المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 712 - بتاريخ: 24 - 02 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧١٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 712

- بتاريخ: 24 - 02 - 1947

ص: -1

‌إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم

للأستاذ علي الطنطاوي

أنا لم أتشرف بالانتساب إلى الأزهر ولا إلى غيره من المعاهد الشرعية، لأني تعلمت في المدارس الأميرية من دار الحضانة إلى كلية الحقوق، ولكني نشأت من صغري بين كتب العربية والدين، وربيت في مجالس العلم والأدب، لأن والدي رحمه الله كان من كبار علماء دمشق، وكانت دارنا من الدور العريقة في العلم، فلم تكن تخلو يوما من مراجعات أو مناقشات، ونظر الكتب ومقارعات بالحجج، ومن عامة يستفتون وطلبة يقرئون وعلماء يبحثون، فلما توفي والدي لزمت عالما أزهريا متفننا، فكنت أنصرف من المدرسة فأراجع دروسها على عجل، ثم أتعشى (وكان العشاء في تلك الأيام بعد العصر) وأصلي المغرب وأمضي إليه في مسجده، فأقعد مع الطلبة ننتظره حتى يفرغ من صلاته، وكنا نحو الخمسين طالبا، منا تلميذ المدرسة ومنا التاجر ومنا الموظف، ومنا الشاب ومنا الكهل. وما يبتغي أحد منا بالعلم دنيا، ما نبتغي إلا العلم وحده لنعرف به الحلال من الحرام، نرى طلبه علينا فرضا، وتحصيله عبادة، فكنا نجد في المطالعة لذة، وفي الحفظ مسرة، وفي التعب راحة، فنطالع الدرس قبل أن نقرأه، ونطالعه بعد أن نقرأه، ونحقق مسائله ونحفظ شواهده، ونفتش عن الشروح له والحواشي عليه. . .

فإذا قضى الشيخ صلاته أقبل علينا فسلم فرددنا عليه السلام، لا نقوم له أدبنا بأدب الإسلام، وليس منه هذا القيام، ولكن تثب لمقدمه قلوبنا، وتخشع لمحضره جوارحنا، وتنبض بحبه وإجلاله كل ذرة فينا، فيقعد ونحن من حوله، فيسمى الله ويحمده ويشرع في درس النحو، فيقرأ المعيد ويشرح هو، ويقيم أحدنا إلى لوح أسود كالذي يكون في المدارس، فيملي عليه الشاهد ليوضح عليه القاعدة الجديدة ويذكر بالقواعد القديمة، وكأن أحب شيء إليه أن نستعيده ونستوضحه ونناقشه، فيعيد ويوضح ويجيب باسم الثغر، طلق المحيا، مشرق الشيبة محبوبا مهيبا. فيملك بخلقه قلوبنا، وبعلمه عقولنا، ثم يختم الدرس بحمد الله كما بدأه بحمد الله، ويؤذن المؤذن فنقوم إلى الصلاة، فنرى السكينة قد حفت المجلس، والرحمة قد نزلت عليه، ونحس بالملائكة قد حضرته، ويؤمنا الشيخ فيقرأ قراءة إخال من روعتها كأن القرآن قد هبط به الوحي آنفا، ولقد سمعت قراء أحلى صوتا، وأصح نغما، فما سمعت مثلها

ص: 1

أبدا. فإذا قضيت الصلاة قعدنا نذكر الله بقلوب حاضرة، وألسنة رطبة، وجوارح خاشعة، ثم من شاء منا قبل يد الشيخ (ولا يكاد يسمح بتقبيلها) وانصرف، ومن شاء بقى يستمع إلى حديث الشيخ، وكان حديثه أعذب في آذاننا من همسات الحب، وأشجى من عبقريات الأغاني، ثم ينظر الشيخ فيقول: إن فلانا لم يحضر وقد بلغني أنه مريض، فعودوه وساعدوه. فنسرع إليه نعوده ونؤنسه ونأتيه بالطبيب وبالدواء. وإن فلانا في ضيق فأعينوه، فنسد خلته ونفرج ضيقته. وربما استبقى الواحد منا، فانفرد به فنصحه ووعظه، أو أنبه على زي لا يليق بطالب العلم اتخذه. أو محل لا يحسن به حله، أو صاحب لا يدله على الله صاحبه، فيبلغ منا تأنيبه ما لا يبلغه السيف، وندع ما كرهه ولا نعود إليه، ثم ننصرف جميعا إلى بيوتنا: الكبار إلى زوجاتهم وأولادهم والصغار إلى أمهاتهم وأخواتهم، ننام من أذان العشاء على فرش التوبة والاستغفار، ثم نقوم في بواكر الأسحار، عندما يفيق الديك والمؤذن والنور، فنتوضأ فنطهر بالماء أجسادنا، ونصلي فنطهر بالصلاة أرواحنا، ثم نمضي إلى المسجد فنؤدي الغداة مع الجماعة، ثم نجلس في حلقة الشيخ، لنقرأ عليه الفقه والحديث والتفسير في الصباح، كما قرأنا النحو أولا والبلاغة ثانيا في المساء وكما يقرأ عليه غيرنا غير هذا وذاك النهار كله، فلا تلقى في حياة الشيخ إلا العلم والدرس، والمراجعة والبحث، تتخللها مواعظه العامة، وتوجيهاته الناس، فهو المرجع في كل شيء: في الانتخابات العامة يسألونه فيأمرهم بأهل الدين والورع من أي حزب كانوا، وفي الخصومات يرفعونها إليه، فيزيلها بالصلح، أو يفصلها بالحق وفي الأحداث كلها يبين فيها حكم الله. وكان كل نائب أو وزير يؤم داره خاشعا متواضعا كأنه يمشي إلى حرم، فيريه عزة العلم، وجلال الحق، ولطف المؤمن، وتواضع العظيم، ويعظه ويأمره وينهاه، ولا يزرؤه شيئا من دنياه. وكان أيام الثورات على الفرنسيين هو الداعي إلى الجهاد، وهو قائد القواد، أرهبه الفرنسيون فلم يخف، ورغبوه فلم يطمع، وأزعجوه فما لان، فتركوه لم يجرءوا عليه ودونه أهل البلد يفدونه بأنفسهم وأهليهم.

أما الدنيا فلم يكن يسأل عنها أقبلت أو أدبرت، ولم يكن يفكر فيها ضاقت أو اتسعت، فإن حضره الطعام حلالا أكل، وإن دعاه محب أو فقير أجاب، وإن أهدى إليه قبل، فإن كانت الدعوة أو الهدية من فاسق أو متكبر أبى. يلبس ما وجد فربما كانت عليه الجبة من الجوخ

ص: 2

الثمين فمر به فقير مقرور فدفعها إليه، ولبس عباءة مرقعة، أو خرج بالإزار وحده. تدخل الدنيا داره فيكون كأنعم الناس، ويدخل المال كيسه فيكون كأغنى الناس ثم يضيق ويفتقر، فيتنكر ويقصد القرى فيشتغل فيها بالطين واللبن، ويعود بما كسبه من كد يده، لا يطغى في الأولى ولا يقنط في الثانية، ولا يذيق قلبه حلاوة الدنيا، فيلين لأبنائها حرصا عليها، وخوفا من زوالها.

وكنا نخرج معه كل ثلاثاء (وهو يوم الراحة عند العلماء) إلى القرى والأرباض، فإذا جاوزنا رحبة دمشق، قال: قد وضعنا المشيخة هنا، ونحن من الآن إخوان. فنمازحه ويمازحنا ونغني أمامه ونثب ونلعب، ونسبح ونركب الخيل ونصطاد، وكان يرغبنا في السباحة والفروسية والرمي، وسائر أنواع الرياضة، لأن ذلك من سنة الإسلام، ويود أن يكون معنا فيه ولكن السن تمنعه والضعف والكبر، ثم نعود من الغد إلى الدرس، ونحن أصفى الناس ذهنا، وأطيبهم نفسا، وأشدهم نشاطا.

ولازمت من بعده مشايخ كثيرين كانت حالهم كحال الشيخ أو قريبا منها، وكانت حياتهم علما وعملا، ومنطقا وخلقا، وكانوا كلهم يحدثونا عن الأزهر وما فيه، حتى حبب إلينا الأزهر القديم من أحاديثهم، وتخيلناه جنة الروح، ونعيم القلب، وتوهمنا أن ما رأيناه من أحوال مشايخنا وردة من تلك الجنة، وطرفا من ذلك النعيم، وبتنا نتشوق إلى الأزهر، ونتمنى أن نزور مصر لنراه، فلما قدمت مصر سنة 1928 رأيت الأزهر قد تغير عما وصفوه لنا، وحال عن حاله التي حدثونا عنها، فتركته ودخلت دار العلوم العليا. ثم لما عدت سنة 1945، لم أجد الأزهر وإنما وجدت مسجدا خاليا، وكليات تنتسب إليه ليست إلا مدارس كما عرفنا من المدارس، فبكيته لما فقدته، وحننت إليه، لا إلى سراج الزيت، وحصير الرواق، بل إلى ذاك التقي وتلك الأخلاق. بكيت فيه شيخي، وبكيت فيه عهد الشيخ الذي مضى عليه اليوم أكثر من ربع قرن، ولا تزال ذكراه غذاء لروحي، وفرحة لقلبي، وأنسة لي في وحشة الحياة، أفكر فيه كما يفكر العاشق المهجور في ليالي الوصال، والسجين في أيام الحرية، والمفلس في زمان الغنى، بل إنه لأحب إلي من عهود الحب، وليالي الوصال، لأنها لذة الهوى وهو حلاوة الإيمان، ولأن ذكراه ذخري الذي لا يفنى، ومفزعي كلما دهمتني خطوب هذه الحياة المادية التي تختنق فيها الروح، ومعين اليقين لي

ص: 3

في نوادي الشكوك.

رحمة الله على أولئك المشايخ الذين كانوا ينابيع العلم، ومنارات الهدى، وأئمة الخير. وما كل المشايخ الأولين كانت لهم هذه الحلال، وما كل علماء اليوم تجردوا عنها، ولكن الأعمال بالنيات، والأمور بالمقاصد، وأولئك كانوا يقصدون العلم والدين، فكان الأصل أن يكونوا أهل علم ودين إلا من شذ منهم، والكمال لله وحده، وهؤلاء الطلاب يقصدون الشهادة والمنصب فكان الأصل أن يكونوا أصحاب منصب وشهادة إلا من شذ منهم، والخير لا ينقطع في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

وما أنا بالمحامي عن عهد بذاته، ولا عن أشخاص بأعيانهم، لكنما أدافع عن تقوى العالم وأمانة العلم، والعلم إذا لم يكن معه أمانة كان الجهل خيرا منه، كالطبيب الفاجر، يغش المريض ويماطل في العلاج، ابتغاء دوام الحاجة إليه، وتدفق المال عليه، بل ربما بالغ في الفجور فلم يمنعه علمه إن لم يكن أمينا أن يقتل المريض بالسم، بدلا من شفائه بالدواء.

وخلاصة القول أن نبينا صلى الله عليه وسلم علمنا أن هذا العلم دين، وأمرنا أن ننظر عمن نأخذ ديننا، ونحن لا نستطيع أن نأخذ العلم إلا عن رجل نثق بدينه كما نثق بعلمه، ونطمئن إلى إيمانه كما نطمئن إلى منطقه، فإن لم يكن إلا العلم والمنطق، لم ينفعاه عند الله شيئا.

وأنا لا أقيس الأزهر على الجامعات، فالجامعات فيها العلم والفن، وفيها الكفر والإلحاد، لا يمنع منه عندهم أنه كفر، ما دام يسمى باسم الفلسفة أو العلم، ذلك لأن أسلوب الجامعات أسلوب عقلي لا يبالي بالدين، ولا يتقيد بالوحي، وديننا لا يعارض قضايا العقل المسلمة وأحكامه الثابتة، ولا ينافيها، ولكن أين هذه القضايا؟ وهل يكون منها كل حكم يوصل الباحث إليه عقله؟ ففيم إذن تختلف العقول، ويتناظر الفحول؟ أفنبني ديننا على آراء الرجال، فكلما جاء واحد منهم ببدعة في الدين قلدناه فيها، وأقمناه بيننا وبين ربنا، وجعلنا ما جاء به من شرعنا؟ ومن يكون إمامنا في ديننا إذا لم يبق في الأزهر أئمة دين؟

ألا يكون ذلك تحقيقا للحديث، ومعجزة للرسول عليه الصلاة والسلام إذ قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور العلماء، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس أئمة جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا؟

ص: 4

نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والكفر بعد الإيمان!

ألا إن ديننا يقوم على أدلة معروفة هي الكتاب والسنة الثابتة، والإجماع الصحيح والقياس الجلي، لا عمل للعقل فيها، إلا الاستنباط والاجتهاد، على (الأصول) المعروفة، والسبيل المسلوكة وأتباع البيضاء النقية، والإقتداء بالسلف الصالح، فإن جاوز هذا الحد لم يجر لمسلم أن يعول في دينه عليه، أو يرجع في الحكم إليه.

ونحن نريد علماء من أمثال هذا الشيخ رحمه الله ويعملون، ويتبعون ولا يبتدعون، ويتقون الله سرا وعلنا ويحكمون الشرع في خاصة نفوسهم وعامة أمورهم، لا تذلهم الدنيا، ولا يفسدهم الفقر، ولا يطغيهم الغنى، فإن كانوا كذلك فليخرجهم أساتذة جامعات، أو وعاظ جوامع، وليكونوا بعد فلاسفة فالإسلام لا يعادي الفلسفة ما لم كفرا وليكونوا باحثين فالإسلام يحب البحث، وليكونوا مجددين بالاجتهاد ما داموا متبعين في أصول الدين، وليجلسوا على البساط أو على الطنافس، وليقرأوا على السراج أو على الكهرباء، وليسكنوا الأكواخ أو القصور، ولينقطعوا إلى العلم أو ليكونوا أصحاب المناصب أو أعضاء المجالس وأولياء الأمر.

ولكن هل ينتظر أن تخرج هذه الجامعة الأزهرية أمثال أولئك العلماء؟

هذه هي المسألة!

وأنا لا أحب أن أجيب عنها، لأني إن أجبت قلت مرة ثانية:

(ردوا علينا الجامع الأزهر!!)

(القاهرة)

علي الطنطاوي

ص: 5

‌لا تدابروا أيها الرجال!

للأستاذ محمود محمد شاكر

زعموا أن رجلا ضل له بعير فأقسم لئن وجده ليبيعنه بدرهم، فأصابه، فقرن به سنوراً وقال للناس:(أبيع الجمل بدرهم، وأبيع السنور بألف درهم، ولا أبيعهما إلا معا). فقيل له: (ما أرخص الجمل لولا الهرة!) فذهبت مثلا!

والظاهر أن بعض ساستنا لا يفتأون يفعلون فعل هذا الأعرابي، كأنما كتب عليهم أن يتحدوا دائما إرادة هذا الشعب المسكين المصفد في الأغلال الوثيقة، وكأنما كتب عليهم أن يختلقوا العناد اختلاقا حتى يضيعوا عليه كل فرصة سانحة لنيل حقوقه المهضومة منذ قديم الأيام، وكأنما كتب عليهم أن يتعيشوا بنكبات هذا البلد وآلامه. وإلا فليحدثنا هؤلاء الساسة فيم يختلفون اليوم، وعلام يتدابرون تدابر الذئاب التي قال فيها القائل:

وكنتَ كذئب السَّوْء، لما رأى دماً

بصاحبه يوماً، أحالَ على الدَّمِ!

لقد ظلت المسألة المصرية السودانية منذ أكثر من نصف قرن وهي تتخبط في أساليب السياسة البريطانية وتكاذيبها وخدعها وتغريرها بعقول الرجال، وتكاثرت النكبات على مصر والسودان، واتخذت بريطانيا صنائع لها لبسوا ثوب الصديق وهم ألد عدو وأبشعه وأخلاه من الشرف والمروءة، ولم تزل مصر والسودان تجاهد بطبيعتها الحرة الصريحة المكنونة في صدور أهل هذا الوادي الحر النبيل، فغلبت الشر وقهرته، واستعلنت على أبين ما تكون وأكمله، فانتهينا من ذلك الوباء الفتاك الذي كان ينخر في جسم هذا الوطن، والذي كان يتهادى عليه من سماهم الناس (زعماء) - انتهينا من وباء (المفاوضة) ومن حصر المسألة المصرية السودانية في حيازة بريطانيا وشرف تاجها ووعودها المبذولة بألفاظ من سراب. وهذه النتيجة وحدها هي حسب مصر والسودان من جهادهما، فإنه لم يكن من المعقول أن يقف مغصوب ضعيف ليفاوض غاصبا قويا مفاوضة الند للند كما كان (الزعماء) يزعمون! ووالله ما ندري كيف كان يجوز ذلك في عقولهم (الزعيمة)؟ وكيف كانوا يخدعون الناس عن عقولهم (المزعومة)!! ولكنه كان، وعلم أسرار ذلك عند الله خالق الزعماء!

ثم خرجنا من بلاء المفاوضة إلى عرض قضيتنا - قضية مصر والسودان - على مجلس

ص: 6

الأمن أو هيئة الأمم المتحدة لتحكم بيننا وبين بريطانيا المغتصبة الجريئة على حقوق خلق الله، وعلى الإيقاع بين الأمم والشعوب، وعلى خلق المشكلات التي لا وجود لها، كما فعلت في فلسطين، ثم تظاهرها بعد ذلك بأن حل هذه المشكلات هو همها، وهو تعب صبه الله عليها وحملها إياه، وهي كانت تتمنى لو زعمت أن الله لم يصب عليها هذا التعب ولم يحملها عبء حله وتصريفه حتى تبلغ إرضاء المختلفين في هذه المشكلات!! وهي تريد أن تخدع الأمم في مجلس الأمن أو في هيئة الأمم المتحدة بهذا الكذب الأبلق، وعندها من أفانين الدعاية وأساليب الصحافة، ومن رجال القلم واللسان ما يعينها على إجازة هذا الكذب الصرف إلى عقول الرجال في مجلس الأمن أو سواه. وهي تعلم أن هؤلاء الرجال قليلا ما يعرفون من سيئاتها ومظالمها وبغيها وجرائمها وآثامها في هذا الشرق الذي ابتلى بها وبخداعها.

