الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 71
- بتاريخ: 12 - 11 - 1934
داء الوظيفة
قال وهو يقلب كفيه من الهم، ويعض على يديه من الغضب: سقط الوزير سقوط الورقة الجافة قبل أن يمضي القرار بالوظيفة، فهل رأيت مثل هذا الحظ المتخلف والقدر العابث؟. . .
فقلت له: هون عليك يا بني، ولا تسلط على نفسك أساك، إن معك الشباب القادر، والأمل الطموح، والثروة المساعدة، ودبلوم الزراعة التي تفتح لك كنوز الأرض، وتدر عليك أخلاف السماء، وفي القرية متسع لأمثالك ممن يحيون مواتها، ويجددون حياتها، ويفيضون على أهلها نعمة العلم، وخير المدنية، ونعيم الحضارة؛ فلِمَ لا تستأجر مزرعة في بعض دوائر الأمراء تجرب في استغلالها كفايتك وإرادتك وحظك؟ إنك إذا فعلت عصمت نفسك من رق الوظيفة، وخلقك من فتنة الحكومة، وعلمك من آلية العمل، ورزقك من تحديده بالمرتب، وقدرك من قياسه بالدرجة. فأجاب وفي عينيه سهوم العجب من هذا الرأي: مالي أدفع بنفسي في هذه المغامرة المجهولة، والوظيفة تضمن حاضري بالمرتب، وتؤمن مستقبلي بالمعاش؟ والقليل المتصل خير من الكثير المنقطع، والموضع المتطامن المتماسك، أصلح للقرار من الرفيع المترجح. . .
فقلت له: ذلك كلام لاكته الألسن حتى تفه، وتقبلته الآذان حتى سمج، ولقد كان له مساغه وبلاغه يوم كانت المدارس معامل لتخريج الكتبة والحسبة للحكومة؛ فأما اليوم وقد امتد أفق التعليم، واتسع نطاق المنهج، وانفسح مجال العمل، وتحققت الحرية للفرد، وتيسر الارتجال للشباب، وحان الحين ليسترد المصريون جماعات ووحداناً مرافق بلادهم وموارد أرزاقهم من الأجانب، فإن الإخلاد إلى المقاعد الأميرية إخلاد إلى العجز، واطمئنان إلى الهون، وانخزال عن تحرير الوطن.
قال: ولكن فريقاً من الشباب ارتجلوا بعض الأماني الاقتصادية الجماعية في التجارة والزراعة والملاهي، فوردوا عن خسارة وصدروا عن فشل. فقلت له: إن هؤلاء فاروا عن حرارة وفتية، وثاروا عن ريح عابرة، فاعتسفوا الأمر قبل أن يخبروه، وزاولوه دون أن يفرغوا له، واخطئوا تقدير المنافسة الأجنبية فأخطئهم التوفيق؛ ومالك تقيس أمرك بهذا المقياس المختل وأمامك المقاييس العليا تتواثب في عينيك من كل مكان؟ ألم تر إلى اليوناني أو الطلياني كيف يفد عليك من غير رأس مال، ولا شهادة جامعة، ولا توصية
وزير، ولا تعضيد جمهور، ولا تحميس صحافة، فيحترف وضائع الحرف، ويحتمل مكاره الفوز، ويتفرع معالي الأمور في روية وصبر، حتى بلغ به نشاطه أن يدير عمارة المدينة، ويصرف تجارة القرية، وينثج زراعة العزبة، فيبيع عليك غلة أرضك، ويستعبدك بربا مالك، وأنت جالس جلسة الأجير على مكتبك الحقير، تكنس لنعليه الطرق، وتشق لعينيه الحدائق، وتكفل لمتاجره الأمن، وتدبر لمزارعه الماء، وتتقبل على ذلك كله دغل الصدر وقسوة اللسان وقحة النظر!
رأى صديقي الفتى أن لهجتي لا تلائم همه الغالب، ومنطقي لا يساير منطقه اليائس، فتولى عني غير راض ولا مقتنع، وتركني أحدث نفسي، وأقارن بين يومي وأمسي، فأجدني بين عملي المقيد الذي انصرفت عنه، وعملي الحر الذي انصرفت إليه، أشبه بالسجين المقيد يعمل برأي غيره، ولحساب غيره، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمر، ولا يسير ولا يقف إلا في نظام، وهو يأكل حين لا يشتهي، وينام حين لا يريد، ويستيقظ حين لا يحب، وتتعطل ملكاته حتى يصبح كالإنسان الصناعي: قوة محركة وآلة، ثم يدركه لطف الله فتتفكك عنه السلاسل وتتفتح له الأبواب، فيجد عقله في النور، وخلقه في الطبيعة، وحريته في الجو، ووجوده في المجتمع! فينبت الريش الناسل، ويخفق الجناح المهيض، وتتكشف الآفاق الجديدة!
إن أولى الناس بالرثاء لأولئك الذين سلبوا جوهرة الحياة وحرية العيش، وعاشوا في ظلام الوجود مكبين على مكاتبهم، مغلولين عن الحركة، مكمومين عن الشكوى، يستقطرون الرزق من شق القلم، ولا يصيبون من أجورهم سداداً من عوز ولا غنى من فاقة.
يدخل الموظف الديوان وهو ابن عشرين، فيودع عاماً ويستقبل عاماً حتى يأخذ بِمُخَنَّق الستين وكأن لم يحدث في العالم شئ! يختلف الليل والنهار، وتتبدل الأحوال والأطوار، وهو على مكتبه الضيق في غرفته المظلمة، يعمل ساعة ويجتر أخرى، دون أن يشعر بدوران الفلك، أو يفطن إلى حركات العالم.
يدخل الديوان وهو طرير الشارب، أثيث الجمة، ريان من الشباب والقوة والأمل؛ ثم يودعه وهو مخدد الوجه، أشيب الشعر، متداعي الجسم، فقير من المنى والذكر والمال، لا يصلح إلا عموداً في مسجد، أو منضدة في قهوة. وربما أقصدته المنون لانقطاعه بغتة عما ألف
من عادة شديدة، وحياة رتيبة، وأعمال واحدة، في ساعات لا تختلف ولا تتبدل.
أيها الموظفون! إن لابتغاء الرزق موارد غير هذا المورد الناضب، ولخدمة الأمة مواقف غير هذا الموقف الكاذب، فتجافوا بأنفسكم عن هذه المقاعد، فإنها مواطن الذل والملق، ومساكن الفقر والجهل، ومكامن الخمول والموت، واقرأوا على أبوابها ما كتبه (دانتي) على أحد أبواب الجحيم:
((قوضوا حصون آمالكم، وأضمروا اليأس من مآلكم، أيها الداخلون!))
احمد حسن الزيات
بنت الباشا.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كانت هذه المرأة وضاحة الوجه زهراء اللون كالقمر الطالع، تحسبها لجمالها قد غذتها الملائكة بنور النهار، وروتها من ضوء الكواكب.
وكانت بضَّة مقَسَّمةً أبدع التقسيم، يلتفُّ جسمها شيئاً على شئ التفافاً هندسياً بديعاً، يرتفع عن أجسام الغيد الحسان، أُفرِغَ فيها الجمال بقدر ما يمكن - إلى أجسام الدمى العبقرية التي أفرغ فيها الجمال والفن بقدر ما يستحيل.
وكانت باسمة أبداً كأول ما يتلألأ الفجر، حتى كأن دمها الغزلي الشاعر يصنع لثغر ابتسامتها، كما يصنع لخديها حمرتهما.
مالها جلست الآن تحت الليل مطرقة كاسفة ذابلة، تأخذها العين فما تشك أن هذا الوجه كان فيه منبع نور وغاض! وأن هذا الجسم الظمآن المعروق هو بقعة من الحياة أقيم فيها مأتم!
ما لهذه العين الكحيلة تذري الدمع وتسترسل في البكاء وتلِجُّ فيه، كأن الغادة المسكينة تبصر بين الدموع طريقاً تفضي منه نفسها إلى الحبيب الذي لم يعد في الدنيا؛ إلى وحيدها الذي أصبحت تراه ولا تلمسه، وتكلمه ولا يردُّ عليها؛ إلى طفلها الناعم الظريف الذي انتقل إلى القبر ولن يرجع، وتتملثه أبداً يريد أن يجئ إليها ولا يستطيع، وتتخيله أبداً يصيح في القبر يناديها:(يا أمي، يا أمي. .).
قلبها الحزين يقطع فيها ويمزق في كل لحظة؛ لأنه في كل لحظة يريد منها أن تضم الطفل إلى صدرها، ليستشعره القلب فيفرح ويتهنأ إذ يمس الحياة الصغيرة الخارجة منه. ولكن أين الطفل؟ أين حياة القلب الخارجة من القلب؟
لا طاقة للمسكينة أن تجيب قلبها إلى ما يطلب، ولا طاقة لقلبها أن يهدأ عما يطلب؛ فهو من الغيظ والقهر يحاول أن يفجر صدرها، ويريد أن يدق ضلوعها، ليخرج فيبحث بنفسه عن حبيبه!
مسكينة تترنح وتتلوى تحت ضربات مهلكة من قلبها، وضربات أخرى من خيالها، وقد باتت من هذه وتلك تعيش في مثل هذه اللحظة التي تكون في الذبيحة تحت السكين. ولكنها لحظة امتدت إلى يوم، ويوم امتد إلى شهر. يا ويلها من طول حياة لم تعد في آلامها
وأوجاعها إلا طول مدة الذبح للمذبوح.
ولو كان للموت قطار يقف على محطة في الدنيا، ليحمل الأحباب إلى الأحباب، ويسافر من وجود إلى وجود، وكانت هذه الأم جالسة في تلك المحطة منتظرة تتربص، وقد ذهلت عن كل شئ، وتجردت من كل معاني الحياة، وجمدت جمود الانتقال إلى الموت - لما كانت إلا بهذه الهيئة في مجلسها الآن في شرفتها من قصرها؛ تُطل على الليل المظلم وعلى أحزانها. . .!
هي فلانة بنت فلان باشا وزوجة فلان بك. ترادفت النعم على أبيها فيما يطلب وما لا يطلب، وكأنما فرغ من اقتراحه على الزمان واكتفى من المال والجاه، فلم يعجبه الزمان فأخذ يقترح له ويصنع ما يقترح، ويزيده على رغمه نعماً تتوالى!
وكان قد تقدم إلى خطبة ابنته شاب مهذب، يملك من نفسه الشباب والهمة والعلم، ومن أسلافه العنصر الكريم والشرف الموروث، ومن أخلاقه وشمائله ما يكاثر به الرجال ويفاخر. بيد أنه لا يملك من عيشه إلا الكفاف والقلة، وأملاً بعيداً كالفجر وراء ليل لا بد من مصابرته إلى حين ينبثق النور.
وتقدم صاحبنا إلى الباشا فجاءه كالنجم عارياً؛ أي في أزهى نورانيته وأضوئها. وكان قد علق الفتاة وعلقته، فظن عند نفسه أن الحب هو مال الحب، وأن الرجولة هي مال الأنوثة، وأن القلوب تتعامل بالمسرات لا بالأموال؛ ونسي أنه يتقدم إلى رجل مالي جعلته حقارة الاجتماع رتبة، أو إلى رتبة مالية جعلتها حقارة الاجتماع رجلاً. . وأن كلمة (باشا) وأمثالها، إنما تخلفت عن ذلك المذهب القديم: مذهب الألوهية الكاذبة التي انتحلها فرعون وأمثاله، ليتعبدوا الناس منها بألفاظ قلوبهم المؤمنة؛ فإذا قيل (إله) كان جواب القلب: عز وجل، (سبحانه).
ولما ارتقى الناس عن عبادة الناس، تلطفت تلك الألوهية ونزلت إلى درجات إنسانية، لتتعبد الناس بألفاظ عقولهم الساذجة؛ فإن قيل (باشا) كان جواب العقل الصغير:(سعادتلو أفندم!)
نسي الشاب أنه (أفندي) سيتقدم إلى (باشا) وأعماه الحب عن فرق بينهما؛ وكان سامي النفس، فلم يدرك أن صغائر الأمم الصغيرة لا بد لها أن تنتحل السمو انتحالاً، وأن الشعب
الذي لا يجد أعمالاً كبيرة يتمجد بها، هو الذي تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها؛ وأنه متى ضعف إدراك الأمة، لم يكن التفاوت بين الرجال بفضائل الرجولة ومعانيها، بل بموضع الرجولة من تلك الألفاظ؛ فإن قيل (باشا) فهذه الكلمة هي الاختراع الاجتماعي العظيم في أمم الألفاظ، ومعناها العلمي: قوة ألف فدان أو أكثر أو أقل؛ ويقابلها مثلاً في أمم الأعمال الكبيرة لفظ (الآلة البخارية) ومعناها العلمي قوة كذا وكذا حصاناً أو أقل أو أكثر!
نسي هذا الشاب أن (أمم الأكل والشرب) في هذا الشرق المسكين، لا تتم عظمتها إلا بأن تضع لأصحاب المال الكثير ألقاباً هي في الواقع أوصافٌ اجتماعية للمعدة التي تأكل الأكثر والأطيب والألذ، وتملك أسباب القدرة على الألذ والأطيب والأكثر.
وتقدم (الأفندي) يتودد إلى (الباشا) ما استطاع، ويتواضع وينكمش، ولا يألوه تمجيداً وتعظيماً؛ ولكن أين هو من الحقيقة. إنه لم يكن عند الباشا إلا أحمق؛ إذ لم يعرف أن تقدمه إلى ذلك العظيم كان أول معانيه أن كلمة (أفندي) تطاولت إلى كلمة (باشا) بالسبّ علناً. . .!
وانقبضوا عن (الأفندي) وأعرضوا عنه إعراضاً كان معناه الطرد؛ ثم جاء (البك) يخطب الفتاة.
و (بك) منبهة للاسم الخاطب، وشرف وقدر وثناء اجتماعي، وذكر شهير، وإرغام على التعظيم بقوة الكلمة، ودليل على الحرمات اللازمة للاسم لزوم السواد للعين، ولو لم يكن تحت (بِك) رجل، فإن تحتها على كل حال (بك). . .! وأنعم له الباشا، ووصل يده بيد ابنته فألبسها وألبسته، وأعلمها أبوها أنه قد فحص عن البك فإذا هو (بك) قوة مائتي فدان. . .! أما الأفندي فظهر من الفحص الهندسي الاجتماعي أنه (أفندي) قوة خمسة عشر جنيهاً في الشهر. .!
وخنس الأفندي وتراجع منخزلاً، وقد علم أن (الباشا) إنما زوج لقبه قبل أن يزوج ابنته، وأنه هو لن يملك مهر هذا اللقب إلا إذا ملك أن يبدل أسباب التاريخ الاجتماعي في الأمم الضعيفة، فينقل إلى العقل أو النفس ما جعلته (أمم الأكل والشرب) من حق المعدة، فلا يكون (باشا) إلا مخترع شرقي مفلس، أو أديب عظيم فقير، أو من جرى هذا المجرى في سمو المعنى لا في سمو المال.
وقدمت مائتا الفدان مهرها (الطيني) العظيم بما تعبيره في اللغة الطينية: ثمن عشرين ثوراً، ومثلها جاموساً، ومثلها بغالاً وأحمرة، وفوقها مائة قنطار قطناً، ومائة أردب قمحاً، ثم ذرة، ثم شعيراً. والمجموع الطيني لذلك ألف جنيه، وعزي الباشا أنه مستطيع أن يقول للناس: إنها خمسة آلاف، اختزلتها الأزمة قبحها الله. . .!
ثم زفت (بنت الباشا) زفافاً طينياً بهذا المعنى أيضاً، كان تعبيره: أنه أنفق عليه ثمن ألف قنطار بصلاً، ومائة غرارة من السماد الكيماوي، كأنما فرش بها الطريق. . .!
وطفق الباشا يفاخر ويتمدح، ويتبذخ على الأفندي وأمثال الأفندي بالطين ومعاني الطين؛ فردت الأقدار كلامه عليه، وجعلت مرجعه في قلبه، وهيأت لبنت الباشا معيشة (طينية) بمعنى غير ذلك المعنى. . .
ومات الطفل؛ فردت هذه النكبة بنت الباشا إلى معاني انفرادها بنفسها قبل الزواج، وزادتها على انفرادها الحزن والألم؛ وألقت الأقدار بذلك في أيامها ولياليها التراب والطين.
ولج الحزن ببنت الباشا فجعلت لا ترى إلا القبر ولا تتمنى إلا القبر، تلحق فيه بولدها؛ فوضعت الأقدار من ذلك في روحها معنى الطين والتراب.
وأسقم الهم بنت الباشا وأذابها؛ فنقلت الأقدار إلى لحمها عمل الطين، في تحليله الأجسام وأذابتها تحت البلى
وكان وراء قصرها حِوَاء يأوي إليه قوم من (طين الناس) بنسائهم وعيالهم، وفيهم رجل (زبَّال) له ثلاثة أولاد، يراهم أعظم مفاخره وأجمل آثاره، ولا يزال يرفع صوته متمدحاً بهم، ويخترع لذلك أسبابً كثيرة لكي يسمعه جيرانه كل ليلة مفاخراً، مرة بأحمد، ومرة بحسن، ومرة بعلي. وأعجب أمره أنه يرى أولاده هؤلاء متممين في الطبيعة لأولاد (الباشوات). . . وهو يحبهم حب الحيوان المفترس لصغاره؛ يرى الأسد أشباله هم صنعة قوته، فلا يزال يحوطهم ويتممهم ويرعاهم، حتى أنه ليقاتل الوجود من أجلهم؛ إذ يشعر بالفطرة الصادقة أنه هو وجودهم، وأن الطبيعة وهبت له منهم مسرات قلبه، ذلك القلب الذي انحصرت مسراته في النسل وحده، فصار الشعور بالنسل عنده هو الحب إلى نهاية الحب. وكذلك الزبال الأسد.
ومن سخرية القدر أن زبالنا هذا لم يسكن الحِواء إلا في تلك الليلة التي جلست فيها بنت
الباشا على ما وصفنا، وفي ضلوعها قلب يفتت من كبدها، ويمزق من أحشائها.
وبينما تناجي بنفسها وتعجب من سخرية الأقدار بالباشا والبك، وتستحمق أباها فيما أقدم عليه من نبذ كفئها لعجزه عن مهر باشا، وإيثار هذا المهر الطيني، وتباهيه به أمام الناس، واندرائه بالطعن على من ليس له لقب من ألقاب الطين - بينا كذلك إذا بالزبال، كانس التراب والطين يهتف في جوف الليل يتغنى:
يا لِيل، يا لِيل، يا لِيل
…
ما تِنْجِلِي يا ليل
القلب أهُو راضِي
…
لَكْ حَمدي يا ربي
مِنِ الهمومْ فاضِي
…
افرحْ لي يا قلبي
يا دُوبْ كِدا يا دُوبْ
…
زَيِّ الحَمامْ عَايِشْ
ما يِمْتِلِكْ غِيرْ تُوبْ
…
طُولْ عمرُه فِيهْ نافِشْ. . .
يا لِيل، يا لِيل، يا لِيل
…
ما تِنْجِلِي يا ليل
إن قلت أنا فَرْحَانْ
…
دا مِينْ يِكَدِّبْنِي
وأكْتَرْ مِنِ السلطانْ
…
فرحانْ أنا بابْنِي
بِينِ السيوف يا ناسْ
…
لَمِ أنكَسَرْ سِيفي
وابْنِ الغِنَى مِحْتاسْ
…
وأنا على كِيفي. . .
يا لِيل، يا لِيل، يا لِيل
…
ما تِنْجِلِي يا ليل
وابنِ الغِنَى فِ هْمُومْ
…
والخالي خالي البالْ
والفقْر ما بِيْدُومْ
…
وتْدُومْ همومِ المالْ
يا طِيْر، يا طِيْر، يا طِيْر
…
الحُرّ فُوْقِ اللُّوْمْ
والخِيْر، جميعِ الخِير
…
لقْمَهْ، وعافْيَه، ونُوْمْ
يا لِيل، يا لِيل، يا لِيل
…
ما تِنْجِلِي يا ليل
ولم تختر الأقدار إلا زبالاً ترسل في لسانه سخريتها بذلك الباشا وبنت ذلك الباشا. .!
وكسْرُ قلبٍ بكسرِ قلبٍ
…
وحَطْمُ نَفْسٍ بحطْم نفسِ
ورُبَّ عِزٍّ تراه أمسى
…
كُنَاسةً هُيِّئَتِ لِكَنْسِ. .!
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
فردريش شيلر
بمناسبة احتفال ألمانيا بذكراه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ عامين احتفلت ألمانيا بذكرى شاعرها الأكبر (جيته) لمناسبة مرور قرن على وفاته؛ وتحتفل ألمانيا اليوم بذكرى شاعرها الثاني (شيلر) لمناسبة مرور مائة وخمسة وسبعين عاماً على مولده. وإذا كانت حياة الخالدين تمثل دائماً في الأذهان المستنيرة، فإن الاحتفاء بهذه الذكريات يضاعف الاهتمام بسيرتهم وآثارهم. ومن ثم فأنا نلتمس هذه المناسبة لنأتي على ترجمة الشاعر العظيم.
