المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 710 - بتاريخ: 10 - 02 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧١٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 710

- بتاريخ: 10 - 02 - 1947

ص: -1

‌في ميدان عابدين.

شهد ميدان العابدين من أيامهم السود سيظلان في تاريخ الاستعمار عنوانين على الخزي واللعنة: يوم صحت أحلامهم فأخذوا يدخلون ويوم زلت أقدامهم فاخذوا يخرجون! أما اليوم الأول فهو التاسع من سبتمبر عام 1881 يوم وقف عرابي في ساحة القصر، ومن خلف الجنود، ومن خلف الجنود الشعب، يطلب من ولي الأمر في احتشام واحترام أن يسقط وزارة ويقيم وزارة. . .

وكان كلفن ابن جون بول واقفا بجانب الخديوي يشير عليه بقتل القائد الثائر فلما نبا (توفيق) في يد الحية، واستجاب لرغبة الأمة، قبض مشير السوء وسفير الاستعمار بكلتا يديه على ناصية الفرصة العجلى حتى لا تفوت، واخذ يزرع بين القصر والحكومة الزرع الخبيث، حتى فسد الأمر واستطار الشر، وعصفت رياح الفتنة. وحينئذ وضع الماكر الخداع يديه على قوائم العرش يوهم صاحبه إنه يمسكه، وهو الذي يحركه. ثم وجد من طغام الطابور الخامس من إعانة بالخيانة على جيش الثورة، فاحتل البلاد ونفى القواد وسيطر على الحكم!

وأما اليوم الأخر فهو الرابع من فبراير عام 1942 يوم وقف مايلز لمبسون حيث كان يقف عرابي، ومن ورائه فلول الدبابات التي طحنها روميل، يطلب من مليك النيل في صفاقة وحماقة أن يسقط وزارة ويقيم وزارة. . . ولكن جون بول في هذه المرة كان هواه مع الأعرابي لا مع القصر؛ فوضع الكرسي بازاء العرش، والطربوش بجانب التاج: ثم دفعه فجور النفس وفحش الضمير ان يقول لمصر وهو يقتحم أبواب القصر بباس الحديد: أيريد أن يحكم هذا الوزير أو لا يملك هذا الملك!!

كلمة مجرمة لم يقلها في ذلك اليوم البعيد عرابي الثائر، وإنما قوله إياها الكذاب ليحكم عليه بالمصادرة والنفي وعلى وطنه بالاحتلال والحماية! ولكن المجرم قالها في هذا اليوم القريب بلسانه البذيء وسلاحه الجريء، فنزت في الرؤوس نوازي الغضب، وثارت بالنفوس عواصف الحمية، وكاد الزمام يفلت من يد الحليم فيلتاث الأمر على إنجلترا لولا أن سبق في حكم الله أن الجبان يهزم الشجاع، وأن العصا تكسر السيف، وأن (العلمين) تدمر المانيا!

لقد أثار جون بول الجيش يوم عرابي، والجيش قد يهزم لأنه عتاد وعدد؛ ولكنه أثار الشعب يوم لمبسون، والشعب لا يهزم لأنه روح ومدد! وإذا دخل اللص منصورا وراء

ص: 1

الجيش، فإنه سيخرج مدحورا أمام الشعب. وإذا كان في يوم الدخول قد وجد الخائن الذي تلقاه في التل الكبير، ودله على الباب الخلفي، وقاده إلى فناء القلعة؛ فلن يجد بعون الله يوم الخروج الا ألسنة تجري باللعن، وأرجلا تمتد بالركل، وأيديا تشير إلى جهنم!!

إلى القضاء يا مجرم!! إلى المحكمة التي أنشأتها سنختصم، وإلى القوانين التي سننها سنحتكم. فإذا كنت أنت وحلفائك جادين، فسيحكمون عليك بما حكمت به على عرابي؛ وإن كنتم هازلين فارتقب يوم ينذرك القضاء بحكم القدر، وتأخذك الصيحة الكبرى فلا تبقى عليك ولا تذر!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌على ذكر المولد النبوي:

محمد والأمن العام

لصاحب العزة علي حلمي بك

مدير جرجا

تمهيد:

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر مروع الأمن مضطرب النظام تسوده الفوضى من جميع نواحيه: عصيبات جاهلية، ووأد للبنات، وارتكاب لأشنع المنكرات، سلب ونهب، وقتل وعدوان؛ تغير القبلية على الأخرى فتبدد شملها وتسلبها حرياتها ومالها وتعتدي على أعراضها فكان الحق للقوة الغاشمة والسيف المسلول. وبديهي ان يتبع هذه الفوضى انحلال في الأخلاق وإزهاق للنفوس وسلب للأموال وضياع للحريات. كل ذلك كان في جزيرة العرب. وما كانت الممالك المجاورة ذات المدنية والحضارة كالفرس والروم خيرا من بلاد العرب من هذه الناحية، بل كانت الحروب فيها قائمة يضطرم أوراها ويشتد لهيبها، وكان العالم يتردى في بؤر الفساد ويرقص على بركان ثائر ينذر بالحروب والويلات - لذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يقوم على إنقاص هاتين الإمبراطوريتينأمةأخرى فتية متوثبة متطلعة للنهوض، ولا ينقصها قوة الجنان ولا تأبه بخوض غمار الحروب للذود عن الإنسانية وأمنها. وقد ألفت التقشف واعتادت شظف العيش، وكانت هذه الشروط موفورة في أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيه من أولئك العرب الذين سما الإسلام بنفوسهم، حتى جعل منهم أمة أخرى لا شاغل لها إلا إعلاء كلمة الله وإصلاح أمور المجتمع الإنساني.

ولقد أعد الله هذه الأمة للنهوض بالعالم وتوحيد كلمته فأرسل من بينها رسولا عرف بالاستقامة والأمانة وحسن السيرة وقوة الشخصية وشرف المحتد وكرم الأصل، وكان لسلوكه الشخصي وسياسته الحكيمة وتأييده بالمعجزات الباهرة ما جعل من أخيارهم القلوب الواعية والآذن الصاغية (يؤتى الحكمة من يشاء ومن أوتي خيرا كثيرا)(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) فأوحى الله إليه بالقرآن الكريم فكان هو الدستور

ص: 3

العام لكل ما فيه سعادة المجتمع وخاصة للأمن والنظام والسلام لما اشتمل عليه من قواعد العدل والرحمة والحرية حتى صار دستورا يعمل به في كل جديد من مختلف العصور. لم يأت (مؤتمر سان فرنسيسكو) وغيره من الهيئات التي تحاول وضع مبادئ للحرية والسلام والأمن الدولي بشيء أفضل من مضمون هذا الدستور الإلهي وتطبيق مبادئه السامية عملا بالإشارة التي جاءت بالآية الكريمة (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين) فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أهم مقاصدها هداية الخلق وحقن الدماء ونشر السكينة والسلام. فبعد أن تمت له الهجرة وبلغ الرسالة ربه كانت الحكومة في عهده قائمة على العدل والحرية والإخاء المستمد من هدى القران الكريم ولم يستعن فيها النبي بعسس ولا شرط للمحافظة على الأموال والأنفس والثمرات. وكان مما يساعد على ذلك:

1 -

الهيبة التي كان يتمتع بها صلى الله عليه وسلم؛ فقد ملأت قلوب المؤمنين والكافرين والمنافقين على السواء، وقلما كانت نفس المجرم أو قاطع طريق تحدثه بارتكاب ما حرم الله لما غشيهم من خشية الله وهيبة رسوله وقد روى أن أعرابيا دخل عليه صلى الله عليه وسلم فارتاع من هيبته فقال له:(خفف عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد).

2 -

إن الناس في الصدر الأول من الإسلام ما كادوا يتلقون الدعوة ويدخلون أفواجا في دين الله حتى فاضت قلوبهم بتقوى الله ورهبته وقلت الجرائم التي كانت ترتكب في الجاهلية. وأصبح كل إنسان على نفسه حسيبا ورقيبا، فمن ارتكب جرما في السر أو العلانية سارع إلى الاعتراف للمصطفى صلى الله عليه وسلم بما ارتكبه فكان الجاني شرطي نفسه. روى ان رجلا أتى النبي فقال هلكت يا رسول الله! فقال ما أهلكك؟ قال أصبت امرأتي في نهار رمضان قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ ومن أجل ذلك كان واجب الحاكم سهلا هينا، غير إن طبيعة البشر الطغيان، والظلم من شيم النفوس، والنفس أمارة بالسوء، فوجب الردع والزجر استئصالا للفساد وتثبيتا للإصلاح. ولذلك قال جل شأنه: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو

ص: 4

تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض).

وقد رمت الشريعة الإسلامية فيما جاءت به إلى المحافظة على الدين والنفس والعرض والعقل والمال وتلك أقصى غايات السعادة في الدين والدنيا، فمثلا للمحافظة على الدين حرم الكفر والإلحاد وشرعت الصلاة والعبادات، وللمحافظة على النفس حرم القتل والانتحار. وللمحافظة على العرض حرم القتل والزنا. وللمحافظة على العقل حرمت الخمر ونحوها. ولمحافظة على المال فرضت الزكاة وحرم الميسر والسرقة.

وسنتكلم فيما بعد عن التشريع الجنائي الذي كفل تحقيق هذه الأغراض.

القواعد الأولى التي وضعتها الشريعة الإسلامية لصيانة الأمن

العام

تتلخص في أن تصان النفس البشرية من العوامل التي تحملها على الإجرام وذلك:

أولا - بتهذيب النفس بالوعظ والإرشاد وإقرار العقائد الصحيحة التي تنير القلب وتجعله في شغل دائم بمراقبة الخالق والخوف من عقابه واجتناب ما نهى عنه.

ثانيا - بفرض الزكاة والترغيب في الصدقات صيانة للمجتمع من عوامل الإجرام فقد قال الله تعالى (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) وقال تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث) وقال تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقال عليه الصلاة والسلام (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة؛ ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)

وبذلك تزول حاجة الفقير فلا يفكر في ارتكاب الجرائم. فلو علم كل فقير إن له حقا في مال الغني ما وجد عليه، ولساعده في استثمار أمواله لعلمه إن ذلك يعود عليه بالمنفعة فيعمل مجدا مع الغني في زيادة الإنتاج في جو من الأمن والسلام. إذ لا يخفي أن الجرائم إنما ترتكب غالبا بدافع الفقر والعوز وما (مشروع بفردج) وغيره من المبادئ الحديثة الخاصة بتأمين حياة الفقير ورفع مستوى معيشته إلا للأغراض التي توختها الشرائع السماوية.

على إنه ينبغي للغني أن يذكر دائما إنه لا يعطي حين يعطى تبرعا بالمعنى الصحيح بل إن ذلك في الحقيقة حق عليه كما تقدم ذكره في الآية الكريمة، يأخذه الفقير وهو محفوظ

ص: 5

الكرامة الإنسانية التي حفظها له الشارع. فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام (اليد العليا خير من اليد السفلى).

ولا شك أن في ترغيب الشريعة الإسلامية في العمل والتكسب والاحتراف إقامة لعماد الكرامة فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائلا درهما وأمره أن يشتري حبلا وفأسا ويحتطب حتى لا يتعرض لذل السؤال.

ثالثا - القصاص الحازم ممن يرتكبون الجرائم ليكون في ذلك ما يردعهم عن ارتكابها، وقد بينت الشريعة الإسلامية تفصيلات الحدود والقصاص وسنوضحها فيما بعد.

رابعا - العناية بالقضاء وجعل منصبه أكبر مناصب الدولة بعد الإمارة فلا يعهد به إلا لمن تفقه في الدين وعرف ما يصلح المجتمع وما يدفع عنه الشر وذلك بتطبيق أحكام الكتاب والسنة واتباع رأي المجتهدين من السلف الصالح، وقد امتازت الشريعة الإسلامية في قضائها بمراعاة المصلحة العامة.

وهناك قواعد إيجابية وأخرى سلبية، وسنحاول أيجاز بيان الهدى الإسلامي من الناحية السلبية في منع الجريمة قبل وقوعها وما لذلك من أثر في الأمن ضاربين بعض الأمثلة من مشاهدتنا العملية.

القتل:

هو أفظع الجرائم. فقد حرمته الشرائع السماوية. قال تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ولما كان إزهاق الروح من طبيعة الحيوان الوحش فارتكاب الآدمي له يدل على إن فطرته خلت من أخص المزايا البشرية، وإن في ارتكاب هذه الجرائم ما يهدم كيان المجتمع ويفضي إلى الإخلال بالأمن. فكثيرا ما تثار للقتيل أسرته وهذا شائع الحصول وكثير الوقوع خصوصا في بلاد الوجه القبلي فتقع بسبب ذلك معارك دموية بين الأسرتين أو الأسر وتسيل الدماء وتزهق الأرواح.

وكثيرا من حوادث القتل يكون نتيجة الغضب وحب الانتقام كلما نلمس ذلك بوضوح في الصعيد وسائر بلاد الريف، والغضب شر أمراض النفس. وقد عالجه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله:(ليس الشديد بالسرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وكان هو نفسه المثل الأعلى في الحلم وكظم الغيظ واحتمال المكروه حتى أثنى عليه فقال (وإنك لعلى

ص: 6

خلق عظيم).

الانتقام والأخذ بالثائر:

ولقد كانت الفوضى في بلاد العرب ضاربة أطنابها. ومن أمثال ذلك الانتقام والأخذ بالثار إذ كان من مظهر ذلك أن النساء لا يرضيهن في الثأر إلا أن يصبغن ملابسهن بدم القتيل، وبعضهن يأكل من كبده وقلبه كما حصل لسيدنا حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات. وكن يعيرن من يمسك عن الانتقام لنفسه أو الأخذ بالثأر لذويه، فوضعت الشريعة الإسلامية الغراء لذلك حدا وشرعت القصاص في قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الأبصار) فإن إعدام القاتل فيه حقن للدماء لما فيه من الزجر والاعتبار فكيف كان جان عن ارتكاب هذه الجناية وبذلك يسود الأمن ويعمم السلام.

ومازالت آثار هذه العادة الممقوتة باقية في الريف وخاصة في الصعيد وهي من التراث المكروه ويجب العمل على استئصالها بكل الوسائل الميسورة، ومن أهمها العناية بالمصالحات والقضاء على الأمية ونشر نور العلم والعرفان بين هذه الأوساط وأن تكون إجراءت المحاكم سريعة وأحكامها رادعة زاجرة.

شهادة الزور وأثرها وعلاجها:

حرمت الأديان جميعها شهادة الزور - وعدتها الشريعة الإسلامية من أكبر الكبائر، ومن دستور محمد القرآني في ذلك (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) وقوله سبحانه وتعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) وفي آية أخرى (ولا تكتموا الشهادة وأنتم تعلمون) ومما يثقل كاهل رجال الأمن في مهمة كشف الجرائم التواء الشهادة أو الإعراض عنها. فما أحكم محمدا حيث يقول ما معناه (لا ينبغي لأحد شهد مقاما فيه حق إلا تكلم به فإن ذلك لا ينقص أجله ولا يمنع رزقه)

ومما يؤسف له أشد الأسف إن الشاهد وخاصة في الريف قلما يجد الشجاعة ما يدفعه إلى أداء الشهادة معاونة منه إلى للعدالة في الاهتداء إلى الجاني لينال الجزاء العادل. ويكون من

ص: 7

نتائج ذلك استفحال الإجرام - ويرجع الإحجام عن أداء الشهادة في الغالب إلى الرهبة من الجناة والخشية من سطوتهم أو نفوذ ذويهم نظرا لطول إجراءات المحاكمة الجنائية

وعلاج ذلك تبسيط هذه الإجراءات واختصارها خصوصا وقد دلت التجارب والمشاهدة على أن طول الزمن كثيرا ما يدفع ذوي الشأن فيها إلى الانتقام بأنفسهم فضلا عن إنه يقلل من أثر الأحكام في نفوس الجناة ويضعف وقعها عند أمثالهم من المجرمين، كما أن ذلك إن لم ينس الشهود والوقائع التي شاهدوها من عهد طويل فإنه يتيح الفرص للجناة ولإضعاف أدلة الاتهام والتلفيق لإفلاتهم من يد العدالة.

وفي بلد كمصر تعددت فيه الهيئات القائمة على التحقيق وتوزعت المسؤوليات يجب وضع القواعد الكفيلة بتبسيط العمل بحيث تقوم كل هيئة بما يفرض عليها؛ حتى لا تتعدد الإجراءات تعددا قد يؤدي إلى الاضطراب في التحقيق والأضعاف من قيمته.

