المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 711 - بتاريخ: 17 - 02 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧١١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 711

- بتاريخ: 17 - 02 - 1947

ص: -1

‌جامع وجامعة.

. .

الأستاذ عباس محمود العقاد

أوشك الترام أن يفوته، ولكنه أدركه بعد جهد ومخاطرة، فاستقر في مكانه وهو يلهث ويرسل اللعنات على الترام:

- يقطعه ويقطع أيامه!

قال صاحبه وهو أصغر منه: ولم؟ أنه قرب البعيد ويسر الأمور. . . . لقد كان الانتقال من إمبابة سفرة في الأرض مهجورة، فأصبحنا نأتي منها ونعود إليها في ساعة أو أقل من الساعة!

قال الشيخ: ولهذا (عفرت) الدنيا. ركبها عفاريت، وقل خيرها. وقد كنا قبل أيامه نشتري رطل اللحم بقرش وربطة الملوخية الكبيرة بمليم. فجاء هذا الزمن (المعفرت) الذي لم يدع للفلوس بركة ولا في شيء من الأشياء خيراً يرتجى. . . ووافرحتاه بعد ذلك بهذه المراحل التي تنطوي في غمضة عين!

مثل هذا الحديث قد سمع في القاهرة مرات، ومثل هذا القياس يجري في النظر إلى كثير من الأمور، وهو من الأحكام التي تستند إلى مقارنات شعورية ولا تستند إلى مقارنات منطقية، لأنها ترضى الشعور لأول وهلة ولا ترضى العقل بعد النظرة الأولى.

ومن قبيل هذه الأحكام الشعورية مقارنات بين ماضي الجامع الأزهر وحاضره، قرأتها لفاضل من كتاب الرسالة في عددها الماضي وفيها يقول كاتبها - الأستاذ على الطنطاوي - بمناسبة حادث الشيخ أبي العيون: (. . ما عرفنا علماء الأزهر إلا ملوكا، لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم، إذا قال واحدهم لبت الأمة، وإذا دعا هب الشعب، وإذا أنكر على الحكومة منكراً أزالت الحكومة المنكر، وإذا أمرها بمعروف أطاعت بالمعروف، فكانوا هم السادة وهم القادة، وهم أولو الأمر: هذي حكومة مصطفى فهمي باشا تستجيب سنة 1899 لرغبة الإنكليز في إضعاف القضاء الشرعي فتضع مشروعها المشهور لتعديل اللائحة الشرعية وضم اثنين من أعضاء الاستئناف الأهلي إلى المحكمة الشرعية العليا ويبلغ من ثقتها بقوتها وتأييد مجلس الشورى لها ألا تبالي باحتجاج الحكومة العثمانية على المشروع وتعرضه على المجلس - وكان من أعضائه الشيخ حسونة النواوي الذي جمعت

ص: 1

له مشيخة الأزهر وفتوى الديار المصرية - فيقول كلمة موجزة في إنكار المشروع وينسحب من المجلس ويتبعه القاضي التركي فتكون هذه الكلمة كافية لقتل المشروع. .).

ثم قال بعد سرد الأمثلة من هذا القبيل وغير هذا القبيل: (هذا ما عرفناه. فما الذي جرى حتى تبدلت الحال ووقع حادث الشيخ أبي العيون؟ ما الذي نزع هيبة المشايخ من القلوب وأنزلهم من مكانهم عند الحكام؟

وأجاب قائلا: انتم أيها الأزهريون فعلتم هذا كله. . . . أنتم أيها الأزهريون جميعاً جعلتموها جامعة فكان فيها ما يكون في الجامعات، وقد كانت جامعاً لا يكون فيه إلا ما يكون في الجامع. لقد كان الأزهر لله فصار للناس، وكان للآخرة فغدا للدنيا، وكان يجيئة الطالب يبتغي العلم وحده: يتبلغ بخبز الجراية، وينام على حصير الرواق، ويقرأ على سراج الزيت، ولكنه لا ينقطع عن الدرس والتحصيل. .).

هذه هي العلة كما رآها الفاضل صاحب المقال، وهي إذا دلت على شيء فإنما تدل على أن الجامع الأزهر ينبغي أن يشتمل على جامعات عدة ولا على جامعة واحدة، ولينشر في الأرض من علم المنطق، ومن صحة القياس، ما يعصمهم من خطأ التعليل في أمره، بله جميع الأمور.

فلا علاقة لسراج الزيت وبين ما كان عليه الأزهر أو ما صار إليه، إلا كالعلاقة بين الترام وقلة البركة في المبيعات والمشتريات.

ولم يتغير الحال في جمله اليوم عما كان عليه في شيء من تلك الأشياء التي عددها الأستاذ.

ففي الزمن الذي يحن إليه الأستاذ حدث أن مديراً للأوقاف جلس على كرسيه في صحن الجامع الأزهر وجيء إليه بفريق من الأزهريين يجلدهم على مرأى ومسمع من الناس.

وفى العصر الحاضر لا يزال أقطاب الجامع الأزهر قادرين على منع كل تشريع يرون فيه مساساً بأحكام الدين. وقد منعوا تشريعات كثيرة أعدتها الوزارات في شؤون الزواج والطلاق، واشتركوا في درس كل قانون يدور على الميراث أو الوصية أو الوقف أو حقوق الآحاد المرتبة على أحكام الدين.

وفي الزمن الذي يحن إليه الأستاذ أنكرت فئة من علماء الأزهر تشريح الجثث في مستشفى

ص: 2

(قصر العيني) فلم يكن هذا الإنكار فصل الخطاب.

وفي ذلك الزمن - بل في جميع الأزمان منذ بناء الجامع الأزهر - كانت الصلة بين طلاب الأزهر وعلمائه وبين الحكومات المتوالية على أوثق ما تكون. لأن جامعاً كالجامع الأزهر لا ينبغي أن تنقطع الصلة بينه وبين حياة الجماعة الإسلامية، إذ ليس في الإسلام انقطاع عن الدنيا على النحو المعروف في غيره من الديانات

فكان لمذهب الشيعة شأنه في عصر الفاطميين، وكان لمذهب أبي حنيفة شأنه في عهد العثمانيين، وكان العاملون في الحياة العامة من أقطاب الأزهر اكثر وأكبر من المتنسكين المنقطعين عن شؤون تلك الحياة، وليس الشيخ المراغي - مثلاً - بمضارع في غناه للشيخ العباسي وهو من مشايخ الأزهر في الزمن الذي يحن إليه الأستاذ.

فلا علاقة لسراج الزيت لما كان عليه الأزهر وما صار إليه، وليس بصحيح أن شأن الجامع الأزهر في ما مضى كان أعظم من شأنه اليوم، ولا أن المقبلين على الحياة العامة على أقطابها في عصرنا هذا اكثر ممن كانوا يقبلون عليها في العهود الغابرة، بالقياس إلى عددهم في كل زمان.

والصحيح أن هيبة العالم الديني تتوقف على مكانة الدين في النفوس لا على ما يأكله العالم من خبز الجراية أو ينام عليه من أصناف الفراش.

وفي البلاد الأوربية لا ينام رؤساء الأديان على الحصير ولا يقرئون على السراج ولا ينقطعون عن الشؤون العامة، ولكن هتلر في جبروته كان يتقيهم ويداريهم ويتقبل منهم ما لم يكن يتقبله من كبار القادة والوزراء. وكذلك كان موسليني يفعل في دولته الفاشية، وكذلك فعل ساسة الروس الشيوعيين في العهد الأخير بعد أن جربوا مغاضبة الكنيسة ومحاسنتها، ثم اختاروا بين الخطتين.

وقد يتقي الرجل لمكانته في أمته وفي سائر الأمم وإن لم يكن من رجال الدين فإن تولستوي - كاتب الروس الأشهر - لم يكن ممن يصانعون القيصر ولا ممن يصانعون أحبار الكنيسة الروسية، وكان مع هذا يخاطب القيصر بكلام لا يباح لغيره، فيتقبله ويتغاضى عنه، لمكانة الرجل العالية بين قراء الأدب في القارة الأوربية، وفي العالم بأسره.

فرجل الدين يستطيع أن يكون للدين وللدنيا ولا يخسر مكانته ولا يحط من هيبته ووقاره،

ص: 3

ويستطيع أن يكون جامعياً بالنسبة إلى الجامعة الأزهرية كما يكون جامعياً بالنسبة إلى الجامع الأزهر، فيزداد ولا ينقص بهذا الانتساب.

إذ الواقع أن صبغة الجامعة هي التي ميزات الأزهر بين الجوامع في العصور الماضية كما ميزته في العصر الحاضر. فليس اكثر من الجوامع في القاهرة ولا في الأقطار الإسلامية، ولكن الأزهر وحيد بينها لأنه جامعة علمية لا لأنه مسجد مقصور على الصلاة والعبادة.

وأيا كان القول في هذا، فالرجوع إلى الحصير أو إلى سراج الزيت أو إلى صومعة النسك لن يعالج شيئاً من الأشياء، ولن يستطاع ولن يحمد إذا أستطيع.

وخير ما يطلب للأزهر هو أن يزداد نصيبه من الجامعية العلمية، وان يزداد نصيبه من المشاركة في الأعمال الدنيوية، وأن يحال بينه العزلة والانقطاع.

ونحن من المؤمنين بماضي الأزهر العظيم، ولكننا اشد أيمانا بمستقبله بنا بماضيه. لأن وظيفته في الماضي كانت وظيفة واحدة لا منازع فيها. أما وظيفته في المستقبل فوظيفتان ينهض بهما فيكون له شأنان متعادلان في حكمة الإسلام وحكمة العلم الذي يعمل به المسلمون وغير المسلمين.

فالجامع الأزهر أحق مكان بان يحي الفلسفة القديمة التي عاشت فيه وحده يوم ماتت في جوانب الدنيا بأسرها، ومن إحياء هذه الفلسفة أن يزاوج بينها وبين مستحدثات التفكير في كل عصر وبين كل قبيل.

والجامع الأزهر أحق مكان بتوسيع المنطق الذي تمكنت فيه أسسه وتهيأت لما يضاف إلى هذه الأسس من أركان جديدة، في مذاهب المناطقة المحدثين.

والجامع الأزهر أحق مكان بأن يعرض العقيدة الإسلامية المستنيرة على أهل المشرق والمغرب، لأنه أقدر على هذه الرسالة من الآحاد أو الجماعات التي تصدت لها في غير مصر من الأقطار الإسلامية.

والجامع الأزهر أحق مكان بأن يقصده الصين من أقصى المشرق كما يقصده (الفندلاندي) من أقصى الشمال، أو يقصدها الزنجباري من أقصى الجنوب. لأنهم يتعلمون فيه ما لا يجدونه في غيره من الجامعات المقصورة على العلوم الطبيعية.

والجامع الأزهر أحق مكان بان يتدارك عيب العصر الحاضر وهو العيب الجسام الذي

ص: 4

يتمثل في العزل بين عالم العقل وعالم الروح. فيتعلم فيه الرجل وهو مؤمن ويؤمن فيه وهو عالم، ويحسن قيادة المتدينين المتعلمين.

ونحن كبيرو الرجاء في إنجاز هذه المهمة العظمى بعد أن صارت مشيخة الأزهر إلى أستاذ الفلسفة الإسلامية على أحدث المناهج العصرية. فإنه اقدر الناس على أن يحقق للجامع الأزهر وظيفتيه في ثقافة العقل وثقافة الروح، وأعوانه من الأزهريين غير قليلين.

فليكن الأزهر جامعة ما دام.

بل ليظل الأزهر جامعة كما كان منذ كان.

وفي ذلك الخير كل الخير والبركة كل البركة. أما أن تكون البركة مرهونة بالحصير وسراج الزيت فهو قول لا بركة فيه ولا يدل على الحاجة إلى شيء في الأزهر الزم من الحاجة إلى توسيع الجامعة لتحويل الأفكار في الشرق من مقارنات الشعور إلى مقارنات العقول، ولا سيما في المقارنة بين الجوامع والجامعات.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌حول قضية فلسطين:

والآن أيها العرب أما تزالون تنتظرون؟!

للأستاذ سيد قطب

قصة العرب مع الاستعمار الإنجليزي في فلسطين هي بعينها قصتهم معه في كل بلد عربي أخر؛ وخديعة الاستعمار الإنجليزي للعرب في فلسطين هي خديعته الخالدة لكل بلد عربي آخر.

وتسميتها قصة هي في الواقع تجوز، فهي في حقيقة الأمر مأساة أليمة متكررة، وأشد ما يؤلم فيها هو هذا التكرار الذي لا يفتح عيون العرب على الخديعة، ولا يغير طريقهم التي سلكوها فخابوا في كل مرة، ولا يجنبهم الجحر الذي لدغوا منه بدل المرة مرات.

هي مأساة الثقة بالضمير الإنجليزي، بل مأساة الاعتقاد بان هناك ما يسمى الضمير الإنجليزي! وذلك هو الجحر الذي لدغ العرب منه مرات، في كل بلد عربي، ثم هم مع ذلك لا يتوقونه، فيصدق عليهم الحديث:(لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وحاشا لهؤلاء أن يكونوا مؤمنين، وهم في كل يوم يلدغون!

حفنة من الساسة قعدت بهم عن الجهاد مشقات الجهاد، فاختاروا لشعوبهم الطريق الأهون، والخطة السهلة، وراحوا يضيعون أوقات الشعوب بالمؤتمرات والمفاوضات والمحادثات؛ ودعوا الشعوب للهدوء والانتظار في ارتقاب النتائج من هذه الطرق الهينة المأمونة.

وكان من غضب الله على هذه الشعوب إنها سمعت كلام أولئك الساسة الضعفاء والمهازيل، واستجابت لدعوة الراحة والدعة، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

تكررت هذه المأساة في مصر، كما تكررت في فلسطين كما تكررت في كل بلد عربي دنسته أقدام المستعمرين الطغاة. وهب الشعب في مصر، كما هب في فلسطين، كما هب في كل بلد عربي يكافح هذا الاستعمار البغيض، يكافحه كما ينبغي أن يكافح. يكافحه بالدم المبذول، والروح المسترخصة، والتضحية بالنفس والمال. . وكان هذا هو الطريق الصحيح. الطريق الذي سلكته من قبل الولايات المتحدة، وأيرلندا الحرة، كما سلكته أخيراً سورية الأبية، ولبنان الأشم.

وبينما الشعوب في فورتها، والتضحية في عليائها، صاح عليها الأغربة المشئومة: حسبك

ص: 6

أيتها الشعوب فقد أديت واجبك حسبك ودعي الأمر لأولي الأمر. دعيه للساسة يعالجون بالحكمة والديبلوماسية، بعد ما عالجته بالدماء والتضحية!

ومنذ هذه اللحظة المشؤومة وقضايا العرب تخسر في كل مكان، ومنذ هذه اللحظة المشؤومة والاستعمار يكسب في كل مكان. لقد التقط الاستعمار أنفاسه بعد الجهد العنيف، بعدما كاد يسلم للشعوب بحقها المغصوب. ولكن لماذا يسلم، وهؤلاء جماعة من هذه الشعوب يخدرونها لتنام، ويروحون على وجوهها لتنعس، ويلوحون لها بالأحلام الجميلة لتستغرق في الأحلام الجميلة؟

ألا قاتل الله اللحظة المشؤومة التي استسلمت فيها الأمم العربية لهذه الغربان المشؤومة!

والآن أيها العرب. أما تزالون تنتظرون.

فأما مصر فقد هداها الله إلى نصف الحق، هداها إلى قطع المفاوضات والمحادثات والمداولات. هداها إلى الخروج من تلك الدائرة البغيضة التي دارت فيها ودارت خمسة وعشرين عاماً كما يدور ثور الساقية، أو حمار الطاحون!

ولكنه لم يهدها بعد إلى النصف الآخر. لم يهدها إلى أن زمام الأمر في يدها هي لا في يد هيئة الأمم المتحدة، ولا في يد مجلس الأمن، ولا في يد محكمة العدل الدولية، ولا في يد كائن من كان على ظهر هذه الأرض إلا المصريين!

لم يهدها إلى أنها تخطو إلى منتصف الطريق عندما تلجأ إلى هذه الهيئات الدولية؛ فأما نصفها الآخر. نصفها المؤدي إلى الغاية، فهو أن تعزم على الاستقلال في ضميرها، وأن تنبذ العبودية من روحها، وأن تطهر دماءها من لوثة الذل الذي فيها. وإن تنبز على سواء إلى هذا الاستعمار فتواجهه بنفسها مواجهة من اعتزم وصمم وانتهى.

ولو فعلت مصر لنظرت في تطهير المصالح المصرية من كل موظف إنجليزي منذ هذا الصباح. وفي تطهير الاقتصاد المصري. من كل نفوذ إنجليزي منذ هذه الليلة. وفي تطهير التعليم المصري من كل أثر إنجليزي دسه الاستعمار على نظمه وبرامجه وكتبه، وحقائقه التاريخية والجغرافية. وفي تطهير الحياة المصرية من كل ما هو إنجليزي مهما اشتدت حاجتنا إليه.

