتنا، ولا تبلغ أفئدتنا، ولا يكون لها اثر في حياتنا، فهل نحن مسلمون!

وجئتهم بالقرآن فحاربوه، ومنعوا القارئين ان يتلوه، وفروا منه حتى لا يسمعوه، ولكنهم كانوا إذا وقعت إلى أحدهم الآيات منه، بدلته تبديلا وجعلته رجلاً آخر: اقبل عمر الغليظ الجافي عدو الإسلام الألد، ليأتي الجريمة الكبرى، فسمع آيات معدودات، فإذا هو ينقلب إلى عمر المؤمن الرقيق العبقري الذي ادار وحده إحدى عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام بسلمها وحربها، وقضائها وماليتها، وداخليتها وخارجيتها، وجليل امرها وحقيره، ما قصر في شئ منه ولا أساء فكان نادرة الزمان، وأعجوبة الفلك ونحن نسمع المرتلين يتلون القرآن في كل لحظة وفي كل مكان، في الأفراح والأتراح والحفلات والاذاعات، بحلوق لعلها أندى من حلق قارئ عمر، ونغمات أحلى، وأصوات اشجى، ومعرفة بالتجويد وضبط للمخارج والأداء، وبصر بالألحان، ولكنها لا تصنع بنا ما صنعت بعمر، ما نجد لها إلا الاهتزاز والطرب كما نهتز لكل أغنية حلوة تسمعها آذاننا، ونطرب لكل صوت شجي تعيه أسماعنا، ثم نقوم عنها فنمضي في الحياة حيث توجهنا عقولنا واهوائنا، فهل نحن مسلمون؟

ودعوتهم إلى الإيمان، فآمنوا بالله إيمان مراقبة وخشية وتقى، واستحيوا منه ان يراهم عاصين مخالفين، واستقاموا على الطريقة، وجعلوا أهوائهم تبعاً لما جئتهم به، فإذا غلبتهم نفوسهم فألموا بذنب، ومن هو الذي لا يذنب! تابوا إلى الله وانابوا، ولم يصروا ويستمروا.

ص: 19

وآمنوا بالملائكة، فتشبهوا بهم ما استطاعوا في طاعتهم وعبادتهم، واحيوا الملكية في نفوسهم، فماتت بحياتها البهيمية والشيطانية، ورب إنسان هو اقرب إلى البهيمة وأدنى إلى الشيطان. . .

وآمنوا بالكتب، وصدقوا بالقرآن فتلوه تلاوة التدبر والاستنباط فأتوا ما أمر به وانتهوا عما نها عنه وجعلوه لهم إماماً، وحاكماً مطاعاً.

وآمنوا بالرسل وبك خاتمهم وامامهم، فاستمعوا لقولك، أطاعوا أمرك، واتبعوا سنتك، وكنت احب إليهم من آبائهم، وأبنائهم ومن نفوسهم، التي بين جوانبهم.

وآمنوا بالقضاء والقدر، فسعوا للدنيا سعيها، وطلبوا المال من حله، واعدوا للعدو ما استطاعوا من القوة ولم يدخروا وسعاً في سعي ولا طلب ولا اعداد، ولكنهم رضوا بما قدر الله عليهم بعد نتائج، وما قسم لهم من حظوظ، ولم يجعلوا الدنيا أكبر همهم، ولا منتهى أملهم، ولم يتكلوا على المال ولا الولد، لأن الله هو المعطي المانع، ولم يتكالبوا على الدنيا لأن الله هو المطعم الرازق، ولم يقعدوا عن الجهاد خوف الموت، لأن الأعمار بيد الله، فلا تموت نفس حتى يجئ اجلها.

فكان إيمانهم ظاهراً، في كل اعمالهم، وفي كل لحظة من أعمارهم، وفي عبادتهم يخلصونها لله لا يريدون بها إلا وجهه، فلا يتبعون بها عادة، ولا يبتغون بها رياء، وفي معاملتهم الناس لا يغشونهم ولا يظلمونهم، ولا يكذبونهم ولا يؤذونهم، وفي بيوتهم وأسواقهم، وسفرهم وحضرهم. وصحتهم ومرضهم، وأسرارهم وإعلانهم فهل نحن مؤمنون كأيمانهم؟

يا سيدي يا رسول الله، لقد أقمت الإسلام على خمسة أركان فما زال الشيطان يغرينا بأركانه الخمسة، حتى هدمناها وأزلزلناها، فكان فينا من يقول كلمة الشهادة ولا يؤدي حقها، ومن يدعي الإسلام ولا يصلي، ومن يصلي بجوارحه ولسانه ولا بقلبه وجنانه، يقوم إلى الصلاة ليستريح منها لا ليستريح بها، لا يجد فيه انس نفسه ولا قرة عينه، فلا تنهاه صلاته عن فحشاء ولا منكر، فكأنه ما وقف بين يدي الله، ولا ناجى بلسانه مولاه، ومن يدعي الإسلام ولا يصوم ومن يصوم عن أكله وشربه ولا يصوم عن قول الزور والعمل به، ولا يسلم المسلمون من لسان صائماً ولا يده، فلا يرقق له الصوم له قلباً فيعطف على جائع، أو يحسن إلى فقير ومن يدعي الإسلام ولا يزكي ولا يحج، ومن يحج ليسيح فيرى

ص: 20

البلاد، ويتجر فيجمع المال، ويكسب من حجه الذكر والجاه ما طهر الحج قلبه، ولا غسل ذنبه، ولا أرضى ربه.

وتركتنا على بيضاء نقية ليلها كنهارها، حلالها بين وحرامها بين، وقلت لنا ان لكل ملك حمى، وان حمى الله محارمه، ونهيتنا ان تحوم حول الحمى لئلا نقع فيه، فتعدينا حدود الله ودخلنا حماه، وأتينا المعاصي جهاراً ونهاراً، لا تخشى عاراً، ولا نخاف ناراً، ولا رباً جباراً، بلغتنا قانون الله الذي أنزله لنحكم به، وسقت إلينا اشد الوعيد، وابلغ التهديد، ان نحن لم نحكم به، فتركناه وحكمنا بقانون فرنسة، فهل نحن مسلمون؟!

يا سيدي يا رسول الله صلى الله وسلم عليك.

لقد كان معك أربعون تخفيهم دار الأرقم في اصل الصفا، فأظهرهم الحق حتى فتحوا المشرق والمغرب، وكان لك منبر واحد، درجات من الخشب لا مزخرفات ولا منقوشات، فاسمعت منه الدنيا كلها صوت الحق، دعوتها فلبت، وأمرتها فأطاعت، ولنا اليوم مائة ألف منبر، فبها النقش البارع والزخرف الرائع يعلوها الخطباء فينادون (يا أيها الناس اتقوا الله). فلا يتقي احد، لأن الخطيب ما قال إلا بلسانه، والمصلي ما استمع إلا بأذنه قد فسد العلماء فهم يعلمون ولا يعملون، ويزهدون من الدنيا ولا يزهدون، ويقولون (الساكت عن الحق شيطن اخرس). ويسكتون، ويتلون (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ويذلون للوزراء والأغنياء والسلاطين. فسد العلماء ففسد الناس فمن أين ينتقى الصلاح؟

فنحن اليوم أربعمائة ألف ألف، امرنا بالجهاد لنفتح الدنيا فقعدنا حتى فتح العدو أرضنا وملك ديارنا، وحكم رقابنا، ولا نزال قاعدين نلهو ونلعب، نعينه على أنفسنا، ونهدم معه دورنا وديننا بأيدينا، وننظر ما لم يأتنا هو به من شروره، فنأخذه نحن بأنفسنا: أخذنا قوانينا وتركنا لها قرآننا، وعاداته وتركنا لها اخلاقنا، وفسوقه فأضعنا فيه أعراضنا.

وقد غدونا دولاً وحكومات وأحزاباً وجماعات، وما المسلمون إلا اخوة في أسرة واحدة، وما هم إلا أحجار البناء المرصوص يشد بعضه بعضا.

ولكنا لم ننس ان نحتفل بمولدك، وان ننصب الأعلام، ونذيع الانغام، ونجتمع على الخطب والكلام، والشراب والطعام، فهل يكفر هذا ما اذنبنا؟ هل يعجبك يا رسول الله ما فعلنا؟ هل يرضى به ربك عنا؟!

ص: 21

يا سرول الله! لقد ركبتنا ظلمات فوق ظلمات، وحاقت بن مصائب بعد مصائب، وخفت صوت المصلحين، وعلا نداء الضالين المضلين، وتوارى الحق وجال الباطل، فما العمل؟ ضاقت الحيل، وضعف الامل، وانسدت طرق الأرض ولم يبق إلا طريق السماء؟!

(القاهرة)

علي الطنطاوي

ص: 22

‌الأدب في سير أعلامه:

تولستوي. . .!

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا)

للأستاذ محمود الخفيف

- 1 -

طفولة ونسب

اطل من نافذة قصر أنيق أقيم على مرتفع في ضيعة ياسنايابوليانا الجميلة، طفل في الخامسة من عمره، وقد أعجبه ذلك المنظر البهيج من حوله، ذلك المنظر الذي الفته نفسه وباتت تأنس به روحه ويتعلق بجماله حسه.

كان الطفل يمد عينيه الصغيرتين الحالمتين إلى كل ما يحيط به إلى الغابات التي تتناثر هنا وهناك، والى النهر الذي تتثنى صفحته بين هاتيك الغابات فيظهر لعينيه جزء منه وتتوارى خلف الشجر أجزاء، ثم إلى القرية الهادئة التي تتراءى لعينيه من بين الخمائل التي تحيط بها على مقربة من النهر برك صغيرة وأخرى كبيرة، وتبدو كنيستها المتواضعة بجانب الأكواخ والعشش الصغيرة المبنية من الطين وجذوع الشجر، والتي يفصل بينها طريق عريض هو طريق القرية الرئيسي؛ ثم يمد الطفل عينيه إلى ذلك الطريق البعيد الذي سمع عنه فيما سمع أنه ينتهي عند مدينة تولا على مسافة عشرة أميال إلى الشمال وهي مسافة يصورها له خياله طويلة بعيدة؛ وكم يتمنى ان يرى مدينة نولا هذه التي يسمع عنها وعن حياتها الشيء الكثير. وثمة طريق آخر يمتد إليه بصره هو الطريق المؤدي إلى كييف، وإنه ليتمنى أن يرى كييف تلك المدينة التي يذكر اسمها الناس في احترام وتقديس، والتي يتقاطر إليها الحجاج مارين بضيعة أبيه وفي هذا الطريق القديم. . .

وإذا رد الطفل بصره وقع على الطريق المنحدر من القصر تحيط به أشجار الليمون ويقوم على جانبي مدخله برجان أبيضان جميلان. ولم يكد يتحول الطفل ببصره عما يرى حتى مشت في صفحة وجهه سحابة خفيفة من الهم، فقد تذكر أن عهده باللعب قد انتهى كما أخبرته العمة تاتيانا، وأنه من غده سيخل حجرة الدراسة كل يوم في ساعة معينة من النهار

ص: 23

فلا يبرحها إلا متى شاء معلمه ان يطلقه. . . وهو منذ تلك السن يكره القيود كرهاً شديداً فكيف يطيق حجرة الدراسة ويطيق ان يأتمر بما يقضي به المعلم؟ ذلك ما كان يكرب نفسه الصغيرة، بعد أن اخذ ذلك المنظر بمجاميع عينيه، فهو يطل على مسارح لعبه ومجال حريته تحت هاتيك الخمائل وفي فناء ذلك القصر.

ولكن الصبي يعود فيذكر أن لا بأس من حجرة الدراسة وما فيها؛ أو ليس معنى غدوه إليها انه يغدو كبيراً فيقرأ ويكتب كما يقرأ اخوته ويكتبون؟ فلا يدل عليه أحدهم بشيء ينقصه هو ولا حيلة له في هذا النقص، ولا يفاخره منهم أحد بكتبه ودفاتره فسوف تكون له كتب ودفاتر. وتطيب نفس الصبي بهذه الأفكار فهو يكره اشد الكره أن يتفاخر عليه أحد، أو أن يشعر أنه دون من يحيطون به. وكثيراً ما دمعت عيناه غيظاً إذ يرى لغيره من دواعي الفخر ما ليس له. وهو سريع البكاء إذا غيظ لأنه لا يحب ان يغيظ أحداً. فليقبل إذا على حجرة الدراسة في غير نكد بل ليقبل عليها في ارتياح. هكذا توحي إليه كبرياء نفسه الصغيرة، وانه منذ صغره لذو كبرياء، وان كان إذا غضب سريع البكاء.