كانت حياة شيلر صفحة مؤثرة من ذلك الكفاح الذي يضطر إلى خوضه أصحاب المثل الأعلى حتى يفوزوا بمثلهم أو يزهقوا دونها؛ وقد أنفق حداثته وشبابه في خوض هذا الغمار، حتى إذا اكتملت له أسباب الفوز والطمأنينة، غادر هذه الحياة شاباً في إبان ظفره، وذروة خصبه، وروعة شاعريته؛ وكان مولده في العاشر من نوفمبر سنة 1759 في مدينة مارباخ الواقعة على نهر نكز في أسرة رقيقة الحال؛ وكان أبوه يوهان كاسبار جراحاً مساعداً في الجيش، استقر في مارباخ بعد عوده من الحرب وتزوج اليزابيث كودفايس، وهي ابنة صاحب فندق؛ فرزق منها أولاً بابنة تدعى اليزابيث؛ ثم كان مولد الشاعر، ثم ابنة أخرى تدعى لويزا. ونشأ الطفل فريدريش أو فرتز (شيلر) ضعيف البنية، كثير الحياء والوجل، وتلقى دروسه الأولى في مدرسة لورش، ثم انتقلت الأسرة إلى مدينة لودفجسبورج حيث نقل الأب، وكانت يومئذ مقام دوق فرتمبورج؛ وهنالك التحق شيلر (بالمدرسة اللاتينية)، وبدأ دارسة الأدب واللاتينية، وقرأ هوراس وأوفيد وفرجيل؛ وكان لأستاذه القس موزر أثر كبير في تكوينه. وفي سنة 1773 دخل شيلر (أكاديمية كارل) التي أسسها الدوق في شتوتجارت، ودرس الحقوق أولاً ثم الطب والتاريخ، وأظهر تفوقاً في اليونانية واللاتينية؛ بيد أنه لم يكن ميالاً إلى هذا النوع من الدراسة، وكان شغوفاً بالأدب، تهجس به في أوقات فراغه شاعرية قوية؛ وكان يكثر من قراءة هومير وفرجيل وكلوبشتوك شاعر ألمانيا في هذا العصر، وبتأثر تفكيره أيما تأثير. وفي ذلك الحين ظهرت قطعتان مسرحيتان قويتان هما:(أوجولينو) لجرستنبرج، و (جتزفون برلنخجن) لجيته؛
فتأثر شيلر بقراءتهما واتجه ذهنه إلى المسرح؛ وكتب بعض القصائد والمناظر المسرحية الأولى، ولكنه مزقها، ثم بدأ بكتابة روايته المسرحية الأولى:(قطاع الطريق). وفي سنة 1779 أتم دراسته وحصل على إجازته، وسنحت له بهذه المناسبة أول فرصة لرؤية الشاعر العظيم الذي ملأ صيته ألمانيا يومئذ، ونعني (جيته)؛ فقد وفد مع دوق فيمار على شتوتجارت في فاتحة سنة 1780 ليشهدا احتفال الأكاديمية بتوزيع الإجازات. وكان شيلر يومئذ فتى في عشرينه، يحمل إجازة الطب والجراحة، ولكن هوى الشعر يحمله ويملأ جوانحه. وكان يتوق إلى التعرف بزعيم الشعر وإمامه؛ ولم يكن يحلم أنه سيغدو في أعوام قلائل قرينه وزميله الأوفى. ولم يهتم جيته في هذا اللقاء الأول بأمر الشاعر الحدث الذي لم يسمع به أحد بعد، ولكن نجم الشاعر الحدث كان على وشك البزوغ. ذلك أنه ما كاد يعين على أثر تخرجه طبيباً في حامية شتوتجارت بمرتب يسير، حتى عكف على إتمام درامته (قطاع الطريق)، ولكنه لم يلق ناشراً يقوم بطبعها، فاقترض نفقات الطبع من بعض أصدقائه وظهرت القصة سنة 1781 غفلاً من اسم مؤلفها؛ وهي قطعة مسرحية عنيفة تحمل طابع البداية، وفيها يصور شيلر كثيراً من عواصف حداثته. ومثلت (قطاع الطريق) عقب صدورها في شتوتجارت، ثم مثلت في العام التالي في مانهايم؛ وأحدث ظهورها وتمثيلها ضجة كبيرة. ولكن شيلر لم يؤخذ بهذا النجاح الجزئي. وكانت وظيفته العسكرية تثقل على نفسه، فاعتزم مغادرة شتوتجارت خفية إلى أفق أوسع، وفي أكتوبر سنة 1782 غادرها مع صديق موسيقي يدعى شترايشر إلى مدينة مانهايم. وكان يحمل معه مخطوط درامة جديدة هي (فيسكو) فعرضها على مدير مسرح يدعى (دالبرج) فأعجب بها ومثلت بنجاح، وكتب في الأشهر التالية (المؤامرة والحب) ومثلت أيضاً. وكلتاهما قرينة (قطاع الطريق) في طابعها العنيف وحماستها الساذجة. بيد أنه رأى المسرح لم يحقق أمله، ولم تسعفه موارد القطع التمثيلية، فاضطر أن يبحث للعيش عن وسيلة أخرى، ولكن في دائرة الأدب أيضاً، فأصدر مجلة أدبية نقدية اسمها (تاليا) وظهر العدد الأول منها في مارس 1785 وفيه قسم جديد من درامته الجديدة (دون كارلوس) ولكنها لم تستقبل بحماسة. وفي ذلك الحين جاء دوق فيمار إلى (دار مشتات) لزيارة صهره (اللاند جراف) وكان شيلر قد سمع كثيراً عن نبله ورفيع خلاله وتعضيده للآداب والفنون، فسار لرؤيته مزوداً ببعض
خطابات التوصية، فاستقبله الدوق بعطف، وأذن له أن يتلو بين يديه الفصل الأول من (دون كارلوس) فاستحسنه وشجع المؤلف بكلمات طيبة، واستأذنه شيلر في أن يهديه قصته فأذن له، وأنعم عليه بلقب (مستشار) في خدمته، وهو لقب لم تكن له سوى قيمة أدبية واجتماعية.
وكان شيلر يومئذ فتى في الخامسة والعشرين يضطرم أملاً نحو العلياء والمجد؛ وكان يقضي حياة عاصفة في الدرس والتفكير والكتابة؛ وكان قلبه الكبير يخفق أحياناً للحب، ولكن في اعتدال ورزانة. ولم تحمل شيلر نحو النساء تلك النوبات الغرامية العاصفة التي كانت تملأ حياة جيته؛ ولكنه عرف الحب في تلك الفترة؛ وتعلق بادئ بدء بفتاة تدعى مرجريت شفان، وهي ابنة كتبي في مانهايم، وكانت فتاة ساحرة لعوباً خطرة الأهواء؛ وفكر شيلر في الاقتران بها ولكن أباها رفض في رقة وأدب لأنه لم يأنس في الشاعر بلا ريب مستقبلاً يحمل على الطمأنينة. ثم تعرف شيلر بعد ذلك على فتاة تدعى شارلوت دوستايم، وشغفت هي به حباً؛ ولكنها لم تلبث أن اقترنت بضابط يدعى (فون كالب)؛ وانتقلت معه إلى فيمار؛ واستحال حب الشاعر ومدام فون كالب بعد ذلك إلى صداقة حميمة استمرت مدى الحياة.
وأنفق شيلر في مانهايم زهاء عامين ونصف عام، وهو يشهد آماله تنهار تباعاً، وموارد العيش تضيق به. وأخيراً اعتزم أن يغادر مانهايم، وأن يهجر تلك المهنة التي لم تؤته قوته - مهنة القريض؛ وأن يلتمس العيش من مهنة أخرى مستبقياً للشعر أوقات فراغه؛ فغادر مانهايم بعد وداع ممزق لصديقه الحميم شترايشر؛ وقصد إلى قرية جوليس بالقرب من لايبزج حيث كان يقيم صديقه العزيز (كرنر) وكان كرنر ذهناً رفيعاً وقلباً كبيراً، ألفى فيه الشاعر مثل الصداقة الأعلى؛ فأقام إلى جانبه مدى حين في جوليس ثم في درسدن، وأتم في تلك الفترة قصته (دون كارلوس)(سنة 1786). وكان ظهورها طفراً حقيقياً للشاعر، وكانت في الواقع بداية مجده، وحداً فاصلاً بين ماضيه الغامر ومستقبله الباهر. وكانت مدينة فيمار يومئذ كعبة الشعر ومقام إمامة جيته، وفيها يجتمع حول الشاعر الأكبر جمهرة من الشعراء والأدباء مثل هردر، وفيلاند، وماير، ويظللهم دوق فيمار جميعاً برعايته؛ وكان شيلر يفكر منذ حين في السفر إلى فيمار ليجرب حظه في ذلك المحيط الأدبي الزاهر؛
وكانت صديقته الحميمة مدام فون كالب تقيم هنالك منذ حين؛ وكان فيلاند يدعوه فوق ذلك للاشتراك معه في تحرير مجلته (مركور)؛ فقصد إلى فيمار في أغسطس سنة 1787، وقلبه مفعم بالآمال الكبيرة؛ فاستقبله الدوق بفتور، ولكن مدام فون كالوب استقبلته بعطف مؤثر؛ ورحب به فيلاند الشاعر أيما ترحيب، واشترك معه في تحرير مجلته؛ واشترك أيضاً في تحرير مجلة أخرى في (يينا) وترك مجلته الخاصة؛ واستمر يعاون فيلاند مدى عامين، ثم ترك التحرير معه، ولكنه لبث صديقه الحميم.
وفي سنة 1788، أقام شيلر حيناً في قرية (فولكشتات) الهادئة، وهنالك أتم قصته (الهائم)، وتاريخ (ثورة الأراضي السفلى) الذي بدأه من قبل
في ذلك الحين كان جيته في إيطاليا يطوف ربوعها؛ ثم عاد من رحلته في سبتمبر. وكان شيلر يرقب مقدمه ليراه ويتعرف به. وسنحت له هذه الفرصة؛ واجتمع بالشاعر الأكبر وصديقته مدام دي شتاين وهردر في منزل أسرة لنجفلد التي صاهرها شيلر فيما بعد. وهنالك رأى شيلر ذلك الرجل الذي بلغ ذرى المجد، والذي رآه من قبل لأول مرة في حفلة توزيع الإجازات عام تخرجه من المدرسة؛ وكان شيلر يعلق على هذه المقابلة آمالاً كبيرة؛ ولكن جيته استقبله بفتور ظاهر، ولم يكن قد لفت نظره إلى ذلك الحين. وكانت صدمة مؤلمة لشيلر؛ فكتب إلى صديقه كرنر يصف أثر هذا اللقاء في نفسه:(يلوح لي من كل الظروف أن الفكرة السامية لدي عن جيته لم يزعزعها هذا التعارف الشخصي، بيد أني أشك أننا نستطيع أن نتقارب بأي وجه. إن قسماً عظيماً مما يزال يشغلني، ومما زلت أؤمل قد انتهى وقته لديه، والواقع أن كل شخصه يميل إلى ناحية غير التي أميل إليها، وبين وجهات نظرنا اختلاف جوهري. وعلى أي حال فلسنا نستطيع أن نستخلص من هذه المقابلة شيئاً مؤكداً أو ثابتاً. وسوف يعلمنا الزمن ما تبقى). ولما عاد شيلر إلى فيمار من مقامه المنعزل لم يحاول كثيراً أن يرى جيته. بيد أن فتور جيته نحوه لم يدم طويلاً فقد رأى في قصيدته (آلهة اليونان) جمالاً يلفت النظر؛ ويعترف شيلر من جهة أخرى بأنه كان من ذلك الحين يخشى نقد جيته، وأنه كان متأثراً بتلك العاطفة حينما وضع قصيدته (الفنانون) وتأنق في صياغتها.
على أن الذي لا ريب فيه هو أن لقاء الشاعرين - جيته وشيلر - كان من أعظم حوادث
حياتهما إن لم يكن أعظمها جميعاً. وسرعان ما تحول ذلك الفتور الذي أبداه الشاعر الأكبر نحو زميله الفتي إلى حب وإعجاب خالصين، ولم تمض أعوام قلائل حتى توثقت بينهما أواصر صداقة عميقة؛ ولم يمنع تنافسهما النبيل في آفاق الشعر أن تبقي هذه الصداقة إلى الأبد، مقرونة بالوفاء الخالص والإعجاب المتبادل، وأن تغدو صفحة خالدة في تاريخ التعاون الأدبي. كان شيلر رجل المثل العليا، وفيلسوفاً ذا آراء ونظريات خاصة في الحياة. ولكن جيته كان رجل الحقيقة، يعرض ما في الطبيعة ويصوره كما يراه؛ وكان شيلر شاعر (الدرامة) وكان جيته شاعر الخيال والفروسية؛ ولكن كلا منهما كان جندياً عظيماً لبناء الآداب الرفيعة وتحطيم الآداب المبتذلة؛ وكان كلاهما قائد عظيم لحركة (العاصفة والدفع) التي كانت ظاهرة التفكير والآداب الألمانية في أواخر القرن الثامن عشر، والتي كانت ترمي إلى تحطيم القديم وتجديد كل شئ؛ وكان لهذه الصداقة الحميمة، وهذا التعاون الأدبي الوثيق بين الشاعرين الكبيرين أثره في نفس جيته وفي نظمه، يبدو ظاهراً في (أغانيه) وفي قصة (هرمان ودروتيا)، وغيرهما مما أخرج في هذا العهد.
وفي سنة 189 عين شيلر أستاذاً للتاريخ بجامعة بينا بمعاونة صديقه وأستاذه جيته، وفي العام التالي اقترن بالآنسة لنجلفد التي تعرف بها وبأسرتها قبل ذلك بأشهر قلائل؛ وبذلك استقرت حياته، وعاش في نوع من الصفاء والرغد؛ وانكب في هذه الفترة على دراسة التاريخ؛ وألف كتابه عن (حرب الثلاثين) وأصدر مجلة أدبية فلسفية بعنوان (الساعات) كانت نموذجاً بديعاً للتفكير الرفيع، وفيها كان يكتب أئمة العصر: جيته، وهردر، وكانت، وفخته، وماير، وانجل، وجاكوبي، وغيرهم؛ وكان لها أثر عظيم في سير الثقافة الألمانية والتفكير الألماني في ذلك العصر. وكان شيلر من أنصار الثورة الفرنسية التي كانت تضطرم في ذلك الحين، وظهر ذلك العطف في كثير من كتاباته وقصائده حتى أن (المؤتمر الوطني) الفرنسي منحه لقب (مواطن فرنسي). وفي تلك الفترة أيضاً أخرج شيلر درامته القوية (فالنشتاين)(1799)، واستمر في تدريس التاريخ في يينا حتى سنة 1800، ثم استقال من منصبه، وعاد فاستقر في فيمار إلى جانب جيته؛ وهنالك أخرج عدة قطع جديدة: ماريا ستوارت؛ وعذراء أورليان وعروس مسيني فكان لصدورها جميعاً دوي عظيم؛ وكانت جميعاً من أبدع ما كتب.
واستقر شيلر في فيمار نهائياً، ولم يغادرها إلا ليزور برلين زيارة قصيرة ليشرف هنالك على إخراج بعض قطعه. وكانت فيمار يومئذ كعبة الأدب الرفيع، يجتمع فيها حول إمامي الشعر، جيته وشيلر، صفوة من أقطاب الشعر والأدب؛ وكانت صداقة جيته وشيلر أبدع وأروع مظاهر هذا المجتمع الأدبي الباهر. وفي سنة 1804 كتب شيلر درامته (ولهلم تل) فكانت أعظم قصصه وأروعها. والمعروف أنه استقى موضوعها من صديقه جيته، وكان جيته قد زار سويسرا قبل ذلك بقليل ودرس هنالك تاريخ تل بطل سويسرا القومي، وزار الأمكنة التي تقول الأسطورة إنها كانت ميادين بطولته، لينتفع بذلك الدرس في قصة يعتزم كتابتها عن تل. ولكنه لما عاد إلى فيمار نبذ الفكرة، وأعطى مواد دراسته إلى شيلر لينتفع بها هو؛ فاستقى منها موضوع قصته (ولهلم تل) فجاءت أبدع ما كتب، وأثارت من جيته أيما إعجاب. بيد أنها كانت أيضاً آخر ما أخرج شيلر. ذلك أنه مرض في أوائل سنة 1805، ومرض أيضاً جيته في الوقت نفسه؛ واشتدت عليهما وطأة المرض، حتى صرح جيته بأنه يشعر بدنو أجله، وأن أحدهما لا بد ذاهب. ولكن الذي توفي هو شيلر. توفي في الثامن من شهر مايو، في الخامسة والأربعين فقط، فوقع موته في فيمار وقع الصاعقة، وارتدت ثوب الحداد مدى حين. وتلقى جيته نبأ الفاجعة وهو في فراش مرضه، فبعثت إلى نفسه أيما حزن، وسمع ليلاً وهي يبكي أحر بكاء. وكتب يومئذ إلى أحد أصدقائه مشيراً إلى فقد شيلر:(لقد فقدت نصف حياتي)، وغلب عليه الحزن حيناً فأضرب عن العمل والكتابة؛ والى ذلك يشير بقوله:(إن مذكراتي في هذه الفترة صحف بيضاء. والصحف البيضاء عنوان الفراغ في حياتي. ولم يك ثمة شئ يستهويني في تلك الأيام).
وهكذا مات شيلر في إبان مجده وذروة شاعريته، ولم ينعم بالحياة الناعمة المستقرة إلا ردحاً قليلاً؛ فكانت حياته كلها صفحة كفاح مستمر، بيد أنه خرج من هذا الكفاح ظافراً متسماً بميسم المجد والخلود. ولم يكن شيلر شاعراً مبدعاً فقط، ولكنه كان فيلسوفاً عظيماً، وفناناً كبيراً، ومؤرخاً بارعاً؛ وكان يؤمن بالثقافة كوسيلة لرفع الإنسانية إلى ذرى القوة والعظمة، ويرى أن الفن ليس ترفاً لذوي الفراغ والجدة. وليس لهواً يستمرئه الخامل، ولكنه قوة عظيمة ذات أغراض جدية وإن كانت وسائله شائقة سارة، وإن قرين الدين يعاون على تنظيم هذا العالم. وكان ذهناً ثائراً جريئاً جلداً يمجد بالحرية، ويمقت كل صنوف الاستعباد؛
وكان قلباً رقيقاً يفيض حساً وإنسانية؛ خبيراً بأسرار الطبائع والنزعات البشرية؛ وكان مؤرخاً بارعاً ينفذ إلى أسرار التاريخ، ويستوعبها بقوة ودقة. وهذه النزعة التاريخية الناقدة تبدو في كثير من قطعه المسرحية. ولو مد في حياة شيلر، كما مد في حياة صديقه جيته، لظفرت منه الآداب الألمانية بأضعاف ما ظفرت؛ وكان على الأرجح ينازع جيته إمارته في الشعر الألماني، بيد أنه مع ذلك يتبوأ إلى جانبه المقام الأول في عالم المجد والخلود.
محمد عبد الله عنان المحامي
7 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الابراشي المفتش بوزارة المعارف
وسائل تقوية الشخصية العملية:
قلنا فيما مضى إن الشخصية نوعان: عملية وفكرية، وذكرنا شيئاً عن الشخصية العملية، واليوم نتكلم عن الوسائل التي تقويها فنقول:
هناك وسائل لتقوية الشخصية العملية نذكر منها ما يأتي:
(1)
تحديد الغرض ومعرفة الطريق الموصل:
إن تحديد الغرض في أي عمل من الأعمال مع معرفة السبيل الموصلة إلى ذلك الغرض من أهم الوسائل المشجعة للإنسان على الاجتهاد في العمل والسير فيه إلى النهاية من غير تردد. وبخاصة إذا صحب العمل بإرادة قوية، وثقة به. فمعرفة الغرض لها أثر كبير في نفوسنا، سواء أكان ذلك الغرض عادياً أم عظيماً. وإن نظرة واحدة إلى العالم تبين لنا أن لكل إنسان غرضاً يسعى ليدركه مهما اختلفت هذه الأغراض. ولكن المهم أن يكون الغرض محدوداً سامياً.
كلٌّ له غرض يسعى ليدركه
…
والحر يعمل إدراك العلا غَرضا
فالصياد يقف على شاطئ البحر وعصاه في يده ينتظر بصبر عظيم وملاحظة دائمة، أملاً في اصطياد السمك وما فيه من لذة وإرضاء للنفس، وسائق السيارة يسير في طريقه مهما لاقى فيها من مطر أو ثلج أو ضباب أو غبار رغبة في الوصول إلى مكان معين، وقبطان الباخرة العظيمة في البحر الخضم يقود باخرته في طريق معينة نحو ميناء أو موان معينة في جهات خاصة. وهنا يتمثل تحديد الغرض، ومعرفة الطريق الصالحة، والتأكد منها والثقة بها. وإذا تمثلت هذه الأحوال العقلية في الشخصية الإنسانية كانت من أعظم القوى العملية في العالم. فينبغي أن يكون للشخص غرض معين من العمل يسعى ليدركه ويحققه بكل ما أوتي من عزيمة وقوة ومثابرة وثقة بالنفس؛ حتى ينتفع بقواه العقلية. قال (وردِسورث) شاعر الطبيعة من الإنجليز عن الأفراد الذين يسيرون في الحياة نحو أغراض معينة: (إن اجتهادهم ناشئ عن وازع نفسي ينير الطريق أماهم دائماً؛ فيقدرون
جمال الطبيعة، ويعملون بما يعلمون، ويثابرون على التعلم).
وبعد الوصول إلى الغرض الأول أو المرحلة الأولى من الحياة يمكن التفكير في مرحلة أخرى وتحديدها والعمل للوصول إليها وهكذا إلى نهاية الحياة. قال عمر بن عبد العزيز: (إن لي نفساً تواقة لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة). وقيل: (ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة من النار يضربها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعاً).
(2)
الرغبة في العمل:
بعد تحديد الغرض من العمل يجب أن تكون هناك رغبة فيه وميل إليه؛ لأن الرغبة:
ترفع من شأن العمل الذي تقوم به.
تؤدي إلى الإقدام والنشاط وهما القوة الطبيعية للشخصية، وتكون كوازع نفسي أو باعث داخلي يستنهض همتنا ويستحثنا على العناية بالعمل.
تمدنا بالقوة التنفيذية، والإرادة الحق الضرورية للوصول إلى أغراضنا.
فالرغبة هي الدافع الطبيعي للإنسان نحو العمل مهما لاقى في سبيل ذلك العمل من متاعب ومصاعب. والرغبة الحق هي تلك القوة الروحية التي توحي إلى الشخص للقيام بالشيء بهمة لا تعرف الكلل ولا تقف دونها أي عقبة. فإذا وجدت الرغبة ثم وجدت الإرادة، سهل الطريق مهما كان شاقاً، والحاجة تفتق الحيلة. فإذا رغبت في معرفة صناعة غزل القطن ونسجه كان الذهاب إلى معمل الغزل والنسج أحب الأشياء إليك، وأخذت تشعر بأنه يجب أن تعرف كل شئ يتعلق بالقطن وأنواعه، وأين يزرع، وكيف يزرع، وكيف تتقي آفاته السماوية، وما الأحوال الجوية التي يتطلبها، وكيف يجنى، وكيف يوضع في الغرائر، وكيف يخزن، وكيف يرسل إلى السفن، وكيف يحلج، وكيف يغزل، وكيف ينسج.
وكذلك القول في رغبة (ابراهام لنكولن) في تحرير العبيد يوم ذهب مع بعض العمال إلى السوق، فوجد جارية تباع وتشترى فتألم لبيع الإنسانية وشرائها الألم كله، فتمنى لو أعطي سلطة حتى يضرب على الاسترقاق بيد من حديد، فأعطي الفرصة بعد زهاء ثلاثين عاماً بانتخابه رئيساً لجمهورية الولايات المتحدة بأمريكا فكان من أوائل أعماله العمل على تحرير العبيد. وقد أدى ذلك إلى حرب داخلية، ولكن النصر كان أخيراً في جانبه، وبذلك
يعتبر محرراً للعبيد، مدافعاً عن الإنسانية المظلومة.
وإن شدة الرغبة في الإصلاح الاجتماعي هي التي جعلت (شارلز ديكنز) أكبر كاتب ومصلح اجتماعيبإنجلترا في القرن التاسع عشر. وإن الرغبة في شراء أسهم قناة السويس بعد التأكد من فائدتها هي التي خلدت ذكرى (دزرائيلي) بين الإنجليز، وجعلته يعمل بكل ما أوتي من قوة على تنفيذ الشراء مع شدة ما لقي من معارضة في مجلس الأمة، ومن معارضة مدير مصرف إنجلترا، وإن الرغبة في أعمال الآلات هي التي جعلت (أديسون) أكبر مخترع في القرن العشرين، والأمثلة كثيرة لا حصر لها.
فبغير الرغبة لا يستطيع الإنسان أن يقوم بعمل عظيم في الحياة. فإذا أردت القيام بعمل من الأعمال - سواء أكان ذلك العمل دينياً، أم اجتماعياً، أم أدبياً، أم علمياً، أم فنياً، أم حربياً - فأوجد الرغبة الصادقة وهي كفيلة بالتنفيذ والنجاح في ذلك العمل.
والرغبة نوعان: مباشرة وغير مباشرة؛ فالمؤلف الذي يؤلف كتاباً، أو يكتب مقالة لصحيفة يومية، يجب أن يكون تأليفه وكتابته عن رغبة حقيقية إذا أراد أن يكون لعلمه قيمة علمية أو أدبية، فالرغبة في العمل هي الشرط الأساسي للتقدم والنجاح فيه. ولكن هل الرغبة وحدها تكفي للنجاح؟ الحق أنها لا تكفي، بل ينبغي أن يكون هناك بعض التشجيع الأدبي أو المادي؛ لأن المؤلف أو الكاتب قد لا يكتب حباً في الكتابة فحسب، بل قد يكتب ليعيش، أو ليحصل على ضروريات الحياة أو كمالياتها. فهو ينتظر تشجيعاً، ويجب أن يشجع بتقدير عمله وإعطائه ما يستحق وحينما توجد الرغبة المباشرة الطبيعية في العمل، ثم تصحب برغبة أخرى غير مباشرة كالربح المادي أو المركز الأدبي فإننا لا نتردد أن نقول: إن النشاط يتضاعف والاجتهاد يستمر والعمل يزداد حسناً، ودواعي النجاح تكون أقوى وأشد، لأن الرغبة متوفرة من كلتا الناحيتين المباشرة وغير المباشرة.