المصالحات والوعظ والإرشاد:

ومما جاءت به الشريعة الغراء للمحافظة على الأمن العام: الأمر بإصلاح ذات البين فقد قال الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين) وقال الله تعالى (إنما المؤمنين اخوة فأصلحوا بين أخويكم) وقال الرسول عليه السلام: (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا) من أجل ذلك يكون لمجهود الواعظ في هذا الميدان مجال فسيح عظيم الأهمية في معاونة هيئات الحكومة للوصول إلى الهدف المنشود وهو إحلال الصفاء محل النزاع بما يسدونه إلى الفريقين من الموعظة الحسنة والإرشاد الحكيم وقد قامت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الأساس فالله يقول (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) ويقول (وعظهم وقل في أنفسهم قولا بليغا) ويقول (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وبما أن هذه الدعوة هي رسالة الوعظ فحبذا لو ذلك سبل الانتقال لحضرات الوعاظ ليتمكنوا من كثرة التردد على البلاد التي تقع في دائرة عملهم وليتيسر لهم أداء رسالتهم على الوجه الأكمل. وحبذا لو عنى كذلك خطباء المساجد بمعالجة العادات السيئة والمنكرات الشائعة والجرائم المنتشرة في دائرة عملهم بما يلائم روح

ص: 8

العصر وتطورات الزمن بعبارة سهلة مفهومة لعامة الشعب بالحث على التمسك بالدين وغرس صفات الرفق بالضعيف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم والتحذير من الكذب وشهادة الزور والترغيب في أداء الشهادة والصدق وما إلى ذلك من الفضائل. والمأمول أن يتم على أيديهم جميعا تحقيق رسالتهم على أكمل وجه فيساعدون على استتباب الأمن وإسعاد البشر.

(البقية في العدد القادم)

علي حلمي

مدير جرجا

ص: 9

‌إلى إخواننا الأزهريين:

بمناسبة حادث الشيخ أبي العيون

للأستاذ علي الطنطاوي

ما عرفنا علماء الأزهر إلا ملوكا، لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم، إذا قال واحدهم لبت الأمة، وإذا دعا هب الشعب، وإذا أنكر على الحكومة منكرا أزالت الحكومة المنكر، وإذا أمرها بمعروف أطاعت بالمعروف، فكانوا هم السادة وهم القادة، وهم أولو الأمر: هذى حكومة مصطفى فهمي باشا تستجيب سنة 1899 لرغبة الإنكليز في أضعاف القضاء الشرعي، فتضع مشروعها المشهور؛ لتعديل اللائحة الشرعية وضم اثنين من أعضاء الاستئناف الأهلي إلى المحكمة الشرعية العليا، ويبلغ من ثقتها بقوتها، وتأييد مجلس الشورى لها أن لا تبالي باحتجاج الحكومة العثمانية على المشروع، وتعرضه على المجلس. (وكان من أعضائه الشيخ حسونة النواوي، الذي جمعت له مشيخة الأزهر وفتوى الديار المصرية) فيقول كلمة موجزة في إنكار المشروع، وينسحب من المجلس ويتبعه القاضي التركي، فتكون هذه الكلمة كافية لقتل المشروع، فيردده المجلس كله، وتحاول الحكومة إنقاذه على رغمه فلا تجد عضوا استئنافيا واحدا يقبل الانضمام إلى المحكمة العليا، (عرضت ذلك على الشيخ محمد عبده وكان من أعضاء الاستئناف الأهلي وسعد زغلول وأحمد عفيفي ويوسف شوقي ويحيى إبراهيم. فأبوا جميعا) وتمشي كلمة الشيخ في الناس مشي النار في يابس الحطب، فهب الأمة كلها تؤيده حتى ترضى الحكومة بالهزيمة وتسترد مشروعها.

ولم يكونوا يخشون في الحق لومة لائم، ولا يخافون غضبة ملك جبار: هذا حسين باشا الجزائرلي، يصل مصر فيفر منه أمراؤها إلى الوجه القبلي، فيأخذ أموالهم كلها ولا يرضيه في عتوه وجبروته أن يستولي على عروضهم حتى يسطوا على أعراضهم، فيقبض على نسائهم وأولادهم، ويسوقهم إلى السوق ليبيعهم زاعما إنهم أرقاء لبيت المال، وكانت الأحكام عرفية، وسيوف الظلم مصلتة، ولواء البغي مرفوعا، ولكن ذلك لم يمنع علماء الأزهر من إنكار هذا المنكر، ولم يرهبوا بطش الباشا وهم يروون أن أفضل الشهداء رجل قال كلمة حق عند إمام جائر فقتله بها، فمضوا إليه وتكلم الشيخ محمد أبو الأنوار فقال له: (أنت

ص: 10

أتيت إلى هذه البلدة وأرسلك السلطان لإقامة العدل ورفع الظلم كما تقول، أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟) فقال (هؤلاء أرقاء لبيت المال) قال:(هذا لا يجوز ولم يقل به أحد) فغضب أشد الغضب وطلب كاتب ديوانه، وقال:(أكتب أسماء هؤلاء وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره) فقال له الشيخ محمد البنوفري: (أكتب ما تريد بل نحن نكتب أسماءنا بخطنا)، وكانت النصرة لهم عليه، فأحقوا الحق وأبطلوا الباطل، ووضع الله في قلبه هيبتهم، لأن من خاف الله خافه كل شئ. فكانوا بذلك (أجل من الملوك جلالة) وكانت إشارتهم للحكام أمرا، وطاعتهم عليهم فرضا، حدث الشيخ محمد سليمان إن أباه قدم لطلب العلم في الأزهر، أواخر أيام الشيخ إبراهيم البيجوري، فشكا إليه ظلم تلك الأيام، وما كان فيها من السخرة والعونة فكتب له ورقة بمساحة إصبعين هذا النص ما كان فيها:(ولدنا مدير الدقهلية. رافعة من طلبة العلم يجب إكرامه. خادم العلم والفقراء. الخاتم (إبراهيم البيجوري)) فدفعها إلى المدير، فقبلها ووضعها على رأسه، ودفعت عنه هذه الورقة كل مظلمة، وأنالته كل مكرمة، ورفعت قدره عند المدير وعند الناس.

وكان الشيخ الأزهري موقرا في الجامع وفي البيت وفي السوق، مبجلا عند الطلبة والعامة والحكام، وكان أقصى أمل الطالب أن يخدم الشيخ وأن يحمل له نعله، وإذا سبه عد سبه إكراما، وتحمله مسرورا، ورآه من أسباب الفتوح.

وكان الطالب الأزهري المجاور، يذهب إلى بلدة في العيد أو في الإجازة، فيقبل البلد كله عليه يقبل يده، ويتبرك به، ويشم فيه عبق الأزهر، ويكون المرجع لأهله في الجليل من شؤونهم والحقير، ويكون فقيهم والحاكم بينهم، لا مرد لحكمه ولا اعتراض عليه، لأنه يحكم بشرع الله، ويبين حكمه في فتواه هذا ما عرفناه. فما الذي جرى حتى تبدلت الحال، ووقع حادث الشيخ أبي العيون؟

ما الذي نزع هيبة المشايخ من القلوب وأنزلهم من مكانتهم عند الحكام؟

أأقول؟ أنتم أيها الأزهريون فعلتم هذا كله! أنتم تنكبتم سبيل أسلافكم، فما الشيخ اليوم شيخ مسلك ولكنه موظف محاضر، وما التلميذ مريد طيع، ولكنه على الغائب مشاغب، وما يطلب علما ولكن يبتغى شهادة. أنتم ثرتم على مشايخكم وعلمتم الناس الثورة عليهم. أنتم أيها الطلاب. أنتم مددتم أيديكم إلى مدرسيكم، فجرأتم هؤلاء أن يمدوا أيديهم إلى أبي

ص: 11

العيون. أنتم أطلقتم ألسنتكم فيهم فشجعتم هذه الصحف أن تتطاول حزبية الكلام على شيخ الأزهر. أنتم أيها الأزهريون جميعا جعلتموها جامعة فكان فيها ما يكون في الجامعات، وقد كانت جامعا لا يكون فيه إلا ما يكون في الجامع. لقد كان الأزهر لله فصار للناس، وكان للآخرة فغد للدنيا، وكان يجيئه الطالب يبتغي العلم وحده، يتبلغ بخبز الجراية، وينام على حصير الرواق، ويقرأ على سراج الزيت، ولكنه لا ينقطع عن الدرس والتحصيل من مطلع الفجر إلى ما بعد العشاء، ينتقل من شيخ إلى شيخ، ففي كل ساعة درس، ولكل درس كتاب، ولكل كتاب ساعة للتحضير والمراجعة، لا يدع الدرس إلا للصلاة في المسجد صلاة خشوع وتبتيل، أو للأكل فيه أكل قناعة وتقشف، أو لشرب العرقسوس أو الخرنوب. هذه ملذاتهم من دنياهم، لا يخرجون من المسجد إلا عصر الخميس، يؤمون الرياض والحياض، للاستجمام والاستحمام، لا يأملون من العلم مالا وقد كان أقصى مرتب الشيخ الأزهري إلى عهد قريب ثلاثة جنيهات في الشهر، ولا يبلغها إلا نفر قليل، فراضوا نفوسهم على القناعة، وعودوها الصبر وألزموها الرضا. هذا المرصفي يحدث عند الأستاذ محمود حسن زناتي أنه كان دار بالية في حي قديم وقد جلس على حصير ألقى عليه كتبه وأوراقه، ومن حوله خيط من عسل القصب مرشوش على البلاط يدرا عند هجوم البق لم يمنعه هذا الحصير الخلق في هذه الدار البالية من أن يشرح عليه الكامل. وأورثهم هذا الفقر عزة في نفوسهم: أورثهم كبر العلم، وكل كبر مذموم إلا كبر العلم، فلم يكونوا يحفلون أحدا من أبناء الدنيا، لأنهم لم يتذوقوا لذاتها حتى يداجوا فيها، ولم يميلوا إليها حتى يتزلفوا إليهم من أجلها. كسروا قيودها وتخلصوا من رقها، وهانت عليهم وهان أهلها، هذا هو اللورد كرومر، وما أدراك ما اللورد كرومر؟! يدخل على الشيخ محمد الانبابي شيخ الازهر، ويسلم عليه؛ فيرد الشيخ التحية وهو قاعد، فيعظم اللورد قعوده ويقعد إلى جنبه فيقول له مغضبا:(يا سيدنا الشيخ الست تقوم للخديوي؟) قال: (نعم) قال: (فلم لم تقم لي؟) قال: (إن الخديوي ولى الأمر وأما أنت فلست منا). فيزيد ذلك اللورد إجلالا له، ويكتبه في أحد تقريراته لحكومته.

وهذا هو رياض باشا وكان رئيس الحكومة وناظر المالية يزور مدرسة دار العلوم، وكان الشيخ حسن الطويل مدرسا فيها، فلا يسلم الرئيس ويدخل، حتى يبتدره الشيخ من آخر القاعة، فيقول له:(يا باشا أما أن لكم أن تجعلوني معكم ناظرا؟). فيدهش الباشا ويقول: (ما

ص: 12

هذا يا شيخ حسن؟) فيقول: (ما تسمع يا باشا؟) قال: (فأي نظارة تريد؟) قال: (المالية) قال: (لماذا؟) قال: (لأستبيح أموالها!) فذعر الباشا وخرج يرتجف، وقال لعلى مبارك باشا ناظر المعارف:(لابد أن تخرج هذا الرجل من خدمة الحكومة قال: (كيف؟ وماذا اصنع مع علماء الأرض، وهو عالم عالمي؟). كذلك كانوا. زهدوا في الدنيا فجاءتهم الدنيا، واعرضوا عنها فأقبلت عليهم، وهابوا الله فهاجم الناس، فكيف حالكم اليوم يا إخواننا الأزهريين؟ يا إخواننا، إن هذا الأزهر المعمور، لبث خمسمائة سنة من عمره، وهو منار العلم المفرد في الدنيا لولاه لتاهت في ظلمات الجهل، وهو حارس الدين واللغة، فأدركوه لا ينطفئ المنار، ويهجع الحارس، وتترك الدنيا للظلام وللصوص. يا أخوانا، ما عاش الأزهر ولا عز بالعلم وحده، وما العلم بلا عمل؟ ولكن عز بالتقوى وبالعمل وبالخلق المتين. لقد كانت لعلماء الأزهر أخلاق لا أقول ضاعت ولكن اختفت عن الناس تلك الأخلاق، كانوا يجلون مشايخهم فيجلهم الناس كلهم. هذا هوا لشيخ ألبا جوري شيخ الجامع كان يجلس بعد المغرب في الصحن فيقبل عليه العلماء والطلبة يقبلون يده، وكان الشيخ مصطفى المبلط وهو أكبر منه، ناظره في طلب المشيخة ولم ينلها، يندس فيهم ويقبل يد الشيخ، فأنتبه إليه مرة فامسك به وبكي وقال:(حتى أنت يا شيخ مصطفى؟ لا. لا) فقال الشيخ مصطفى: (نعم. وأنا! لقد خصك الله بفضل وجب أن نقره، وصرت شيخنا فعلينا أن نوقرك) وكانوا يقدمون العلم على المنصب، ويعرفون لأهله حقهم. هذا هو الشيخ الشربيني شيخ الجامع الذي يجئ إلى الشيخ ألا شموني فيراه مضطجعا على جنبه فيضع حذاءه بعيدا ويقبل عليه على مشهد من أهل الجامع حتى يلثم يده. وكان الاشموني ربما قال له:(إز يك يا عبد الرحمان؟) فيكون الشيخ كأنما حييته من فرحته بذلك الملائكة، ولم يكونوا يدعون للعدو ثغرة يدخل مها إليهم، ويجعلون خلافهم إذا اختلفوا، بينهم، هذا هو الشيخ الأمير كانت بينه وبين الشيخ القويسنى جفوة بلغت الحاكم، وزاره الأمير فسأله عنها، وأوهمه أن القويسى أخبره بها وكان يريد معرفة حقيقتها ليزيلها. فقال الشيخ الأمير:(ليس بيننا إلا الخير، وما أظن الشيخ القويسنى حدثك بشيء من هذاً) وأثنى عليه ومدحه ونزل من عند الحاكم فمر به على ما كان بينهما، وأنبأه بما كان، فقال القويسنى:(صدقت في ضنك ما قلت للحاكم شيئا) قال الأمير: هكذا أهل العلم يسوون أمورهم بينهم، أما مظهرهم فيجب أن يكون قدوة في التالف إمساكا على

ص: 13

عروة الإسلام، وحفظا لكرامة العلم، وزال بذلك ما كان بينهما.

فيا إخواننا الأزهريين، سألتكم بالله، أرجعوا بالأزهر إلى سبيله التي درج عيها. أعيدوه سنته الأولى. أفيضوا عليه الدين والتقوى، فالتقوى روح العلم، فإن فارقته كان جسما بلا روح. أحيوا فيه أخلاق الأسلاف ليكن لكم تقاهم وزهدهم، فتكون لكم عزتهم ومكانتهم. يا إخواننا، لم نجد والله خيرا في الجامعة الأزهرية، فردوا علينا الجامع الأزهر!

علي الطنطاوي

ص: 14

‌أنستاس الكرملي

1866 -

1947

للأستاذ مهدي القزاز

وفاة الكرملي:

في صباح اليوم السابع من شهر يناير سنة 1947 توفي في المستشفى الملكي ببغداد العلامة (الأب أنستاس ماري الكرملي الحافي) أثر أمراض لازمته منذ مدة من الزمن كان يتغلب عليها بحيويته ونشاطه حتى تغلب عليه الأيام الأخيرة فاضطرته إلى دخول المستشفى. وكان وهو يصارع هذه الأمراض داخل المستشفى، يطالع ما يأتيه من الكتب ويرد على الرسائل التي ترده من الشرق والغرب ويجيب على الأسئلة ويستقبل زواره الذين كانوا يتوافدون للاطمئنان على صحته. حتى أصبحت الغرفة التي ينام فيها مجلسا للشعر والأدب والنقد واللغوي! وكان يشترك في بعض الأحاديث - بالرغم من مرضه الشديد ويستأنس بهذا الجو العابق بأحاديث الشعراء والأدباء الذين يفدون للسلام والاطمئنان.

وقبل وفاته بثلاثة أيام منعه الأطباء من المطالعة والكتابة ومنعواأيضاً عنه الزيارات فعاش رحمه الله أيامه الأخيرة في وحدة قاسية متألما من شدة المرض الذي هجم عليه هجوما عنيفا وترك هيكله الضخم حطاما لا يعرف، ولم يسهر الأطباء والعمليات التي أجريت له ومختلف أنواع العقاقير فقضى مأسوفا عليه، وأذاعت نعيه محطة الإذاعة العراقية ثم لجنة الترجمة والتأليف والنشر في وزارة المعارف وتناقلت محطات الإذاعة في الشرق والغرب هذا النعي وأبنت الفقيد بما تستحقه مكانته الأدبية وخدماته للغة العرب وتاريخهم.

تاريخ الكرملي:

ولد الكرملي في بغداد في اليوم الخامس من شهر أب سنة 1866 منحدراً من أم عراقية. ولما بلغ سن الدراسة ألحقه والده بمدرسة الكنيسة اللاتينية الابتدائية، واهتم منذ صغره بدراسة العربية ومفرداتها. وفي سنة 1886 رحل إلى بيروت ودخل المدرسة اليسوعية الاكليركية، وعلى يد أساتذتها درس اللاتينية واليونانية، ونبغ فيهما نبوغا عظيما دهش له

ص: 15

الأساتذة. وكان إلى جانب دراسته هذه يدرس العربيةأيضاً دراسة متصلة لا تنقطع.

ولما كان طبعه الجسور لا يستقر ولا يهدأ، ومطامعه لا تقف عند حد فقد ترك بيروت قاصداً مدينة (شيفرمونت) في بلجيكيا فانخرط هناك في سلك الرهبنة وانغمر في الدراسات الفلسفية واللاهوتية، وقد فتحت له هذه الدراسات أجواء جديدة من المعرفة. ثم ترك (شيفرمونت) إلى مدينة (لاغنو) ثم مدينة (مونبليبه) في فرنسا، فأنجز دراسته في الدير الكرملي هناك ورسم كاهنا باسم (أنستاس الكرملي) ولما تم له هذا النجاح سافر إلى أسبانيا وأقام هناك مدة يتنقل في المدنالأسبانية ويدرس آثار العرب ومخلفاتهم وما تركوا من ذخائر نفسية في التاريخ والشعر واللغة والأدب، واستنسخ عدة مخطوطات هامة من الأديرة والكنائس المتاحف لا تزال محفوظة في مكتبته العامرة إلى الآن.