ولو فعلت مصر لرفض أي مصري أن يخاطب أي إنجليزي على ظهر الوادي ولو للسلام

ص: 7

العابر. ولأغلقت منذ اللحظة ذلك لنادي العجيب الذي يسمى النادي المصري الإنجليزي، ولأعدمت جميع المصورات الجغرافية التي تكتب هذا العنوان الآثم:(السودان المصري الإنجليزي) وجميع كتب التاريخ في أيدي التلاميذ التي تتحدث عن (الاصطلاحات التي تمت في عهد الاحتلال)!

ولو فعلت مصر لأطلقتها من الأعماق صيحة عداء مدوية للبرابرة المستعمرين. ولأعلنت إنها ستلقن ناشئتها ذلك العداء، وستسقيهم إياه مع الرضاع!

ولو فعلت مصر لأرسلت دعاتها كالمبشرين في كل مكان على ظهر هذه الأرض يفضحون مساوئ الاستعمار، ويتحدثون عن مآسيه الوحشية، ويكشفون للعالم عن فجائع دنشواي والعزيزية و 4 فبراير، وعشرات من هذه المآسي التي يقشعر لها ضمير الإنسانية في كل مكان.

ولو فعلت مصر لسكتت صيحة الحزبية الحقيرة الخسيسة التي تهتف بها الأحزاب التي شاخت، ويلوكها الجيل الذي أنتن، ويرددها الرجال الذين لم ينسحبوا في الوقت المناسب من الميدان!

ولو فعلت مصر لأدرك الإنجليز من فورهم إنها جادة في هذه المرة لا هازلة؛ ولاشتروا منها مصالحهم في العالم وسمعتهم بالثمن الذي تريد؛ ولوجدوا إرضاء مصر اكسب لهم من تشبثهم باستعمارها وقد صرح العداء!

ولكن مصر تقف في منتصف الطريق. تقف لأن الجيل الذي يقودها - في الحكومة وفي المعارضة على السواء - هو الجيل الذي شاخ. الجيل الذي دعاها في فورة الحماسة إلى الهدوء. الجيل الذي افسد عليها طريقها حينما اختار الطريق الأسهل. طريق المفاوضة والمحادثة والمؤتمرات!

وأما فلسطين فقد فارت فورتها في وجه الظلم الذي لم تعرف له البشرية شبيها. وكانت آخر فوراتها في عام 1938. ورأى الإنجليز أن الأمر جد لا هزل، وان الأمة العربية هناك لا تنوي التراجع، ولا تبغي المهادنة. فلجئوا إلى وسيلتهم الخالدة. وسيلتهم التي جربوها في مصر من قبل فعادت عليهم بالخير والأمن والهدوء، دعوا فلسطين إلى مؤتمر المائدة المستديرة! ودعوا معها العرب جميعاً. ومع الأسف صدقت فلسطين، وألقت السلاح،

ص: 8

وانتظرت نتائج الكائدة المستديرة!

ومن الإنصاف أن نذكر أن الخديعة في هذه المرة لم تأت عرب فلسطين الأباة من جهة الإنجليز، إنما جاءتهم من جهة من يسمونهم الزعماء، الزعماء هنا في مصر وفي بعض البلاد العربية. وخدع العرب الأباة بذلك الكتاب الأبيض الذي أسفر عنه المؤتمر. وجاءت الحرب فوقفوا في صف إنجلترا هم وسائر العرب في بلاد العرب.

وقيل لهم: أن الإنجليز سيعرفون فضل مناصرتهم في ساعة العسر فصدقوا. وكانوا بلهاء حينما صدقوا! واشترك في خديعتهم أولئك الساسة والأدباء والكتاب والصحفيون المغفلون والمأجورون الذين راحوا يشيدون بالديمقراطية، والمدافعين عن الديمقراطية!

ثم وضعت الحرب أوزارها، وهب الإرهابيون اليهود يجلدون الإنجليز في الشوارع، وينسفون مقر القيادة الإنجليزية، ويخطفون القضاة والقواد؛ ويطلقونها صرخة مدوية: فلسطين لليهود!

وقيل للعرب: اسكتوا واصمتوا واطمئنوا. فقد وقع الصهيونيون في شر أعمالهم، وسينالون عداء الإنجليز، ما في ذك شك، وسيجازيهم الإنجليز على ذلك بالتمكين للعرب في فلسطين!

وقيل للعرب: حذار من أن تكونوا حمقى كاليهود. كونوا (عقلاء) أيها العرب لتكسبوا مودة الإنجليز. . . قالها لهم هؤلاء الساسة الذين اختاروا من أول الأمر طريق المفاوضات والمحادثات والمؤتمرات، إسهالا واستغلالا!

وصدق العرب المساكين، منطق ساستهم المحنكين! وباتوا (عقلاء) عقلاء جداً؛ لا يحركون ساكناً، ولا يرفعون صوتا ولا يعكرون صفواً.

وبدأ الإنجليز يحنقون على الإرهابيين، ويميلون للعرب. . . فالغوا سياسة الكتاب الأبيض، وسمحوا بالهجرة اليهودية بعد ما انتهى الأجل الذي حدده للهجرة ذلك الكتاب! ثم دعوا العرب واليهود إلى مؤتمر في لندن لوضع حل حاسم لقضية فلسطين

ولج اليهود (المجانين) في إثارة أحقاد البريطانيين. ولج العرب العقلاء في الصمت والهدوء. . ثم إذا الإنجليز يزدادون مع اليهود حنقا ويزدادون للعرب مودة. وإذا مستر بيفن يعرض حلا يتفق مع ذلك الحقد ومع هذه المودة. . . انه يقترح السماح لمائة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين في خلال خمسة وعشرين شهراً! أليس الرجل حانقا على اليهود

ص: 9

(المجانين)؟!

سخرية! سخرية لا تطاق! ولكن الزعماء لا يزالون هناك يتفاوضون ويتباحثون ويتجادلون!

والآن أيها العرب. أما تزالون تنتظرون؟!

سيد قطب

ص: 10

‌من صميم الحياة

في حديقة الأزبكية

للأستاذ علي الطنطاوي

كنت بالأمس عند الأستاذ الزيات فدخل علينا شاب في نحو الثامنة عشرة عراقي، فسلم وقعد ساكتاً لا ينبس، وجعل ينظر إليَّ كأن في فيه كلاماً يريد أن يقوله، ولكنه لا يحب أن يظهرني عليه، فهو يتبرم بمجلسي، ويرقب قيامي، فلما طال منه ذلك، قال له الأستاذ:(تفضل!). فقال متردداً: (أني أريد أن أقص عليكم قصتي. . . علَّها. . . تكتب في الرسالة. . . ولكن. . . سأجيء في وقت آخر) وألقى علَّي نظرة لا أقول من نار، ولكن من حروف وكلمات تقول:(لولا هذا الرجل!).

قال الأستاذ معرفا بي: (انه فلان، وهو من أسرة الرسالة فقص القصة أمامه، فلعله إذا سمعها منك كتبها هو). فلما عرفني اشرق وجهه واطمأن وانطلق يقول. . .

وصلت مصر للدراسة في مدارسها في أكتوبر الماضي، وكانت تلك أول مرة اقدم فيها إلى القاهرة، وارى فيها الدنيا، أمضيت عمري قبلها في قرية لا تعرف إلا الجد، ولا تقبل على غير الحرث والدرس، ما فيها إلا الحلقة والحقل، ما فيها سينما ولا ملهى، ولا تلقي في طرقها امرأة سافرة، ولا تصادف في حقولها فتاة، لم اخرج منها إلا مرة واحدة وأنا صغير زرت فيها النجف مع لدات لي فرايتها مدينة عظيمة فيها كل ما يبهج ويهيج، وسعدت فيها أياماً، ثم عدنا إلى القرية، والى حلقة الشيخ، فقرانا عليه كتب الدين والنحو والصرف والبلاغة، ثم اقبلنا على الأدب، نعب الشعر الغزل، كما يعب من النبع العذب الصادي الظمآن، ونحفظه في صدورنا كما يحفظ الشحيح الموسر ماله في صندوقه، فيكون في صدورنا الفتية المشتعلة بالعاطفة حطبا يابساً يزيد اشتعال، ولكنه يكون لقرائحنا مدداً، ولألسنتنا ثقافاً، ولنفوسنا صقالاً، وكانت لنا صبوات يحركها سواد المرأة وهي تخطر في سوق القرية بعباءتها السوداء السابغة، وظلتا من خلف زجاج النافذة، وصوتها من وراء الباب، لا نرى منها اكثر من ذلك، فكان يثير سواكن هذه القلوب التي ما عرفت طريق الإثم. . . وإن لم تخل القرية من آثمين (من الشباب) ومن آثمات.

- قلت: فما فائدة الحجاب؟

ص: 11

- قال: أن الخير المطلق ليس من طبيعة الدنيا، والعبرة بالغالب، فالحجاب خير فيه شر قليل، ولكن السفور شر قد يكون فيه خير قليل، وما الإثم في العاطفة يفيض بها القلب، او الشهوة تضطرم بنارها الأعصاب، ولكن الإثم في عمل الجوارح.

وعاد إلى قصته، فقال:

وكنت سمعت على القاهرة إنها، لا تؤاخذوني، إنها كباريز، بلد لذة وانطلاق، وإنها عالم فيه من كل شيء، فيه العلم والجهل، والغني والفقير، والتقى والفجور، والعفاف والفسوق، يصنع كل فيها ما يريد، لا يسأل أحد أحداً ماذا يصنع؟ ولا يقول له: دع ذا، فانه حرام. وكف عن ذا فانه عيب، وإن. . . لأستحي والله أن أتكلم. . .

قلنا له: قل يا آخي، انك تقول الصدق ابتغاء الإصلاح، ولا حياء في الإصلاح

فتردد قليلا، وغض بصره. ثم قال:

- وأن النساء في مصر، أستغفر الله، ما هذا أعني، أعني أن في مصر نساء كثيرات أ. . . الحاصل أن الصورة التي كانت لمصر في مخايلنا لم تكن صورة الأزهر بحلقاته، ولا الجامعة بأبهائها، ولا الجمعيات الإسلامية، ولا النوادي الأدبية، كلا. بل صورة (البلاج) ومشاهده، والسفور والاختلاط، وان الصوت الذي يصل إلى قريتنا عالياً ليس صوت الرسالة والثقافة والكتاب، فإنه صوت خافت فينا، ولكن صوت الاثنين والأخبار والمسامرات، منها تكونت للقاهرة هذه الصورة، فتخيلناها فتاة عابثة مستهترة، لا شيخاً وقوراً صالحاً. . .

- أنا أقول لكم الحق، فأرجو أن يتسع لسماعه صدركم، ولا يضيق به حلمكم. . .

- ولما تقرر سفري إلى مصر، أرقت ليالي بطولها، لا أستطيع الرقاد من فرط الانفعال، ثم سافرت وكلما نقصت من الطريق مرحلة زاد شوقي مراحل، وكلما اقتربت منها ابتعدت عن الصبر، ولست أطيل عليكم، فقد دخلتها ليلا، فنزلت في فندق في العتبة الخضراء بلدي، كانوا دلوني عليه من قبل أن أسافر، اسمه (فندق البرلمان)، فنمت نوماً متقطعاً تتخلله ثائرات الأحلام، يؤرقني ما أرقب من لذائذ هذه الجنة التي دخلتها بعد طول تشوقي إليها فأنهض ساعة، ثم يسحقني السهر والسفر فأهجع أخرى، حتى طلع الصباح.

- ونزلت الساعة العاشرة، فمشيت خطوات، فوجدت في وجهي حديقة الأزبكية، وكنت قد

ص: 12

قرأت في (النظرات) للمنفلوطي رحمه الله، أن الأزبكية، ولا مؤاخذة، هي المكان الذي تميل إليه نفس كل شاب، لأنه أوسخ معابد الشيطان، السوق التي تباع فيها اللذائذ، فاقتربت منها وقلبي يجف كأني مقبل على جريمة قتل، وهل الزنا إلا أخو القتل؟ وتمثل لي ماضي وأخلاقي، وطلعة الشيخ، فارتددت وتلفت أنظر هل راني من أحد - لا تضحكوا أرجوكم فإني اصف لكم ما وقع لي، ومر رجال، خيل إلي أن واحداً منهم يحدق في، ويحدّ النظر إلي ويتبسم فشعرت أن دمي كله قد صعد إلى رأسي، وأن أذني قد صارتا جمرتين ملتهبتين، وتصبب العرق من جبيني، لما وقع في نفسي من أن الرجل يعرفني، ويعلم ما اسعي إليه، فأسرعت في مشيتي حتى نبهت الناس ألي بإسراعي، فجعلوا ينظرون إلي متعجبين من عجلتي، وكلما رأيت ذلك منهم ازددت عجلة، كأني الجواد الأصيل يقرع بالمقارع ليقف، وكلما أحس وقعها طار جرياً، حتى إذا ابتعدت وقفت، ووجدت راحة الخلاص من الإثم، كما يجد الغريق راحة الوصول إلى الهواء، ومشيت لا اعرف لي وجهة، فعاد الشيطان يوسوس الي، فثارت الرغبة في نفسي كرة أخرى، وندمت على أن أضعت هذه الفرصة التي انتظرتها دهراً مديداً، وفكرت فيها مسهداً ليالي طوالا، وقطعت من اجلها قفراً وخضت بحراً، ومشيت من مشرق الشمس إلى مغربها، فعدت وجعلت أدور حول سور الحديقة، وقلبي يكاد يمزق بوجيبه جدار صدري، وكان اليوم يوم أحد، فرأيت غوانيها من خلال السور قاعدات باديات المفاتن أو مضطجعات أو منبطحات على الكلأ ساحرات بالمقل النواعس، وبالسوق والأفخاذ، فكدت أجن، ولا تنسوا أنى لا أزال اعتقد أن الحديقة هي (أزبكية المنفلوطي). . .

وشددنا أشداقنا كيلا يفلت الضحك منا، ومضى في قصته.

قال: ورأيت على مقعد شاباً وفتاة، وهما يتناجيان، وعلى وجهيهما من ظلال الحديث، مثل ما يكون على وجه البحيرة الساكنة من شعاع القمر، وقد تداني الرأسان، والتفت الأيدي بالمناكب، وتعارض الساقان، وأحاطهما بجناحيه إبليس الهوى، فجن جنوني، ودفعتني موجة الانفعال التي ماجت في نفسي، فأقدمت حتى إذا ضعفت الموجة وماتت، كما تموت أمواج البحر وسط اللجة، ألفيتني عند الباب، فوقفت لا ادري ماذا اعمل، وتخيلت كأني قد أقمت على عمود في رحبة القرية والناس كلهم ينظرون إلي يقولون: هذا الذي دخل

ص: 13

الأزبكية التي لم يعرف (المنفلوطي) من تحديدها إلا إنها فوق الغبراء تحت السماء، وتمنيت من الخجل أن أغوص في الأرض وأحسست أن الدنيا تدور من حولى، ولم ينقذني إلا رجل دخل فتوسط الباب الدوار، فدفع (قرش تعريفة) فأداره له البواب حتى صار في الحديقة، فصنعت صنيعه وأنا لا أعقل ما أصنع. . .

جلت في الحديقة فوجدت نساء من كل لون وجنس، ولكني كنت كمن ألقي في الماء قبل أن يتعلم السباحة، فلم أدر كيف السبيل إليهن، وحاولت أن أتذكر ما قرأت من القصص وماذا يعمل إبطالها في مثل هذا الموقف، وما حفظت من أشعار الغزل، فلم يخطر على بالي إلا أبيات (سألت الله يجمعني بسلمى) فقد كانت حالي كحال هذا الشاعر، أرقب أن تجيء إحداهن فتأخذ هي بيدي وتجرني إليها، ولكني لم أر غرفاً ولا مخادع، ثم وجدت بناء في الحديقة فعلمت أن المخادع والغرفات فيه، وبقيت إلى المساء أدور، لا أفكر في طعام ولا أشكو التعب، حتى إذا قيل اخرجوا ستغلق الحديقة، خرجت وما أظن أن على ظهر الأرض إنسان أخيب مني. . .

وجعلت أعود إليها، كل يوم، فلما كان بعد ثلاثة أيام، وكنت قاعداً على مقعد وأمامي امرأة قصيرة الثوب، عارية الساق قد رفعت رجلا على رجل، فأبدت ما أحسست به كالبارود في أعصابي، وجعلت أنظر إليها، علها تلقي بصرها علي، فأغمزها بعين - وقد فكرت في ذلك الليلة البارحة كلها، ورأيته هو الطريق إليها، بعدما أعياني الوصول، وجربته أمام المرآة حتى حسبتني أتقنته والتفتت إلى فغمزت بعيني، فإذا بها تشمخ بأنفها، وتقوم فتمضي وعلى وجهها مثل إمارات الاشمئزاز. . . وسمعت ضحكا من ورائي فتلفت مذعوراً، فإذا أنا بشاب على رأسه كمة بيضاء يلبس (قفطاناً) يبدو عليه أنه فلاح، تلوح عليه سيمياء الفقر، وراى ذعري فقال:(إزيَّك) قلت: (كلُّش زين) ففهم أني غريب، وأني عراقي. فقال:(عجبتك؟) فاستحييت أن أجيب. فقال الخبيث: (ليه؟ أنت مكسوف)؟ ما تتكسفشي! تعال أوديك واحدة أحلى منها).

إنكم لا تستطيعون أن تتصوروا ماذا صنعت بي هذه الكلمة وأنا الذي عاش عمره يشتهي أن يشم ريح امرأة من مسافة فرسخ وتشجعت فقلت له بصوت مخنوق: (شْلُون؟).