ولا ننكر أن المثل الأعلى هو أن نعمل حباً في العمل، ونؤدي الواجب رغبة في أداء الواجب، ونقوم بالشيء من غير أن ننتظر جزاءاً أو شكوراً، ولكن من حيث أن الإنسان إنسان فهو يفكر دائماً في النتيجة، وفيما يعود عليه من المنفعة والمكافأة على العمل، وهذه المكافأة نوع من التقدير يشجعه على العمل، ويدفعه إلى أدائه كما ينبغي وكما يجب أن يكون، وكلما كانت المكافأة قيمة زادت الرغبة فيها وكثر التلهف عليها والعمل على نيلها.
ومعظم الأعمال التي نقوم بها يومياً من قبيل الأعمال التي نؤجر عليها. ويجب أن نصرح بأنه لولا الأجور والمرتبات التي يتقاضاها العمال والموظفون ما قام أحد منهم بعمل قيم.
ولا تكفي الرغبة غير المباشرة - كالرغبة في الأجر - للنجاح في العمل واكتساب شخصية قوية، بل لا بد أن تصحب برغبة طبعية وميل حقيقي نحو العمل نفسه، وإلا كان مكروهاً لدى النفس، تبغضه، وتنتظر بفارغ الصبر التخلص منه، كما هو حال العامل الذي لا يجد لذة في عمله، فيترقب انتهاء اليوم ومجيء ميعاد الانصراف بكل صبر، ونحن لا نبغي إلا عملاً مصحوباً بلذة ورغبة وسرور، حتى ننجح في ذلك العمل ونجيده ونجد شوقاً إلى العودة إليه، ونظهر فيه تفوقاً ومهارة. ومن الصعب أن تنبغ في عمل غير محبوب إليك.
يتبع
محمد عطية الابراشي
ليلة في مضارب النَّوَر
للأستاذ عبد الحليم عباس
في سهول حوران التي ليس للأفق في فسيحها حد، وقف الليل يصغي لهذه الفتاة النورية تعبر عن شجو شعب لفظته الحياة، فلفظها وفي صدره غصة، وفي قلبه جرح لا يلتئم.
غنت ورقصت كالطير الذبيح.
وكانت أغانيها صدى لهذه الغربة الطويلة.
من بدء الخليقة زمّوا رحيلاً، يفتشون لهم عن وطن، كادوا يبلغون حد الأفق، ولما يجدوا مبتغاهم، كل شبر فيها ممتلك، وراء الأفق. . . وراء الأفق، عل لكم به داراً.
والتمعت الكواكب، فكأنها قلوب تجف، أو عيون تذرف فاطَّلعت إليها، وكأنما ادّكرت أوطاناً مجهولة، وأحباباً خلفتهم عند مطلع الشمس، فاندفعت تغني ما أنقل معناه، وكان غناؤها في هذه النوبة بالغاً في أساه، مشجياً في تعابيره، يحمل في ثناياه ريح الكبد المحروق. قالت:
(إيه يا ليل الشجن، ليت جوانبك الفسيحة تطوى، وآفاقك المترامية تتضام على نفسها، فإذا هي في مدى النظر دار وأيكة، نجلس فيها مع الحبيب، لا يفزعنا النوى ولا تطوح بنا المقادير.
إيه يا ليل الشجى: ظننا الغربة يوماً وليلة، وما علمناها العمر كله، فمتى تكون الرجعة، ومتى نلتقي والأحبة.
إيه يا ليالي، خلفناهم شباباً فبعد عشرين عاماً كيف آضت لممهم السود المعطرة، وشفاهم الريانة بخمر الحياة؟ كيف أضحت وجناتهم الناعمة؟ هل جعدها النوى وغضنتها السنون؟ وقاماتهم المنتصبة كالغصن الرطيب، أظنها انحنت تحت ثقل العمر والشجون. . . ليتني صخرة صماء مشدودة إلى هاتيك الربوع التي أحببت فيها حبيباً لم يغدر ولكن غدرت بنا الحياة.
إيه فتاتي! أوصيك ألا تلقي السمع لكلمات الحب تند عن أفواه الشباب الجملية، ما برح مكتوب على شعبك النوري جوب الأرض، وذرع هذه الفلوات. فموت القلب بالخلو من الحب، أخفُّ من احتراقه في جحيم الذكريات.
أغمضي عينيك عن الهوى، عن النعمة الكبرى، فلو كنا أهلاً لها، لبرئنا على غير هذه
الشاكلة. . .).
إلى هنا وكأنما طغت موجة الحزن في نفسها، وكأنما فتحت لها الأنشودة عالماً من الذكريات الشجية فجلست مجهودة لاغبة.
وكنا في مضاربهم أربعة، كلنا يفهم الحياة إلى غير الوجه الذي يفهمها عليه الآخر، فمنا من يطلب فيها اللذة، ومنا من لا يبالي بلذتها وألمها، ومنا من لا يرى فيها متسعاً للذة، ومنها من يجدف عليها في الصباح، ويهزأ بها عند المساء، وفي الليل يدب إلى لذائذها يعصرها حتى لا يدع فيها بقية؛ ونحن وإن اختلفنا فيها كثيراً نلتقي على شعور بعينه، وهو الحس بألم الغير، والرثاء لآلام الناس.
فكان من هذا أن هزنا شعور طيب، هو مواساة هؤلاء المناكيد فكففنا عن طلب الغناء. وساجلهم الحديث منا فتى لبق. قال وهو يوجه كلامه إلى هذه التي غنت وجلست هامدة، كأنما ذابت روحها مع أغانيها:
- ألك أخوة يا عزيزتي؟
- نعم، ثلاثة، واحد دفنته في الصين، وأخر واريته في طيبة، والثالث على قيد الحياة.
- كلنا سنموت، فكيف رأيت هذه الديار؟
- هي دياركم أنتم، أما دارنا، فهذا البيت الممزق، وظهر هذا البهيم.
قال وهو يحبُّ أن يمزج الجد بالدُّعابة ليخفف هذا الألم الطافح ويستل هذا الحزن المستعصي:
- ليست الأرض ملكاً لأحد، أما سمعت قول الأديب الأكبر، أهون عليّ أن أتصور الإنسان ملكاً للجبال، ولا أتصور الجبل ملكه. ملكه كيف؟ أيستطيع أن يحمله؟
- لا أفهم ما تعني.
- ستفهمين، أجمل ما على أديم الأرض هذه الزهور الناجمة تميس بقاماتها، وأجمل ما فيها هذا العطر يفوح، فهل يملك عطر الزهرة؟ هل تُحجب وجنة السماء عن أعين الرائين؟ أبهج ما في الحياة ملك الجميع، وما بقي فأقوات وفضلات يشترك الإنسان فيها مع أدنى المخلوقات.
- صحيحٌ هذا، ولكن هذه أشياء ليس لنا منها أدنى فائدة، أنأكل الكواكب؟ أم نقتات بهذا
الذي تنشره الزهرة؟
فبهت صاحبنا
فنبهناه إلى غلطته، والى أن هذه التي يخاطبها أضيق عقلاً وأسف إدراكاً من أن تفهم مجالي الفن الرفيع.
فلم ييأس، وعاد يفهمها، ويأتي باللفظ القريب إلى عقليتها، يقول: إنها لا تقيت، ولكن فيها شيئاً أثمن من القوت، وهل خلق الإنسان لملء بطنه فحسب. . . هل أحببت؟
فكأنها خجلت من هذا السؤال الثائر، فرمت برأسها إلى الأرض، فعاد يلح عليها بالإجابة.
- نعم، أحببت، والنَور شعب لا يخجل من المصارحة بمثل هذه الأحاديث.
- وهل في الحب لذة؟
- نعم يا أفندي.
- أيهما أكبر لذة، الحب أم القوت؟
- الحب يا أفندي. . .
- إذن في الدنيا أشياء كثيرة أثمن من القوت، أفهمتِ؟
- نعم.
- وهذه الأشياء يتساوى فيها الغني والفقير، والأمير والحقير، بل إن حظ الصعاليك ليربو في بعض الأحايين على حظوظ ذوي الجاه العريض والمنازل الرفيعة.
فصمتت، وكأنها تفكر وتزور حديثاً، وبعد حين قالت: والغربة، هل يستقيم معها نعيم؟ أنظر هانحن أولاء نقيم هنا بعضاً من أشهر الصيف، فإذا جاء الشتاء بقره، اضطررنا إلى النزوح كارهين، فنحن نقضي العمر كله رحيلاً، ولو شئت لقلت حنيناً، نحن إلى هذه المرابع، وغدا نحن إلى غيرها إذا أنسنا بها، وهكذا نقضي العمر بالذكريات الموجعة، والحنين الذي يُقطع نياط القلوب.
قال: اسمعي، ليس على ظهر هذا السهل - سهل حوران - الممتد شمالاً حتى أذيال الشام، المنفسح غرباً إلى سفوح هذه الجبال التي شاقها منظر سماء عجلون، فنهضت إليها بغابات الصنوبر، وملتف أشجار السنديان والبلوط، لتقبل وجنتها. . . وليتك ترينها في الصباح، والضباب يلفها في مثل غلائل العروس وهي تجاهد بنسيمها المنعش، ونداها العطر لترى
السماء، فتمزق الردن تارة، وتشقق البنائق أخرى، وهي في كل ذلك آية في السحر والجمال والجلال. . أقول ليس على هذا السهل أخلد حياة، وأكبر فؤاداً وإحساساً من صديقكم شاعر الواد.
- أعرفتِه؟
- نعم، فهو يزورنا في غالب لياليه، ويبقى حتى مطلع الفجر. .
- هذا الشاعر الضائع يا فتاتي، هو في هذا السهل أضيع منكم غربة، يذيب كبده في لحنه، وتسيل روحه على قوافيه. . . ولا من يسمع.
- كيف!؟ إنه لا يحضر إلا ومعه لفيف من صحبه وخلطائه فكيف يكون غريباً في دياره وبين أحبابه؟
- هو غريب وحيد، يأتيكم ليأتنس بكم، هو غريب لأنه لا يجد صدى لروحه، وليست تقاس الغربة ببعد الشقة والنأي عن الوطن، وإنما تقاس بما بين الأرواح والأرواح من تفاوت وتقارب، كم من ضجيعين على مهاد واحد بينهما من البعد ما بين ذاك النجم وهذا الوتد.
فهزت النورية رأسها فعل الحائر الذي لم يفهم.
وكنا ضقنا بصاحبنا ذرعاً، وأسمعناه من قوارص اللوم والاستخفاف بفلسفته التي جاء يلقيها في مضارب النَوَر شيئاً كثيراً، وكأنه تعب. . فلم يعمل في هذه المرة على إفهامها. . . فقلنا له متندرين مالك؟ عد إلى وصول قولتك، وشرح فلسفتك.
قال: أطلتم اللوم، لقد نلنا مبتغانا، أما كان عزمنا أن نذهب بشيء من ألم هذه الفتاة، فها هي الابتسامة تسيل على شفتها، وشفاه عدة من قومها، قلنا: غلطت يا أستاذ، فما هي ابتسامة الصفو، وإنما هي ابتسامة الاستخفاف بك، والهزء من أقوالك.
- ليكن، فما يضيرني أن أكون ساعة موضع سخرية النَّور. .
وطلعت علينا الشرطة، فخفقت قلوبهم، فراحوا يلملمون أنفسهم، ويلقون علينا نظرات الرجاء أن نكفيهم شر هذا البلاء فكنا عند حسن ظنهم.
وقمنا إلى السيارة، ولما تبوأنا مقاعدنا جاءت النورية وهمست في أذن صاحبها:
- أيوجد مثلنا أناس يذوقون حر سياط الجنود الغلاظ الأكبد؟ وهل يساوينا أحد في هذه
النعمة؟
- نعم يا فتاتي، ليست هي على ظهوركم بأشد نكاية وألماً وأثقل وطأة منها على ظهور الأحرار.
- ومن هم الأحرار؟؟
لا أدري، أخشى سياطهم إن تفوهت، وتلمس جنبه كأنما أحس بألمها، هم، هم صفـ. . . . وة رجال الو. . . طن، في كل أمة، سلي عنهم مصر. . .! وضاع الصوت في لجب هذه الرعناء.
شرق الأردن
عبد الحليم عباس
حول مقال الشخصية
جاء في العدد (68) من مجلة الرسالة الغراء في مقال الأستاذ محمد عطية الأبراشي عن الشخصية بعض الأخطاء من الوجهة العلمية:
فقد قال الأستاذ:
(2)
(والغدد النكفية وهي غدد صغيرة اسفل العنق ولها صلة بالذكاء، فإذا كانت قوية الإفراز كان الشخص ذكياً وبالعكس.)
ومن المعلوم أن الغدد النكفية هي الغدد التي بجوار الأذن وليست بأسفل العنق، وتسمى بالإنجليزية وليس لها أي دخل في الذكاء، بل كل إفرازها يصب في الفم بواسطة قناة يقرب طولها من الثلاثة سنتيمترات، ووظيفة إفراز هاتين الغدتين كما دلت كل التجارب هي تحويل النشويات إلى (ملتوز) ولها وظيفة ثانية هي المساعدة على ازدراد الطعام وتليينه وليس لها غير هاتين الوظيفتين.
أما قوله بأنها غدد صغيرة في أسفل العنق فأضنه قد أراد الـ وهذه الغدد أيضاً ليس لها تأثير كما هو ثابت على الذكاء بل تأثيرها على (الكلسيوم) الموجود بالدم ومن ثم على العظام نفسها، ولهذه الغدد وظيفة أخرى خاصة بالأعصاب، إذ لو قطعت هذه الغدد لأصبح تأثر العضلات سريعاً ولاشتدت قوة انقباضها، وليس لها غير ذلك كما ثبت بالتجارب وقد يكون لها، لكن العلم لم يقل كلمته بعد
وقد سمى حضرته الـ بغدة تفاحة آدم، وأضن أن من المستحسن إطلاق الاسم العربي المتداول وهو الغدة الدرقية فهو أسهل وأقصر
محمد رضوان بكلية الطب
بين فن التاريخ وفن الحرب
7 -
خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد.
معركة بزاخة:
يقول ابن الكلبي إن بزاخة ماء لبني أسد، ولم يوضح لنا ياقوت هذا المحل في معجمه، والذي يلوح لنا أنه في جنوبي فيد في وادي الغمير على الطريق الذي يصل فيد بالبريدة. فالأرض فيه سهلة وهي صالحة للقتال.
ولعل المعركة وقعت في نهاية أيلول (سبتمبر) أو في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) إذ مضى على حركة خالد من ذي القصة ما يقارب الخمسة عشر يوماً، وبعد أن أمن خالد جانب طيواستنجد بهم تقدم رأساً نحو بزاخة يريد طليحة.
وتقدمت أمامه قوة استطلاع بقيادة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم، وتدل الأخبار على أن المرتدين باغتوا هذه القوة وقتلوا قائديها، وكانا من فرسان المسلمين المشهورين، وكان جيش طليحة متأهباً للقتال يقود بني أسد سلمة أخو طليحة، ويقود فزارة عيينة ابن حصن ومعه سبعمائة فارس من فزارة.
ومن الروايات ما يدل على أن خالداً وقف بالغمير قبل شروعه في القتال، وإن كانت الرواية التي يرويها الطبري نقلاً عن سيف لا تذكر ذلك بوضوح، وخلاصة الرواية أن أحد المسلمين أخذ رجلاً من بني أسد فأتى به خالداً، وكان الرجل عالماً بأمر طليحة فسأله خالد عما يعلمه عن طليحة.
وموقع الغمير رابية تشرف على مياه بزاخة واسمه في الخريطة جبل الغمير ومنه ينصب وادي الغمير.
ولعل خالداً أرسل قوة الاستطلاع من هذا الموقع ليستكشف قوة العدو وموضعه وجيش
المسلمين في موضع مسيطر. ولعل عكاشة وثابتاً قتلا لما كانا يقومان بالاستطلاع فقتلتهما الطليعة التي أوفدها طليحة بقيادة أخيه سلمة فنصب كميناً لقوة الاستطلاع وباغتها، ولما اطلع المسلمون على مقتل عكاشة وثابت هالهم الأمر.
ومن الروايات ما يشير إلى أن خالداً لم يزور عن طريقه كما تقدم من ذي القصة إلى بزاخة إلا بعد ما رأى الجزع المستولي على أصحابه عند مقتل عكاشة وثابت فمال بهم إلى حي طيء وقال لهم: (هل لكم إلى أن أميل بكم إلى حي من أحياء العرب كثير عددهم كثير شوكتهم. . . الخ).
ولعل هذه الروايات ذكرت لتسويغ ازورار جيش خالد عن طريقه نحو بلاد طيء على ما أثبتناه فيما تقدم، إذ لا يعقل أن يصيب المسلمين الجزع بمجرد أن يقتل منهم فارسان، والروايات ذاتها تذكر قتل عكاشة وثابت بيد طليحة وأخيه سلمة بمعنى أن القتال وقع بالقرب من بزاخة فيكون من الصعب أن يدير خالد ظهره ويترك عدوه ويتوجه نحو بلاد طيء بينما كان أهلها مترددين.
والواضح من هذه الروايات أن خالداً قدر سير الموقف قبل مسيره من ذي القصة.
القتال
رتب خالد جيشه في خط القتال وجعل الأنصار والمهاجرين في الميسرة ورجال القبائل في الميمنة، ولعل أهل طيء كانوا في القلب مع بعض القبائل.
أما جيش طليحة فكان عيينة بن حصن مع سبعمائة فارس من فزارة في الصف الأول، وكان طليحة بن خويلد في القلب يشرف على القتال، وفي أطرافه أربعون فتى من بني أسد استماتوا في الدفاع عنه. وكانت راية بني أسد حمراء رآها المسلمون من بعيد.
وتدل الأخبار على أن القتال بدئ بهجوم الفريقين أحدهما على الآخر، فكان عيينة بن حصن يقود الفرسان، أما حبال وسلمة أخوا طليحة فكانا يقوم المجنبتين من جيش الأعداء.
ويذكر الواقدي نقلاً عن رجل من هوزان حضر قتال بزاخة أن المسلمين فازوا بالمعركة بفضل البطولة التي أبداها خالد بن الوليد.
ويقول الراوي أن ميمنة المسلمين ارتدت على أعقابها لما هاجمها الأعداء فأثر ذلك في الميسرة فانسحبت بدورها، فتدارك الأمر خالد بحملته على الأعداء وندائه يا أنصار الله!
الله! فحمس هذا النداء المتراجعين وكروا على الأعداء ملتفين حول خالد فتقاتل الفريقان بالسيوف، فترجل خالد عن ظهر جواده وحارب راجلاً، ولما رأى أصحابه أن الخطر محدق به التمسوا منه أن يترك خط القتال ويقف في الوراء ويقود الجيش إلا أنه امتنع عن ذلك. وفي رواية أخرى للكلبي أن المسلمين لما تراجعوا أتى رجل من طيء خالداً وكلفه بالاعتصام بجبلي سلمى وأجأ، إلا أن خالداً رد طلبه قائلاً إنه يعتصم بالله.
وبقي طليحة في القلب إلى قتل فتيانه جميعاً فانسحب إلى الوراء والتف بكسائه يتحين الفرص. ولما ضاقت الدنيا بعيينة بن حصن سأل طليحة هل جاء الوحي وهذا يقول له لا فيرجع يقاتل، وفي الكرة الثالثة قال طليحة لعيينة إن الوحي يقول له:(إن لك رحى كرحاه وحديثاً لا تنساه) فتأكد عيينة أن الدائرة تدور عليه، فنادى يا بني فزارة انصرفوا فهذا والله كذاب. فانصرفوا وانهزم الناس.
أما طليحة فأعد فرسه وهيأ بعيراً لامرأته فوثب على فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها، ولما سأله قومه ماذا يأمر، قال (من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل).
ووقع عيينة أسيراً بيد خالد فكبله بالحديد وأرسله مخفوراً إلى المدينة.
وكان المرتدون تركوا عيالهم خلفهم في محل أمين لكي لا يسبيهم المسلمون، لأن العرف كان يقضي في ذلك الزمان بسبي النساء واتخاذهن إماء، ولم تنته المعركة حتى عاد الكثير من بني أسد وفزارة إلى خالد وجددوا إسلامهم خشية على الذراري.
واغتنم المسلمون غنائم كثيرة في معسكر الأعداء من جمال وحمير وسلاح وغير ذلك. لم يكتف خالد بهذه الغنائم بل أوفد السرايا إلى جهات مختلفة لمطاردة المنهزمين والتقت لهم في جبل رمان في جنوب جبل سلمى وفي الأبانين على جانبي وادي الرمة وهما رابيتا أبان الأسود في شمالي الوادي وأبان الأبيض في جنوبه وأسرت كثيرين منهم وصادرت خيلهم وسلاحهم.
ولما نشب القتال بين المسلمين والمتردين في بزاخة كان بنو عامر بن صعصعة على الحدود يراقبون مجرى القتال وينتظرون العاقبة.
وبعد أن انتهى خالد من أمر بني أسد وفزارة عرج على حي طيء ومكث بين أكناف سلمى وأجأ، ولعله أراد بذلك أن يقرب من حي بني عامر وينهي أمرهم. هذه القبائل كانت في
الأرض الواقعة إلى شمال شرقي بلاد طيء بين الدهناء وجبل شمر.
فأوفد بنو عامر وغطفان وفودهم إليه وجددوا إسلامهم. يبدو أن خالداً لم يكتف بذلك بلفرض عليهم جانباً كبيراً من السلاح جزاء ترددهم كما أنه جمع سلاحاًمن بني أسد أيضاً.
وكان للسلاح شأن كبير في هذه الحروب، وكان المسلمون بحاجة إليه لجهزوا به الجيوش، وسبق أن أغنياء الصحابة في عهد الرسول كانوا يجهزون المقاتلين للغزوات.
واحتفظ خالد بهذا السلاح ووزعه بعد ذلك على رجال القبائل الذين أسرعوا إلى الانضمام إلى جيشه كما وثقوا بالنصر.
القتال في ظفر:
تدل الأخبار على أن خالداً لم يمهل الشاردين بل إنه لما علم أن أم زمل سلمى جمعتهم حولها في ظفر وشجعتهم على المقاومة توجه فوراً نحوها فقاتلها قتالاً شديداً وهي واقفة على جمل أمها أم قرفة تحمسهم على القتال، وقد اجتمع على الجمل جمع من فرسان المسلمين فعقروه وقتلوها وقتل حول جملها كما تذكر الرواية مائة رجل. وكان قيام أم زمل وتشجيعها للناس على قتال المسلمين طلباً للثأر.
المطاردة:
ورب منتقد يعتب على خالد إهماله المطاردة بعد انتصاره في بزاخة إذ كان في وسعه أن يطارد الأعداء ولا يمهلهم للمقاومة مرة أخرى، إلا أن العتاب ليس في محله، لأن القتال في البادية مع القبائل لا يشبه القتال في الحواضر، فالقبائل بعد أن تغلب تنهزم إلى جهات مختلفة بعد أن تترك حيها وتلجأ إلى الأحياء القريبة وتستنجد بها ولا تقصد هدفاً ترمي إليه. وكان خالد مضطراً إلى البقاء في بزاخة ليقبل إسلام المرتدين ويعاقب من مثل بالمسلمين منهم عملاً بوصايا أبي بكر.