وبعد أن أنهى رحلته في أسبانيا رجع إلى بغداد فسلمت إليه إدارة المدرسة الكرملية وتولى فيها تدريس اللغتين العربية والفرنسية. ثم رأى ان هذا الجو يضيق بمعارفه وبتفكيره وما طبع عليه من انطلاق وتحرر وما في جلبته من حب للاستزادة من البحث والدرس فترك المدرسة وانصرف للتنقيب والتأليف في اللغة العربية وتاريخها والوقوف على أسرارها فكان لا يدخر وقتاً ومالاً في سبيل الحصول على كل مخطوط أو كتاب يرى فيه عونا لأبحاثه ودراساته.

وفي هذا التاريخ لمع اسم (الكرملي) باحثاً وعالماً لغوياً لا يجارى، فأخذ يضع التآليف القيمة والبحوث الهامة والدراسات المفيدة وينشر فصولا في المقتطف والهلال والمشرق وفي المجلات الأوربية التي قدرت سعة اطلاعه ونبوغه فأخذت تراسله وتعتمد عليه وتستشيره في الشؤون التي اختص بها. كما أن دوائر الاستشراق رأت فيه عالما مطلعا وباحثا عبقريا فاعتمدته في أبحاثها ودراساتها والإشراف على بعض ما يشكل عليها في تاريخ اللغة والأدب.

وفي سنة 1896 انشأ (الكرملي) جريدة (العرب) فعاشت أربع سنوات ثم مجلة (دار السلام) التي عاشت سنة واحدة. وفي سنة (1911) أصدر مجلة (لغة العرب) فكانت من أرقى المجلات العربية في العالم العربي حرر فيها نخبة من كتاب العراق والبلاد العربية، وقد عاشت هذه المجلة عدة سنوات ثم أغلقت. وعند إعلان الحرب العالمية الأولى سنة

ص: 16

1914 نفي الكرملي خارج العراق بسبب ميله الوطنية ثم أفرج عنه، وفي هذه الاستثناء انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق ثم عين عضواً في المجمع الملكي المصري للغة العربية.

وانصرف الفقيد بعد ذلك إلى التأليف وحضور المؤتمرات اللغوية، وكان دائب السفر بين بغداد والقاهرة والقدس وبيروت باحثاً ومستقصياً ومستنسخاً، حتى تمكن من تأليف ما يقارب الأربعين مؤلفا في الآداب واللغة والفلسفة والدين، ومن أهم كتبه المطبوعة (الفوز بالمراد في تاريخ بغداد) و (مختصر تاريخ العراق) و (وجمهرة اللغات) و (كتاب الجموع) و (كتاب العجائب) و (كتاب أديان العرب) وغير ذلك من الكتب المهمة؛ كما إنه وضع معجماً عربياً خطياً يعد حجة في بابه. وله معجم (عربي فرنسي) مطول. أما كتبه وتأليفه غير المطبوعة فكثيرة ومهمة جداً نأمل أن تقوم وزارة المعارف بطبعها خدمة للغة العربية وتأريخها ولذكرى الفقيد الراحل.

وكان الكرملي يتقن إلى جانب اللغة العربية اللغات اللاتينية واليونانية والفارسية والتركية والإنكليزية والفرنسية والأسبانية؛ وله أبحاث عديدة في هذه اللغات نشرتها مجلات الغرب في حينها وكلها تتناول لغة العرب وتاريخهم وآثارهم.

مكتبة الكرملي:

يملك الفقيد مكتبة تعد من أنفس المكتبات في العالم العربي بما حوته من كتب مخطوطة ومطبوعات نادرة. جمعها من مختلف بلاد الشرق والغرب وبذل في سبيلها أموالا كثيرة حتى كان رحمه الله يتجشم مشاق السفر في سبيل الحصول على مخطوط أو استنساخه مهما بعد المكان والقطر. ويقال إن مكتبته تحوي في الوقت الحاضر على ما يقرب من (14) ألف مجلد بمختلف اللغات جمعها الفقيد في خمسين سنة.

وحرصاً على هذا الكنز النفيس من الضياع وحرمان الجمهور من فوائده وتمكيناً للعلماء والباحثين والمطالعين من ارتياد هذه المناهل فقد تقرر بعد وفاته تأليف لجنة لتنظيم شؤون هذه المكتبة وإدارتها وإيجاد عمارة خاصة بها تفتح أبوابها للباحثين من الرواد العلم. وتأخذ هذه اللجنة على عاتقها طبع تأليف العلامة الفقيد والمخطوطات النفيسة الأخرى. والمتوقع تأليف هذه اللجنة من صاحبي المعالي الدكتور حنا خياط ويوسف غنيمة وبعض الأفاضل.

ص: 17

وقد علمنا أن اللجنة الثقافية في الجامعة العربية قد عهدت إلى مندوب العراق في الجامعة إبلاغ الحكومة العراقية رجاء اللجنة في أن تقتني الحكومة مكتبة المرحوم الكرملي قبل أن تضيع وتتبعثر.

أدب الكرملي:

نشأ الكرملي نشأة دينية وتثقف ثقافة فلسفية، وعكف على دراسة اللغة العربية واللغات الأخرى وانصرف لبحوث التاريخ. وبرع في علوم اللاهوت واشتغل أكثر سنوات عمره بتأليف الكتب التاريخية والفلسفية والدينية. وكان رائدا من رواد اللغة العربية وتاريخها. ولذا تجلت عبقريته في هذا اللون من الأدب وحده.

وكان حافظا وراويا من الطراز الأول لكثرة ما قرأ من الكتب وطالع من الأسفار وتتبع من الحوادث. كان الفقيد يعقد مجلسا أدبيا بداره في (دير الكرملين) في يوم الجمعة من كل أسبوع، وكان يختلف إلى هذا المجلس صفوة مختارة من الشعراء والأدباء والمؤرخين والصحفيين وبعض الأستاذة والطلاب. تختلف أذواقهم ومشاربهم. ولكن تجمعهم رابطة الأدب واللغة وحب البحث والجدل وتذوق هذا الألوان الفكرية التي كانت تدور في هذا المجلس الذي كان دائما يعمر بالرواد فيبحثون في قضايا الأدب والنقد والشعر ويثيرون بعض المسائل الفكرية التي تتخذ في النهاية شكلا من أشكال الجدل يطلع منه المرء على تيارات مختلفة من الأفكار والمنازع والأهواء.

وكان الكرملي يشترك في جميع المباحثات والمناقشات الفكرية التي تدور في مجلسه ويديرها، وإذا لزم الأمر يبرز ما لديه من المراجع والمستندات والوثائق التي تزدحم بها مكتبته العامرة في مختلف اللغات واللهجات للبرهنة على وجهة نظره وتأييد فكرته

وكنت من الذين يحضرون مجالس الكرملي الأدبية هذه ويشتركون في بعض المناقشات التي تثار في قضايا الأدب والفكر فكان لا يرضيني هذا التزمت في الأدب الذي تفرضه أبحاث العلامة الكرملي ومناقشاته، فقد كان يحاول دائما أن يضع للأدب مقاييس وقيودا وحدودا لا يتعداها ولا يرى في الانطلاق والتحرر إلا خروجا وخطا جريمة. . . وكان تفكيره الرتيب الذي جاء نتيجة دراساته الجافة لا يسمح له بالتجول إلا في آفاق محدودة ودوائر خاصة لا يتعداها ولا يسمح لنفسه بالخروج منها. ولذا كان لا يستسيغ هذا اللون

ص: 18

من الأدب الحديث الذي برع فيه ناشئة الأدب في البلاد العربية وتحرروا فيه قيود الماضي وانطلقوا يكتبون في أجواء حرة وأساليب حديثة. لم يكن الكرملي أديبا خلاقا أو باحثا مبدعا، ولم يترك له أثر في الحياة الفكرية فيه هذا اللون المشرق الذي يغذي العواطف ويهز القلوب، ويفتح كوى مشرقة فيها أضواء وأخيلة وأنداء وجنائن مسحورة يعبق جوها بالأماني والأحلام تترك الشعور يخلق في متاهات بعيدة وأبعاد مجهولة فيها أمواج من النعيم وسحر غريب له لذة وفيه نشوة، كما نشاهد في أدب الزيات وطه حسين والحكيم وغيرهم من أساتذة اللغة والبيان.

إن عبقرية الكرملي وإشراق ذهنه في اللغة العربية وتاريخها ودراسته المتصلة للغات القديمة والحديثة ونشاطه المعروف في التتبع والبحث والتأليف لو أضاف إلى كل ذلك إشراق العبارة وذهنية تشرك عقلها وقلبها فيما تنتج وتفكر لعد من العباقرة الخالدين في الأدب العربي. ولكن هذا التحنيط والجمود في أسلوبه قلل من أثره في الحياة الفكرية وجعله أشبه بمعجم لا يراجع إلا عند الحاجة إليه.

إن اسم (الكرملي) سيخلد في مجامع الشرق والغرب كعلم من أعلام اللغة والدين والفلسفة خدم بتتبعه لغة العرب وترك فيها آثار عديدة ونور عقولا وأذهانا، وكان فخر أمته، وعقلا عبقريا من عقولها في الخارج.

بغداد

مهدي القزاز

ص: 19

‌الأدب في سير أعلامه:

2 -

تولستوي. . .!

قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه

للأستاذ محمود الخفيف

طفولة ونسب

دخل ليو حجرة الدراسة وأسلم إلى مرب يعلمه ويقوم على تنشئته وكان هذا المربى ألماني الجنس وهو تيودور رويل، وكان من عادة سراة الروس أن يختاروا لأبنائهم مربين من الأجانب ليعلموا هؤلاء الأبناء اللغة الأجنبية التي تراد لهم وهم صغار وذلك بالحوار والمرانة لا بالقراءة في الكتب فحسب، ولقد كان تيودور رويل هذا من الشخصيات التي تأثر بها الصبي تأثرا شديدا منذ دخل حجرة الدراسة، والتي ظل أثرها عالقا بنفسه مدى حياته الطويلة؛ إذ كان المربي مستقيم الخلق كريم الطبع عطوفا على تلاميذه في غير ضعف، شديدا عليه في غير عنف مخلصا في عمله إذا هم بإبداء واجب، ولا يبخل بجهد يرى فيه صلاح تلميذه مهما أرهقه هذا الجهد، وبهذه الصفات الطيبة أو بهذه القدوة الحسنة أثر المعلم في تلميذه وهيأ الجو الصالح لنموا الصفات الطيبة في نفس ذلك الصبي. . .

فإذا انطلق الطفل من حجرة الدراسة كانت العمة تاتيانا أول من يلقى فما يطيق البعد عنها، وإن حبه إياها ليصغر دونه كل حب، وإن أثرها في نفسه ليقل عنده كل أثر، وسيكبر الصبي ويخرج من نطاق البيت إلى مضطرب الحياة ويظل أثر العمة تاتيانا قويا في نفسه، ويظل شخصها حيا في حسه، وتظل صورتها ماثلة في خاطره. وسيعبر عن هذا كله فيما يتناوله قلمه من ذكريات الحياة ومشاهدها. تجد مثلا لذلك في قوله (إني لأتذكر ذات يوم وأنا ابن خمس كيف اندسست خلف أريكة كانت تجلس عليها في الثوى، وكيف مدت إلى يدها ومست جسدي في حنو ورفق، وكيف أمسكت بيدي تلك اليد وقبلتها ودموع الحب في عيني. . . لقد كان للعمة تاتيانا أعظم الأثر في حياتي، فمنذ الطفولة الباكرة علمتني كيف تكون بهجة النفس في روحانية الحب، ولقد علمتني هذه الفرحة لا بكلامها فحسب بل إنها ملأتني حبا بكيانها كله. لقد رأيت ولقد أحسست كيف كانت تتمتع نفسها بنعمة الحب، ومن

ص: 20

ذلك فهمت بهجة الحب، وهذا أول ما علمتنيه. ثم إنها بعد ذلك علمتني نعيم الحياة المطمئنة الهادئة).

وحق له يحب هذه السيدة التي يدعوها عمته كما يفعل أخوته والتي تقوم منهم جميعا مقام الأم وقد حرموا من أمهم. وكان ليو منذ صغره مرهف الحس متقد العاطفة تأسره الكلمة الطيبة وتثيره الكلمة القاسية فما يملك ان يحبس دمعه وعرفت عمته تاتيانا كيف توحي إليه ما تحب من المعاني العاطفية. . .

وليس بذكر ليو أمه فقد ماتت وهو دون الثانية بقليل، وكانت سيدة كريمة المحتد نبيلة الخلق عالية الثقافة، تقية رحيمة القلب مرهفة الحس مهذبة الذوق تتكلم خمس لغات ولها بالموسيقى شغف عظيم ولها مقدرة ملحوظة في العزف على البيان وموهبة في سرد القصص جعلت لها شهرة عظيمة في هذا الباب حتى لقد كانت في حفلات الرقص تجتذب إليها كثيرين ممن يفضلون أن يستمعوا إليها على ان يشهدوا ما يدور في تلك الحفلات، وكان الطفل يستمع إلى سيرتها في اهتمام كلما تحدث عنها الخدم أو تحدثت عنها العمة تاتيانا فتقوم في ذهنه صورة لها تطمئن لها نفسه ويبتهج فؤاده وتظل هذه الأحاديث تهجس في خاطره فتزداد صورة أمه وضوحا في نفسه كلما تقدم به العمر فإذا كتب عن أمه غدا فيما يكتب قال: (لست أذكر أمي؛ لقد كنت ابن سنة ونصف حين ماتت، وبسبب مصادفة عجيبة لم تحفظ لها صورة على ذلك فلا أستطيعأن أرسم في خيالي صورتها المادية. وإنيلفرح بهذا من وجهة نظر هي أن ما يقوم بذهني لها إذ أتصورها إنما هو صورتها الروحية، وكل ما أعلمه عنها من هذه الناحية جميل، وأظن إن ذلك لم يكن مرده إلى أن من يتحدثون عنها لا يذكرون لي إلا الخير وإنما كان مرده إلى إن نفسها كانت تنطوي على كثير من الخير حقاً.

ويبقى في ذاكرته من أحاديث الناس عنها الشيء الكثير ولكنه معجب بصفة من صفاتها يراها خير الصفات جميعا ويشير إلى ذلك في قوله (أن أرفع خلالها قيمة هي إنها كانت على حرارة مزاجها وبسرعة تأثرها تضبط نفسها ابدا، ولقد يحمر وجهها ولقد تبكي كما أخبرتني خادمتها ولكنها لا تلفظ قط لفظة نابية بل إنها لا تعرف واحدة من تلك الكلمات) ويقول عنها كذلك (إنها كانت تبدوا في خيالي مخلوقا علويا روحيا طهورا وبلغت من ذلك

ص: 21

حدا جعلني في الحقبة الوسطى من عمري أيان جهادي ضد المغريات والوساوس القاهرة اتجه إلى روحها مصليا مبهلا إليها في صلواتي أن تأخذ بيدي. ولقد كان لي في أكثر الأحيان في هذه الصلوات كثير من العون).

ذلك أثر أمه في نفسه وإن لم يرها أما أبوه فقد كان يجلس ليو طيب قلبه وشدة عطفه على أبنائه، وكان يحب قصصه التي يتلوها عليهم أثناء الطعام كما كان يراه رفيقا بهم لا يعنفهم على زياطهم ولا يضيق بهم إذا دخلوا عليه حجرة مكتبه؛ وكان يعجب ليو بوجاهة أبيه وأناقة ملبسه إذا تأهب للذهاب إلى المدينة، وبمهارته ونشاطه وجمال طلعته إذا خرج للصيد. وكم كان ينظر إليه في إعجاب وهو جالس في مركبته وحوله عن قرب خدمه وكلاب صيده. . . كم كان يداخل الطفل شعور الإعجاب به لما يرى من هيبته؛ واستطاع خياله الناشئ واستطاعت عيناه الصغيرتان أن تنفذا إلى سر تلك الهيبة وهو احترام الرجل نفسه وصونه كرامته فما يطأطئ أبوه رأسه أو يخفض صوته أو يغير لهجته لدى أي كبير من الحاكمين مهما علا مقامه؛ ثم إنه يفطن إلى معنى آخر يحبب أباه إليه، وذلك إنه على ترفعه واستكباره أحيانا على مزارعيه يعطف عليهم فلا يرضى لهم بالعقوبة البدنية ولا يحب ان يرهقهم بالعمل فإذا حدث لهم شئ من ذلك كان على غير علم منه وإذا علم بشيء منه نهى عنه واشتد في النهي وأخلص فيه.

وسيرث ليو صفات أبيه فيكون عطوفا رؤوفا يكره العنف على المزارعين ويحب أن يعلمهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور؛ ولكنه كذلك سوف ينشا معتدا بذاته كثير الذهاب بنفسه سريع الميل إلى ازدراء غيره، ومهما حاول التغلب على تلك النزعات في طبعه غلبته على أمره في كثير من المواقف فيزهى ويتكبر ولا يقوم في نفسه إلا شعوره بما نشأ من أيامه من دلائل العظمة والثراء وعراقة الأصل، وحسبه أن ليس هناك في ياسنايابوليانا وما حولها قوم لهم السيادة والجاه منذ عهد بطرس الأكبر إلا آل تولستوي. . .