وكان للطفل واسمه ليو، ثلاثة اخوة أكبر منه وأخت هو أكبر منها. أما أخوته فهم: نيقولا وكان يكبره بخمسة اعوام، وسيرجي وكان يكبره بعامين ونصف، وديمتري وكان يكبره بعام وأربعة اشهر، وأما أخته فهي ماريا، وكانت دونه بسنة ونصف سنة.

وكانت تعيش مع صغار الأسرة بنت ليست منها وهي بنت غير سفيحة لأحد الأصدقاء المقربين من عميدها، وكان أبناء الأسرة يحسنون معاملتها كما لو كانت أختاً لهم، وماذا تصنع غير ذلك نفوس بريئة كهاتيك النفوس التي لم تدر بعد لؤم الحياة؟. . .

هؤلاء هم أفراد الأسرة الصغار؛ فأما الكبار ففي مقدمتهم أبوه، ثم تأتي بعد أبيه العمة تاتيانا، ولم يعرف الصبي منذ بدأ إدراكه أماً له غيرها، فقد ماتت أمه كما يذكر أحياناً أخوه نيقولا في همس وحزن عقب مولد أخته الصغيرة بأيام.

وهناك جدته لأبيه وهي تعيش في هذا القصر منذ مات زوجها، ثم عمته ألين التي جاءت لتعيش في حماية أخيها بعد أن أصيب زوجها بالجنون فقد بلغ به الجنون أن أطلق الرصاص ذات يوم على صدرها. وكانت ألين هذه عمته حقاً، أم تاتيانا فكان يناديها بالعمة كما يفعل اخوته؛ ولكن نيقولا يفهمه ذات مرة أنها ليست عمتهما فهي ليست أختاً لأبيهما

ص: 24

فيعجب ليو لماذا إذا يدعوها الجميع عمتهم ولا يدرك مكانها من أبيه ولا موضعها من الأسرة، ولعل نيقولا كذلك لم يكن اقل منه جهلاً بهذا الأمر. وكيف يتسنى له أن يعرف إن أباه احبها في صدر شبابه وأنها أحبته ولكنها أفسحت له الطريق ليتزوج بسيدة غنية يصلح بثروتها حال معيشته إذ رأت منه هذا الميل على الرغم من حبه إياها حباً وثقت منه؛ وكانت تلك السيدة الغنية هي امه، فلما ماتت أمه عاد أبوه يطلب يدها فرفضت أن تتزوجه ولكنها وعدت أن تكون أماً أخرى لبني، وها هي ذي تبر بوعدها، فتكون لهم أماً في مكان أمهم.

لم يكن يعرف ذلك نيقولا مفصلاً هذا التفصيل فما يجدر ان يتحدث إلى الأطفال بمثل هذه الأمور، وحسب أولئك الأطفال أنها تحبهم وانهم يحبونها حباً شديداً، وعلى الأخص ليو فقد كان شديد الحب لها قوي التودد إليها. . .

على أن عطف العمة تاتيانا عليه لم يشغله منذ هذه السن الباكرة عن التفكير في أنها ليست أمه، وإن كان يرى منها مثلما يرى الأطفال من أمهاتهم؛ وإنه ليسأل نفسه أين امه؟ لقد ذكر له نيقولا مرات إنها ماتت وإنه ليرى على وجه نيقولا إمارات الغم كلما أشار إلى ذلك وير كذلك دلائل الرهبة والألم. فما هذا الموت الذي حرمه من أمه؟ إن خياله يصوره له شيئاً كريهاً مخيفاً وإنه ليخاف من اسمه وينفر منه ولكنه لا يدري ما هو.

وإن الطفل ليرهف أذنيه كلما تحدث متحدث عن أمه، ولئن كان يحزنه انه لم يرها فإنه يطيب نفساً بما يسمع من صفاتها والثناء عليها، وإنه ليجد من عطف عمته تاتيانا ما يخفف حزنه؛ ثم إنه ليزداد حباً لهذه العمة كلما سمعها تذكر بالخير أمه، وتظهر الأسف على فقدها بكلماتها أو بما يبدو من صور الهم على ملامح وجهها. .

وتقع عينا الطفل في القصر على عدد من المربين والمربيات، ومن الخدم على اختلاف مراتبهم وتنوع أعمالهم؛ ويجد لأبيه السيطرة على هؤلاء جميعاً، فما يلقاه أحد منهم إلا بعبارات التجلة وتحيات الاحترام، فيداخل نفس الطفل شعور الفخر بجاه أبيه وعظمته، ثم انه إذا مثل بعض هؤلاء الفلاحين الذين يسكنون القرية القريبة بين يدي أبيه رآهم يحنون رؤوسهم خاشعين، ويخاطبونه بألقاب السيادة والعظمة، والسعيد منهم من ظفر بلثم يده إذا شاء أن يمدها إليه، ويعجب إذ يرى أباه يخاطبهم أحياناً في ازدراء ويعنف عليهم في لهجة

ص: 25

الأمروالنهي، ويتساءل بينه وبين نفسه لم يترفع عليهم أبوه هذا الترفع، ولم لا يعاملهم كما يعاملونه، ولكن نيقولا يخبره إذا سأله ان الفلاحين في الضيعة كلها ملك أبيه وملك أجداده كما حدثته بذلك العمة تاتيانا.

على أنه يعلم فيما يعلم أن القصر والضيعة كانا من أملاك أمه ورثتهما عن آبائها من أسرة فولكنسكي، ولكن رأسه الصغير لا يتسع لما يقال عن نسب أمه ونسب أبيه، وإن أخاه نيقولا نفسه الذي كثيراً ما علمه ما لم يكن يعلم يبدو منه العجز والتناقض إذا تحدث عن هذا النسب، ولا تحدثه العمة تاتيانا عنه إلا بقدر ما تعتقد أنه يفهم.

لم يكن يستطيع الطفل في تلك السن أن يدرك حديث نسب أبيه ونسب أمه فإنه حديث طويل وتاريخ قديم. . .

كان بطرس اندر فتش تولستوي أول فرع سامق من فروع أسرة تولستوي التي نبت اصلها في ألمانيا من زمن بعيد؛ وقد بدأ سموق هذا الفرع في عهد العاهل العظيم بطرس الأكبر الذي ولي أمر الروسيا في أواخر القرن السابع عشر.

حارب بطرس اندروفتش تولستوي في معركة أزوف عام 1696؛ وأرسله القيصر بعد ذلك إلى أوربا ليتعلم بناء السفن؛ وفي مستهل القرن الثامن عشر عينه سفيراً لروسيا لدى الباب العالي، ولما اشتبكت الدولتان في حرب عام 1710 ألقى به في سجن الأبراج السبعة، وكان يلقى فيه السلطان بالسفراء الذين يكون بينهم وبين دولهم حرب، ولما عاد بطرس إلى بلاده عام 1714 وصل إلى منصب الوزارة. . .

ولم ينس العاهل الجبار بطرس الأكبر صنيع وزيره هذا إذ أرسله إلى إيطاليا ليعود بأبنه اليكسي، وكان قد هرب من بلاده خوفاً من غضب أبيه عليه لما كان من معارضته إياه في إصلاحاته، ولم يزل به ذلك الوزير الماكر يغريه ويمنيه، ويستعين عليه سراً بخليلته، حتى عاد به إلى روسيا حيث أسلمه إلى الموت نكال أبيه، وجزى بطرس رسوله بالمال والضياع المترامية. ومما يروى عن القيصر العظيم انه في أواخر أيامه كان يمس بكفه رأس وزيره قائلاً:(أيها الرأس. . .! أيها الرأس، لولا ما أنت عليه من مهارة لمضى اليوم زمن طويل على الإطاحة بك من فوق كتفيك).

ويأتي دوران الفلك إلى عرش روسيا بنجل اليكس بعد، فيكون أول ما يعنى به القيصر

ص: 26

الجديد ان يقتص من ذلك الذي خدع أباه حتى جره إلى مواطن الحتف، ولئن سقاه أمس جده الكأس عسلاً فإنه اليوم يجرعه إياه علقماً، فقد جرده من القاب شرفه ونفاه إلى اركينجل نفياً لم تكن منه عودة. . .

على أن ذلك الفلك الدوار يضع على العرش عام 1741 القيصرة اليزابت ابنة بطرس الأكبر فترد إلى أسرة تولستوي شرفها وضياعها في شخص اندرو ايفانوفتش تولستوي حفيد ذلك الذي قضى نحبه في اركينجل.

وينمو من هذا الفرع الجديد السامق فرع هزبل رخو هو أبنه إليا تولستوي، فلقد كان ماجناً مستهتراً ضيق العقل، بسط يده كل البسط في ثروته العظيمة فبددها، ثم بدد بعدها ثروة زوجه الغنية، ولولا أن تداركه بعض ذوي النفوذ والثراء من أقربائه لحاق به سوء ما فعل، فبفضل هؤلاء عين إليا تولستوي حاكماً لقازان واستطاع أن يسترد بعض ما فقد. . .

ورزق حاكم قازان بغلام اسمه نيقولا، وترك له بعد موته ما بقي من أملاك الأسرة، وفي عهد نيقولا هذا وهنت ثروة الأسرة وهناً شديداً ولم تكن له يد في ذلك وإنما حدث هذا بسبب غيابه إذ أسره الفرنسيون، وكان لم يتجاوز الثامنة عشرة اثناء حملة نابليون على روسيا، وظل سجيناً بفرنسا حتى غلب نابليون على أمره فأطلقت سراحه جيوش الحلفاء الظافرة بعد دخولها باريس. . . ولم يجد نيقولا ما يرأب به ما تصدع ويصلح ما فسد خيراً من زواجه بات ثراء، وتم له ذلك بزواجه من ماري فولكنسكي العظيمة الثراء الكريمة المحتد.

وكان لأسرة فولكنسكي إلى الثروة وعراقة الاصل، الشمم والبطولة وقوة الروح واستقلال الرأي وصرامة العزم فتلك خلال ظهرت كلها أو بعضها في أفرادها، ومن هؤلاء ثائر اشترك في ثورة الديسمبريين وعوقب بالنفي ثلاثين عاماً في سيبريا حيث صحبته زوجته عن طوع، ومنهم ابن عم له خاض المعارك ضد نابليون في حماسة وبسالة اعجب بهما نابليون إعجاباً حمله على أن يرسل في طلبه وهو جريح أسير وعرض عليه أن يرد إليه حريته إذا قطع على نفسه عهداً إلا يحاربه مدة عامين ولكنه رفض هذا العهد في شمم وكبرياء. . .

وعرفت كذلك أسرة فولكنسكي بصلة النسب بين كثير من أفرادها وبعض ذوي المقدرة

ص: 27

الفنية من المؤرخين والأدباء والنقاد والشعراء، وكانت تربط ماري كولكنسكي وشائج الرحم من بعد بشاعر روسيا الكبير الأكبر بوشكين.

وكانت ضيعة ياسنايا بوليانا من نصيب ماري فولكنسكي عند زفافها إلى نيقولاي تولستوي نالتها من أبيها كما نالت ذلك القصر الأنيق الذي استقرت فيه وزوجها عقب زواجهما، وكان ذلك القصر الأنيق الذي تستوقف الأعين أخشابه الزاهية اللون في وسطه ويمتد جناحاه الحجريان العظيمان يمنة ويسرة إلى مسافة بعيدة، يقع فوق مرتفع على مقربة من الضيعة. وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس سنة 1828 ولد فيه لك الغلام الذي يقف الآن وهو في الخامسة من عمره يطل من شرفته على الضيعة والنهر والغابات والقرية القريبة، ويذكر ما أخبرته به العمة تاتيانا في رفق وهو انه لم يعد بعده صغيراً وانه سيدخل حجرة الدراسة من غده فلا يبرحها إلا متى شاء معلمه أن يطلقه.

(يتبع)

الخفيف

ص: 28

‌اكتبوا للأطفال

للأديب محمد سيد كيلاني

الشبان عندنا منصرفون عن كتب الأدب، وفيها زاهدون بل إن طلبة الجامعة ينظرون شزراً إلى قسم اللغة العربية، ويركبونه - غفر الله لهم - بالدعاية والسخرية.

ولا غرابة في ذلك فإننا لم ننشئهم تنشئة تطبعهم على احترام لغتنا القومية، وحب هذا التراث القيم من نظم ونثر. اجل!

لقد أهملنا تغذية عقول أطفالنا إهمالا شنيعاً في حين أن الأمم الأوربية اهتمت بهذا النوع من التأليف أنفقت في سبيل ذلك أموالاً طائلة.

