الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 713
- بتاريخ: 03 - 03 - 1947
مسألة القضاء والقدر
للأستاذ عباس محمود العقاد
قد راعيت يا سيدي أن اقدم إليك مسألة واحدة حتى لا يشق على مجلة (الرسالة) ردك. . . وهذه المسألة هي (القضاء والقدر) هل الإنسان مسير أم مخير؟. . . وقد وجهت هذا السؤال من قبل لأستاذي فرد علي رداً لم أر فيه مقنعا. . . فتضاربت الآراء بعقلي وإني لأخشى على نفسي وعلى إيماني. . .
محمد علي طالب
بمعمل قنا
مسألة القضاء والقدر هي مسألة الحرية الإنسانية في جميع نواحيها، فهي بهذه المثابة مسالة قضائية نفسية علمية، وليست بالمسألة الدينية وكفى.
وليس من الميسور أن تحل هذه المسألة من جميع وجوهها حلا يدفع كل اعتراض، ويوافق كل رأي، ويكشف النقاب عن العلاقة بين حرية الإنسان وقوى الكون الذي يعيش فيه. فإن العلم بحدود حريتة يتوقف على الإحاطة بهذه العلاقة من جميع أطرافها، وليس ذلك بالمستطاع في عصرنا هذا، ولا نخاله يستطاع كل الاستطاعة في وقت من الأوقات.
لكن المستطاع الذي لا شك فيه أن مسألة القضاء والقدر هي نفسها حل معقول أسهل من جميع الحلول التي تذهب إليها العقول. . .
فبما يقول من ينكر القضاء والقدر كأنه شيء لا يوافق العقل ولا يساغ في منطق التفكير؟
أيقول بأن المخلوقات يجب أن تختلف وأن تتساوى مع ذلك الاختلاف في كل قدر وقضاء؟
ذلك حكم لا يسوغ في عقل عاقل. لآن اختلاف التقدير لازم مع اختلاف الأقدار.
فإذا اختلفت أقدار المخلوقات وأوصافها فلا يخطر على العقل أن تكون بعد ذلك سواء في الأعمال والتقديرات.
وإذا هي لم تختلف فكيف يريد المعترضون أن تكون؟ وكيف يتوهمونها في الخيال فضلا عن تقديرها في عالم الفكر أو عالم العيان!
أيريدونه عالماً لا فرق بين حي وحي، ولا بين شيء وشيء، ولا بين موجود وموجود؟
إذن هم يريدونه عالماً لا أشياء فيه ولا أحياء فيه ولا موجودات فيه.
لأن الشيء لا يسمى شيئاً إلا إذا كان مخالفاً لشيء آخر في جوهره أو صفاته. فإذا بطل الاختلاف بين الأشياء بطل قوام الأحياء والموجودات.
فهل يرى المعترضون أنهم هربوا من مسالة القضاء والقدر إلى مسألة يقبلها العقل وترتضيها النفس ويتصورها الخيال؟
وأي الصورتين بعد هذا أقرب إلى عقول المفكرين: عالم فيه اختلاف في التقدير واختلاف في الأقدار؟ أو عالم لا توجد فيه الأشياء ولا توجد فيه الأحياء!
فمسألة القضاء والقدر على هذا أقرب إلى الفهم من كل مسالة تخطر على بال مفكر في هذا الموضوع.
وإذا كانت هي الوجه الذي يقبله العقل فالناحية المجهولة منه ينبغي أن تقاس على الناحية المعلومة. فيطمئن الفكر إلى موافقتها له ومطابقتها لدواعي الإيمان.
أما هذه الناحية المجهولة فهي ناحية التوفيق بين العدل الإلهي واختلاف الجزاء على الأعمال.
فإذا وجب أن تختلف الأشياء ويختلف الأحياء ويختلف الجزاء، فقد وجب أن يكون الجزاء غير مناقض للعقل في نهاية المطاف. . . ونهاية المطاف هذه هي التي يجهلها الإنسان، ويقيسها على ما يعلم فتسري إليه الطمأنينة في هذا القياس الصحيح.
ويتحدث الأديب صاحب الخطاب عن صديق له يسخر من تبلبل خاطره في هذه المسالة فيقول (أنه أبرز لي آراء في هذه المسالة وقال إنها آراء أهل السنة وأخرى قال إنها آراء المعتزلة). . . ولا يدري أيهما أحق بالاتباع.