وأحب ليو اخوته حبا شديدا وأحب اللعب معهم كلما أطلقهم المربي من حجرة الدراسة؛ أحب أكبرهم نيقولا لأنه يعلمه كل شيء ولأنه عطوف عليه مرح فكه الحديث، يراه ليو لا يبارى في سرد الحكايات والقصص الجميلة وفي رسم الصور المختلفة والأشكال والألوان وأحب سيرجى لوجاهة منظره وأعجبه منه حبه الغناء واللهو وكبرياؤه وعدم مبالاته بما

ص: 22

عسى أن يقول عنه القائلون؛ أما ديمتري وهو أقرب الثلاثة إليه سنا فكان يأنس بهدوئه وابتسامته الحلوة وعاطفته الرقيقة. . .

وكانت من أحب الألعاب إليه تلك اللعبة التي ابتكرها نيقولا؛ فقد أسر إليه إنه اهتدى إلى نوع من السحر يستطيع به أن يجعل الناس جميعا على ظهرالأرضأحبابا بعضهم لبعض، وإن سحره هذا منقوش على غصن أخضر دفنه في مكان ما بالقرب من موضع حدده لهم، ثم دعاهم إلى الجلوس معا جنبا إلى جنب في بقعة صغيرة يظللهم سقف واحد كما تفعل النمل لتكون لهم مثل اخوة النمل ومحبة جماعاته، فاقبلوا حيث جلسوا تحت غطاء من القماش وضعوه على بعض الكراسي وتلاصقوا هنا وهناك في تعاطف ومودة وأخذ يحدثهم نيقولا إنه بالحب المشترك المتبادل يستطيع الناس أن يكونوا اخوة وهكذا صارت هذه اللعبة من أحب الألعاب إلى الاخوة، ولكم أن تجتمعوا تحت خوان أو في ركن من الأركان ومثلوا اخوة النمل، وأحدثت اللعبة أثرها في خيال ليو ووجدانه فقبل أن يبلغ السادسة من عمره يستقر في نفسه حلم لذيذ عن عالم جديد يرتبط فيه الناس بعضهم ببعض برباط الحب والمودة حتى يصبحوا بذلك إخوانا. . .

استقر هذا الحلم في نفس الطفل وهو دون السادسة ومازال مستقرا فيها حتى بعد أن جاوز السبعين من عمره فقد كتب إذ ذاك يذكر ذلك الحلم فقال (إن ذلك المثال وهو اخوة النمل وتعلقنا بعضنا ببعض متحابين أبقى قائما في نفسي لا يتغير وإن لم يعد كما كان أمس تحت قماش يظلل كرسيين عاليين فهو اليوم عندي تعلق البشر بعضهم ببعض متحابين تحت غطاء عظيم هو قبة السماء وكما صدقت يومئذ إن هناك عصا صغيرة خضراء نقشت عليها تلك الرسالة التي تمحق الشر كله في نفوس الناس وتهي لهم السعادة العامة فكذلك أعتقد اليوم ان هذه حقيقة ممكنة تنكشف للناس وسوف يمنحهم كشفها كل ما تعدهم به من سعادة).

ولقد أوصى تولستوي فيما بعد أن يدفن حين يموت حيث دفنت تلك العصا الخضراء. في تلك البقعة التي صارت حبيبة إلى قلبي من أجل ذلك الغصن الأخضر الذي أوحى إلى نفسي أن يتحاب الناس جميعا ويتآخوا على نحو ما تنطق به قصة أخيه؛ ولقد دفن فعلا الكاتب العظيم في الموضع الذي عينه أخوه مثوى للغصن الأخضر وذلك بعد ستة وسبعين

ص: 23

عاما من قصة ذلك الغصن!

وحدثهم نيقولا حديثا آخر أبهج نفوسهم الصغيرة وملاها شوقا وتطلعا وذلك إنه سيقودهم إلى تل ما وسيبلغ بهم قمته، فإذا بلغوها وطلبت نفوسهم أي شئ فلا يلبثون دون أن يكون بين ايديهم، ولكنهم لن يقودهم إلى ذلك التل إلا أن يجيبوا إلى ما يطلب إليهم أداؤه، فعلى كل منهم أن يقف في ركن فلا يتجه ذهنهم لحظة إلى دب أبيض عي عليهم أنلايخطر ببالهم هذا الدب، وعليه أن يمشي مستقيما على شق بين الألواح الخشبية فلا يميل، ثم عليه أن يمتنع عاما كاملاً عن رؤية أرنب حي أو ميت أو معد للمائدة، ومن أخذ نفسه منهم بهذه الشروط فليقسم أن تظل سراً لا يفشيه إلى أحد.

وكم أتجه ليو بخياله ووجدانه إلى ذلك الغصن الأخضر يود أن يعلم ما نقش عليه من سحر، وإلى ذلك التل العجيب يتوق أن يبلغ قمته، وما علمه أخوه إلا أخوة النمل وإلا تلك الشروط التي لابد من أداءها لمن يطمع أن يبلغ قمة التل. . .

ويتطلع ليو إلى سيرجي يريد أن يكون مثله، تحدثه نفسه إذا قارن بينه وبين نيقولا إنه يفضل أن تكون له وجهة سيرجي ولو أنه معجب بأقاصيص نيقولا وسحره ونكاته؛ وهو مولع بتقليد سيرجي فيما يعمل، ولكنه يألم ألا يستطيع أن تكون له مثل وجاهته فلم يجدي في ذلك تقليد، وكان وجاهة أخيه أحب صفاته إليه فما أشقاه أن تكون هي الصفة التي تستعصي عليه؛ وإنه مهما حاكاه في الغناء واللهو والاعتداد بالنفس فلن يزال يشعر بعدم الرضا ان لم يكن له ما لأخيه من حسن السمة وجمال الطلعة؛ وثمة شيء أخر لا يستطيع ليو ان يحاكى فيه أخاه، وذلك عدم مبالات سيرجي بما عسى أن يقول الناس عنه، فهو لم يكن يوماً معنياً بنفسه وإنما يسير على سجيته لا يشغل باله بالتفكير في ذاته، وقد خلق ليو على نقيض أخي فهو بنفسه معني منذ صغره، عظيم الاهتمام بآراء الناس عنه، شديد الإحساس بذاته، كثير الانطواء على نفسه، وتلك خلة أتعبته منذ نشأته وستكون منبع كثير من متاعبه في مستقبل الأيام.

(يتبع)

الخفيف

ص: 24

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيني

856 -

فراق النبي وفراق المتنبي. . .!

تاريخ بغداد للخطيب: أبو علي ابن أبي حامد قال: سمعت خلقا بحلب يحكون - وأبو الطيب المتنبي بها إذ ذاك - إنه تنبأ في بادية السماوة. . . وكان قد تلا على البوادي كلاما ذكر إنه قرآن أنزل عليه، وكانوا يحكون له سورا كثيرة، نسخت منها سورة ضاعت، وبقى أولها في حفظي، وهي (والنجم السيار والفلك الدوار والليل والنهار إن الكافر في أخطار. أمض على سننك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من الحد في دينه وضل عن سبيله) وهي طويلة لم يبق في حفظي منها غير هذا. . .

قال أبو علي بنأبيحامد: قال ليأبيونحن في حلب وقد سمع قوما يحكون علىأبيالطيب هذه السورة: لولا جهله، أين قوله: أمض على سننك إلى آخر الكلام من قوله الله تعالى: (فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين).

إلى آخر القصة، وهل تتقارب الفصاحة فيهما، أو يشتبه الكلامان.

857 -

جل (الكتاب) عن الشبيه

في شرح النهج لابن أبي الحديد:

قد اشتملت كتب المتكلمين على المقايسة بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر ليبينوا فضل القران وزيادة فصاحته على كلام العرب نحو مقاييسهم بين قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) وبين قوله القائل: القتل أنفى للقتل ونحو مقايستهم بين قول (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين) وبين قول الشاعر:

فإن عرضوا بالشر فاصفح تكرما

وإن كتموا عنك الحديث فلا تسل

ونحو إيرادهم كلام مسيلمة وأحمد بن عبد الله بن سليمان المعري وعبد الله بن المقفع والموازنة والمقايسة بين ذلك وبين القرآن المجيد وإيضاح إنه لا يبلغ ذلك إلى درجة القرآن العزيز في الفصاحة ولا يقاربها.

858 -

. . . لن يأتوا بمثل هذا القرآن

ص: 26

في (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لتقي الدين ابن تيمية:

الصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضة القرآن، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر كما اخبر به في قوله (قل: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) وأيضاً فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة لكنهم يحسون منأنفسهم العجز عن المعارضة، ولو كانوا قادرين لعارضوه، وقد انتدب غير واحد لمعارضتهم لكن جاء بكلام فضح به نفسه، وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله.

859 -

المتنبي

في خزانة الأدب للبغدادي: إيضاح المشكل لشعر المتنبي من تصانيف أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني:

حدثني أبن النجار ببغداد أن مولد المتنبي كان في الكوفة في محلة تعرف بكندة بها ثلاثة آلاف بيت، واختلف إلى كتاب، فيه أولاد أشراف الكوفة، فكان يتعلم دروس العلوية شعرا ولغة وأعرابا، فنشأ في خير حاضرة، وقال الشعر صبيا، ثم وقع إلى خير بادية فادعى الفضول الذي نبز به. . . وهو في الجملة خبيث الاعتقاد، وكان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما أضل وأما ما يدل عليه شعره فمتلون وقوله:

هون على بصر ما شق منظره

فإنما يقظات العين كالحلم

مذهب السوفسطائية، وقوله

تمتع من سهاد أو رقاد

ولا تأمل كري تحت الرجام

فان لثالث الحالين معنى

سوى معنى انتباهك والمنام

مذهب التناسخ وقوله:

نحن بنو الموتى فما بالنا

نعاف ما لابد من شربه

ص: 27

فهذه الأرواح من جوه

وهذه الأجسام من شربه

مذهب الفضائية، وقوله في أبي الفضل بن العميد:

فإن يكن المهدي من بان هديه

فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي؟

مذهب الشيعة وقوله:

تخالف الناس حيى لا اتفاق لهم

إلا على شجب والخلف في الشجب

فقيل تخلد نفس المرء باقية

وقيل تشرك جسم المرء في العطب

فهذا من يقول بالنفس الناطقة، ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية. والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه، وأسلمه الله عز وجل إلى حوله وقوته وجد في الضلالات مجالا واسعا، وفي البدع والجهالات مناديح وفسحا.

860 -

وصفات ضوء الشمس تذهب بالملا

المتنبي:

تركت مدحي للنبي تعمدا

إذ كان وصفا مستطيلا كاملا

وإذا استطال الشيء قام بنفسه

وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

ص: 28

‌الحياة الأدبية في طرابلس الغرب

بين الماضي والحاضر

للأستاذ صلاح الدين بن موسى

لعل الحديث عن الأدب في هذا القطر البائس أمر فيه شئ كثير من الغرابة عند أبناء العروبة الذين ارتسمت في مخيلتهم وأفكارهم صور مبهمة غامضة عن طرابلس الغرب - أو (لوبيا) كما يحاول أن يسميها بعض المتأخرين - فهم لا يعرفون عن هذه البلاد إلا قوما خربت ديارهم وخربت مدنهم، وأصابهم من ويلات الحرب ما تركهم في غفلة أو حيرة، وهم بسببها بعيدون كل ماله صلة بالحياة الروحية شعرية كانت أم نثرية وإن أسباب المعيشة وذلك الفقر المدقع في الغذاء والكساء كانا حائلا دون انصراف القوم لتثقيف عقولهم وتحقيق النهضة الأدبية بينهم، وتلك هي الصورة الخاطئة التي ترتسم هذه الأيام في أذهان بني يعرب ويصرحون بها في مجتمعاتهم الأدبية وأنديتهم الثقافية. لهذا وقد وقفت على الحقيقة الناصعة ولمست روح النهضة الأدبية في بلاد (ليبيا) أحببت أن أجعل من حديثي هذا على صفحات (الرسالة) معرضا للفكر الحديث والنهج الأدبي في طرابلس عساي بذلك أكون قد حققت قسطا من واجبي نحو قطعة غالية من بلاد العروبة. . .

قبل الحديث عن نهضة طرابلس الغرب الحديثة سأحاول أن أعطي للقارئ صورة صادقة لتدرج الحياة الأدبية منذ العهد العثماني حتى وقتنا هذا فيرى تطور الروح الأدبي ونمو الذوق الشعري خلال هذه الحقب المتتالية ومبلغ التقدم الذي حازته هذه البلاد في زهاء ربع قرن تقريبا. . .

كانت النهضة الأدبية زاهرة يانعة، قبل احتلال الطليان طرابلس الغرب وكان فيها كثير من الأدباء المجيدين والشعراء الملهمين نذكر منهم: الشيخ علي سيالة صاحب المعلقات الشهيرة، الشيخ محمود نديم بن موسى، والشيخ إبراهيم باكير، والأستاذ العلامة سعيد المسعودي وآخرين ممن ساعدوا على نشر اللغة العربية وبعث مبادئ الحرية والحياة الصحيحة المستقلة.

وكانت جريدة (الرقيب العتيد) خير رسول أمين للنهضة الأدبية تنقل منتجات عقول الآباء ووحي شعورهم أو تفكيرهم، وكان لصاحبها الشيخ محمود نديم بن موسى اليد الطولي في

ص: 29

تشجيع الأدباء ناديا للثقافة والأدب كان يلقى فيه المحاضرات المختلفة في السياسة والأدب والاجتماع ويعقد الاجتماعات الأدبية والمساجلات الشعرية والملاحم التمثيلية.

وكان الاستعمار الإيطالي، فطغى على تلك الأفكار الوثابة وغمرها بسيل من التبلبل والارتباك وسد عليها المنافذ فلم تجد ما تتسرب منه وتسمع صوتها، وأمسى هذا الوضع السياسي يسيطر على العقول وبصرف نتاج الأدباء فيما يعود عليه بالراحة والاطمئنان ويعمل ما من شانه جلب الأهلين إليه ومحبتهم له واستسلامهم لما يريد بهم المستعمر، فكنت ترى الأديب منهم يذيب دماغه ويشحذ قريحته في نظم قصيدة أو رصف مقال في مدح الحاكم وسياسة دولته مما أقعدهم على مجاراة الأمم العربية أبعدهم عن الأدب العصري الذي يتناول كل ناحية من نواحي الحياة وحصره ضمن نطاق ضيق، فالاستعمار الإيطالي أطفئ هذا السراج الذي أخذ يضيء ما حوله واخمد جذوة هذا الروح الفياض، وأضحى الأدب منصرفا إلى غير ما يقوم الحياة الحقيقية والاستعمار يناهضه ويسعى بكل ما أوتيه من قوة في إبعادهم عما يرتجي من الأدب وإقصائهم عن غايته الشريفة ويقف عثرة في سبيل الوصول إلى حقائقه المرجوة.

. . . كانت الحرب الثانية وبالا على طرابلس الغرب قاسى أهلوها من مصائبها الشيء الكثير، فشردوا في أقاليم القطر المختلفة وهجروا المدن العامرة، وصواعق الأساطيل وقذائف الطائرات تدك البيوت القائمة وتهدم شوامخ القصور بين عويل النساء وأنين الشيوخ.

لهذا كان من الطبيعي أن تهمد الروح الأدبية تماما في هذه البلاد ويسود القطر ظلام وجهل يبعث الأسى في النفوس، وكانت سنو الحرب في طرابلس مرحلة فتور وجمود في الحياة الأدبية بل في الحياة العلمية بصورة اعم، فكانت مدارس القطر مغلقة والطلاب مشردين والشباب الذي كان يتذوق شئ من الأدب أضحى طريدا في القفار، وبات القلق يسيطر على السكان ويبعث فيهم الرهبة والخوف. وانجلت الحرب عن ديار أصابها الخراب والدمار، وشعب أخره التفرق والانشقاق وقد تربى الجهل على منصة البلاد فلا علم ولا أدب ولا صحف ولا نواد.