وظني بساستنا، هداهم الله، أنهم يعرفون هذا حق المعرفة، فإن لم يكونوا يعرفونه فقد نبهوا مرارا ويوما بعد يوم، فهم الآن على أتم علم بما يخاف وما يتجنب في ساعة العسرة التي نحن فيها منذ فتح الله مغاليق القلوب المصمتة فأدركت أن المفاوضة عبث لا يجدي ولا يغني، وإنما هو الجهاد العام في سبيل نيل الحق المغصوب. فما معنى هذا التدابر إذن؟

معناه أن هؤلاء الساسة قوم تصرفهم أهواؤهم لا حقوق هذا الوطن الذي أعطاهم حق الحياة فيما أعطى، ومعناه أيضاً أنهم قوم جمدوا على سياسة لا يحسنون غيرها ولا يفهمون الأشياء إلا على أسلوبها، وهو أخس الأساليب، ومعناه أيضاً أنهم يجهلون معنى خروجنا من أسر المفاوضات وارتفاعنا بقضية وادي النيل إلى مجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة. ولو هم نفوا من صدورهم هذه الشحناء القديمة البغيضة لأدركوا موقف مصر والسودان حق الإدراك. فالأمم لا ترتفع إلى مجلس الأمن أو هيئة الأمم إلا في القضايا التي تهدد السلم العالمي، أي التي يخشى أن تجر إلى حرب مبيدة بين الأمم، فإذا ارتفعت أمتان إلى المجلس أو الهيئة لكي يحكم بينهما؛ فمعنى ذلك أنهما قد بلغا مبلغا يمكن أن يسمى (حالة حرب) كما يقولون اليوم، وإذن فاحتكامنا إلى مجلس الأمن معناه أن ههنا (حالة حرب) يراد من مجلس الأمن أن يتداركها. فإذا كان ذلك كذلك فهل في عقل عاقل أن تكون أمة في ساعة أشبه بساعة حرب، فإذا رجال من قادتها يقومون ليتنابزوا بالألقاب ويتكايلوا بالتهم،

ص: 7

ويتدافعوا بالبغضاء، ويبسطوا ألسنتهم في حديث الماضي الذي عفى عليه الزمن حين عفى على أسبابه وهي المفاوضات التي كان قوم يستأكلون بها كراسي الوزارات ومقاعد البرلمان؟

ألا فليعلم هؤلاء جميعا أننا لا تريد أن ننصر قوما على قوم فما بنا إلى أحد منهم حاجة، وأننا إنما نريد لهذا الوطن أن يخرج من المحن منصورا مؤزرا ظافرا بالحق المسلوب. إن مصر والسودان قد أعلنت على بريطانيا - باحتكامها إلى مجلس الأمن - ما يمكن أن يسمى حربا بغير سلاح، فكل مصري سوداني هو اليوم جندي منوط به حراسة الثغرات التي يتدسس منها العدو الأكبر وهو بريطانيا، لا فرق بين كبير وصغير، ولا زعيم ولا تابع، فأهل هذا الوادي جميعا يد واحدة وسواسية كأسنان المشط في التكليف الذي كلفوا به، وعلى كل منهم أن يبذل ما وسعه من النصيحة والمشورة للذين سيتولون الدفاع عن حق الوطن في ذلك المكان الذي سنحتكم إليه.

وخير لأولئك الذين يقولون: إن فلانا هذا لا يصلح لعرض القضية المصرية السودانية على مجلس الأمن أو هيئة الأمم أن ينزعوا هذا الإفك من ألسنتهم فإنه مضلة ومفسدة وخذلان للوطن لا لفلان أو فلان، وخير لهم أن يقضوا الليالي الطوال في درس الحجج التي سنتقدم بها لإقناع رجال يجهلون كل الجهل تاريخ النكبة البريطانية التي صبها الله على رأس مصر والسودان، وخير لهم أن يستخرجوا آثام بريطانيا وضروب بغيها في مصر والسودان، وفي الهند، وفي فلسطين، وفي سائر بلاد الشرق ليعرضوها جملة واحدة تصريحا أو تلميحا ليكشفوا لرجال مجلس الأمن عن فظائع بريطانيا وأفعالها البشعة منذ سلطها الله على هذه البلاد فإن أكثر التاريخ الذي يقرؤه هؤلاء مكتوب بأقلام بريطانية وأهواء بريطانية. وإلا فحدثونا من من رجال مجلس الأمن، فضلا عن شعوب هؤلاء الرجال، عرف ألوان الخساسات التي ارتكبت في دنشواي، وفي فلسطين أيام الثورة العربية؟ إننا لن نذهب إلى مجلس الأمن وحده بالقضية المصرية السودانية بل سنذهب إلى كل فرد في روسيا وأمريكا وسائر الشعوب المشتركة في مجلس الأمن. وإننا لن نذهب بالقضية المصرية السودانية وحدها، بل سنذهب بجميع قضايا الشرق الذي ذاق نكال بريطانيا أكثر من قرن ونصف قرن. إننا نريد أن ندخل قضيتنا وسائر قضايا الشرق في

ص: 8

كل بيت وفي كل ناد وفي كل مصنع، وفي كل مكان فيه إنسان يعقل - كما تفعل بريطانيا الغادرة بباطلها الذي تنفثه في كل حنية من حنايا هذا العالم، متظاهرة بأنها المدافعة عن الحق وعن الحرية وعن العدالة وعن رفع مستوى الشعوب!! وياله من كذب لا يلفه إلا الحق الأبلج! فأين نحن من هذا كله؟ أين؟ أفي البغضاء وتعداد المساوئ الماضية، وبسط الألسنة في المطوي من الأحداث القديمة؟ إننا لن ننال شيئا إذا فعلنا إلا الخزي والعار وعرض فضائحنا على أعين الناس!

إننا أيها السادة محاربون، فافعلوا فعل المحاربين في ساحة القتال، لا فعل المتشاتمتين على قارعة الطريق. واذكروا هذا الوطن، فهو أحق بالذكرى من ضغائنكم وإحنكم وإثاراتكم. اجعلوا هذه كلها دبر آذانكم وتحت أقدامكم، فإن الوطن يأمركم بهذا فأطيعوه ولا تطيعوا داعي الشهوات وكراسي الحكم ومقاعد البرلمان فكلها عرض زائل، وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وهي هي التي تتقدم إلى مجلس الأمن بقضيتها، لا فلان هذا ولا فلان ذاك؛ فالكلمة الآن لمصر التي أنتم أبناؤها، لا لأحد منكم على حياله. فأجمعوا أمركم، ولا تحملنكم الكبرياء على تزييف القول إرضاء لشهوات أنفسكم، فإنكم إن فعلتم كدتم لبلادكم وأوطانكم وشرفكم كيدا لا يكيده عدو حقود ولا شامت باغ لكم أهوال المصائب. وماذا تريد بريطانيا إلا اختلاف الكلمة وتفرق الوحدة؟ ألم تدركوا بعد ماذا كان يريد كهف بريطانيا بيفن جين زعم أنه لم يعرف أنه أخطأ إلا يوم عزمت مصر والسودان على رفع قضيتها إلى مجلس الأمن، فإنه زعم أنه أخطأ إذ أدار المفاوضات بينه وبين حكومة أقلية!! ويا سبحان الله! إنه لم يرد تلك الأكثرية التي يعرض بها إلا أن تكون خصومة ولدداً على حكومة الأقلية، وأن يستثير دفائن الأحقاد ويفت من عضد الأمة التي سوف ترغمه وترغم بريطانيا على احترام إرادتها وحقها. فإن لم يكن في الاتحاد والتناصر إلا قتل هذه الكلمة وما ترمي إليه، حتى يحمل الرجل حسرنها إلى الأبد - لكان ذلك واجبا مفروضا وخيرا مرغوبا فيه. وكيف جاز في العقول - أعني عقول بعض الساسة - أن الأمر أمر حكومة أقلية أو أكثرية!! لا أدري، ولكنه كان.

ومع كل ذلك، فالأمر كله تدليس سخيف، ففي البلاد المنكوبة المهضومة الحقوق، لا رأي لأكثرية ولا أقلية بل الرأي للشعوب وللبلاد - أي للشعب من حيث هو تاريخ ماض

ص: 9

وتاريخ حاضر وتاريخ مستقبل، فحكومة الأكثرية لو هي خانت الأمانة وفرطت في حقوق البلاد ومهرت ووقعت وأسلمت المقاليد وعقدت المعاهدات وأقرها البرلمان وأجاز كل ما جاء فيها من تفريط - فذلك كله باطل، لأن الحق ههنا حق طبيعي متوارث في البشرية كلها، لا يغير رأي الأكثرية شيئا من حقيقته وجوهره، ولا تمتلك الدولة القائمة في أرض البلاد المحتلة أو المهتضمة أن تنزل عن هذا الحق لأحد، فنزولها عنه عمل باطل من أصله. وإذن فالذي يقيد الأكثرية، ويؤيدها هو حق الشعب وهي بحرصها على هذا الحق تسمى أكثرية لا بغيره. فلو جاءت الأقلية وفعلت ما يدل على أنها حريصة على هذا الحق الطبيعي المتوارث الذي لا يمكن حكومة أن تتنازل عنه لأحد، فهذه الأقلية بمنزلة الأكثرية، لأنها هي المطالبة بالحق الطبيعي، وهذا شيء بين واضح، اللجاجة فيه شهوة وعبث.

أو ليس عارا أن يكتب المرء مثل هذا لقوم كان لهم جهاد في سبيل بلادهم؟ إنه لعار. ألم يكن لهؤلاء أسوة حسنة في سورية ولبنان حين وقفت صفا واحدا كالبنيان المرصوص، على ما كان يومئذ من اختلاف أشد وأعنف من اختلاف رجالنا؟ بلى قد كان.

أيها الرجال! إن العالم كله ينظر إلينا، وإن قلوب الشرق كله تخفق إشفاقا علينا وحبا لنا، وإن الأمم الجريحة التي مزق الوحش البريطاني أوصالها قد كفت عن الأنين لتسمع صوتكم وهو يدوي في جنبات الأرض لتنسى عندئذ آلامها وأوجاعها، وإن فلسطين - وآه لفلسطين - إن الجزع ليأكل قلوب أبنائها مخافة أن تزل أقدامنا، وهم قد ناطوا بنا رجاء قلوبهم. فرفقا أيها الرجال ولا تخذلوا شعبا مجاهدا كتب عليه أن يقاتل أنذال الأمم.

أيها الرجال! لا يغرنكم هذا الوحش البريطاني، فإنه يضرب بقوائمه وهو كالصريع فذففوا عليه باتحادكم، وأجهزوا عليه بتناصركم، وانسوا ما مضى وخذوا عدتكم للذي سيأتي، فإنه النصر لمصر والسودان بإذن الله مذل الجبابرة، ومرغم الطغاة الغادرة، وناصر الأمم المتآزرة.

محمود محمد شاكر

ص: 10

‌صحائف مطوية:

رأس النقب وخليج العقبة

حملة البرنس أرناط على الأراضي المقدسة الإسلامية

عام 578 هجريه

للأستاذ أحمد رمزي بك

قالوا (الحرب رحى ثقالها الصبر وقطبها المكر ومدادها الاجتهاد وثقافها الأناة وزمامها الحذر)(العقد الفريد)، أما تلك التي أضعها أمامك فكانت ملحمة من ملاحم الحروب الفاصلة جمعت بين قوات البر والبحر معاً، وقامت فيها المصادمة على ظهور المراكب والمطاردة على رمال الصحراء. ولم تتسع للصبر لأن السرعة كانت عنصرها، ولا للمكر والاجتهاد واصطناع الخديعة لأنها جاءت على غير إستعداد، ولم يصاحبها الحذر لأنها بنيت على المفاجأة والأقدام.

كان مشروعاً دفعه الحقد والحمق والغرور، ذلك المشروع الحربي الذي دار بمخيلة البرنس أرناط صاحب الكرك الفرنجة فقد أقسم أيمانا ملغظة على فتح الحجاز وإيذاء المسلمين في أشرف بقعه يقدسونها، ولذلك أنشأ أسطولاً في أراضيه جعله من قطع حملتها الإبل، وسارت بها وسط القفار ليلقى بها في خليج العقبة، وساعده بعض أشرار البدو في عدوانه ولم تأت سنة 578 إلا والأسطول يمخر عباب البحر الأحمر، وإذا به ينقسم إلى فرقتين أقامت الأولى على حصن للمسلمين بخليج العقبة تحاصره، واتجهت الأخرى جنوباً تهاجم موانئ البحر على الشاطئين الأسيوي والأفريقي فأختل طريق الحج وأخذ الأسطول يطارد المسلمين في عقر ديارهم وعلى أمواج بحرهم، فأصبحوا تحت رحمة هذا الجبار، ولما وصل الخبر إلى مصر وكان بها الملك العادل أبو بكر نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين، بادر بإنشاء أسطول نقله إلى خليج السويس وسلم قيادته للحاجب حسام الدين لؤلؤ، فسار مجداً في طلب الفرنجه حتى أوقع بهم بعد أن امضوا شهوراً يجوبون البحر الأحمر إلى عدن وينزلون مقاتلتهم إلى ساحل الحجاز، فأحدثوا أموراً لم يسمع في الإسلام بمثلها حتى ذكر المؤرخون (أنهم توجهوا إلى المدينة النبوية فلم يبقى بينها وبينهم سوى مسيرة

ص: 11

يوم واحد).

قرأت هذا في مراجعنا ثم وقع نظري على ما كتب الأب لامنس اليسوعي إذ قال: (لفت خليج العقبة وموقع أيلة أنظار البطل الصليبي ولمس أهميته فعمل على إحتلال تلك البقعه ونشر الرعب بأسطوله، ولاشك في أنه في ضرب مثلاً بإقدامه وجرأته لجمع كبير من أبطال الاستعمار الأوروبي وبناته الذين جاءوا من بعده فجاهدوا مثل جهاده، فهو الذي شق الطريق أمامهم وهم نسجوا على منواله)

حركني هذا الكلام مع غيره مما قرأت من كتاب الأوروبيين الذين أشادوا بعمل البرنس أرناط، أن أتتبع هذه المرحلة، التي لم تعجبني الدوافع التي أملتها، وإن كانت عملاً حربياً كبيراً فيه المجازفة والمخاطرة إلى أبعد حدودها، وأعجبت من عمل مصر ورجال صلاح الدين الذين عالجوا الموقف وخطورته بجرأة وإقدام ومجازفته لا تقل عما لدى الخصم وكان أن كتب النصر لهم.

فلنقف هنيهة لننظر ما لنا ذلك العصر من بطوله وقوه ومن مشاكل وأحداث ومصاعب: في الفترة التي برز فيها هذا الخطر كان صلاح الدين بعيداً عن مصر، يجمع شتات ملك الشام. كان ينازل الموصل بعد أن تم له فتح حران وسروج وسنجار ونصيبين والرقة وجميعها من بلاد الفرات الشامية، فإذا برسول خليفة بغداد يستعطفه بشأن الموصل فيرحل عنها ليأخذ حلب من عز الدين مسعود الأتابكي ويعوضه عنها بسنجار.

في وسط هذه المقامع القائمة وتبدل الدول حيث يعمل البطل الكبير إلى عودة حدود الملكية المصرية الإسلامية إلى سابق عهدها، كما كانت أيام طولون والأخشيد والفواطم في إبان مجدهم، يفاجأ بهذه الحركة التي يقصد منها عرقلة مشاريعه وقطع اتصاله عاصمة ملكه. وسنرى أن العاهل الكبير أدرك خطورة هذه الحملة فقطع ما كان مزمعا عليه وعاد إلى الشام ليدبر حملاته الكبرى التي أفتتح فيها أراضي الكرك والشوبك ثم انتهى إلى حطين حيث وقع البرنس ارناط بين يديه.

لقد خدم ارناط العروبة ودين محمد، فقد كنا نحبو إلى حطين حبواً، فإذا بالطاغية وملحمته التي أثارها يجعلنا نركض أليها ركضاً، نعم، لنكتب على صعيد فلسطين أنباء المعركة الفاصلة في التاريخ والتي حطمت ملكاً أنشأه الفرنجة ظلماً على أراضي آسيا الإسلامية

ص: 12

بضربه واحدة، وقدم أرناط للمشرق كأساً مملوءة بالظفر شربها أبطالنا بعد مضي قرن من الزمن على المعركه الأندلسيه الكبرى التي أنتصر فيها يوسف بن تاشفين على جموع الأسبان وفلول الادفونش (479هجريه - 1086ميلاديه) وأثبت عن حق إن عزائم المرابطين من قبائل المغرب كانت أقوى من عزائم الأسبان وفرسان أوروبا.