1 -

فرنسا:

وكانت فرنسا اسبق هذه الأمم إلى إخراج كتب للأطفال. ففي القرن السابع عشر جلس على عرش تلك البلاد الملك العظيم لويس الرابع عشر.

وفي عصره ظهر عدد كبير من الكتاب والشعراء، وألفت مسرحيات رائعة، ونهض غير واحد من الكتاب بالتأليف للأطفال، ونخص بالذكر منهم (بيرو) الشاعر المعروف والعضو بالأكاديما الفرنسية، فقد اخرج بعض القصص بأسلوب سهل وعبارة جذابة، بيد أنه استنكف أن ينسبها إلى نفسه فنحلها ابنه. ثم اخرج مجموعة (أقاصيص وحكايات الزمان الماضي) باسمه هو لا باسم أبنه كما فعل من قبل.

ومضى بعد وفاة (بيرو) زمن طويل لم يعن فيه أحد بإخراج شئ من أدب الأطفال حتى جاء القرن الثامن عشر فظهرت (لبرنس دى بومون) وكانت تزاول تعليم الأطفال في فرنسا فكتبت عدداً عظيماً من القصص، ولعل من أهمها قصة (مخزن الأطفال) ولكنها لم ترزق خيالاً واسعاً ولا أسلوباً قوياً، فلا عجب ان اندثرت حكاياتها ولم يبق منها شيئاً يذكر.

وفي ذلك القرن ظهر (جان جاك روسو) ونشر آراءه في تعليم الأطفال وتربيتهم فآمن بها كثيرون في فرسا وغيرها من البلدان. فقامت (مدام دي جلنس)(1746 - 1830) بتأليف كتب كثيرة للأطفال. وكانت تسير في تعليمهم على مبادئ (روسو). ولم تعن بتربية الخيال عندهم ولكنها حرصت حرصاً شديداً على سلامة أخلاقهم.

وظهر بين عامي (17471791) أديب كبير منح الأطفال قسطاً كبيراً من عنايته فأنشأ لهم

ص: 29

صحيفة خاصة بهم أطلق عليها (صديق الأطفال) وقد عر هو نفسه بهذا اللقب. وامتاز بأسلوب في منتهى السهولة واللين. ولم يكتف بما في لغة بلاده بل نقل كثيراً مما ورد في لغات الأمم الأخرى. وبهذا استطاع أن سيد فراغاً كبيراً، وان يشبع رغبة الصغار في القراءة

ولم تشرق شمس القرن التاسع عشر حتى كثر عدد الكتاب الذين زاولوا هذا النوع من التأليف.

وفي القرن العشرين بلغ عدد ما يطبع سنوياً من قصص الأطفال بضعة ملايين، كما ان الصحف الخاصة بهم كثرت وانتشرت في كل مكان.

2 -

إنجلترا:

ويغلب الظن على أن العناية بكتب الأطفال في إنجلترا بدأت بعد ظهورها بفرنسا. فأنشأ (نيو بري) مكتبة خاصة للأطفال حوت كثيراً من الكتب التي تستهوي أفئدتهم، ومن بينها قصص الفت عن خرافات العصور الوسطى. ولما سرت تعاليم (روسو) و (لوك) وغيرهما من المفكرين إلى بلاد الإنجليز تأثر بها كتابهم إلى ابعد حد. ولا شك في أن (توماس داي) كان من اعظم كتاب الإنجليز تأثراً بتعاليم (جان جاك روسو) وقد ألف للأطفال قصة دعاها (ستانفورد ومرتون) تدور حول غلام سيئ الأخلاق والتربية يدعى (توماس مرتون) وهو من أب إنجليزي هاجر إلى الهند وأثرى ثراء عظيماً. ولما رجع إلى بلاده نشأت صداقة بين ابنه هذا وبين ابن أحد جيرانه وهو (هاري ستانفورد) وكان حسن الأخلاق طيب التربية بفضل تعاليم قس القرية (المستر بارلو) ولما فطن والد (توماس) إلى حقيقة هذا الأمر ناط بهذا القس تعليم ابنه وتهذيبه. فنتج عن هذا ان اصبح الصبي (توماس) صالحاً لا عوج في أخلاقه.

وظهر بعد (توماس داي) كتاب كثيرون منهم (دي فو) مؤلف قصة (روبنصن كروزو) التي نالت شهرة واسعة ونقلت إلى جميع لغات العالم وقام في كثير من البلدان الأوربية من قلدها ونسج على منوالها.

ولد (دي فو) سنة 1660 وتوفي سنة 1731 واشتغل بالتجارة ولكنه أصيب بالفشل. واشتغل بغير التجارة فصادفه الإخفاق التام. وكان مشغوفاً بالسياسة فاصدر في عام 1703

ص: 30

نشرة أغضبت ملك الإنجليز فأمر بإلقاء القبض عليه ومحاكمته. وأخيراً اضطر إلى مغادرة لندن والالتجاء إلى الريف. وهناك كان يقضي وقته في الكتابة والتأليف. وفي سنة 1719 اخرج هذه القصة الشهيرة.

ثم ظهرت قصة رائعة أخرى وهي (أسفار جوليفر) لمؤلفها (سويفت) وكان هذا الكاتب فقيراً جداً. وحاول ان يشتغل بالسياسة ولكنه لم يفلح فاضطر إلى الرجوع إلى موطنه الأول أيرلندا وفي سنة 1729 اخرج هذه القصة في أسلوب مشرق الديباجة.

ثم تتابعت قصص الأطفال في إنجلترا. ومن اشهرها (أليس في بلاد العجائب) لمؤلفها (لويس كارول)(1865) و (بيتر بان)(26 ديسمبر 1904) وغيرهما مما لا يتسع المجال لذكره. وظهرت صحف يخطئها العد لأطفالهم دون سواهم. وقد ساهم في تحريرها الأطفال من الأمراء والنبلاء.

3 -

في الأمم الأخرى:

وقد تسابقت الأمم الغربية الأخرى في هذا المضمار وقطعت فيه شوطاً بعيداً. فأنشأت أمريكا مكاتب عامة للأطفال ووكلت أدارتها إلى فريق منهم. وتطبع في أمريكا ملايين القصص في كل عام، وتصدر مئات الصحف التي يشرف عليها الأطفال وتدبجها أقلامهم.

واهتمت فنلندة وغيرها من أمم شمال أوربا بأدب الأطفال كل اهتمام. وامتازت قصصهم بخيال خصب، ترى عليها مسحة من الهزل والطرافة، ولوناً من الحزن يقربها إلى نفس. وممن برع من كتاب أهل الشمال في هذا الباب الأديب الفنلندي (اندرسن) الذي ولد عام 1805 وتوفي عام 1875. ومن خير كتبه التي أخرجها للأطفال قصة (ملكة الثلج).

ولم يقصر أهل الجنوب في هذا الميدان، بل أعطوه قسطاً كبيراً من عنايتهم. وقد كان لقصص الأطفال أكبر تأثير في العمل على وحدة كل من إيطاليا وألمانيا. وامتازت قصص أهل الجنوب بالدرس والتحليل والبحث والتمحيص، وتحكيم المنطق في كثير من الأمور، فلم يكن للخيال عندهم نصيب مذكور.

4 -

في الشرق:

أما في الشرق فلم يعن أحد بالاتجاه في هذه الناحية. وذلك لتفشي الأمية وعم العناية بتثقيف

ص: 31

النشء. وبقيت هذه الحال حتى عام 1928 إذ قام في مصر الأديب المعروف الأستاذ كامل كيلاني فأوقف مجهوده ووقته لخدمة الأطفال فأخرج في ذلك العام قصة (جوليفر) في أسلوب سهل وضبطها بالشكل وحلاها بكثير من الصور فصادفت رواجاً كبيراً شجعه على نقل غيرها من روائع الغرب. ثم اتجه هذا الأديب إلى ما ورد في اللغة العربية من نفائس القصص فبسطها وحذف منها ما لا يتفق مع عقليات الأطفال وأذواقهم فبدت شائقة جذابة، وانتشرت في أنحاء الشرق العربي كما ترجمت إلى جميع اللغات الشرقية وبعض اللغات الأوربية وعلى هذا يمكننا أن نقول أن الأستاذ كامل كيلاني قد سد فراغاً كبيراً كان من الضروري أن يسد، ووضع أساسا صالحاً لأن نشيد فوقه بناء لا يتطرق إليه الخلل.

فمما لا شك فيه أن أدبائنا الذين حصروا أنفسهم في الأدب العالي قد شيدوا الجدران والسقف قبل ان يضعوا الأساس. وهذا هو السر في إعراض شبابنا عن قراءة كتب الأدب وانصرافهم إلى الروايات التافهة الساقطة التي تنقل عن الغرب.

محمد سيد كيلاني

ص: 32

‌الأدب والفن في أسبوع

تراجم جديدة للقرآن:

ظهرت أخيراً ثلاث تراجم للقرآن الكريم، الأولى باللغة الإنجليزية، وقد قام بهذه الترجمة الشيخ عبد الله يوسف من رجال المفوضية السعودية بالولايات المتحدة، واشرف على طبعها الشيخ خليل الرواف، وتقع هذه الترجمة في مجلدين يشتمل كل منهما على ألف وخمسين صفحة. والثانية باللغة الفرنسية، وقد قام بطبعها المستشرق (ريجيس بلاشير) أستاذ الأدب العربي في معهد الدراسات الإسلامية بباريس، ومؤلف كتاب (نقاد المتنبي).

والثالثة باللغة الأسبانية وقد قام بها الأستاذان (سيف الدين رحال) و (ستنيا غوم بير الله)، وتقع في ثلاثة أجزاء، وقد كتب المترجمان للترجمة عدة مقدمات باللغتين الأسبانية والعربية تناول فيها أعجاز القرآن وتاريخ الأنبياء وروح الإسلام وما تضمنه القرآن من نظريات في العلم والاجتماع والعمران.

وللقرآن تراجم كثيرة في كل لغة، ثم هو لا يزال مقصد المترجمين وموضع اهتمامهم، ونحن نذكر انه منذ سنوات قامت ضجة كبيرة في مصر بين العلماء حول ترجمة القرآن، ونذكر أن الرأي اتجه يوم ذاك إلى ما سموه بترجمة معاني القرآن، ووضع مشروع رسمي لهذا، والفت لجنة من المختصين لتضطلع بهذه المهمة، وارصد لها المال اللازم في ميزانية الدولة، وقالوا إن هذه اللجنة باشرت عملها فعلاً، وانتظرنا، ثم انتظرنا، والى اليوم لم نر أي اثر لهذه الكلمة ولم نسمع أدنى خبر عن تلك اللجنة!! ولسنا ندري ما الذي عطل ذلك المشروع وعاق سبيله.

إن ترجمة القرآن، أو معاني القرآن كما يقولون أصبحت ضرورة لازمة وواجباً يتحتم علينا أداؤه، وإن من المحتم أن تكون هناك ترجمة مقومة مصححة ينهض بها علماء ثقاة في علوم القرآن إدراك أسراره، ويجب أن تكون هذه الترجمة بجميع اللغات الحية الذائعة، أما نظل جامدين، ونترك الباب مفتوحاً للمستشرقين ولغيرهم من أصحاب الجهود الفردية يترجمون القران كما يشاءون وعلى قدر ما يفهمون فإننا لا شك نجني على القران الكريم بجمودنا وإهمالنا. وإذا كان الأزهر - وهو أكبر جامعة إسلامية - لم يستطع أن ينهض بهذا، ولم يمكنه ان يمضي في ذلك المشروع الذي وضع من قبل، فإن لنا كبير الأمل في

ص: 33

الجمعة العربية أن تجعل هذه المهمة ضمن غايتها الثقافية.

مصر التي علمت العالم:

أشرنا في عدد سابق إلى وصول الأديب الفرنسي الكبير (جورج ديهاميل) إلى مصر، وقلنا أنه سيذيع في مصر عدة محاضرات ثقافية، ونقول اليوم انه ألقى فعلاً ثلاث محاضرات كلها إشادة بالثقافة الفرنسية وتمجيد لآثارها في الفن والأدب وخدمة الإنسانية، ولكن أسلوب (ديهاميل) الرائع البارع يضفي عليها جدة وخلابة، وقد عرض (ديهاميل) في إحدى محاضراته هذه إلى الحديث عن مصر القديمة بأسلوب طلى فقال:

(قلما تدهشني مناظر الأرض حين أراها من عل. حقاً إنها تبدو في هذه الحال غريبة بمقتضى مقاييسنا الإنسانية، وكثيراً ما أكون كلفاً بهذه الجغرافية المجردة، ولكني لا أتأثر بها إلا نادراً، ومع ذلك فقد شعرت بتأثير لا شك فيه عندما تكشفت لي دلتا النيل فجأة، بعد أن أمضيت ساعات فوق صحراء جرداء عابسة. ولست اعزوا هذا التأثير إلى شعوري باني استعدت مرة أخرى الحياة والخضرة وهما رمز الرجع الأبدي، كلا! فإن الذي هزني وغير إحساسي فجأة أن ألمح هكذا وبنظرة واحدة بعد التنقل من حال إلى حال، إحدى البقاع المقدسة التي انبعثت منها حضارة الغرب، وهي مصر. . .)