وكان خالد قبل ذلك أوفد السرايا إلى أنحاء مختلفة ليقضي على المتشردين فقاتلهم في جبل رمان على حدود طيء، وقاتلهم في الأبانين على حدود بني سلم، وقاتلهم في النقرة على حدود بني تميم فكل ذلك يدل على أن خالداً استثمر نصر بزاخة ولم يمهل المنهزمين بل طاردهم بكل شدة.
يقع موقع ظفر كما يذكر ياقوت الحموي بالقرب من حوأب، وهذا على الطريق بين البصرة والمدينة. كانت عائشة قد تشاءمت من نباح كلابه لما رحلت من المدينة إلى البصرة للاشتراك في وقعة الجمل. ولعل موقع ظفر يبعد عن بزاخة مسافة مرحلتين وهو إلى شرقي كهفه. فالفلول الشاردة من بزاخة التجأت إليه، وكانت أم زمل تحرضهم على الاجتماع فيه لمقابلة خالد. فالمسافة بين بزاخة وظفر يجب أن تكون بعيدة بدرجة أنها تساعد الفلول على الاجتماع مرة أخرى للقتال.
تقدم مسير خالد نحو البطاح لقتال بني تميم
البطاح: - لا نعلم بالضبط المدة التي قضاها خالد في حي بني أسد بعد أن انتصر على طليحة في بزاخة. والمؤكد أن خالداً استثمر فوز بزاخة فقام بمطاردة فلول الجيش المنهزم، ولما سمع أن بعض الفلول اجتمع في ظفر تحت راية أم زمل تقدم بجيشه إليهم وهزمهم شر هزيمة كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.
والظاهر من ذلك أن خالداً قضى أكثر من شهر في حي بني أسد على أقل تقدير، ولما استتب له الأمر في نجد وتأكد معونة طيء ودان له بنو عامر وبنو صعصعةانتهز الفرصة ليتقدم نحو بني تميم.
وكان بنو تميم من أقوى القبائل العربية لكثرة عددها وخصب أرضها وشدة بأسها. وتنقسم هذه القبيلة إلى أربعة أقسام:
القسم الأول - الرباب وهم من شعب ضبة وعبد مناف.
القسم الثاني - عوف والأبناء ومقاعس وبطون وهم من شعب سعد بن زيد مناة.
القسم الثالث - يهدي وخضم وهم من شعب بن عمرو.
القسم الرابع - حنظلة ويربوع وهم من شعب بني مالك.
وكان الزبرقان بن بدر يترأس رباب وعوفاً والأبناء، وقيس ابن عاصم يترأس مقاعس والبطون، وصفوان بن صفوان يترأس بطن يهدي، وسيرة بن عمرو يترأس بطن خضم، ووكيع بن مالك يترأس بني حنظلة، أما مالك بن نويرة فيترأس بني يربوع وهم فرقة من بني حنظلة.
وكان بنو يربوع يسكنون أرض الحزن غربي الدهناء، أما بنو حنظلة فيسكون الدهناء
والصمان، وأرض الصمان في شرقي الدهناء، والحزن والصمان كلاهما ذو مراع خصب يضرب بها المثل.
وكان من حسن حظ المسلمين أن هذه الشعب والبطون لم تكن متصافية فيما بينها، ويظهر أن الخصومة كانت متأصلة فيها من قبل الإسلام. فصفوان وسبرة متفقان، أما قيس بن عاصم فخصم للزبرقان.
وكان الزبرقان وصفوان يميلان إلى المسلمين وينتظران المعونة منهم ليتفوقا على خصومهما. أما قيس بن عاصم فكان متردداً. وأما وكيع بن مالك ومالك بن نويرة فتظاهرا بالعداء للمسلمين، وكان العداء متأصلاً في نفوس الرؤساء لدرجة أن البطون والشعب كانت تتقاتل.
ولما ظهرت سجاح اشتد هذا العداء، وادعت سجاح النبوة في بني تغلب في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وهي ترتبط ببني يربوع برابطة القرابة، فجمعت حولها جموعاً من بني تغلب وبني نمر وبني أياد وبني شيبان، وتقدمت بهم إلى بلاد بني تميم، ويدل مجرى الوقائع على أنها ادعت النبوة قبل وفاة الرسول.
ماذا كانت تقصد سجاح بمسيرها جنوباً نحو بلاد تميم؟ هل أرادت أن تمهد السبل لتأسيس مملكة بين العراق ونجد تضم فيها قبائل بني تغلب والبعض من بطون بكر وبني تميم؟ أو أنها أرادت الهجوم على المدينة كما يروي سيف بن عمر؟ ثم هل شرعت في المسير قبل وفاة الرسول أو إن وفاته شجعتها على المسير؟ هذه أسئلة تصعب الإجابة عنها بصورة جازمة. والذي يلوح لنا أنها لم تكن تقصد لا هذا ولا ذاك، ولعلها برزت بالكهانة وأحسنت السجع فالتف حولها الناس، وأرادت أن تستغل نفوذها فسارت برجالها، وكلما مشت كثر أتباعها حتى أدى بها المسير إلى الدخول في أرض بني تميم. ومع ذلك فمن المحقق أنها بدخولها ديار بني تميم أرادت أن تستفيد من القرابة التي تربطها بهم. وهذه القرابة غير واضحة، ومن الرواة من يزعم أنها تميمية من بني يربوع وأخوالها من بني تغلب، ومنهم من يدعي أنها تغلبية وبنو يربوع أخوالها. والواضح من أخبار الرواة أنها دخلت بلاد بني تميم بعد وفاة الرسول. وكان دخولها مما زاد الشحناء بين رؤساء بني تميم فأراد كل منهم أن يستغلها لمصلحته، والغريب في أمر بني تميم أنهم لم يخضعوا لرئيس واحد أسوة
بالقبائل الأخرى، فكان لبني أسد رئيس ولبني حنيفة رئيس ولغطفان رئيس وهلم جرا.
يتبع
طه الهاشمي
في الأدب الدرامي
13 -
الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الدرامة في خلال القرون
كان لهذا النوع أوائل في أدب الإغريق واللاتين ظهرت في أشكال مختلفة وأسماء متعددة، وظلت محافظة على وجودها أثناء العصور الوسيطة وبعد عصر النهضة في ثوب الرواية الجدية الهزلية، ولكن الدرامة بمعناها الحديث لم تعرف إلا في القرن الثامن عشر حين كتب (لاشوسيه) مدرسة الأمهات، و (ديدرو) رواية الابن الطبيعي، و (سيدين) رواية الفيلسوف بغير علمه، و (بومارشيه) رواية الأم المجرمة، و (فولتير) روايتي نانين والطفل المبذر. وقد كان هؤلاء المؤلفون يقتبسون موضوعات رواياتهم من الحياة الحضرية والمعيشة المنزلية، ويملئونها بالحساسة المتصنعة والآراء الفلسفية والحكم الخلقية في لهجة تارة تكون بكائية وتارة تكون خطابية. على أن هذه الدرامة لم تلبث أن نزلت إلى مكان المأساة العامية (الميلودراما)، وهي درامة تسير بالموسيقى وتفيض بالضربات المسرحية العنيفة، والمواقف الشديدة المخيفة، والعمل الروائي المعقد، وتدين بنجاحها إلى إثارة الشعور وإهاجة الوجدان. ثم أدرك الدرامة الخمول وأخلقها الترك فامحت من المسارح حوالي سنة 1830 حتى جاء أرباب المذهب الابتداعي فنفخوا فيه من روحهم وبعثوها إلى الحياة في شكل جديد، واختاروها ميداناً للمعركة الحاسمة بينهم وبين رجال المذهب الاتباعي، فرفع هوجو لواءها وشرع منهاجها في مقدمة كرومويل سنة 1827 وجعل ميزتها الظاهرة امتزاج الجد والترفع بالهزل والمجون على نحو ما تجد في روايات شكسبير. ثم أخذ هذا المذهب الحديث يتحلل من قواعد المذهب القديم، ولا سيما قانون الوحدات الثلاث كما ترى ذلك ظاهراً في روايات الزعيم كرناني وكرمويل وماريون دلوزم وروي بلاس وبيرجراف الخ. على أن سهم الابتداعيين قد طاش، وأملهم في إصلاح المسرح قد كذب. فقد تجد في روايات هوجو درراً من الشعر الرصين، وغرراً من المقطوعات البليغة، وصوراً من المواقف التي تسترق الشعور وتملك القلب، ولكنك تجد
بجانب ذلك البناء الواهن والإحالة القبيحة والعمل المرتبك والتاريخ المشوه، فضلاً عن أنه أحل الطباق والمقابلة محل النظر والملاحظة، وملأ المسرح بالأنماط الغريبة من الناس كقاطع الطريق الشهم (هرناني)، والخادم الوزير (روي بلاس)؛ ولم يجد في طبقة السراة إلا أنماطاً ممقوتين أو مجرمين، أما الطبقة السفلى فهي عنده مستودع العواطف الكريمة والأخلاق القويمة. ثم إن الدرامة الابتداعية خلت خلو الميلودراما من دروس العواطف وتحليل الأخلاق، وتعدت حدود المنطق في سير العمل، وسترت كل ذلك بسيل من الحوادث الخارقة، والمسائل المعقدة، والمفاجآت المدهشة، وما يتخلل ذلك من المبارزة والقتل والتسميم والخطف والتعرف. لذلك لم يصطبر الناس على هذه الدرامة طويلاً فملوها وأغفلوها، وحلت محلها في المسارح والقلوب في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر الملهاة الاجتماعية، أو الملهاة الحديثة، أو الملهاة المبكية، أو الدرامة الواقعية. وهي في الحقيقة طور من أطوار الدرامة التي بدأها (ديدرو) ورفع سَمْكها اسكندر دوماس الصغير، وأميل أوجييه وفيكتوريان سادرو. تستمد من الدرامة التاريخية عناصر الجد، ومن ملهاة (اسكريب) فن التعقيد، ومن قصة بلزاك درس العادات وتحليل الأخلاق، وتدور موضوعاتها على بحث المسائل المتعلقة بالمال والأسرة، وما ينجم من صراع الطبقات، وصدام الجماعات؛ وتعني على الأخص بوصف العادات والسعي في تهذيبها وإصلاحها. وكان لاسكندر دوماس الفضل في تطبيق المذهب الواقعي على هذه الملهاة أو الدرامة بتأليفه ذات الكاميليا وهي درامة جريئة الفكرة، طريفة البحث، جديدة الشكل، أحدثت في المسرح انقلاباً خطيراً كان له أثره ونتيجته حتى اليوم. لأن المؤلف كان أول من زين المسرح بالأثاث الجديد وأظهر الأشخاص في اللباس العصري، ومثل البيئة الحاضرة في شكلها الحقيقي، فهو خلق الملهاة الحديثة كما خلق من قبلها الملهاة العلمية وهي مبنية على نظرية سماها المسرح النافع ملخصها أن الكاتب المسرحي يجب أن يبادر إلى حل المشاكل الاجتماعية على المسرح وإلا كان مضحكاً مهرجاً. يجب أن يعرض على الناس ما يشغلهم من مشاكل الأسرة، ويثقلهم من أحوال المجتمع، ثم يناقش هذه المسائل، ويحل هذه المشاكل بتغليب الخير على الشر، وإقرار الحب في النفوس مقر المال.
وظل المسرح اليوم في فرنسا جارياً على سننه المشروع في منتصف القرن التاسع عشر
في شئ من البساطة والسهولة. وأشهر الملاهي الدرامية في العهد الأخير ما كتبه الأستاذ جول لمتر إما تحليلاً للعواطف (كالثائرة) و (الغفران)، وإما زراية على ذميم العادات (كالنائب ليفو). وكذلك الأستاذ هنري لافادان عني بدارسة المجتمع الفرنسي الحديث، وعرض لما ينجم عن المنافسة بين طبقاته من المشاكل المعضلة والمسائل العويصة في رواية (أمير أُوريك). ثم المنطقي الجبار بول هرفيو فقد عالج المشاكل الاجتماعية التي تتولد من الزواج والطلاق، ونحا في بحثها منحى اسكندر دوماس الصغير في رواياته العلمية ولكنه كان أكثر منه بساطة وأشد جفاء. كتب ذلك في ملاهيه المشهورة، وهي التيه والكلبتان (الكماشة) وقانون الرجل وأعرف نفسك - وشوط القبس ولا تزال هذه الرواية إلي اليوم أبلغ روائعه وواسطة بدائعه. ثم الأستاذ (بريو) مؤلف القباء الأحمر والأستاذ فرنسوا كوريل مؤلف الدمية الجديدة، ونشوة الحكيم والأستاذ (الفريد كابو) مؤلف الحظ والطير الجريح، والأستاذ (هنري برنستين) مؤلف السارق، والسر، وشمشون. ولا نريد أن نسترسل في ذكر أسماء الكتاب المعاصرين، فأكثرهم لا يزالون يؤلفون ويرزقون. وإنما ذكرنا منهم من سبق لنقول لك أن ما ألفوه قد يطلق عليه أحياناً اسم الدرامة، وأحياناً اسم الملهاة الدرامية أو الجدية، والاسم الثاني أدق لما ذكرناه من الفرق بين النوعين.
هذا مجمل ما أتى على الدرامة من الأطوار في فرنسا. أما في أسبانيا فالمسرح قومي محض، ولد في الكنيسة وظل على صفته الأمية حتى جاء عصر النهضة، فجنح بعض الكتاب إلى بناء المسرح الأسباني على الطراز الإغريقي، ولكن ذوق الجمهور أحالهم عن ذلك القصد وصرفهم عن محاكاة المأساة الاتباعية فسخروا من قانون الوحدات الثلاث، وجمعوا في الرواية الواحدة بين الحوادث المضحكة والمواقف المفزعة، وبين سراة الطبقة العليا وصعاليك الطبقة الدنيا. ثم كانوا يعقدون العمل ويفخمون الأسلوب، حتى سرت من روحهم نفحة إلى كوريني وكان الشرف محور مآسيهم، وموضوع حوادثهم، ومكان قوانينه الصارمة منها مكان القدر من مآسي الإغريق. على هذه القواعد والصفات كتب نابغتهم الخالد لوب دي فيجا (1562 - 1635) مآسيه، وهي لا تقل عن ألفي مأساة، يدخل منها في باب الدرامة الروايات التاريخية (ككشف العالم الجديد) وروايات (سان سَكْرِ مَنْت)
كوراث السماء. وقد تميز هذا الكاتب بالخيال الخصب، والقريحة المتقدة، والتنوع البديع، والقدرة المعجزة على تصوير الأخلاق، ولا سيما أخلاق النساء. وكان همه أن يعرض الحوادث دون أن يشرح أسبابها، ويمثل الحياة الحقيقية دون أن يطرز أثوابها. ثم يليه في النبوغ والأثر (كالدرون دي لاباركا)(1600 - 1680) وقد بقي من دراماته اثنتان وسبعون درامة أشهرها (الحياة حلم) و (كرامة المولى). وأما في إنجلترا فقد ولد مسرحها في الكنيسة أثناء العصور الوسيطة كما كان الأمر في فرنسا وأسبانيا، وكذلك لم يقو تقليد الكتاب والشعراء لآداب المهمة على الحيلولة بين الدرامة الحديثة وبين الانتشار والتقدم. ففي القرن السادس عشر جاء (مارلو) فهز النفوس وحرك المشاعر بمآسيه (أدوار الثاني) و (يهودي مالطة) و (موت الدكتور فوست وحياته). ولكن شكسبير ظهر فأخفت ذكره ووضع قدره. وكان القدماء من أرباب المذهب الاتباعي يذكرون شكسبير بالسوء، ويتناولونه بالنقد حتى لقبه فولتير:(بالمتوحش السكران). أما أرباب المذهب الابتداعي فيرونه مثال الفن الروائي، ورسول الشعر التمثيلي. وقد سردنا لك فيما سبق طائفة من مآسيه في بعضها ما يشبه الدرامة، ولكن دراماته الحقيقية هي: صاع بصاع، تاجر البندقية؛ وقطعه المقتبسة من تاريخ إنجلترا، كالملك حنا، وريشارد الثاني، وهنري الرابع، وهنري الخامس، وريشارد الثالث، ودرامات شكسبيرعلى الجملة ضعيفة البناء، بعيدة الأمكان، متكلفة الأسلوب. وقد أراد أن يمثل فيها مناحي الإنسانية كلها، فجمع بين العظيم الرفيع والعامي الخليع والمضحك الماجن، وجعل العواطف الرقيقة الوادعة بجانب الأهواء العنيفة الفاجعة، ولم يقنع بتمثيل الحوادث مجردة، بل حرص على أن يصور الأهواء والعواطف التي صدرت عنها وتولدت منها.
وأما في ألمانيا فليسنج (1729 - 1781) هو خالق مسرحها القومي: وقف بين مواطنيه وبين المأساة القديمة، فحال بينهم وبين تقليدها، ودعا الناس قبل الابتداعيين إلى الأخذ عن شكسبير، والى وضع الأساس لبناء المأساة العصرية. وأشهر مآسيه (منا دبر نهلم) و (ناتان الحكيم) و (أمليا جالوثي). أما جيته فقد جمع بين الذهن القديم والعبقرية الحديثة، وقد ظهر ذلك جلياً في دراماته، وأشهرها (جوتْر دِيرْ ليشِنْجِنْ) و (تركاتو تاسو) و (إِجْمُنْت) و (فوست). فأما (جوتر) فهي صورة قوية - وإن تكن غير جلية - لألمانيا في أواخر
العصور الوسيطة. وموضوعها أن السيد جوتر لا يعترف لأحد بالسلطان غير الإمبراطور، فهو يشعل الثورة في رؤوس الفلاحين، ويقودهم لمحاربة النبلاء والكهنة، ثم ينتهي أمره بالأسر والسجن في قاع مظلم بقية حياته. وأما درامته فوست فهي مجده وخلوده تجدها غامضة في جملتها ولكنها رائعة في تفصيلها. موضوعها أن الدكتور فوست تبرمه الحياة ويعنته الوجود ويكربه فراغ نفسه فيتعاطى السحر، ولكن اليأس يحتوشه فيدفع به إلى الانتحار. وبينما هو متردد بين الحياة والموت إذ يفجأه قرع الأجراس المؤذنة بدنو عيد الفصح فيذكره بقيامة المسيح ويأفكه عن عزمه المشئوم، إلا أن الشك يعاوده، فيدفعه إلى محالفة الشيطان فيبيعه نفسه على أن يمتعه بزهرة الحياة ونعيم الدنيا. فيؤتيه الشيطان من كل شئ إلا السعادة، فيشرف على الموت، إلا أن ماري تدركه فتنجيه.
وعلى طريقة جوت كتب صديقه شيلر دراماته الرائعة كدرامة اللصوص، ودون كارلوس، ووليام تل. وأنبه الكتاب الروائيين في ألمانيا اليوم هو (جيرار هوبتمان).
ومن فحول الدرامة في العصر الحديث الكاتب النرويجي (جوهان إِبْسِنْ)(1828 - 1906) وكان ينزع في مآسيه الدرامية نزعة فلسفية اجتماعية، فهي من الدرامات العلمية أو الرمزية، وقد سما فيها بقوة الفرد وهمته إلى أبعد غاية وأرفع منزلة حتى لو ناقض ذلك الدين والتقاليد. أشهر دراماته بيت العروس والأرواح والكنار الوحشي.
يتبع
(الزيات)
من مشكلات الحياة
قصة فتاة
تلقينا هذه الكلمات من فتاة سورية فلخصناها وعرضناها على القراء كما شاءت. وسننشر في موضوعها ما نراه أحجى بالنشر وأدنى إلى الغرض.
كثيرات هن اللواتي يغبطنني على حياتي، ويتمنين لو أتاح لهن الحظ حياة مثلها. يرون في كما يرى بقية الناس شابة جميلة، أربح من وراء مهنتي مبلغاً يدني حياتي من الرفاهية، وماذا أبتغي من الحياة بعد؟. . .
ولكن آه! لشد ما أعاني من الألم في إخفاء حقيقة نفسي، وظهوري أمام الناس بهذا الوجه الباسم، والعينين الممتلئتين نشاطاً واغتباطاً وبهجة. حقاً إن أشقى الناس ذلك الذي ينزل إلى قرارة نفسه، وهناك في أعماقها يدفن ما يعاني من ألم ممض وشقاء ملازم - وهكذا الأيام تمر، والسنون تكر، وآلامي مدفونة لا أستطيع الجهر بها حتى لأقرب الناس إليّ، لأنهم هم مسببوها ومصعبوها من حيث يشعرون أو لا يشعرون. . .
ولدت في أحضان الترف والنعيم، وربيت في حجر الدلال والرفاهية، محاطة بالحب، مغمورة بالإعزاز، ولكن ما كدت أتجاوز العاشرة من العمر حتى أصيب والدي بنكبة مالية زعزعت كياننا وقلبت كل شئ رأساً على عقب. كنت صغيرة حينذاك، ومن كانت في هذه السن لا تهتم إلا بالمرح واللعب، ولكن الأمر كان معي على النقيض، بدأت أشعر بفداحة المصاب وأتألم بقلبي الصغير ألماً هادئاً ساكناً، ولما كنت بكر والديّ، وكنت محور أمال أبي لما يرى من جدي واجتهادي في المدرسة، كان يؤثرني بعطفه ويخصني بمحبته. كان لا يرى بداً من تعليمي والإنفاق علي. وفي الرابعة عشر من عمري أرسلني إلى مدرسة ليلية أجنبية بعد أن نلت الشهادة الابتدائية بتفوق عظيم، ولقد مضى على هذه الحادثة ما مضى وأنا أتصورها بنت الساعة. وأودعني ذلك الوالد الحنون المدرسة، وأوصى بي الرئيسة والأخوات خيراً. وبعد ثلاثة أيام زارني قبل سفره ليستفهم عما إذا كنت في حاجة إلى شئ؟ وأعلمني بعزمه على السفر، وزودني بنصائحه الغالية، فاغرورقت عيناي بالدموع، وتكلفت الابتسام لأخفي ألمي لهذا الفراق الذي كان أول عهدي به، فضمني إلى صدره وغمر رأسي بقبلاته ثم بكى، وكأنه أبصر بعيني بصيرته ما ينتظرني من ألم
وشقاء.
قضيت حياة المدرسة، وبدأت حياة العمل لأرفه عن هذا الوالد الحنون بعض ما يعانيه في إعالة أمي وأخواتي، مغتبطة في قرارة نفسي بأنني أستطيع أن أكافئه بعض المكافأة. ولكن جمالي وثقافتي وسيرتي الحسنة بين أترابي كانت تستثير الناس لطلب يدي؛ وما من شاب من الطبقة الراقية في تعليمها أو في ثروتها إلا تمنى أن أكون له، ولكن كان الجواب دائماً سلباً، ولما كان قلبي لم يتفتح لحب بعد، كنت لا أعير هذه المسائل شيئاً من الاهتمام، وكنت أعتقد أن كل فتاة تقدم على الزواج مجنونة ولا أريد أكونها.
قاوم أبي تلك النكبات التي كانت تهاجمه بصبر وثبات، ولكنها أخيراً خرجت عن طوقه فأصيب بالشلل، وهاهو الآن ليس بالميت فينسى ولا بالحي فيرجى. وخلف لي أعباء ثقالاً لا قبل لمن كانت في سني باحتمالها، وشعرت بخطورة المسئولية الملقاة على عاتقي، فكنت أقضي نهاري في العمل على الآلة الكاتبة وأعود في المساء باشة هاشة ضناً بوالدتي عن أن أحملها هماً فوق هم، وبأخواتي اللواتي ينتظرن من عودتي الملاطفة والحلوى عن أن أخيب أملهن. المستقبل قاتم لا ألمح فيه قبساً من أمل، والغد مجهول لا أعلم ماذا يحمل بين طياته، ولا أدري ماذا يكون المصير.