تلك هي الملحمة التي كانت في الماضي نعمه علينا فألبستنا من بعد حطين ثوباً من القدرة والانتصار، مالي أراها تعاودني وتقلق مضاجعي؟ أهناك أشياء آتيه المسها من بعيد، سيخلقها المستقبل لنا؟

أني أذكر تماماً أنه في عام 1935 حينما كنت بالمقدس جاء ألي كاتب يهودي وقدم إلي مؤلفا بالعبرية كتبه عن أراضي النقب وطلب إلى أن أقرأه. وكان أن سألت نفسي ما الذي يشغله بهذه البقعة النائية عن الحضارة الخالية من السكان، وماذا يقصد هؤلاء من النقب، وهم لا يكادون يصلون قرية بئر السبع إلا بشق الأنفس؟ لم أر الأمر بعين الجد، ودار حديث مع المؤلف عن هجرة إسرائيل من وادي النيل وضلالهم في سيناء، وعرضنا لكلمة التيه وعلاقة هذا الاسم بتلك القبائل التي تخطر في الريف المصري باحثه عن المرعى لقطعانها من الغنم والتي يطلق عليها العرب من السكان اسم هتيم؟ هل هم سكان التيه؟ لا أدري. وما خرج المؤلف حتى فتحت الكتاب فإذا به خريطة شاملة لتلك البقعة الهامة من أرض الشرق العربي التي ستؤثر في تاريخنا لألف سنه قادمة. واتجهت أنظاري إلى العقبة إذ هناك تنتهي أراضي فلسطين الحديثة، وتذكرت النزاع الذي قام عام 1906 بين مصر والدولة العثمانية أو بين بريطانيا وتركيا. وتخيلت مجموعه كبيره من الوثائق الرسمية والخرائط كنت اطلعت عليها من زمن مضى ومعها صور للفرمانات السلطانية التي منحت للخديويين والولاة، وكانت الحدود بين مصر والدولة صاحبة السيادة عليها تنتقل بين السويد والعقبة إي تنتهي مره هنا وأخرى هناك.

فما الذي حرك السياسة البريطانية عام 1906 لإثارة مسألة العقبة وجعلها مسألة دوليه وما الذي دفعها لكي تفرض إرادتها فرضا على الدولة صاحبة السيادة على مصر؟ أكانت تقرأ في عالم الغيب والشهادة تطورات ضرب فلسطين ومواقع قتال أم معارك الدردنيل عام1915؟ أما التقارير الرسمية والأوراق السريه فقد أظهرت للعيان أن خطط اقتحام

ص: 13

المضايق وغاليبولي قد وضعتها قيادة البحر مع قيادة البر في سنة 1906 وهي السنة التي تمت فيها اتفاقات العقب بين مصر وإنجلتره من جانب والدولة العلية من جانب آخر، فهل كان هذا من قبيل المصادفة ليس إلا؟ لا أستطيع لذلك جواباً لأن للسياسة الأوروبية أسراراً وطلاسم أعجز عن فهمها.

مر كل هذا بذاكرتي بعد أن قدم اليهودي كتابه مجلداً تجليداً حسناً ومهدى إلى ممثل الدوله التي مهدت له الدراسة وسهلت له التنقل في ربوعها ليبحث مسألة علميه، وليساهم بقسط ضئيل من المعلومات والأبحاث عن أرض النقب، والنقب اسم متسع يشمل أجزاء من فلسطين وغيرها في نظره.

وتمر الأيام والسنوات تترى وتشاء الأقدار أن أعيش بمصر بعيداً عن الحياة العامه، فتهتز نفسي يوماً اهتزازاً قوياً، ذلك لأن الجرائد اليومية تنشر ضمن أخبارها برقيه من فلسطين تنبئ بان جماعات صهيونية زحفت على أرض النقب وأنشأت في بضع ساعات عشر مستعمرات يهودية في أماكن لم تكن مسكونة من قبل.

نعم نقلت العمال والزراع والسكان ومواد البناء والبيوت مفككه وآلات الزرع والأثاث على السيارات في ليله واحدة وأنشأت المستعمرات إنشاءً وأحكمت البناء ولم تقدر السلطات على الوقوف أمام هذه الحركة ولا ردها، ولم يكن هناك سكان لأن أراضي النقب غير عامرة، أما أهل البلاد وأصحابها فكانوا في نوم عميق.

هنا انتبهت وعدت إلى حملة ارناط أطلب الوحي منها. ألم ينقل المراكب والسفن مفككه على الجمال؟ ألم يحط مشروعه بالكتمان ليبرز عنصر المفاجأة والمخاطرة، ألم يكن سريعاً في تصميمه وتنفيذ أغراضه. ولكن جاء رد الملك سريعاً وحاسماً، لم يحجم ويتردد، لم يستشر ولم يترك الوقت يغالبه بل انشأ الأسطول ودفعه إلى البحر، وجاء بالحاجب لؤلؤ وكان مضفراً وشجاعاً ومجداً فاخذ الأمر بالمفاجأة والمخاطرة والأقدام وكتب للمسلمين صفحه من المجد.

فأين عمله من عملنا اليوم ونحن إذا رصفنا بين مصر والعباسة أمضينا الشهور والسنوات وغيرنا يقيم عشر مستعمرات في ليله واحدة؟.

رأس النقب يعمر وخليج العقبة تعود إليه الحياة، إنها لكبيره على النفس لأن صفحه جديده

ص: 14

من العراك والتصادم تبدأ، لو كنا أحياء نشعر بالإعصار القادم علينا.

إذا أردت أن تعرف بالضبط مدى هذه الصيحة، أفتح خريطة لهذه المنطقة تجد حدود أربع دول تتلاقى في بقعه واحدة هي نهاية خليج العقبة، وتبدأ حدود مصر من (طابة) وهي مع فلسطين لا يشاركهما فيها أحد، أي إذا أردت الذهاب لشرق الأردن أو الحجاز أو نجد، يجب أن تمر بالممر الفلسطيني وهو مثل ممر دانتزيج المشهور، وبهذا الممر تتصل فلسطين لأول مره في التاريخ مع المحيط الهندي وأستراليا بدون أن تحتاج لقناة السويس. ماذا يخبئه لنا هذا الاتصال وماذا سيكون من أثر هذا الممر الأرضي؟ أشياء كثيرة سيعرفها الأبناء والأحفاد قبل أن يلمسها الأحياء الآن لاهون بأنفسهم وأطماعهم أما من الناحية الأخرى فهنالك تتلاقى حدود مملكتين هما العربية السعودية وشرق الأردن، وتقع مدينة العقبة في داخل حدود الثانية.

لننظر الآن ماذا يقول القدماء عن العقبة: هي عقبة ايله وهي مدينه بين الفسطاط ومكة على شاطئ البحر تعد في بلاد الشام وهي جليلة بها مجتمع حاج الفسطاط والشام. وورد عن أيله في قاموس الكتاب المقدس أنا فرضه شهيرة في أرض أدوم على الشاطئ الشرقي من الخليج، مر بها بنو إسرائيل وكانت ذات شأن في زمن سليمان والأرجح أن داود تغلب عليها ثم استرجعها أهل أدوم. ونقل المقريزي في خططه أنها (كانت حد مملكة الروم وعلى ميل منها باب معقود لقيصر وكان بها قوة مسلحة يأخذون المكس، وكانت في الإسلام منزلاً لبني أميه وأكثرهم موالي عثمان بن عفان وكانوا سقاة للحج، وكان بها علم كثير وآداب ومتاجر وأسواق عامرة وهي كثيرة النخل)، وقال عن العقبة (لا يصعد أليها من هو راكب، ولذلك أصلحها فائق مولي خمارويه بن أحمد بن طولون ومهد الطرق إليها)، وعرض في خططه الحوادث التي نحن بصددها أي إلى حملة البرنس أرناط بتفصيل أعم مما ذكره في السلوك فقال نقلاً عن القاضي الفاضل:(في سنة 566 أنشأ صلاح الدين مراكب مفصله وحملها على الجمال وسار بها من القاهرة في عسكر كبير لمحاربة (أيله) وكان الإفرنج قد ملكوها وامتنعوا بها فنازلها في ربيع الأول وأقام المراكب وأصلحها وطرحها في البحر وشحنها بالمقاتلة والأسلحة وضيق عليها الحصار في البحر حتى فتحها ثم أسكن فيها جماعه من ثقاته وقواهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره وعاد إلى القاهرة)

ص: 15

وعن القاضي الفاضل أيضاً (في سنة 577 وصل كتاب من نائب القلعة أن المراكب على تحفظ وخوف شديد من الإفرنج إذ وصل البرنس (يقصد ارناط صاحب الكرك) وسير عسكرة إلى ناحية تبوك، وربط جانب الشام لخوفه من عسكر يأتي لمحاربته من مصر) وإنما سقنا كل هذه الإشارات ووضعنا في وسط كلامنا ماسجلته المراجع لكي نثبت للقارئ المتيقظ الذي يهمه أمر مصر والبلاد العربية ومستقبل الأجيال القادمة شيئاً واحداً: هو أن خليج العقبة ورأسه حيث ملتقى الحدود الأربعة كان موقعاً استراتيجياً مهماً جداً يؤثر في عوامل التاريخ وبناء الممالك وفي حفظ الحدود وسوق الجيوش في الجاهلية وفي الإسلام وقد ظهرت خطورته في الحروب الصليبية وكاد أن يكون ضياع هذا الركن حاسماً لولا أن قيض الله للمسلمين الملك القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، الذي عرف في الوقت المناسب أن يسد هذا الخرق ويحفظ هذا الثغر ويقي البلاد من عبث (أرناط) وأخطار رجاله.

ونعلم الآن أن هذا الموقع لم يكن مجمع الحاج من مصر والشام فحسب بل كان أكثر من هذا كان طريق الاتصال الوحيد بين مصر والشام حينما انقطع الطريق المعتاد بينهما بتهديد الصليبيين وأنه لولاه لتعذر على شيركوه وابن أخيه صلاح الدين إنقاذ مصر، ولولاه لتعذر على جند مصر الحصول على شرف القتال بمعارك فلسطين والشام. وإذا قلت أن طريق البحر كان مفتوحاً بين مصر والحجاز فلدينا وصف شامل عن رحلة ابن جبير الأندلسي من القاهرة لجدة ومالقيه من المتاعب في طريق البر والصحراء وطريق البحر من عيذاب وما تعرض من أخطار. فنحن أمام موقع هام من مواقع التاريخ يستدعى أن تتلاقى الحدود بشكل يسمح باجتماعها في نقطه واحدة. وتنحدر من الماضي إلى العصر الحاضر وأهم مظاهر الدنيا هي الحروب، فقد ذكرت المؤلفات الرسمية التي نشرتها وزارة الحربية البريطانية عن تاريخ الحرب العظمى الأولى طبعة 1928 ما يأتي (لقد أصبح من المحتم بعد نشوب معركتي غزه الأولى والثانية مارس وأبريل سنة 1917، احتلال العقبة، وقد تم ذلك بواسطة لورنس في يوليو 1917، وباحتلالها مهد الأسطول في جعلها قاعدة حربيه ومركزا عسكرياً ممتازاً ساعد كثيراً في تهيئة وأعداد العمليات الحربية التي سندت ميمنة جيش اللنيي في قتاله مع الأتراك) ولبيان ذلك نرجع إلى ما كتبه حاكم القدس

ص: 16

السابق (سنورس) فقد قرر (أن فترة الجمود التي سادت الجزيرة قد انتهت باحتلال العقبة التي أخذت مكان رابغ والوجه، وجاءت الحرب العظمى الثانية فإذا بخليج العقبة من أحسن الأماكن أماناً لتفريغ العتاد الأمريكي والمؤن والذخائر لبعده عن غارات الطائرات، وكان أن أنشأت السلطات العسكرية البريطانية خطاً حديدياً إضافياً يبدأ من مدينة معان وهي على الخط الحديدي الحجازي ويتجه إلى الجنوب مشرقاً حتى ينتهي إلى رأس النقب. ومن هناك نظراً للانحدار الشديد تعذر أن يصل القطار إلى البحر فاكتفى بإنشاء طريق معبد للسيارات أنتهى إلى ثغر العقبة

هذه كلمه أولى عن المنطقة الواقعة على رأس خليج العقبة وهي في الوقت نفسه رأس النقب إذا أطلقنا هذا الاسم على الشكل المخروطي الذي يبدأ عريضاً من الشمال ويتقارب كلما انحدر جنوباً وهو الجزء من فلسطين الواقع بين حدود مصر وحدود شرق الأردن والذي صمم الصهيونيون على استعماره واستغلاله للوصول إلى البحر الأحمر، وهم يتحدون بعملهم التاريخ والطبيعة والأقطار العربية. فما الذي أعددناه لمواجهة هذا النشاط الإنشائي؟

تبدو لي دائماً الحركة الصهيونية لأنها تحاول أن تأخذ شكلاً توسعياً جارفاً، ولكني مع هذا ألمس أنها تسير وئيداً بخطوات منظمة ومتصلة وهي حركة خطيرة لأنها لا تحمل طابع الغرور والإدعاء ولا تعتمد على الغراء والزخرفة والتشويق وإنما على الوسع والطاقة والعلم والتنظيم، وتمر الأيام فإذا بخبر من رأس خليج العقبة ينبئ بان أول منظمة يهودية لصيد الأسماك قد ظهرت على شاطئ البحر الأحمر وستكون بعد هذه الخطوة خطوات. فماذا أعددنا للعمل في هذه الناحية؟ وهل المياه الإقليمية لمصر والمملكة السعودية محروسة؟ وما هي القوه التي تحرسها في خليج العقبة في الوقت الذي تمر به أكبر الحوادث في مستقبل العالم العربي؟ لا أعرف شيئاً عن اجتماعات العرب واتجاهات الجامعة فأنا بعيد عن الحاضر أعيش في التاريخ، ولذلك انقل من كتاب بعث به السلطان صلاح الدين إلى أخيه من الأسرى الذين أتى بهم لؤلؤ إذ قال (هؤلاء الاسارى قد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها، وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها، ولو جرى في ذلك سبب والعياذ بالله لضاقت الأعذار إلى الله والخلق وانطلقت الألسن بالمذمة في الغرب والشرق)

ص: 17

وتقدم الشعراء بمدح الحاجب لؤلؤ فمن ذلك قول أبي الحسن ابن الدروي.

مرّ يوم من الزمان عجيب

كاد يبدي فيه السرور الجماد

إذ أتى الحاجب الأجل بأسرى

قرنتّهم في طيهّا الأصفاد

بِجِمالِ كأنهن جبالٌ

وعلوج كأنهم أطواد

قلت بعد التكبير لما تبدّي

هكذا هكذا يكون الجهاد

حبذا لؤلؤ يصيد الأعادي

وسواه من اللآلى يصاد

وهو شعر كما ترى يتفق مع حالنا اليوم في البيت الأخير.

أحمد رمزي

ص: 18

‌ليس هذا هو الطريق يامسيو ديهامل!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

فرنسا تحس وتعلم غاية العلم أنها فقدت كثيراً مما كان لها في العالم العربي من أمكنة ومكانات، وضيعت كثيراً من هيبتها وسمعتها لدى العرب، وأن الثقة القديمة بالروح الفرنسي والثقافة الفرنسية أصابها كثير من الزلزلة والشك والهزال بعد تلك الصدمات التي طوحت بفرنسا وسحقتها في معترك الأقوياء الذين أحاطوا بها من الشرق والغرب، وبعد تلك المواقف غير المشرفة التي وقفتها في سوريا ولبنان ولا تزال تقفها في المغرب العربي الواقع تحت حكمها القاسي الجامد المتغافل عن تيارات الحريات التي تحيط بالناس وتفتح أعينهم على عالم جديد وتكتسح العوائق والسدود.

فرنسا تعلم ذلك وتقدر ماله من نتائج على مستقبلها بل على حاضرها وتريد أن تتخذ الحيطة للاحتفاظ بما بقى لها من تلك السمعة المتداعية ولإنمائها إذا أمكن ذلك حتى تعود إلى المكانة السامية التي لم تكن تدانيها فيها حتى إنجلترا ذات السيطرة الرسمية وذات العلاقات الوطيدة في كثير من البلاد العربية. . لكن فرنسا من سوء حظها تخطئ في التماس الوسائل إلى إعادة سمعتها ومكانتها وتصطنع تلك الأساليب السطحية التي أصبحت لا تتصل بصميم ضمير الشعب العربي ووعيه ولا ترضى طبيعته التي شبت عن الطوق ولم تعد تنطلي عليها تلك الدعايات التي تتصل بالترف الذهني والعلاقات الكمالية وإرضاء بعض الطبقات الموشكة على الانقراض في الحياة المصرية، طبقات الصالونات والأندية التي تعيش بمعزل عن غمار الحياة اليومية المصرية والقومية العربية.

فإذا كانت فرنسا تريد أن تسلك السبيل القريبة إلى صداقة القومية العربية الناهضة التي أصبحت حقيقة سياسية ملموسة يحسب لها حساب في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد، والى صداقة المصريين الحقيقيين بنوع خاص فعليها أن تلتمس لذلك وسائله العملية وتترك أمر الدعايات الكلامية والسفارات الأدبية التي تجند لها بعض مفكريها وأُدبائها كمسيو جورج ديهامل الكاتب الشهير وتحملهم مشقة السفر وعناء الرحلة والحديث المكرر المملول عن فرنسا وخدماتها للثقافة ثم لا يكون من وراء ذلك طائل كبير ولا تبقى آثاره إلا ريثما ينقضي الحفل وتنفض سوامر الصالونات ولا يرسب من ذلك شئ في أعماق المجتمع

ص: 19

المصري يصح أن يكون ذخيرة أو خميره لبناء صداقه عربيه فرنسيه تخدم الحضارة وتكون عاملاً من عوامل الاستقرار والتفاهم والتوازن في البحر الأبيض المتوسط الذي يحتل العرب الجزء الأكبر منه. فعلى فرنسا إن كانت تريد عملاً لا كلاماً أمور هامة نرشدها إليها لأننا أعرف من فرنسا بما يفتح قلوبنا لها:

عليها أن تتغير أولا نظرتها (الصليبية) بالنسبة للعرب والمسلمين التي حملتها على احتقار المغاربة والعرب عموماً والتنكيل بهم، وأن تتحرر من ذلك التوجيه الحاقد الذي يستمد حقده من تلك الظلال والأشباح السوداء التي كان يثيرها المثيرون المتعصبون في القرون الوسطى على العرب ويجعلونهم أمام الجماهير حلفاء الشيطان ويتخذونهم وسيله لأثارة ذلك الشعور الذي كان يسمى (الحقد المقدس)!