(لقد تشكلت هذه الحضارة وتهذبت في بطأ على ضفاف النيل، ثم انتشرت - كمياه النهر الكبير - في شرق البحر المتوسط، فبلغت الجزر، وامتدت إلى أسيا الملساء، وغزت شيئاً فشيئاً كلما سماه (فاليري) بحق: قارة البحر المتوسط، ومن هذا المكان قفزت إلى أوربا كلها ومن شواطئها وثبت إلى القارات الأخرى ثم تهذبت هذه الحضارة تهذيباً واسعاً على ممر الأيام، وظلت مصر التي كانت لها في العهد القديم مكانة مرموقة وهي غريبة عن أجيالنا، فقصارى القول أنها ظلت في الظاهر - على الأقل - بعيدة عن الإسهام في بناء القريب الذي كرست له كل شعوب الغرب جهودها).

(ولكن مصر البدائية هذه التي تبدو لنا غامضة كالطلسم، والتي يتعذر فهمها على الرغم من جهود العلماء التي تبعث الاعجاب، قد علمتنا درساً كبيراً في الماضي، ولا تزال تعلمنا هذا الدرس إلى اليوم، والى أخر الدهر، هذا الدرس الذي يخطئ هذا المجتمع المتحضر كل الخطأ إذا هو غمطه، فقد أرتنا منذ بداية تاريخ أن من أهم ما يجب على الإنسان أن يجاهد

ص: 34

من اجله، هو أن يستخلص من النسيان شيئاً، وان يخلف من شخصه أو من جهده أثراً خالداً. وكثيراً من الناس يشيرون في كل وقت إلى الخلود والأبدية، ولكن كثير منهم لا يفرقون بين الخلود والابدية، فهم حين يستعملون هاتين الكلمتين اللتين تبعثان في النفس الرهبة والخشية إنما يعربون في بساطة ساخرة أو مستترة عن اعتقادهم فانون، وعن رغبتهم كذلك في أن يظلوا أحياء بعد موت غيرهم، ان لم يكن بأشخاصهم فلا أقل من أن يكون بأثر من آثارهم يحيي ذكراهم بعد مماتهم. .).

(. . ذلك هو الدرس الذي تلقيه علينا مصر القديمة، وقد عرفته من أول زيارة لها، فابهرني وأنا انظر من أجواء عالية فأرى النهر القديم ينساب في جلال بين آثار إنسانية باقية. ولا شك عندي أن أكثرها دواماً وخلوداً تلك التي خلفها لنا الألى لا نكاد نعرف عنهم شيئاً إلا انهم دفنوا أحقادهم وكل أمر يدعو إلى الخصام. .).

كتاب له قصة:

في العدد السابق من (الرسالة) أشرت إلى ما نهض به السيد محمد كرد علي بك في نشر وتحقيق كتاب (المستجاد من فعلات الأجواء) للمحسن بن علي التنوخي، واشتدت بهذا الصنيع على أنه مأثرة حميدة في خدمة التراث العربي، وبعث آثاره المطمورة، ووصل حلقاته المفقودة.

وقد حدثني الأديب الفاضل بقصة عجيبة غريبة عن نشر هذا الكتاب: (لقد كانت الفكرة في هذا فكرة الأديب الباحث السيد صقر، فهو الذي جمع أصول الكتاب وقام بتصحيحه وتحقيقه، وتأهب لنشره، وأعلن لذلك في الصفحة لأهل العلم والأدب، وكان قد التقى في العام الماضي بالسيد كرد علي بك واطلعه على هذه الغاية، وطلب منه ان يفيده بما لديه من خبرة في ذلك. . ومضت ايام، وبينما الأستاذ صقر ماض في خطته إذا بنبأ من الشام يقول حسبك، فإن الأستاذ كرد علي قد قام بنشر الكتاب. وان أخانا صقر لحائر فلا يدري ماذا يصنع؟ أيصرف نفسه عن هذه الغاية على ما بذل في الكتاب من جهد وعناء، أم يقول بنشر الكتاب وفيه ما أسدى وأفاد)

قلت إنها قصة تروى. . وإني لأعرف من أمثالها كثيرات، ولكن أقول ما قال (الجاحظ) من قبل (ولولا ان أكون عياباً، وللعلماء خاصة، لأريتك من هو أبو عبيدة، ومن هو في وهمك

ص: 35

ابعد من أبي عبيدة).

فحسب أخينا الأديب صقر ما قدم، ولعله يحتسبها إحدى (فعلات الأجواد) وان كان صنيع شيخنا كرد علي ليس (بالمستجاد) وان مما يروى عن أبي عبد الله بن الزبير انه دخل على معاوية فأنشده لنفسه.

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته

على طرف الهجران إن كان يعقل

ويركب حد السيف من أن تضميه

إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل

ثم دخل معن بن أوس وانشده قصيدته التي مطلعها:

لعمرك ما أدري وإني لأوجل

على أينا تعدو المنية أول

حتى أتى عليها وفيها البيتان السابقان بلفظهما، فاقبل معاوية على عبد الله بن الزبير الم تخبراني انهما لك! فقال: نعم، هو أخي من الرضاع، وأنا أحق الناس بشعره!. .

حرية الرأي والحكومة:

اخرج الأديب اللبناني الأستاذ (مارون عبود) كتاباً بعنوان (الرؤوس) تناول فيه العرب وعاداتهم وتقاليدهم وطرق معيشتهم وأوضاعهم بأسلوب سفساف، تجاوز الحق والأنصاف

وقد تناولت إحدى المجلات (السورية) هذا الكتاب بالنقد، فوصفته بأنه (باطل جريء في لفظ بذيء)، ونعت على مؤلفه أن يشوه الحقائق استجابة لنزعة طائفية ممقوتة، ثم قالت:(ونحن نلفت نظر حكومة لبنان الرشيدة إلى ان الحرية لا تمنح إلا ضمن إطار محدود ومقيد فمجال الأدب والأديب يتسع لكل قول لأن الأدب والأديب ليس وقفاً بين حدود طبيعية، ولكن العناصر والأجناس والأديان والرسل لها مكانها التي يجب أن تحفظ ويجب بالتالي أن يراقب كل ما يكتب بشأنها)!

وأنا أقول كلا، فإنه مهما كان من إسفاف الرأي وضلاله، وتهافت الحكم وانحلاله، ومهما كان من المؤلف في التجاوز والشطط والخلط، فلا يصح بحال ان نستعين عليه بالحاكم ليردعه، وبصاحب السلطان ليقنعه، وإلا كان هذا اعترافاً منا بان للرأي الفاسد قوة تمكنه من البقاء، وتستحق منا كل هذا العناء.

لقد كان (ابن الراوندي) اشد إسفافاً وأحط صنيعاً، فكان يصبح مع المسلمين، ويضحي مع النصارى، ثم هو في الظهيرة مع اليهود، وفي المساء مع المجوس، ولا ادري مع أي طائفة

ص: 36

يكون في الليل، وكان يؤلف الكتب لكل فرقة هواها، فكان يلعن كل دين، ويطعن في كل نبي، ويصب على رؤوس الأجناس والعناصر السباب والشتم، ومع هذا كله فقد وسعه الإسلام بسماحته، واحتمله الحكم الإسلامي وهو في عنفوان صولته، ثم مات (ابن الراوندي)، وطارت كل اثاره ومؤلفاته هباء في الهواء، ولو كان منها شئ ينفع الناس لمكث في الأرض. .

ليس للفكرة التافهة أي ضمان للبقاء إلا إن نأبه بها، ولولا أن (ابن الخياط) رد على (ابن الراوندي) في كتاب (الانتصار) وتناولت أراءه بالتفنيد، لما بقى ظل لتلك الآراء على الأرض، فهل تريد الزميلة السورية أن تجعل (لرؤوس مارون عبود) رجع الصدى فهيبة بالحكومة اللبنانية لتمحيصها ومحاسبته عليها؟

فن وتجارة!. .

أرسل الأستاذ يوسف وهبي بك بوصفه نقيباً للمثلي المسرح والسينما البرقية التالية إلى معالي وزير الشؤون الاجتماعية نشرها بنصها وبلغتها: (نقابة ممثلي المسرح والسينما بالقاهرة تهيب بمعاليكم أن تدرءوا عن صناعة السينما المصرية ومستقبل الآلاف المشتغلين بها الخطر الداهم من جراء السماح للشركات الأجنبية بعمل نسخ من أفلامها الناطقة باللغة العربية. إن المنافسة ستكون خطرة غادرة لعدم توازن القوة المادية والفنية بيننا وبينهم، فنستصرخكم لشد أزرنا بإصدار قرار يمنع عرض هذه الأفلام في دور السينما المصرية، أبقاكم الله درعاً لحماية الفن والفنانين!)

فأنت ترى من هذه البرقية أن نقيب الممثلين المرحين والسينمائيين يستصرخ ويستنجد ويغيث بمعالي وزير الشؤون الاجتماعية لمنع عرض (أفلام للشركات الأجنبية ناطقة باللغة العربية) لا لشيء إلا لامتيازها (المادي والفني) على الأفلام المصرية، مما يجعل المنافسة خطيرة، ويجني على مستقبل الآلاف المشتغلين بالسينما في مصر كما يقول حضرة النقيب.

والمعنى واضح لهذا الكلام أن ما يسمونه في مصر بالفن المسرحي والسينمائي ليس باباً للامتياز والإجادة والحرص على المثل الأعلى، وانم هو تجارة و (آكل عيش) لا اكثر ولا اقل ومتى صار الفن هو هذا. . . فكل شئ جائز، حتى ذلك الكلام الذي يقوله نقيب المسرحيين والسينمائيين.

ص: 37

أننا لا ندافع عن الأجنبي بأية حال من الأحوال، ولو أن حضرة النقيب طلب إجراء بازاء الأفلام التي تذاع بيننا باللغة الأجنبية لظاهرناه في رأيه بدافع القومية على الاقل، ولكنه يطالب بمنع (أفلام ناطقة باللغة العربية)، ونحن نعرف ان الشركات الأجنبية بقوتها واستعدادها المادي والفني ستخدم اللغة العربية وستخدم الفن بيننا، وستكون منافستها داعياً للإجادة وللقضاء على ذلك الفن الرخيص الذي هو أشبه بسامر الطبالين في القرية. .

لا يا حضرة النقيب، فإن الفن اجل واطهر من أن يتدلى حتى يصبح مجرد تجارة وضماناً.

ولو صح هذا الكلام الذي تقوله لجاز أن يطالب الأدباء بمنع ترجمة المؤلفات الأجنبية لأنها تقضي على مستقبل آلاف من المؤلفين المصريين، يالها من حجة هي حجتك ومنطق هو منطقك!!. .

المسرح الشعبي:

انتهت وزارة الشؤون الاجتماعية من الاستعداد لإنشاء مسرح شعبي يقوم بعرض تمثيليات وأدوار تتصل بالحياة الشعبية في الأحياء الوطنية وفي أقاليم الريف.

والقصد من إنشاء هذا المسرح هو معالجة المشاكل الاجتماعية والخلقية بين طبقات العامة وجماهير الشعب بأسلوب من الفن يلائم مداركهم وعقلياتهم لغة وأداء وموضوعاً، حتى يكون اسهل في التأثير، وابلغ في التوجيه، وأجدى في الفائدة.

والفكرة في إنشاء هذا المسرح ليست بنت اليوم، ولكنها فكرة لجأت فرنسا إلى تحقيقها منذ زمن، وقد كان القصد من إنشاء هذا المسرح أن يكون درجة قريبة الصعود لطبقات الشعب، إذ كان التمثيل على المسرح الفني يجري بأسلوب رفيع، ويتناول موضوعات قوية عميقة المغزى، بعيدة على المدارك، فكان المسرح الشعبي أشبه ما يكون بمرحلة الأعداد للمسرح الأعلى، كمرحلة التعليم الابتدائي بالنسبة للثانوي، والثانوي بالنسبة للعالي

ولكن عندنا تجري الأمور معكوسة مقلوبة، فما يسمونه بالفن التمثيلي والسينمائي بيننا يجري منحطاً مع عواطف الجماهير، ويتدلى إلى ما هو أدنى من مداركهم، ونحن الذين كنا من قبل نهيب بهذا الفن أن يخفف غلوائه، وأن يقدر لأدراك الجماهير قيمة في حسبانه، أصبحنا اليوم نطالب بان يسمو الفن في مهمته واساليبه، وان يترفع عما تردى فيه من عامية منحطة في الأداء والموضوع. فمن مبلغ أولئك المسؤولين ان الفن عندنا جميعه قد

ص: 38

اصبح شعبياً وان الذي نحتاجه هو الفن الرفيع المهذب الذي يسمو بالنفوس والعقول؟!