طالِبو الزواج يريدونني بإلحاح، وأمي ترفض بدعوى أن ليس بينهم من يستحق يدي، فكل شاب لا يخلو من عيب، وهي تريد ملاكاً لملاكها، إذاً فلننتظر ولننتظر، ولكن الانتظار طال. وفهمت، ولكن في وقت متأخر أنها محاولات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. فشقيقاتي الصغيرات تزوجن، ووالدتي لم تبد في أمرهن تلك الملاحظات التي عودتنيها، واثنتان منهن أصبحا أُمَّين، وأنا أنظر بعيني والألم يصهر نفسي والأباء يعقد لساني عن الإفصاح بما يخالجني. هي تريد إبقائي عذراء أشتغل وأشتغل حتى الموت لأعولها مع بقية أطفالها. ولو أنها أفصحت لي عن غايتها لكتبت لها صكاً على نفسي أنني سأظل أشتغل إلى أن يكبر أطفالها!! هي تحبني، لا أشك في ذلك، ولكن هذا لأنني أبذل في إسعادهم قلبي ومستقبلي وسعادتي!!
لقد ضقت ذرعاً بهذه الحياة ولم يبق في قوس الصبر منزع، خلقت أنثى وحرمت ما ينعم به مثيلاتي ويسعدن، واشتغلت كالذكور وحرمت الحرية التي يتمتع بها الذكور!!
لذلك عولت عليّ أن أطرح هذه الصفحة الموجزة أمام قراء (الرسالة) وقارئاتها علني أجد بينهم من يرشدني برأي ينقذني من هذه الحيرة.
(. . .)
من تراثنا العلمي
فضائل مصر لابن زولاق
وصف وتلخيص لنسخة مخطوطة
للأستاذ علي الطنطاوي
قال مؤرخ مصر الأستاذ عنان في كتابه مصر الإسلامية إن لابن زولاق كتاباً يسمى فضائل مصر، وقد يسمى أخبار مصر، وإن بعض المؤرخين نقلوا عنه وقد رأيت نسخة من هذا الكتاب في المكتبة العربية العامرة في دمشق أطلعني عليها صديقي الأديب الأستاذ أحمد عبيد وهاك وصفها:
مخطوط يقع في (63) من القطع المتوسط، في كل صفحة (25) سطراً، وهو مكتوب بخط قريب من النسخ، وليس فيه ما يدل على تاريخ نسخه، وإنما يوجد في آخره هذه العبارة:
(طالعت هذا الكتاب المسمى بفضايل مصر وصفاتها للشيخ ابن ذولاق الليثي رحمة الله عليه وعلى كاتب هذه الحروف ومالك هذا الكتاب الحاج إبراهيم الشكوري الطرابلسي والمسلمين. تحريراً بأواخر شهر ذي الحجة في سنة 1115 ألف ومائة وخمسة عشر)
أما صفحة العنوان ففيها اسم الكتاب:
(كتاب فضايل مصر وصفاتها لابن ذولاق الليثي رحمه الله آمين) وفيها أسماء الذين ملكوا الكتاب، بعضها ظاهر، وبعضها غير ظاهر، وهي مكتوبة متباينة:
السيد هاشم باكييكج.
الحمد الله. ملكه أفقر الورى أحمد الرشيدي الشافعي الأزهري.
فقير عفو ربه الغني عمر العمري.
الفقير محمد العمري سنة 209.
الفقير محمد سعدي العمري.
وجاء في أول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين على القوم الكافرين. الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
1 -
قال أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن ابن علي بن خالد - راشد بن
عبيد الله سليمان بن ذولاق الليثي:
هذا كتاب جمعت فيه من جملة من أخبار مصر وفضايلها وصفتها، اختصرته من كتابي الكبير في (تاريخ مصر وأخبارها) ولم أذكر في هذا الكتاب إسناد الخبر ليقرب على من أراده، وبالله التوفيق.
فأول ما أبتدئ من ذلك، أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، ذكر مصر في ثمانية وعشرين وصفاً في القرآن (وعدد الآيات التي فيها ذكر مصر، أو فيها إيماء إليها، وذكر ما قاله العلماء فيها)
2 -
باب ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً. (وسرد كثيراً من الأحاديث التي تدل على فضل مصر وأهلها، ولكنه أوردها مجردة من الأسانيد، ولم يذكر درجتها ومخرجيها).
3 -
ذكر دعاء الأنبياء عليهم السلام لمصر.
4 -
ذكر وصايا العلماء لمصر ودعاؤهم لها:
قال سعيد بن أبي هلال: اسم مصر في الكتب السالفة أم البلاد. وقال عبد الله بن عمرو: أهل مصر أكرم الأعاجم، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رحماً بالعرب عامة، وبقريش خاصة (وذكر مثل ذلك عن آخرين).
5 -
ذكر من ولد بمصر من الأنبياء، ومن كان بها منهم.
6 -
من كان فيها من الصديقين والصديقات:
(ذكر مؤمن آل فرعون وآسية امرأة فرعون، وأم إسحاق ومريم ابنة عمران، وماشطة بنت فرعون، وأن إبراهيم تسري بهاجر أم إسماعيل، وتزوج يوسف بنت صاحب عين شمس. وذكر مارية القبطية الخ. . . .)
7 -
وأن مصر بلد الحكمة والعلم ومنها خرج الحكماء الذين عمروا الدنيا بكلامهم وحكمتهم وتدبيرهم، فمنهم ذو القرنين وهو الإسكندر (وذكر القرية التي هو منها وذكره في القرآن وأنه به سميت الإسكندرية، وأنه بنى إسكندرية أخرى ببلاد الخزر وثالثة ببلاد الروم الخ. .) ومن مصر جماعة الحكماء، هرمس وهو المثلث بالنعمة، نبي وحكيم وملك (وعد فيمن
خرج منها طائفة كبيرة من الفلاسفة والحكماء ثم قال) فهؤلاء حكماء الأرض وعلماؤها الذين ورثوا الحكم، من مصر خرجوا، وبها ولدوا الخ، وكانت مصر يسير إليها في الزمن الأول طلبة العلم الخ. وبمصر من العلوم التي عمرت بها الدنيا علم الطب اليوناني الخ. .
8 -
ذكر من ملك مصر من الطوفان إلى أن فتحت بالإسلام:
ملك مصر ثلاثة وخمسون ملكاً، أولهم مصر بن نيصر بن حام بن نوح. وآخرهم هرقل الرومي وكسرى الفارسي، منهم أربعة وثلاثون فرعوناً، ممن طغى وتكبر وادعى الآلهية، ومنهم من عمر أربعمائة سنة وأقل وأكثر، ولم يكن أعتى ولا أشد من فرعون موسى، ولم يكن من أولاد الملوك، وإنما أخذ مصر بحيلة (وذكر هذه الحيلة، ثم جاء بأخبار طويلة عنه وعن بختنصر، ولم يسم إلا قليلاً من سائر الفراعين).
9 -
ذكر من ملك مصر في الإسلام من الولاة منذ فتحها عمرو بن العاص في سنة عشرين من الهجرة إلى سلخ شعبان سنة اثنين وستين وثلاثمائة (واثني عشر).
أولهم عمرو بن العاص وآخرهم جوهر، منهم أربعة عشر من بني هاشم، وعشرة من قريش، واثنان من الأنصار، وسبعة وثلاثون من سائر العرب، واثنان وأربعون من الموالي، إلى أن دخلها المعز لدين الله أبو تميم - بن إسماعيل المنصور بن محمد القائم ابن عبد المهدي، وصارت مصر دار خلافة بعد أن كانت دار إمارة، وقد عملت في ذلك كتاباً.
10 -
ذكر من دخل مصر من الخلفاء قبل المعز (عد فيمن دخل منهم ابن الزبير في الجيش الذي فتح المغرب أيام عثمان، ومعاوية بلغ إلى عين شمس ولم يدخلها، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك وعمر بن عبد العزيز الخ. . .).
11 -
ذكر علماء الخراج بمصر، وذكر قضاتها:
ولي بمصر من عمال الخراج منذ فتحها المسلمون إلى سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة، واحد وعشرون، منهم من جمع لهم الحرب والخراج، ومنهم من انفرد بالخراج (وعدّ طائفة منهم ثم قال:) وقد شرحت ذكرهم في التاريخ.
وأما قضاتها منذ فتحها إلى سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة فهم واحد وستون قاضياً، أولهم قيس بن أبي العاص وآخرهم علي بن النعمان، فمنهم من أقام خمساً وعشرين سنة مثل بكار بن قتيبة، ومنهم من بلغ عشرين سنة أو أقل من ذلك، وأقل من وليها يحيى بن أكثم،
ولي ثلاثة أيام والمأمون بمصر، ثم صرفه وسيره معه إلى الثغر.
12 -
ذكر من دخل مصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن توفي بها منهم.
13 -
ذكر من كان بمصر من عيون العلماء والرواة وطبقاتهم: يزيد بن أبي حبيب، وعمر بن الحارث، والليث ابن سعد والمفضل بن فضالة، وعبد الله بن وهب، وأشهب بن عبد العزيز الخ. . . وسكن بمصر محمد بن إدريس الشافعي الخ. . وكان بمصر جماعة بعد هؤلاء: أيوب بن سليمان الفارضي، ويوسف بن يحيى البويطي، وأحمد بن صالح، وإسماعيل بن يحيى الُمزَني الخ. . . وكل هؤلاء مُفْتٍ، ومنهم من يفتي في علوم، وقد سارت مؤلفاتهم.
وكان بمصر من المحدثين المسندين: حرملة بن يحيى وعيسى بن حماد ويونس بن عبد الأعلى الخ. . والحسن بن علي بن زولاق جد أبي، وجماعة سوى هؤلاء. . وكان بعد هؤلاء جماعة منهم محمد ابن زمان وإسماعيل بن داود الخ. . .
وكان بمصر من الفراض المؤلفين: أيوب بن سليمان والحسن ابن محمد الخ. . وكان بمصر من عيون حفاظ الحديث محمد بن أحمد بن عبد الحميد الخ. .
وكان بمصر من رواة الحديث والأخبار والفقه: سعيد بن عفير وسعيد بن أبي مريم الخ. . وبعد هؤلاء الحسن بن علي بن زولاق جد أبي، ويحيى بن عثمان الخ. . وبعد هؤلاء علي بن حسن بن قديد الخ. .
وكان بمصر من عيون النحويين عبد الملك بن هشام، ومحمود النحوي الخ. . .
وكان بمصر من عيون الشعراء الخ. . ونصيب وجميل وبها توفي. والأخوص وابن قيس الرقيات وأبو نؤاس الخ. . وجعفر ابن حدار ويوسف بن المغيرة والحسن بن عبد السلام وإسماعيل ابن أبي هاشم ومحمد بن الحسن الخ. .
وكان بمصر من المتكلمين حفص المقري وإسماعيل بن يحيى الخ.
وكان بمصر من النساب هانئ بن المنذر ومحمد بن أحمد الحداد الخ.
وكان بها من الزهاد وأصحاب الوعاظ سليمان بن. . . (وعد جماعة).
14 -
ذكر عيون أشراف مصر ومن دخلها من آل أبي طالب وأول من دخل منهم:
قال: كانت مصر دار تشيع منذ أيام محمد بن أبي بكر، وهرب من مصر جماعة من شيعته - عند دخول مروان بن الحكم إليها وما صنعه بأصحاب مسجد الأقدام - وكان أهل مصر لا يؤولون في فتاويهم إلا بما يرد جواب جعفر الصادق رضي الله عنه.
وسافر إلى مصر جماعة من العلوية، وكان أول علوي دخل مصر علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ودخل يدعو إلى بيعة أبيه وعمه، فسعى به إلى حميد بن قحطبة أمير مصر، فراسله سراً إشفاقاً عليه الخ. . وتوفي علي بن محمد بريف مصر الخ. . ثم دخلها إسحاق بن جعفر بن محمد الخ. . ومعه زوجته نفيسة بنت زيد وتوفيت بمصر فأراد حملها إلى المدينة فسأله أهل مصر دفنها بمصر، واتخذوا قبرها مشهداً وهو باق إلى اليوم معروف. ثم دخلها محمد بن جعفر الخ. . وكلثوم صاحبة القبر المشهور ابنته (وذكر سائر من دخلها منهم وأخبارهم ووفاتهم في فصل طويل).
15 -
ذكر من حدّث بمصر من ولد أبي طالب (عدّ أسماء جماعة منهم ثم قال) ولو شرعت في شرحهم لخرج الكتاب عن فنه.
16 -
ذكر من عدّل بمصر من العلويين وقبل القضاة شهادتهم.
17 -
ذكر من كان بمصر من وجوه العباسيين.
18 -
ذكر التشيع بمصر والبيوتات المتشيعة:
قال يزيد بن أبي حبيب فقيه مصر: أقلبت أهل مصر عن التشيع إلا جماعة: يعني بيت بني لهيعة وبني نباته، وكان أهل مصر يكتبون بمسائلهم إلى جعفر الصادق رضي الله عنه ولا يعدلون عن فتياه، ولما قدم عليهم إسحاق بن جعفر حفوا به كالكعبة، ولما توفيت زوجته نفيسة الخ. .
وأما البيوتات المعروفة بمصر بالتشيع المكشوف قديماً فمنها: عبيد الله بن لهيعة وعباس بن لهيعة، وكان الليث بن سعد فقيه مصر لما أحرقت دار عبيد الله بن لهيعة أرسل إليه الليث بألف دينار وقال استعن بهذه واعفنا من فضائل علي بن أبي طالب، فأخذها عبيد الله وأنفذ إليه حديثاً من فضائل علي ليغيظ به الليث!.
ومنها بيت الحَسَنِ بن علي بن زولاق جد أبي. بيت علم ونسك وفقه ورواية، وإنما احتمل له التشيع له لفقهه وإتقانه وتفقهه في الرواية، وكان مقبول الشهادة منذ سنة عشرين
ومائتين إلى أن توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وكان عليه قولاً لا يملي حديثاً أو يبتدئ بفضائل علي رضي الله عنه.
وكان بعده ابنه الحسين جدي، وابن ابنه إبراهيم والدي رحمه الله. ومنهم. . (وعد طائفة منهم).
19 -
ذكر من كان بمصر من عيون الفرسان.
20 -
ومصر فرضة الدنيا. . وكذلك ساحلها بالقلزم ينقل إلى الحرمين والى جدة والى عمان والى الهند والى الصين وصنعاء وعدن والسند وجزائر البحر.
ومن جهة دمياط والغرما، فرضة بلد الروم وأقاصي الإفرنجة وقبرص وسائر سواحل الشام إلى حدود العراق.
ومن جهة الإسكندرية فرضة أقربطش وصقلية وبلد الروم والمغرب وبلد البربر والحبشة والحجاز واليمن.
وأما ما فيها من ثغور الرباط، فمن ذلك رباط البرلس ورباط رشيد ورباط الإسكندرية ورباط ذات الحمام الخ. . وما ينضاف إلى هذه الثغور وجهاتها الخ.
وكانت برقة وطرابلس من ثغور مصر إلى أن خرجت منها في سنة ثلاثمائة فأضيفت إلى رباط المغرب.
21 -
وأما المساجد الشريفة (فعد منها كثيراً ثم قال) وبمصر مساجد الصحابة سوى ما ذكرناه. . . عدتها مائتين ثلاثة وثمانين مسجداً (؟) كانوا يبنونها بالآجر الأحمر ويبنون منازلهم باللبن وأكثرها باق إلى اليوم. منها. . (وعد طائفة منها، ثم قال) هذه مساجد الخطط التي بناها أصحاب رسول الله (ص) سوى ما حدث بعدهم وبعد استقرار الخطط الخ. . وبالقرافة ونواحيها مساجد منها: مسجد الإجابة، ومسجد الكرب، وبها دار الأبرار.
22 -
وبمصر من البقاع الشريفة:
(عد ما شاء ثم قال:) ولولا أني اشترطت الاختصاروأن أذكر عيون كل من الأخبار لأطلت كتابي هذا.
للبحث بقية
علي الطنطاوي
من الأدب الأندلسي:
3 -
التوابع والزوابع
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
رأينا في المقال السابق كيف راح ابن شهيد يتهكم بالأدباء الذين غمطوه فضله حقداً عليه، وحطوا من قدره حسداً له، وقد أبدى ابن شهيد - وهو بسبيل الكلام على أدب هؤلاء الأدباء - كثيراً من الآراء في النقد والبيان هي أهم وأقوى ما اشتملت عليه التوابع والزوابع، بل هي أهم وأقوى ما لابن شهيد من الآثار الأدبية، حتى من شعره على عذوبته، ومن نثره على ملاحته، فنحن بلا خلاف لا نعتقده الناقد الأول بين النقاد الأقدمين في الأدب العربي، ولكنا بلا خلاف لا نعتبره الشاعر الأول، ولا الكاتب الأول. ولما كانت هذه الآراء قد جاءت متناثرة في الرسالة، رأينا من الخير أن نجمع شتاتها وأن ننظمها في سمط واحد، حتى نتبين منها مذهب الرجل في النقد واضحاً جلياً. وإذا كانت هذه الآراء شابها شئ من حقد ابن شهيد وضغنه على معاصريه، إلا أنها آراء صحيحة ثابتة، تزداد على طول الزمن صحة وثبوتاً. وهذه الآراء في مجموعها تنقسم إلى شقين، شق يرجع إلى شخصية الأديب، وآخر يختص بالآثار الأدبية، وإنما نعنى بشخصية الأديب مواهبه العقلية واستعداده الفطري، وسعة معارفه، وهذه ناحية قد أبدع في بحثها ابن شهيد أيما إبداع، وله فيها آراء قوية لن يسبقه إليها ناقد فيما نعلم؛ فقد حاول أن يستخدم العلم والفلسفة في دراسة الشخصيات وتفهم الملكات الأدبية في الشخص، ومقدار استعداده وطبعه، والطبع - عند ابن شهيد - هو أهم ركن في شخصية الأديب، بل هو المرجع الذي يرجع إليه سر البلاغة. فمن كلامه:(إن البيان هبة إلهية لا علاقة لها بالنحو والصرف، واللغة والغريب، وإن الاختلافإلى الأساتيذ، والتوفر على الدرس والبحث في بطون الكتب، كل هذا لا يجدي ولا ينفع إذا لم تكن ثمة فطرة سمحة، ونفس مجلوة وطبيعة مواتية. وقد روي في ذلك أنه التقى في وادي الجن بشيطان أنف الناقة (وهو على علاته زي علم، وزنبيل فهم، وكنف رواية) فأراد ابن شهيد أن يناوشه في اللغة والنحو، وطلب منه أن يطارحه كتاب الخليل وشرح ابن درستويه، فقال الشيطان: أنا أبو البيان، وقد علمنيه المؤدبون، قال ابن شهيد (ليس هو من شأنهم، وإنما هو من تعليم الله حيث يقول: الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان
علمه البيان) وإنما أنت كمغن وسط، لا يحسن فيطرب، ولا يسئ فيلحى، وليس من شعر يفسر، ولا أرض تكسر، حتى يكون نفسك من نفسك، وقليبك من قلبك، وحتى نتناول الوضيع فترفعه، والرفيع فتضعه، والقبيح فتحسنه).
وقد بحث ابن شهيد في مقدار الطبع وتركيبه في النفوس، وأثره في صور الكلام وتفويق المعاني، وذهب في البحث مذهباً فلسفياً فقال:(مقدار طبع الإنسان إنما يكون على مقدار تركيب نفسه مع جسمه، فمن كانت نفسه مستولية على جسمه من أصل تركيبه، كان مطبوعاً روحانياً يطلع صور الكلام والمعاني في أجمل هيآتها، وأروق لباساتها، ومن كان جسمه مستولياً على نفسه من أصل تركيبه، كان ما يطلع من الصور ناقصاً عن الدرجة الأولى في التمام والكمال) ومن رأي ابن شهيد أن للأعضاء الظاهرة تأثيراً على الملكات الباطنة، فتجده يقول في جماعة من أدباء قرطبة (إنهم يدركون بالطبيعة، ويقصرون بالآلة، وتقصيرهم بالآلة هو من طريق العلل الداخلة من فساد الآلة القابلة الروحانية والخادمة لآلات الفهم، والباعثة لرقيق الدم في الشريان إلى القلب، وزيادة غلظ أعصاب الدماغ ونقصانها عن المقدار الطبيعي ما يعين على ذلك بالحس وطريق الفراسة من فساد الآلات الظاهرة كفرطحة الرأس وتسفيطه، ونتوء القمحدوة، والتواء الشدق، وخزر العين، وغلظ الأنف، وانزواء الأرنبة).
وهذا المذهب قريب الشبه من مذهب النقاد الفرنسيين في القرن التاسع عشر الذين استخدموا القوانين العلمية في النقد الأدبي ودراسة الشخصيات، وهو أشد قرباً من مذهب الناقد المشهور (سانت بوف). فقد كان هذا الباحث يعمل على تطبيق علم التشريح، وعلمي - الفسيولوجيا والبسكولوجيا - على تراجم الشعراء والكتاب، وكان يتعمق في بحث النفسيات، ويهتم بالعرض كما يهتم بالجوهر، ويبحث عن شكل صاحب الترجمة الظاهرة، من الطول أو القصر، والنحول أو البدانة، والقبح أو الجمال، ليستطيع أن يدرك مقدار استعداده ومواهبه، وما عنده من صفاء الروح وقوة الطبع. ولكن ابن شهيد كما ترى له فضل السبق إلى تقرير هذه الآراء، ولقد أصاب ابن شهيد في كل ما قرره، ووفق في شرحه وتعليله، فلا جرم أن الطبع هو سر البلاغة، ومبعث الصفاء وحسن الرونق في صور الكلام، وأن علوم اللغة والنحو والتصريف لا تجدي مع القلوب الغليظة، ولا تخدم
في الفطن الحمثة، وإنما يسمو الكلام ويرتفع بقدر سمو طبع قائله، وشرف نفسه وصفاء روحه؛ وليس معنى هذا أن ابن شهيد يطلق الكلام في الحط من قيمة علوم اللغة والغريب، أو ينكر فائدتها في تكوين شخصية الأديب، بل إنه يقر بفضلها ويعترف بفائدتها كعامل مساعد على نمو الطبع وتقوية الروح، إلا أنه يرى أن استعمال الغريب واستخدام النحو مما يحتاج إلى الدقة والبراعة، فليس من الفصاحة أن تخرج العبارة في أي وضع نحوي، أو تجري غريب اللغة على أي وجه كان، ولكن الفصاحة أن تختار أملح النحو وأفصح الغريب، بمعنى أن تكون العبارة على الوضع النحوي الذي يتفق والمعنى البياني، وبمعنى أن تكون الكلمات الغريبة في وضعها اللائق، ومكانها المناسب، فإن بين الألفاظ قرابة يجب أن تراعى في الوضع. وقد جلا ابن شهيد هذه النظرية الدقيقة في حكاية رواها عما كان يقع بينه وبين تلاميذه فقال: (جلس إلي يوماً يوسف الإسرائيلي، وكان أفهم تلميذ مر بي وأنا أوصي رجلاً عزيزاً علي من أهل قرطبة، وأقول له إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاوز النسيبُ النسيبَ، ومازج القريبُ القريب، طابت الألفة، وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك حسنت المناظر، وطابت المخابر. أفهمت. قال: إي والله، قلت وللعربية إذا طلبت، وللفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر. أفهمت؟ قال: نعم، قلت وكما تختار مليح النحو وفصيح الغريب وتهرب من قبيحه، قال: أجل، قلت: أتفهم شيئاً من عيون كلام القائل:
لعمرك أني يوم بانوا فلم أمت
…
خفاتاً على آثارهم لصبور
غداة التقينا إذ رميت بنظرة
…
ونحن على متن الطريق نسير
ففاضت دموع العين حتى كأنها
…
لناظرها غصن يراح مطير
فقال: إي والله، وقعت (خفاتاً) موقعاً لذيذاً، ووضعت (رميت) و (متن الطريق) موضعاً مليحاً، وسرى (غصن يراح مطير) مسرى لطيفاً، فقلت له أرجو أنك تنسمت شيئاً من نسيم الفهم، فأغد علي بشيء تصنعه. وكان ذلك اليهودي ساكتاً يعي ما أقول، فغدا ذلك القرطبي فأنشدني:
حلفت برب مكة والجبال
…
لقد وزنت لروسي الحبال
في أبيات تشبهه، وجاء اليهودي فأنشدني:
أيمم ركبانهم منعجا
…
وقد ضمنوا قلبك الهودجا
واستمر إلى آخر القصيدة فأتى بكل حسن. فقال لي ذلك القرطبي شعر اليهودي أحسن من شعري، قلت: ولا بأس بفهمك إذا عرفت هذا، ولم يزل يتدرب باختلافه إلى حتى ندى تربه، وطلع عشبه، ثم تفتح زهره، وضاع عبقه. .).