ولتعلم فرنسا وخصوصاً مفكريها الذين تجندهم للدعايه، أن نظر العالم لم يعد يطيق ذلك اللون السخيف الذي يبدو في محاولات المستعمرين الفرنسيين في شمال أفريقية لفتنة البربر والعرب المسلمين عن دينهم، وضرب الحصار على أبنائهم ليحال بينهم وبين التعرف على قوميتهم ولغتهم إلى صحبتهم منذ فجر التاريخ.

إن هذا منكر غليظ ورجعيه عمياء لا تريد أن ترى طبائع الأشياء وتحاول فصل ما ربطته مشيئة الله التي نوعت الناس أجناساً ولغات لأمر عظيم على جانب من الخطر في عالم الفكر وعالم العمل!

وعلى فرنسا أن ترفع يدها عن ضرب ذلك السور الحديدي حول تونس والجزائر ومراكش، ذلك السور الذي لا يسمح لداخل غريب أن يدخل ولا لخارج أن يخرج ولا يسمح لعيون الناس أن يروا آثار حكمها السعيد! في حياة هؤلاء الأرقاء التعساء الذين ابتلوا بأن يعيشوا في أوطانهم كأنها سجون، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود؛ فإن هذا أعجوبة الأعاجيب في القرن العشرين، حتى ولو كانت هذه البلاد مستقلة استقلالا تاماً ومحكومة ذلك الحكم بأيدي فريق من أبنائها لكان ذلك النوع من ضرب الحصار الحديدي عليها أسلوباً عجيباً في هذا العصر!

وعلى فرنسا أن تقلع عن سياسة الإفقار والتجهيل التي تفرض بها البؤس والجهل على سكان هذه البلاد وتعزلهم بذلك عن حياة العالم وتفنيهم الفناء الأكبر بحرمانهم من وسائل

ص: 20

العلم العصري الذي يجعلهم أبناء حقيقيين لزمانهم يساهمون في خدمة المعارف الإنسانية وفي إمداد شعلة الحضارة ومد نورها على ديارهم وهم من أذكى الناس وأشدهم جلداً على التعلم والعمل. وإذا نسى التاريخ مخازي الأمم فلن ينسى لفرنسا أنها تتخذ سياسة تجهيل المغاربة عمداً وترسم لذلك الخطط وتستفتي مفكريها ليهدوا فريقاً من الناس إلى طريق الجهالة العمياء، ويصرفوهم عن طريق المعرفة البيضاء! إن هذا أكبر عار يلحق بفرنسا، وإنه لأكبر (ارتداد) عن رسالة العلم، وإنه لجدير أن يخزي وجهها يوم يستعرض عملها أمام هيئة الأمم المتحدة وينشر عل رءوس الأشهاد في يوم آت قريب.

وإنني لا أذكر لفرنسا هذا الموقف المخزي إلا أشعر سخط الإنسانية كلها لا القومية العربية وحدها يثير في دمي القشعريرة والاشمئزاز! وعلى فرنسا أن تسير مع الزمن في علاقاتها السياسية بشمال أفريقية وأن يتطور غيرها في ارتباطاتها بالشعوب العربية التي بينها وبينها مصالح، وأن تعلم أن الفجر الدولي قد سطع على العالم وكشف أوكار الرجعية والاستبداد ولن يخفى على العيون ما تفعله فرنسا في أفريقية مهما خيل إليها أنها ستصل إلى غاياتها الظالمة في غفلة عن الرقباء، وأن تقلع عن خرافة سلخ أي جزء من المغرب ومن جسم العروبة لضمه إليها فإن ذلك لن يكون لها يوماً ما، لأنه ينافي طبيعة التكوين وحقائق السياسة العالمية الراهنة فيما مسيو ديهامل! إن كان عليك لوطنك واجب فعليك للإنسانية مثله والمفكر المخلص إنسان تملكه الإنسانية كما تملكه وثنية الوطن.

فإن كنت تريد أن تعيد مجد فرنسا لامعاً واسمها عالياً كما كان فسخر قلمك للدفاع عن الحقائق الإنسانية العليا الأبدية التي تحتل الحرية فيها مكان الصدارة واجعل فرنسا أم الحرية في زعمكم لا تنكس لواء الحرية ولا تمرغه في الوحل والدم في الجزائر ومراكش وتونس.

وإذا كانت فرنسا في حياتك - كما حاضرت المصريين - فاجعل حياتك هذه صوره مما ينشد فكرك الحر وأدبك الحار وقلبك العامر لا كما ينشد الفرنسيون الرجعيون الحاقدون والسماسرة والدجالون والجاهلون اللاعبون بالشعوب الذين لا يدركون سير الحياة بالأحياء ولا يعرفون منطق هذا العصر الذي يعيشون فيه بثياب المتحضرين وجلود الآدميين بينما قلوبهم هي قلوب القردة ووحوش الغاب. .

ص: 21

وإنها لرسالة لك في فرنسا إذا أردت: أن تعود إليها رسول آلامنا من اجل بني قومنا المثخنين بجراح بني قومك! وقد أرسلتك إلينا (السياسة) التي لا قلب لها لشأن من شئونها الخادعة، فارفض أيها الكاتب ان تخدع. وعد إليها رسول الآلام الإنسانية التي عانت فرنسا مرارتها وحرارتها فترات مظلمة من الزمان البعيد قبل الثورة التي حولت مرارتها حلاوة وحرارتها نداوه، وفترة مظلمة من الزمان القريب الذي لا يزال وقع الحذاء الألماني فيه على أرض فرنسا يصخُّ آذان أحرارها!

يا مسيو ديهامل! أيها الأديب الكبير إننا هنا في الشرق ندعو أن يثور المفكرون عل الواقع السيئ الذي يسيطر عليه العوام وان تحرر الرءوس من سلطان الأقدام، والجامعات من منطق الشوارع. . لأننا نرى في هذه المدينة الحالية مدنيه الحرية والعلم نبوه شيوعية من لم يؤمن بها فقد صبأ عن الإنسانية، ومن سخرها بغير أهلية لها فقد الحد فيها، مع أننا لا نزال في دور فتح العيون على فجرها ولم نأخذ منها ما أخذتم معشر الغربيين، وليست منسوبة إلينا، بل تنسبونها أنتم إليكم. فلماذا لا تدافعون عن سمعتها وعن حقائقها دفاع أنبياء إسرائيل الشرقيين القدماء عن حقائق الأيمان والنبوات الأولى؟ لماذا لا تذوقونها بأرواحكم وقلوبكم بدل ذواقها بجيوبكم وخزائنكم؟! لماذا تجعلون رسلها إلى بلاد المتخلفين هم من السماسرة والمتغطرسين والحاقدين والمتعالين؟

إن اللوم في ذلك واقع على أرباب الفكر الذين يرون هذا ولا ينكرونه، ويرضون لأقلامهم وألسنتهم أن تسخر وراء القطيع الذي لم يدرك أمانة الفكر وحراسة شعلة الحضارة في الروح قبل الجسد.

وما أظنك ترضى لو علمت أن أربعين ألفاً من العرب الجزائريين قتلوا في (سطيف) بالجزائر، لأنهم طالبوا بحريتهم في أيام الاحتفالات بعيد النصر سنة 1945؟

إن صراخ دم هؤلاء الضحايا يجب ان يؤرق نومك ويمد قلمك بمداد من نار لتثأر من قتلة هؤلاء الأحرار الذين طالبو بالحرية التي يمجدها قلمك وأقلام أخواتك وإلا كنت غير مخلص لرسالة الفكر

وما أظنك أن يعيش خمسة وعشرون مليوناً من النفوس محرومين من عصارة فكرك وفكر أمثالك ومعارف الدنيا لأجل أن يكونوا سوائم بلهاء تحرث أرضها وتحلب ضرعها لتستولي

ص: 22

عليها عصابات المستعمرين الرأسماليين في فرنسا؟

واعذرنا إذا كنا نتهكم ونسخر مما تقول ويقول أمثالك عن فرنسا وروحها الحر وميراث ثقافتها، ما دمنا نرى أن هذه كلها بضاعة تستهلك في فرنسا ولا تصدر إلى الخارج. .

هذه كلمات صادقه أردت أن تخلص إليك من بين مجاملات الصالونات، وأنا اعلم أن واجب مثلك ان يحرص على سماع الصدق الصريح.

عبد المنعم خلاف

ص: 23

‌الأدب في سير أعلامه:

4 -

تولستوي. . .!

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

غلام نابه

كان كلما اقترب ليو من أخوته سمعهم يتحدثون عن موسكو وعن الرحيل إلى موسكو فيرفع بصره إلى وجوههم يتبين هل ثمة فيها شيء من الهم لقرب هذا الرحيل؛ فإن الهم ما يبرح يهجس في خاطره منذ ان علم بقرب انتقالهم إلى موسكو؛ ولكن الغلام لا يجد في وجوههم أية أماره لذلك الذي يعتلج في نفسه من الحزن كلما تطرق الحديث إلى موسكو أو كلما وقع بصره على ما يلمح إلى الرحيل أو يشير إليه، ومن ذلك تلك السراويل الجديدة ذات الأشرطة الزاهية يقلبها أخوته بين أيديهم فرحين؛ وإنه ليشاركهم فرحهم بها وما ينقم منها إلا إنها سوف لبس في موسكو؛ فعما قريب يرحل مع أخوته ليتعلموا في تلك المدينة الكبيرة؛ وإنه ليعجب كيف يطيقوا الرحيل عن يا سنايا بوليانا فيتحدثون عن ذلك الرحيل ضاحكين مستبشرين ويقع الحديث من نفسه موقعاً أليماً.

وهل كان يطيق البعد عن ذلك القصر وعن تلك المدينة وعن هاتيك الغابات التي أحبها وألف المرح في أرجائها؟ وهل كان يطيق البعد عن العمة تاتيانا وهو لا يجد له أُماً غيرها؟ ومن ذا يكون مربيه في موسكو مكان تيودور رويسل؟ وهل هو واجد في موسكو ما يجده هنا من مسرات الحياة ولهوها؟ أيطيق ألا يرى الخدم الذين احبهم وأحبوه والخيل وكلاب الصيد التي أولع بها وأحب ان يراها كل يوم؟ ولكن ما من الرحيل بد فليس له إلا أن يصبر عليه. . . بهذا كان يتحدث الغلام إلى نفسه أو بهذا كانت تحدثه نفسه.

وحان يوم الرحيل؛ ومسح الغلام عينيه وقد انطلقت به وباخوته العربة إلى موسكو فما يجدر به أن يبكي وهو ابن ثمان، وهؤلاء اخوته حوله لا يبكون بل ليكترثون لشيء كأنما هم ذاهبون كما كانوا يذهبون بالأمس إلى الصيد في الغابة!

ونظر الغلام في موسكو إلى مربيه الفرنسي الجديد سنت توماس فإذا هو تلقاء رجل لا

ص: 24

يحس في وجهه ما كان يحس في وجه تيودور رويسل من عطف ومحبه وإخلاص، وما لبث أن وجده يعنف عليه كأشد ما يكون العنف، فيحبسه في حجرته ويتهدده بالعصا، الأمر الذي أغضبه أشد الغضب وكره إليه الغلظة والعنف ونفره من العقوبة البدنية ومن صور القسوة جميعاً طيلة حياته؛ كتب بعد ذلك في مذكراته يشير إلى هذا الحادث فقال (حبسني سنت توماس أولا في حجره ثم جاء يتهددني بالضرب بعصاه، ولست اذكر الذنب ولكنه كان أمراً لا يستحق العقاب البتة؛ وعندئذ ذقت شعوراً مخيفاً هو مزيج من الغضب والاحتقار والاشمئزاز، ولم يكن ذلك نحو سنت توماس فحسب، ولكن نحو القسوة التي يتهددني بها كذلك).

وأكبر الظن أن مربيه ما فعل هذا إلا لإهماله وانصرافه عن الدرس، وعناده إذا دعاه إلى العمل؛ ولم يتجن عليه سنت توماس فهذا أحد لداته قد تحدث عنه وعن أخوته فقال:(يرغب نيقولا في التعلم ويقدر عليه، ويقدر سيرجي على العلم ولكنه لايميل إليه، ويميل ديمتري ولكنه لا يقدر، أما ليو فإنه لا يقدر) ولكن مربيه على الرغم من ذلك موقن من ذكائه ومن موهبة فيه عبر عنها بقوله (إن لهذا الغلام رأساً. . . إنه موليير صغير).

وماذا كان في رأسه يومئذ حتى يسميه مربيه هذا الاسم؟ لعل مرد ذلك إلى نفاذ عينيه إلى ما تقعان عليه، ونفاذ بصيرته إلى أفعال أخوته ولداته من التلاميذ وتفطنه إلى خصائص كل منهم، فالغلام على حداثته يقظ مرهف الحس، دقيق الملاحظة للناس وللأشياء جميعاً.

وهو وإن لم يتجاوز الثامنة بعد، تطوف بقلبه الغض عاطفة الحب، ولم يكن هذا الحب الجديد كذلك الذي يحسة نحو العمة تاتيانا أو نحو غيرها ممن أولوه مودتهم وعطفهم من أفراد الأسرة ومن الخدم، وإنما كان حباً كذلك الحب الذي قلما خلا منه قلب فتى أو فتاه في ربيع العمر؛ ويميل بعض علماء النفس إلى عد هذه العاطفة في مثل هذه السن الباكرة دليلاً على الموهبة الفنية، ولذلك يرجى لصاحبها أن يكون في غده من الأفذاذ. . .

أحب ليو تلك البنت الصغيرة التي عاشت بين أفراد الأسرة في كنف عميدها الكونت وكانت تسمى اسْلنيف، وأحب في موسكو غلاماً صغيراً من أبناء عمومته منالبوشكين، وقد بلغ من حبه إياه أنه كان ينعقد لسانه إذا وجد نفسه تلقاءه من فرط إحساسه بعاطفته؛ وكذلك أحب بنتاً لا تكبره في العمر جميلة زرقاء العينين تدعى سونشكا، وكان يشعر بين

ص: 25

يديها بفيض من السرور والمودة والرفق، فإذا غابت فإن ذكر أسمها كان يملأ مقلتيه بدموع الفرح من فرط نشوته، وكانت عاطفته نحوها عميقة بالغة العمق صادقه خالصة الصدق بريئة من كل شائبة أو غرض، حتى لقد أتخذها في مستقبل أيامه مقياساً يرجع إليه إذا شاء أن يقارن بين حالات شعوره. . .

أما اسْلنيف فكان يغار عليها كأشد ما تكون الغيره، لايطيق أن تحدث شخصاً غيره كبيراً كان أو صغيراً أو تتجه حتى بنظره إليه، وكان يعسف عليها ويعصف في وجهها إذا وجد منها ما يظنه ميلاً إلى غيره حتى إنه دفعها مره من شرفه حيث كانا يلعبان وقد بلغت بها الجرأة أن كلمت غلاماً أمامه فسقطت ولحق بها العرج من جراء ذلك بضع سنين، وبعد قرابة ربع قرن من هذا الحادث شاءت الأقدار أن يتزوج ليو من ابنة هذه التي غدت سيده أنجبت بنات وبنين، وأصبحت أم زوجته فقالت ضاحكه تذكره بذلك الحادث (أكبر الظن أنك دفعتني من الشرفة إبان طفولتي لكي تتزوج بابنتي فيما بعد).

وذاق الغلام في موسكو لوعة الحزن كما ذاق فرحة الحب، فقد مات أبوه وكان في طريقه إلى مدينة تولا في صيف سنة 1837 وسقط في الطريق جسماً لا حراك به، فمن قائل انه مات بنوبة من نوبات القلب، وآخرون يهمسون أن السم أودى به على يد فلاح ممن ملكت يداه؛ ويتسلط على رأس الغلام خيال عجيب فهو يحس أن أباه حي لم يمت ولا يستطيع أن يتصور أنه مات حقاً على الرغم من أن أخاه نيقولا قد شهد دفنه في ياسنايا بوليانا؛ وإنه لينقل بصره بين وجوه المارة في شوارع موسكو يتوقع ان تقع عيناه على أبيه، وظل هذا الخيال بضعة اشهر متسلطاً عليه.

ويتفكر الغلام مره ثانيه في الموت والحياه، فقد تفكر في ذلك حين أدرك أن عمته تاتيانا ليست أمه وعلم من نيقولا بموت أمه؛ ولقد أحس يومئذ أن الموت شئ كريه مخيف، ولكنه لم يدرك كنهه، وهو كذلك يحس اليوم مثلما أحس بالأمس، وإن كان يصحب تفكيره هذه المرة شئ من التفكير والدهشة، وسيظل هذا شأنه كلما نظر في الموت حتى يجاوز الثمانين من عمره فيطويه ذلك الشيء الكريه المخيف وهو لم يعد من طول النظر في أمره بشيء.

ولم تكد تمضي تسعة أشهر على وفاة أبيه حتى ماتت جدته محزونة على ابنها؛ وجاء المربى يحمل النبأ إلى الصبية وهم يلعبون، فأنقلب فرحهم وزياطهم إلى وجوماً وسكوناً،

ص: 26

وأرهف ليو أذنيه ودار بعينيه يسمع ويرى، فكم كره مرآى الحانوطية على مقربه من البيت في ملابسهم السوداء، وكم بث في نفسه الخوف رؤية التابوت بين أيديهم ووجوههم كئيبة عابسة من أثر ما يتكلفونه من الحزن؛ على أنه يطيب نفساً بما يشاهد من مظاهر العطف عليه وعلى أخوته وبما يسمع من عبارات الرثاء لهم والإشفاق عليهم وإن كان ذلك يزيد إحساسه باليتم؛ ولقد تندت عيناه ذات مره متأثرة بكلمة عطف سمعها من سيده إذ قالت لجارتها (إنهم اليوم أيتام كل اليتم فقد مات أبوهم منذ قليل، وهاهي ذي جدتهم كذلك يأخذها الموت).