(الجاحظ)

ص: 39

‌من هنا ومن هناك

الضريبة والحية:

(للأديب الصيني (لينزوإيو)(773 - 819))

كان في مدينة (بان جون) حية رقطاء، ما لدغت إنساناً إلا قتلته، وما مست نباتاً إلا أيبسته، وما عرف الناس اخبث من سمها ولكنه إذا استخلص وصب في قوارير كان دواء للجمرة وللبرص والجذام والناسور والطاعون.

ولما استفحل شرها، وعم ضرها، أعلن الملك أن من قتل حية فقدمها إلى طبيبه أعفاه من الضريبة فتسابق أهل البلد إلى جمعها واختصت بذلك أسرة (شيانج شي) فانقطعت إليه ثلاث بطون. ولقد لقيت واحداً من هذه الأسرة فسألته عن حاله فقال:

- (لقد قتلت هذه اللذة أبي وقتلت جدي من قبله، وأنا أمارسها منذ اثنتا عشر سنة، تعرضت فيها للموت غير مرة).

وبدت الكآبة على قسمات وجهه، وشاع الأسى في صوته، فرثيت له وقلت:

- لماذا لا تدعها إذا كان فيها الخطر، وتطلب من الحكام ان يأخذوا الضريبة منك؟

فقال - وهو يبكي بكاء موجعاً:

- أتريد أن ترحمني وتحييني؟ لا إن عملي هذا ليس شراً من دفع الضريبة - وانه يخيل ألي أني لولاه لم أبق حياً إلى الآن. ولقد مرت على هذه القرية ستون سنة ينقصون يوماً بعد يوم، إذ قد وجب عليهم أن يقدموا جميع ما تخرجه أرضهم، فكانوا لا يصبرون على هذا فيدعونها ويرتحلون، أو يسقطون جوعاً وإعياء. وتصيبهم الأمراض والأوباء. ومنهم من لا يستطيع اصطبارا فيجني الجناية فيأكل من حاصلات أرضه، فتفانوا وذهبوا، فلم يبق من الأسر التي عاصرت جدي واحدة من العشر، ولم يبق ممن عاصر أبي غير اثنين أو ثلاث - ولم يبق ممن عرفت أنا منذ اثنتا عشر سنة إلا أربع أو خمس - وأنا الوحيد الذي بقيت أسرته حية بفضل هذه الحية.

ولو أبصرت حين يصل إلى القرية الجباة الجابرون. فيملئون القرية صياحاً وضوضاء، ويهددون بالقتل أهلها، ولا ينجوا من شرهم الدجاج ولا الكلاب ورأيتني متباطئاً فأنظر إلى قدوري لأطمئن على وجود الحية - وحين أطعمها وأغذيها، وانتظر الموسم لأقدمها إلى

ص: 40

الطبيب، ثم ارجع إلى بيتي فأكل من ثمرة ارضي مطمئناً لعرفت فضل هذه الحية علي.

على أني لا اقدم على الموت مخاطراً بحياتي إلا مرتين في السنة وأعيش أيامي الباقية عيشاً هنيئاً لا يشوبه هذا القلق الذي يتجرع القرويون غصصه طول السنة.

ولا ريب أني سأموت من هذا العمل يوماً من الأيام، ولكن اجلي يكون أطول على كل حال من أجال أهل القرية، فلماذا أتذمر من هذه المهنة واعدل عنها).

وحز في قلبي كلامه، وانصرفت وقد فهمت معنى قول كونفوشيوس:

(ان الحكومة الظالمة ارهب من النمر واشد افتراساً).

نور ناهين

مكافحة المسكرات عند قدماء المصريين:

بلغت الحياة الاجتماعية عند قدماء المصريين درجة عالية من الرقي، فالمصادر التي تحت ايدينا من النقوش والنصوص تدل على ان المصري كان كثيراً ما يقيم الولائم لاصدقائه وجيرانه في داره وان الزوجة كانت تصحب زوجها في الحفلات الخاصة وفي الاعياد العامة حيث كان القوم يسمعون الموسيقى ويحتسون الخمر. وقد عثر علماء الدراسات المصرية القديمة على كثير من النقوش التي تصور المصري وقد غرس اشجار العنب والنخيل وغيرها لاكل ثمارها أو تحويل هذه الثمار إلى خمور لعلاج بعض الامراض.

وكانوا يضعون العصير في القدور أو جرار تسد سداً محكماً حتى لا يتسرب الهواء إليها ويكتب عليها اسم الملك واسم المكان وتاريخه وكان يذكر نوع الخمر للتمييز بين اصنافه المختلفة.

وعلى مرور الزمن اخذوا يستعملون الخمر في غير ما وضعت له فبعد ان كانت دواء اصبحت داء. ففي احدى المقابر نرى صورة جميلة تمثل حالة سكير قد فقد رشده وخارت قواه وضعفت ساقاه، فحمله بعض الرفاق على رؤوسهم وعلى وجهه علامات التعب. وفي مقابر مدينة طيبة نرى صورة اخرى تمثل امراة ثملة تتقيا ما احتسته من الخمر. وفي بعض نصوص مقبرة الموظف (بحرى) نقرأ حديث لامراة تطلب من الساقى أن يناولها نبيذاً لأن جوفها قد جف (حرفيا:(صار كالقش)) ولعل هذه الحوادث وأمثالها مما حدا

ص: 41

بالمشرع المصري القديم أن يوقع العقوبة على السكارى إذا ضبطوا في شوارع المدن.

فمن ذلك ما ورد في بردية أن أحد السكارى قاده رجل الأمن إلى السجن.

وقد عاون الأدباء رجال التشريع والأمن على مكافحة المسكرات فمن أن ذلك أن بعض أوراق البردى تحدثنا أن أديباً نصح ابه قائلا (لا تدخل حانة السكر وتفاخر أنك تستطيع أن تشرب ابريق نبيذ لئلا ينقل عن لسانك ما تقوله وانت لا تدري به. فاذا وقعت على الأرض انكسرت أعضاؤك ولا يمد أحد من رفاقك إليك يده، ويصيحون قائلين ابتعدوا عن هذا السكير).

وجاء في بردية اخرى ما ترجمته (السكير كمعبد بلا اله أو بيت بلا خبز أو سفينة بمجداف مكسور)

ومن هذا نرى أن مصر القديمة كافحت المسكرات بوسائل لا تختلف جوهرياً في الواقع عن الوسائل التى نتبعها في عصرنا الحاضر.

دكتور باهور لبيب

الإنسان الالى معجزة القرن العشرين

اخترع العلماء الأمريكيون في اواخر عام 1945 آلة حاسبة تستطيع أن تحل في خلال فترة قصيرة اعقد المسائل الحسابية التى كانت قبل ذلك تحتاج إلى ملايين من عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة، كما عرف العالم الخارجي أن تلك ألآلة الجبارة تضبط كما يضبط (المنبه) عندما يطلب إليها حل احدى المسائل الحسابية، وهذا كل ما يفعله الإنسان، اما الباقي فإن الآلة تتكفل به من تلقاء ذاتها، ولا تلبث أن تقدم النتيجة المطلوبة دون خطأ ما.

وقد تنبأ أحد العلماء الأمريكيين - وهو الدكتور فإنفرربوش مدير معهد الفنون والصناعة في ولاية ماساشوسيتس الأمريكية بأن هذه الالات ستتطور في المستقبل بحيث يتمكن الإنسان من أن يحصل منها على (حجج منطقية) خارج نطاق علم الحساب نفسه، ولكنه يعترف مع ذلك بان من المستحيل على كل حال صنع الات تستطيع ان تتمنى، أو تنتقد، أو تخترع.

ص: 42

ويبدو ان لمثل هذا البحث اهمية قصوى في عصرنا هذا، فإن المشكلة الكبرى التي تواجه هذا العصر هي مشكلة الجماعات والجماهير، والعمل الجماعي بوجه عام، ولم يعد في هذا العالم مكان لاولئك الفلاسفة الارستقراطيين، من امثال (نيتشة) وغيره من فلاسفة اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين. ان العصر الجديد هو عصر الذرة، والرادار، والالكترون، وسيطرة الإنسان على الجماد، وعلى الطبيعة.

ولا شك ان الاعوام الباقية من القرن العشرين ستشهد انقلاباً عظيماً في عالم الاختراع لم يحلم به المفكرون والعلماء في القرن الماضي، وسيكون الاجزء الأكبر من هذا الانقلاب منصباً على الالات التي تكاد تصل إلى مرتبة الإنسان في القدرة على التصرف وعلى مجابهة الصعاب.

مجلة لامرسلييز

ادريان نوربيل

ص: 43

‌البريد الأدبي

تقدير كريم لكتاب الرسالة الخالدة:

بعث سعادة الامين العام لرئاسة الجمهورية السورية الكتاب التالي:

الى مقام رئاسة مجلس الوزراء:

ظهر كتاب الرسالة الخالدة من تأليف المفكر العربي الغني عن التعريف عبد الرحمن عزام باشا (الرسالة الخالدة) وقد اطلع فخامة الرئيس على هذا السفر الجليل فالفاه طافحاً بالايمان القومي حافلاً بالفكرة الروحية التي قام عليها مجد الآباء والتي يهمنا ان تنتظم نفوس شبيبتنا في عصر طغت فيه المادة وضعف فيه الرادع الخلقي.

وان فخامة الرئيس يرغب إلى مقامكم ان تأمروا بان تقتني دور الكتب الحكومية والبلدية هذا السفر الجليل وان توصي المعاهد طلابها بمطالعته حرصاً على ان يعم الانتفاع به من الشبيبة والقراء، ولكم خالص الاحترام.

دمشق في: (1 ربيع الاول سنة 1366 - 23 كانون الثاني

سنة 1947)

الامين العام لرئاسة الجمهورية

انسى الازهر المراغي؟

انسى الازهر المراغي فلا يؤبنه بحفل، ولا يشيد به في جمع، ولا يخلده بمنشأة، ولا يذكره في مناسبة، وقد اخذ بيده هرماً، تحامل عليه الداء، واستبد به المرض؟. . .

لقد كان المراغي عالماً من طراز نادر، يجود به الزمان على قلة وبعد،. . . تعدى تفكيره سور الازهر وجوانب الدرس، وتخطى فهمه مماحكات العلماء ومجادلات القدامى، إلى ما يلائم تطور الزمن، ويساير تقدم الجماعة، ويتفق وطبائع البيئة، مستمداً من روح الإسلام السمحة، ومرونته العجيبة، قوانين توائم بين العلم والدين، وتؤاخي بين الفلسفة والشريعة، واحكاما تنير للناس ما غمض من قضايا، أو خفي من آياته. . . فلما توفاه الله إليه، كان اسوأ الناس ظناً بالعلماء ووفائهم، يؤمن بأن حفلة تأبينيه ستقام على الاكثر في يوم ذكرى

ص: 44

الاربعين، وانها لن تكون بالمعنى الذي تواضع عليه الناس، انما تكون مهرجاناً دينياً يردون فيه إلى الرجل بعض ما اسدى إليهم من المعروف، وان فيضا من تخليده وتقديره سيتبع الذكرى، ولكن - وا اسفاه - مات المراغي، فلم يقم له حفل، ولم يذكره عالم، ولم يخلد له اثر!

من كان يظن ان رجلاً اقام جامعة، واحيا منصباً، وفتح بيوتاً، وهذب نفوساً، وصقل ارواحاً، وهز السياسة كما هز الاعواد المنابر، مات ومر على موته عام وبضع عام، ومع هذا فقد ضن عليه مريدوه، واصدقائه وخلصائه، وزملائه واخوانه، والذين نفعهم في الشدائد، بحفلة ولو متواضعة، في حي الازهر العتيق!. . .

والعجيب، ان الذين احسن إليهم المراغي في حياته، فبوأهم المناصب، وبلغهم المراتب، وصنعهم رجالاً. هم في طليعة محاربيه والداعين إلى نسيانه، واهالة التراب على ذكراه؟!.

عفاء على الوفاء عفاء. .!!