والظاهر أن مسألة استعمال الغريب واختيار الألفاظ كانت من المسائل التي شغلت أذهان النقاد في عصر ابن شهيد وقبله، فقد عالج هذه الناحية أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين، وكان من رأيه (أن تخيّر الألفاظ، وإبدال بعضها من بعض من أحسن نعوت الكلام وأزين صفاته، فإن أمكن مع ذلك منظوماً من حروف سهلة المخارج كان أحسن له، وأدعى للقلوب إليه. . . فينبغي أن تجعل كلامك مشتبهاً أوله بآخره، ومطابقاً هاديه لعجزه، ولا تتخالف أطرافه، ولا تتنافر أطراره، فتكون الكلمة منه موضوعة مع أختها، ومقرونة بلفقها، فإن تنافر الألفاظ من أكبر عيوب الكلام) والظاهر أن العسكري قد تابع غيره في هذا الكلام، فقد روي عن أبي أحمد. . أنه قال:(كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب، نختلف إلى مدرك نتعلم منه الشعر. . فقال لنا إذا وضعتم الكلمة بلفقها كنتم شعراء) وقد يطول بنا القول، لو أخذنا نتقصى أقوال النقاد في هذه الناحية، وإنما آثرنا كلام العسكري لأنه في مجموعه قريب الشبه بكلام ابن شهيد، فقد قال بتآخي الكلمات، وتخير الألفاظ، ومراعاة الحروف، وهذا هو معنى قول ابن شهيد:(إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيبُ النسيبَ، ومازج القريب القريب، طابت الألفة، وحسنت الصحبة) إلا أن كلام ابن شهيد أدق وأعم، كما إنه يمتاز بالقول في اختبار الوضع النحوي للكلام مما سمها ملاحة النحو، وهذا ما لا يسبقه إليه أحد من النقاد، فحبذا لو درج الأدباء في أساليبهم من هذه الجهة على النهج الذي أوضحه ابن شهيد فإنهم يخدمون أساليبهم، ويخدمون لغتهم بإحياء كلمات اللغة المهجورة التي تصلح للاستعمال والتداول.
بقيت ناحية في كلام ابن شهيد السابق، وهي قوله بتأثير الأعضاء الظاهرة على الملكات الباطنة، فهذا كلام صادق إلى حد، بمعنى أنه لا يطرد في كل الشخصيات، فليس من الإنصاف أن نتخذه مقياساً للنبوغ، أو قاعدة نبني عليها الحكم على الآثار الأدبية، وليس أدل على هذا من إخفاق ابن شهيد نفسه حينما أراد أن يسوق الشواهد لإثبات هذا الرأي،
فقد اضطر أن يفضل سهل بن هرون على الجاحظ، واستباح لنفسه أن يرمي الجاحظ بالغفلة وسقوط الهمة، والنقص في أدوات الكتابة، ثم راح يشرح ويدلل على هذا النقص فقال:(وربما أنكر قولنا في شرط جميع أدوات الكتابة، فقيل: وأي أداة نقصت الجاحظ؟ فنقول: أول أدوات الكتابة العقل، ولا يكون كاتب غير عاقل، وقد نجد عالماً غير عاقل وجدلياً غير حصيف، وفقيهاً غير حليم، وقد وجدنا من ينسب العقل إلى سهل أكثر ممن ينسبه إلى الجاحظ. . . ولو شاهد الجاحظ سهلاً يخادع الرشيد ملكاً ويدبر له حرباً، ويعاني له إطفاء جمرة فتنة، ناهضاً في ذلك كله بعقله وتجربة علمه، لرأى أن تلك السياسة غير تسطير المقال، في صفة غراميل البغال، وغير الكلام في الجرذان، وبنات وردان، ولعلم أن بين المعلم والكاتب فرقاً).
وهذا كلام قد تعثر ابن شهيد في إيراده، فلا تجده ينهض من جهة إلا ليسقط من جهة أخرى، فالجاحظ أكتب كتاب العربية غير مدافع، وابن شهيد يقول إنه لا يوجد كاتب غير عاقل، فكيف إذن يرميه بالغفلة وقلة العقل، وكيف يقدم عليه سهلاً لبراعته في مخادعة الرشيد، وسياسة الأمور، وهذه ناحية لا تقتضي من العقل أكثر مما يقتضيه القول في صفة غراميل البغال، وبنات وردان؛ فإن براعة الكاتب إنما تظهر فيما تفه من الأمور. وهيهات أن تخرج العربية خدناً للجاحظ في هذه الناحية. . .
(للبحث بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف
من شعر الشباب
من القلب
(مهداة إلى صاحب الملاح التائه)
قلبيَ الخفّاق أضْنَاهُ الحنينْ
…
وَبَرَتْه الذكريات القاتلَهْ
وهو في ذكراه مُلْتَاعٌ حَزِينْ
…
يَتَعَزَّى بالأماني الخاتلهْ
ضَجَّ في أنحائه الحبُّ الحَبِيسْ
…
وسرى في الكُرَةَ الكبرى صَدَاهْ
إنْ هَفَتْ للحبِّ أطماح النفوسْ
…
(فالحياة الحب والحب الحياه)
يا حبيبي هزّني الشوق إليكْ
…
هزّةَ الغصنِ بيومٍ عاصفِ
أنا أجْنَى منكَ يا روحي عليك
…
شَدَّ ما أشقى بحبي الجارفِ
ذاك روحي ماثلٌ بين يديكْ
…
فاشف جُرحاً من جِرَاحات الهوى
أنا روح ذائبٌ بين راحتيكْ
…
ذاب شوقاً من تباريح الجَوَى
يا حبيبي أنا في الدنيا خيالْ
…
أتراءى كالشعاع الشاحبِ
مُسْتَطار بين خَبْوٍ واشتعالْ
…
أتعزّى بالخيال الكاذبِ
أنا من دنيا المُنَى مبتئسُ
…
لا أرى في الكون نُعْمَى أرتجيها
هل جَنَى الأقوام ما قد غرسوا؟
…
إنها دنيا تُسَجِّي عاشقيها!!
يا عزاء النفس، يا لحن الأسى
…
يا دموع القلب: يا شعري تَدَفَّقْ
لحنُكَ الباكي بأنَّاتي ائْتَسَي
…
فأذِبْ قلبي وبالروح ترفَّقْ
يا مَرَاح الحب يا مهد الغرامِ
…
يا هَتُون الدمع: يا قلبي الجرحْ
هذه الدنيا كأطياف المنامِ
…
لَفَظَتْ (موسى) وضاقت (بالمسيحْ)
في سكون الليل تَبْدُو غرفتي
…
كشراعٍ رَفَّ في اللُّجِّ البعيدْ
مَلّ طيف الحُب فيها وحدَتي
…
فشدا يُسمعني لحنَ الخلودْ
أنا فيها ساهم مُنْفَرِدُ
…
أسْتَشِفُّ الكون من عليائها
أنا في روض غرامي غَرِدُ
…
أتلقّى الوحي من أرجائها
عجباً للناس، ساَمُوني العذابا
…
وأَرَادُوني على ما لم أَطقْ
كيف اختار (الثعابين) صحابا
…
أَوَليس الغدر في الناس خُلُقْ؟!
مَنْ له روحُ كروح الشاعر
…
فَنِيَتْ في خدمة الناس جميعاً
إن همُ أَنُّوا لِظُلْمٍ جائرِ
…
صَهَرَ القلبَ وأَذْرَاهُ دُمُوعاً
مَنْ رأى الشاعر يُعْنَى بشئونهْ
…
من رآهُ مُطْرِقاً في أمْرِهِ؟؟
إنما الشاعر آسٍ - في سكونهْ
…
لجراحاتِ الورى في شعرِهِ
إسكندرية
عبد الرحمن عثمان علي
حب الشكور
إِنْ لمْ أَحُبَّكِ لِلسَّنَا وَالنُّورِ
…
ولحُسْنِ وجهٍ في الحياةِ نَضِيرِ
وَلِسِحْرِ رُوحِكِ حينَ يختلسُ النُّهى
…
مِنِّي فأتْبَعُهُ إتِّبَاعَ سَحِير
وَلِمَا تَضَمَّنَتِ الْجَمَالَ فَأَفْصَحَتْ
…
بِكِ مِنْهُ ساحرةٌ منَ التَّعْبيرِ
وَلِمَا ابتدعْتِ وما مَنَحْتِ منَ الهَوَى
…
للكوْنِ، أو أحْيَيْتِ مِنْ مَقْبُورِ
إنْ لمْ أَحُبَّكِ حُبَّ مفتونِ، ولَا
…
حُبَّ الأَسِيرِ، إذنْ فحبَّ شكورِ!
حُبَّ الَّذِي أحْيَيْتِ فيهِ حياتَهُ
…
مِمَّا لَدَيْكِ مِنَ الحَيَا المَذْخُورِ
ووهبْتِهِ مِلْكَ الحياةِ، وطالما
…
قَدْ عاشَهَا كالعاملِ المأجورِ
ومنحتِهِ ماضِيهِ بَعْدَ ضَياعِهِ
…
وأعَذْتِ قَابِلَهُ منَ المَحْظُورِ
حُبَّ الَّذِي أَشْرَقْتِ في وِجدانه
…
فجلوتِ كلَّ مُحجَّبِ مستورِ
وَنَفَخْتِ في عَزَمَاتِهِ فتوَهَّجَتْ
…
وَسَمَتْ لكلِّ مُمَنَّعٍ وخطيرِ
أوْ فلأُحبَّكِ حبَّ من ألهمتِهِ
…
شعراً، يضئ سناهُ كلَّ شعورِ
شعراً جمعتُ من الحياةِ زهورَهُ
…
ومنَ الجمالِ نفحتُه بعبيرِ
ومِنَ الضياءِ وهبتُهُ آمالَهُ
…
ومِنَ النَّدَى عِلماً كوجْهِ غرِيرِ!
وبعثتُهُ وحْيَ الحياةِ وَفَنَّهَا
…
تجلوه ضمنَ جمالِها المأثور
أفَلَا أحبكِ؟ إنهُ لفريضةٌ
…
حبُّ الشَّكُورِ لواهبٍ مَشْكُورِ
سيد قطب
عاصفة في قلب
عَييتُ بالقَلْبِ واسْتَنْكَرْتُ أَحْلامي
…
وَنُوءتُ بالعُمْرِ واسْتَثْقَلْتُ أيَّامي
حَطَّمْتُها أَمْسِ آمالاً مُذَهَّبَةً
…
كانَتْ تُهَدْهِدُ أَحْزاني وأسْقامي
حطَّمْتُها وهي في شَرْخِ الصّبا مَللاً
…
ما لِلْمُنَى وفُؤَادي الموجَعِ الدامي
ما لي وَلِلْحُلُمِ الرفَّافِ يُسْعِدُني
…
في عالَم مائج بِالشرِّ ظَلاَّم
ما قيمةُ العَيْشِ لا تَلْقَى بِساحَتِهِ
…
من المُنى غيرَ أشباحٍ وَأَوْهامِ؟!
كَفَرْتُ بالحُلْمِ ما هامَ الغُفاةُ به
…
فَلَسْتُ في هَذِهِ الدُنيا بِنَوَّامِ
أَأَقْطَعُ العُمْرَ كيْ أَحْظَى بِلَذَّتِهِ
…
وهمانَ تِرْبَ خيالاتٍ وأَحْلَامِ
لَدَمْعَةٌ وأنا مُسْتَيْقِظٌ أَرِقٌ
…
أَحَبُّ مِنْ حُلُمٍ كالزَّهرِ بَسَّامِ
أَصْبَحْتُ بعدَ الرُّؤى في مَهْمَهٍ حَلِكٍ
…
من الحقائقِ داجٍ جِدّ مِظْلَامِ
حيرانَ أَخْبِطُ كالمجنونِ مُرْتَقِباً
…
نوراً يَفِيضُ فَيَمْحُو كلّ إظْلَامِ
أسيرُ والدُّجْيَةُ النَّكْرَاء غاشِيَةٌ
…
تزدادُ ما زِدْتُ في سَيْرِي وإقْدَامي
حتى رَجعتُ - وقد أَخْفَقْتُ في طَلَبي -
…
مِنَ الشُّكوكِ بِبَحْرٍ مُزْبِدٍ طامِ
هي الحقيقةُ ما تَدْنو مَوَدَّتها
…
ولو وَقَفْتُ عَلَيْها كلَّ أَعْوامي
وأنتَ يا خافِقاً في كَهْفِهِ صَخِباً
…
حَتَّامَ تُمْعِنُ في شَجْوِي وإِيلامي
أَأَنْتَ مَعْبَدُ شَكٍ لَا ثَنى قَلِقاً
…
أمْ أَنْتَ يا خافِقي نَاقُوسُ آلام
هذي الحَقائقُ تَنأَى عَنك هارِبَةً
…
وَأَنْتَ ما زِلْتَ في شَوْقٍ وتَهْيَام
تَفَرَّقَ الناسُ فِيها كلَّ ناحِيَةٍ
…
فكَم ترى مِنْ (مَعَرِّيٍ) و (خَيَّامِ)
مِنْ عَهْدِ (سُقْرَاطَ) لمْ تَبْرَحْ مُحَجَّبَةً
…
طخياء، شتّانَ بَيْنَ النُّسْكِ والجامِ
ما رَوْضَةٌ بَرَزَتْ لِلْعيْنِ سَافِرَةً
…
إِذْ جَادَها سَحَراً دَمْعُ النَّدى الهامي
تَهيجُ في الصبِّ نارَ الُحبِّ خابيةً
…
وتملأ النَّفْسَ مِنْ وَحْيٍ وَإِلهامِ
ترى الطيورَ على الأَفْنانِ حالِمَةً
…
سَكْرَى تَلَهَّى بأَلْحَانٍ وَأَنْغامِ
وَالنَّحْلُ يَرْقُصُ حَوْلَ الزَّهرِ مُنْتَشِياً
…
صَبَّاً وَلُوعاً بِتَقْبِيلٍ وَتَضْمَامِ
هَبَّتْ على بِشْرِهَا هَوْجَاءُ عاصِفَةٌ
…
فَخَيَّمَ البُؤس فيها بعدَ إِنْعامِ
لا طائرٌ ناغِمٌ في الرَّوضِ مُرْتَنحٌ
…
فَوْقَ الغصونِ ولا نحْلٌ بِحَوَّامِ
كالقَلْبِ هَبَّتْ رِيَاحُ الشَّكِّ تَلْفَحُهُ
…
فَقَطَّعَ العُمْرَ في عَزْمٍ وإحْجَامِ
أهكذَا الكَوْنُ أحْلامٌ مُلَفَّقَةٌ
…
قَرَّتْ حَقائِقُها في صَدْرِ كَتَّامِ
تلقى أخا اللُّبِّ في بَيْدَائِهِ دَهِشاً
…
حيرانَ يُدْلجُ في رَيْبٍ وَإبْهامِ
دمشق
أمجد الطرابلسي
كما أراك
يا شُعلةً مِنْ جُنُونِ
…
وَصُورَةً لِلْمُجُونِ
وَهَيْكلاً لِلأَمَانِي
…
وَمَعْبَداً لِلْفُتُونِ
قَدَّسْتُ فِيكِ شُعَاعاً
…
يَرِفُّ فَوْقَ الجَبِينِ
مُنَغَّماً سَرْمَدِيّاً
…
سَكَبْتِهِ في حَنِينِ
تَلألأَ الكَوْنُ مِنْهُ
…
وَشَامَهُ النَّاسُ دُوني
وَتِلْكَ كأسُ الأَمَانِي
…
أَتْرَعْتُها مِنْ شُجُونِي
وَأَنْتِ نَبْعُ قَرِيضِي
…
وَفِتْنَةٌ لِعُيُونِي
وَصُورَةٌ فِي خَيَالِي
…
وبَارِقٌ فِي دُجُونِي
وَلَمْحَةٌ مِنْ ضِيَاءٍ
…
مَسْكُوبَةٌ بجُفُونِي
وَخَطْرَةٌ بِضَمِيرِي
…
وَنَغْمَةٌ فِي سُكُونِي
عَبَدْتُهَا فِي عُلَاهَا
…
وَإِنْ شَجَانِي حَنِينِي
وَأَنْتِ وحْيٌ خفوقٌ
…
بَدَا بِأُفُقِ الفُنُونِ
في هَيكلِ الحُبِّ شِعْرِي
…
وَقَّعْتُهُ مِنْ أَنِينِي
يا شُعلةً مِنْ جُنُونٍ
…
وَصُورَةٌ لِلْمُجُونِ
حسن محمد محمود
في الأدب الإنجليزي
شارلس مورجان ومناحي التطور في القصة الحديثة
بقلم محمد أمين حسونه
- 1 -
إن ظهور رواية شارلس مورجان (صورة في مرآة) ونفاد طبعتها في بضعة أيام، من شأنه أن يوجه أنظارنا إلى كاتب قصصي برز فجأة بين المؤلفين العصريين، وامتاز بعبقرية فذة تجلت في سطور هذه الرواية كما تجلت في روايته الأخرى (النافورة) التي هتف لها النقدة ورفعوها إلى الصف الأول بين الروايات التي ظهرت عقب الحرب الكبرى.
فبينما يحدثنا المؤلف عن هذا النوع الجديد من التصوف (حياة التأمل - الذي يحيط بفصول روايته كهالة من القداسة، ويحلق بنا في الأجواء التي تخلد فيها أرواح وآرسطو وأفلاطون وديكارت، إذ نراه في فصل آخر ينزل بنا إلى التحدث عن علاقة الأجساد بالشهوة، أي يعود بنا آدميين تحكمنا غريزة الجنس وتطغى على ميولنا وعواطفنا، فيصف في صراحة مخيفة التبشير باللذة الجنسية وأثرها في العلاقات الجنسية وصفاً هو أشد وقعاً من الفن الذي ابتدعه الروائي الإباحي د. هـ. لورانس.
كان القصصيون إلى العصر الفكتوري يهتمون كثيراً بصنع قوالب لشخصيات شاذة ثم يصبون ماء الحياة فيها ويحملون القارئ على أن تعلق هذه الشخصيات بذاكرته، وكثيراً ما كانوا يملئون صفحات مملة باردة يصفون فيها نشأة أبطالهم وعوائدهم وطباعهم ونظرتهم إلى الحياة والدين والأخلاق، ثم تنتهي الرواية بترجيح كفة الخير على الشر. وكان اهتمام الروائيين في عصر الملك إدوارد موجهاً إلى تسجيل الحركات والدوافع والفضائل، وكانوا يلقنون البطل أقوالاً يعرب بها عن عقائدهم وأفكارهم ونزعاتهم ودروساً وعظات أخلاقية، أما الفن الروائي الحديث فيختلف عن هذا كله وينحو منحى جديداً، فقد جعل كتابه من أهم مظاهره تقريب الحياة إلى ذهن القارئ بأن يشعر كأنه يعيش في نفس البيئة والجو، كما يهتمون بتسجيل حركات شخصيات رواياتهم وخواطرهم ومشاعرهم والخفية ورسم أطياف أحلامهم وذرات تفكيرهم وارتباطها بنشاط العقل وإبراز العبقريات المدفونة وتقديسها،
فالرواية الحديثة حوض بلوري تسبح فيه الرغبات والآمال، والأفراح والأتراح، وتشف من جوانبه الهواجس والأحلام. . . .
ونحن نشعر لأول وهلة بعد مطالعتنا لقصص شارلس مورجان بهذه الصفات جميعاً، وبقوة جذابة في الأسلوب وفي اللهجة، قوة هادئة منظمة تسيطر على الأعصاب وتبدو من خلالها صفات المؤلف التي لا تمت مطلقاً لا إلى الواقعية ولا إلى التحليلية، بل إلى تجارب ثمينة وإرادة حديدية وفن إبداعي لم يسبقه إليه أحد.
بدأ شارلس مورجان حياته في البحرية الإنجليزية وعمره سبعة عشر عاماً فطاف ببلاد وموان مختلفة، وقد تولد ميله إلى الأدب بتأثير حادث خفي. ولما زار أكسفورد للمرة الأولى راقته حياة الطلبة ودفعته رغبته في إتمام تعليمه وتعلقه وشغفه بالأدب إلى أن يؤثر الالتحاق بالجامعة على الاندماج إلى الأبد في سلك البحرية. غير أن شبوب الحرب العالمية حال دون أن يحقق رغبته فاضطر أن يعود ثانية إلى العسكرية واشترك في الدفاع عن أنفرس إلى أن سقطت في يد الألمان فوقع في الأسر وأرسل إلى إحدى المعتقلات العسكرية في هولندا ثم أفرج عنه عقب الهدنة وعاد إلى إنجلترا ليلتحق ثانية بجامعة أكسفورد.
كانت أول أعماله الأدبية روايته الأولى (غرفة البنادق) في عام 1919 وقد تحدث فيها طويلاً عن حياة البحرية، غير أنها قوبلت من جانب الصحف والنقدة بقلة الاكتراث لعدم ذيوع اسم مؤلفها، وفي عام 1925 أصدر روايته الثانية (اسمي لا عَدّ له) فكان نصيبها نصيب روايته الأولى.
أحس مورجان بدبيب الفشل يتطرق إلى نفسه، وانصرف إلى الوحدة والمطالعة وخاصة في كتب الفلسفة والتصوف، وفي عام 1932 ظهر في الجو الأدبي للمرة الثانية بروايتين: الأولى (صورة في مرآة)، والثانية (النافورة) يصفهما كلير اليان انجيل الناقد الفرنسي:(بأنهما ثمرة مجهود طويل دقيق، أشرفت عليه إرادة جبارة تدل على نضوج في الرأي وقوة في التفكير) ويقول عنه محرر (النوفيل ليترير) في معرض نقده لفن شارلس مورجان: (بأن أهم مميزات عبقريته تحفظه في التعبير، ولا يمكن مطلقاً اتهامه بالبرود والجفاء لأن الانفعالات المكبوتة قد لا تخلو من الإحساس، ولهذا فأشخاص قصصه يشعرون ويتألمون ولكنهم يتهامسون دون رفع أصواتهم).