ولا فائدة من الإطالة في تفصيل هذه الآراء أو تلك الآراء. ولكن كاتب الخطاب خليق أن يوقن أن آراء المعتزلة تؤدي إلى تبلبل في الخواطر يعود على صاحبه بسخرية أمر وأنكى. لأنهم يحلون المشكلة بمشكلات ويخرجون من تيه إلى أتياه. ويقولون إن الإنسان ينبغي أن يكون حراً لأن الله يحاسبه، وإن الله لا يحاسب إلا لأنه حر في عمله واختياره0
فهم لا يقررون أن الإنسان حر في عمله واختياره بدليل من الواقع، بل بفرض من
الفروض. فمن أين لهم أن حساب الله لا يوافق حالة التقدير، وأنه لابد أن يتناقض العدل إذا وجب الإيمان بالتقدير؟ ولماذا يمنعون على الله حساباً يتقابل فيه العدل والرحمة وصدق الجزاء والعقاب؟ وإذا وجب التسليم بأن الاختلاف في العالم المشهود هو الحالة التي يتحقق عليها الوجود، فلماذا يجزمون بأن هذه الحالة الواجبة ستناقض ما يجب في مسألة العدل والتوفيق بين العمل والمصير؟
لو كان المعتزلة ينكرون وجود الله لجاز أن يبطلوا الحكمة في الخلق كله وأن يبطلوا العدل والرحمة فيما هو ظاهر لنا وما هو محجوب عنا، ولكنهم يؤمنون بوجود الله ويؤمنون بوجوب الاختلاف بين الأشياء والأحياء. فلماذا تضيق قدرة الله عندهم عما يوافق الحكمة فيما يجهلون؟
وقصارى القول أن الحل الوحيد المستطاع لعقدة القضاء والقدر هو المقابلة بينها وبين العقد التي تنتهي إليها إذا أنكرنا القضاء والقدر. . . وأن العدل بمعنى المساواة الشاملة هو العدم بعينه، لأن المساواة الشاملة تنفي قيام الأشياء والأحياء. فلا بد من معنى للعدل الإلهي غير هذا المعنى، ولا تناقض إذا بين العدل والاختلاف في تركيب الموجودات، إذا وجب أن نفهمه فهما غير فهم المساواة في الأقدار والمساواة في التقدير.
ونحن نرى في حياتنا العملية أن الناس يرثون أخلاقهم من آبائهم وأمهاتهم، وينشئون في عاداتهم على نشأه بيئتهم وبيئات أسلافهم، ولكننا مع هذا لا نبطل التكليف والجزاء ولا نرى أنه عبث في غير جدوى، أو أن إلغاء القوانين والعقوبات مساو لبقائها وسريانها. . . فهناك نصيب من الحرية يكفي لقيام التكليف في المسائل الدنيوية، وهناك نصيب من الحرية يكفي للتوفيق بين العمل والجزاء في هذه الحياة القصيرة. فكيف بالحياة الأبدية التي تدبرها عناية الله ولا يحيط بها علم الإنسان؟
إن مسالة القضاء والقدر عقدة، ولكنها عقدة لا ينكرها المنكر إلا وقع فيما هو أعقد منها، ولاسيما المنكر الذي يؤمن بوجود الخالق القديم.
أما الذين يبطلون وجوده فإنهم يعطلون العقل جملة في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل، لأن تفسير العالم كله بالمصادفة العمياء لا يدع مجالاً للإشكال ولا للسؤال، وكل شيء جائز أو غير جائز. فقد استوى الجائز وغير الجائز على كل حال.
عباس محمود العقاد
من حديث الجهاد
للأستاذ علي الطنطاوي
ركبت الترام أمس وكان ممتلئاً بالناس، قد قعدوا على مقاعده، ووقفوا في رحباته، وتعلقوا بسلالمه، وكنت قاعداً في الدرجة الأولى، فرأيت امرأة ملتفة بملاءة على يدها ولد يظهر عليها أنها مسكينة مغلبة تريد أن تدخل علينا، فيمنعها رجل بلدي واقف بالباب، ويقول لها:(دامش مكانك، دا بريمو، مكان الخواجات) فتستكين وتقف، فدعوتها وأقعدتها في محلي، وهي حائرة لا تدري في خجلها وشكرها ماذا تقول لي، وسار الترام إلى المحطة التالية فنزل ناس وصعد ناس، وكان فيمن صعد امرأة فرنجية ضخمة كأن خديها زقان منفوخان، وكأن ثدييها عدلان على ظهر أتان. . . وأقبلت تزحم الركاب بوقاحة عجيبة حتى دخلت علينا. فلما رأت المرأة قلبت شفتها، وقلصت وجهها حتى صار كوجه قرد عجوز. . . وحملته كل ما استطاعت من إمارات الاشمئزاز والكبر، وضمت ثوبها ترفعاً أن يمس الملاءة وأشارت لها بيدها، أن: قومي. . .