الطاهر أحمد مكي

حول (قطربل):

في العراق كثير من الاثار الجليلة لكثير من البلدان والقرى تحدثنا عنها كتب التاريخ والأدب باسهاب. . . منها ما طمست معالمها فلم تعد تظهر الا كتلول ومرتفعات. وما اكثرها في فيافي بين النهرين. . . ومنها ما لايزال ماثلاً للاعيان ينتظر جهود العلماء والباحثين ففي تظافرهم ما يسد هذه الثلمة المزرية في تاريخنا المجيد.

وقطربل واحدة من القرى ببغداد حدثنا عنها الأستاذ شكري محمود أحمد في العدد 704 من الرسالة الغراء حديثاً ادبياً ممتعاً. وقد ابدع في وصف جمالها الضاحك ومناظرها الفاتنة ما شاء له الابداع. ولكن شيئا واحدا لفت نظري في حديثه وهو قوله عنها: (قرية بين بغداد وعكبرا). فهذا القول لا يتفق والحقيقة وقد قاله قبل هذا ياقوت الحموي في معجم البلدان وعليه اعتمد الأستاذ كما اعتقد. . . وقد صحح ابن عبد الحق الحنبلي هذا الغلط الثابت واشار إليه في كتابه مراصد الاطلاع بقوله (قطربل. . . قرية. قال بين بغداد وعكبرا: قلتبين بغداد والمزرفة لأن عكبرا في الجانب الشرقي وهي في الغربي وبينهما فراسخ.

ص: 45

واليها ينسب الطسوج التي هي فيه فيقال طسوج قطربل. . . وما فوقه الصراة من اسافل سقي دجيل فهو من طسوج قطربل. . .)

وبعد فلقطربل ذكر حميد في مختلف كتب التاريخ ولعل الأستاذ ان يعود إلى الحديث عنها باسهاب. وبذلك يسدي إلى التاريخ خدمة جلى تذكر فتشكر.

الكاظمية - العراق

محمد موسى الموسوي

1 -

في اللغة:

اشاع بعضهم استعمال مثل: (جميل وجميل جداً) باقحام حرف العطف في التأكيد اللفظي.

وإذا عذر في تقليده الناشئون فلن يعذر الراسخون كالجارم والمدني.

قال الأستاذ الجارم في مقالته الخامسة في المعارضات في الشعر العربي المنشورة بعدد يناير 1947 من مجلة الكتاب الغراء:

(وغير هؤلاء كثيرون وكثيرون) أي كثيرون جداً. والوجه ان يقال: كثيرون كثيرون بلاعطف.

وقال الأستاذ محمد المدني في صفحة 18 من العدد الممتاز من الرسالة الغراء (6 يناير 47):

(إلى حد بعيد وبعيد جداً) والوجه: بعيد بعيد جداً، أو بعيد جداً بعيد - ان اراد -

2 -

حاشرة (زنزانة):

وضع الأستاذ علي الطنطاوي في مقالة بعدد الرسالة الاخيركلمة حجيرة لزنزانة. والأستاذ الطنطاوي موفق فيما يضع من أسماء لمسميات لم تكن.

وقد كنت سميت الزنزانة باسم (حاشرة) واظن أنه أدل على المعنى من حجيرة الذي لا يفيد سوى التصغير.

ولعل الأستاذ والسادة الأدباء يوافقون على ذلك فيستعملونه.

فلسطيني

ص: 46

‌الكتب

(يسألونك)

(للأستاذ عباس محمود العقاد)

ذلك كتاب قيم من أدب المقالة اخرجه الأستاذ العقاد يضيف به حلقة إلى سلسلة كتبه (الفصول) و (المطالعات) و (المراجعات) و (ساعات بين الكتب)؛ لأن هذه المقالات وان شابهت تلك الحلقات في الموضوع والحيز واسلوب التناول: (لاتدخل تحت عنوان من تلك العناوين لانها كانت على الاكثر اجوبة لاسئلة معينة يوجهها القراء إلى صاحب الكتاب، فهي نتخالفها في المناسبة وان وافقتها في موضوعها وخطتها وايثارها الجوانب العامة على الجوانب الشخصية) والكتاب يشتمل على خمسين مقالة في المسائل المتنوعة والاغراض المختلفة، عالجها الأستاذ الجليل بما تميز به من عمق الفكر واصالة الراي وتقصى الموضوع وبلاغة الاسلوب. وقد نشرته (لجنة البيان العربي) مطبوعاً في مطبعة مصر فاجتمع لهذا الكتاب قوة الانتاج وجمال الاخراج.

(م)

أمهات المؤمنين وأخوات الشهداء

(للسيدة وداد سكاكيني)

ليست السيدة (وداد سكاكيني) غريبة عن قراء الرسالة، ولا عن المتتبعين للحركة الأدبية النسائية في الشرق العربي. فقد كان لها جولات كثيرة موفقة في هذا الميدان الأدبي.

واخر هذه الجولات كتابها الذي نعرض له اليوم عن (أمهات المؤمنين واخوات الشهداء) وهو كتاب عرضت فيه لسيرة طائفة من فضليات النساء العربيات فوقفت عند ابرز صفاتهن، وجلت هذه الصفات مبينة عنها ممجدة لها، حاثة على الاتصاف بها والاقتداء فيها.

والكتاب في اربعة عشر حديثاً تناولت في كل حديث منه سيدة كريمة فبدات بام الزهراء، ثم أم المحسنين، فأم المؤمنين عائشة، فوفاء بنت الرسول زينب، فأخت الحسين، فذات

ص: 48

النطاقين، فأم سلمة، فزينب الأسدية، فمارية المصرية، فالخسناء فسكينة، فأم معاوية، فأخت ضرار، ثم انتهت أخيراً إلى أم الامين السيدة زبيدة.

ولقد استطاعت المؤلفة الفاضلة أن تعرض مناحى العظمة في هؤلاء الفضليات من النساء في صور فنية لم تحل بينها وبين الحقيقة التاريخية فلم تخلع عليها من خيالها ما يحجب حقيقتها، ولم تسدل عليها من جمال الفن القولى ما يذهب بواقعها، وانما التزمت - كما تقول في مقدمتها - أن تمضى على طريقها التى جعلت سداها الحقيقة ولحمتها التاريخ.

وفضيلة الكتاب، فوق فضيلته في نفسه، أننا نحتاج الية اشد الحاجة في بيوتنا ومدارسنا. . أن بناتنا واخواتنا لا يجدن ما يقرأن في بيوتهن الا هذا الأدب الرخيص، وهذه المجلات التى لا تتقى الله في حرمة أو شرف أو اباء.

على انه لا بد من أن نلاحظ في اسلوب الكتاب على سموه بعض القسوة والتزمت، فقد كانت بعض الصفحات، وهي قليلة، كأنها ماء متجمد، على حين جرت صفحات أخرى، وهي كثيرة عذبة سائغة في طلاقة وبريق.

ولعل من ذلك أن المؤلفة الفاضلة كانت تنساق في سجع لا يملك الاذن، ولا يقع منها موقع الارتياح والرضا، وارجو الا أكون في ذلك متجنياً، فقد عهدناها طلقة الاسلوب بعيدة عن قيوده، ولكن هذا الذي وقعت عليه.

والثالثة من هذه الملاحظات ان الكتاب مجموعة احاديث القيت في المذياع، أو هكذا يخيل الي. . ولذا جاء اسلوبه وفيه هذا اللون الغالب من الخطاب وما يستتبه من بعض الصيغ الاخرى التي لايحس لها القارئ وقعاً طرياً بينه وبين نفسه.

القاهرة

شكري فيصل

مائدة السمر

(للأستاذ كامل محمد عجلان)

مجموعة اقاصيص طريفة نضدها الأستاذ عجلان فابان عن سعة اطلاعه وطول باعه. . . تنقسم المجموعة إلى قسمين عربي قديم ومدني حديث. . اما العربي فيجمع بضع اقاصيص

ص: 49

عن شعراء من الاعراب ذكر المؤلف لكل منهم طرفة مليحة. ولكن يخيل إلى ان القارئ العادي الذي لايعرف العرجى واخوانه من الشعراء القدامى كان ينتظر من الأستاذ كامل نبذة صغيرة عن حياتهم؛ فما كل قارئ يقرأ الاغاني، ولا يضير هذا الأستاذ في شئ!

وفي غمار قصص الشعراء هذه كانت قصص اخرى عن بدو ليسوا من الشعراء. . من هذه القصص (السهم الطائش) ولا ادري ما الذي حدا بالأستاذ كامل ان يختار هذه القصة والمورد امامه ثر. . أي جمال يراه الأستاذ في قصة قاتل قتل عشيقته. . كم كان (السهم الطائش) غريباً بين (اجمل العالمين) و (مغفل وغانية) و (العذارى على الغدير) وغيرها من القصص الجميلة التي تجمع الرقة والمعنى في آن. غير ان هناك اقصوصة بل رواية من ثلاثة فصول عنوانها (الهارب من الحب). . محب باع حبيبته وكانت جاريته ثم رجعت اليه مرة اخرى. . موضوع جميل ولكنه صغير على رواية من ثلاثة فصول ننتقل مع اشخاصها من حجرة إلى حجرة ثم من بلد إلى بلد لنعرف نهاية متوقعة. ولو كنا رأينا في هذاالانتقال حادثاً أو شهدنا واقعة لهان علينا السفر الذي كان خلواً من أي شئ. . القصة جميلة والحوار جميل، ولكنه كان محتاجاً لشئ من الضغط.

لننتقل الآن إلى القاهرة لنشاهد (ست الملك في صحن الازهر). . . طريف هذا العنوان، يراه القارئ فيتوقع قصة شائقة جميلة؛ لكن الأستاذ كامل وفق إلى هذا العنوان دون ان يوفق إلى موضوعه إذ ليس في الامر قصة ولكن هناك حلماً. . كانت (ست الملك) موضوعاً انشائياً احسن اختيار عنوانه. كانت صدمة لي ان اجده في اول القصص الحديثة، واشفقت ان اجد بقية الاقاصيص على هذا النمط، ولكن. . . لم يكن الامر كذلك. هناك قصة بعد (ست الملك) تدل على ان القلم ناضج وان الاقصوصة الاولى كانت كبوة يتبعها القفز والارتفاع. . (قبلة عند باب الضريح) اقصوصة وصورة من اجمل ما كتب في هذا الباب. . وموضوعها السخرية من اولئك المشعوذين الذين يجلسون على ابواب الاضرحة يتخذون من الدين شراكاً وحبائل. بعد هذا نجد (عش من الحديقة). . قصة رمزية التوى بها الطريق فخرجت عن الرمزية، ثم التوى مرة اخرى فعادت وهكذا. . الحقيقة انها غير مفهومة ولعل الأستاذ كامل قصد بها صديقه (س) فحسب.

والأستاذ كامل دقيق الجسم سريع الحركة. وكلك هو في اسلوبه خفيف سريع التنقل يعتمد

ص: 50

كثيراً على ذهن القارئ مما يكسب الاسلوب جمالاً ويرغم القارئ على المتابعة في يقظة ذهنية وديعة ومائدة السمر في مجموعها شهية احسن الأستاذ كامل تنظيمها، وانا لنرجوا ان يضاعف هذا الاحسان في المجموعة القادمة ان شاء الله.

ثروت اباظة

1 -

اروع القصص

2 -

قصص من الحياة

للكاتب الانجليزي شارلز دكنز

(تعريب الأستاذ محمد عطية الابراشي)

اختار الأستاذ محمد عطية الابراشي مجموعة من قصص الاديب الانجليزي (شارلز دكنز) واصدرها في جزأين تحت عنوان (المكتبة الثقافية).

وقد عنى الأستاذ الابراشي بتعريب هذه القصص؛ لما تهدف إليه من غايات اجتماعية، وما يتميز به أدب (دكنز) من معالجة كثير من نواحي الحياة القاسية في المجتمع.

يقول الأستاذ الابراشي (وقد دعاني إلى تقديم هذه المجموعة شغف بالتقويم الخلقي، وحب للاصلاح الاجتماعي، في مصر والشرق، وما رأيته من التشابه بين الامم في الاحوال الاجتماعية التي تحيط بها من حين لآخر، فالإنسان هو الإنسان في غرائزه وميوله، وما يتصل بشعب يتصل بآخر. وإني آمل ان يكون لها في مصر وجميع البلاد العربية من الاثر ما كان لها في إنجلترا من اصلاح اجتماعي وخلقي).