وكان في طرابلس الغرب بعض من ذوي العلم والعرفان ممن سلموا من براثن الحرب

ص: 30

الضروس فشمروا عن ساعد الجد والعمل وبدءوا صراعا عنيفا بين الجهل والعلم، يؤازرهم في عملهم هذا عدد من رجال الدين وضباط الوصاة البريطانيين فكان لنشاطهم هذا أثره في ازدهار الحياة العلمية والأدبية في سنين قليلة وانتشار المدارس العلمية والأندية الثقافية المنوعة فاقبل الشباب الطرابلسي ينهل م موارد العلم والأدب في مصر ويعود إلى بلاده مزودا بثقافة رفيعة ساعدت على تطور الحركة العلمية والأدبية في البلاد. وكان إقليم برقة أسبق من طرابلس في مضمار الحياة الأدبية، ولعل قربه من مصر خصه بهذه المزية السامية الرفيعة، فسرعان ما أنشئت فيه نواد مختلفة للأدب والعل، منها نادي عمر المختار، والنادي الثقافي اللذان كان عملهما مقتصرا على مدينة (بن غازي) إذ بعثا فيها الروح الأدبية شعرية كانت أم نثرية فنبغ الشعراء والكتاب الذين راو في صحيفة (برقة الجديدة) ميدانا فسيحا للتعبير عن شعورهم والإفصاح عما تجيش به نفوسهم. ولعل صاحب هذه الجريدة الفتية الأستاذ (صالح البوصير) في طليعة الشباب العاملين في الحقل الأدبي فقد قرانا له في صحيفته مقالات مختلفة في الأدب والعلم والاجتماع. وهناك الشاعر الملهم السيد (إبراهيم محمد الهويني) وله قصائد رائعة نشرتها له (برقة الجديدة) تباعا وفي إحداها قوله مادحا سمو الأمير إدريس السنوسي:

نظمت شعور القلب حتى غدا شعرا

وهذبت هذا الشعر حتى انثنى درا

ومن ذا الذي يستطيع مدحا لعنصر

تسامي فكان النجم والشمس والبدرا

أمير كان الله أعطاه حكمة

أذل بها الأعداء وقاد بها الدهرا

فأهلا بعهد قد أنيرت سماءه

وبعدا لهذاك الزمان الذي مرا

ومن الشعراء الشبان الذين أنجبتهم برقة السيد (محمد بشير المغربي) ومن درر قوله هذه القطعة الجميلة في شكوى الحياة والأصحاب:

على أي جنب في الحياة أميل

ومالي في ظل الزمان مقيل

وأي سراب قد أضل مشاعري

وظل به ماء اللجين يسيل

أسير وما هذا الطريق موصل

لأمر وقد لا يستطاب وصول

دعوت رفاقي للوقوف وإنه

قليل وما بين الرفاق دليل

فجاوبني منهم تقلب أوجه

رأيت به ما في الصدور يجول

ص: 31

فقلت لهم سيروا وحسبي وقفة

وصبر على قبح المقام جميل

وأي مقام قد أقمت فليتني

رحلت ولو أن الرحيل قفول

نسير فرادي والطريق إلى المنى

له شعب دون المدى ووصول

وللدهر والآمال بين صدورنا

صراع ودقات القلوب طبول

ألا إن أسباب النجاح قليلة

وأكثرها دون النجاح كليل

وتكاد تكون مدينة (درنة) بمناظرها الجميلة الفاتنة ملهما لكثير من الشعراء والأدباء الذين قدموا للأدب العربي فصولا أدبية قيمة وقصائد شعرية خالدة، فها هو ذا شاعرها الأول السيد (إبراهيم أسطه عمر) يعبر لنا عن شعور بلده نحو سموا الأمير السنوسي:

إلى الأمير فدته النفس اهديها

مقالة كنت قبل اليوم أخفيها

لكنني لم أجد ظرفا يلائمها

غير الذي نحن فيه قد يواتيها

مقالة ملؤها الإخلاص ارفعها

لقائد الشعب، قلب العشب ممليها

آن الأوان فما التأجيل يمنعنا

لنعلن الحق إقرارا وتنبيها

وحقنا وحدة القطرين تتبعها

حرية أنت معناها وراعيها

وفي (برقة) خلا هذين الشاعرين الشابين كثيرون وإنما لم يصلنا شئ من آثارهم العديدة (أحمد فؤاد شنيب) وهو شاعر صغير السن عاش في دمشق وعاد أخيراً إلى وطنه الأم ليبدأ نضالا أدبيا جديدا في بلاده العزيزة ومن لطيف قوله وهو في دمشق يصف ليلة مولد:

مالي أراك كدرة تتلألأ

شعت فاكسبها البهاء جمالا

وكسوت هذا الكون أسنى شعلة

سطعت فألهب نورها جمالا

وللنثر مكانه المرموقة في برقة والمحاضرات الأسبوعية تحتفل بأروع الكلمات الأدبية والسياسية ونحوها يلقيها شباب توفر على درس الأدب واللغة العربية وأسرارها وتلك هي قطعة نثرية لأديب درنة (فرج بن جليل) يتحدث فيها عن وحي الهجرة:

(في سجل الخلود ساعات فاصلة ولحظات حاسمة إذا انحرف فيها ميزان القدر يمنة أو يسرة تبعته نتائج كبيرة خالدة وأثار عظيمة باقية تجر ورائها الخير الكثير أو الشر المستطير وتبعث في الدنيا ضياء باهر أو انتشر ظلاما دامسا. ومن اخطر تلك اللحظات واعظم تلك الساعات تلك التي هاجر فيها محمد بن عبد الله، تلك اللحظة الخالدة في تاريخ

ص: 32

الإسلام ذات الفضل الأكبر في تغيير مجرى تاريخ البشرية)

وهذه قطعة أخرى لأديب شاب من شباب طرابلس الغرب يصور لنا كيف راقب الهلال وصحبة ليلة العيد:

كنا بربوة جماعة نترقب ظهور الهلال وكانت أنظارنا معلقة بالسماء نجوب بها باحثين منقبين في صفحاتها نريد بصيصا من نور يكون حجة لنا بعيد، وبعد لأي من زمن طال فيه اتجاهنا إلى السماء إذا بخط وضاء لا تكاد تدركه الأبصار يتجلى في كبدها أشار بعضنا إلى انه الهلال. . . الخ. . .

تلك يا قارئ نماذج صادقة شعرية ونثرية من أدب طرابلس الغرب، ولعلك أدركت انه لم يصل بعد إلى درجات الكمال والسمو شأنه في البلاد العربية الأخرى، ولكن الأمل العظيم أن يثمر الأدباء اللوبيون عن ساعد الجد فيبعثوا لأدبهم ماضيه القديم وتغدوا مؤلفاتهم الأدبية وكتبهم العلمية في صدارة مكتبات البلاد العربية فإن عهد الخمول وكبت الملكات وخنق الحريات قد زال بخلاص هذه البلاد من جور الإيطاليين وظلمهم واصبح الطريق ممهداً أمام الأدباء ليعززوا أدبهم ويجددوا للغة العربية منزلتها في بلادهم وليس هذا ببعيد إن شاء الله

صلاح الدين بن موسى

ص: 33

‌يقظة.

. .

(مهداة إلى الصديق الكريم الأستاذ محمد العلائي)

شاب الظلام وفارقتهُ الأنجم

والأفق عن إصباحه يتبسَّمُ

وتحدث الزهر الضحوك مبيِّناً

معنى السرور وان يكنْ لا يفهم

فاعجبْ لشارح قصة هو جاهلٌ

اسبابها، ولعالم لا يعلم

وقد اشرأبَّ النخل يُزهى جيدُه

بقلائدٍ مرجانها يتضرم

مرِحاً تداعبه الصِّبا فترى له

رقصاً عن المرح الرزين يترجم

فافرح بأعياد الطبيعة إنها

متجدداتٌ، كلُّ صبح موسمُ

وإذا تجهَّمَتِ الحياةُ هنيهة

فاصبر فوجهُ المزن فيه تجهم

كم نعمة لبست ثياب رزيَّةٍ

حتى تداعبَ من بها يتبرم

فإذا التجهم بسمةٌ، وإذا الشقا

ءُ سعادةٌ، وإذا الرزايا انعم

أو ما ترى الدخلاء في أوطاننا

قد أيقظوا الأفكار رغماً عنهم

كم ابرموا أمر الجلاء وقرروا

فإذا غدوا انقضوا الذي قد ابرموا

فأفادنا التسويفُ عزماً لا يني

عما نروم، وهمةً لا تحجم

هم أقوياء بالعتاد حقيقة ً

لكننا بالحقّ أقوى منهم

(الزقازيق)

توفيق عوض

ص: 34

‌حول مهرجان جامعة الأدباء بالفيوم:

في موكب الشعر:

للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي

قرأت هذه القصائد الثلاث التي أنشدها الأستاذة الغزالي وطاهر والعوضي في مهرجان أدباء العروبة بالفيوم والتي نشرتها (الرسالة) فوجدت فيها من قبس الفن، وروح الشاعرية، واختلاف المواهب الفنية في الشعر، ومن طريقة كل شاعر في التصوير، وأسلوبه في البيان، ما يستحق النقد والدراسة.

شعراؤنا الثلاثة متشابهون في الثقافة، متقاربون في النزاعات؛ ربطهم صلات الصداقة والأدب والدراسة في مدرسة واحدة، والحياة في ميدان واحد، أو كالواحد، بروابط قوية متينة؛ ولكنهم مع ذلك يختلفون في نزاعاتهم الفنية اختلافا كبيرا.

فالغزالي شاعر وصاحب فن في شعره؛ وطاهر شاعر يعلن بشعره الثورة على الحياة؛ والعوضي شاعر صناع يحفل شعره بالصنعة الهادئة الجميلة؛ وهذه النزاعات الفنية المتفاوتة تكاد تلمسها في هذه القصائد الثلاث كما تقرؤها في ملامح وجوههم وألوان حياتهم طوى (الغزالي) والصحارى في سفرهم لرياض الفيوم الساحرة بعد ما هزه الشوق لزيارتها، وصور ذلك كله في مطلع قصيدته الرائع:

من لسارٍ إليكِ يطوى الصحارى

هزَّه الشوقُ أن يزور فزارا

ثم يصور عواطفه وإجهاده وقلقه وسهده قبل سفره وتطلعه إلى الفيوم لتزيل عنه أثر كل هذا العناء في تصوير جميل أخاذ فاتن:

عابراً كالطيوف ولهانَ كالأنسام

هيْمان كالأماني الحيارى

مُجْهَداً علَّ في ظلالكِ مأوى

قلِقاً علَّ في رُباكِ قرارا

ومم كل هذا الإجهاد والقلق والشقاء؟ وقد فارق الشاعر محبوبه و (رفيق صباه) فعاش عيشة البائس الشقي المحروم من أجمل ما في الحياة:

يا جنان الفيوم نازحُ أيكٍ

بانَ عن عشه إليك وطارا

قد خلا العش من رفيق صباه

فمتى تالف القطاةُ الهزارا

نسلتْ ريشة الليالي طوالا

أترى تصبِحُ الليالي قصارا؟

ص: 35

ويستمر الشاعر يصور آلامه وآماله وعواطفه في حبه؛ متمنيا أن يكون له في رياض الفيوم سلوى، شاكيا إلى عذارى الرياض ما يلقاه من أترابهن العذارى:

أتراه هنا سيمسي قريراً

في رياض الفيوم طابت جوارا

يا عذارى الرياض من كل شاد

أنا أشكو إلى العذارى العذارى

أنا أشدوا لها جراحي شعراً

فعساها تُضَمِّد الأشعارا

ثم تذكرهم بحيرة قارون في دجى الليل بمحبوبه، فيشدو ويصدح مؤكدا وفاءه لعهد الأحباب:

يا أحبَّاي والديارتناءت

كيف أنسى أحبتي والديارا

لست أنسى ملاعبي والضفاف

الخضر تجري من تحتهن نضارا

لست أنسى بها مواثيق عشنا

نتحدى بصدقها الأقدارا

لست أنسى ولا أخالك تنسين

فحتى متى نطيق انتظارا

أما (طاهر) فقد شاهد قافلة الشعر تسير إلى الفيوم وفيها الأدباء والشعراء والوزير الضخم فعنى بتصوير هذا الموكب وجماله أكثر من أي شئ، إنه لموكب رائع للبيان وكما يقول:

موكب للبيان فيه اللواء

يفزعُ الدهرَ وخدُه والحُدَاءُ

ضاربٌ في صَحرائها يسبق الركب

جلالٌ من هدية ورُواءُ

مثلما يسبق الشعاعُ إذا ما

أعلن الصبحَ للوجود ذُكاءُ

والشاعر لا ينسى نفسه في هذا الموكب، وكيف ينسى وهو الذي (في محرابه يعبد الفن وتستهوي ضوءه الأضواء)؟

لو تحس البيداء منِ سار فيها

لتغنَّت من شجوها البيداءُ

شاعر في محرابه يُعبد الفنُّ

وتستهوي ضوءه الأضواءُ

ذو بيان لو عاقرته الندامى

لتناهت عن شربها الندماءُ

وهتوف يكاد يشرق في أنحاءه

الخبر والمنى والرجاءُ

ثم يعلى شأن الفن في الحياة ويثور على العلم الذي أصبح المعلول الهدام في صرح الحضارة:

ومن الشعر ما يعلمك الحق

إذا موَّه الوجودَ الرياء

ص: 36

ربما استعنت الحياة عن العلم

على رغم ما أتى العلماء

وعلى الفن وحده عاش أج

دادُك دهراً وهم به سعداء

ثم يعود إلى قافلة الشعر وموكب الشعراء ومن فيه من (الأبدال والأدباء) و (الوزير الضخم) حتى يحط رحاله في رياض الفيوم:

وإذا نحن في رياض من الشعر

لها رونق وفيها صفاء

ثم يشيد برحم الفن وصلات الأدب التي جمعت بين أدباء الجامعة وبين أدباء الفيوم:

صلة وثَّق البيان عراها

ونماها فكلنا أقرباء

جمع الشعر بيننا في صعيد

ومن الشعر منسب وإخاء

أما (العوضى) فقد وصف ذكرياته في الليالي البعيدة مع أحبائه، وأثر هذه الذكريات في قلبه، ثم وصف روضات الفيوم وجمالها، (الأخوان الكرام) الذين استقبلوه هو وصحبة فيها، وصلات الأدب والعروبة التي تجمع بين الأدباء والشعراء، يقول:

حدا الركبَ حادية فأين مكانيا

أُبين من الأشواق ما كان خافيا

على شفتِي من خمرة الحب نشوة

تَلهَّب ترنيمي بها وغنائيا

لنا ذكريات في الليالي بعيدة

ألا من يعيد اليوم تلك اللياليا

ثم يستمر في شدوه الهادئ وتصويره المصنوع فيصف الفيوم وفتنها:

سقى الله في الفيوم روضات فتنة

ونضر فيها أربعاً ومغانيا

فراديس منضورٌ بها الظل والجنى

تألَّقُ نوَّاراً وتسحر شاديا

وإخوانه الكرام فيها الذين سقوه صافى الود:

فجئنا لأخوان كرام وصحبة

سقونا من الودِّ المطهر صافيا

ويشيد بصلة العروبة التي جمعت بين الجميع وبذلك ينتهي من قصيدته:

هذه هي الأغراض العامة لكل شاعر في قصيدته وهي تجمع بين العواطف الوجدانية والوصف الفني، وكنا نود أن تكون قصائد هؤلاء الشعراء أوسع نطاقا من هذا الأفق المحدود؛ ما ضرهم لو كانت قصائدهم في القرية والحياة فيها أو في النيل وأثره في وحدة الوادي أو في العلم وآثاره على الحضارة في عصر الذرة، أو في شتى الأغراض القومية أو الإنسانية العليا؟ ولكنهم أثروا تلك السبيل الفنية وحدها فلم يشعروا إلا فيها وفيما يتصل

ص: 37

بها من العواطف الوجدانية وإن كان (طاهر) قد خرج قليلا عن هذا المجال فأشاد بالفن وأعلن الثورة على العلم والعلماء:

إنَّ من أطلقوا العقول علينا

لست تدري: أأحسنوا أمأساءوا

ربما استغنت الحياة عن العلم

على رغم ما أتى العلماء

أما من حيث الأسلوب: فالغزالي يشعر ويسحر ويبلغ في التصوير منزلة كبيرة، نجد ظلالها في كثير من أبياته كما يقول عن نفسه:

عابراً كالطيوف ولهان كالأن

سام هيمان كالأماني الحيارى

وقوله وهو يعبر عن نفسه أيضا:

يعبر الليل في خداع الأماني

وتمِّنى آصالة الأسحار

وقوله:

والشوادي من حولنا مرهفاتٌ

سمعَها تستبينُنَا الأسرار

وقوله:

لست أنسى بها مواثيق عشنْا

نتحدَّى بصدقها الأقدار

وسوى ذلك من قصيدته التي تمتاز بما فيها من (عيون) كما يقول النقاد؛ ولكنه على رغم ذلك يخطئ سبيل الفن أحيانا فبيته:

يا عذارى الرياض من كل شاد

أنا أشكو إلى العذارى العذارى

يقصد فيه العذارى حقا؛ فوصفهن بالسحر والفتنة ورقة العاطفة أولى من وصفهم بالشدو، بل وصفهم بالشدو يكاد يكون لا معنى لتخصصهن به من بين سائر الأوصاف. ولو قال (من كل أحوى)، مثلا لكان أولى؛ وتضميد الأشعار في بيته:

أنا أشدُو لها جراحي شعرا

فعساها تضمّدُ الأشعاراً

لا معنى له، فما ألفنا في القول بان الأشعار تمثلت جراحا بل هي استعارة نافرة عن سمع العربي وذوقه. والبيت:

والتي قد تخذْتُها مجدافي

خصل أُرسلتْ عليَّ نثارا

لم أفهمه فوق ما فيه من (تشعيث) قافيته، وهذه الهنات لا تغض من القصيدة مكانها الأدبية.