يمتاز أسلوب مورجان بفصاحة في التعبير، وربما كانت روايته (النافورة) مشوبة بشيء من الإسهاب في الوصف، ويمكن أن يقال أيضاً بأن الوضع في روايته الأخرى (صورة في مرآة) غير متناسق في مجموعه، غير أن بعض نكات المؤلف الطريفة تعطينا شيئاً من الطلاقة إلى جانب عبوس الموضوع. وقد جاءنا المؤلف بأشباح هم أبسط تكويناً من أبطاله، يعيشون فوق سطح الموضوع لا في قاعه؛ مثال هذا: وصفه في القسم الأول من (النافورة) حياة الضباط الإنجليز في المعتقلات الهولندية، والآنسة فولاتون العانس في رواية (صورة في مرآة) وجعلها تلقي الكلام على عواهنه في شئ من المزاح الخطر. ومع ذلك فالمعاني التي يأتي بها المؤلف ترتكز على تلك الصراحة التي يصور بها نفسية أبطاله، وهو لا يكاد يشرح مسألة هامة حتى يترك المجال رحباً لاثنين أو ثلاثة من أبطاله، فيختفي وراء شخصياتهم ليلقنهم آراءه وأفكاره.
في رواية (صورة في مرآة) يصف لنا حياة رسام شاب يدعى نيجل فرويز يقابل مصادفة صديقة له كان يحبها منذ سنوات، فحين يلتقي بها بعد هذه الغيبة الطويلة ينبعث الماضي من قلبه فجأة كعالم كان يجهله. حاول أن يهبها حبة فأخفق، لأن صورتها الأولى التي كان يهيم بعبادتها قد تغيرت بمرور الزمن، وكانت أيضاً على وشك أن تتزوج من غيره، فتترك عريسها وتتعلق بالرسام الشاب وتمنحه قوة حبها السابق، على حين أنه يشفق عليها فقط لأنه يعطف على ذكرى الماضي ويقدسه.
وتعتبر روايته الثانية (النافورة) رداً على هذه النظرية، فموضوعها هو التفاهم الفكري بين رجل وامرأة، والتفاهم الروحي بين رجل ورجل هما في القصة أخصام، ولكن الخصب الفكري والتوافق في ذلك الأفق العالي من الثقافة يمحو الخصومة ويسمو بهما إلى مراتب الآلهة.
بطلها لويس اليسون شاب لا يزال في مقتبل العمر، ولكن لفرط تعمقه في الفلسفة والتفكير يبدو أكبر سناً من حقيقته. وعندما يتكلم بروية يضطر غيره إلى الإصغاء؛ هو مغرم بالتاريخ لا يدرسه لنفسه ولكن للفلسفة في التاريخ، يدرس تطور العقل الإنساني المشترك في العصور المتعاقبة ويتابع ناحية جلية منه، وهي أن هناك عقلاً واحداً من أقدم عصور التاريخ إلى اليوم، وسواء أكان هذا العقل عقل أفلاطون أو ديكارت أو نيوتن فإنه العقل
الإنساني يحاول أن يخترق الحجب وأن يمزق قناع الغيب.
فشارلس مورجان يطبق النظرية الفلسفية الحديثة القائمة على توحيد العقل الإنساني ويطبق أثر تصوفه في أخلاق أفراد قصته، فيقول على لسان أحدهم حين يتلو صلاته في تقوى وخشوع:(عندما كنت طفلاً أخذ الله بيدي، ولما كبرت هربت منه، وعندما احتجت إلى الراحة والسلام بحثت عنه وطفت المدينة بمصباح، ثم غمرتني المذلة وانحنيت إلى الأرض أبحث عنه في الأوكار وتحت صفحات الأزهار، ولكن لم أجد سلاماً ولا راحة، وصرت كطفل أو كعالم كبير ضل طريقه فلم أعد أعلم عمن أبحث، فرميت مصباحي ومفاتيحي وبكيت، ورأيت فجأة نوره يملأ قلبي، وعدت إلى المدينة فإذا النور لا يزال حيث هو، وإذا بي أمرح في سجن نفسي بينما الدنيا تتابع الطرق على بابي، ربي أعطني يدك عندما تدعوني إليك).
- 2 -
نراه يصف الأسرى في المعتقلات الهولندية فيسهب في تسجيل حركاتهم وخواطرهم، عندما يتألم الطيار الذي اعتاد الجو فلا يستطيع الصبر على الأسر، يقول للويس اليسون المفكر الغارق في فلسفته: أتعلم أني حين أطير أصل إلى لحظات ينكشف لي فيها الغيب وأرى ما لا تراه العيون كما ترى أنت بالطبع حين تخلو إلى نفسك والى أفكارك، ثم أعود إلى الأرض. . . أعود آدمياً مع الأسف كما تعود أنت بعد خلوتك لتختلط بنا وتتكلم معنا.
وعندما يتقابل لويس اليسون مع جولي ناروتز - وهي سيدة شابة إنجليزية متزوجة من ألماني لا تحبه - يعرف أنها كانت تلميذته القديمة وهو في لندن فتأخذ الذكريات تتفتح في قلبه شيئاً فشيئاً كما تتفتح الزهرة في أشعة الشمس وتحاوره قائلة:
- أستاذي. . . كيف تراني الآن؟ هل تغيرت؟
فيجيبها وهو شارد في تأملاته:
- معاذ الله. . لقد صرت كشبح جميل قام من هذه البحيرة.
فتلذعه بقولها:
- إذاً وداعاً للحم والدم!
تتحول صداقة لويس وجولي إلى حب، هو في نظرهما وسيلة للبحث عن توازن يتغلب
على تقلبات الدهر، أو كما يصفه المؤلف نفسه:(عندما يتم امتزاج الرجل بالمرأة وهما في أشد أدوار النشوة ويحاولان أن يعبرا جسر الجسد إلى وحدة الروح، فإنهما لا بد واصلان إلى سخرية ما بعدها سخرية، ومهما أحاطا الحب من خيال وحرارة وإيمان وابتغاء الخلود بالذرية، فإن الإحساس الجسدي يظل كما هو، جسمان منفصلان كطائرين يحاولان التلاقي خلال (لوح) من زجاج!).
والخلاصةأن بطلي هذين النزاعيين النفسيين متشابهان كل التشابه، ينجل فريوز في السابعة عشرة من عمره، ولويس اليسون في الثلاثين، ولكن كليهما يبدو أكبر سناً من حقيقته، فنضجت في الحياة تجاربهما. وصورة الرسام الفنان تتشابه تماماً وصورة الضابط الشاب، فإنهما يمتازان بعمق الإرادة وانحصار قوة التفكير المحاط بتكتم يخضع المحيط بهما، ولوعة الذكرى التي تعذب ينجل وشعوره بالألم من مجرد مرور طيف كلير بمخيلته، وهو نفسه شعور اليسون عندما يلتقي بتلميذته جولي ويحبها. وقد يمتاز اليسون عن زميله بأنه رجل كثير التفكير، يسبح في آفاق عالية، فعندما يؤخذ إلى الأسر يفرح كالطفل ويقول، بأنه سوف يخلو إلى مطالعاته وتأملاته.
فحياة التأمل ما هي في نظره إلا التاج لآمال الرجال الذين فجعوا وهم في زهرة العمر.
أما كلير وجولي فإنهما تختلفان نوعاً، فبطلة (صورة في مرآة) بطيئة في فهم جموح عاطفة الطفل المعجب بها والذي يحبها حباً نادر المثال. لذا نراها مبتعدة عنه بل تكاد تكون سلبية، على حين أن جولي ضحية تنازع لعوامل مرتبكة، وهي لذلك كثيرة الاضطراب مبلبلة الفكر، وقد تجنب المؤلف أن يثير بشأنها مسألة الجنسيات، فهي إنجليزية ولكنها متزوجة من ألماني يدعى فون ناروتز، وشخصية هذا الضابط غريبة حقاً في الرواية، فالمؤلف يظهره أمامنا وقد عاد من الحرب مشوهاً مريضاً بالربو، يقاسي نوبات حادة من الألم، يقول عنه (إنه ترك مرتبة التفكير وصعد إلى أعلى من هذا واستقر، فها هو يعود إلى داره بآلامه التي لا تطاق، فيحاول أن يصبر كإله جبار).
ولكن البارون - رب القصر - وهو رجل موفور الصحة، لا يكتم رأيه العملي حيال فون ناروتز فيقول:(إن العالم كمزرعة لا يجب أن يتسامح المرء في الضعيف فها وإلا قل الإنتاج وحل الخراب، فالضعيف المريض يجب أن يمحى).
يسمع ناروتز منه هذا ويحاول أن يصبر على الألم ولا يشكو فيقول في إحدى محادثاته: حقاً إن الرجل القوي يتحكم لدرجة ما في الموت والحياة.
وهو قد جاء إلى القصر بآلامه وانتصر على الموت لأنه يحب زوجته جولي حباً عميقاً خالصاً ولأجلها يريد أن يعيش.
ولكنه يعلم بعد هذا أن العلاقة التي تربطه بزوجته أصبحت علاقة المريض بالممرض فهي تخونه مع لويس لأنها محرومة منه، ولو طالبها بالوفاء له وهي شابة ناضجة الأنوثة ملتهبة العاطفة لكان هذا فوق طاقة البشر، فيقذف بنفسه في غمرة من المثل الأعلى اليائس، وأخيراً يصل إلى حالة انفصال تام عن الحياة وحالة هدوء واستسلام وتجلد أمام الآلام ويأخذ الجبار في الموت فلا يلبث قليلاً حتى تختفي شخصيته.
وقد قصد المؤلف بإظهاره أن يطلعنا على صورة من صور النساك الحديثين الذين يعتبرون أن الحرب ما هي إلا تكفير ديني لخطايا البشرية، ولو كانت شخصية فون ناروتز غير هذا من الخلق لأصبح الموضوع تافهاً، ولكن إظهاره بهذه الصورة يدل تماماً على طريقة رسم المؤلف لشخصياته.
جميع أبطال شارلس مورجان مثقفون لا يعيشون إلا بأرواحهم، وبالرغم من تحليله النفسي الدقيق فإن لا يسرف مطلقاً في وصف (تيار الضمير) كما هو الحال في أكثر المؤلفات الإنجليزية الحديثة.
فأشخاص مورجان يحكمون عقولهم ويدرس بعضهم أخلاق بعض، وهم ذوو إرادة قوية، ولا يمكن للغريزة أن تحكمهم حتى في أعمالهم، يسلكون طريقهم الطبيعي، ويقفون أحياناً يائسين بعد تردد، وهم لا يعملون عملاً متفقاً عليه ولا يتحركون كالآلة، بل تبدو من خلال شخصياتهم الإرادة القوية والشعور باحترام أنفسهم، وبرغم الحوادث والكوارث التي تنتابهم تراهم محتفظين بنزاهتهم الأدبية وباستقلالهم في الرأي والحكم.
فشارلس مورجان يعد أيضاً من هذه الناحية من المؤلفين الإرشاديين، وهو يوجه قراءه إلى مثل عال واضح محدود. وفي الوقت الذي يتلمس في التأليف الروائي الإنجليزي سبلاً للوصول إلى نوع جديد، نرى مورجان يسلك طريقاً مبتكراً، وهو يشبه في فنه (برنسيس دي كليف) وغيرها من القصص التي يجمع أبطالها بين الشهوة والاتزان فيفخرون بتحمل
آلامهم باحثين عن الراحة في شعورهم بالإخلاص للمثل الأعلى.
وخير ما أختم به هذه الدراسة المقتضبة أن أردد ما قاله الناقد الروائي لملحق التيمس الأدبي:
(إن الذي تطربهم الشهرة والذين يعترفون بقوة الإلهام ويقدرون أيضاً نعمة إظهار الأخلاق على حقيقتها وتحديد العواطف البشرية ورسمها، والذين يميلون بفطرتهم إلى آداب النثر الفني الإنجليزي وعظمته يستطيعون أن يجدوا كما وجدنا هذه الآثار الرائعة في روايات شارلس مورجان).
محمد أمين حسونه
العلوم
6 -
بحث في أصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب دبلوم عال في الجغرافية
من تلك الفكوك المتحجرة التي وجدناها عرفنا أنه قد عاش في الغابات الاستوائية في أوائل عصر البليوسين نوع من القردة الكبيرة، وأنه قد كان لنوع من أنواع الغوريلا أو الشمبانزي أو أورانج يورنيو وسومطره كبير الحجم يمت إلى الإنسان بالشبه من وجوه مختلفة. وأننا نعرف أن أصناف القردة التي تسمى والتي يمثلها قرد الأورانج والسيامي كانت موجودة، وأنه كانت هناك كذلك أنواع أخرى تختلف كثيراً عما نراه في نظيراتها اليوم، إلا أنها كانت من أصل واحد. ولذلك فإن من الممكن القول أن ذلك النوع الذي تفرع وتطور من الإنسان كان موجوداً في أوائل عصر البليوسين.
ونحن إذ تقدمنا في بحثنا إلى عصر الميوسين فإنه لا يمكننا أن نجد فيه أي أثر إنساني. وليس في استطاعة من يعرف أن بحثنا لم يكن إلا قصير المدى ولمدة وجيزة وأن هناك معلومات قيمة جيولوجية لم يكشف عنها بعد، إلا أن يقول إن الإنسان لم يوجد في عصر الميوسين بشكله الذي نعرفه به. وليس هناك أي شك في أن أواخر ووسط عصر الميوسين كانت فترة تطور كبيرة مدهشة في عالم القردة، دليلنا على ذلك ما قد كشف بين ثنايا طبقات ذلك العصر من متحجرات وبقايا مما لا يقل عن عشرة أنواع من أنواع القردة الكبيرة التي فاق حجمها حجم الإنسان. وكانوا عمالقة إذا ما قورنوا بما قد سبقهم من الأنواع الكبيرة. ولما كان الإنسان عملاقاً أولياً بالنسبة لباقي المخلوقات وكانت هذه الحيوانات وأحجامها أمام فكرنا، فإنه لا يسع الإنسان إلا أن يشك في أن الإنسان قد تفرع في ذلك الوقت عن فرع منها.
أما معلوماتنا عن القردة فقد بنيناها على ما قد وجدناه من بقايا فكوكها وحطام أسنانها. يقول عنها بعض العلماء أنها بقايا نوع من القردة الكبيرة كان متجهاً نحو التطور الإنساني، ولكن لا يمكننا الحكم بذلك من مجرد بقايا لفك أو بضع أسنان، لأنه قد سبق لنا أن مظهر الفك وشكله لا يدلان على نوع صاحبه كما عرفنا في إنسان البلتدون. ولكن البرهان الحقيقي الذي يمكننا أن ننتزع منه الحقائق الثابتة هو الجمجمة وعظمة الفخذ والقدم، وهذا ما لم
يوفق إليه أحد حتى الآن.
لكننا مع ذلك يمكننا القول حدساً بأن قردة الميوسين برغم اختلافها في الشكل والتكوين عن نظيراتها في العصر الحالي لا تختلف عنها في شئ آخر، وقد وجدت آثار لصغار القردة التي يمثلها نوع الجيبون وتمتاز أسنانها بصغرها، مختلفة في ذلك عن باقي الحيوانات التي كانت منتشرة في غابات الملايو. وإننا لا نشك لحظة في القول بأنه إذا كان هناك عالم حيواني قد نزل الأرض من كوكب آخر منذ 700 ألف سنة لوجد كل الأجناس موجودة بها ما عدا الإنسان، وهذا معناه أن الإنسان كما نعرفه الآن لم يوجد قبل تلك الفترة، ولكن هل كان الإنسان الأول موجوداً في ذلك الوقت؟ أو هل كان أصل الإنسان الذي تفرع عنه موجوداً في ذلك الوقت؟. . لا يسعنا إذا نظرنا إلى كمال جسم الإنسان وتمامه قبل نهاية عصر البليوسين إلا أن نقول أن الإنسان في تطوره أو تفرعه عن شجرة الأجناس (كما سنطلق عليها الآن) قد بعد أن يكون قرداً أو عن نوع القردة من بدء عصر الميوسين على أقل تقدير، وهذا ما احتاج إلى ملايين السنين، وربما كان ذلك قبل ذاك الوقت حيث عصر الأوليجوسين.
ولنجل اليوم جولة أخرى حيث يقودنا الماضي السحيق الذي يبعد عنا بما لا يقل عن نصف مليون سنة إلى عصر مبكر من عصر الأوليجوسين حينما كانت الغابات تغطي شمال أفريقيا ومنطقة الصحراء الكبرى والسودان، وحينما كان يغمرها نهر عظيم فياض كان يفيض في الشمال والجنوب مكوناً دلتا عظيمة كانت مكان دلتا النيل الحالية، وتظهر آثارها في الفيوم على شكل ربوات عالية من الطباشير، غنية بحفرياتها التي تمثل نوع الحيوان الذي كان يسكن شمال أفريقيا في النصف الأول من عصر الأوليجوسين، ولذلك نوجه بحثنا إليها.
في سنة 1910 كشف بها عن اكتشافات هامة هي أسنان وحطام أفكاك ثلاث أنواع غريبة من الأنواع الأولى البائدة. وكان أشد ما أدهشنا في تلك الأسنان أنها صغيرة الحجم، وأن تلك الأنواع صغيرة الحجم لا يتجاوز حجمها حجم القرد الأمريكي المعروف باسم ونسبة حجم جسمها إلى جسم الجيبون توازي نسبة حجم ذلك إلى حجم القردة الكبيرة. إلا أنه قد كشف أن أحدها وهو الذي أطلق عليه يمت بصلات تقربه جداً إلى النوع المعروف باسم
الجيبون. وإنا نشك في أن هذا النوع الذي ذكرناه قد يكون أصل قردة الأوليجوسين والميوسين والأنواع التي يطلق عليها اسم الجيبون.
وقد وجد الباحثون هيكل قردين آخرين: الأول صغير الحجم (وقد وجدا بالقرب من الفيوم) يظن أنه قد تفرع عن أصل قردة الجيبون وقردة الدنيا القديمة. وفي هذا النوع الذي وجدوه نلتمس القرابة والتشابه المحسوس مع قردة الأيوسين. أما الهيكل الثاني فإنه لقرد صغير يظن أنه من حلقات تطور القردة الأولى.
وإن منطقة الفيوم هذه قد أعطتنا فكرة عن قردة الدنيا القديمة وتطورها في عصر الوليجوسين، وهذه الفكرة تكفينا لنعرف أننا نتقرب في بحثنا ونتعمق في عصر من الدرجة الأولى لتطور أنواع القردة إلى عصرنا هذا الذي تختلف فيه أنواع القردة الأولى، ولو أن كليهما من عنصر واحد وتركيب واحد.
وقد أمكننا من بحثنا في صخور الأوليجوسين أن نعرف ونرى بوضوح تام أنه لم يوجد في ذلك العصر أي نوع من الأنواع الإنسانية أو القردة، بل وجد أصل كل تلك الأجناس العظيمة.
ولم نكن نريد أن نتعمق أكثر من هذا في بحثنا ونصل فيه إلى عصر سحيق متناه في القدم يمثله العصر المعروف باسم عصر الأيوسين، إلا أننا علمنا أن العلامة الكبير الأستاذ ف. وود جونز وهو من عباقرة هذا العصر يصرح بأنه يؤيد أصحاب النظرية التي تقول إن الإنسان قد تفرع من شجرة الأجناس وابتعد عن باقيها من عصر الأيوسين حينما أخذت ذوات الثدي تعدل من شكلها ويتخذ كل منها له صفات ومميزات تميزه من غيره.
لذلك نقول إنه قد وجد في طبقات عصر الأيوسين وبخاصة في الولايات المتحدة وفرنسا متحجرات لأنواع كثيرة جداً من ذوات الثدي البائدة وكلها صغيرة الحجم. وقد وجد ضمنها نوع يشابه القردة التي أطلق عليها اسم وهذا النوع قد باد ولم يبق ما يماثله الآن سوى نوع واحد يعيش في غابات الملايو سريع الحركة براق العينين واسعهما لا يظهر إلا بالليل ويطلق عليه اسم
ويعتقد الأستاذ وود جونز أننا في بحثنا هذا سوف نجد حتماً سلسلة متتابعة من الهياكل المتحجرة التي تثبت لنا أن أصل الإنسان يرجع إلى سلف من أسلاف هذا النوع وبذلك
يعطي للإنسان وأصله عمراً يقدر بنحو مليونين أو ثلاثة ملايين سنة.
يتبع
نعيم علي راغب.
البريد الأدبي
تاريخ عام للآداب
عني بكتابة التاريخ العام من نواحيه السياسية والحربية كثير من المؤرخين في مختلف العصور؛ وكان المؤرخون المسلمون في طليعة من تناولوا تاريخ الإنسانية على هذا النحو. وصدرت في العصر الحديث موسوعات تاريخية عديدة تعالج التاريخ عصوراً أو أمماً، ولبعضها قيمة علمية ونقدية رفيعة. ولكن تاريخ التفكير الإنساني لم ينل مثل هذه العناية، وقلما عولج على هذا النحو؛ ويندر أن يضطلع باحث واحد بمثل هذه المهمة الفادحة المتعددة النواحي؛ بيد أن هذا هو ما يضطلع به اليوم الكاتب العلامة الإيطالي جاكو مو برامبوليني؛ فهو يشتغل منذ أعوام بوضع تاريخ عام للآداب والمعروف أن إيطاليا تجيش اليوم بنهضة علمية وأدبية كبيرة، وقد عنيت الحكومة الإيطالية بالإشراف على إصدار موسوعة (دائرة معارف) إيطالية هي اليوم من أحدث وأقيم الموسوعات؛ وهي تشجع الحركة الفكرية بمختلف الوسائل، والسينور برامبوليني علامة واسع الثقافة، وكاتب وافر الخصب؛ ولم يرعه أن يضطلع وحده بكتابة تاريخ عام للتفكير الإنساني، وقد استطاع أن يصدر حتى اليوم جزأين من تلك الموسوعة الشاسعة؛ ولكنهما يدلان على ما بذل مؤلفهما من الجهد المستفيض، وما يمتاز به بحثه من الرسوخ والدقة. ويتناول الجزء الأول الذي تربي صفحاته على الألف، تاريخ التفكير في المشرق وفي العصور الغابرة؛ فالأدب الصيني وشعراؤه وفلاسفته، والأدب الياباني، والأدب الهندي وتراثه الفلسفي القديم، والأدب العربي في مختلف نواحيه، سواء في الجزيرة أو مصر أو أفريقية أو أسبانيا وصقلية، ثم الأدب الفارسي منذ سيروس إلى عصرنا، والأدب التركي، والأدب التتاري: هذه كلها يعالجها الأستاذ برامبوليني في الجزء الأول من موسوعته بأسلوب بديع فائق؛ ثم يعالج إلى جانبها آداب العصور الغابرة التي تغذت منها الآداب الأوربية، مثل الأدب الفرعوني، والأدب الآشوري، والأدب الإسرائيلي، والآداب اليونانية والرومانية بكل ما وسعت من ألوان الشعر والفن والجمال.
ويصل الأستاذ برامبوليني في الجزء الثاني من موسوعته في استعراض تاريخ التفكير الإنساني حتى العصور الوسطى، وذلك بعد أن يستعرض الآداب النصرانية الأولى في
المشرق والمغرب، ويعرض مراحل هذه العصور الغامضة في وضوح ودقة؛ ويخصص عدة فصول قيمة للأدب البيزنطي، والأدب العبري في العصور الوسطى، ثم يتبسط في الكلام على الأدب اللاتيني فيخصه بنحو مائة وخمسين صفحة من الألف التي يضمها هذا الجزء؛ ومما يلفت النظر في هذا الجزء بنوع خاص أن المؤلف يفيض في تاريخ الآداب الجرمانية والسكسونية الشمالية القديمة التي قلما يعنى الباحثون بأمرها. وقد عني الأستاذ برامبوليني فوق ذلك بأن يزين موسوعته بطائفة عظيمة من الصور والنقوش الهامة تزيد في رونقها وطلاوتها.