ونحن مع تقديرنا للاهداف الاجتماعية التي ترمي إليها هذه القصص، والدوافع الطيبة التي حملت الأستاذ الابراشي على اختيارها؛ ليكون لها من الاثر في مصر والشرق ما كلن لهما في بلاد الانجليز - نخالف الأستاذ فيما يراه من التشابه بين الامم في الاحوال الاجتماعية، والاتفاق في الغرائز والميول؛ فإن لكل أمة طبيعتها وخصائصها النفسية والاجتماعية.

على ان هذه القصص برغم ما تصطبغ به من الوان محلية، فتنها تمس الجانب الإنساني في كثير من العواطف المشتركة والشعور العام وتثير في النفوس كثيراً من عوامل العطف

ص: 51

وارحمة إلى الفقراء والمحرومين.

وقد اصطنع الأستاذ الابراشي في تعريب هذه القصص اسلوب (المدرس) الذي يعنى بعرض الفكرة وابراز جوانبها في صورة بيانية، وعبارات مختارة (بحيث يجد القارئ ثروة فكرية، وخيالية، ولغوية، في كل قصة يقرؤها) كما حرص على ضبط كثير من الكلمات وتذييلها بالشرح والبيان.

محمد كامل حته

الكميت بن زيد

شاعر العصر المرواني

(للأستاذ عبد المتعال الصعيدي)

من الشعراء الذين ظلمهم التاريخ الأدبي ورماهم بالخمول فباءوا في الاعصر المتعاقبة بهذا الوزر، الكميت بن زيد، فقد اخذ عليه سبيل الشهرة شعراء ثلاثة استبدوا بالمحال وتفردوا بالعناية، وهم الفرزدق، وجرير، والاخطل، حتى كاد يغمره النسيان، والكميت في رأي المؤلف اعظم من هؤلاء الشعراء واحق منهم بالتقديم. وقد عز عليه ان يجني الجهل أو التجاهل أو التحامل على هذا الشاعر فشمر لانصافه، ورد حقوقه، والتمكين له حيث يجب أن ياخذ مكانه اللائق ، فدرس هذا الشاعر وابان عن خصائصه الفنية، وصور لنا البية التي كان يحيا فيها - الكميت - وقد مهد لهذه الدراسة بهذه التمهيد الذي تناول فيه الأجتهاد في الأدب، وفتح الكميت في الشعر، وتعصب بني مروان عليه، وجمود الشعر في عصرهم، وتجديد - الكميت - وشهادة الفرزدق له، واثره في سقوط بني مروان وتناول حياته ومنزلته في الشعر، والهاشميات، واشعاره الاخرى ومناقضاته، ومؤاخذات - الكميت - ثم ختم هذه الرسالة بديوان الهاشميات؛ وهذا اجمل واحق ما يجب بذله ازاء هولاء الاشخاص الذين لامر ما وقف منهم التاريخ هذا الموقف الغامض الظالم.

محمد عبد الحليم أبو زيد

ص: 52

‌القصص

روائع ملخصة من قصص الحب العالمية

1 -

بول وفرجيني

للكاتب الفرنسي برنادين دي ساق بيير

بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي

حياة المؤلف:

(ولد في المدينة الهافر في فرنسا عام 1737، ولم بلغ الثانية عشر من عمره، رحل إلى جزر المارتينيك الامريكية فاثارت الرحلة في نفسه رغبة شديدة في دراسة نباتات المنطقة الحارة ولما اتم دراسته وتخرج في فن الهندسة، التحق بخدمة الجيش الروسي، مدة قصيرة، ثم رحل إلى جزيرة في المحيط الهندي، وكانت تابعة لفرنسا في ذلك الوقت، فافادته تلك الرحلة علماً. وعاد إلى فرنسا عام 1771 يعتنق اراء جان جاك روسو الحرة فيما يتصل بالحضارة وانها مفسدة لطبيعة الإنسان. وفي عام 1784 نشر ثلاثة مجلات تحت عنوان: (دراسات في الطبيعة)، قال عنها العلماء في عصره انها افكار شعرية اكثر منها افكار علمية، ولم تصادف ما كان يقدر لها من الانتشار.

وبعد سنوات قليلة نشر قصة (بول وفرجيني) فلقيت رواجاً عظيماً وعين بعد ذلك مديراً لحدائق النبات الملكية ثم أستاذاً للدراسات الاخلاقية. ولما احيل على التقاعد زمن نابليون بونابرت أجزل له العطاء فعاش سعيداً في عزلة شعرية، ورزق في هذه الفترة طفلة سماها (فرجيني) ولما بلغ سن الواحد والستين من عمره رزق طفلاً (بول). وعاش المؤلف بعدها إلى السابعة والسبعين ومات سنة 1814 قبل موقعة واترلو بسنة واحدةالانتقال حادثاً أو شهدنا واقعة لهان علينا السفر الذي كان خلواً من أي شئ. . القصة جميلة والحوار جميل، ولكنه كان محتاجاً لشئ من الضغط.

لننتقل الآن إلى القاهرة لنشاهد (ست الملك في صحن الازهر). . . طريف هذا العنوان، يراه القارئ فيتوقع قصة شائقة جميلة؛ لكن الأستاذ كامل وفق إلى هذا العنوان دون ان يوفق إلى موضوعه إذ ليس في الامر قصة ولكن هناك حلماً. . كانت (ست الملك)

ص: 53

موضوعاً انشائياً احسن اختيار عنوانه. كانت صدمة لي ان اجده في اول القصص الحديثة، واشفقت ان اجد بقية الاقاصيص على هذا النمط، ولكن. . . لم يكن الامر كذلك. هناك قصة بعد (ست الملك) تدل على ان القلم ناضج وان الاقصوصة الاولى كانت كبوة يتبعها القفز والارتفاع. . (قبلة عند باب الضريح) اقصوصة وصورة من اجمل ما كتب في هذا الباب. . وموضوعها السخرية من اولئك المشعوذين الذين يجلسون على ابواب الاضرحة يتخذون من الدين شراكاً وحبائل. بعد هذا نجد (عش من الحديقة). . قصة رمزية التوى بها الطريق فخرجت عن الرمزية، ثم التوى مرة اخرى فعادت وهكذا. . الحقيقة انها غير مفهومة ولعل الأستاذ كامل قصد بها صديقه (س) فحسب.

والأستاذ كامل دقيق الجسم سريع الحركة. وكلك هو في اسلوبه خفيف سريع التنقل يعتمد كثيراً على ذهن القارئ مما يكسب الاسلوب جمالاً ويرغم القارئ على المتابعة في يقظة ذهنية وديعة ومائدة السمر في مجموعها شهية احسن الأستاذ كامل تنظيمها، وانا لنرجوا ان يضاعف هذا الاحسان في المجموعة القادمة ان شاء الله.

ثروت اباظة

1 -

اروع القصص

2 -

قصص من الحياة

للكاتب الانجليزي شارلز دكنز

(تعريب الأستاذ محمد عطية الابراشي)

اختار الأستاذ محمد عطية الابراشي مجموعة من قصص الاديب الانجليزي (شارلز دكنز) واصدرها في جزأين تحت عنوان (المكتبة الثقافية).

وقد عنى الأستاذ الابراشي بتعريب هذه القصص؛ لما تهدف إليه من غايات اجتماعية، وما يتميز به أدب (دكنز) من معالجة كثير من نواحي الحياة القاسية في المجتمع.

يقول الأستاذ الابراشي (وقد دعاني إلى تقديم هذه المجموعة شغف بالتقويم الخلقي، وحب للاصلاح الاجتماعي، في مصر والشرق، وما رأيته من التشابه بين الامم في الاحوال

ص: 54

الاجتماعية التي تحيط بها من حين لآخر، فالإنسان هو الإنسان في غرائزه وميوله، وما يتصل بشعب يتصل بآخر. وإني آمل ان يكون لها في مصر وجميع البلاد العربية من الاثر ما كان لها في إنجلترا من اصلاح اجتماعي وخلقي).

ونحن مع تقديرنا للاهداف الاجتماعية التي ترمي إليها هذه القصص، والدوافع الطيبة التي حملت الأستاذ الابراشي على اختيارها؛ ليكون لها من الاثر في مصر والشرق ما كلن لهما في بلاد الانجليز - نخالف الأستاذ فيما يراه من التشابه بين الامم في الاحوال الاجتماعية، والاتفاق في الغرائز والميول؛ فإن لكل أمة طبيعتها وخصائصها النفسية والاجتماعية.

على ان هذه القصص برغم ما تصطبغ به من الوان محلية، فتنها تمس الجانب الإنساني في كثير من العواطف المشتركة والشعور العام وتثير في النفوس كثيراً من عوامل العطف وارحمة إلى الفقراء والمحرومين.

وقد اصطنع الأستاذ الابراشي في تعريب هذه القصص اسلوب (المدرس) الذي يعنى بعرض الفكرة وابراز جوانبها في صورة بيانية، وعبارات مختارة (بحيث يجد القارئ ثروة فكرية، وخيالية، ولغوية، في كل قصة يقرؤها) كما حرص على ضبط كثير من الكلمات وتذييلها بالشرح والبيان.

محمد كامل حته

الكميت بن زيد

شاعر العصر المرواني

(للأستاذ عبد المتعال الصعيدي)

من الشعراء الذين ظلمهم التاريخ الأدبي ورماهم بالخمول فباءوا في الاعصر المتعاقبة بهذا الوزر، الكميت بن زيد، فقد اخذ عليه سبيل الشهرة شعراء ثلاثة استبدوا بالمحال وتفردوا بالعناية، وهم الفرزدق، وجرير، والاخطل، حتى كاد يغمره النسيان، والكميت في رأي المؤلف اعظم من هؤلاء الشعراء واحق منهم بالتقديم. وقد عز عليه ان يجني الجهل أو التجاهل أو التحامل على هذا الشاعر فشمر لانصافه، ورد حقوقه، والتمكين له حيث يجب أن ياخذ مكانه اللائق ، فدرس هذا الشاعر وابان عن خصائصه الفنية، وصور لنا البية

ص: 55

التي كان يحيا فيها - الكميت - وقد مهد لهذه الدراسة بهذه التمهيد الذي تناول فيه الأجتهاد في الأدب، وفتح الكميت في الشعر، وتعصب بني مروان عليه، وجمود الشعر في عصرهم، وتجديد - الكميت - وشهادة الفرزدق له، واثره في سقوط بني مروان وتناول حياته ومنزلته في الشعر، والهاشميات، واشعاره الاخرى ومناقضاته، ومؤاخذات - الكميت - ثم ختم هذه الرسالة بديوان الهاشميات؛ وهذا اجمل واحق ما يجب بذله ازاء هولاء الاشخاص الذين لامر ما وقف منهم التاريخ هذا الموقف الغامض الظالم.

محمد عبد الحليم أبو زيد

ص: 56

‌القصص

روائع ملخصة من قصص الحب العالمية

1 -

بول وفرجيني

للكاتب الفرنسي برنادين دي ساق بيير

بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي

حياة المؤلف:

(ولد في المدينة الهافر في فرنسا عام 1737، ولم بلغ الثانية عشر من عمره، رحل إلى جزر المارتينيك الامريكية فاثارت الرحلة في نفسه رغبة شديدة في دراسة نباتات المنطقة الحارة ولما اتم دراسته وتخرج في فن الهندسة، التحق بخدمة الجيش الروسي، مدة قصيرة، ثم رحل إلى جزيرة في المحيط الهندي، وكانت تابعة لفرنسا في ذلك الوقت، فافادته تلك الرحلة علماً. وعاد إلى فرنسا عام 1771 يعتنق اراء جان جاك روسو الحرة فيما يتصل بالحضارة وانها مفسدة لطبيعة الإنسان. وفي عام 1784 نشر ثلاثة مجلات تحت عنوان: (دراسات في الطبيعة)، قال عنها العلماء في عصره انها افكار شعرية اكثر منها افكار علمية، ولم تصادف ما كان يقدر لها من الانتشار.

وبعد سنوات قليلة نشر قصة (بول وفرجيني) فلقيت رواجاً

عظيماً وعين بعد ذلك مديراً لحدائق النبات الملكية ثم أستاذاً

للدراسات الاخلاقية. ولما احيل على التقاعد زمن نابليون

بونابرت أجزل له العطاء فعاش سعيداً في عزلة شعرية،

ورزق في هذه الفترة طفلة سماها (فرجيني) ولما بلغ سن

الواحد والستين من عمره رزق طفلاً (بول). وعاش المؤلف

بعدها إلى السابعة والسبعين ومات سنة 1814 قبل موقعة

ص: 57

واترلو بسنة واحدةالقصة:

اراد المؤلف من قصته الوصول إلى غايتين: الاولى تصوير تربة ونباتات المنطقة الحارة وما بينهما وبين اوربا من فروق. الثانية: ان يرسم صورة رائعة لمجتمع ساذج مثالي لم تعرف المدنية الطريق إليه.