أما (طاهر) فمستوى الشاعرية في أسلوبه، ولكنه في ثورته الفنية التي يستمدها من روحه

ص: 38

الثائرة، يبعد أحيانا عن الاجادة، كما تراه في قوله:

الطريقَ الطريق: قافلةُ الشعر

وركب الوزير والوزراء

وفي قوله يتحدث عن حلهم في رياض الفيوم:

طرق الشعر بابها، فإذا شعر

يقول: ادخلوا وطاب الثواء

وذلك سبيله في فنه، يثور حتى على سبل الفن الواضحة المألوفة. و (العوضى) أظهر استواء في شاعريتهلأنأسلوبه أسلوب مصنوع تأنق الشاعر في صوغه كما أراد، وهو فيه هادئ واضح، من حيث كان (طاهر) مفكرا ثائرا، والغزالي فنانا شاعرا.

وفي قصيدة (طاهر) روح الحارث ومعلقته:

آذنتْنا بينها أسماء

رب ثاو يملُ منه الثواء

بل هو يستعير يعض أبياتها:

اجمعوا أمرهم عشاء فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

كما يستعير بعض ألفاظها وقوافيها، ولكنه مع ذلك ذو شخصية قوية في قصيدته.

والغزالي يشترك في بعض معانيه مع بعض الشعراء؛ فبيته:

نسلتْ ريشه الليالي طوالا

أترى تصبح الليالي قصارا؟

شبيه بقول ابن أبي ربيعه في المعنى والوزن والقافية من قصيدة طويلى:

والليالي إذا نأيِتِ طوالٌ

وأراها إذا دنوتِ قصارا

ولكن في قوله (نسلت ريشه الليالي) زيادة في بليغة ليس لها نظير في بيت عمر.

أما العوضي فتكاد قصيدته تشبه قصيدة جرير - في الفن والروح:

ألا أيها الوادي الذي ضمَّ سيله

إلينا نوى ظمياءُ حييِّتَ واديا

إذا ما أراد الحي أن يتفرقوا

وحنَّت جمال الحيّ حنِّت جماليا

وان كانت تختلف عنها في كثير من الأوصاف الفنية.

هذا ما أردت أن أذكره من نقد أدبي لهذه القصائد الثلاث لشعراء لهم من بين شعرائنا الشبان مكانة ممتازة ومجد أدبي نرجو أن يعملوا له ليكون لذلك أثره في مستقبل القريض وبالله التوفيق.

ص: 39

‌الأدب والفن في أسبوع

محو الخلافات المذهبية توثيق لعرى الوحدة الإسلامية:

تألفت في مصر لجنة كبار رجال الفكر وعلماء الفقه والمعنيين بالدراسات الإسلامية هدفها رفع الخلافات المذهبية بين المسلمين وتمحيص المسائل التي هي مثار هذه الخلافات في ضوء البحث الحر والتغاضي عن النزعات التي تدعو إلى التعصب في الفروع والمسائل الشكلية.

وهذا هو الواقع عميل جليل، فإن هذه الخلافات التافهة كانت شر ما منيت به الوحدة الإسلامية، وكانت عامل التفرقة بين صفوف المسلمين، حتى شتتت شملهم وصدعت بنيانهم الأصيل، فلم يقو على رد المستعمر الدخيل.

لم تكن هذه الخلافات في شئ من أصول الدين الواضحة، ولكنها كانت من صنع السياسة وأصحاب الأغراض والمآرب في الملك والحكم يوم كان الدين هو الأساس في الملك والحكم، فأخذ هؤلاء يؤلفون العصبيات ويخلقون الجماعات، بما يختلقون من الأخبار والآثار، وبما يعملون في إثارة النفوس وتأريث العداوات، وزاد في البلاء بهذا صنيع الجهلة من الفقهاء الذين كانوا يستجيبون لأهل السلطان وطلاب الحكم بما يقوي نعراتهم ويتمشى مع أهوائهم ومن العجيب أن الأيام تطورت، والأحداث تواترت، وفتح على المسلمين من أبواب البلاء والعناء ما بصرهم بعاقبة الوبال في تلك الخلافات التي فرقت الصفوف، وباعدت بين القلوب ولكنهم لم يتبصروا لحالهم، ولم يدبروا لشانهم، ولم يسارعوا إلى إنقاذ أنفسهم، حتى يمكنهم أن ينقذوا أنفسهم من غيرهم!!

وكثير ما أشفق عقلاء المسلمين من هذه الحال الأليمة، وكثير ما أهاب المصلحون والغير على الإسلام والوحدة الإسلامية بالمسلمين أن يتلافوا تلك الصغائر وأن يوحدوا بين اتجاههم في الرأي لتم لهم الوحدة في الغاية والهدف بازاء الاستعمار الأجنبي وتغلغل الدول الأوربية في بلادهم، وقد كان السيد جمال الدين الأفغاني رضوان الله عليه وهو شريف النسب يعتد بنسبه كثيرا - أول من ندد بهذه الحال وسخر من المسلمين لإصرارهم عليها وهزئ بأولئك الذين يتخذونها مجالا للكلام، ومن كلماته المأثورة في ذلك (لا يصح بحال أن نجسم أمر هذه الفروق في الفروع ونجعلها واسطة للتفرقة وللنزاع فالخصام والاقتتال، وإذا

ص: 40

سلمنا أن وجود جهل الأمة وسفه الملوك الطامعين في توسيع ممالكهم كان مفيدا في الزمن الماضي، أو يرجى ورائه إحقاق حق وإزهاق باطل فأن بقاء هذه النعرة إلى اليوم ليس فيه إلا محض الضرر وتفكيك عرى الوحدة الإسلامية وقد آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة ومن هذا الموت قبل الموت. .)

هذه الصيحة التي هتف بها السيد جمال الدين الأفغاني منذ أكثر من ستين عاما كثيرا ما تداولها الألسن، وتناولتها الأقلام، وهتف بها المشفقون على الوحدة الإسلامية والداعون لجمع كلمة المسلمين، حتى اقتنع السواد الأعظم بضرورة تحقيقها ووجوب العمل على تنفيذها وإني لأذكر إنه لما عقد المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931 تقدم فضيلة السيد آل كاشف الغطاء وأم وفود المسلمين للصلاة في المسجد فطرب المسلمون في سائر أنحاءالأرضلهذا النبأ ورأوه بشير خير وتمنوا أن تكون هذه بداية القضاء على الفروق المذهبية القائمة. وقد كان من الطبيعي أن يفزع الاستعماريون لهذا، وأن يتساءلوا عن الخطوة التي تكون بعده، ولذلك أخذت الصحف الأجنبية يومذاك تعلق على هذا النبأ بمختلف التأويلات، والتهويلات، وقالت إحداها وهي بسبيل تحذير الاستعمار الأوربي: يظهر إن المسلمين بدءوا يجمعون كلمتهم للقيام بحرب مقدسة ضد العرب من أجل إبقاء فلسطين.

وفي مقام الأنصاف نذكر أن المغفور له الشيخ المراغي طالما ردد الدعوة إلى هذا الغرض، ونادى جهارا للعمل على تلافي تلك الخلافات التي لا مبرر لها، والتي تؤدي إلى الأضرار بالمسلمين بقدر ما تفيد الاستعمار والمستعمرين.

ولعل القراء يذكرون أن (الرسالة) كثيرا ما أهابت بهذا في كل فرصة سانحة ومناسبة داعية، وكثيرا ما باركت أصوات الدعاة لهذا العمل، والحداة للركب أن يسير، ثم كثيرا ما تعجبت للمسلمين أن تظل بينهم هذه الخلافات قائمة وهم الذين يتوجهون جميعا إلى قبلة واحدة، ويأخذون بكتاب واحد هو القرآن ويسيرون بهدى نبي واحد هو محمد صلوات الله عليه، فإذا ما تألفت اليوم لجنة من أكابر الفضلاء والعقلاء للعمل على محو هذه الخلافات وتمحيص الآراء في دائرة الفكر الحر، فإن مما يطرب الرسالة أن تبارك هذا العمل وأن ترجوا التوفيق فيه، كما يطربها ويسرها أن تسهم في ذلك، وأن تفسح في صفحاتها لما

ص: 41

يكون من تمحيص فكرة، أو تصحيح رأي، أو تحقيق مسالة، أو إذاعة دعوة في هذا السبيل.

كان. . . ثم انقضى!

إلى عهد أدركناه كان المولد النبوي الشريف موسما للأدب والشعر والفن والغناء وكان في هذا مجلى العبقريات الكبيرة والأصوات الرخيمة، والمواكب الضخمة الحافلة بكل لون وكانت مصر تمضي على هذا ثمانية أيام وكأنها في فرح شامل عام وكأني بالناس قد ابتدعوا بدعة الحلوى في المولد النبوي حتى يتخففوا من الطعام الثقيل ليفرغوا إلى ما ينشدون في مباهج المولد من متع الفن ومجاليه. . .

كان المولد النبوي موسما للسهرات العظيمة الممتعة بقيمها الأثرياء والوجهاء من أرباب البيوتات الكبيرة العريقة، ويستقدمون لإحيائها عباقرة المغنين وأهل الفن من أمثال عبدة الحموالي ويوسف المنيلاوي وأحمد ندا وعبد الحي ومحمد عثمان وغيرهم؛ ويفتحون أبوابها لرواد الحظوظ والسماع من سائر الطبقات، ويمدون في أسبابها إلى نفوس الفقراء بنحر الذبائح وإطعام الطعام. . .

وكان المولد النبوي موسما لأقامة الحضرات الشجية الفخمة، يقيمها أبناء الطريق على شروطهم ويحيها كبار المنشدين على ذوقهم، ويقبل عليها الناس من كل لون، يستمعون لرائع التواشيح ورائق الفن. .

كان المولد النبوي ذكرى تهز عواطف الشعراء، وتملا وجدانهم، وتسموا بنفوسهم وأرواحهم، فتجيش شاعريتهم بأقوى القصيد وبارع النشيد، ويهل (شوقي) على العالم الإسلامي ليهز عواطفه بقوله:(ولد الهدى فالكائنات ضياء.)

وأخيراً كان المولد النبوي صلة بين الحاكمين والمحكومين، فكان الشعب والحكومة يلتقيان في ساحة، ويتقابلان في أحيائه، ويتقاربان في ذلك على المحبة والألفة والتخلص من الأوضاع الرسمية والبرامج الأميرية ولهذا كان الشعب يشعر دائما بأنه قريب من نفوس الحاكمين. . .

كان هذا كله. . . وكان المولد النبوي يأتي كل عام بجديد في هذا كله أما اليوم فقد انقضى هذا كله، وأصبح الشعب بسائر طوائفه وطبقاته لا يحس بهذا المولد الأعلى وضع رسمي

ص: 42

آلي، فالموظف لا يعنيه منه إلا إنه يوم راحة من عناء الديوان، والتاجر لا يحفل فيه إلا ببيع لعب الحلوى للاطفال، وطوائف الشعب لا تستقبله إلا على أنه عادة خلقتها الأيام، أما أبناء الذوات والبيوتات فلم يعد هذا الموسم منهم على بال، وهيهات أن يبلغ في تقديرهم مبلغ سهرة من سهرات (بديعة). وأما أرباب الشعر والفنفإنهميعتقدون أن المناسبة فيه مناسبة قديمة عتيقة. وهكذا مضى المولد النبوي هذا العام وكأنها الرسوم المحلية، وكلمات ألقاها بعض الوعاظ والخطباء وهي لا تعدوا الألفاظ والتعابير التي تموت على الشفاه. . . فما الذي عدا مما بدا؟ هي طبيعة العصر ووجهته، أم ظروف العيش وقسوته، أم هو صنيع الآلة بنا حتى أصبحنا لا نحس الحياة في أجلى مظاهرها إلا على وضع آلي؟!. . .

شاعر يتحدث عن الشعر:

ألقى الأستاذ عمر أبو ريشة الشاعر المعروف في (النادي العربي) بدمشق حديثا عن الشعر وما ينشد من المثل الأعلى في الحياة قال فيه:

(. . . كم شعرت برعشة وأنا أقرا بعض الشعر! وكم حاولت أن أتبين المواطن التي أثارت عندي هذه الرعشة فكنت أبوء بالخيبة)

(أنا في كل يوم أحب وأكره، وأومن وأكفر، فلا أقيم على رأي، ولا أستقر على اتجاه. . . قرأت منذ أمد بعيد الملاحم في الشعر، فأسكرتني روعتها، وهزتني حيويتها، حتى إذا كدت احسبها ما ينتهي إليه طموح شاعر، سمعتني أتمتم بيني وبين نفسي: ما لي ولهذا الشعر الذي ترضعه الخرافة، ويريبه المجهول، ليصبح تسبيحا للماضي السحيق الموهوم؟ ومرت الأيام، إذا أنا في إحدى العشيات، وبعد أن شيعت صديقا عزيزا علي إلى مقره الأخير أمد يدي إلى (الألياذة) مندفعا برغبة ملحة إلى قراءة دموع (أخيل) على جثمان صديقه (بتروكلس)، تلك الدموع التي قراها قبل الشاعر (بيرون)، فشعرت بميل خفي نحو (هومير) فرجعت إليه وقرأته مرة ثانية في نشوة وطرب وأصبحت أجد في الملاحم متعة للنفس المثقلة بأسرار الحياة وأعبائها، فإذا كانت غاية الشعر كما تقول بعض الآراء أن يرفه عن النفس، ويخرجها من افقها الضيق، وينسبها ما يحيط بها من متاعب الدنيا ولو إلى حين، فلماذا أربأ بالشعر أن يكون مشحونا بالخرافات والأوهام؟)

(وقد قرأت الشيء الكثير من القصائد والمقطوعات الشرقية والغربية حتى إذا ارتويت، أو

ص: 43

ظننت أني ارتويت، سمعتني مرة أتمتم بيني وبين نفسي: ما لي ولهذا الشعر الذي يخنق الروح الحساسة المرهفة، ثم ينشرها أشلاء مشوهة بألفاظه وتعابيره. . إن الحياة والطبيعة ينبوع الشعر، وهو ما تعيه الروح قبل أن يعيه السمع والإدراك، وليس إلى هذا الشعر الذي يروي ظمأ الروح من سبيل؟. .)

(إذن ما هو مثلي الأعلى في الشعر؟ أأريد من الشعر أن أشم فيه روائح الحياة، وأسمع منه أنفاسها، وأتذوق به نكهاتها؟ أمأريد من الشعر أن يغيبني في هذه الحياة حتى لا أعود اشعر بكياني الذاتي؟ لا أدري ماذا أريد!!. .)

(إلى هذه الدرجة انتهى بي القنوط من فهم الشعر فهما منطقيا، فعجيب إذن أني ما أزال اكتب الشعر! واعجب من هذا كله إنني أحدثكم هنا عن كيف اكتب الشعر! والواقع أني إذا تركت جانبا الموازين المنطقية التي تزن بها قيم الشعر، والتي أراها لا تشفي غلة ولا تبلغ غاية لأن الإحساس بالجمال - كما أرى - مصدره العاطفة والذوق لا العقل والعلم، وأقول أني إذا تركت تلك الموازين جانبا، والتفت إلى الشعر الذي أكتبه، وجدتني فيه شاعر قصيدة لا شاعر بيت ومقطع، والقصيدة عندي فكرة معينة ينطوي تحت أجنحتها الثلاثة: الخيال، واللون، والنغم) هذا ما تحدث به الشاعر (عمر أبو ريشة) عن الشعر، وإنه في حديثه لشاعرأيضاًيفهم الشعر بعاطفته وذوقه، ويعترف بعجزه عن أن يجد في ذلك سبيلا للموازين المنطقية، ومقتضيات العقل العلم، وهذه الحقيقة هي التي عاناها رجل المنطق (سقراط) منذ الآلف السنين إذ قال: لقد وجدت جميع الناس يفهمون الشعر أكثر مما يفهمه الشعراء أنفسهم. .

والخلاف القائم بين الشعراء والنقاد يبتدئ من هنا، فالشعراء يقولون إن الشعر مجرد عاطفة وذوق وينتهون عند هذا، والنقاد يقولون إن الشعر منطق وفهم ويتشبثون بهذا، وذو آن لنا أن نفهم أن الشعر هو الجانبان معا. وعجيب من الشاعرأبيريشة أن يقول:(إن ينبوع الشعر هو الحياة والطبيعة)، ثم ينتهي بعد ذلك إلى إنكار الموازين المنطقية في فهم الشعر، وهل (الحياة والطبيعة) عاطفة وذوق فقط، أو هما عقل ومنطق فقط؟. . . كلا! ولكنهما كل ما في الإنسان. .

مات إلياس أبو شبكة:

ص: 44

هتف الناعي من بيروت منذ أيام بموت الأديب الشاعر إلياس أبو شبكة، فعز نعيه على أصدقائه وعار في فضله، وهز فقده وجدان أبناء العروبة القادرين لفضله. . .

مات إلياس أبوشبكة وهو في عنفوان الحياة، إذ كان أوفى ما يكون نشاطا وإنتاجا وكانت آثار قلمه البليغ، وفنه الرفيع تتناثر على أبناء العروبة كأنها قطرات الطل على أوراق الزهر. وهكذا تحطمت (القيثارة) فجأة وهي لما تزال مشدودة الأوتار، تردد أعذب الألحان وأطيب الأناشيد.

نشأ إلياس رحمة الله عليه فتى يتيم، فقد فتكت يد أثيمة بوالده في مطارح الغربة بعيداً عن زوجه وصغاره، فكانت فاجعة قاسية أفعمت نفس الفتى بالألم، وأرهفت قلبه بالأسى والشجن، ثم كانت الحرب العالمية الأولى وآثارها في لبنان موطن الشاعر. . . أرض لا يعمرها (إلا أشلاء الجائعين، ونسمات لا تحمل إلا عبق البارود وأبخرة الدماء والدموع، وأطيار ماتت في الحقول على الأغصان المتكسرة والأوراق اليابسة الصفراء، وليس من حداء الحياة إلا أنين المتألمين وحشرجة البائسين)، ومن هذا كله تغذت نفس الياس، وعلى هذا كله تفتحت شاعريته، فنبت كالزنبقة البيضاء على قمم لبنان وفي أحضان أغواره يتموج بالنشيد، ويهتف بالقصيد. .