قال: (شلون يعني إيه؟ تعال معايا. تعال) واخذ بيدي وأخرجني من الحديقة، وقال: (تحب

ص: 14

ناخذ تاكسي ولاَّ نركب الترام؟) وكنت نافذ الصبر، مجنون الرغبة، فقلت:(تاكسي). ولو كانت طيارة لركبت إلى ما يأخذني إليه طيارة، ولم أساله إلى أين، حتى نزلنا من السيارة، فسألت السائق:(كم تريد)؟

قال: (ثلاثين قرشاً) فارتعت لحظة ولكني لم أبال، ونقدته الأجرة ونظرت فإذا الذي بقي في جيبي اثنان وعشرون قرشاً، وسائر فلوسي عند الفندق. نفقة الشهر كله خمسة عشر جنيهاً. . .

قال الشاب: (إيدك على جنيه بأه). قلت: (جنيه؟) قال: (أمّال؟ دي بنت تمانطاشر، زي الأمر). فنظرت هنا وهناك أبغي مهرباً ولا أعرف الطريق. فقال: (مالكش مزاج ولا إيه؟). قلت: (في وقت ثاني). قال الخبيث: (على خاطرك. هات تعبتي بأه) فأعطيته خمسة قروش، ولم يحب أن يفلتني قبل أن ينتف ريشي فعاد يحدثني حديث الرجس، وقال لي أن عنده بنات أخر، ولكن لكل ثمن، فبنت مصرية سمراء كأن عينيها عينا غزال شارد، وبنت شامية من صفتها كذا، وبنت عراقية من بلادنا من نعتها كذا، وبنت رومية كأن جسمها العاج المشرب بعصير الورد، وكأن شعرها أسلاك الذهب، تسقي من فمها خمراً، ومن مقلتها سحراً ورآني أرتجف من الانفعال، ورأى وجهي شاحباً، فقال: هي بنت بيت (مش من دول) لا تأخذ فلوساً لأن أباها من كبار أصحاب المصارف، ولكن للبواب جنيهان ليغض النظر، وله هو جنيه، واثنان لوصيفتها لتكتم الأمر، وتحفظ الباب. . .

وسحرني الملعون. فقلت: (لا بد لي من الذهاب إلى الفندق لآتي بالفلوس) قال: (هيا بنا).

وتسلم الجنيهات الخمسة، وأدخلني عمارة فخمة في شارع الملكة نازلي، فأصعدني إلى الطبقة السابعة، وأشار إلى باب فقال: إنها هنا. ولكنه لا يستطيع أن يدخل معي، فهو ينتظرني عند البواب، ونزل بـ (المصعد) الذي صعدنا به، وأقدمت مضطراً فقرعت الباب بيد ترتجف، ففتحة لي خادم اسود مسن، ووقف ينظر ما أقول له، ووقفت مبهوتاً فقال:(إيه؟ عاوز مين؟) فسكت. قال: (الله! أنت عاوز مين؟) قلت: (جورج)، وكان هذا هو الاسم الذي خطر على لساني. قال (جورج؟! دا منزل أحمد بك صالح المحامي) واغلق الباب في وجهي، ولم أجد المصعد فنزلت على الدرج، من الطبقة السابعة، فلما بلغت الباب لم أجد الشاب ولا البواب!

ص: 15

طبق الأصل

علي الطنطاوي

ص: 16

‌على ذكر المولد النبوي:

محمد والأمن العام

لصاحب العزة علي حلمي بك

مدير جرجا

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

التشريع الجنائي في الإسلام

القواعد الإيجابية التأديبية للأمن

لا قوام للأمن بغير عقوبة توضع للجريمة التي ارتكبت ردعاً للجاني وزجراً لغيره، ولا قيمة لهذه العقوبة إلا إذا نفذت فعلا على المجرم الآثم، فهل وضعت الشريعة المحمدية عقوبات للجرائم التي تزعزع أركان الأمن وتسبب شقاء المجتمع.

نعم. وما الحدود التي شرعها الله وأوصى بها الرسول الكريم إلا عقوبات تحد من الإجرام وتقف بالإنسان عند حده. واليك بيانها بإيجاز:

أولا - عقوبة الإعدام (القصاص): لا شك في أن أول جريمة تقض مضاجع الناس وتروعهم فتشقى بها الإنسانية إنما هي جريمة سفك الدماء وإزهاق الروح. وقد شرع الله لها القصاص فقال (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) وهي مادة أساسية في قانون محمد الجنائي.

ثانياً - حد قطاع الطرق: وهم العصابات المسلحة التي تتربص بالمارة ليلاً أو نهاراً وتقتل للسلب والنهب.

وحكم الشريعة فيهم ينحصر فيما يلي:

أ - الإعدام: أن ثبت أنهم ارتكبوا القتل.

ب - الصلب مع القتل: أن قتلوا وسلبوا الأموال على خلاف بين الأئمة في الصلب.

ج - قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: (اليد اليمنى والرجل اليسرى) هذا أن اقتصروا على سلب المال دون سفك الدماء

ص: 17

د - النفي: أن استعملوا الإرهاب ولم يقتلوا أو يسلبوا، وقد فسر بعض الأئمة النفي بالحبس. على أنه ثبت أن عقوبة النفي للمجرم فيها إصلاح وأمن، وأن إبعاد المجرمين الخطرين الذين لا يرجى إصلاحهم وعزلهم عن المجتمع كما حصل أخيراً باتباع هذا النظام في معتقل الطور أدى إلى تحسن حالة الأمن وخاصة في الجهات التي نفي منها هؤلاء - وحبذا لو رأى ولاة الأمور استخدامهم في استصلاح الأراضي الزراعية البور كأرض البراري في شمال الدلتا أو العمل بالمحاجر والمناجم أو تشغيلهم في إنشاء الطرق في الجهات النائية كمديرية قنا وأسوان في سبيل العمران والرخاء والأمن.

هذه العقوبات الموضوعة لقطاع الطرق مستقاة من قول الله عز وجل شأنه (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض).

ثالثاً - السرقة: وهي الجريمة الدنيئة التي تتمثل في سلب الأموال وهي قوام الحياة يلجأ إليها المجرمون من الكسالى والمتواكلين رغبة في الاستمتاع بالعيش السهل على حساب غيرهم من المجدين العاملين.

ولهذه الجريمة أسوا الأثر في اضطراب الأمن وانتشار الفوضى، لهذا كانت العقوبة التي وضعها الإسلام لمرتكبيها عقوبة صارمة. وهي قطع يد السارق إذا ثبت عليه الجرم بلا شبهة وليس هنا موضع الحديث عن المقدار الذي يجب فيه القطع ولا عن المال المسروق ولا عن الشبهة التي تمنع الحد (فمرجع ذلك كتب الفقه) لكننا قصدنا إلى بيان أن عقوبة السرقة التي وضعها الله تعالى هي العقوبة الطبيعية لمنع هذا الجرم ودفعا للكسالى والمتواكلين إلى العمل والسعي إلى الرزق وحفظا لا موال الناس من عبث المجرمين. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يشتد في عقاب السارق ولا يعفو عنه حتى ولو عفا المجني عليه، روي أن صفوان بن أمية عفا عن سارق ردائه فقال عليه الصلاة والسلام (لا عفا الله عني أن عفوت) وأمر بقطع يد السارق وهو الذي يقول في لهجة الغاضب الأسف لجماعة يريدون الاستشفاء لامرأة سرقت ما يوجب الحد عليها (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) فلئن دل هذا الحادث على شيء فإنما يدل على أن إقامة حدود الله وهي روادع البشرية وزواجر الإنسانية لم يكن للعاطفة فيها نصيب ولا للرحمة عندها منفذ. فهذه

ص: 18

فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهي أحب ذريته إليه ومع ذلك يقسم صلوات الله وسلامه عليه أنه لو سرقت هذه المحبوبة صاحبة المنزلة الكريمة في نفس لأوقع عليها الحد وأنزل بها العذاب، فأي معنى من معاني السمو الخلقي أسمى من هذا الخلق الكريم فلا شفاعة ولا استشفاع ولا محبة ولا عاطفة تمنع من إقامة الحدود مهما يكن الداعي إليها والمسوغ لها، لذلك انعدمت الجرائم أو قلت كثيراً وعم الأمن وشمل العالم فعمه النظام وطمأنينة البال. وما كان يقع من شرور أو يحصل من آثام فإنما هي أمور شاذة معدودة أمكن علاجها واصبح من المستطاع استئصالها. ولا محل إذن لقول متحامل على الإسلام من مدعى المدينة بأنها أمور وحشية وعقوبات غير إنسانية، فالإسلام لم يكن مبتدعاً لهذه العقوبات ولكنه أقر ما جاء منها في الشرائع السماوية، فكان العالم على ما قدمنا يرزح تحت نيران الفتن وعوامل الفساد، وكانت الحال على أشدها فلا مال يصان ولا نفس تحفظ ولا عرض يحترم. وجاء الإسلام فرعى الحقوق وحقن الدماء ونشر السلام وأمن النفوس وجمع القلوب على دين واحد وتعليم شاملة ومبادئ سامية.

وإن كثيراً من حوادث السرقات إنما يقع بسبب إهمال صاحب المال وعدم الحيطة والحذر كأن يترك مثلا متاعه أو دابته أو سيارته في الطريق ثم يذهب لقضاء عمل يستغرق وقتاً، فيكون في ذلك إغراء للسارق وتشجيع له على السرقة. وقد يكل بعض الناس أمور الحراسة لغير الأمناء بلا حذر أو مراقبة فيستعين الجاني بالحارس على ارتكاب الجريمة.

ولم يهمل المشرع العظيم هذه الناحية. إذ يقول الله تعالى (وخذوا حذركم) ويقول عليه الصلاة والسلام (اعقلها وتوكل)

رابعاً - عقوبات أخرى: شرع الله سبحانه وتعالى على لسان محمد وشريعته الغراء عقوبات أخرى خلقية لها أثرها في الأمن أي أثر

الجرائم الخلقية:

لا تقتصر الجريمة على الماديات فحسب. بل تتعداها إلى غيرها، فهناك الجرائم الخلقية كهتك العرض والفسق التي كثيراً ما تنشأ عن عدم عناية بعض أولياء الأمور بتربية أولادهم وعدم مراقبتهم والمحافظة عليهم.

الزنا:

ص: 19

هو شر أدواء المجتمع: يقوض دعائم الشعوب ويهدم أركان الممالك وحسبك أن انتشاره يقطع التناسل ويؤدي إلى انقراض النوع الإنساني ويهدم صرح الأسرة وهي اللبنة التي يكون منها الأمة. أضف إلى ذلك ما ينشأ عن هذا الجرم الشنيع من انتشار أمراض المدنية (الأمراض الخبيثة) وما يترتب عليها من شقاء الزاني وألمه المرير طوال حياته فيعيش مشوها في خلقه متألما في جسمه ونفسه منبوذاً من المجتمع الذي يحيط به. ثم أن الزاني جرثومة قذرة أن لم يبادر بإبادتها نمت وفشت فتصيب بمرضها الوبيل كل من يقترب منها أو يتصل بها.

ولنا أن نستنتج ما يأتي:

1 -

أن الزنا جريمة يمتد أثرها إلى المجتمع نفسه فيصيبه بالانهيار والانحلال.

2 -

إنه يفقد الشرف والكرامة وهما أسمى آيات الإنسانية الكاملة.

3 -

إنه سبيل المرض. ولا خير في أمة مريضة الشباب ضعيفة الرجال.

4 -

إنه وسيلة الفقر وذهاب المال والمال قوام الحياة.

5 -

إنه أساس لكثير من الجرائم الأخرى التي تؤثر شر تأثير في الأمن العام كالسرقة والتزوير والغصب فضلا عما يؤدى إليه الانتقام للعرض كالقتل كما هو حاصل في أنحاء البلاد وخاصة في الوجه القبلي. والتاريخ يحدثنا أن الأمم التي ترتكب الشهوات وتنغمس في اللذائذ والمنكرات تكون عاقبتها الانحلال والضعف وفقدان الشخصية مهما تكن على قسط من الغنى والقوة أو الحضارة والمدينة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).

وليس هناك من علاج حاسم إلا ما قررته الشريعة الإسلامية من عقاب الزاني والزانية في حزم وبساطة (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منها مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله أن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) فلو نفذ حد الزنا من جلد أو رجم لكفانا ذلك العمل على بساطته مؤونة البحث والتنقيب والخطابة والتأليف والكتابة والنشر وتأليف اللجان وما إلى ذلك مما لا يجدي نفعاً في كبح جماح هذه الغريزة الجنسية ولاسترحنا من الويلات والمشاكل والقضايا المترتبة على هذه الجريمة التي تشغل بالنا وتؤثر في امتنا وهذا لا يمنع من إيجاد علاج شاف للنساء الساقطات اللاتي

ص: 20

كن يحترفن البغاء العلني بما يمنع تسربهن إلى البغاء السري وذلك بإنشاء مؤسسات تكفل لهن العيش الشريف وضمان المستقبل يعملن فيها بأشغال يدوية كالحياكة وغيرها ويمنحن مكافآت مالية بقدر ما يعملن وتيسير زواجهن إلى أن ينقرض هذا الوباء بعلاج حاسم حازم سريع.

ولنتكلم عن عقوبة الزنا بشيء من الإيضاح لنبين الغرض منها:

قيدت الشريعة السمحة ثبوت هذه الجريمة واستحقاق العقوبة عليها بقيود شديدة تجعلها نادرة التنفيذ ووجهة النظر في التشريع الإسلامي هنا تنحصر في أمرين: الأول منع الجريمة الثاني ستر العرض.

فالإسلام يبغي من وراء هذه العقوبة الصارمة الإرهاب. والخوف كان ولا يزال غريزة من غرائز النفس البشرية كثيراً ما يفيدنا في التشريع والإصلاح الاجتماعي لأن الدين الحنيف يريد استئصال الجريمة من أساسها لما في ذلك من استقرار النظام الاجتماعي وإسعاده ويريد بدوره ستر الأعراض وعدم الفضيحة والعار لقبح هذه الجريمة وشناعتها. لذلك كان ثبوتها من الصعوبة بمكان.

وإليك البيان:

أولا - اشترطت في رجم الزاني:

1 -

أن يكون بالغاً فلا يرجم الصبي طبعاً.

2 -

أن يكون عاقلاً فليس المجنون محصناً فلا يرجم.

3 -

أن يكون مسلماً.

4 -

أن يكون الزاني متزوجاً وأن يدخل بمن تزوج منها.

5 -

أن يكون فاعلاً باختياره فلا يرجم من أكره على الفعل

ثانياً - أسقطت الشريعة الحد أن وجدت أية شبهة لقوله عليه الصلاة والسلام (ادرءوا الحدود بالشبهات).

ثالثاً - اشترطت لثبوت الزنا واستحقاق الحد سواء أكان رجماً للمحصن أم جلداً لغيره أن يتقدم للشهادة عليه أربعة شهود عدول في مجلس واحد شهدوا وقوع الجريمة ورأوا الفعل رأي العين على حد قول الفقهاء (كالمرود في المكحلة) فلو اختلفوا في الرؤية وتأخر أحدهم

ص: 21

عن المجلس الواحد (الجلسة عينها) لم تثبت التهمة ولا حد. بل يحد الشهود الأول حد القذف لأنهم رموا إنسانا بالزنا والجريمة لم تثبت عليه.

رابعاً - رأى بعض الأئمة أن ترك الشهادة في جريمة الزنا أولى إلا إذا كان الزاني متهتكا فاجراً.

خامساً - حتمت الشريعة على القاضي في حالة إقرار الزاني على نفسه أن يرده أربع مرات وان يتغافل عنه وان يقول له (لعلك قبلت أو لمست) في كل مرة يعود فيها للستر من جهة ولصرامة العقوبة من جهة أخرى.

سادساً - إذا رجع المقر عن إقراره بعد ذلك ولو بعد صدور الحكم سقط الحد. من هذا كله نرى أن الشريعة قصدت إلى أمرين هما (منع الجريمة وستر الأعراض) إذ أن إنزال العقاب يكاد يكون مستحيلا مع كل هذه القيود التي سبق سردها، على أن العقوبة نفسها مناسبة لأن هتك الأعراض وفساد المجتمع ليس بالشيء الهين الذي يحتمل الهوادة واللين.

الخمر:

إذا تحدثنا عن الخمر فإنما نتحدث عن أم الخبائث وأساس المنكرات ومبعث الجريمة. وسنبين فيما يلي الحقائق التالية ليتبين منها أثر الخمر في الأمن العام:

أولا - أن الغول (الكحول) الموجود بالخمر يؤثر على المجموع العصبي ويحدث التخدير والنشوة فلا يشعر الثمل بما يأتي من الأعمال ولا يقدر النتيجة المترتبة على فعله، لهذا نجد كثيراً من المجرمين كالقتلة واللصوص يتعاطون المسكرات قبل شروعهم في إجرامهم ليزدادوا جرأة وإقداما.

ثانياً - ثبت في بعض البلاد الأجنبية التي تنتج الخمر وتعتمد عليها كحاصلات أن نسبة الإجرام تزيد في موسم محصول الخمر زيادة تلفت النظر.