وينظر الصبي إلى حلته السوداء المخططة الحوافي بخيوط بيضاء وهو يرتديها حداداً على فقد جدته وقد صنعت لهذا الغرض خاصة ويعجبه منظره في هذه الحلة فينسى بعض ما يمسه من حزن.

وللغلام في هذه السن الباكرة اشتغال بما يعد الاشتغال به من أعجب الأمور ممن كانوا في مثل سنه، وذلك هو نظره في الدين ومسائله، ولندع تولستوي نفسه يتحدث عن ذلك قال في مستهل كتابه (اعترافاتي) إني اذكر كيف زارنا ذات يوم من أيام الآحاد فيفي الحادية عشره من عمري غلام يدعى فالرمير موليتين كان في إحدى المدارس الابتدائية وراح يقص علينا ما سماه أحدث الطرائف من الأنباء ألا وهو كشف اتفق وقوعه في مدرسته، ومؤدى ذلك الكشف إنه ليس لهذا العالم إله، وأن كل ما قلناه عنه إن هو إلا محض اختراع. وإني لأذكر مبلغ ما داخل اخوتي

من سرور عند سماع ذلك، لقد دعوني إلى مجلسهم واذكر أننا جميعا شعرنا شعور النشوة لهذه الانباء، وتلقيناها كأمر سار ممتع ممكن الحدوث كل الإمكان).

وعرف الغلام منذ حداثته بقوته البدنية وحيوتيه المتوثبه، تبين ذلك من حادثة تقصها أخته ومؤداها أن أخاها انزل من إحدى العربات ذات مرة وقد توقفت عن السير لأمر ما فظل ماشيا حتى أوشكت العربة أن تدركه فاخذ يعدو عدوا سريعا كيلا تدركه واخوته في العربة يعجبون من سرعة عدوه وطول نفسه؛ ولم ينقطع نفسه إلا بعد ميلين فصعد إلى العربة وهو يلهث ولكنه يحاول أن يخفي تعبه؛ ولسوف تلازمه هذه القوة البدنية وهذه الحيوية على الرغم مما ينتابه أحيانا من أسقام وآلام حتى يطويه الموت بعد أن يجاوز الثمانين.

ص: 27

وكان ليو منذ صغره مولعا بركوب الخيل، وقد تعلم الركوب في سن مبكرة على الرغم من معارضة أمه إياه في لك؛ وقد رأى أخويه اللذين يكبرانه يمتطيان جواديهما ذات يوم فما زال يلح حتى سمح له بأن يمتطي جوادا كما فعلا فإذا به بعد خطوات فوق عرفه يطوق عنقه بساقيه ويسمك بجبهته، فلما أعيد إلى حيث كان لم يبد عليه شئ من الخوف وصمم على أن يطلق العنان لجواده وانطلق به يعدو وهو ثابت فوق صهوته ومن ذلك الوقتاصبح يجيد الركوب.

وفكر الغلام ذات يوم في أمر: لم لا يطير كما تفعل الطير؟ لم لا يضع ذلك موضع التجربة؟ إنه يرى أنه مستطيع بحركة ما أن يثب طائرا فيسبح في الجو كما تسبح الطير؛ وإن في نفسه منذ صغره لميلا إلى أن يضع ما يهجس في خاطره موضع الاختبار، ولسوف يكبر معه هذا الميل فيظهر في مواطن كثيرة؛ ويشد الغلام بيديه حول ركبتيه ثم يثب من نافذة يريد أن يطير ولكنه يصحو بعد ثمان عشرة ساعة قضاها في سبات عميق فيفتح عينيه دهشا متحيرا يحاول أن يذكر ماذا كان من أمر طيرانه فيذكره ما يحس من ألم من مفاصله وأضلاعه.

ولم يقتصر شذوذه على هذا الحادث، واكثر ما كان من شذوذه ما كان يتصل باهتمامه بهيئته، ومن ذلك أنه حلق شعره ذات مرة بالموسى لعل في ذلك إصلاحاً لشكله ثم عاد فأطلق شعره حتى استطال، وعمد إلى المشط فجعل به ذلك الشعر في موضع خاص لعل في ذلك أيضاً ما يكسبه وجاهة وليظهره في هيئة المهموم المفكر على نحو ما يظهر بيرون. وعمد مرة أخرى إلى حاجبيه 17. 28 فانتزع شعرهما بملقط كي يشتد بعد ذلك نماؤه فيكسب ملامحه مظهرا عاطفيا شعريا، ولكنه لم يرجع من وراء هذا كله بطائل الأمر الذي نغص عنده العيش.

ولقد جاء في كتابه (عهد الطفولة) قوله (كنت اعلم حق العلم أني لم أك حسن المنظر، ولذلك كانت كل إشارة إلى هيئتي تسيء إلى إساءة مؤلمة، ولقد مرت بي لحظات تملكني فيها اليأس وخيل إلى أنه لا يمكن أن تتهيأ السعادة على هذه الأرض لمن كان له انف كانفي العريض وشفتان كشفتي الغليظتين وعينين كعيني الصغيرتين الشهباوين، وسألت الله أن يحدث معجزة فيجعلني وجيها فأني لأجود بكل ما هو لدي وبكل ما عسى أن اظفر به

ص: 28

في المستقبل في سبيل وجه حسن).

وفي صيف 1839 شاهد الغلام في موسكو مشهدا استقر في نفسه فلم يبرحها حتى ظهر أثره في أحد أوصافه فيما بعد في قصته الكبرى (الحرب والسلم) إذ وصف موكبا من مواكب الاسكندر الأول على لسان روستوف أحد شخصيات تلك القصة، أما المشهد الذي رآه الغلام وجعله مثاله فيما كتب من وصف فهو موكب نيقولا الأول يوم زار موسكو ليضع الحجر الأول في بناء كنيسة أقيمت لتخليد ذكرى تحرير روسيا من غزو نابليون.

ولم يطل بالغلام المقام في موسكو فقد أعيد مع أخيه الصغير إلى يا سنايا بوليانا ليكونا في رعاية العمة تاتينا، وبقي الأخوان الكبيران في موسكو ترعاهما الكونتس اوستن سيكن عمتهما على الحقيقة؛ وكانت الكونتس اوستن أو عمتهما ألين امرأة تقية صالحة لله في السر والعلن وتنفق مالها في سبيل الله فلا ترد فقيرا ولا تتكره لذي حاجة، وكانت بالخدم رحيمة عطوفا تكره أن توقظهن إذا آوين إلي مضاجعهن فتعمل عملهن فينا تريد لنفسها من حاجة؛ وكان أثرها عميقا في نفس الغلام فكان يشعر نحوها من الإجلال والإكبار بقدر ما كان يشعر نحو عمته تاتيانا من المحبة، ولئن علمته العمة تاتيانا كيف تكون بهجة النفس في الحب فقد أوحت إليه ألين كيف تسمو النفس وكيف تطيب بالدين

ولكن هذه العمة قضت نحبها في خريف عام 1841 فصارت الوصاية على الاخوة جميعا لعمة أخرى هي السيدة يوشكوف زوجة أحد ذوي الثراء من الملاك في قازان، وثم فقد نقل الصبية جميعا إلى قازان فأقاموا هناك حتى ربيع 1847؛ على أنهم كانوا يقضون إجازاتهم الصيفية في ضيعتهم المحبوبة بناحية ياسنايا بوليانا.

(يتبع)

الخفيف

ص: 29

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

868 -

العلم غني بلا مال

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن قيم الجوزية:

قال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أحمد بن أبي عمران، فمر بنا رجل من بني الدنيا، فنظرت إليه وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكرت فيما أعطى هذا الرجل من الدنيا.

قلت له: نعم.

قال: هل أدلك على خلة، هل لك أن يحول الله إليك ما عنده من المال، ويحول إليه ما عندك من العلم فتعيش أنت غنيا جاهلا، ويعيش هو عالما فقيرا.

فقلت: ما أختار أن يحول الله ما عندي من العلم إلى ما عنده، فالعلم غني بلا مال، وعز بلا عشيرة، وسلطان بلا رجال.

يقول الفقير إلى الله تعالى والغني عن الناس محمد إسعاف النشاشيبي:

يأمل آملون أن لن يكون بعد حين مترف مسرف يزهي، ولا بائس فاضل يشكو.

(وقالوا قسمة نزلت بعدل

فقلنا ليته جور مشاع)

فقد تتبدل أحوال، وتؤول أمور خير مآل، ويصدق قول من قال:

(دوام حال من قضايا المحال

واللطف مرجو على كل حال)

وبالدساتير المسنونة - يا أخا العرب - يقف واقفون، ويمشي القهقري أو اليقدمية ماشون. إنها الشرائع إنها الدساتير تشقى الأنام وتسعد، فارجون ولا تيأس من روح الله وعدله وتقدم هذا الإنسان (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) وفي (الكتاب):(لكل أجل كتاب).

قال جار الله في (الكشاف) عند تفسير هذا القول الكريم العظيم:

(الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب على العباد أي يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم).

وقال في موضع آخر من كشافه:

ص: 30

(الله (تعالى) ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة. والله (تعالى) عالم بالمصالح والمفاسد فيثبت ما يشاء، وينسخ ما يشاء بحكمته).

869 -

أثر البيئة

الحيوان للجاحظ:. . . لا ننكر أن يفسد الهواء في ناحية من النواحي فيفسد ماؤهم، وتفسد تربتهم، فيعمل ذلك في طباعهم على الأيام. . . وقد رأينا العرب وكانوا أعرابا حين نزلوا خراسان كيف انسلخوا من جميع تلك المعاني. وترى طباع بلاد الترك كيف تطبع الإبل والدواب وجميع ماشيتهم من سبع وبهيمة على طبائعهم. وترى جراد البقول والرياحين وديدانها خضراء وتراها في غير الخضرة على غير ذلك. . وقد نرى حرة بني سليم وما اشتملت عليه من إنسان وسبع وبهيمة وطائر وحشرة فنراها كلها سوداء وقد خبرنا من لا يحصى من الناس أنهم قد أدركوا رجالا من نبط بيسان ولهم أذناب إلا تكن كأذناب التماسيح والأسد والبقر والخيل وإلا كأذناب السلاحف والجرذان فقد كان لهم عجوب طوال الأذناب. وربما رأينا الملاح النبطي على وجهه شبه القرد، وربما رأينا الرجل من المغرب فلا نجد بينه وبين المسخ إلا القليل. وقد يجوز أن يصادف ذلك الهواء الفاسد والماء الخبيث والتربة الردية ناسا في صفة هؤلاء المغربيين والأنباط ويكونون جهالاً فلا يرتحلون ضنانة بمساكنهم وأوطانهم ولا ينتقلون، فإذا طال ذلك عليهم زاد في تلك الشعور وفي تلك الأذناب وفي تلك الألوان الشقر وفي تلك الصور المناسبة للقرود.

870 -

ويبيع قرطيها إذا ما أعدما

تتمة اليتيمة: قد أكثر الشعراء في الحث على الاضطراب في الاغتراب لالتماس الرزق وقضاء الوطر من السفر، ومن أشف ما قالوا فيه وأشفاه قول هذا الأعرابي الشامي (أبي شرحبيل الكندي):

سر في بلاد الله والتمس الغنى

ودع الجلوس مع العيال مخيما

لا خير في حر يجالس حرة

ويبيع قرطيها إذا ما أعدما

871 -

ما أقل الروم وأكثر المسلمين!

ص: 31

تاريخ الطبري: شهد اليرموك ألف رجل، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم نحو من مائة من أهل بدر، وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله الله، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم، أنزل نصرك على عبادك. وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إن الجنود تكثر بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال.

872 -

نعم، بلى

نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي البركات الانباري:

يحكى أن أبا بكر بن الانباري حضر مع جماعة من العدول ليشهدوا على إقرار رجل، فقال أحدهم للمشهود عليه:

ألا نشهد عليك؟

قال: نعم.

فشهد عليه الجماعة وامتنع ابن الانباري وقال: إن الرجل منع أن يشهد عليه بقوله: نعم، لأن تقدير جوابه لا تشهدوا علي، لأن حكم أن يرفع الاستفهام، ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى:(ألست بربكم قالوا بلى) لو أنهم قالوا: نعم لكفروا لأن حكم نعم أن يرفع الاستفهام، فلو قالوا: نعم لكان التقدير نعم لست ربنا، وهذا كفر، وإنما دل على إيمانهم قولهم: بلى، لأن معناها يدل على وقع النفي، فكأنهم قالوا: أنت ربنا، لأن أنت بمنزلة التاء التي في لست.

873 -

مخيريق خير يهود

سيرة النبي لعبد الملك بن هشام:

كان مخيريق أحد بني ثعلبة بن الفطيون حبرا عالما، وكان غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجده في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد - وكان يوم أحد يوم السبت - قال يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال لا

ص: 32

سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يقول:(مخيريق خير يهود) وقبض رسول الله أمواله، فعامة صدقات رسول الله بالمدينة منها.

ص: 33

‌صرخة من عيون الشعر في آذان المسلمين:

في حيرة البيد. . .

(بمناسبة المولد النبوي)

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

قد اهتدت بك في البادين صحراء

فرقَّ في صفحتيها الظل والماء

تلك الهواجر في البيداء محرقة

كأنها شعلة بالنار حمراء

لا تستقر على خير ضمائرها

ولا ترف لها بالنور سيماء

سبيلهم كلها بالشوك عاثرة

وأرضهم كلها صخر وحصباء

حار الأدلاء فيها وهي موحشة

فضلَّ رأدَ الضحى فيها الأدلاء

للشرك فيها ترانيم مضللة

وللطواغيت صيحات وأصداء

كأنهن نعيب البوم في وطن

تهدمت فيه أركان وأرجاء

الليل في البيد مرهوب جوانبه

والصبح مثل الدجى ريح وأنواء

في أمة قد أقام الله ألسنها

لكنها عن جلال الحق خرساء

ياعاكفين على الأوثان مظلمة

هل عندكم من جميل الصبح أنباء؟

الركب في البيد قد ضلت مسالكهم

فكلهم فِرَق فيه وأهواء

هم ظامئون إلى ماء وأين لهم

وفي السراب ضلالات وإغواء

هم واردون إلى وهم إذا ظمئوا

وصادرون عن الرمضاء إن فاءوا

جاءوا وراحوا فما قرت رواحلهم

هل ترحم البيد من راحوا ومن جاءوا؟؟

تلك البلاقع من ندَّى حواشيها

فأصبحت وهي للبادين خضراء؟

فيهن للجائع المحروم منتجع

خصب وللظامئ الصديان إرواء

بان الطريق على السارين مؤتلفاً

كأنما ضوأت بالوحي (سيناء)

يا هائمين على الصحراء مغفرة

لا تجزعوا!! إن أرض الوحي صحراء!

تلك المهامه في البيداء قد خضرت

وأخصبت صفحتاها وهي جرداء

من فجر الماء فيها وهي مجدبة

وأنبت الروض فيها وهي صماء؟

ص: 34

ومن طوى الريح منها وهي عاصفة

ونفَّس الصبح فيها وهي ظلماء؟

يا بانيا فوق أصنام مهدمة

لا بدع إنك هدام وبناء

قد كان للهدم والإنشاء معولكم

وإنما المجد تهديم وإنشاء

قر الحيارى على كفيك وانتظموا

وحُررت بك في البيد الأرقاء

وأُغليت قيمة الإنسان في زمن

ما كان فيه لسعر المرء إغلاء

هاجرت لله في أرض منورة

لما جفاك على الأرض الأوداء

وقد يكون من الأدنين من بعدوا

فلا تصح لهم قربى وإدناء

المسلمون حيارى اليوم في زمن

لا تنفع النفس فيه وهي عزلاء

سبيلهم فيه يا مولاي عاثرق

بهم، وخطتهم في الحق عوجاء

فلا تبين لهم في الجو معلمة

ولا تلوح لهم في الأفق أضواء

لهم يد عن بناء المجد عاجزة

وأرجل عن سبيل الحق عرجاء

فهل لهم أسوة فيما نهضت به

وهل لهم في (ابن عبد الله) إيحاء؟؟

ص: 35

‌الأدب والفن في أسبوع

مؤتمراتنا الثقافية

وافقت وزارة الخارجية اللبنانية على ما قررته اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية من عقد مؤتمر ثقافي بلبنان في فصل الصيف المقبل، وهذا هو المؤتمر الثاني من نوعه، فقد سبق أن عقد المؤتمر الأول بدمشق في العام الماضي على ما أذكر.

وكذلك وافقت الحكومة اللبنانية على عقد مؤتمر الصحافة العربية بلبنان في الصيف المقبل على أن تتكفل بنفقات المؤتمر والمؤتمرين.

والذي يعنينا من هذا أن نسجل هذه الظاهرة الطيبة التي تؤدي إلى توثيق التعاون الثقافي بين الأقطار العربية، وإذا ضممنا إلى هذا ما يجري كل عام من عقد مؤتمر عربي للمحامين، وآخر للأطباء ازداد تقديرنا لهذه الظاهرة الطيبة، وتفاءلنا بذلك الشعور العميم الذي هو ثمرة من ثمرات اليقظة الفكرية، ودعامة من دعامات الجامعة العربية. فإن اللغة العربية لا شك أقوى مقومات الجنسية العربية، وهي الأساس لما يتفرع عنها من مقومات الدين والتقاليد والتاريخ والاختلاط بين أبناء العروبة في شتى الأقطار، ونحن إذ نبارك هذه المؤتمرات ونحث على التوسع فيها نرجو أن تكون سريعة الأثر والتأثير، وأن لا تطاول الزمن فيما تهدف إليه من المقاصد والغايات، وأن لا تتناول الأمور على الوضع الذي يجري في اللجان الحكومية، فإننا كما هو معلوم في عصر السرعة الخاطفة، فلا سبيل إلى السير إلا بالقفز والتوثب، والجرأة والإقدام. .