وصف فقيد الأدب (فيلكس فارس) شاعريته وهي تتماثل للتمام علم1925 فقال: (لقد قرأت شعر إلياس أبوشبكة قبل أن أعرفه، فجزعت نفسي عليه من نفسه. سمعته ينطق بأرق ما في القلب من الحب، وبأرقى ما في الحب من الوحدة والإخلاص، فقلت إنه قلب معد للسحق، مهيأ لأنيذبح على مذبح غواية الغانيات في زمان وفي وطن تمرد فيه المرأة على كل شئ لتمد عنقها صاغرة أمام آلهة التقليد والبذخ والمطامع. .)

(ورأيته يترامى متهالكا على المغاور المظلمة وقد رفع بيمناه قبس النور، ونبضات قلبه تتدفق بآيات الحكمة من فمه، فارتعشت نفسي أمام هذا الشاب المتلاعب بالحياة والموت، وقلت ان مغاور الظلمة ستبتلعه، وإن قبس النور سيحرق يمناه. .)

(وشاهدته يتهدد سلطات النفوذ والجهل والمال، ويصرخ بالأمة داعيا إلى النهضة والحياة، وسمعت في شعره أجمل شاعر لنصرة الحق على الباطل، فأمسكت على قلبي وسترت عيني بيدي حتى لا أرى ضحية جديدة وشهيدا جديدا. .).

ص: 45

(ثم رأيت إلياس أبيشبكة بعد أن قرأته، فعاينت شعره فيه، كما عاينته في شعره. . إن في لفتاته لمعات ليست من هذه البلاد ولا من هذا الزمان، لقد انتقم جسده من روحه قبل أن تنتقم السلطات منه، ويبتسم الشعب المستعبد لأقواله. .).

ذلك هو إلياس أبوشبكة الذي فقده الأدب والشعر، وتلك هي شاعريته التي خسرها الفن والحق، نمت واكتملت، وظهر من آثارها الخالدة ما أكبره أبناء العروبة وقدروه حق قدره. على إنه إلى جانب الشعر كان كاتبا له أسلوبه المشرق، وتعبيره المونق، وفنه المتدفق، فلا شك أن كان فقده نكبة للأدب وخسارة على العربية.

مبشر ثقافي أم سياسي:

لقيني صديق كريم من أبناء سوريا فحدثني عما نشرته (الرسالة) عن رحلة الأديب الفرنسي الكبير الأستاذ جورج ديهاميل إلى بلاد الشرق العربية: (لقد قرأت ما كتبتموه في عددين سابقين عن هذه الرحلة التي يقوم بها مسيو (جورج ديهاميل) الآن، ووصوله إلى مصر لألقاء بعض الأحاديث والمحاضرات، وقد أعجبني أن فطنتم للغرض من هذه الأحاديث والمحاضرات إذا قلتم إنه يقصد بهذا إلى الدعاية للثقافة الفرنسية، وأحب أن أقول لحضراتكم ولقراء الرسالة الكرام، إن ديهاميل قدم إلى أقطار الشرق العربي وفي برنامجه الرسمي الموضوع أن يرى بعينيه ما يريد العرب والمسلمون، وأن يستمع بأذنيه إلى ما عندهم من الآراء فيما يقصدون ويهدفون، وعليه من ضوء ما يرى وما يسمع، أن يذكر بما أدته الحضارة الغربية عامة، والفرنسية خاصة إلى العرب والمسلمين والى التراث الإسلامي، وأن يواجه أنظار الذين يقابلهم ويتحدث إليهم إلى أن مطامحهم لا يمكن أن تتحقق إلا بتمام الاتفاق والحرص على الاتصال بالحضارة الغربية، أو بمعنى أخص وأجلى بالحضارة الفرنسية. . . فهو في الواقع مبشر سياسي يصبغ فكرته بصبغة الثقافة، ولعل ديهاميل يقتنع في نهاية الأمر بأن الشرق قد أصبح على بينة من أمره، وأنه صار يدرك تمام الإدراك أن نفوذ الثقافة لا حد له، ولا وطن له، ولكن نفوذ السياسة يجب أن يكون محدودا بالحدود الطبيعية، محصورا بالدعائم القومية، وعلى هذا الأساس الذي هو ضمان السلام فيالأرضيريد الشرق ان يصغي على حسابه مع الغرب).

شئ مضحك؟؟

ص: 46

نشرت إحدى الصحف اليومية برقية لمراسلها الخاص يقول فيها: (إن أبناء تونس تدل على أن في هذه البلاد نهضة كبيرة في ميدان الأدب العربي بصفة خاصة، والعلوم بصفة عامة، ومن الأدلة على ذلك أن مسرحية هامة بعنوان (هرون الرشيد) ستمثل قريبا برعاية جمعية النهضة التمثيلية، وستتبعها رواية (فتح العرب لصقلية) بإشراف جمعية الاتحاد المسرحي، كما مثلت رواية (مجنون ليلى) من قبل على مسرح المدينة الرئيسي، ورواية (طارق بن زياد) ثلاث مرات).

ثم تقول البرقية: (ومن النواحي الأخرى في هذه النهضة زيادة عدد الصحف اليومية والأسبوعية، فقد ظهرت جريدة (المرآة) وهي وطنية، ومجلة الشعب التونسي - وهي تنطق بلسان نقابات العمال).

وأخيرا تقول هذه البرقية (وقد ساهمت المرأة التونسية في تثقيف بنات جنسها، واشتركت كثيرات منهن في إلقاء المحاضرات، ومنهن الآنسة - ليلى حلواني - التي تذيع رسائل بالراديو عن فائدة الرياضة للمرأة، وتجمع الآن اكتتابات لإنشاء مدينة جامعية في ضواحي تونس على مثال مشروع المدينة الجامعية في مصر، وما زالت التبرعات تتدفق على العاصمة لهذا الغرض، وقد زادت حتى الآن على عدة ملايين من الفرنكات).

قرأت هذه البرقية فضحكت، وإنها لشيء يدعو إلى الضحك، وإلى السخرية، وإلى الإشفاق! وهل ثمة أعجب وأغرب في هذا العصر من أن يعتبر تمثيل رواية، أو إنشاء مجلة، أو إذاعة آنسة لحديث دلائل (نهضة كبيرة في ميدان الأدب العربي بصفة خاصة والعلوم بصفة عامة)!! إن هذه الأمور التي تعددها البرقية وتشيد بها ليست إلا أمور بدائية ينهض بها التلامذة في مدارسهم. ففي أي مدرسة ثانوية يمثلون الروايات، ويصدرون المجلات، ويذيعون المحاضرات والمناظرات، فكان هذه (النهضة الكبيرة) في تونس بعد هذا الدهر الطويل ليست إلا نهضة مدرسة ثانوية لا أكثر ولا أقل.

على إنك إذا علمت أن هذه البرقية إنما أذيعت من باريس، وأنها دعاية استعمارية هدفها التمويه والتلبيس، وتبينت حقيقة الحال في ذلك القطر الشقيق، وأدركت أن هذا الذي يمن به الفرنسيون في تلك البرقية قد كشف صنيعهم، وأظهر للناس كيف أن الحياة الأدبية في قطر عريق عتيد لا تزال عند ذلك الوضع البدائي التافه الذي لا يعدو مشاهدة رواية

ص: 47

تمثيلية، وذلك كله بفضل الاستعمار الفرنسي العريق العتيد!!

لقد آن لفرنسا أن تعلم أن كل هذا العناء في التمويه أصبح لا يجدي ولا يخفي حقيقة الحال في تونس، فإن أبناء العرب في سائر الأقطار يدركون الحقيقة فيما تفرضه على الثقافة هناك من حجر، وعلى حرية الرأي من حصر، وعلى الإنتاج الفكري من رقابة أشبه بالرقابة العرفية. .

(الجاحظ)

فن وتجارة

أرسل إلينا الأستاذ يوسف وهبي بك في آخر لحظة كلمة يرد بها على ما كتبه (الجاحظ) في العدد الماضي تحت هذا العنوان فأجلنا نشرها مضطرين إلى العدد القادم.

ص: 48

‌الكتب:

ذكريات عشرين عاما في مصحة حلوان:

تأليف الدكتور عبد الرؤوف بك حسن مدير المصحة

عرض وتعليق في خطاب مودة وتقدير

للدكتور لويس دوس

أستاذي القديم وصديقي الكريم:

أهديت إليّ مع الكتاب مودتك وتقديرك، فإذا مودتك يثب إليها من مهجتي صنو يأتلف من الأرواح المجندة، وإذا تقديرك فيما يتم عليه من تواضع العلماء الفضلاء يبتعث في نفسي مالك فيها من كامن الشعور المضاعف بالنظير. وإنيلأعكف على كتابك قارئا ملتهما فآتى عليه في ساعة أو نحوها، وإذا شاعريتك المتأججة الجياشة وراء علمك وطبك تهز مشاعري ترجيعا لمشاعرك، وإذا ذكرياتك تهتاج في نفسي مثيلات تتداعى لها فينشط قلمي ليجلوها عليك.

بدأت كتابك من حيث بدأت صلتك بمصحتك، وقبيل تلك البداية كان أول عهدي بك، إذ كنت معيدا بكلية الطب ردحا من الزمن، وكنت مستهلا دراستي الطبية في غمار جم من الطلاب غفير. وأشهد لقد كان يروقني أسلوب تدريسك والرجل، بله المعلم، هو الأسلوب - وكنت استشف منه روح الشاعر الأديب وراء ذهن المعلم الطبيب، وتلك روح ما فتئت أراها مناط التمايز في التدريس الطبي، وقليل من يؤتاها، ولقد أوتيتا حديثا وكتابة بما تغبط عليه، حتى لأذكر إنني ضننت في محفوظاتي إلى أمد قريب بعجالة لك بالإنكليزية عن البلهارسيا تشهد لك في هذه اللغة - فضلا عن العربية - بجودة البيان. ولقد شاقني من بعد ما تأتى لي من كتاباتك، فلا غرو أن يشوقني كتابك عن مصحة الحلوان، وإن في موضوعك هذا لخافية لست أدري ما كننها، ولكنني عليم إنها تشوق كل طبيب أديب. ألم تصف كيف شاقتك، بل ألهبت خيالك فكرة إنشاء المصحة، ولما تزال طبيبا ناشئا مغتربا عن الاوطان، فساقتك إليها مستدرجا متدرجا حتى أضحيت لها نعم المدبر المدير، وإذا هي تملك عليك أقطار مشاعرك فتتفانى فيها كما يتفانى الربان في سفينة وكأنما هي دنياه، وإذا

ص: 49

أنت تستهل كتابك بقصيدة بلغ من براعة استهلالها أن وقفت بالدار، وبكيتها مؤذنة باندثار، وشببت فيها بعروس أفكار، كل ذلك في اتساق وفي آن، وكأروع ما ينوح على منازل القلوب صب ولهان!

أي سحر هذا الذي استحوذ عليك من مصحة حلوان؟ وأية فتنة تلك التي تتجلى في استهواء المصحة للأطباء الأدباء: على ما هو معروف من هوايتك، وما وصفت من هواية الدكتور (برناند) مدير المصحة الأول. وإن شئت مزيدا فإني لأذكر - وإن بعد العهد - غدوات لي إلى المصحة وروحات، كنت أعود بها، وأنا بعد طالب طب، زميلا فاضلا لي كان ثمة ما يستشفي، وكان هو أيضاً يهوى الأدب وما يزال، وقد أبرأته المصحة بمنة الله، فلم يكد يتم دراسته حتى التحق بها ضمن من تتابعوا عليها ممن سميت من أطباء. ولعل سمعت عن أطباء غيره بمثل قصته، وعجيب أن تترادف الأمثلة بهذه الظاهرة في جانب الاطباء، وأن يقابلها في جانب المرضى ما يؤكدها بما هو متواتر مشهور: من تفزز حسهم وحدة خيالهم، وسطوة مشاعرهم وغرائزهم، حتى ليكثر بينهم الموهوبون بالفنون، على ما ألمعت إليه في كتابك، وما حفلت به روائع القصص وأفتن فيه كتابها المبدعون.

على أنني رأيتك، يا صديقي، أوشكت تتنصل في قصيدتك من هوايتك الأدب، فتقول إنك آثرت على يراعتك مبضعك ومسماعك، كأنما أصبح الأدب للأطباء في هذا البلد تهمة تدفع، وزلة يعتذر منها، وانه في سائر بلاد الله لمحمدة تذاع ومفخرة يشاد بها - تنبئ عن ذلك مطابعهم - فما تكاد تخرج إلى عالم الأدب كتابا لطبيب حتى تتلقفه الأيدي فلا يساعفها منه تلاحق الطبعات. ألا فهون عليك، يا صديقي، تحرجك من الأدب، ولا تولع منه بفرط إشفاق: وخذ بنا في تلك الظاهرة التي لفتك - وما أخالك إلا كنت ملتفتا إليها - فحض فيها بالاستقصاء والاستقراء عالما طبيبا، وبالمنظوم والمنثور شاعرا أدبيا، فما حشدت لتجلية هذه الظاهرة مواهب كمواهبك، ولا ظروف كظروفك، وإن تجليتها لفتح طبي وأدبي لا يتعلق به إلا من كان في همتك، وفي الحق إنك لها!

ولقد اصطرعت في قصة مصحتك من شخصيتك شعب ثلاث: نفحتك الشاعرية، وذهنيتك العلمية، وصفة عملك الرسمية، وفي النطاق الذي قسرك عليه هدفك، لقد استطعت ان تبلغ بهذه الشعب في اصطراعها حد الابداع، وكانما قدر للداء الذي أدرت حوله موضوعك ان

ص: 50

يطل عليه أبدا - من حيث يدري أو لا يدري - شبح المأساة. ولم تباطئ المأساة مصحتك، إذأوعدتها العوادي أن تجعلها حصيدا كان لم تغن بالأمس، وكان لم تبرح طوال عشرين عاما جمة المآثر، جلية الآثار! فوا أسفاه على بلد ترتجل سياسته فلا يقر لها قرار، ولا ترعى فيه حرمة دار حياها الله من دار! هذا ومن ورائنا أوائل شيدوا، وأمامنا أقوام بنو، فإذا دورهم العامة معالم مكتملة للمقومات، بل شخصيات معنويات، تذكر بذكريات، وتمجد بامجاد، وتعيد لها الأعياد، ويطاول بها الدهر خوالد باقيات ترى لو صح أن الأرواح تحوم هائمات، والأصوات تختزن مكنونات، حيثما تجرى تصاريف الأقدار، ويطاح بالآجال والآمال، ولو أتيح بما أجن في ضمير الغيب من أفانين المخترعات أن تتبدى تلك الأرواح مرئية، وتنطق هذه الأصوات العيية فأي روع وهول كان عساه يتفجر من أرجاء المصحة حمما ودويا، إزاء أمانة أشفقت من حملها الرواسي ولم ترع أنسيا! لكأني أخال ما أتخيل وأتسمع بين تلك الأصوات المدوية صديق دراستي، ذلك الطبيب النافع الذي يقيالآن على مرضاه مما أفاء الله عليه من العافية بالصحة، وهو يجار مستصرخا: لا تنخبوا الدور على منخوبي الصدور، وقد وسع الله عليكم رحابالأرضو جنبات القصور.

وبعد، أي صديق عبد الرؤوف! لئن ضاق صدرك، فقد انطلق لسانك، وبلاغا أبلغت، وربك أشهدت، ولله الحكم، وإليه ترجع الأمور!

دكتور لويس دوس

ص: 51

‌القصص

على الحصان

للقصصي الفرنسي جي دي مو باساق

بقلم الأستاذ كمال الحريري

كانوا في فقر وعوز، يزجون أيامهم تزجيه على راتب الزوج الضئيل. ولقد رزقوا ولدين من زواجهم، أما فقرهم فقد كان من نوع البؤس المخبوء الخجل. بؤس عائلة نبيلة، تريد أن تتمسك بتقاليدها وتأخذ مكانها بين أنداد الأشراف مهما كلفها الأمر. لقد نشأ هكتور (دي كربيلين) في الريف تحت كنفأبمدرس ولم تكن الأسرة في رغد من العيش وإن كانت تحافظ على مظاهرها النعمة. فحين بلغ (هكتور) العشرين من عمره، سعت له أسرته فأدخلته موظفا في وزارة البحرية. براتب 1500فرنك. فاصطدم الفتى بتلك الصخرة التي يصطدم بها كل من لم يعد في بكورة العمر لمعركة الحياة القاسية فهو يرى الوجود من خلال ضباب كثيف، ثم هو يجهل كل الجهل وسائل العيشة وأساليب المناضلة والمقاومة لأنه لم يتزود منذ حداثته بمؤهلات كفاحية لمجابهة مرارة الحياة وشظف العيش، إنما ألقى به إلى هذا الوجود، وليس في يده آله أو سلاح لمنازلة حوادثه.