ومن الحوادث التي روتها الكتب أن شبانا كانوا يحتسون الخمر فمرت بهم عجوز فدعوها وناولوها كأساً فلما شربتها شعرت بخفة وسرور، ثم لما شربت الثانية أخذت تضحك وتداعب الشبان وقالت لهم: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم قالت: لقد زنين ورب الكعبة.

والواقع الملموس أن كثيراً من حوادث الشغب وما يؤدى إليه من ارتكاب الجريمة يحدث

ص: 22

في مواطن شرب الخمر من الحانات والشوارع التي يكثر فيها تناول الخمور. وهناك أقسام البوليس لا يهدأ لها بال ولا تكاد تخلو كل مساء من عدة حوادث إجرامية منشؤها السكر والعربدة. وهي الأقسام القريبة من بؤر الدعارة ومحال الخمور.

ومن أجل ذلك حاولت بعض الدول الكبرى تحريم الخمر في داخل أراضيها كأمريكا، وحرمت بعضها تناولها في أوقات معينة وهى ترمي إلى تقليل ضررها الجسمي والاجتماعي ما أمكن ذلك.

وبعد: فقد علم الله العليم الحكيم ما في الخمر من ضرر جسيم وبلاء عظيم فحرمها الإسلام الحنيف وأوجب عقاب شاربيها.

ويلاحظ أن العقوبة التي وضعت لهذا الجرم فيها إيذاء مادي للبدن. كما أن فيها إيلاماً وامتهاناً للنفس يتناسب مع امتهان الشارب لنفسه وحقارتها لسكره وعربدته حتى تكون زاجرة رادعة له ولغيره من العابثين المستهترين وهنا يستقر النظام ويستتب الأمن.

ثمانون جلدة: عقاب فيه بساطة التشريع وبساطة التنفيذ جريا على عادة البساطة في الشريعة الإسلامية السمحة والإسلام دين الفطرة، ولكن الإسلام مبالغة في الكرامة الإنسانية وإرادة للستر وتخفيفاً على العباد اشترط أن يؤخذ الشارب ورائحة الخمر في فمه.

فأوجب لثبوت الجريمة أن تكون مادتها موجودة وهي رائحة الخمر إلا إذا ذهبت الرائحة لبعد المسافة وطول الوقت، واشترط لذلك أن يشهد على الشارب اثنان تتوفر فيهما العدالة وعدم التجريح وتنتفي التهمة معها العقوبة بأية شبهة يظنها القضاء كأن يثبت أن المتهم شربها للعلاج مثلاً.

ولو رجع في إقراره بعد أن اقر بالشرب لا يحد، وكذلك لو شهد الشاهدان ولا رائحة للخمر في فمه.

فلّله ما أسمى هذا التشريع وما أعدله وما أبعد أثره في تقويم النفوس وتهذيب الأخلاق وسعادة المجتمع.

إن هذا التشريع هو ما يتطلبه المجتمع اليوم للقضاء على ما فيه من شرور وجرائم ليستريح الناس ويتطهر العالم مما علق به من رجس وآثام ويسير مطمئناً إلى حياة الاستقرار والسعادة والنور والسلام. (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى

ص: 23

النور)

علي حلمي

مدير جرجا

ص: 24

‌الأدب في سير أعلامه:

3 -

تولستوي. . .!

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

طفولة ونسب

ويتصف الطفل منذ نشأته بصفة لعلها وليدة شعوره القوي بذاته، وتلك هي سرعة بكائه، وما يبكي من غيض فحسب، فإن عينيه تدمعان إذا لقي حنواً أو مودة ممن هم أكبر منه، وإن عجباً أن يبكي في موضع السرور ليعبر بدمعة عن امتنانه، فهل كان لذلك سبب أخر هو إحساسه بيتمه منذ أن فطن إلى موت أمه؟ ولكنه بكاء شكاء من قبل أن يفطن إلى ذلك، وهو لا

يملك أن يحبس دمعة إذا رأى غيره يبكي وأن لم يدر ما بكاؤه ولقد يغضب غيره حتى يبكيه ثم لا يستطيع إلا أن يبكي معه؛ كتب فيما بعد عما كان بينه وبين تلك البنت التي كان يربيها أبوها في أسرته فقال: (أتذكر أني أخذت وقد تعلمت الفرنسية أعلمها حروفها الهجائية، وسار ذلك سيراً طيباً أول الأمر، وكنا يومئذ كلانا في نحو الخامسة من عمره ولكن التعب أدركها فأمسكت عن نطق الحروف كما طلبت إليها، فألححت عليها فبكت ثم إذا بي أبكي مثلها، ولما دخل علينا من هم أكبر منا لم نجد ما نقوله بسبب ما كنا نذرف من الدمع).

وكان ليو أكثر من غيره من الأطفال حباً للثناء عليه وابتهاجاً بما يسمع من عبارته، وذلك أنه يفطن إلى أن الثناء عليه ينصرف بالضرورة إلى ما يبدي من دلائل الذكاء والنشاط والطموح، إذ ليس يطمع في ثناء عليه بسبب منظره أو ملاحة وجهه أو رشاقته كما عسى أن يطمع سيرجي أو نيقولا؛ فما أبعده عن ذلك كله، وهو شيء ليس في طوقه، وان كان يتمنى بينه وبين نفسه لو وقعت معجزة فغيرت شكله إلى ما يحب من وجاهة

وحسن؛ ولن تقع هذه المعجزة أبداً فليس له إلا أن يرقى بنفسه وبيدي مقدرته، ولهذا كان إذا دعي إلى عمل جمع عزمه وحرص الحرص كله على أن يكون في احسن حالاته، ومن

ص: 25

ذلك ما يكون منه بين يدي أبيه حين يدعوه إلى تلاوة قصيدة من شعر بوشكين أو غيره من الشعراء، أو تلاوة أقصوصة من كتاب أو من ذاكرته أو حين يناقشه في دروسه ليعلم مبلغ فهمه.

وكان شغفه بالموسيقى عظيما يتفتح لها قلبه وتنفعل لها نفسه ويبتهج خاطره إذا سمع لحناً وانشغل غيره عنه فهو مقبل عليه بقلبه ولبه كأنه مسحور به لا يكاد يعي دونه شيئاً.

ويحب ليو الناس جميعاً لا يضمر سوءاً لأحد، ولا يتجهم لأحد، ويكره أن يرى شخصاً يتألم أو تمشي في وجهه كدرة الهم كما يكره أن يعبس أحدهم في وجه صاحبه أو يتكره له أو يتجهمه بالقول، فالصفا والمحبة والمودة من خصائص طبعه ومقومات خلقه

غلام نابه

تمكنت من نفس الصبي روح المحبة للناس جميعاً، ولسوف تتوثق على الأيام وتزداد فيكون لها أثرها البعيد في تكوين آراء الكاتب العظيم في غد، وفي توجيه روحه وتحديد مسلكه في مواطن كثيرة من مواقف حياته.

وكان يحب الطفل فيمن أحب في طفولته كبيرة الخدم العجوز التي لبثت من عمرها في القصر سنين طويلة لا يدرك مدى طولها، والتي تقص أجمل القصص عن أجداده وأحداث أسرته وتلاعبه وتضاحكه كلما ذهب إليها أو كلما لقيته في إحدى ردهات القصر أو حجراته، وتخبئ له الحلوى في ثيابها لتلاقيه بها أو تفتح له خزانتها ليأخذ منها ما يحب؛ وكان كذلك يحب كبير خدم المائدة لأنه يهش له دائماً ويظهر المودة والعطف؛ والحق أنه كان يحب الخدم جميعاً وإنما يختص من هم اكثر تودداً أليه. دخل يوماً على العمة تاتيانا يشكو إليها أنه رأى منظراً كدره وآلمه، وذلك أنه شاهد أحد الفلاحين يساق إلى حظيرة حيث أوثقه رئيسه وضربه، ولما سألته عمته لم لم يحل بينه وبين الضرب أطرق في خجل ولم يحر جواباً، وكأنما يزداد ألماً ألا يستطيع أن يتدارك ما فاته.

وبينما كان أفراد الأسرة كبارهم وصغارهم في الثوى الكبير ذات ليلة من ليالي الشتاء أشار الكونت نيقولا رب الأسرة بسبابته إلى الحجرة المقابلة وكانت مفتوحة، فوقعت أعين الجالسين على منظر أثار ضحكهم ودهشتهم فقد عكست المرآة فيها صورة أحد الخدم يمشي على أطراف أصابعه، وما زال حتى بلغ الصندوق الطباق فسرق منه قدراً وانصرف،

ص: 26

وكان الكونت ينظر إليه ضاحكاً لم تزل عنه بشاشته، بل لقد صحب تلك البشاشة شيء من التسامح والرفق، ولما رأى ليو تسامح أبيه أمتلئ سروراً منه وازداد إعجاباً به، وعند انصرافه لثم يده في حماسة ظاهرة ليريه مقدار ما في نفسه من رضاء على ما أظهر من رحمة ورفق.

وامتد عطف الصبي حتى وسع الحيوان فقد أحزنه ذات يوم مرأى كلب مربية والخدم يشنقونه، وكان ذلك الكلب العزيز الرمادي اللون ذو العينين الجميلتين والشعر الناعم الجعد على حد وصفه قد أصيب بكسر ساقه إذ مرات فوقه عربة، فأعدم إذ لم تعد بهم حاجة إليه في الصيد؛ وعجب الصبي لما رأى بقدر ما تألم منه. وانه ليروي هذا الحادث بعد فيما يروي من حوادث الصغر مما يدل على شديد تأثره به، قال:(كان الكلب يعاني الألم وكان مريضاً وقد شنق بسبب ذلك. لقد أحسست أن هناك خطأ فيما يقع، ولكني لم أجرؤ على الثقة في شعوري حيال ما أرى من تصميم ثابت من جانب قوم أحترمهم).

ووقف الصبي ذات يوم يمسح بكفه الصغيرة حصانة، وقد وثب عن ظهره إلى الأرض إذ نبهه أحد الفلاحين وقد رآه يضربه ألا جدوى من ضربه لأنه متعب، ونظر الصبي إلى الحصان وهو يلهث ويخرج أنفاسه في زفرات مؤلمة متقطعة، وجنباه يرتعشان والعرق يتبخر منهما، فبلغ من حزنه أنه (أخذ يقبل عنقه الذي بلله العرق ويسأله الصفح عما أوقع به من أذى). . .

وممن وسعهم عطف الصبي وشملهم بره أولئك الفقراء الذين كان يعدهم الناس من الصالحين الأولياء، وكانوا كثيرين في تلك المنطقة لقربها من كييف حيث يتقاطر الحجيج ليزوروا مواضعها المقدسة، وكان مرأى هؤلاء في أسمالهم البالية وبلاهتهم وتمتماتهم وعدم اكتراثهم لأي شيء أمراً يثير الدهشة في نفس الصبي كما يبعث فيها كثيراً من الرهبة، ويوحي إلى خياله أطيافاً مهمة وصوراً غامضة؛ وكان ينبئه اخوته أن في هؤلاء الصالحين سراً لا يمكن كشف يجعلهم على الرغم من حقارة مظهرهم وقذارة أسمالهم أقرب الناس إلى مرتبة القديسين، وقد وصف تولستوي هذه الطائفة في شخص (جريشا) الذي تحدث عنه في كتابه (عهد الطفولة) وقد كتبه وهو في الخامسة والعشرين من عمره قال: (كان جريشا شخصية مخترعة، وكان يغشى منزلنا كثير من هؤلاء البلة الطيبين، وقد علمت أن انظر

ص: 27

إليهم نظرة الاحترام الشديد وهو صنيع أحفظه لمن قاموا على تربيتي، ولئن كان بين هؤلاء من يعوزه الإخلاص أو من قضى فيما سلف أياما في حالة من الضعف والادعاء فإن غايتهم في الحياة كانت على ما يبدو من سخفها في الواقع بالغة السمو؛ حتى إنه ليسرني أني تعلمت في طفولتي على غير وعي مني ما وصلوا إليه بأعمالهم من علو، لقد صنعوا ما تحدث عنه ماركس اورليوس حين قال:(ليس هناك أسمى من أن يتحمل المرء الازدراء من أجل أن يحيا حياة صالحة طيبة) أن الطموح الإنساني إلى المجد والعظمة أمر لا يمكن تجنبه وهو كذلك بالغ الضرر إذ أنه يفسد كل عمل حميد، فلا يسع المرء إلا العطف على أولئك الذين لا يقتصرون على بذل جهدهم لتجنب أن يحمدوا فحسب بل ويتعرضون فوق ذلك للاحتقار. . .

ومما كان يبهج نفس الصبي ويحبب إليه الحياة ما كانت تحتشد له الأسرة من مظاهر الفرح في أعيادها وعلى الأخص عيد الميلاد، فكانت تشيع البهجة في البيت كله فترى دلائلها في كل وجه وتحس روحها في كل ناحية، فرب الأسرة وسيداتها وأبناؤها وجميع من في القصر من خدم يتبادلون المحبة والمودة ويبدون سعداء في ثيابهم الجديدة ويستمتعون بما طاب من الطعام والشراب، حتى الفلاحين ينالهم حظ من هذا الفرح فتطيب نفوسهم وهذا ما ينشرح له صدر الصبي.

وكان خروجه إلى الغابة للصيد مع أبيه واخوته في العربات الجميلة أو على ظهور الخيل المسومة الفخمة يحيط بهم رهط من الأتباع وعدد من كلاب الصيد مما يملأ قلب الصبي سروراً وبهجة، وكثيراً ما كان يبهجه كذلك الخروج إلى الغابة لغير الصيد في صحبة العمة تاتيانا أو في صحبة جدته أو غيرهما من المربين فيرتع ويلعب ويقتطف ما شاء من الزهر، ويستمع إلى القصص حتى يعود إلى البيت وهو يطفر كما يطفر العصفور من فرط المرح. وفي ليالي الشتاء كان تحلق الأسرة حول الموقد والاستماع إلى الموسيقى أو القصص الممتعة، وتبادل العطف بين الكبار والصغار وبين بعضهم مع بعض مما يحبه الصبي ويأنس به ويحرص كل الحرص على شهوده. . .

وليس ثمة إلا حجرة الدراسة تخلو من البهجة ويلقي فيها من درسه عنتاً ورهقاً، على أن عطف معلمة عليه يخفف عنه، ورغبته في أن يرقي بنفسه ويكتسب من دواعي الفخر ما

ص: 28

يباهي به اخوته يجعله يتكئ على نفسه ويصبر على مكاره الدرس.

وفيما عدا هذا كانت طفولته بهيجة محببة إلى نفسه ولن تجد وصفاً لهاتيك الأيام السعيد الحلوة أبلغ مما كتبه عنها بعد ذلك في أول كتاب له وهو كتابه (عهد الطفولة) قال (ما اسعد هاتيك الأيام الحلوة أيام الطفولة التي لا تنمحي ذكراها، وكيف ينسي امرؤ أن يحب ذكرياتها وأن ينعم بها؛ أن هذه الذكريات لتنعش روحي وتسمو بها، وهي المنبع لأعظم فيض من السرور يغمرني، وأي وقت هو خير من ذلك الوقت الذي لا يكون للحياة فيه من دوافع غير دافعين هما في الفضائل أجمل فضيلتين: اللهو البريء ورغبة النفس في الحب رغبة لا تحد).

(يتبع)

الخفيف

ص: 29

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

861 -

تهنئة بإسلام

عيون الأخبار: كتب رجل من الكتاب إلى (صديق له) قد اسلم يهنئه:

الحمد لله الذي أرشد أمرك، وخص بالتوفيق عزمك، وأوضح فضيلة عقلك، ورجاحة رايك، فما كانت الآداب التي حويتها، والمعرفة التي أوتيتها لتدوم بك على غواية وديانة شائنة لا تليق بلبك، ولا يربح ذوو الحجى من موجبي حقك ينكرون إبطاءك عن حظك، وتركك البدار إلى الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره، ولا يثيب إلا به، فقال:(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) وقال: (إن الدين عند الله الإسلام)، والحمد لله الذي جعلك في سابق علمه ممن هداه لدينه، وجعله من أهل ولايته، وشرفه بولاء خليفته، وهنأك الله نعمته، وأعانك على شكره، فقد أصبحت لنا أخاً ندين بمودته وموالاته، بعد التأثم من خلطتك، ومخالفة الحق بمشايعتك، فإن الله عز وجل يقول:(لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).

862 -

بالعدل قامت السماوات والأرض

مفاتيح الغيب للرازي: العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال، ومن الكلمات المشهورة:(بالعدل قامت السماوات والأرض) ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر لا ستولى الغالب على المغلوب، ووهى المغلوب، وتنقلت الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب. ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لعظمت السخونة في هذا العالم واحترق كل ما هذا العالم، ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البر والجمود على هذا العالم، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها، فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم. فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم: بالعدل قامت السماوات والأرض.

ص: 30

863 -

عللاني وعللا صاحبيا

عمرو بن الإطنابة:

عللاني وعللا صاحبيا

واسقياني من المروق ريَّا

إن فينا القيان يعزفن بالدف (م)

لفتياننا وعيشاً رخيا

يتبارين في النعيم ويصبن (م)

خلال القرون مسكا ذكيا

إنما همهن أن يتحلين (م)

سموطاً وسنبلاً فارسيا

من سموط المرجان فصل بالشذر (م)

فأحسن بحليهن حليا!