في ذكرى الأفغاني

منذ شهرين أهبنا بأبناء الشرق العربي ورجال الجامعة العربية أن ينهضوا للاحتفال بذكرى باعث الشرق المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني بمناسبة مرور خمسين عاما على وفاته، وقلنا إن أقل ما يجب في هذا الشأن أن يحتشد أبناء الشرق العربي في إقامة مهرجان لذلك الرجل يستمر أسبوعا على أن تتولى رعاية هذا المهرجان الجامعة العربية وتشارك فيه سائر الجمعيات العلمية والهيئات الثقافية. قلنا هذا منذ شهرين ولم يبق على يوم الذكرى إلا أيام، وكل ما تحركت له الهمم أن تألفت لجنة من حضرات السادة: محمد علي علوبة باشا والدكتور عبد الوهاب عزام بك والشيخ محمود شلتوت ومحمد صلاح

ص: 36

الدين بك وعزيز خانكي وإسماعيل مظهر ومحمد خالد للاحتفال بهذه الذكرى، على أن هذه اللجنة لم تحدد برنامجها بعد.

ونحن إذ نشكر لهؤلاء السادة غيرتهم ووفاءهم نعود فنسأل: وأين الجامعة العربية، وأين الأزهر، وأين جامعتا فؤاد وفاروق، وأين جمعية الشبان المسلمين، وجمعية الإخوان المسلمين، وأين المجمع العلمي العربي في دمشق والجماعات التي لولا الأفغاني لما كانت ولما تيقظت الضمائر لإقامتها إلى اليوم؟!

أن الشرق العربي في موقف هو أشد ما يكون حاجة فيه إلى التذكير بالأفغاني وبتعاليمه في الحرية والإباء والنضال عن الكرامة، ونحن إذ نذكر الأفغاني لا نكبره، فقد استوفى مكانته من تقدير التاريخ، ولكنا نكبر أنفسنا، وندل على أننا أوفياء نقدر الجميل لصاحبه، ونعرف فضل آبائنا فيما أسدوا إلينا وأجدوا علينا.

وآسفاه! لقد كانت آخر صيحة للأفغاني في حياته تلك الصيحة الأليمة اليائسة إذ يقول: (إن المسلمين قد سقطت هممهم ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم، وهو شهواتهم). فهل لا تزال هذه الصيحة كلمة حق، وهل لنا أن نلقي بها في وجه أولئك الجاحدين الناسين، إننا والله نرجو أن لا يكون ذلك.

لغة. . . وأسلوب!

طالعت هذا الأسبوع في مجلة أدبية تصدر في بيروت مقالا لأديب بعنوان (عودة بتهوفن) استهله بقوله:

(عند الشاطئ المغناج، وفي المنحنى البعيد، وخلف تلك الخواطر والخيالات. . . أصابع بتهوفن. . .)

(في عيون سمار الليالي، ومهج السكارى الشاعرين، وحلق العصافير، وبحات النهور، وندب القصب. اختلاجات ودوسات بتهوفن. . .)

(في حرير النسمات، ومجاري العبرات، يقطن بتهوفن ليستحم في كل عين ويجفف جسمه في كل جفن ورمش. . .)

والمقال كله من هذا القبيل، حروف عربية وكلمات عربية أيضا، ولكنك لا شك حائر معي في فهم هذه اللغة وفقه هذا الأسلوب.

ص: 37

وأنا رجل والحمد لله قد درست العربية، ووقفت عليها حياتي، واستوفيت ما كتبه علماء البلاغة والنقد في فهم الأساليب، وإدراك أسرارها، ولكني أشهد الله عاجز كل العجز عن فهم هذا الأسلوب المعجز، الذي لا أول له يعرف، ولا آخر له يوصف. . . فيا ضيعة العمر والجهد، إذ أجدني بعد طول ما بذلت وأفنيت عاجزا عن فهم مقال في صحيفة أدبية. . .

ولا أكتم القارئ أني سألت صديقا لبقا أن يعينني على فهم هذا الأسلوب، فقال لي الصديق الماكر: حسبك يا أخي فإنه أسلوب الصم البكم، وفيه ما يسميه البلاغيون (بمراعاة النظير) فقد كان بتهوفن على ما يروون أصم وكانت كل عبقريته في اللحن، فكان من براعة الكاتب أن تحدث عنه بهذا الأسلوب الأصم الملحون. . .

هذا ما قاله الصديق والعهدة عليه، ولكني والله ما زلت حائرا في فهم هذا الأسلوب (المعجز) الذي يكتب به إخواننا الذين يعيشون في (تل من الخواطر والخيالات).

وآخر بريطاني!

في الأسبوعين الماضيين وصل إلى مصر مسيو ديهاميل الأديب الفرنسي الكبير كما عرف القراء مما كتبنا عنه وقام بإلقاء سلسلة من المحاضرات في الأحاديث عن الثقافة الفرنسية وما أدت من خدمات للشرق العربي، ثم طار في نهاية الأسبوع الماضي إلى الجزائر لإتمام رحلته في أداء مهمته. وفي هذا الأسبوع وصل إلى مصر الأديب الإنجليزي الكبير مستر ريموند مورتا يمر لإلقاء سلسلة من المحاضرات في القاهرة والإسكندرية وأسيوط عن الأدب في العصر الفكتوري، وعن الرواية في الأدب الإنجليزي الحديث، ويقولون إنه بعد أن يفرغ من أداء هذه المهمة سيطير هو الآخر إلى قبرص لإلقاء سلسلة محاضرات هناك. .

وأنا أعرف أن الأدب لا وطن له، وأن مودة الفن والثقافة أكبر وأعظم من أن يحدها وضع جغرافي، ولكني أعتقد أيضاً أن القارئ لا يطيق أن يلقى بالا لأديب يبغضه ويمقته، ولا شك أن هؤلاء الدعاة الذين يتوافدون علينا لتزجية الأحاديث الأدبية والثقافية يقدرون هذا، ويقدرون أننا في موقف نضال عن حريتنا وكرامتنا التي يأبى الاستعمار الإنجليزي والفرنسي إلا تقييدها وإذلالها، فليس من المعقول أن يطربنا الأديب الإنجليزي الكبير

ص: 38

بأحاديث الأدب في العصر الفكتوري، والرواية في الأدب الإنجليزي الحديث. لأن أحاديث مستر بيفن الاستعمارية لم تترك لذلك مكانا في قلوبنا وعواطفنا. .

أجل! لقد كنا نود أن نستمع لأحاديث الكاتب الإنجليزي الكبير، ولكن الاستعمار الإنجليزي قد سد آذاننا، فليس الذنب ذنبنا.

(الجاحظ)

ص: 39

‌رسالة النقد

حول كتاب (الرسالة الخالدة)

بين معالي عبد الرحمن عزام باشا والأستاذ محمد بهجة

الأثري

(كان الأستاذ محمد بهجة الأثري الأديب العراقي قد بعث من

بغداد الى معالي عبد الرحمن عزام باشا برأي حول مسألة

هامة وردت في (الرسالة الخالدة) هي مسألة تصرف عمر بن

الخطاب رضي الله عنه في أرض السواد بالعراق تصرفاً

جديداً وكانت الرواية التي اطلع عليها عزام باشا وأستشهد بها

لم تذكر جانباً تاريخياً هاماً في النظر إلى المسألة. ولذلك لما

ذكرها له الأستاذ الأثري في كتاب خاص آثر أن يوجه النظر

إليها بنشرها تعميماً لمعرفة الحقيقة وهذان هما كتابا الأستاذ

الأثري وتعقيب عزام باشا عليه):

حضرة صاحب المعالي الجليل الصديق الكريم الأستاذ عبد

الرحمن عزام باشا:

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد فإن توفيق الله إياك لكتابة (الرسالة الخالدة) تجلو بها (رسالة الله الواحدة الخالدة على الزمن)، وتدعو العالم الجديد إلى الاقتباس من هداها في الاجتماع والسياسة والحرب والسلم والعلاقات الدولية لإزالة أسباب الاضطراب العالمي وإمداد الحضارة بسند روحي وإقامة

ص: 40

نظام عالمي جديد لنعمة من نعنه التي أسبغها سبحانه عليك وأنت لها أهل أراك خليقا بأن تستزيدها بالشكر وتستديمها بالحمد والثناء؛ ومظهر لما توسمته فيك من سمو الذات وجلال التفكير منذ سمعتك لأول مرة تخطب ليلة افتتاح المؤتمر الإسلامي العام تحت قبة المسجد الأقصى (ليلة 27 رجب 1350هـ)، ثم لم تزدني صلاتي بك بعد في القدس والقاهرة وبغداد إلا يقينا بما توسمت وتفرست، ووثوقا بكرم العنصر الذي يتمثل في شمائلك وأدبك وفضلك وفي علاقاتك الخاصة والعامة وفي مساعيك الجليلة في سبيل العروبة والإسلام التي توجنها بتأليف هذه الرسالة الخالدة وجعلتها الطغرى في جبينها الأبيض النقي النزيه. ومن أولى منك بأن تنبثق من ذهنه الوقاد هذه الفكرة السامية، وتجول براعته في أشرف ميدان من ميادين الأبحاث الجدية الرفيعة، وأنت الشاغل لمقام أمانة جامعة الدواة العربية بجدارة واستحقاق، وأنت السياسي الأمين والكاتب المفكر الذي تعلق ذهنه بالمثل العليا فاحتذاها وشغل نفسه بالدعوة إليها، وأحب الخير فتمثله وسعى جهده لإيصاله إلى الناس في صدق ونخوة وإخلاص؟

إن كتابك - يا صديقي الكريم - كتاب الموسم، بل رسالة العصر ألم بحالة الشذوذ والاضطراب التي سادت العالم في أثناء الحرب الأخيرة، فكشف عن أسبابها وبواعثها ووصف لها العلاج الشافي بما وجده في صميم رسالة الله الخالدة إلى رسله وأنبيائه وما انتهت إليه من أطوار الأنظمة العالمية في الشريعة المحمدية الغراء في السياسة والاجتماع والحرب والسلم والعلاقات بين الدول والشعوب والطبقات والأفراد يمدها سند روحي لا بد منه لعالم جديد متجه نحو دولة عالمية واحدة تباركها يد الله ويرعاها رضاه على حد تعبير الرسالة.

وليس يعوزه لاستكماله أسباب فوائده وتعميمها حتى يتكون به رأي عالمي أو شبه عالمي إلا نقله، بعد اجالة القلم في بعض نواحيه إلى اللغات العالمية الغربية والشرقية؛ ليتداوله أكبر عدد ممكن من القراء، ويعيه من لا عهد له بموضوعه من المسلمين وغير المسلمين، ولا يزال الخير في الناس إلى يوم القيامة، ولكن الدعاة العالمين إليه قليلون، ولا أدراك إلا فاعلا إن شاء الله.

وبعد فقد وقعت في الكتاب على أمر أخالفك فيه كل المخالفة ولا أخالك إلا حريصا على

ص: 41

مكاشفتك به ثم جادا في إصلاحه إذا وقع منك موقع القبول.

ذلك أنني في أثناء تصفحي السريع للكتاب مررت بجملة خطيرة تكررت على سبيل التوكيد ثلاث مرات في صور متعددة، وسرعان ما رأيت من آمن بها من الباحثين - بله عامة القراء - كصديقنا الفاضل الأستاذ عبد المنعم خلاف، إذ أوردها في عرضه للكتاب في مجلة الرسالة (ع699س14ص1322) على سبيل الإقرار والتأييد والإعجاب، وهي في رأيي بعيدة عن الصواب، وإقرارها يفتح منفذا إلى الإسلام يهدمه من أصوله وأنت يا سيدي لا تريده بحال من الأحوال.

قلت في (ص128): (وحيثما كان العدل فثم شرع الله ودينه، فإذا فرض أن هذا العدل يقتضي أمرا لا نص فيه ولا أثر شرعيا فعليه أن يجتهد برأيه).

هذا صحيح لا غبار عليه، ولا جدال فيه، ولكنك لما مثلت له أتيت بمثال عملي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن مطابقا لما قصدت له من التوضيح للقاعدة المذكورة ذلك هو عمله حين أريد على قسمة أرض السواد، فأبى إلا بقاءها بأيدي أهلها، وضرب عليها الخراج. لقد ذهبت إلى أنه عمل ذلك برأيه، وترك ظاهر النص القرآني (ص129)، ثم استحسنت منه هذا التصرف في موضعين من بعد، فقلت في (ص130):(هذا مثل من تصرف تلميذ الرسول وخليفته في أمر جاء به نص، وهو نفسه يسلم بهذا النص. . .)، وقلت في (ص131):(وعليه فالدولة الإسلامية التي يكفل فيها الإمام التوازن الاجتماعي والتي تقوم على قوله تعالى: (وزنوا بالقسطاس المستقيم) والتي أخذ فيها برأي عمر رضي الله عنه في ظرف ما وعدل به عن ظاهر النص القرآني عدولا مبرره المصلحة العامة. . .).

وهذه الأقوال، على اختلاف صورها، تتضمن أشياء منها ما يتعلق بالقاعدة المذكورة في ص128، ومنها ما يتعلق بشخص عمر ومواقفه من النصوص الشرعية، ومنها ما يتعلق بالمصلحة المرسلة والتحسين والتقبيح العقليين، ومنها ما يتعلق بحقيقة المثال وكيفية تصرف عمر في المسألة: هل هو ضمن النص أولا. وإني ذاكرها على الوجه الذي أراه تبيانا للحق في هذه المسائل ووضعا له في نصابه منها.

فأما ما يتعلق بالقاعدة، فهذه المسألة على الوجه الذي ذكرته أو على حقيقتها التي سأوردها،

ص: 42

لا تنطبق عليها؛ لأن القاعدة هي إباحة الاجتهاد للإمام في أمر يقتضيه العدل لا نص فيه ولا أثر شرعيا، والمثال إنما هو في أمر جاء به نص من كتاب الله، ولكن الإمام فيما ترى تصرف به خلافه وهو نفسه يسلم بهذا النص! فالقاعدة شيء، والمثال شيء آخر، ولا صلة جامعة بينهما

وأما ما يتعلق بتصرف عمر رضي الله عنه في أمر جاء به نص في كتاب الله، وتركه هذا النص وعدوله عنه إلى رأيه، كائنة ما كانت أسبابه، فأقول: إن هذا لأمر إد منكر ينزه عمر منه، وقد أجمع المسلمون على أنه لا اجتهاد في مورد النص، وإنه ليفتح منفذا إلى الإسلام يهدمه من قواعده، ويجعل القرآن مهجورا، وحينئذ تبطل الحاجة إليه والى الدعوة إلى اتخاذه أساسا للعالم الجديد المنشود. وهذا الرأي فيما أرى يرجع في حقيقته إلى مذهب أهل التحسين والتقبيح العقليين، ومحصول مذهبهم كما قال الشاطبي تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث أن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه.

وأنا أجلك يا سيدي من تصور ذلك فضلا عن إرادته. وإنما التبس الأمر في الموضوع بين المصلحة المرسلة الشرعية والتحسين والتقبيح العقليين، فكان هذا الذي نراه من القول، وهو قول ينبغي تحريره في ضوء القاعدة المذكورة في ص128 ومباحث المصلحة المرسلة التي تبسطت فيها كتب أصول الفقه ونحوها، ومن أحسن ما قرأته فيها ما كتبه الشاطبي رحمه الله في كتاب الاعتصام، وهو مطبوع بمطبعة المنار بمصر. وفي هذا الكتاب يقول الشاطبي:(إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا، ضلال. . . وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره). وضرب لذلك أمثلة من وقوف كبار الصحابة فيما يعرض لهم من النوازل عند حدود النصوص، وإذعانه لطاعة الله ورسوله دون أن يعبئوا برأي من رأى غير ذلك، منها مسألة السقيفة، وقتال مانعي الزكاة، وبعث أسامة. ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان من أكثر القوم انصياعا إلى نصوص القرآن وأشدهم طاعة لرسول الله، بذلك عرف واستفاضت عنه الروايات، حتى وصفوه بأنه (كان وقافا عند كتاب الله).

ففي الصحيح عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال: جلس إلى عمر في

ص: 43

مجلسك هذا قال: هممت أن لا أدع صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين؛ قلت: ما أنت بفاعل قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك. قال: هما المرآن أقتدي بهما - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عينة بن حصن حين استؤذن له على عمر، قال فيه. فلما دخل، قال: يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه. فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله قال لنبيه عليه السلام (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله.

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة عن وقوفه عند الكتاب والسنة، مما لا أريد أن أثقل على طبعك بروايته، وفيما سأورده من القول في حقيقة مسألة تقسيم السواد نفسها مثال آخر أيضاً من أمثلة التزامه حدود كتاب الله؛ لعلمه أن ما جاء به القرآن هو العدل المطلق الذي لا يعقل أن يكون وراءه عنده أو عند أي إنسان آخر عدل أسمى منه بحيث يسوغ له أن يعدل به عن ظاهر النص القرآني أو يتركه لأجله وهو نفسه يسلم بالنص!!