الراوية: شيخ صادفه المؤلف خلال اقامته في الجزيرة موريتوس قال الشيخ:

في اوائل القرن الثامن عشر، عاشت سيدتان متجاورتان في بقعة قريبة من ميناء سانت لويس. كانت احداهما مدام دى لاتور، وهى ارملة شاب نورمندى، مات وهو يحاول ابتياع عدد من الرقيق في جزيرة مدغشقر، وكانت الاخرى شابة ريفية من مقاطعة بريتان واسمها مرغريت، فرت من مسقط راسها لتفتش عن عالم جديد لا يتصل علمه بزلة اقترفتها. ولدت للاولى طفلة سمتها (فرجيني) وولدت للثانية طفل سمته (بول). عاشت السيدتان في ود متبادل، تتعاونان على ما تطلبه الحياة من كدح مجهود.

شب الفتى والفتاة وفي نفسيهما شعور الاخ لاخت، ولما بلغا اشدهما كان في نية السيدتين تزويجهما وربط قلبهما برباط متين من قداسة الزواج، لولا أن حاكم الجزيرة اقترح ارسال فرجيني إلى فرنسا لتتابع دراستها عند اقربائها الاغنياء هناك. . . وقد اتفق الراي على ذلك ودنت ساعة الوداع والفراق.

دنت ساعة العشاء فالتففنا حول المائدة، وحالت العواطف المتباينة التى تعصف بنفوسنا بيننا وبين الطعام، إذ كان يلفنا صمت رهيب. . . وكانت فرجينى أول من ترك المائدة وتبعها بول وشكا، واتخذوا مجلسها تحت ظل هذه الشجيرات التى نتفيأ ظلها الآن وصمتا. . . وكانت الليلة نموذجاً رائعاً لليالي المناطق الحارة الساحرة التى يعجز القلم عن وصفها: فقد أطل القمر من السماء وعلى جوانبها هالة فتانة من غيوم مبعثرة موشاة باللجين؛ واخذ نوره ينتشر ويمتد إلى جبال الجزيرة، وبدت قممها البعيدة غارق في يم عميق من النور؛ وسكنت الريح، واخذت الاحراج البعيدة والوديان العميقة والقمم الصخرية الحالة تردد صدى اصوات جميلة من حناجر الطيور التى طفقت تتداعب في اعشاشها مرحة بما يضفيه عليها جمال الليلة من فرح وحنان ورغبة في الوجود. . .، وتلالات النجوم في

ص: 58

محيطها البعيد مضطربة تبعث بنورها إلى الدنيا النائمة وكانها محبات يطفن بحبيب. . .

كانت فرجيني تتطلع إلى الأفق البعيد وكانها تفتش عن مجهول، فرأت على جبين الافق مما يلي الميناء انواراً حمراء مبعثرة على الشاطئ من قوارب الصيد، ورأت نوراً قوياً وقد وقف إلى جانبه خيال جسم كبير. . . فاعادها ما رأت إلى نفسها وايقنت ان ذلك الجسم الكبير ليس الا تلك السفينة التي ستفرق بينها وبين بول، فأدارت وجهها وهى تغالب ما لا تحتمل من آلام قلبها مخفية دموعها عن الذي تبكيه. وكنت انا ومدام دي لاتور ومرغريت غير بعيدين عنهما، وقد ساعدنا سكون الليل على الاستماع إلى ما دار بينهما من حديث مازال يعيش في ذاكرتي:

بول: لقد علمت بأنك ذاهبة عنا وشيكا إلى فرنسا، وكانك غير وجلة من اخطار البحر التي كان يرهبك مجرد ذكرها!؟

فرجينيا: انما هو واجب على يتطلب مني اطاعة اهلي.

بول: اتتركينا من اجل قريب بعيد لم تقع عينك عليه؟!

فريجينا: شد ما يؤسفني ان اكون مضطرة إلى ذلك! فوالدتي تدفعني إليه، والكاهن الذي اعتدت ان اعترف له قال لي: أنها ارادة الله، ولا بد من الذهاب، وأن الحياة مسرح للتجارب. . . ويا حسرتاه! ما أمر ذلك واوجعه في نفسي!

بول: ماذا؟! تجدين أسبابا كثيرة لتبرير ذهابك عنا، ولاتجدين سببا ًوأحداً لبقائك بيننا!! السبب الحقيقي لسفرك تذكريه! انه الثروة التى تغرى النفوس! أنك لواجدة في ذلك العالم الذي ستذهبين إليه الثروة والى جانبها أشخاصاً أكرم منى مولدا وأرومة وأسع ثراء، تستطيعين في سهولة ويسر أن تتخذي منهم أخا وصديقاً! شد ما يؤلمني أنني لا أستطيع أن أقدم إليك شيئاً من هذه الأمور! أتكونين أسعد منك الآن إذا تم لك ذلك؟! أى شاطئ ستذهبين إليه وتجدين اعز عليك من هذه البقعة التى فتحت عينيك على نور الحياة فيها؟ وأية مخلوقات في مقدورك ايجادها أحب إليك واحنى عليك منا! كيف تحتملين العيش بعيدة عن حنان أمك الذي اعتمدت عليه وماذا يكون شأنها، وقد تقدمت بها السنين، حيثما تتلفت لا تجدك على المائدة إلى جانبها، ولا تستعين بك إذا ما همت بالتحرك من مكان إلى مكان!! ماذا يكون حظ أمي من من اللوعة عليك وهي تكن لك أقوى العواطف وأخلصها؟! ماذا

ص: 59

أستطيع من القول لهما وهما تجهشان في بكاء مرير موجع عليك؟! أما عن نفسي! فلا أقول لك شيئاً أيتها الظالمة! ماذا يكون مصيري حينما لا أراك في الصباح، ولا نتلاقى في المساء! وعندما أحدق في هاتين النخلتين اللتين غرستا يوم ولادتنا، واللتين بقيتا شاهدتين على ودنا الذي لا يزول!

ليس بمقدوري أن أثنيك عما اعتزمت! ولكن أليس في استطاعتك السماح لي بمرافقتك وركوب البحر إلى جانبك! سأحرسك من عواصف البحر وأحميك! سأضع رأسي على صدرك وأبعث الدفء من قلبي المحترق إلى قلبك الرحيم، وهناك في فرنسا سأكون خادمك الأمين، وإذا احتاجت سعادتك إلى حياتي فسأبذلها رخيصة تحت قدميك!

وما وصل إلى هذا الحد من الألم حتى غلبت عاطفته العنيفة لسانه عن الكلام فصمت. . . واستمعنا بعد ذلك إلى فرجينيا تتحدث إليه بصوت مرتجف تقطعه شهقات من بكاء عنيف مكبوت.

قالت فرجينيا: انني مغتربة لأجلك!؟ أنت الذي أراه يرهق جسده بالعمل المضني كل يوم ليقيم أود أسرتين بائستين! وإذا كنت قد قبلت هذه الفرصة لأكون غنية فذلك لأني أود أن أرد لك جميلك مضاعفاً ألف مرة! أتحسب أن كنوز الدنيا تعادل حبي وحنيني إليك! لماذا جرحت عواطفي بالتحدث عن نسبك؟ وإذا كان ممكنا أن أختار لي أخا، فهل تحسب انني اعدوك في الاختيار؟ انك يا بول لأعز إلى قلبي من الأخ والأهل جميعاً! كم جاهدت نفسي لأروضها على احتمال البعد عنك!، أعني على انتزاع نفسي من هذا المكان العزيز إلى كالحياة نفسها، إلى أن يبارك الله زواجنا حينما أعود إليك انني أستطيع احتمال كل لون من ألوان الألم والحرمان في الحياة ولكنني لا أستطيع احتمال منظر هذا الحزن العميق المخيم عليك!

وما كادت تتم فرجينيا حديثها حتى صرخ في ألم حزين وضمها إلى صدره وهو يصيح: سأذهب معك! لن تستطيع قوة في الدنيا التفريق بيننا!

واقتربنا منهما فقالت له مدام دي لاتور أم فرجينيا: يا بني! وماذا يكون مصيرنا إذا ذهبت معها؟

قال بول في صوت متهدج حزين يردد ما قالته: يا بني يا بني! انت الام التي تريد التفريق

ص: 60

بيننا كيف تريدين ذلك وقد نشأنا اخوين لا نفترق ابداً كيف ترسلينها وحيدة إلى اوربا، إلى تلك البلاد غير الكريمة التي ظنت عليك بمأوى في الماضي! والى اقارب لم يسألوا عنك وعنها ابداً؟ في استطاعتك القول انها ليست شقيقتي وان ليس لي سلطان عليها انها كل شي لدي هي ثروتي، وحياتي، واسرتي. لقد جمعنا في في الماضي سقف واحد ومهد واحد، وسوف يجمعنا قبر واحد أيضاً! فاذا ذهبت فإني لاحق بها.

سيمنعني الحاكم من ذلك كما يخيل إليك. وهل يستطيع الحاكم من القاء نفسي في البحر؟ هل في مقدوره منعي من اللحاق بها سابحاً؟

سيكون البحر احب لي من اليابسة بعد سفرها علىمتن الامواج! وما دام قد قدر لي أن لا اعيش معها فلا اقل من أن اموت واغمض عيني وهي اخر ما ابصر في الوجود. ايتها الام الوحشية! ايتها المرأة التي لاتعرف الرحمة! ليت المحيط الذي تدفعين بها إليه لا يرجعها إليك ابداً! وليت الامواج التي تستعيد جسدي وجسدها إليك يثير مرآها عذاباً لاينقطع من تأنيب الضمير في قلبك الجلمود!

فاسرعت إليه وامسكت بذراعيه، لأن اليأس قد جرده من عقله، فقد جحظت عيناه، وتصبب جبينه عرقاً، واصطكت ركبتاه، واحسست بقلبه يخفق خفقاناً شديداً.

قالت فرجينيا: يا عزيزي بول! انني لأشهد أيام طفولتك الغالية والامك والامي، وكل ذكرى حبيبة يمكن ان تربط مخلوقين بائسين مثلنا، بأنني سأكون لك! انني لاسالكم ان تشهدوا أيضاً ايها الذين ربيتمونا منذ طفولتنا على ما اقول! وانت يا ربي الذي لم أدنس اسمه الكريم بالكذب كن شاهداً علي! وانت ايها البحر الذي ساعتلي متن امواجك، ويا أيها الهواء الذي املا رئتي منك - كونا شاهدين على ما اقول!

لقد عاد إليه هدوءه، فطأطأ رأسه على اثر سماع كلماته الحبيبة، وبكى بكاء مراً اختلطت دموعه بدموع امه التي اسرعت إليه تحتضنه وتردد صدى الامه بسيل من الدموع. ثم قالت له مدام دي لاثور: اني لااستطيع احتمال هذا، فلن تذهب ابنتي إلى فرنسا مهما كان الثمن الذي سادفعه. خذه معك إلى منزلك فلم يذق احداً منا النوم منذ اسبوع ونحن على مثل ما ترى من اللوعة والحزن والدموع. قال لبول: ان فرجينيا لن تسافر يا ابني، وغداً سنتحدث إلى الحاكم في امره ببقاءها. هيا بنا إلى منزلي واترك فرصة لاسرتك تذوق

ص: 61

بعض الراحة، فقد انتصف الليل. استجاب بول إلى رغبتي متحاملاً على نفسه يجر رجليه خلفه وكأنما مربوطتان في جسم غيره وقضى الهزيع الاخير من الليل في نوم قلق متقطع. . . وعاد مسرعاً إلى اسرته عند بزوغ الفجر.

سافرت فرجينيا إلى فرنسا وادخلتها عمتها الغنية احدى المدارس، وبعد عامين اعدت لها زواجاً ملائماً رفضته الفتاة رفضاً قاسياً احتفاظاً بالعهد الذي قطعته على نفسها لبول. وما عتمت ان فرت إلى المحيط الهندي على ظهر سفينة كانت تقصد الجزيرة، وما كادت تقترب من الشاطئ حتى ثارت عاصفة اغرقت السفينة وغرقت مع الركاب فرجينيا التي كانت تطوي نفسها على اسعد ما تكنه النفوس من الفرح بلقاء بول ووالدتيها والجزيرة والشجيرات. وحاول بول ان يصارع العاصفة فيصل إلى السفينة قبل غرقها ولكن الموج رده إلى الشاطئ مهشماً محطماً، وما لبث ان مات ودفن إلى جانب فرجينيا في قبر واحد.

علي محمد سرطاوي

ص: 62