864 -

الغيبة

شرح النهج لابن أبي الحديد: أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط بل كل ما عرفت به صاحبك نقص أخيك فهو غيبة، فقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بالإشارة والإيماء وبالمحاكاة نحو أن يمشي خلف الأعرج متعارجاً، وبالكتاب فإن القلم أحد اللسانين. واخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين، وذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم: الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب السلطان والتبذل في طلب الحطام، وقصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص فتخرج الغيبة في مخرج الحمد والشكر لله تعالى. فيحصل من ذلك غيبة المسلم، ويحصل منه الرياء وإظهار التعفف عن الغيبة وهو واقع فيها، وكذلك يقول: لقد ساءني ما يذكر به فلان نسأل الله أن يعصمه. ويكون كاذباً في دعوى أنه ساءه وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته، ولو كان قد ساءه لساءه أيضاً إظهار ما يكرهه ذلك الإنسان. وأعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة بل أشد لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها، وإذا كان السامع الساكت شريك المغتاب فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة.

865 -

قليل الراح صديق الروح

خاص الخاص للثعالبي: حنين بن إسحاق المترجم أتفق له هذه اللفظة الوجيزة الشريفة البديعة التي لم أسمع للبغاء مثلها في الجمع بين التجنيس والطباق والترصيع مع حسن المعنى وجودته وصحته وهي قليل الراح صديق الروح، وكثيرة عدو الجسم.

ص: 31

866 -

أسد همذان

معجم البلدان: من عجائب همذان صورة أسد من حجر على باب المدينة منحوت من صخرة واحدة غير منفصلة عن قوائمه كأنه ليث غابة. وكان المكتفي يهم بحمله من باب همذان إلى بغداد، وذلك أنه نظر إليه فاستحسنه، وكتب إلى عامل البلد يأمره بذلك فأجتمع وجوه أهل الناحية، وقالوا: هذا طلسم لبلدنا من آفات كثيرة، ولا يجوز نقله فتهلك البلد، فكتب العامل بذلك، وصعب حمله في تلك العقاب والجبال، وكان قد أمر بحمل الفيلة لنقله على العجلة، فلما بلغه ذلك فترت همته في نقله فبقي في مكانه إلى الآن.

قال محمد بن أحمد السلمي المعروف بابن الحاجب يذكر الأسد على باب همذان:

إلا أيها الليث الطويل مقامه على نوب الأيام والحدثان.

أقمت فما تنوي البراح بحيلة

كأنك بواب على همذان

أطالب ذحل أنت من عند أهلها؟

ابن لي بحق واقع ببيان

أراك على الأيام تزداد جدة

كأنك منها آخذ بأمان

أقبلك كان الهر أم كنت قلبه

فنعلم أم ربيتما بلبان

وهل أنتما ضدان، كل تفردت

به نسبة أم أنتما أخوان

بقيت فما تفنى وأفنيت عالماً

سطا بهم موت بكل مكان

فلو كنت ذا نطق جلست محدثاً

وحدثتنا عن أهل كل زمان

ولو كنت ذا روح تطالب مأكلا

لا فنيت أكلا سائر الحيوان

أجنبت شر الموت أم أنت منظر

وإبليس حتى يبعث الثقلان

فلا هرماً تخشى ولا الموت تتقي

بمضرب سيف أو شباة سنان!

تتنفس النفوس بقدر هممها

اللمحة البدرية في الدولة النصرية للسان الدين بن الخطيب: تذكر يوماً بحضرته - يعني محمد بن إسماعيل من ملوك بني نصر في الأندلس - معنى قول المتنبي:

ايا خدد الله ورد الخدود

وقد قدود الحسان القدود

وقول أمرؤ القيس:

ص: 32

وإن تك قد ساءتك مني خليقة=فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

وقول إبراهيم بن سهل:

إني له من دمي المسفوك معتذر

أقول حملته من سفكه تعبا

فقال (رحمة الله) بديهاً - على حداثته -: بينهم ما بين نفس ملك عربي وشاعر عربي، ونفس يهودي تحت الذمة، وإنما تتنفس النفوس بقدر هممها.

ص: 33

‌ملحمة:

بطل الريف

الأمير عبد الكريم الخطابي

للأستاذ محمود رمزي نظيم

(كنت يوم انهيار جهاد الأمير الجليل محمد عبد الكريم

الخطابي أمير الريف ووقوعه في الخدعة الفرنسية قد نظمت

هذه المزدوجة وقد رأيت نشرها اليوم على صفحات الرسالة

الخالدة في الظرف الحاضر بمناسبة ما يجري لفك إساره).

العين تبكي والدموع تجري

ولم يعد ذاك النسيم يسري

(عبد الكريم) جاثم في الأسر

وكان محفوفاً بجند النصر

تسليمه قد حار فيه الساسة

من بعد طول الجهد والحماسة

وبعد ذاك الحزم والكياسة

وقد أضل أمره السياسة

ولم تفز منه بكشف السر

رباه ما أتعس حظ الشرق

من حالق به الخطوب تلقى

ويل لنا من مزعجات البرق

صواعق تهوي بنا كالبرق

تجيئنا منذرة بالشر

الشرق نامت عينه طويلا

ولم يزل مضجعاً عليلا

والجهل أرخى حوله سدولا

فلم يجد لبعثه سبيلا. .

وصار لا يملك كشف الضر

كم أمة من أهله مستعبده

راسفة في جهلها مقيدة

وليس منها من تعيش سيده

بشعبها وعلمها مؤيده

وحره يعيش غير حر

وما أذل الشرق غير أهله

وما به من خلفه وجهله

ص: 34

فما الذي أصابه في عقله

ألم يكن في فرعه كأصله

حتى استنام لحياة الأسر

والجهل قاده إلى التعصب

وكثرة الشجار والتحزب

تنافر ووحدة في المطلب

هذا ضلال كله في مذهبي

وبحره ليس له من بر

فانظر إلى تطاحن الهنود

تعصب يعزى إلى الجمود

ولم يكن لعلة الجود

ولا القديم احتك بالجديد

لكنه من نكبات الدهر

العصر عصر النور والحياة

وليس عصر هذه الآفات

ألم يحن لهذه الرفات

قيامها من غفوة الأموات

ألم تكن من أهل العصر

دسائس الغرب لنا تكيد

وهكذا الأسياد والعبيد

فهم يريدون ولا نريد

ونارهم نحن لها الوقود

ونحن في حسابهم كالذر

لهم عقول للحياة تعمل

تعمقوا في فهمها وأوغلوا

وجددوا وغيروا وبدلوا

وجربوا وهذبوا وحولوا

فجعلوا الزئبق ذوب التبر

واخترعوا فحيروا ألبابنا

وملكوا بسعيهم زمامنا

كيف نقول ما لهم وما لنا

إذا استغل علمهم خمولنا

وجرعوا الشرق كؤوس المر

غواصة تسبح تحت الماء

طائرة تطير في الفضاء

وصوت (لاسلكي) في الهواء

فيا لهم من عالم أحياء

ويا لنا من عالم في القبر

مستضعفون كلنا أذله

ونحن داؤنا ونحن العلة

كل زعيم قام يشفى الغلة

نتركه في وحشة مملة

ص: 35

في عزلة كتائه في القفر

وكم يثير الحسد البغيض

وكم إناء حاسد يفيض

وهكذا لا يبرأ المريض

وكل ماء أمل يغيض

وينتهي جهاد كل بر

كم وقفة بين أسود الريف

للبطل المستسلم الشريف

فيا له من جهده العنيف

من أسد مكشر مخيف

في معقل يشبه وكر النسر

ممتنع كالأسد الهصور

مرابط للضرب في النحور

فما لهذا القائد المنصور

قد غلبته قوة المقدور

فسلم الأمر لرب الأمر

صيت جهاده علا وطارا

وطبق البلاد والأقطارا

وأدهش العقول والأفكارا

ثم هوى من شاهق وانهارا

وأوقعوه في شباك الغدر

بالأمس قاد جنده الشجعانا

ببأسه وقهر الأسبانا

وساقهم أمامه قطعانا

وأحسن البلاء والطعانا

فانقلبت فلولهم بالكسر

وعاد بالنصر وبالسلاب

وجنده دامية الحراب

وسد باب الحرب والخراب

بعد طويل الطعن والضراب

منذ رمى أعداءه في البحر

واستبشر الشرق بهذا الربح

وهلل القوم لهذا الرمح

ولم يكد يبش وجه الصبح

حتى أثار الغرب نار الفتح

كي يسترد ثمرات النصر

هب الفرنسيس مع الأسبان

لخوض نار الحرب والطعان

وليس ليث الريف بالجبان

فقابل النيران بالنيران

حتى جرت دماؤهم كالنهر

ص: 36

ودكت الجبال بالقنابل

والطائرات هطلت بوابل

وسال بركان على القبائل

يذهب بالأرواح والمنازل

والريف ملتف بثوب الصبر

ليست به موارد غنيه

وإنما نفوسه أبيه

وحب حريته سجيه

ولم يزل ملتهباً حميه

في شدة جديرة بالفخر

والحرب مازالت رحاها دائرة

والريف لم تدر عليه الدائرة

ولم تزل فيه العقول حائرة

ويفتدى بكل نفس ثائرة

حرية غالية في المهر

وجددت أبناؤه العزائما

أن لا يكونوا للعدا غنائما

وأن يموتوا أو يعيشوا دائما

ولا يكون الغرب فيهم حاكما

وما جرى به القضاء يجري

أبو الوفاء

محمود رمزي نظيم

(منيل الروضة)

ص: 37

‌صحائف مطوية:

التحكيم بين العمال وأصحاب الأعمال

فتوى دينية اجتماعية

للمغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

تعتبر العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال من أهم المشاكل الاجتماعية التي تشتغل تفكير الحكومات والهيئات، وعلى الرغم من الجهود الطويلة التي بذلت في الخمسين سنة الماضية لتذليل هذه المشكلة بما يحسم الخلاف الذي ينشب بين الجانبين على وضع عادل سليم يضمن للعامل راحة الجهد ووفرة الأجر، ويضمن لصاحب العمل تقدم الإنتاج وحسن الربح، وعلى الرغم من تأليف النقابات والهيئات ووضع اللوائح والتشريعات لتنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال فإن المشكلة لا تزال قائمة، وكلما نشب خلاف بين الطرفين انتشر الأمر، وتشبث كل بوجهته ووقعت الحكومة في حيرة لأنها لا تجد مجالا لاستخدام نفوذها في هذه الحال إلا بمنع ما قد يقع من تخريب.

وبينا كنا نقلب الصفحات، وقفنا على فتوى جليلة للمغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في شأن ما يكون من الخلاف بين العمال وأصحاب الأعمال، وكان المرحوم الأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة قد كتب إلى الأستاذ الإمام يستفتيه في هذا الموضوع فكتب إليه بتلك الفتوى، فنشرها الأستاذ أنطون في مجلته ومهد لها بمقدمة طويلة قال فيها:

(كنا نطالع ما كتب بشأن العمال وأصحاب الأعمال في البلاد الإسلامية فعثرنا في أثناء المطالعة على مقال هام لكاتب فرنسي موضوعه (العمل والعمال في الجزائر). ومما أدهشنا في هذا المقال قول كاتبه: أن عقدة العقد التي يتخاصم الآن حولها أهل العمل وأهل المال في العالم كله، والتي هي مشكلة المسائل الاجتماعية في هذا العصر قد حلتها الشريعة الإسلامية. فإنها أوجبت التحكيم بين العامل وصاحب العمل متى قام نزاع بينهما، فوقفنا عند القول الخطير، إذا كان قائله لم يلق الكلام على عواهنه فالشريعة الإسلامية يحق لها أن تفخر بأنها تقدمت في مبدأ العمل الشريعة المدنية الحديثة، ولم نستبعد هذا الأمر لأن

ص: 38

مبادئ الأديان القديمة قائمة على عدم احترام حق الملك احتراماً مهماً، وعلى التعاون والمساواة بين أفرادها، خلافاً لمبادئ المدنية الجديدة القائمة على بقاء الأفضل وتنازع البقاء، أي قيام القوي وسقوط الضعيف، وهو معنى حماية حرية الأفراد وملكهم شخصياً وتجارياً وصناعياً، وقد أخذنا نبحث عن هذه المسألة في الكتب التي لدينا ولما لم يرتو لنا منها غليل لم يبق أمامنا سوى استفتاء حملة الشرع الإسلامي فيها، فاغتنمنا هذه الفرصة لنجدد عواطف الاحترام لفضيلة العلامة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وحجة الشرق على الغرب في هذا العصر ونغترف من بحر علمه بالشريعة الغراء فضلا عن رغبتنا في الوقوف على رأي الشرع في هذه المسألة، فكتبنا إلى فضيلة الأستاذ نستفتيه فيها فتفضل علينا فضيلته بالكتاب التالي:

(تلوت كتابكم بعد رجوعي من السفر ولا يخفى على حضرتكم أن التحكيم كما يفهم من لفظه يلزم أن يكون باتفاق الخصمين اللذين يريدان أن يقضى النزاع بينهما بالتحكيم فهو اختياري بطبيعته، ولا يكون إلا فيما هو من حقوق العباد التي يقع التنازع فيها بينهم ولا يجبر أحد خصمين على أن يتحاكم إلى من يفصل بينه وبين خصمه إلا إذا كان الترافع إلى محكمة من تلك المحاكم التي تقررها القوانين العامة أو الخاصة. والعامل متى علة الأجرة وزمن العلم فهو حر أن شاء قبل أن يعمل على شرط مقدار الأجرة ومدة العمل وأن شاء لم يقبل. فهذه هي القواعد العامة المتعلقة بأجرة العمال وتقيد أزمان عملهم ولا وجه لاختلاف العامل ورب المال قبل الدخول في العمل، والمقصود أن يكون الاختلاف في الوفاء بالشرط وعدم الوفاء به والذي يفصل فيه عند ذلك المحاكم أو المحكمون إذا اختار المتنازعان طريقة التحكيم. أما الحالة القائمة الآن في أوربا فمنشؤها أمران: أحدهما اضطرار العامل للعمل لأنه لا وسيلة له إلى المعيشة سواه. وثانيهما مبالغة رب المال في طلب الربح لأن توفير المال أصبح من أهم ما يسعى إليه طلابه في تلك البلاد. فالأول يرغب أن يزاد له الأجر وأن ينقص من زمن العمل، والثاني يبتغي تقدير الأجر والزمن كما يريد، والأول لا يجد من أرباب المال من يجيبه إلى طلبه، والآخر لا يجد من العمال من يرضى بتقديره. فإذا اتفق العمال على ما يلجئون به أرباب الأموال إلى موافاة رغبتهم حدث ما يسمى بالاعتصاب فيتفق العمال على تعطيل الأعمال حتى يلجئوا أرباب الأموال إلى إجابة

ص: 39

مطالبهم، ولرب المال أن يصير حتى يلدغ الجوع عماله فيرضوا بما يريد، وللعمال أن يصبروا حتى يضطر الخسران رب المال إلى إجابتهم فيما يطلبون، ولكل منهم أن يتفق مع الآخر في تحكيم محكمين يذعن الفريقان لحكمهم بعد استيفاء شرائط التحكيم، ولا يلزم أحد الفريقين بأن يحكم أحداً أو لا يحكم).

إنما يوجد في أصول الأحكام الإسلامية أن القيام بالصناعات الضرورية لقوام المعيشة أو للدفاع عن حوزتها فإذا تعطلت الصناعات وجب على القائم بأمر الأمة أن يتخذ السبيل إلى إقامتها بما يرفع الضرورة والحرج عن الناس، وكذلك إذا تحكم باعة الأقوات ورفعوا أثمانها إلى حد فاحش وجب على الحاكم في كثير من المذاهب الإسلامية أن يضع حداً للأثمان التي تباع بها).

(وهكذا يدخل الحاكم في شؤون الخاصة وأعمالهم إذا خشي الضرر العام في شيء من تصرفهم. فإذا تعصب العمال في بلد وأضربوا عن الاشتغال في عمل تكون ثمرته من ضروريات المعيشة فيه، وكان ترك العمل يفضي إلى شمول الضرر كان للحاكم أن يتدخل في الأمر وينظر بما خوّل له من رعاية المصالح العامة. فإذا وجد الحق في جانب العمال وإن ما يكلفون به من قبل أرباب الأموال مما لا يستطاع عادة ألزم الأموال بالرفق سواء كان بالزيادة في الأجرة أو النقص في مدة العمل أو بهما جميعاً. وإذا رأى الحق من جانب أرباب الأموال وكان النزق من العمال قضى عليهم بالعمل كما يقضي على المغالين في ثمن الأقوات بالبيع بالثمن متى ظهر فحش عملهم وظلمهم للعامة. هذا ولا يعرف في الشرع الإسلامي أيجاب التحكيم بين العامل ورب المال إلا أن يكون شيء لم نطلع عليه).