وكان لصدور هذه الموسوعة الأدبية الشاسعة وقع عظيم في الدوائر العلمية الإيطالية والأجنبية، خصوصاُ وأن مؤلفها ما يزال شاباً معدوداً من الكتاب الشبان، ومع ذلك فقد أبدى في إخراج مؤلفه سعة في البحث والتحقيق قلما يضطلع بها الشيوخ؛ وتعتبر الدوائر العلمية أن هذه الموسوعة من أقيم ما ظهر حتى الآن في تاريخ الآداب العام، وترجو أن يوفق مؤلفها إلى إتمامها حتى عصرنا، لتغدو مرجعاً بديعاً لمراحل التفكير الإنساني.
كتاب عن حياة العذراء
صدر أخيراً كتاب للكاتبة الإنكليزية ماري بوردن عن حياة السيدة مريم العذراء بعنوان (ماري النصرانية)، فأثار ظهوره ضجة كبيرة في دوائر الأدب. ذلك لأن الكاتبة تعالج حياة العذراء من ناحية إنسانية ومنزلية محضة، وتعرض بأسلوب مؤثر قصة حبها الأموي؛ وتدلل الكاتبة على معرفة دقيقة بفلسطين والحياة اليهودية، ومواطن المسيح، وحياته الأولى؛ وتصور لنا (ماري)(السيدة مريم) هائمة بحب ولدها متعلقة به، جزعة على انفصاله، مرتابة في صحة رسالته إلى ما قبل الخاتمة المفجعة. وتقول لنا إنها استندت في تصوير هذه الحياة المؤثرة إلى الكتب المقدسة، وبخاصة إلى العهدين القديم والجديد، والى أقوال السيد المسيح، والى كتب الصلاة العبرية والتلمود وغيرها، ثم إلى بعض الكتب التاريخية التي تلقي ضياء على هذا العصر؛ ثم تقول لنا إنها اضطرت منذ البداية أن تخوض ذلك الجدل الخالد الذي يتعلق بأسرة المسيح، والذي لبث مدى قرون يثير بين أحبار الكنيسة أشد الخصومات.
وكتاب السيدة ماري بوردن يعتبر في معنى من المعاني قريناً لكتاب المؤرخ الفرنسي
(رينان) عن حياة المسيح؛ فقد أثار كتاب رينان يوم ظهوره ضجة عظيمة، ونال من الدوائر العلمية أعظم تقدير، لأنه مؤلفه استطاع أن يتبسط بجرأة وقوة في شرح الجانب الإنساني من حياة المسيح؛ وهذا ما فعلته ماري بوردن في بسط حياة العذراء.
هنري بوردو يدافع عن فيوليت نوزيير
حكم القضاء الفرنسي أخيراً بالإعدام على فيوليت نوزيير، وهي الفتاة التي قتلت أباها وشرعت في قتل أمها بالسم لكي ترث مالهما، فاستقبل الرأي العام هذا الحكم بالرضى، ولكن هنري بوردو الكاتب الكبير وعضو الأكاديمية الفرنسية - وهو محام قديم - حمل على هذا الحكم، وأنشأ في دفاع فيوليت نوزيير فصلاً بديعاً قال إنه يصور دفاعه كمحام عن هذه الفتاة القاتلة لو أنه دعي للدفاع عنها. ومما جاء في هذا الفصل: (لقد كان فيما مضى في هذه القاعة شخص كانت تغلبه الرحمة؛ وقد حمل هذا الشخص وألقي به واختفى في مكان لا نعرفه، في بعض زوايا هذا القصر - قصر العدالة، ولقد كان يحمل الشقاء الإنساني مهما بلغ، وكان يدعو إليه كل بائس وكل مذنب، ويعاونهم على حمل مصائبهم أو جرائمهم. ولكن فيوليت نوزيير لم تعرفه، ولم يرشدها إليه إنسان؛ وقد حرمت من كل شئ حتى من وجود الإله.
أتجرءون الآن إذاً أيها السادة المحلفون أن تنزعوا منها الحياة؟ إن الحياة هي كل ما تبقى لها، أتجرءون على نسيان أولئك الذين خلقوا هذا الوحش ورعوه؟ أتجرءون أن تنتزعوه من أصوله، ومن محيطه، ومن شركائه، فتحكموا بالإعدام على هذه الطفلة التي لم تجاوز التاسعة عشرة، والتي اتهمت بأشنع الجرائم؟ ارجعوا إذاً إلى منازلكم، وتأملوا أولادكم، واسألوا أنفسكم ماذا عسى يصيروا إليه إذا رفعتم عنهم رقابتكم وحبكم، وإذا حرمتموهم من الشفقة الإنسانية، وإذا حرمتموهم من معرفة الله. . .).
رسائل جديدة لشاتوبريان
عرضت أخيراً للبيع ضمن مجموعة ثمينة من الكتب والمخطوطات النادرة، عدة رسائل خطية لشاتوبريان الكاتب الفرنسي الأشهر، وهي الرسائل التي كتبها إلى مدام كوستين، بين سنتي 1804 و1806، أثناء رحلته في المشرق، ثم سنتي 1821 و1823؛ وقد بيعت هذه
الرسائل، وعددها ثلاثون بمبلغ 5465 فرنكاً (أو ما يساوي نحو ثمانين جنيهاً)؛ ولكنها بيعت متفرقة كل رسالة على حدتها، وبلغ ثمن واحدة منها فقط 1025 فرنكاً (نحو 15 جنيهاً)، وهي عبارة عن ثلاث صفحات، يحمل فيها شاتوبريان على الكنيسة ورجال الدين، ويخاطب صديقته بما يأتي:(أأنت إذن حزينة جداً؟ ولماذا؟ ألأن عصافيرك قد ماتت؟ ومن ذا الذي لا يموت؟ أم لأن بلابلي قد طارت؟ إنك تعلمين أن كل شئ يطير، وفي مقدمة الأشياء الطائرة أيام حياتنا) ومن هذه الرسائل رسالة فيها ثلاث كلمات فقط وهي (إلى الغد أيتها المتذمرة!)، وقد بيعت وحدها بمبلغ 210 فرنكات.
جائزة نوبل
لبثت جوائز نوبل الطبية مدى حين وقفاً على العلماء الألمان والنمسويين؛ لكنها منحت هذا العام (سنة 1934) إلى ثلاثة من العلماء الأمريكيين هم الأساتذة: جورج نيوت، ووليم مورفي من أساتذة جامعة بوسطن، وهوبل من أساتذة جامعة روشستر، وذلك لاكتشافاتهم الخاصة بعلاج أمراض الكبد في أحوال فقر الدم، وهي اكتشافات كان لها أعظم شأن في تقدم الطب والعلاج في هذه الناحية، وقيمة الجائزة التي خصتهم 162. 608 كروناً سويدياً، أو ما يساوي نحو تسعة آلاف جنيه، وزعت بينهم بالتساوي.
من الرسالة إلى الوادي
ترجو الرسالة من زميلتها الوادي أن تعتقد أن ما نشر هنا عن لجنة التأليف والترجمة والنشر إنما كان بموافقة الأستاذين الكاتبين (ليكثر الذين يعلمون من أمر لجنتنا ما نحب أن يعلم) كما تمنت هي.
القصص
منذ أحد عشر عاماً في سان مالو
للكاتب الشهير بانيت استراتي ?
ترجمة علي كامل
في اليوم الخامس عشر من أغسطس الماضي كان قد مضى خمسة عشر عاماً على نشر قصتي الأولى (كيرا كيرالينا) في مجلة (أوروبا).
لقد كنت في ذلك الوقت رجلاً سعيداً. فقد كانت صحتي أولاً خيراً مما هي اليوم، ولم أكن أحمل هذه المشاغل التي تسحقني سحقاً. كذلك كنت أشعر بالسعادة لأنني كنت قد انتهيت من كتابة قصتي (كيرا) وأنا أشتغل مصوراً فوتوغرافياً متنقلاً أنعم بالحرية والمرح. وكنت أعتقد أنني قد (فتحت ثقباً في السماء) كما يقولون في رومانيا. وأخيراً كنت سعيداً لأنه كان لي صديقة صغيرة من الألزاس أرادت عن طيبة خاطر أن تشاركني مصيري كمصور فوتوغرافي متنقل وليس هذا بالأمر اليسير.
كان الشهر شهر يوليو عندما اتخذت أولاً طريق بانيول دولورن، وقد تسلحت بجهاز فوتوغرافي جديد وجميل تجاورني رفيقتي الباسلة. على أنني لم أقم إلا مدة قصيرة في هذه البلدة المتعبة للأعصاب حيث شراب السدر الرائع، والغابة الممتدة الأطراف، ولم يكن شراب السدر هو السبب في قصر مدة إقامتي، بل السبب هو تلك الغابة التي بها، ذلك أن صديقتي كانت تحبها حباً جماً. وا أسفاه! لقد كانت تحبها على الخصوص حين تسبب لها الآلة الفوتوغرافية الضيق والعصبية فتخلق تلك المشاجرات المحبوبة التي هي فتنة الحياة البوهيمية وبهجتها. ولكي تسري عن نفسها كانت تختفي في الغابة حيث كان من العسير علي أن أجدها حتى بعد مسير كيلومترات وساعات من الصياح. ذلك الصياح الذي كان يبح صوتي ثلاثة أيام. وعندما يهبط الليل كانت رفيقتي تؤدي لي من الخدمات وهي نادمة مفعمة بالحب لي أكثر من أي وقت آخر، وذلك مما كان يغمرني بالسعادة والنعيم.
وبعد أسبوع قلت لنفسي: ماذا يهم! يحب أن أذهب لأجرب آلتي في أماكن عارية مكشوفة يمكن فيها رؤية رفيقتي من بعيد عندما ترغمها الضرورة على الهرب من أجل تهدئة
خاطرها.
وانتقلنا فعلاً إلى بونتورسن ثم إلى جبل سان ميشيل. ولما كنت قد رحت ربحاً عظيماً في بانيول دولورن اعتزمت سكنى الجبل نفسه برغم ارتفاع أجره، وعلى الامتناع عن العمل مدة يومين، زرنا خلالها آثار المكان التاريخية، وأكلنا (عجة الأم بولارد) وتأملنا ملياً في مد البحر وجزره أثناء النهار والليل. وبعد هذين اليومين حملت آلتي وابتدأت أصور الإنجليز الذين يريدون أن يحتفظوا بصور تذكارية لمرورهم بجبل سان ميشيل.
ففي اليوم الأول كان كل شئ على خير ما يرام، فصورت عشر صور في مقابل مائة فرنك. وفي اليوم الثاني انتابت فتاتي أزمة عصبية فتركتني بقسوة وحيداً ابتداء من الظهر، فكنت مضطراً إلى أسرع في عملي دون احتياط كي أستطيع إنجازه، على أنني لم أحاول أن أغضب، بل كنت أتابع بنظراتي من قمة الجبل وجه صديقتي الرقيقة التي كانت تهدئ من حسرتها بالتطلع إلى الأماكن الرملية العارية في ذلك الإقليم الرائع.
كنت أقول لنفسي:
- آه! ليس لك هنا غابة تختفين فيها. إنك مرغمة على أن تحومي حول ناظري كسمكة في إناء زجاجي.
وكنت أفكر أيضاً في شراء منظار مقرب لأرى من بعيد ما الذي تفعله امرأة غضبى وهي وحيدة في صحراء واسعة.
ولكن في اليوم الرابع من وصولنا عندما غضبت صديقتي للمرة الثانية وابتعدت عن الجبل إلى أبعد مما تبصره عيناي لفت نظري راهب كان يهتم بسعادتي المنزلية إلى الرمل المتحرك المشهور به ذلك الإقليم، والذي تتعرض لخطره فتاتي إذا داومت على نزهاتها الخالية من التبصر حول الجبل أثناء المد والجزر.
لقد ملأني هذا التحذير رعباً وفزعاً، ففي اليوم الثاني تركت الجبل وذهبنا إلى سان مالو حيث لا توجد لا غابة ولا رمل متحرك، بل ساحل عظيم أو بالحري ساحلان أو ثلاثة تمتد من بارانيه إلى دينار، وتجمع من الناس أغربهم طباعاً، فهناك ينتقل المرء من مكان إلى آخر لأتفه الأسباب، فليس هناك غرض يدفعه إلى هذا التنقل إلا إفهام الذين يبقون في أماكنهم أن من يغادر بلده بعد ثلاثة أيام فإنما يكون ذلك لأنه غني يسعى وراء التغير
والتجول.
ونزلنا في فندق صغير في باراميه، وحاولنا أن نجرب حظنا على ساحل البحر، ولكننا لم نصادف نجاحاً، فقد كان هناك كثير من المصورين وقليل من الزبائن، ولم أستطع طول هذه الأيام أن أحصل على نفقات الغرفة والطعام التي كانت باهظة. وأكثر من ذلك أنه كان يمر تحت المنزل تماماً ترام كأنه فيل ميكانيكي هائل، فكان يهز المدينة بأجمعها هزاً مرعباً كلما تحركت أطنان الحديد المخيفة المركب منها. وكنت أعود في المساء يقتلني التعب والإعياء من حمل آلتي الثقيلة على كتفي من أول ساحل البحر حتى منتهاه، وكنت أستيقظ مبكراً لكي أقتنص زبوناً من بين المستحمين المبكرين، فكانت حاجتي إلى النوم تسحقني سحقاً عندما ألقي بجسمي في السرير بعد العشاء. على أنه لم يكن هناك سبيل إلى النوم قبل الساعة الواحدة صباحاً حين تقف حركات ذلك الجسم البشع الثائر.
وعندما انتهى الأسبوع الأول من إقامتنا انتقلنا إلى الطرف الآخر من المدينة نبحث عن الهدوء تحت أسوارها العالية. على أننا لم نجد مسكناً معتدل الثمن، فاضطررنا أن نقنع بغرفة ممتلئة بالأثاث المتراكم فوق بعضه بدون نظام، وكنا ندفع أجرها عشرة فرنكات كل ليلة، نعم كل ليلة لا كل يوم، فقد كان لزاماً علينا ألا ندخلها إلا في المساء وأن نخرج منها في الساعة التاسعة صباحاً على الأكثر. وكان محرماً علينا أن نستخدم باب الغرفة لأن في ذلك إزعاج لأصحاب الدار، فكنا ندخل إلى الغرفة ونخرج منها من نافذة تطل على الفناء.
وانتظرت ما سوف تكون عليه صديقتي في حالاتها المختلفة، وكنت أنظر والحسرة تمزق قلبي إلى سور المدينة الشاهق. ذلك السور الذي سوف لا تتأخر رفيقتي عن اختياره مكانا تختفي فيه انتقاماً مني. والذي كانت تتحطم في أسفله جماجم كثير من الناس الذي كانوا يتنزهون فوق سطوحه العالية. ولقد بلغ مني العجب مبلغاً كبيراً إذ لم يحدث شئ مما كنت أتوقع. فقد كانت رفيقتي دائمة السرور والابتسام، وكانت تجد مجالاً واسعاً للسخرية والهزء في غرابة أطوار صاحب الدار الذي سمح بتأجير آخر غرفة (معدة للإيجار) لديه على أن يدخل المستأجر إليها ويخرج منها من النافذة!
ولكي أثير حب استطلاع فتاتي التي كانت تعجب بقصص المهربين؟ قلت:
- إنه يبدو لي تماماً أن هذه المدينة كانت موطناً لقرصان البحر القدماء.
فارتعدت صديقتي عندما تذكرت أننا نعيش تحت سقف أحد أحفاد القرصان وقالت:
- هل يؤذي الناس أولئك الرجال؟
فأجبتها:
- إنهم لا يؤذون النساء ولا المصورين المتنقلين، وقضيت أسبوعاً في العمل متمتعاً بالهدوء. إنني لم أكن أربح كثيراً ولكن سعادتي في ذلك الوقت كانت في التصعلك مع رفيقتي المحبوبة دون أن يقع بيننا نزاع. لقد كنت مغموراً بالنعيم طوال ذلك الأسبوع، وكنت أعتبر نفسي مديناً بهذا النعيم إلى صاحب الدار حفيد القرصان.
نعم لقد كان يبعث السرور إلى قلب صديقتي عندما كان يرغمنا على تسلق النافذة في الساعة العاشرة مساء، ثم يدخل من باب المطبخ ليطلب الإيجار اليومي لغرفته، ثم يغادر الغرفة بمجرد حصوله على العشر فرنكات. ولكن في هذه اللحظة القصيرة كان جسمه الضخم يحرمنا من المتر المكعب الوحيد الذي سمحت لنا به الأربعة (دواليب) التي كانت تملأ غرفتنا الصغيرة، وكانت رفيقتي تقول وهي غارقة في الضحك كمجنونة بعد أن غيرت رأيها في حفيد القرصان:
- ماذا يكون حالنا لو شرع حفيد القرصان يقص علينا ذات ليلة أعمال أجداده. إننا سوف نموت بالاختناق!
وهكذا كنا نظل حتى منتصف الليل في الضحك والتنادر ولكن لكل شئ نهاية. ففي ذات ليلة بعد أن أدخل حفيد القرصان كتفيه بصعوبة ماداً ذراعه ليتناول نقوده نظر إلى فتاتي بعينين مفترستين وقال:
- إنك تضحكين كثيراً أيها السيدة!
كانت هذه العبارة القصيرة هي كل ما قاله، ثم خرج، ولكنها كانت كافية لأن يسود السكون التام في غرفتي.
قالت صديقتي وهي تنظر إلى باب الغرفة وقد انتابه شحوب شديد:
- إذن ليس مسموحاً للمرء أن يضحك في سان مالو، بينما يرغم على الدخول في داره من النافذة كي ينام في سرير أشبه بتابوت ميت مدفون تحت أربعة دواليب؟
لقد كان لها حق فيما تقول. وكذلك كان لحفيد القرصان. ولم يبق إلا أنا الذي رأيت واجباً
على أن أستسلم كالعادة مرة أخرى وأرضى بألا يكون لي كلمة في منزلي.
ولقد بذلت جهدي في أن أحصر الضرر، فوعدت صاحبتي أن ننتقل من الغرفة سريعاً. ولسوء حظي هبت عاصفة على البلدة في اليوم التالي لتلك الحادثة فامتنعت علي الوسيلة الوحيدة لكسب قوتي، إذ أن الرياح التي كانت تبعث السرور إلى نفوس المستحمين كانت تهدد آلتي في كل لحظة بالانقلاب، ولكي أقاوم ساعتين على ساحل البحر من أجل التقاط اثنتي عشرة صورة، كان لا بد لي أن أحمل من الصبر ما لا يمكن أن أتطلبه من فتاتي. فقد كانت فتاة رشيقة برغم أنها خياطة بسيطة. وكانت تحب أن تكون نظيفة وقوراً حسنة الهندام، فلم تكن تستطيع العمل معي، لأن الرياح كانت تعبث بشعرها وتضرب رداءها (الفوال) بقطع الملح فتغطيه ببقع صفراء، ذلك أن عملها كمساعدة لي تغسل الصور وتجففها وتسلمها إلى أصحابها، كان هذا العمل يدفعها إلى البحث على ساحل البحر وفي الفنادق. لذا لم تقم لي بمساعدة ما، وتركتني وحيداً أقوم بكل مراحل الحرفة التي نعيش منها.
قالت لي:
- تصور مركزي عندما أكون أقذر النساء البوهيميات. ليس لي هنا ما أفعله. سأذهب لأبحث عن عمل. . . في الخياطة أو غيرها. فإذا وجدت فاعلم يقيناً أنني لن أعود مطلقاً!
تركتني عند الظهر وكان في جيبها الصغير خمسة فرنكات، ولم تكن قد تناولت بعد طعام الغداء، فجلست على شاطئ البحر محطم القوى وعدتي على ذراعي، أنظر إليها وهي تغيب عن عيني، وقد ملكها الألم وأوشكت أن تنفجر بالبكاء. ولقد كان مظهرها يحمل حقاً كل معاني الطهر والصفاء مما أفعم قلبي بالحزن والحسرة من أجل هذه المرأة الصغيرة الجميلة.
ولم أتناول أنا أيضاً طعام الغداء، فقد تراكمت علي الحسرات وكانت كل ثروتي عشرين فرنكاً، أي عبارة عن أجر ليلتين عند حفيد القرصان.
وبعد أن أعدت أدوات عملي خرجت أجوب المدينة. وكانت الريح تدوي دون انقطاع، فكنت أسائل نفسي: ما الذي يؤول إليه حالي إذا لم أوفق إلى جمع الثلاثين فرنكاً التي هي أقل ما يمكن أن أحتاج إليه يومياً. وكنت أعرف تماماً أن صديقتي لا يمكن أن تنفذ كل
تهديداتها لأنها كانت مثلي تبغض العمل أثناء النهار، ومع كل ذلك فإن منظرها وهي تتركني بقي ماثلاً أمامي، وكان يمزق قلبي تمزيقاً. وكان حبي لواجهات المحلات التجارية يحبسني أحياناً بطريقة آلية، على أنني كنت أتطلع إلى الواجهات دون أن أرى شيئاً، لأن فكري كان يتابع صورة فتاتي التي ظهرت لي وكأنها قد انتزعت منها كل فتنة، فبدا لي الشعر مهملاً، والرداء مرقعاً، والوجه مستسلماً يائساً.
وفكرت ثانية في مصيري. ذلك المصير الذي دفعت ثمنه غالياً لأشعر يوماً بشمس الحرية تدفئني، ومثلت أمامي مرة واحدة فكرة بعثت الشرر في عيني. فقد وجدت نفسي أمام منضدة مكتبة. وفي الوسط أمام عين الناظر، رأيت مجلة (أوروبا) وكان غلافها الأصفر محاطاً بغطاء أخضر، ولم يكن مكتوباً عليه غير الموضوعين الأولين من موضوعات المجلة وهما:
جوركي البلقاني بقلم: رومان رولان
كيرا كيرالينا بقلم: بانيت استراتي
شعرت بأن ساقي قد خارت قواهما، ودخلت في المكتبة وأنا أكاد لا أستطيع السير، ورأسي يطن طنيناً كأن بداخله بحراً هائجاً، واشتريت المجلة وضممتها إلى قلبي المضطرب، وذهبت كالمجنون إلى شرفة مقهى كبير وطلبت نوعاً من الشراب، وسجائر فاخرة، وقرأت ثم قرأت مقال (جوركي البلقاني) وأنا أذرف الدموع الحارة الصادقة على عبارات ذلك الرجل الذي كان مقاله هذا ضربة حديدية صارمة غيرت مجرى حياتي ومصيري. وبعد ذلك أرسلت رسالة تلغرافية إلى الناشر. وفي ظهر اليوم التالي وصلني بالتلغراف الأربعمائة وعشرون فرنكاً وهي حقوق تأليف قصة (كيرا) التي احتوت على اثنتين وأربعين صفحة من مجلة (أوروبا) نشرت في الخامس عشر من شهري أغسطس وسبتمبر عام 1923.
وفي الليلة التي تلت هذا الحادث العظيم في حياتي كنت مريضاً لما انتابني من النعيم والسعادة فلم أنم مطلقاً، وأطبقت ذراعي في صمت، ناسياً رفيقتي التي لم تكن تفهم شيئاً لا حالتي ولا (جوركي البلقاني) وساءلت قلبي وهو خير أصدقائي وأكبر أعدائي قائلاً:
إلى أين نحن ذاهبون؟ إلى أين نحن ذاهبون؟
لم نذهب إلى أي مكان. . ولقد صدق رومان رولان حين قال لي يوماً من الأيام:
(إن الإنسان في هذا العالم لا يحدث في عمله أو حياته تغييراً كبيراً).