وأما حقيقة مسألة السواد والنزاع الذي قام من أجل تقسيمه أو عدمه بين عمر بن الخطاب وبعض الصحابة حتى وفق للاستناد إلى نص القرآن فسكتوا ورضوا، فهي مذكورة في كتب التفسير والحديث والأموال، ومنها كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة (ص28الى32)، وهو يورد حجة عمر من كتاب الله نصا، ويعلق عليها أجمل تعليق، وأحسب يا صديقي أنك منه نقلت ما نقلت، لتماثل العبارتين، ولكنني أعجب كيف اقتصرت على الجانب التاريخي من المسألة، وأهملت الجانب الديني منها وبه استدلال عمر بالقرآن على صحة ما يذهب إليه من الامتناع من القسمة، حتى رأيت أنه يصح لك أن تقول: إنه عدل برأيه عن ظاهر النص القرآني مع أنه إليه استند والصحابة الذين نازعوه لم يسكتوا ويرضوا حتى أدلى لهم بحجته الناصعة من كتاب الله؟

واليك أسوق حجته التي قالها لمخالفيه كما أوردها أبو يوسف قال: قال عمر رضي الله عنه: إني قد وجدت حجة، قال الله تعالى في كتابه: (وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء

ص: 44

قدير) حتى فرغ من شأن بني النضير. فهذه عامة في القرى كلها. ثم قال (وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى اليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب) ثم قال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال:(والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). فهذا فيما بلغنا والله أعلم للأنصار خاصة، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال:(والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم) فكانت هذه هي عامة لمن جاء من بعدهم. فقد صار هذا الفيء بين هؤلاء جميعا، فكيف نقسمه لهؤلاء، وندع من تخلف بعدهم بغير قسم؟ فأجمع على تركه وجمع خراجه.

قال أبو يوسف رحمه الله: والذي رأى عمر رضي الله عنه من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها عندما عرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك توفيقا من الله كان له فيما صنع وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم. . .).

وفي كتاب (الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلام:

قال أبو عبيد: فقد تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين:

أما الأول، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، وذلك أنه جعلها غنيمة، فخمسها وقسمها. . .

وأما الحكم الآخر، فحكم عمر في السواد وغيره، وذلك أنه جعله فيئا موقوفا على المسلمين ما تناسلوا، ولم يخمسه، ولم يقسمه. . .

قال أبو عبيد: وكلا الحكمين فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفئ، إلا أن الذي أختاره من ذلك أن يكون النظر فيه إلى الإمام كما قال سفيان. وذلك أن الوجهين جميعا داخلان فيه. وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم براد لفعل عمر، ولكنه صلى الله عليه وسلم اتبع آية من

ص: 45

كتاب الله تبارك وتعالى فعمل بها، واتبع عمر آية أخرى فعمل بها، وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين، فيصير غنيمة أو فيئا. قال الله تبارك وتعالى:(واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فهذه آية الغنيمة، وهي لأهلها دون الناس، وبها عمل النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله عز وجل:(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول. . .) فهذه آية الفئ، وبها عمل عمر، وإياها تأول حين ذكر الأموال وأصنافها، فقال:(فاستوعبت هذه الآية الناس) والى هذه الآية ذهب علي ومعاذ حين أشار عليه بما أشار فيما نرى، والله أعلم.

وكذلك قال سائر العلماء، من مفسرين ومحدثين وفقهاء، ولو ذهبت أروي أقوالهم في التزام عمر النص في هذا الموضوع وسواه وأنه لم يتركه ولم يعدل عنه إلى رأيه أو رأي غيره من الرجال وأن الصحابة كلهم كانوا على هذه الطريقة لم ينزع منهم نازع إلى مذهب التحسين والتقبيح العقليين، لأمللت السامع وثقلت عليه

وبعد، أفلا ترى يا سيدي بعد هذا وذاك، وأنت الملتمس للحق والداعي إليه، أن تتلافى ما كتبته في هذا الشأن بالتصحيح والتنبيه، لئلا يتابعه الناس كما تابعه صديقنا الأستاذ عبد المنعم خلاف؟

على أن الذي يعنيني من أمر عمر رضي الله عنه وتصحيح ما ينبغي تصحيحه من الرأي العارض فيه، ليس بأكبر مما يعنيني من تصحيح جملة القول الذي يتعلق بإباحة ترك النصوص القرآنية لآراء الرجال بدعوى مسوغات المصلحة العامة، لما يترتب على هذا من تعطيل الشريعة وإبطالها؛ فأية مصلحة عامة هذه يهتدي إلى تحديدها البشر ذوو المصالح المشتبكة المتعارضة والنوازع الضيقة الحرجة، ولا يهتدي إليها خالق البشر وهو المنزه عن تلك النقائص، الذي لا يريد لعباده إلا ما يضمن لهم مصالحهم على خير الوجوه؟ إن ما استحسنته من ذلك يا سيدي إنما يدخل في باب التحسين والتقبيح العقليين، وحقيقة ما أردته إنما هو ما يسمى المصلحة المرسلة بلسان الفقهاء والأصوليين، ولكنه اختلط هذا بذاك وجرى البحث إلى غير وجهته. فيا حبذا لو حررت الموضوع ثانية، وأقمت حدا فاصلا بين ما يسمى المصلحة المرسلة وهي شرعية، وبين ما يسمى التحسين والتقبيح

ص: 46

العقليين وهو بدعى هادم للشريعة لا يقول به إلا من يريد أن يأتي على الإسلام من قواعده، وأنت بحمد الله من بناته وحفظته الأقوياء المخلصين.

هذا وإني مرسل رسالتي إلى معاليك ولك أن تحتفظ بها أو أن تنشرها بنصها وفصها تنبيها إلى أمر خطير لا يصح إهماله وإغفاله، وإني معتقد اعتقادا جازما بأن من يكتب مثل (الرسالة الخالدة) ويسمو هذا السمو في الدعوة إلى إقامة نظام عالمي جديد أساسه الدعوة المحمدية في مختلف الشؤون الإنسانية، لا يعنيه فيما يكتب ويدعو إليه إلا الحق، ولا يعيش في دنياه إلا لأخرته. بارك الله لك في مساعيك، ورعاك بعنايته ورضاه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته من أخيك المخلص الأمين:

محمد بهجة الأثري

عزيزي الأستاذ الكبير السيد محمد بهجة الأثري:

السلام عليكم ورحمة الله وبعد. فقد تلقيت كتابكم الكريم، وأشكر لكم تقديركم (للرسالة الخالدة) وجميل ثنائكم ونقدكم الخالص لوجه الله والإسلام والصداقة، ذلك النقد الذي أقدره كل التقدير وأعلم ما فيه من غيرة مشكورة على الكتاب والكاتب.

وإني حين ذكرت قصة تصرف عمر رضي الله عنه في أرض السواد تصرفا جديدا لم يسبق إليه، لم أرد ما تبادر إلى فهمك من أني ضربته مثلا لترك النص القرآني بناء على مذهب التحسين والتقبيح العقليين وتحكيمه في دين الله، وإنما أردت أن أعرض مثلا من اجتهاد الإمام في فهم النصوص وعدم وقوفه عند ظاهرها ما دام أمامه طرق لفهم جديد معلل بمصلحة عامة فيها نفع محقق للدولة والأمة، وذلك لأضع أمام الغرباء عن فهم حقيقة الشريعة الإسلامية مثلا من مرونتها واتساع مدى الرأي والتعليل فيها وصلاحيتها أساسا للتشريع في الفرعيات التي تحدث وتتجدد بتجدد الأزمنة والأقضية وألوان حياة الناس، حتى لا يستمر انسياق كثير من الناس فيما انساقوا إليه من توهم وقوف الشريعة الإسلامية لا تتكيف ولا تتسع للتطبيق المعقول.

وإن الرواية التي ذكرتها أنا في المسألة نقلا عن كتاب التشريع الإسلامي للمرحوم الشيخ الخضري قد ذكرت الجانب التاريخي والجدل العقلي بين عمر ومخالفيه فيما رأى من

ص: 47

تخميس الأموال وتقسيمها بين أهلها وإخراج الخمس وتوجيهه وحبس الأراضي بعلوجها ووضع الخراج عليهم فيما مع الجزية الشخصية، ولم تذكر استدلال عمر بالآيات التي تلي آيتي الفئ من سورة الحشر كما روى أبو يوسف في كتاب الخراج وكما ذكرت في كتابك إلي.

أما وقد روى أبو يوسف اعتماد عمر فيما ذهب إليه على فهم لهذه الآيات فقد صار للمسألة بذلك وجه آخر. ولم يخطر ببالي قط أن عمر رضي الله عنه يرى نصا قرآنيا لا يقبل التأويل ثم يخالفه، فعمر هو ما هو صدق إيمان وإذعانا لأوامر الله. وأخيرا أكرر لك شكري وتقديري مع فائق التحية.

المخلص

عبد الرحمن عزام

ص: 48

‌البريد الأدبي

فقيد العلم والإسلام:

قضى بموت الفجاءة مساء يوم السبت الخامس عشر من هذا الشهر فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق شيخ الجامع الأزهر، فكانت الفجيعة بموته أليمة قاسية أرمضت النفوس، وأوجعت القلوب، وساد الحزن عليه جميع الأوساط والأقطار. فقد كان الفقيد - رحمة الله عليه - مثالا للفكرة المستقيمة، والحكمة المهذبة، والإنسانية النبيلة، وكان كل هذا سجية في طبعه وغريزة في نفسه، فقد نشأ في بيت عريق الثراء والجاه، واتصل في أدوار حياته بمجالي النشاط السياسي والنضال الحزبي، ولكنه نشأ وعاش على طبيعة الخير وفطرة السماحة؛ فدرس في الأزهر جامعة الشعب، وسافر إلى فرنسا للدراسة، ثم عاد منها لا ليطلب منصبا يوازي جاهه ومكانته بل ليجلس مجلس الأستاذ يفيد تلاميذه في الأزهر وفي الجامعة، وهكذا عاش طول حياته محبا للحكمة، قريبا من النفوس؛ ولقد تقلد المناصب الكبيرة. فعين وزيرا للأوقاف ثم شيخا للأزهر، ولكنه لم يتغير ولم يتبدل.

لقد كان الشيخ مصطفى عبد الرازق رجلا نبيلا فلاقى ربه بهذه الميتة

النبيلة، ولقد رأى الناس نعشه محمولا على الأعناق، ورأوا الألوف

تحتشد لتشييعه والعزاء فيه، ولكنهم لم يصدقوا أنه مات، ولم تستطيع

أذهانهم أن تحتمل تلك الصورة الرهيبة، فيعتقدوا أن الموت طواه كما

يطوي سائر الناس. . .

لن يموت الشيخ مصطفى عبد الرازق، ولكنه سيظل صورة شاخصة ومثالا حيا في أذهان تلامذته ومريديه، وفي نفوس إخوانه ومحبيه، وفي قلوب أولئك الذين ملأ قلوبهم بفيض إنسانيته، وكرم سجيته، وما أفاء الله عليه من فضل عميم.

لقد كان الشيخ مصطفى عبد الرازق عالما فاضلا، وحكيما مهذبا، وأديبا أريبا، وكم له من مشابه في هذا بين الناس، ولكنه كان إنسانا نبيلا لا يشبهه في هذا إلا القليل من الناس، وحسبك برجل لم تحسب له طول حياته فعلة نابية، أو كلمة شاردة أو إساءة قدمها. بل أضمرها، ولكنه عاش طول حياته يزرع الخير في كل مكان. فلا شك أن الفجيعة بموته

ص: 49

إنما هي فجيعة لأهل الخير الذين يؤثرونه والذين يطلبونه. . .

ونحن اليوم إذ نعزي العالم الإسلامي في موته، والعلم في فقده، نرجو أن نعود لوفائه حقه من الحديث المستفيض في شتى نواحي حياته وإنسانيته. أسكنه الله فسيح جناته، وأسبغ عليه عميم رحماته.

مرحى توفيق الحكيم!

مرحى يا صديقي الكاتب الكبير! وتهنئتي لك على تحرر قلمك الموهوب وخلوصه لأمتك التي تحتاج إلى فنه وقوته في هذا الدور من تاريخها مسيس الاحتياج. . أمتك العربية الكبيرة لا مصر وحدها.

ومن حقك على أن أسجل لك هذا الموقف المشرف في مقالك (عطور وخمور وفكر) الذي نشرته بالعدد الماضي من (أخبار اليوم) والذي نال من الدعاية الفرنسية ومحاولتها تجديد خديعة مصر عن واجبها إزاء أبناء عمومتها في شمال أفريقية، ما لم ينله مقال آخر، من حقك على أن أسجل لك هذا بعد ما أنحيت عليك بلوم مر على صفحات هذه المجلة لموقف عكسي سابق بدا لي فيه أنك مخدوع بفرنسا متعصب لها تعصبا قد أنساك بعض المجاملة في حديث إخوانك، وأنت الرجل المهذب الهادئ، مما دعاني يومئذ أن أغضي عما لك في نفسي من مكانة حينما بدا لي أنك تغضي عما ترتكبه فرنسا ضد الحرية وضد حرمات الفكر في شمال أفريقية، وأنت يجب إلا يخدع عن ذلك.

والآن أحمد الله إليك على أن سريرتك الطيبة الحرة قد انكشف لها موقف فرنسا على حقيقته، فأثبت أن الثقافة الفرنسية والدعاية الفرنسية لا تستطيعان أن تخدعا المفكرين العرب بعد اليوم عن واجبهم إزاء ما يرونه من تناقض فاحش بين الفكر الفرنسي الزاعم لنفسه الدفاع عن حريات الإنسان وحقوقه، وبين السياسة الفرنسية الغاشمة التي تجعل من تونس والجزائر ومراكش سجونا لأهلها تحرمهم خبز الروح والفكر العربي الذي ينتجه أبناء عمومتهم، وتحبسهم عن الرحلة في طلبه، وتحول بين الناس وبين الرحلة إليهم ليروا آثار الحكم الفرنسي السعيد فيهم.

وأحسب أن بعض أصدقاء فرنسا في مصر قد فاجأهم وأدهشهم موقفك الأخير من فرنسا وأنت ربيبها، وقد كنت من الأوفياء لها حتى بعد انهيارها وسقوطها بينما انقلب كثيرون

ص: 50

ضدها بعد أن كانوا من أبواقها قبل الحرب ولا أزال أذكر كلمتك (فيران السفينة) التي نشرتها في الأهرام غداة سقوط فرنسا وتخلي بعض تلك الأبواق عنها ودعايتهم ضدها واشمئزازك منهم ذلك الاشمئزاز الذي صورته في تلك الكلمة. . .

أقول أنا أحسب ذلك وأذكر هذا، ولكن مهما يكن من شيء فإنه لا بد للكاتب الحر أن يفي للحق والحرية ويدافع عنهما في أي أفق، ولا يضيره أن يتغير موقفه في الدفاع، وإني أعتقد أن فرنسا تستفيد من موقفك الأخير أضعاف ما تستفيده من موقف الإغضاء عنها أو الخديعة بدعايتها، لأن ذلك سينبهها إلى أن تترك سياستها التقليدية في خداع العرب عن طريق مصر، وإذا كنت قد عشقت روحها الحرة فمن واجبك أن تذكرها بها وتلومها، وتشتد في لومها وتغاضبها إذا ما رأيتها ترتد عن رسالة تلك الروح، وما أظن عشاق فرنسا من المفكرين والكتاب في الشرق يحبونها لما يرون فيها من البهرج والزينة والمتع الحسية، وإلا كانوا أحرياء ألا يسموا مفكرين، وإنما هم طبعا يحبونها لتقاليد آدابها وما اشتهرت به لديهم من دفاعها عن الحريات. فإذا كشفت لهم الأيام حقيقة خداع فرنسا في ذلك كله فما أحراهم حينئذ أن يناشدوها أن تحقق ما أحبوها من أجله، وبخاصة مع قوم تربطهم بهم روابط الدم واللغة والعواطف والآمال والآلام، فإذا لم تستجب لمناشدتهم فما أحراهم أن يخلعوا من قلوبهم الولاء والحب لها ومن ألسنتهم المجاملة وأن يستقبلوا وافدي الدعاية لها بما هم أهله من الفتور والإهمال.

ذلك هو منطق الذين لا يريدون لأنفسهم التناقض مع أنفسهم، ولا يريدون أن يعدوا لدى فرنسا مخدوعين ولدى الشرق خادعين أو مخدوعين.

فامض أيها الصديق في طريق الدفاع عن المغاربة والغضب لهم لا لأنهم من قومك فحسب؛ بل لأن الحق والحرية، وهما عماد رسالة الفكر، تشتد فرنسا في محاربتهما على مسرح بلادهم. وعسى الله أن ينبه بك أذهان البقية من أصدقاء فرنسا في مصر إلى واجبهم في معالنة فرنسا بالخصومة إذا لم تغير سياستها مع المغاربة تغييرا أساسيا. وانك لمكسب كسبناه والسلام.

عبد المنعم حلاف

فن وتجارة!

ص: 51

تحت هذا العنوان كتبنا كلمة في عدد مضى من الرسالة حبذنا فيها ما تقصد إليه شركات الأفلام الأجنبية من عرض أفلام قوية باللغة العربية، وقلنا إن هذا العمل سيفيد الفن السينمائي في مصر قوة وجدة نظرا لما تملك هذه الشركات من القوة المادية والقوة الفنية كما عجبنا لتلك الضجة الصاخبة التي يحمل لواءها حضرة يوسف وهبي بك بوصفه نقيبا للممثلين واستنكرنا أن يفزع إلى ولاة الأمور لمنع عرض هذه الأفلام بحجة أنها ستقضي على كثير من الممثلين السينمائيين بالبطالة، وقلنا إنها حجة تدل على أن هؤلاء السينمائيين إنما يطلبون العيش لا أكثر ولا أقل.