(نعم جاء وجوب التحكيم في كثير من المذاهب الإسلامية في مسألة واحدة، وهي مسألة الشقاق بين الزوجين إذا رفع إلى القاضي. فقال الشافعية (إذا اشتد شقاق بينهما (الزوجين) بأن داما على التساب والتضارب وجب على القاضي أن يبعث حكمين، لكل منهما حكم يرضاه ويسن أن يكون الحكمان من أهل الزوجين)

وقال المالكية (ذا ظهر ظلم أحد الزوجين للآخر وجب ردع الظالم، فإذا شكل الأمر على القاضي ولم يعرف أيهما الظالم وجب عليه أن يبعث بالحكمين على نحو ما عند الشافعية) وجعل الحنفية ذلك حقاً من حقوق الحاكم يعمل به إذا اشتد النزاع بين الزوجين ورفع إليه

ص: 40

الأمر. والأصل في ذلك قوله تعالى في سورة النساء (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهلها أن يريد إصلاحاً يوفق الله بينهما) فالذي يظهر من لفظ الآية إيجاب التحكيم على أولي الأمر إذا رفع إليهم نزاع بين زوجين أو هو إيجاب للتحكيم على من بلغه الأمر من الحاكم أو جماعة المسلمين، فإن الخطاب في قوله (وإن خفتم) للمسلمين سواء كانوا أولي أمر أو غيرهم وذلك لأن الزوجين قد ارتبطا برباط عقد الزواج ووحد بينهما من الصلة ما يهتم بالحرص عليه ووجد بين أهلهما من وشائج القرابة بالمصاهرة ما لا يصح التساهل في توهينه وتقطع ما اتصل به، ولهذا أمر الله تعالى عباده متى أحسوا بشقاق بين الزوجين وهو النزاع الشديد أن يختاروا من أهل الزوجين حكمين حكما من أهل الزوج يرضاه وحكما من أهل الزوجة وحكما من أهل الزوجة ترضاه ليبحث كل مع صاحبه ويقف على أسباب النزاع وما عساه يكون من أسرار لا يقف عليها القاضي ولا أعوانه، وعلى الحكمين أن يبذلا ما في وسعهما للتوفيق بين الزوجين المتنازعين وإلزام كل منهما بما يريانه لازماً في صلاح العشرة بينهما وحاسماً للنزاع فيما يستقبل من أمرهما فإذا لم يجدا سبيلاً إلى الوفاق بعد بذل ما في طاقتهما فلهما أن يقضيا بالطلاق في بعض المذاهب على طريقة معينه إذا رأيا المصلحة فيه، وبعض المذاهب لا يعطيهما الحق بل ينتهي عملهما بالعجز عن التوفيق بين الزوجين. وعلى كل حال فإيجاب التحكيم في أمر الزوجين معقول فإن ما يقع بينهما لو لم يصلح بنحو هذه الطريقة أفضى إلى فساد في البيوت بين الأولاد والأقارب، ومثل هذا الفساد مما يسرى وينتشر حتى يؤذي الأمة بتمامها في صلاتها بعضها مع بعض كما شوهد ذلك عند إهمال هذا الحكم الجليل من زمن طويل كأنه لم يرد في التنزيل. فإذا كان ذلك الكاتب الفرنسي يعني هذا الأصل ويشير إليه ويريد أن يقتبس به ما يقع بين العملة فذلك رأيه وحده والسلام.

14 رجب 1323

محمد عبده

مفتي الديار المصرية

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

قصة المخطوطات العربية:

كثر الحديث في هذه الأيام عن المخطوطات العربية، ووجوب العناية بها، وجمع شتاتها المفرق في خزائن الشرق والغرب، ويجري الحديث في هذا فياضاً بالحماسة والغيرة، وينادي الكثيرون بأن العناية بهذا في مقدمة ما يجب على الأمة العربية، ولا عجب! فإن الشرق العربي اليوم في فترة يقظة يبحث فيها عن نفسه، ويجاهد ليجمع بين يومه وأمسه.

وكان قد أذيع من قبل أن اللجنة الثقافية في جامعة الدول العربية معنية بهذا الأمر، وأنها قد قررت في هذا خطة ستمضي عليها في إحياء التراث العربي وجمع المخطوطات النادرة المتفرقة، سواء ما هو منها في حيازة الأفراد أو في الهيئات والحكومات، ولكننا لا ندري ماذا بلغت من هذه الخطة وماذا أجدت في هذا السبيل.

وللتراث العربي من قديم الزمن قصة، بل مأساة أليمة مثلت فصولها ومشاهدها على مسرح الأحداث القاتمة والأيام المظلمة، فقد انتهب هذا التراث أيام غارات التتار، وفي الحروب الصليبية بالشرق، والحروب الصليبية بالأندلس؛ ثم كان أن غزا الأتراك العثمانيون أقطار الشرق العربي وبسطوا نفوذهم فكان أول ما قصدوا إليه أن نقلوا كثيراً من المخطوطات العربية إلى مكاتب الآستانة، ثم كان أخيراً أن تسلط الغرب على الشرق فتسلطت أيدي الأوروبيين على المخطوطات العربية بالسلب والسرقة والاحتيال حتى اكتظت بها مكاتب لندن وباريس وبرلين على حين أقفرت منها مكاتب العرب أنفسهم.

ولما اتجهت رغبة المغفور له أحمد حشمت باشا في مطلع هذا القرن إلى النهوض بمشروع (إحياء الآداب العربية)، ونشر المخطوطات العظيمة النادرة، كان أول ما فكر فيه هو الاعتماد على مكاتب الآستانة، فسافر فعلا إلى هناك المغفور له أحمد زكي باشا، وقام بتصوير ونقل كثير من المصادر العربية النافعة التي نشرتها ولا تزال تتولى نشرها دار الكتب إلى اليوم.

وفي هذا المقام نرى من الوفاء للحق، أن نذكر عالمين جليلين بالخير والثناء هما المغفور لهما أحمد تيمور باشا وأحمد زكي باشا، فقد بذل هذان الرجلان كثيراً من الجهود الصادقة والأموال الطائلة في العناية للحصول على المخطوطات العربية، ولكنا من الأسف لم نجد

ص: 42

من يخلفهما في هذا السبيل، لأن علماءنا - أعزهم الله - على اختلاف ألوانهم ودرجاتهم يؤثرون الوصول والمثالة من أقرب طريق.

وعجيب أي عجيب أننا لا نزال فيما نحقق من تاريخنا وآدابنا عالة على المستشرقين فيما ينقلون من آثارنا ومخطوطاتنا التي هي في خزائنهم، وعجيب أي عجيب أن تكون عندنا الجامعة الأزهرية العتيقة، وجامعة فؤاد الأول، وجامعة فاروق الأول، ودار الكتب المصرية والمجمع اللغوي، ثم ما شئت من هيئات ثقافية كثيرة، حكومية وغير حكومية، ولم تستطع هذه كلها مجتمعة أو متفرقة أن تنهض بعمل جدي في هذه الناحية، ولم تفكر كلها أو واحدة منها في إرسال بعثة بشأن هذا التراث المنهوب.

إنني على يقين من أن بعث تلك المخطوطات النادرة سيصحح كثيراً من مسائلنا التاريخية والأدبية، وإنني على يقين من أن إحياء هذا التراث الخالد سينصفنا أمام أنفسنا وأمام الأمم الأخرى، فلعل الجامعة العربية تسدي في ذلك ما فات غيرها، وتنهض بما هو واجب عليها ومنوط بها، ولعلنا نلمس لهلل قريباً في هذا العمل الجهد المشكور.

تأبين الأمير شكيب:

بعد ظهر يوم الجمعة الثامن من هذا الشهر أقيمت حفلة تأبين كبرى بدار الأوبرا الملكية لفقيد العروبة المغفور له الأمير شكيب أرسلان اشترك فيها لفيف من الرجالات البارزين في الأقطار العربية وأعلام الأدب والصحافة، وحضرها كثيرون من الوزراء والكبراء وأهل الفضل، ولقد جاءت هذه الحفلة عنواناً للأسى الذي شمل جميع أبناء العروبة على فقد ذلك المجاهد العظيم، كما جاءت مظهرا من مظاهر الوفاء والتقدير للرجال العاملين، وإنا - من الوفاء للحق - لنشيد في ذلك بصنيع الرجل العظيم سعادة محمد علي علوية باشا، لأنه هو الذي نهض بأداء هذا الواجب عن مصر، وجاهد لإقامة هذا الحفل براً بذكرى رجل وهب حياته للنضال عن الشرق والإسلام.

وتعاقب الخطباء والشعراء في تأبين الفقيد. فألقى سعادة علوية باشا رئيس هيئة الاحتفال كلمة ضافية أشاد فيها بمواقف الفقيد في الجهاد للحق، والكفاح في سبيل العروبة، والنضال عن حقوق العرب في الحرية والاستقلال والكرامة.

وخطب معالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا فقال: (لقد كان الأمير شكيب أرسلان الديدبان

ص: 43

والحارس على الأقطار العربية، فكان المراكشي إذا هددت مراكش، والتونسي إذا نزل الضيم بتونس، والمصري إذا روعت مصر بحادث، والعراقي، والسوري، واللبناني، واليمني إذا اعتدي على بلد من هذه البلاد أو نشبت فيها أظافر الاستعمار وبراثن الاستبداد. ولقد خلا العرين من هذا الأسد الهصور، لكنه خلا بعد أن نشر تعاليمه السامية في كل مكان، وبعد أن أعطى من نفسه القدوة الحسنة في الوطنية والتضحية والإقدام. . .)

وخطب الشيخ سامي الخوري وزير لبنان المفوض في مصر خطبة استهلها بقول الفقيد:

فما العيش إلا أن نموت أعزة

وما الموت إلا أن نعيش ونسلما

ثم قال: لقد كانت حياة الفقيد جهاداً مستمراً في سبيل بلاده وهو عنها بعيد، ولقد بقي على رغم البعد هدى للأوطان العربية جميعا؛ تستنير بشعلة ذكائه الوقاد، وتهتدي بنور حكمته الرصينة، ثم دهمه الموت بعد أن عاد إلى بلده خافق القلب، إذ لقيه حراً طليقاً من كل قيد. . .

وألقيت في الحفلة كذلك عدة كلمات لممثلي الحكومات والهيئات العربية، وكلها تتوارد على الإشادة بمواقف الفقيد، وتصور مدى الفجيعة الشاملة بموته، والخسارة الكبيرة بفقده. على أنها مما يجري عادة في مثل هذه المناسبة، وليست مما يؤثر للتسجيل الأدبي.

وجاء دور الشعر؛ فألقيت قصيدة لشعار القطرين خليل بك مطران، وقد كنت أنتظر من مطران في هذا الموقف شيئاً كبيراً كثيراً، فإني أقدر وفاءه لإخوانه، وأعرف صلته بالفقيد، ولكن مطران اعتذر بحق اعتذاراً موجعاً أليماً إذ قال:

أبغي الرثاء فيبرق خاطري

حزناً، ولكن أين صوب غمام؟!

لم يبق لي شعر ولا نثر وقد

أخنى عليّ تقادم الأعوام. . .

فكان اعتذاره هذا أبلغ وأوجع من أي إفاضة في الرثاء.

ثم ألقى الشاعر علي محمود طه قصيدة قوية الأسر، ابتدأها بتصوير الفجيعة بموت الأمير فقال:

رزء العروبة فيك والإسلام

رزء النهى وفجيعة الأقلام

هو مأتم الأحرار في متوثب

بصفوفهم مستبسل مقدام

ثم أخذ في تصوير حياة الفقيد فقال:

ص: 44

أأبا المثاليين صوتك لم يزل

في الشرق وحي يراعه وحسام

لخلاص دار، أو فكاك عشيرة

خضت الحياة كثيرة الآلام

واجتزت جسر العمر بين عواصف

هوج، وموج مزبد مترامي

وشهرتها حرباً على مستعمر=متجبر، أو غاصب ظلام

إرث الجدود الصيد أنت وهبته

قلما يصاول دونه ويحامي

وشباب مهدور الدماء مجاهد

في الله عن عرب وعن إسلام

وهكذا مضى الشاعر إلى آخر قصيدته يصور حياة الفقيد في شتى نواحيها بهذا الأسلوب الجزل، وقد كان من الموافقة المتواردة أن أتفق الشاعران في الروي والقافية، وفي كثير من المعاني والتعابير التي قوامها حياة الفقيد.

وإني بعد هذا لأسأل: أيكفي هذا الحفل في الوفاء بدين الفقيد العظيم؟ كلا! فقد كان الأمير شكيب أرسلان في حياته وفي جهاده وفي مواهبه أضخم من هذا وأكبر، فمن الواجب على أبناء العروبة جميعاً أن ينهضوا بعمل يخلد ذكراه، وصنيع يحفظ آثاره، وينشر تعاليمه، وإني لأعجب أن تهتم الجامعة العربية فتخاطب حكومة العراق لصيانة تراث الكرملي، ولا تؤدي هذا الصنيع لصيانة تراث الأمير شكيب!!

وأين نحن؟!

يظهر أن الأمة العربية المغلوبة على أمرها لا تدين بالحقيقة حتى تصدم رأسها، ولا تصيخ للنصيحة حتى تخرق أذنها، ولا تقتنع بأمر من تطورات الزمن والحياة إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن يكون الشوط قد بلغ نهايته.

قلت هذا لنفسي إذ قرأت أن الدول التي تحالفت على إدراك النصر قد أنفقت أخيراً على إعداد العالم لتقبل ما تهدف إليه من المبادئ والأفكار. فرأت أن خير سبيل لهذا هو إعداد مجموعة كبيرة من الأفلام الثقافية التي تصور تلك المبادئ. وتنطق بتلك الأفكار وتوزيعها للعرض في كافة أنحاء العالم على الشباب في المدارس والأندية وسائر المنظمات.

وقلت هذا لنفسي أيضاً إذ قرأت أن هناك مفاوضات تجري بين بعض المشتغلين بالسينما من المصريين والشرقيين، وبين فرق آخر من الإنجليز لتكوين شركة إنجليزية شرقية تقوم بعمل أفلام ناطقة باللغة العربية وتكون موضوعاتها ذات صبغة عالمية، وستقوم هذه

ص: 45

الشركة الضخمة بتوزيع أفلامها في شتى أنحاء الشرق العربي

فأنت ترى أنها حرب دعاية، وأن السينما قد أصبحت أقوى أداة للتبشير بالمبادئ والأفكار، وإذا كان الخلفاء قد استغلوا هذه الأداة لبث دعاياتهم على أوسع ما يكون في الحرب فإنهم الآن كذلك يريدون أن يعتمدوا عليها وأن يستغلوها لنشر مبادئهم في السلم. ونحن في مصر، حكومة وشعباً، نرى هذا كله، وكأنه لا يعنينا في شيء، وكأننا لا نرجو من دنيا المبادئ إلا أن نربط بالذيل.

وعندنا سينما، وعندنا شركات، وعندنا أفلام. ولكنا نملؤها بأقذر ما في المجتمع من انحطاط الميول وضراوة الغرائز وكل ما يضمن الرواج والإقبال من العامة وأشباه العامة، ثم نوزع هذه الأفلام في الشرق العربي على أنها مظهر فننا وعنوان ثقافتنا ويا له نم فن تافه وثقافة رخيصة.

فيا قوم حسبكم، لقد أن لكم أن تفهموا أن العالم يجد، وأننا لا نستطيع أن نمشي في ذلك الموكب العالمي إلا جادين، أليس من الهوان والبخس والتفاهة أن لا تقدم شركة من تلك الشركات السينمائية في مصر على إخراج فلم قومي يصور ناحية مجيدة من تاريخنا، ويحمل مظهراً صحيحاً من ثقافتنا؟! بل أليس من التفريط والتقصير أن لا تعتمد حكومتنا على السينما - وقد أصبح لها الآن كل هذا نفوذ - في بث ما ترجو من التثقيف والتهذيب. وما تنشده من الإصلاح والنهوض، وأن لا تجعلها أداة دعاية في الشرق العربي؟!

ولكننا أمة مغلوبة على أمرها، فنحن ننتظر دائماً حتى يصل الغرب إلى آخر الشوط، ثم نبتدئ نفكر ماذا نعمل؟!

الفلسفة الهندية القديمة:

يزور لندن الآن الأستاذ وديع البستاني للبحث عن أصول الفلسفة الهندية القديمة، ويقولون إنه عثر على ستة مخطوطات نادرة ولا يزال يوالي البحث والمراجعة لإعداد دراسة مستوعبة عن الفلسفة الهندية القديمة.

والأستاذ وديع البستاني هو أحد فروع تلك الدوحة البستانية العريقة التي أسدت إلى الثقافة العربية خدمات جليلة في شتى نواحي اللغة والأدب والفلسفة، وقد قام الأستاذ وديع منذ ربع قرن بنقل عدة كتب فلسفية طريفة إلى اللغة العربية، وكانت لديه نزعة إلى موضوعات

ص: 46

الطبيعية التي يتجلى فيها صفاء الروح وجمال الكائنات، ويظهر أن الفلسفة الهندية الفياضة بالنزعات الروحية قد استهوته فعكف على دراستها منذ سنوات، وهو لا يزال يجد في هذه الدراسة لإخراج سفر شامل في هذه الناحية التي لا تزال معماة على أبناء العربية.