لقد كانت سنوات (هكتور) الثلاث الأولى في دائرة عمله مدعاة للتوبيخ فلقد ألف من عائلته لفيفا من الأصدقاء قليلي المال مثله، كانوا يحيون أوساط النبلاء، أي في الشوارع الحزينة من ضاحية (سانت جرمان) فربط هكتور معهم حلقة تعارف وصداقة. باغترابهم عن الحياة العصرية كان هؤلاء الأرستقراطيون المعوزون، يقطنون في تواضع الطوابق المرتفعة من المنازل والمساكن الهادئة. ومن أعلى إلى أسفل هذه المنازل كانت ألقاب المستأجرين الضخمة تتردد على كل لسان، ولكن يظهر ان النقود، كانت هي البضاعة المفقودة عندهم من الطابق الأول حتى السادس.

أما أعذارهم لهذا السكن المتطرف، فهي خطورة مراكزهم وتقدم حقوق عائلتهم على بقية الناس، واهتمامهم بعدم التسفل أمام العامة. وقد كانوا في سمو المنزلة وعراقة الأصل. لقي هكتور (دي كريبلين) في هذا الوسط فتاة نبيلة فقيرة مثله، فعقد قرانه عليها، وفي خلال

ص: 52

أربعة أعوام كان لهما ولدان. مرت أربع سنين أخر، لم يعرف خلالها (هكتور) المسكين من ملاهي الشباب ومتع الحياة غير التنزه في حدائق الشانزليزه أيام الآحاد، أو حضور ملاعب التمثيل مرتين أو ثلاثا طيلة الشتاء وذلك بفضل تذاكر كان يجود بها عليه بعض زملائه وأصحابه. ولكن ها هو ذا الربيع يقبل فإذا مهمة يكلفه الرئيس بها، يتسلم بعد إنجازها من الرئيس منحة فوق العادة مقدارها ثلاثمائة فرنك. ولما حمل هكتور هذا المبلغ إلى امرأته قال: عزيزتي (هنريت) ينبغي أن نبهج أنفسنا بمسرة أو متعة تدخل على طفلينا السرور والبهجة وبعد جدال طويل قر الرأي على أن يصحب هكتور زوجه وابنيه إلى نزهة خلوية: وهتف هكتور: لعمري إن السير على الأقدام أمر مبتذل لا يليق؛ لهذا سوف نستأجر عربة نزهة لك وللطفلين وللوصيفة. أما أنا فسأحصل على جواد في بداءة ترويضه. فإن ركوبه يثير في نفسي نوعا من الفرح واللذة. . . وفي خلال أسبوع لم يكن حديث العائلة ليتناول أمرا غير النزهة المقبلة ومشروع امتطاء الحصان.

وعند المساء، حينأبهكتور من عمله، كان يتناول طفله البكر فيتخذ له من ركبتيه ممتطى كصهوة الجواد، ثم يقول له وهو يحركه ويقفزه.

هكذا سيعدوا ويركض بحصانه أبوك في الأحد المقبل وقت نزهتنا يا بني. فكان الطفل طوال النهار يهمز الكراسي ويشد عليها بساقيه، ثم يجرها حول الغرف قائلا:

- هو ذا في حالة الركوب. حتى لقد كانت الوصيفة ذاتها ترمق سيدها بعين الدهشة والإكبار حين تتخيله راكبا ظهر حصانه وسائرا بحذاء العربة. وفي أثناء وجبات الطعام كانت تصغي إليه وهو يتحدث عن فروسيته ومفاخره السابقة في ترويض الجياد. فهو ماهر في الركوب من الدرجة الأولى. ويكفي أن يكون الحصان العتيد الشموس بين ساقيه وتحته، إنه وقتذاك لن يخاف شماسه أو حرنه. ولقد كان يكرر لامرأته وهو يفرك كفيه ابتهاجا:

آه لو إنهم آجروني يوم الأحد المقبل حصانا شكسا غير مروض! إني سأكون إذن جد مبهج وستبصرين كيف امتطيه وأعلوه. وإذا أحببت يا عزيزتي، فلتكن عودتنا من نزهتنا عن طريق (الشانزليزه) حين إياب المتنزهين من الغابة. وبما أن منظري على ظهر الجواد لن يكون مخجلا فلا باس أن نلتقي بأحد موظفي البحرية، خصوصا وإن التباهي بين الرؤساء شئ مستحب يدعو إلى الاحترام.

ص: 53

وفي اليوم الموعود، وصلت العربة والجواد في وقت واحد إلى منزل هكتور، فنزل فجأة ليفحص الحصان، ثم خاط لبنطلونه سيورا لركوبه، وأصلح سوطا للضرب اشتراه البارحة، ورفع بالتعاقب قوائم الحصان وراح يجس عنقه وخاصرتيه وثنيات قوائمه ثم تحسس بإصبعه كليتيه وفتح فمه، ونقب عن أسنانه فاحصا عمره. وحيث أن العائلة كانت تستعد للنزول فقد خطر له أن ينطلق به حول المنزل، ويطبق في ركوب هذا الجواد الكريم، ما عنده من نظريات في فن الركوب. ولما أخذوا جميعا أمكنتهم من العربة، راح يتأكد من متانة سيور السرج، ثم قفز إلى ظهر الجواد فسقط على ظهره سقوطا أرقص الحصان فأخذ يثب تحت هذا الحمل، وقد قام في نفسه أن يربك راكبه. وتأثر هكتور من هذه الوثبات، فاجتهد أن يهدي من حدته فقال له: هيا. ولكن برفق يا صديقي، وعلى مهل. ولما ثابت للحصان سكينته هتف صائحا:

هل انتم مستعدون؟! فانطلقت الأصوات تقول نعم. وحينئذ قال آمرا هيا إلى الطريق. . . ثم ابتعدت القافلة الصغيرة شيئا فشيئا. ولكن الحصان أخذ يعلوا بصاحبه ويتهادى كأنما هو في حفل رقص، حتى لقد خيل لهكتور إنه موشك على السقوط عن ظهره. لهذا ثبت عينيه في الأرض وقد علت محياة صفرة الرعب. وكانت امرأته وهي تحمل أحد الطفلين إلى صدرها، والمربية وهي ترفع الثاني لا تفتران عن الهتاف في أذن الطفلين: ألا تنظران أباكما؟ وسكر الطفلان بنشوة النزهة وهزة الفرح واعتلال الهواء فكانا يصرخان ويزيطان زيطا أجفل الجواد المسكين فجرى يركض ويعدو. وبينما كان فرسه يجهد في كبح جماحه تدحرجت قبعته على الأرض. فتحتم على سائق المركبة أن ينزل من مقعده لالتقاطها ومناولتها لصاحبها وبحصول هكتور عليها بدا يوجه عن بعد امرأته:

- ألا تريدين إسكات الطفلين عن الصراخ والضجيج؟! إن صياحهما يغيظني. . . ونزلت القافلة فتناولت طعام الإفطار فوق العشب الخضل تحت ظل غابة من صندوق ملئ مؤنه وطعاما، وبالرغم من أن سائق العربة لم يقصر في الاعتناء بالجياد، كان هيكتور بين حين وآخر ينهض ليرى ما إذا كان جواده لا ينقصه حاجة. وحينئذ يأخذ في مداعبته في عنقه ثم يناوله بيده الخبز الأبيض وفطائر (الكاتو) اللذيذة وقطع السكر الفاخرة. وكان لا يفتأ يعلن أن جواه مسباق. . نعم إنه هزني وزلزلني من على صهوته أول الأمر، ولكنك أبصرت يا

ص: 54

(هنريت) كيف استمسكت عليه، والآن وقد عرفني فلن يبدي أي حركة مطلقا. ورجعت العائلة من طريق (الشانليزه) كما كان مقررا. كانت الجادة حافلة بالعربات والمركبات وعلى جانبي الطريق ازدحمت الأرصفة بجموع المتنزهين، وكان سيلا دافقا من أشعة الشمس يسقط على هذه الخلائق، فيؤلق دهانات العربات ويلمع نعال الأفراس، ويضوي مقابض ومطارق الأبواب. وكأن جنون الحركة نشوة الحياة كانتا تحركان جماهير الناس وجماعات المتنزهين وأسراب الحيوانات. وما كاد حصان فكتور (قوس النصر) حتى مسته حماسة جديدة. وبالرغم من كل محاولات راكبه لضبطه ورد جماحه أخذ ينطلق في الطريق كالسهم المنقذف. كانت العربة وراءه بعيدة عنه. فلما واجه هكتور قصر (باله لاندوستري) شاهد الجواد الطريق أمامه منفسحا كميدان السباق فانطلق يعدوا كالريح، وكانت امرأة عجوز في ثياب الخدمة تقطع الرصيف بخطوات بطيئة، فرأت نفسها بغتة في طريق حصان هكتور، وكان الجواد قد تنكب الجادة وتوسط الرصيف. ورأى هكتور نفسه عاجزا عن كبح حرن الجواد، فبدا يصرخ بملء صوته، هه. . . هولا. وراءك ولكن ربما كانت العجوز صماء، لأنها واصلت سيرها هادئة حتى اللحظة الأخيرة التي التطمت فيها بصدر الجواد، الذي كان مقذوفا كمحرك القطار. فتدحرجت العجوز عشر خطوات بعد أن أكبت ثلاث مرات على رأسها وبعد أن طار عنها صدار الخدمة وتعالت أصوات من الشارع: اقبضوا عليه، أمسكوه! فضاع رشد هكتور، وتمسك بظهر الجواد، ثم انطلق يقول: النجدة، الغوث. ولكن صدمة عنيفة ألقت به من سرج حصانه، فانقذف كعيار ناري من فوق رقبة الجواد. وإذا به يقع بين يدي ضابط من ضباط الجيش هجم عليه كي يمسكه، وفي لحظة، تحلق حوله رهط من الناقمين، ولكن سيدا متقدما في السن يزدان صدره بكثير من الأوسمة المستديرة، ويعلو فمه شارب ابيض ضخم اغتاظ منه أكثر من الحاضرين فقال:

تبا لك! حين يكون المرء أخرق مثلك يقتضي أن يلزم منزله فلا يخرج ليقتل الناس على قارعة الطريق بعدم استطاعته قيادة جواده. وفي هذه اللحظة ظهر أربعة رجال يحملون المرأة العجوز، وكانت كأنها الميتة بوجهها الأصفر الكالح وقبعتها الملوثة بغبار الطريق قال الرجل المسن:

احملوا هذه المرأة إلى صيدلية إسعاف. وهيا بنا إلى ضابط الشرطة. ومشى هكتور في

ص: 55

الطريق بين حارسين من الشرطة وثالث كان يقود حصانه بينما أسراب من الناس تتبعه. وفجأة ظهرت عربة زوجه فانقذفت منها في حين كانت الوصيفة كأنها فقددت صوابها والأطفال كانوا يجهشون بالعويل والصراخ. فشرح لهم هكتور الموقف، وقال: إنه دهس امرأة والأمر لا يهم مطلقا. فمضت العائلة وقد جن جنونها من الرعب والقلق، وعند ضابط الشرطة كانت إفادة هكتور قصيرة. قال (للقوموسير) اسمه (هكتور دي كريبيه لين) موظف في وزارة البحرية. ثم تهيا القومسير لسماع تفاصيل الجريمة. وجاء شرطي نيط به الاستعلام عن حال العجوز يقول: إنها صحت من غشيتها وثابت لرشدها بيد إنها تشكوا آلاما مبرحة في جوفها. وهي امرأة في الخامسة والستين من سنها يدعونها مدام (سيمون) ولما تأكد هكتور. من عدم وفاة الضحية عاد إليه عازب الأمل. فتكفل أن يقوم بنفقات المريضة حتى يوم شفائها. ثم هرول عجلا إلى صيدلية الإسعاف، فابصر جمعا من الناس مرابطا حول الباب وكانت العجوز مستريحة إلى أريكة تشكو وتتوجع ويداها جامدتان ووجهها يعلو شحوب الموت. كان هناك طبيبان يفحصانهاأيضاً ولم يكن في جسمها عضو مكسور، ولكن يخاف من جرح داخلي. كلمها هكتور. هل تتألمين كثيرا؟ - أوه نعم وأين موضع ألمك؟

- إني لأشعر بمثل النار تتقد في معدتي، واقترب طبيب فقال:

- وإذن يا سيدي فأنت بطل الحادث؟!

- نعم يا سيدي.

- ينبغي لك إرسال هذه المرأة إلى مصحة من مصحات المرضى، وإني سأدلك على واحدة تتقبلها بستة فرنكات في اليوم. أتود أن أتولى هذه الخدمة؟ فاستطير قلب هكتور وشكر الطبيب، ثم انقلب إلى بيته مستريحا ناعم البال، وكانت زوجته تنتظره بين الآهات والعبرات، فهداها قائلا:

لا باس علينا من هذه المرأة الجريح إن صحتها في تحسن وبعد ثلاثة أيام لن يبقى في جسمها موضع شكوى أو ألم. لقد بعثت بها إلى مصحة فلا تقلقي من أجلها. وفي الغد، فور خروجه من دائرة عمله انطلق يستعلم أخبار مدام سيمون فألفاها تتهيأ لاحتساء مرق من الحساء، كثيرة الدهن. وهي جدا راضية قريرة العين. فقال لها: آه! أتراك بصحبة جيدة؟

ص: 56

فأجابت:

- أوه يا سيدي المسكين، إن حالي هي حالي لم تتغير، وإني لأشعر بأني صائرة إلى العدم ما دامت صحتي تتدهور. أما الطبيب فقد أعلن إنه من الواجب الانتظار فقد يعرض للمريضة حال من اشتباك العلة لا يعلمها الطبيب. وانتظر الفتى ثلاثة أيام ثم عاد بعدها، فإذا المرأة العجوز بصفرة وجهها المضيئة وعينها الزائغة تأخذ في ترداد ألمها حين مشاهدته.

- إني لا أستطيع حتى التحرك يا سيدي المسكين، لا أقدر على ذلك حتى نهايتي الأخيرة. فعرت عظام هكتور رعشة، ومضى يستفهم الطبيب ورفع الطبيب يديه قائلاً:

- ماذا تريد منى يا سيدي؟ أنا نفسي لا أعلم عن حالها شيئاً. إنها تصرخ وتعوي حين يراد إجلاسها وإنهاضها، حتى إنه لا يمكننا تحريك مقعدها دون أن نعرض آذاننا لصرخاتها الداويات المزعجات، وإذن فإنا على تصديق ما تدعيه. لأني لست بداخلها ولا جوفها. وما دمت عاجزاً عن أن أجعلها تمشي وتسعى فليس من حقي أن أفترض أي وهم من ناحية مرضها. وكانت العجوز تسمع كلامه هادئة لا تتحرك، وفي عينيها الخبث والمكر.

ومرت ثمانية أيام، فخمسة عشر. . . فشهر، ولم تبارح مدام سيمون مقعدها المريح، لقد كانت تأكل من الصباح إلى المساء، وكانت تكتظ شحما ولحما. ثم إنها كانت تتحدث بسرور إلى بقية المرضى في المصحة، وكأنها بتعودها على عدم الحركة والنهوض كانت تكتسب فرصة للاستجمام من عناء خمسة وستين عاما للخدمة، قضتها في صعود ونزول الادراج، وتهيئة الأفرشة والأسرة، وفي حمل قطع الفحم من طابق إلى طابق، وفي كنس الغرف وتنظيف الثياب.

وضاع رشاد هكتور، فكان يعودها كل يوم، وفي كل يوم كان يراها هادئة تعلن إليه:

- أواه أنى لا أستطيع الانتقال أو الحركة يا سيدي المسكين! لا أستطيع، لا أستطيع. وعند كل مساء كانت مدام دي كريبه لين تسال زوجها وهي فريسة القلق. ومدام سيمون؟ فيجيبها في خمود يائس:

- لا جديد عنها. فهي لم تتغير أبدا. وسرحت العائلة الوصيفة من الخدمةلأنراتبها أصبح عبئا باهظا عليها. ثم أخذت عائلة هكتور تمضي في الاقتصاد لأنالمنحة التي أخذها الزوج

ص: 57

من رأيسه نفذت تماما وفي ذات يوم جمع هكتور أربعة أطباء التفوا حول سرير المريضة فتركتهم العليلة يجسونها ويفحصونها ولكن عينيها ألما كرتين ما كانتا لتحولان عنهم قال واحد منهم.

- يجب إجبارها على المشي فصرخت قائلة:

- لا أستطيع يا سادتي الكرماء لاأستطيع ولكنه قبضوا عليها وأجلسوها عنوة، ثم جروا بها عدة خطوات ولكنها تملصت من أذرعهم وتدحرجت على البلاط وهي تصرخ صرخات كانت من الشدة والإزعاج بحيث اضطروا إلى إعادتها ثانية لمقعدها في احتراس شديد وتشاور الأطباء فيما بينها فاستقر رأيهم على استحالة محاولتهم تحريكها. . .

ولما حمل هكتور هذا النبأ إلى زوجتهم تركت جسمها ينحط على مقعد تجمجم، وإذا فمن الخير أن نجلبها إلى منزلنا فإن ذلك يقلل من نفقتها، شيئا. وقفز هكتور.

- هنا عندنا في دارنا؟ أتفكرين في هذا؟! ولكنها أجابت وقد وطنت نفسها على المكروه، وفاضت من عينها الدموع:

- وماذا تريد أن نفعل غير هذا يا صديقي؟ إن الغلطة لم تكن غلطتي.

(حلب)

كمال الحريري

ص: 58