ورد علينا حضرة نقيب الممثلين بكلمة طالعها القراء في العدد الماضي، ولقد حاولنا أن نجد في تلك الكلمة حجة من المنطق بل شبه حجة تقنعنا بأن حضرة النقيب يدافع عن مسألة له فيها رأي وفهم ولكن حضرته كان عند حسن ظننا به وفهمنا فيه، فقد ترك حضرة يوسف بك المسألة من الناحية الفنية وراح يتهمنا بمناصرة الاستعمار، وينصحنا بتقديم ما كتبنا إلى الشركات الأجنبية لتجزل لنا عنه العطاء. .

وإننا لندع هذا الهراء الفارغ ونلتمس للسيد يوسف في ذلك كل العذر، فما نحسبه يقدر أن الكلام الذي يكتب غير الكلام الذي يلقيه على خشبة المسرح على رءوس العامة وأشباه العامة، ندع هذا لنعود فنقول لنقيب الممثلين إنه دل في كلمته على صدق ما قلناه، وهو أن حضرات الممثلين السينمائيين إنما يتاجرون بالفن ويدافعون عن حقهم في العيش، فقيمة فنهم هي قيمة ما يجلب من الرغيف. ومن العجيب أن السيد يوسف بك يقول إنه لا ينكر عرض الأفلام الأجنبية بلغتها الأصلية، ولكنه ينكر عملية (الدوبلاج) لما فيها من خطر المنافسة لأفلامه وأفلام شركاته، ونحن على العكس منه ننكر عرض الأفلام الأجنبية بلغاتها الأصلية ونحبذ تمصيرها ونقلها إلى لغتنا، ولست أدري بعد هذا من منا هو الذي يكون داعية للاستعمار الأجنبي.

إن هذا الفزع يا حضرة النقيب ليس له من مبرر إلا الضعف، وإنكم بإنتاجكم الضعيف الهزيل تحملوننا على أن نحبذ عملية (الدوبلاج) فأنتم العلة وعليكم الوزر، والناس معذورون إذا طلبوا الفن من أي طريق ما دمتم أنتم قد تنكبتم عن الفن كل طريق. . .

(الجاحظ)

ص: 52

تصحيح آية:

كتب إلينا كثيرون يصححون كلمة جاءت في المقالة القيمة (محمد والأمن العام) لصاحب العزة علي حلمي بك على أنها آية، وهي (ولا تكتموا الشهادة وأنتم تعلمون) على أنها ليست بآية، والآية هي (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون).

ص: 53

‌القصص

من الأدب الروسي الحديث:

بعد المعركة

للكاتب الروسي الكسي تولستوي

بقلم الأديب فريد وجدي الطبري

كان صديقي إيجور دريموف شخصا متزنا يسود عليه الجد. أحب والدته ماريابوليكا ديوفنا ربوفنا ووالده إيجور إيجونوفتش فكان يقول، (أبي رجل يحترم نفسه، وكثيرا ما علمني أن أفتخر بروسيتي) وخطب فتاة في تلك المدينة الصغيرة. وكثيرا ما يتحدث الجنود في الميدان، وبين فترات القتال عن الزوجات والحبيبات، يتحدثون في الملاجئ، وهم في مأمن من البرد القارس، ومعدهم ملأى، ونور الشمع يوحي بالحديث. فتسمع كل ناحية من ذلك الموضوع، مثلا (أساس الحب الاحترام والحب مجرد عادة، فالإنسان يوزع حبه بين زوجته ووالديه وحيواناته) ويقول آخر (يبدأ الحب عندما يفور دمك، وشعور المحب كشعور المخمور والجذل المرح) ويستمر الحديث ساعات، ولا ينتهي إلا بكلمة أوامر من أحد الضباط.

أما إيجورد ريموف فلم يشترك كثيرا في مثل هذه الأحاديث وإذا أشار إلى خطيبته كان ذلك بأسلوب غير مباشر، فتراه يقول مثلا (فتاة طيبة تنتظر صديقها حتى ولو جاء على رجل واحدة)

ولا ينقاد إلى التحدث عن مغامراته الحربية. وعندما يمتدحه أحد أصدقائه يقول (الأفضل أن لا تتحدث عن هذه الأشياء) وكل ما عرفناه عنه كان من أحاديث زملائه؛ كنا نتوسل إلى سائقه تشفيلوف ليقص علينا أخباره، فيصف لنا مثلا كيف كان ينقض على العدو في المصفحة مطلقا عليه ألسنة اللهيب، فلا يكاد يصل إليه حتى يصرعه. وكم من معركة خاض غمارها وعاد سالما بعد أن يكون فقد عددا من رفاقه وقد أبلى بلاء حسنا دائما وقصص شجاعته عديدة.

وعلى هذه الحال حارب الملازم إيجور دريموف إلى أن أقعده الحظ. كان ذلك في معركة

ص: 54

كيسرسك بحيث كان النصر في بادئ الأمر للألمان، واشترك فيها بدبابته، وما كاد يدخل المعركة حتى قتل اثنان من رجاله. ثم اشتعلت النار في الدبابة. أما السائق (تشفيلوف) فقد تمكن من مغادرة الدبابة المشتعلة، وسحب الملازم الذي كانت ثيابه تحترق وهو مغمى عليه وأخيرا انفجرت الدبابة وتناثرت قطعا إلى مسافة تزيد على 150 قدما وأقبل تشفيلوف على الملازم ليطفئ النار المشتعلة في ثيابه وجره إلى مكان أمين. ويقول تشيفيلوف (إنما فعلت ذلك لأني شعرت أن فؤاده ما زال ينبض بالحياة) عاش إيجور دريموف حتى ولم يخسر بصره لكن تشوه وجهه جدا حتى أن العظم ظهر في بعض الأماكن، وبقى في المستشفى ثمانية أشهر، وأجريت له عدة عمليات متوالية لإعادة أنفه وشفاهه، وأجفانه وأذنيه. وعندما نزعت عنه الأربطة بعد الشهور الثمانية، وكانت معالم وجهه قد تغيرت تماما حتى لم يعد فيه شبه للصورة التي كان عليها قبلا. ولما ناولته الممرضة المرآة ليرى وجهه أدارت وجهها بسرعة كي لا يلاحظ الدموع في عينيها من شدة تأثرها بمنظر وجهه. وأعاد إليها المرآة قائلا (كان من الممكن أن تكون المصيبة أكثر مما هي الآن، على كل حال يكفي أني بقيت حيا) ولم يطلب المرآة مرة أخرى، بل اكتفى بلمس وجهه الجديد كأنه يعود نفسه أن تألفه. وسرح من الخدمة العسكرية بناء على تقرير طبي. لكنه ذهب إلى قائده ورجاه أن يسمح له بالالتحاق بفرقته ثانية. ودارت هذه المحادثة بينهما.

(لكنك أصبحت غير قادر على الخدمة)(لا يا سيدي بل لقد أصبحت مخلوقا غريب المنظر ولا أرى كيف يجعلني ذلك غير صالح للقتال) ولاحظ أن القائد كان يتجنب النظر إليه أثناء الحديث، فابتسم بشفتيه الاصطناعيتين الرقيقتين. أعيد إلحاقه وأعطي أجازة مدتها ثلاثة أسابيع، فذهب ليقضيها في البيت، وكان ذلك في الأول من آذار. ولدى وصوله اقترب محطة من قريته، حدثته نفسه أن يستأجر عربة تقله إلى البيت لكنه عاد فقرر أن يقطع المسافة وهي اثنا عشر ميلا مشيا.

كان الثلج كثيفا والهواء الرطب يهب باردا جدا، فيتخلل أطراف معطفه محدثا صوتا كله حنين إلى البيت، ووصل القرية عند الغروب.

رأى وطنه الصغير بخير والطيور على الأشجار تغرد؛ أمامه الآن بضعة بيوت، والبيت السادس يسكنه أبواه. اقترب من البيت ووقف عند الباب لا يجرؤ على الدخول ثم ذهب

ص: 55

إلى جانب البيت ونظر في النافذة وكان الثلج يصل إلى ركبتيه. رأى أمه على ضوء المصباح الخافت تعد المائدة للعشاء. وبدت أمه كما يعهدها تماما - طيبة القلب، هادئة، وعلى رأسها تلك القبعة الصغيرة نفسها وقد تغيرت عما كانت عليه عندما رآها لآخر مرة، إذ انحنى ظهرها قليلا. (ليتني كتبت لها قبل مجيء، ليتني كتبت بضعة أسطر كل يوم) كانت تضع الحليب وقطعا من الخبز الأسمر والملاعق والملح، ثم وقفت مكتفة الأيدي وساد عليها التفكير أو الحيرة؟!

شعر إيجور دريموف وهو يراقب والدته من النافذة أنه لا يستطيع أن يوجه إليها هذه الصدمة إذا عرفت أن هذا المخلوق المشوه هو ابنها! ووطد العزم على ألا يعرفها بنفسه، وقرع الباب. سألت الوالدة (من بالباب) فأجاب (أنا الملازم جرينوف أحد أبطال الاتحاد السوفيتي). ووجد أن خفقات قلبه قلت وزال عنه القلق عندما رأى والدته لم تميز صوته. حتى هو نفسه أخذ يلاحظ أن صوته قد تغير بعد تلك العمليات ومن جراء الأهوال، فقد أصبح صوته خشنا وحادا. وقالت الأم (ماذا جرى؟) فيجيب (أحمل رسالة إلى ماريا بوليكا دبوفنا من ابنها الملازم الأول دريموف) ولما سمعت ذلك ضمته بإحدى يديها وصافحته بالأخرى بحرارة قائلة (إذا ولدى ايجور مازال حيا؟ تفضل ادخل وحدثني عنه) جلس إيجور دريموف إلى المائدة حيث كان يجلس وهو صغير يوم كانت رجلاه لا تصلان الأرض وأمه تخاطبه - (قل يا أعز الناس لدى) - أخذ يحدثها عن ولدها أنه بخير وصحته جيدة وأنه سعيد. لكنه لم يذكر لها المعارك التي خاض غمارها بدبابته. وتقاطعه قائلة - (قل لي الحياة في الجبهة فظيعة رهيبة، أليس كذلك؟). (نعم أيتها الوالدة، إن الحرب كلها يظائع وويلات، ولكن الإنسان يألفها مع الأيام).

بعد قليل جاء والده وقد بدا أكبر مما كان وذقنه بيضاء وكأنما اعتراها غبار أو طحين مسح الثلج عن رجليه وخلع معطفه المصنوع من الفراء وصافح الضيف. في هاتين اليدين الكبيرتين يلمس الإنسان الأبوة اللطيفة! وإيجور دريموف يعرف هاتين اليدين فطالما لمسهما! جلس والده ليستمع إلى ذلك الجندي الذي غطى صدره بالأوسمة دون أن يسأله أي سؤال. وكلما طال الوقت على دريموف وأهله لم يميزه كلما ضاق صدره ويهم أن يقول (ميزوني تتعرفوا إلى، بعد أن أصبحت إنسانا غريب المنظر)، لكنه يتراجع.

ص: 56

مما يبعث السرور في نفسه، أنه يجلس على مائدة أبيه غير أنه في نفس الوقت كان كمن خاب أمله والآن حان وقت الطعام، فهل لديك ما نقدمه لضيفنا أيتها الأم؟) قال الأب هذا، وفتح جارورا في طرف الطاولة لا تزال فيه سنارات لصيد السمك في علبة كبريت فارغة تخص ولده. وفاحت رائحة مألوفة، هي رائحة البصل والخبز. وأخرج زجاجة خمر صغيرة بقى فيها ما يملأ قدحين صغيرين فقط. وبينما كانوا يأكلون، لاحظ دريموف أن أمه تحاول أن ترى كيف يمسك المعلقة ولما التقى نظرهما غضت طرفها وعلى وجهها مسحة من الحزن والشفقة، فابتسم. طرقوا مواضيع عديدة. المزورعات والحاصلات، الأمل بانتهاء الحرب في الصيف (ولماذا تعتقد يا سيد إيجورفتش بأن الحرب قد تنتهي في هذا الصيف؟).

فأجاب الأب (الشعب هائج، بعد هذه المصائب التي سببها لهم الألمان، لن يقف في وجههم شيء، وهنا قالت ماريا (لم تخبرنا متى يأتي ولدنا في أجازه بعد أن مضى ثلاث سنوات على غيابه عنا؟ ربما تغير شكله كثيرا الآن وربما كان له شاربان ويعيش كهؤلاء الذين يقطنون في جوار الموت. قد يكون صوته تغير؟)(ربما لا تعرفينه متى عاد)

وضعوا له فراشا في إحدى زوايا الغرفة، قريبا من الموقدة؛ في تلك البقعة التي يعرف كل حجر فيها وكل ثقب وعقدة في السقف، ورائحة الخبز، ورائحة البيت، الرائحة التي لا ينساها الإنسان حتى ساعة الموت. وهبت رياح شديدة في الخارج. وكان يسمع شخير والده من وراء الحاجز وكان سهلا عليه أن يتصور أمه مسهدة تصعد الزفرات والملازم مضطجعا على جانبه ورأسه على يده وقد أخذ يقول في نفسه: أحقا يا أماه لا تستطيعين أن تعرفيني؟ واستيقظ في الصباح على صوت طقطقة الحطب وهو يحترق في الموقدة، ورأى أمه منهمكة في عملها قرب النار وجوربيه قد غسلا وعلقا على الحبل وحذاءه نظف ومسح؛ وسألته والدته إذا كان يحب الجبنة مع البسكوت. وبعد أن جلس إلى المائدة قال (طلب إلى دريموف أن أبلغ سلامة إلى كاتيا ابنة أندري سيفانوفتش، فهل لا تزال تسكن قريبا منكم؟)(نعم وقد أنهت المدرسة في العام الماضي وهي تعلم الآن. سأدعوها لك) ثم خرجت تدعو كاتيا مانيشفا، وما كاد الملازم يلبس حذاءه حتى جاءت كاتيا تركض ووقفت أمامه، وها هي عيونها الواسعة اللامعة وحاجباها وقد ارتفعا في دهشة واستغراب، وزاد احمرار خدودها

ص: 57

المتوردة عندما ألقت بالشال الصوف الذي كان في يدها. وتمنى لو يقبل هذه الشفاه اللطيفة. بدت أمامه كما كان يتصورها: عروس المستقبل، نضرة مرحة، ناعمة، تكسوها العافية وقد أضاءت الغرفة عندما دخلت.

(هل جئتني بأخبار من إيجور؟ قل له إني أنتظره في الليل والنهار) أدار وجهه من النور ليراها بوضوح؛ اقتربت منه لكنها همت بالتراجع عندما رأت ملامحه. وأراد أن يكشف عن نفسه في ذلك اليوم وفي تلك اللحظة ولكن لم يفعل: وطلبت إليه أمه أن يجلس ويأكل الكعك مع الحليب.

وتكلم إيجور دريموف ولم يعلق على اشتراكه في القتال وتجنب أن ينظر إلى كاتيا كيلا يرى انعكاس بشاعته في عينيها. واقترح أبوه أن يأتيه بحصان يركبه لكنه فضل أن يعود مشيا كما جاء.

لقد تأثر جدا من تلك الزيارة، وكان في الطريق يتحسس وجهه ولا يدري ماذا يفعل بنفسه!

ولما عاد إلى المعسكر اهتم به أصدقاؤه كثيرا وصار يأكل ويشرب ويضحك مثلهم بنشاط وسرور وكأن لم يحدث له شيء. قرر أن يخفي الحقيقة عن أمه. أما ذكريات كاتيا فرأى أن يخرجها من مخيلته كسن تسبب ألما ويجب خلعها.

وبعد أسبوعين تسلم رسالة من أمه:

(تحيات يا حبيبي. ترددت قبل لأني لم أعد أعرف بماذا أفكر؟ جاءنا شخص من طرفك - شاب لطيف جدا لكن وجهه مخيف. وكأنه كان يرغب أن يمكث قليلا لكنه عدل عن ذلك فجأة. ومنذ تلك اللحظة لم أنم ويبدو لي أن ذلك الشاب هو أنت. أما والدك فيقول بأني مجنونة. وربما أنا مجنونة إذ لو كان ذلك الشاب ولدنا لقال ذلك، ولماذا يخفي ذلك عنا؟ كان له وجه يفتخر به! ويحاول والدك أن يقنعني لكن قلب الأم يقول لي، إنه ولدك! اكتب لي يا حبيبي إيجور بالله عليك أشفق علي وأخبرني هل كان ذلك صحيحا أم أنا مجنونة؟

وأطلعني صديقي دريموف على هذه الرسالة كصديق ولما قص على القصة كانت الدموع تملأ عينيه فيجففها بمنديله. لقد ارتكبت خطأ جسيما أيها الغاشم، اكتب لأمك حالا وأطلعها على الحقيقة واطلب الصفح منها. سيزداد حبها لك وأنت في هذه الحال وفي اليوم نفسه كتب لأبويه:

ص: 58

(والدي العزيزين، لقد كان ذلك الشاب ولدكم، أنا. . .) وراح يملأ أربعة صفحات من الحجم الكبير وبخط صغير، فكتب رسالة تشغل عشرين صفحة من الحجم العادي.

وبعد أيام كنا نتدرب في الميدان عندما جاء أحد الجنود إلى إيجور وخاطبه قائلا: يا عزيزي الكابتن يدعوك. وتبعته إلى الثكنة التي يسكنها معا، وهناك سمعته يقول (مرحبا يا أمي هاأنذا) ورأيت سيدة عجوزا قصيرة ضئيلة الحجم تعانقه، وكان هناك امرأة أخرى - لم أر مثل ذلك الجمال حيا يتنفس طيلة حياتي!! رفع والدته عن صدره وخاطب الفتاة. (لماذا أتيت يا كاتيا؟ لقد وعدت ذلك الشاب الذي كنت تعهدينه بأن تنتظريه وليس أنا الذي لم تستطيعي. . .) لكنها قاطعته:(إيجور قررت أن أقضي العمر معك، فلا تبعدني عنك من الآن).

(القدس)

فريد وجدي الطبري

ص: 59