والمعروف أن الفلسفة الهندية القديمة كانت عنصرا من العناصر التي استمدت منها الثقافة العربية بالترجمة والنقل أيام العباسيين، ففي البلاغة وفي الفلسفة وفي علوم الفلك والجبر والحساب نجد نصوصا منقولة عن أصول هندية، ونحن نقرأ هذه النصوص قراءة عابرة لأننا نجهل مصادرها ومراميها، ولا نزال إلى اليوم في كل ما نعرف من معارف الهند القديمة عالة على المستشرقين، وإنها في الواقع لإحدى العجائب، إذ يتيسر لأجدادنا العرب بدافع نهمهم إلى المعرفة نقل المعارف الهندية والانتفاع بها والوقوف عليها، ونحن لا نزال نجهل تلك المعارف جهلا مطبقا مع أن صلتنا بالهند قد توثقت، ومعارفنا قد اتسعت وسبل الانتقال والبحث قد تيسرت.

إن الأستاذ وديع البستاني بعمله هذا يؤدي خدمة جليلة للعربية، وإنها لفاتحة خير بدأها الأستاذ عبده حسن الزيات بكتابه الذي أخرجه حديثا وموضوعه (حكايات من الهند)، وإنا لنرجو أن يرود أبناء العروبة هذه الناحية على أوسع ما يكون، فان الثقافة الشرقية قوامها روح واحدة، ووجهتها غاية واحدة، وقد أصبح من الخطأ استقلال أمة بمعارفها، فكيف والهند ليست غريبة عنا. .

كتاب من غير أقلام:

تناولت عدداً حمله البريد أخيراً من مجلة سورية خصصت صفحاتها للأدب والمباحث الثقافية، وفي عنوانها إنها (صورة الفكر المعاصر)، فوقعت في صفحاته الأولى على مقال بعنوان (الأديب من أين يبدأ)، فتغاضيت عما في العنوان من خطأ شائع درج عليه كثير من الأدباء المعاصرين، إذ يؤخرون اسم الاستفهام وان كانت اللغة تقضي له بالصدارة، وأخذت أقرأ ما تحت العنوان فقرأت في السطر الأول (أني بالأدب مشغوف) وفي السطر الثاني (وكيف عرفت أن ميولك منصرفة إلى هذا المنصرف) وهكذا أخذت أنتقل من سطر إلى سطر، وأنا أنتقل من خطأ إلى خطأ حتى ضاقت نفسي وألقيت بالمجلة من يدي ولم استطع أن أستوعب من المقال اكثر من خمسة اسطر!!

ص: 47

إن الفكرة السليمة قوامها الأسلوب السليم، وإن الكاتب الذي لا يستطيع أن يصحح ما يكتب لا يستطيع كذلك أن يصحح ما يقرأ، ومعنى ذلك أنه يقرأ على غير فهم ووعي.

ولكني اعرف كثيرا من ناشئة هذا العصر، وكتاب هذه الأيام قاصرين عن تصحيح لغتهم وتقويم أسلوبهم، وأني لأعرف كتابا بيننا يملئون الدنيا بأسمائهم ويتصدون للنقد والمناقشة وهم حين يجلسون لإراقة المداد على الورق لا يعرفون مصادر الكلام من موارده، فيتركون هذا لأناس يستخدمون أشخاصا على أجر معلوم لهذا الغرض، وعندهم أن هذا ليس بعاب، بل انهم ليحسبون التمسك باللغة عنجهية وتقعرا لا يليق بمفكري هذه الأيام

وأنا والله لست أدري ماذا يكون ذلك الكاتب إذا فقد أول شرط للكتابة، وأي شيء يبلغ من الأدب إذا لم تكن لديه أداة الأدب، وهل يجدي هؤلاء شيئا ما يتشدقون به من انهم يحذقون لغة أو لغتين أجنبيتين على حين يجهلون اللغة التي يكتبون بها وينتسبون إليها؟!

ولكنها بدعة أعجمية، خلقها العجز وبررها القصور عند هؤلاء، وإنهم لكتاب من غير أقلام، وإن حسبوا أنفسهم من الأعلام.

الجاحظ

ص: 48

‌البريد الأدبي

فن وتجارة:

اطلعت في عدد (الرسالة) رقم 709 في باب (الأدب والفن في أسبوع) على كلمة تحت عنوان: (فن وتجارة). .

ولقد اعترتني الدهشة البالغة من تعليق حضرة كاتبها على احتجاجي بصفتي نقيبا للممثلين على عملية (الدوبلاج) للأفلام الأمريكية.

ولقد تضاعف استغرابي من كونه بدلا من أن يشد أزرنا في قضيتنا الوطنية راح يسخر من منطقي ويستنكر طلبي.

ولولا أن مجلة (الرسالة) هي المجلة التي لا يكتب فيها إلا القيم من القول والمتزن من النقد لما راعني الأمر.

ألا فليعلم حضرة الكاتب إنني لم اقدم احتجاجي على أفلام الدوبلاج الأمريكية بصفتي منتجا؛ فأنا لا احترف الإنتاج منذ عشرين عاما، بل فعلت هذا كنقيب للمثلين، بناء على قرار النقابة وأعضائها، واستجابة لاحتجاج نقابة السينمائيين واتحاد المنتجين، فسخريته إذن موجهة إلى كل فنان والى كل سينمائي وكل مصري؛ أي أن حضرة الكاتب اللبق قد ساءه أن يناصر قضية الفنان المصري، فتطوع من تلقاء نفسه للدفاع عن تجار وأصحاب شركات الفيلم الأمريكي.

فهو إذن لا يهمه الدفاع عن كيان الشركات المصرية. بل على النقيض يريد أن يفسح المجال للاستغلال الأجنبي.

فليسمح لي أن أرد له التحية فأقول له: أي منطق منطقك يا حضرة الكاتب؟ وكيف تقارن بين السماح للمجلات الأمريكية بدخول مصر وعدم السماح لأفلام الدوبلاج مع انك تعلم إننا لا نود منع دخول الأفلام الأمريكية بلغاتها الأصلية، وأنت كصحفي قد تطالب غدا بمنع دخول المجلات الأمريكية إذا أرسلتها باللغة العربية!!

ونحن لا نطالب الحكومة بجديد عندما نستصرخها للذود عن أموال الشركات المصرية والفيلم المصري بصفته إنتاجاً وطنياً وهي التي سنت قانونا لحماية البضاعة الوطنية كالأقمشة والحرير وما شابهها.

ص: 49

ثم لدى نصيحة للكاتب وهي أن يرسل مقاله هذا إلى الشركات الأمريكية مترجماً وأنا واثق إنها ستجزل له المكافأة كمناصر للاستعمار الأجنبي!!

والطريف في الأمر إننا قرأنا للأستاذ الأديب أحمد حسن الزيات صاحب مجلة (الرسالة) افتتاحية رائعة في العدد نفسه، يستنكر فيها الاستعمار في الشرق، بينما نقرأ لحضرة الكتاب هذه الكلمة التي يناصر فيها الاستعمار ويندد بطلب السينمائيين المصريين بحماية شركاتهم الصغيرة من طغيان الفيلم الأجنبي واستعمار الأجانب لبلادنا فنيا

يوسف وهبي

(الجاحظ): وفر على نفسك النصيحة يا نقيب الممثلين، فليس

صاحب هذا القلم ممن تعرفهم. أما الرد فانتظره في العدد

القادم.

موسم محاضرات تفسير القرآن الكريم:

من الظواهر الفكرية التي تستحق التسجيل والتخليد في مجلة أدبية عربية سائرة كالرسالة الزهراء ذلك العمل الإسلامي الفكري الجليل الذي يحدث لأول مرة في تاريخ مصر العربية. أو في عصرها الحاضر بمعنى أدق، ألا وهو تنظيم محاضرات تلقى كل أسبوع في تفسير آيات الذكر الحكيم، وتوضيح أغراض القرآن الكريم، ولقد اضطلع بعبء هذا المشروع النافع المفيد رجل كريم من رجالات مصر، ومحسن مفضال يعد في الصفوة من أبنائها العاملين لرفعة شأنها، وتجديد شبابها، وبعث دينها، وإحياء أخلاقها ومبادئها، وهو حضرة صاحب العزة المحسن الكبير والمصلح الإسلامي الموفق الحاج يعقوب بك عبد الوهاب الذي عرفته ميادين كثيرة من ميادين الخير والبر والإحسان والإيمان، فكان الساعد الأيمن والعامل الأول في إنشاء معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية والشرقية، وأمد جمعيات المحافظة على القرآن الكريم بمعونته وعنايته، إذ خصص مكافآت مالية سخية توزع على المهرة في حفظ القرآن من طلبة المعاهد وتلاميذ المدارس، وتوزع في احتفال رائع يقام في كل عام تحت رعاية الملك الناصر لدين الله الفاروق المفدى اعزه الله بالإسلام، واعز به

ص: 50

الإسلام، ولهذا الرجل الكريم نواح كثيرة يصلح فيها سراً وجهراً، وليس هذا مجال تعدادها أو ترديدها. . .

ثم رأى الحاج يعقوب بك عبد الوهاب أخيراً أن القرآن بما اشتمل عليه من معان سامية ومقاصد جليلة تتصل بجميع الاتجاهات الفقهية والتشريعية والعلمية والصحية والأدبية والاجتماعية يتطلب أساتذة مهرة، وفحولا في البلاغة والأدب، وأدباء خبراء بطرق العرض وأساليب التوضيح، ويتشرف هؤلاء بتناول آيات القرآن الكريم ليوضحوا لجمهور المستمعين ما انطوت عليه من إعجاز وإيجاز، وفصاحة وبلاغة، وتقنين وتشريع، فاختار لذلك أربعة من الفحول هم الأساتذة الإجلاء الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد الوهاب خلاف والدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور عبد الوهاب حمودة، ونظم بجهودهم وعلى أكتافهم موسما للمحاضرات سماه (موسم محاضرات تفسير القرآن الكريم) وجعله يبدأ من نوفمبر وينتهي في مارس، ولقد اختار لإلقاء هذه المحاضرات قاعة رحيبة فسيحة هي قاعة (دار الحكمة) بشارع قصر العيني، فكان هذا فتحاً جديداً، فتح به الحاج يعقوب بك هذه القاعة لما كانت بعيدة عنه بطبيعة اختصاصها من البحث في الدين وتفسير القرآن الكريم؛ ولقد اقبل العلماء والأدباء على هذه المحاضرات إقبالاً منقطع النظير، حتى ضاقت بهم ردهات الدار، واحسن المحاضرون مبنى ومعنى، وتفكيراً وعرضاً؛ ويلوح لي أن النية الخالصة ونبل الغرض كانا السبب في كل هذا التوفيق، مما يدعو إلى أن نسأل الله مخلصين راجين أن يوفق رجالات مصر وأغنياءها إلى يتخذوا من هذا الرجل المصلح قدوة ومثلا؛ والله يهدي العاملين

أحمد الشرباصي

المدرس بمعهد الزقازيق الثانوي

حول الشاعر الطموح

(والشاعر الطموح) كتاب أصدرته أخيراً (سلسلة أقرأ) لعلي الجارم بك.

وهو تصوير لحياة المتنبي في بلاط سيف الدولة وكافور في حلب ومصر وما أحاط به من دسائس ومنافسات وشايات وحب وبغض وتقدير وحسد، وذلك في الفترة التي ما بين عامي

ص: 51

(341 - 350هـ).

والكتاب أثر أدبي رائع بيد أن لي عليه بعض الملاحظات:

1 -

يذكر المؤلف قصيدة المتنبي.

وا حرّ قلباه ممن قلبه شيم

ومن بجسمي وحالي عنده سقم

(ص 46 وما بعدها) ويجعلها من القصائد التي نظمها المتنبي عام 341هـ (راجع ص5 وص56)

والحق أن هذه القصيدة من أخريات القصائد التي نظمها أبو الطيب في سيف الدولة الحمداني قبل رحيله عن بلاطه عام 346هـ وتؤكد ذلك القصيدة نفسها وما فيها من إشارات إلى توتر العلاقات وانقطاعها بينه وبين سيف الدولة، وهذه الحالة والمؤامرات التي كانت السبب فيها مما لم تنشأ في بلاط سيف الدولة في ذلك التاريخ الذي ذكره المؤلف.

2 -

ويجعل المؤلف قصيدة المتنبي:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب الأماني أن يكن أمانيا

أول قصيدة أنشأها المتنبي في كافور وانشده إياها.

والحق أن أول قصيدة انشدها أبو الطيب أمام كافور هي:

فراق ومن فارقت غير مذمم

وأمٌّ ومن يمت خير ميمَّم

وذلك ما يتضح للناقد من دراسته لهذه القصيدة.

محمد عبد المنعم خفاجي

ص: 52

‌الكتب

أعلام المحاماة

في كتاب الأستاذ عبد الحليم الجندي

بقلم صاحب العزة الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك

(جرائم واغتيالات القرن العشرين) كتاب نفيس وضعه الأستاذ عبد الحليم الهندي في جزأين أخرجهما للناس في الشهر الماضي. وابرز ما في الكتاب تصويره حياة ثلاثة من أعلام المحاماة. اختارهم المؤلف ضمن عظماء المحامين الذين تألق نجمهم في سماء المحاماة بمرافعاتهم في القضايا الكبرى في القرن العشرين وهم: الهلباوي في مصر، ومارشال هول في إنجلترا، وهنري روبير في فرنسا. قرأت الكتاب قراءة وتأمل وإمعان، فألفيته جديراً بان يقرأه كل مواطن، وكل محام، وكل شاب يعتنق مبدأ الحرية الفردية والسياسية.

المؤلف أستاذ أديب. ومحام نابه. كان محاميا عن الأفراد وقتا ما، وهو الآن محام عن الحكومة في مجلس الدولة. لازمته روح المحاماة، وكتب عنها بقلم المؤمن بها، المحب لها، فجاء كتابه قصة رائعة للمحاماة في أشخاص ثلاثة من أعلامها. مجد المحاماة تمجيدا صادرا عن عقيدة وخبرة إذ وصفها بأنها مهمة قبل أن تكون مهنة، وجعلها دعامة الحرية وسندها في ساحات القضاء. ولعمري أن هذا الوصف لهو أكبر مفخرة للمحاماة. وإن المحامي ليعتز بمهنته إذ يراها سبيل الدفاع عن الحرية وعن الحق. وفي ذلك يقول المؤلف:(سنرى في الصفحات التالية بطولة المحاماة وهي تخوض الغمرات في هذا السبيل. إنما هي الحرية غاية جيلنا من حياته. لا وسيلة لأغراضه ولا طب لأمراضه إلا بتدعيمها، وتعميمها والفسح من مداها، وما حرية الأمة إلا فيض من حريات بنيها واستقرار العدالة فيها. فإلى دعاة الحرية والعدالة هذه الصورة المصغرة لثلاثة من كبار المدافعين عن الحرية في ساحات العدالة).

وفي الحق أن الحرية هي ركن أساسي من أركان المجتمع الإنساني الجدير بهذا الاسم. وإذا تقلص ضلها في بلد من البلدان نزلت الأمة إلى درك عميق من الذل والهوان. الحرية قد

ص: 53

تحميها النظم والقوانين، وقد يكفلها الدستور، وتحميها الصحافة. ولكن خط الدفاع الأول والأخير لها هو القضاء والمحاماة. فالقضاء هو فيصل التفرقة بين الحق والباطل، بين الحرية والاستعباد. هو ملاذ المظلوم ممن يتحيفهم طغيان الأقوياء والحكام. والمحاماة هي لسان الحرية والحق المدوي في ساحات القضاء، والمناضل الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، فالقضاء والمحاماة صنوان متلازمان. يتعاونان على أداء مهمة قدسية سامية وهي استخلاص الحق وكفالة الحرية.

عرض لنا المؤلف في الجزء الأول من كتابه صورة حية من الهلباوي المحامي، والهلباوي الرجل، والهلباوي الخطيب. فحلل شخصيته أدق تحليل، وتابعه منذ نشأته إلى أن انتظم في سلك المحاماة إلى أن ظهرت مواهبه فيها وذاعت شهرته في أرجاء البلاد بمرافعاته في القضايا الهامة، وعدد أشهر القضايا التي ترافع فيها في مختلف العهود. وأبرز فضائله في المحاماة ونزاهته فيها إلى جانب عبقريته كمحام قدير، وأبان للقارئ كيف كان يحضر قضاياه، وكيف كان يهاجم ويدافع، وكيف كان يسترعي الأنظار في مرافعاته، وكيف كان يستهدف لغضب ذوي السلطان في أداء واجبه

وعني على الأخص بالقضايا الوطنية التي ترافع فيها عن الحرية وحملاته الصادقة على خصومها ومضطهديها. وأفاض المؤلف في هذا الجانب من حياة الهلباوي، ولا غرو فهو الجانب الذي يضفي عليه هالة من المجد وخلود الذكر.

وأعجبني من المؤلف الأديب انه استثنى من الإشادة بمواقفه مرافعته كمدع عام في قضية (دنشواي) فلم يدافع عن بطله فيها واقتصر على التماس (الظروف المخففة) له حتى عزى موقفه فيها إلى سوء الحظ. وفي الحق أن قبوله المرافعة عن الاتهام في هذه القضية كان سقطة كبيرة من المحامي الكبير؛ لم تنسها له الأمة طول حياته ولا يلومها منصف على ذلك بل هو دليل على تقدم الوعي الوطني فيها. لأن التساهل بازاء أمثال هذه السقطات يغري بتكرارها.

صور لنا المؤلف حيات الهلباوي في كل نواحيها، صورها بلغة مختارة ممتازة، وفي الحق أن لأسلوبه وتعبيراته طابعا أدبيا بليغا، وفيه أناقة وفيه جاذبية، وفيه عمق في المعاني والأفكار

ص: 54

وبهذا الأسلوب انتقل بنا من الشرق إلى الغرب. فصور لنا حياة (مارشال هول) الذي سطع نجمه في سماء المحاماة في إنجلترا، وزميله (هنري روبير) في فرنسا. ذلك النقيب العظيم الذي قال عنه (دي مورو جيافري) أن المحاماة في فرنسا فقدت بوفاته اكبر رجل رفع شأنها منذ عهد (بربيه) وهي كما يقول المؤلف مقالة عن مكانته في التاريخ، فلعل (بربيه) اكبر رجال المحاماة في التاريخ الفرنسي، كما كان أعجوبة البلاغة والشجاعة في مجلس النواب ومجلس الأعيان.

إن لدراسة الشخصيات الكبيرة وتحليلها بالطريقة والأسلوب اللذين نهجهما الأستاذ عبد الحليم الجندي قيمة في توسيع الأفق الثقافي والذهني، ففي خلال هذه الدراسات يطالع القارئ وصفا دقيقا لحياة المجتمع وتطوره، وعادات الناس وأخلاقهم وعلاقات بعضهم ببعض. كما يلمح بشيء من التأمل والمقارنة مبلغ الفرق بين الحياة في عصرنا والحياة في العصر الذي سبقه. وفي الكتاب ميزة أخرى وهي انه يطالع المحامي بما هيأ لأعلام المحاماة في الشرق والغرب ما وصلوا إليه من مكانة رفيعة ومنزلة سامية، وما هي العناصر التي عبدت لهم طريق الشهرة والمجد.

فهو كتاب المحاماة وكتاب المحامين. فيه يجد المحامي كبيراً كان أو مبتدئا ما يرسم له سبيل النجاح والتوفيق. 0 فلعل في كل محام مواهب لو عرف كيف يتعهدها يستخدمها على ضوء حياة العظماء من المحامين لأدرك من المكانة والمنزلة ما لا يدركه إذا اغفل هذا الجانب من البحث والدراسة. وأني لأنصح كل محام وكل من يعد نفسه محاميا أن يقرأ كتاب (الأستاذ عبد الحليم الجندي) ففيه صورة واضحة قوية للمحاماة الرفيعة الناجحة

عبد الرحمن الرافعي

ص: 55

‌القصص

لويز. . .

للكاتب الإنكليزي سومرست موم

ترجمة الأديب السيد مصطفى غازي

عرفت لويز قبل أن تتزوج. كانت وقتئذ فتاة ضعيفة رقيقة ذات عينين وسيعتين حزينتين، كان أبواها يحبانها ويرعيانها في قلق وترقب، إذ قد اتفق على ما أذكر أنأصابتها الحمى القرمزية وخلفتها ضعيفة القلب وفي حاجة إلى أن تعنى بنفسها عناية كبيرة، فلما تقدم توم متيلاند ليخطبها إلى نفسه فزع أبواها إذ كانا يعتقدان أن صحتها الرقيقة لم تكن لتحتمل متاعب الزواج ولكنهما لم يكونا موسرين وكان توم ميتلاند غنيا، ووعد بأن يبذل كل ما في وسعه في سبيل سعادة لويز فقبل الأبوان تزويجها منه وقدماها إليه هدية مقدسة.

كان توم ميتلاند شاباً متين البناء، رياضيا، جميل المنظر جذابه، ولقد وضع كل اهتمامه في لويز إذ لم يكن يأمل أن تحيى إلى جانبه بقلبها الضعيف طويلا، وعاهد نفسه على أن يقوم عنها بكل شيء ليجعل سنواتها القليلة على الأرض مليئة بالسعادة والهناء. وترك الرياضة التي كان بارعا فيها لا لأنها كانت تريد منه ذلك فقد كان يسرها أن يلعب (الجولف) ويصطاد، بل لأنه كان يصادف أن تصاب بنوبة قلبية كلما اعرض عليها أن يتركها لمدة يوم واحد. وإذا حدث أن اختلفا في رأي ما كانت تستسلم له توا فقد كانت اسلس الزوجات قياداً، ولكن العلة تعاود قلبها فتحمل إلى فراشها وتبقى فيها أسبوعاًً وادعة راضية، ويحس بأنه كان عليه إلا يكون قاسيا فيعارضها، فيتنازل لها عن رأيه وفي جهد يحاول إقناعها بان تفعل ما ترتئيه.

حدث ذات مرة بعد أن رأيتها تمشي ثمانية أميال في رحلة قامت بها أن قلت لتوم ميتلاند ملاحظا: إنها أقوى مما كان يتصوره المرء، فهز رأسه وتنهد قائلا:(كلا. كلا. إنها رقيقة جدا. لقد ذهبت إلى جميع الأطباء الأخصائيين المبرزين في مرض القلب فاتفقوا جميعا على أن حياتها معلقة في خيط، ولكن لها روحا لا تقهر) وأخبرها بما قلت عن تحملها فقالت لي مؤنبة: سأدفع ثمن ذلك وسأكون على باب الموت. فتمتمت قائلا: (يخيل إلي

ص: 56

أحيانا انك قوية جدا على ما تريدين فعله). فقد لاحظت انه إذا حدث وراقتها بعض الحفلات تأخذ في الرقص حتى الساعة الخامسة صباحا فإذا كانت الحفلة مملة تشعر بتوعك شديد فيضطر توم إلى أن يعود بها إلى المنزل مبكرا. ويظهر إنها لم ترتح لجوابي وبالرغم من إنها نظرت إلي بابتسامة وادعة فإنني لم أر لهذه البسمة أثرا في عينيها الوسيعتين الزرقاوين، وقالت:(لعلك تتوقع مني أن اسقط ميتة لا لشيء إلا لأدخل السرور على نفسك).

ولكن لويز لم تمت ومات زوجها وهي حية بعد. لقد لقي حتفه عقب برد أصابه في إحدى رحلاتهما البحرية. وكانت رقة لويز قد دفعت به إلى أن يختصها بجميع الأغطية لتتدفأ بها. مات وقد ترك لها ثروة طيبة وأبنة، فلم تستطع لويز أن تتعزى، لقد كان عجيبا حقا أن تتحمل الصدمة، ولقد توقع أصدقاؤها إنها ستلحق بتوم المسكين عاجلا في القبر. وأحسوا جميعا بالأسف على ابنتها ايريس وقد تيتمت فضاعفوا عنايتهم بلويز.

كانوا لا يدعونها تحرك إصبعا. كانوا يلحون في توفير أسباب الراحة لها لأنهم لو خلوا بينها وبين أي عمل مرهق أو غير ملائم لرقتها فإن قلبها لا يلبث أن تعتاده العلة ويقف بها على باب الموت.

قالت أن خلو حياتها من رجل يعني بها يبلبلها ويرمضها، وإنها لا تعرف كيف تربي عزيزتها إيريس بصحتها هذه الرقيقة فسألها أصدقاؤها لماذا لا تتزوج. أوه إن هذا ما يأباه قلبها وإن كان العزيز توم لم يكن ليأباه بل لعلها إن تزوجت أن يكون ذلك أصلح شيء لإيريس. ولكن من يعني نفسه بزواج امرأة عليلة مثلها؟ ومن العجيب حقا أن يتقدم لها أكثر من شاب كلهم مستعد أن يتكفل بها.

وبعد عام من موت تم قبلت أن تتزوج من جورج هوبهاوس وكان شابا جميلا فارع القوام وعلى جانب من الثراء. ولم أر أحدا أسعد منه لفوزه بشرف القيام على رعاية هذا المخلوق الرقيق الدقيق.

قالت: لن أحيا طويلا لأزعجك. كان جنديا طموحا فاستقال من منصبه إذ كانت صحة لويز تحتم عليها أن تقضي الشتاء في مونت كارلو والصيف في دوفيل. ولقد تردد قليلا وهو يضحي بمستقبله ورفضت لويز أن تستمع إليه بادئ ذي بدء، ولكنها لم تلبث أن امتثلت

ص: 57

كما هي حالها دائما فتهيأ لأن يجعل سنواتها الأخيرة سعيدة هانئة إلى أقصى حد.

قالت: أن هذا لن يستمر طويلا. سأحاول أن لا أكون مزعجة وفي خلال العامين أو الأعوام الثلاثة التي أعقبت زواجها الثاني استطاعت لويز بالرغم من قلبها الضعيف أن تذهب في أجمل الثياب إلى أشوق الحفلات وتقامر في إٍسراف وترقص بل وتغازل الشبان الفارعي القوام. ولم يكن جورج هوبهاوس من عنصر زوجها الأول فكان يستعين بالمشروبات الحادة من وقت لآخر وهو يقوم على خدمتها. وكان من المحتمل أن يصبح عنده الشراب عادة فتضيق لويز بذلك اشد الضيق، ولكن لحسن حظها (هي) قامت الحرب فالتحق بفرقته وبعد ثلاثة شهور قتل في الميدان. وكانت صدمة عنيفة على لويز، وشعرت مع ذلك بأنه يجب عليها في حالة دقيقة كهذه أن لا تسلم نفسها للحزن البالغ، وإذا كانت قد أصيبت بصدمة قلبية فإن أحداً لم يسمع بها، ولكي تتلهى عن أحزانها حولت فيلتها بمونت كارلوا إلى مستشفى للضباط الناقهين. وقال لها أصدقاؤها إنها لن تتحمل وطأة هذا العناء. فقالت: ليس عندي من شك في أن هذا سيقتلني، أنا أعرف ذلك ولكن ما حيلتي؟ يجب أن أصنع شيئا. . . ولكن العمل لم يقتلها وبقى في حياتها فسحة.

قابلتها مصادفة في باريس وكانت تتغدى في الريتز مع شاب فرنسي جميل النظر ممشوق القوام، وفسرت سبب مجيئها فقالت إنها إنما جاءت إلى باريس لتقوم ببعض أعمال تتعلق بالمستشفى وأخبرتني أن الضباط ظراف جدا وأنهم لا يدعونها تعمل شيئا ما مراعين في ذلك رقة صحتها. لقد كانوا يعنون بها كما لو كانوا جميعا أزواجها. وتنهدت (مسكين جورج. من ذا الذي كان يظن أنني سأعيش بقلبي الضعيف بعده؟).

فقلت: ومسكين توم! ولست أدري لم كرهت مني أن أقول ذلك فقد أرسلت إلى بسمتها الوادعة وقالت وقد اغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع: إنك تتكلم دائما كما لو كنت تنفس على هذه السنوات القليلة التي يمكن أن أحياها).

- بالمناسبة. أو ليس قلبك الآن في حالة أحسن؟

- لن أتحسن مطلقا. لقد عرضت نفسي هذا الصباح على أخصائي فقال إنه يجب علي أن استعد لما هو أسوأ.

- حسنا. إنك تستعدين لذلك منذ عشرين عاما. أو ليس كذلك؟

ص: 58

ولما وضعت الحرب أوزارها أقامت لويز في لندن وكانت وقتئذ في الأربعين من عمرها نحيفة ضعيفة بعينها الوسيعتين وخديها الشاحبين. ومع ذلك فلم تكن تبدو إلا وكأنها في الخامسة والعشرين من عمرها. وكانت إيريس قد شبت وأتمت دراستها فجاءت لتعيش معها. قالت لويز: ستعني بي. حقا أن من الصعب عليها أن تعيش مع امرأة عليلة مثلي ولكن ذلك لن يدوم طويلاً أنا موقنة برضائها.

وكانت إيريس فتاة جميلة، ولقد نشئت وهي تعرف أن صحة أمها منحرفة فلم يسمح لها في طفولتها أن تحدث ضجة في البيت، وكانت تدرك دائما ما يجب عليها من مراعاة راحة أمها. وبالرغم من أن لويز قالت لها الآن إنها لن تسمح لها بأن تضحي بنفسها من أجل امرأة عجوز مزعجة لم تستمع الفتاة لقولها فهي لم تكن تستشعر في عملها أنها تضحي بنفسها وإنما كانت تحس بالسعادة وهي تقوم بخدمة أمها العزيزة المسكينة. وتنهدت الأم وخلتها تقوم بجميع شؤونها. قالت لويز: إن الطفلة مسرورة بأن تجعل من نفسها شيئا ذا نفع. فقلت لها: ألا ترين أنه يجب عليها أن تخرج للرياضة من وقت لآخر. فقالت: هذا ما أقوله لها دائما، أنا لا أستطيع أن أقنعها بأن تسري عن نفسها. يعلم الله أنني ما أردت قط أن أعني مخلوقا بخدمتي.

ولما راجعت أيريس في ذلك أجابتني قائلة: مسكينة أمي العزيزة إنها تريدني على أن أخرج فأجالس الأصدقاء وأحضر الحفلات ولكنني أفضل أن أبقى في البيت فإنها في اللحظة التي أتهيأ فيها للخروج تعتريها نوبة من نوباتها القلبية.

لم تلبث إيريس أن وقعت في حب أحد أصدقائي. وكان شابا طيبا حلو الشمائل تحبه نفسي، ولقد رضيت به إيريس حين تقدم لخطبتها ففرحت بأن الفرصة في أن تحيا حياة مستقلة قد هيئت لها. وأعترض أيريس الشك في إمكان الزواج ولم يلبث الشاب أن حضر إلى ذات يوم وهو في أشد حالات الحزن وأخبرني أن الزواج قد تأجل إلى أجل غير مسمى.

لقد أحست إيريس بأنها لا تستطيع أن تترك أمها. وطبعي أن المسألة لم تكن تخصني بالذات ولم يكن لي فيها دخل ولكنني اهتبلت الفرصة وذهبت لأقابل لويز. لقد كان يسرها دائما أن تستقبل أصدقاؤها وقت تناول الشاي، أما وقد تقدمت بها السن الآن فقد أحاطت نفسها بمجموعة من الرسامين والأدباء.

ص: 59

فقلت لها بعد قليل: حسنا. لقد سمعت أن إيريس لن تتزوج

- أنا لا أعرف شيئا عن ذلك. كان يحق لها أن ترفض الزواج لو كنت أنا التي رغبت في ذلك ولكنني توسلت إليها وأنا جاثية على ركبتي أن لا تفكري في. لكنها رفضت أن تتركني

- ألا ترين أن في ذلك قسوة عليها؟

- من غير شك. ولكن هذا لن يدوم أكثر من أشهر قليلة ثم إني أكره أن يفكر أحد في أن يضحي بنفسه من أجلي.

- يا عزيزتي لويز لقد دفنت زوجين ولا أرى أي مانع يقف بينك وبين التفكير في دفن أثنين آخرين.

فقالت وقد ضاقت بكلامي أشد الضيق: أو تجد في الهزء بي متعة لك؟

- يبدو لي انك تقومين دائما على ما تريدين فعله وأن قلبك الضعيف إنما يمنعك من عمل الأشياء التي تضايقك.

- أوه. أنا أعرف. أنا أعرف ما تعتقده في دائما. إنك لم تصدق قط أني كنت مريضة في يوم من الأيام أو ليس كذلك؟

فقلت لها وأنا أحدق في عينيها: بلى أن ما أعتقده هو أنك قد خدعت من حولك هذا الخداع الهائل منذ خمس وعشرين سنة وأنك أعظم امرأة قابلتها أنانية وبشاعة. لقد حطمت حياة هذين الزوجين التعسين والآن تريدين أن تحطمي حياة ابنتك.

لم يكن ليأخذني العجب لو أن لويز قد أصيبت في هذه اللحظة بنوبة قلبية وكنت متوقعا كل التوقع أن تثور علي ثائرتها ولكنها اكتفت بأن ابتسمت في وجهي ابتسامة رقيقة وقالت: يا صديقي المسكين. في يوم ما ستندم أشد الندم على ما قلته لي الآن.

- أوصمت علي أن تمتنع إيريس عن الزواج بهذا الشاب؟

- لقد توسلت إليها أن تتزوجه. أنا أعرف أن ذلك سيقتلني. ولكن هذا لن يهم فما من أحد يأبه لشأني وإنما أنا حمل على كل إنسان

- أو قلت لها أن هذا سيقتلك؟

- لقد اضطرتني هي إلى ذلك.

ص: 60

- كما لو قد طلب منك أي مخلوق أن تعملي شيئا لم تكوني تفكرين في عمله.

- يمكنها أن تتزوج من حبيبها غدا لو شاءت. وإذا كان ذلك يقتلني فليكن.

- حسنا. فلنجازف.

- أولا تشفق علي.

- ما من مخلوق يستطيع أن يشفق على من يسليه تسليتك لي فغامت وجنتاها الشاحبتان وظهر الغضب في عينها برغم أنها كانت لا تزال تبتسم. قالت: ستتزوج إيريس في ظرف شهر وإذا حدث لي شيء فأرجو منكما أن تطلبان لنفسيكما الصفح والغفران. وسارت الأحوال على أحسن ما يكون. وحدد اليوم وأعدت ثياب العرس الرائعة ووزعت الدعوات. وكانت إيريس وفتاها الطيب مشرقين. وفي يوم الزفاف في الساعة العاشرة صباحا أصيبت لويز هذه المرأة الشيطانة بنوبة من نوبات قلبها ولفظت أنفاسها. . ماتت في وداعة وقد صفحت عن إيريس التي كانت سببا في قتلها.

السيد مصطفى غازي

ص: 61