فنظرت المسكينة نظره بلهاء، وابتسمت ولم تفهم. . . فقالت لها:(دا بريمو، أنت بيروخ هناك، يلا، يلا). . .
فقامت. . . فلم أملك أن صرخت بها: (أقعدي) وقلت لهذه الوقحة: (ألا يكفي أنك زاحمتها على خبز بلدها، وأكلت خيره من دونها، وغنيت به وفقرت هي فيه، حتى أردت أن تقيميها وتقعدي مكانها. . .)
وكانت ثورة مني عاصفة، فلم يجب أحد، ولكن شاباً (مهذباً) استاء مني، وأراد أن يعلن احتجاجه علي، فنهض قائماً وقال (تفضلي يا مدام) وأعطاها مكانه. . .
وذهبت أزور رجلا كبيراً، اعتزل الناس في بيته بعد أن ولج أوسع أبهاء القصور، وحل في أضخم كراسي المناصب، وتشقق الحديث معه حتى بلغ الكلام عن الإخوان المسلمين فقال:(إنهم سيتسلمون الحكومة يوما ما، ولكن المشكلة، أنهم يريدون العودة إلى الحكم الإسلامي، ومصر تمدنت وارتقت حتى صارت قطعة من أوربا، فكيف يمكن أن ترجع إلى أحكام الشرع؟)
وسمعت كثيرين من رجالات العرب، يتظرفون بدس الكلمات الفرنسية أو الإنكليزية في
أحاديثهم العربية، من غير داع إليها، ولا فائدة منها، ويجدون ذلك رافعا من أقدارهم معليا من منازلهم.
ورأيت كثيرين من الشباب تجيئهم بالحكمة أو النظرية فتعزوها إلى صاحبها الشرقي المسلم، فيلوون وجوههم عنها، ولا يحفلونها، فإذا نسبتها للفيلسوف الألماني أو الأديب الإنكليزي هشوا لها وبشوا، وتلقوها بالتجلة والإكبار.
وقرأت لكثيرين من المؤلفين والباحثين فصولا في الدين أو اللغة، لا مرجع فيها إلا النقل، ولا تنقل إلا عن أئمتنا وعلمائنا، فرأيتهم يدعون المنبع ويستقون من ذيول السواقي، ويتركون مراجعنا ويعزون إلى فلان وعلان من المستشرقين.
وليس فينا من لا يرى تقليد الأوربيين مدنية، واتباعهم رقياً، ومن لا يشعر في قلبه بإجلالهم، ويتمنى أن يزور بلادهم، ويثقف ألسنتهم، ويا ليت أنا إذ أحببناهم جمعنا حبهم، ولم يفرقنا غرامهم شيعاً وأحزاباً لهم، ويا ليت أنا ارتفعنا اليوم عما وصفه جبران خليل جبران، منذ ربع قرن، حين قال:(كان العلم يأتينا من الغرب صدقة وإحساناً، فنلتهم خبز الصدقة لأننا جياع فأحيانا ذلك الخبز، فلما حيينا به أماتنا، أحيانا لأنه أيقظ بعض مداركنا، ونبه عقولنا، وأماتنا لأنه فرق كلمتنا، وأذهب وحدتنا، وقطع روابطنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة، مختلفة الأذواق، متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشد في حبل إحدى الأمم الغربية، وترفع لواءها، وتترنم بمحاسنها وأمجادها. فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي ارتشف رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيراً فرنسياً، والشاب الذي لبس قميصا من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلا روسيا).
فإذا كنا - ولا نريد أن نماري في الحق، ولا نجادل في الواقع؛ إذا كنا نطوي قلوبنا على حبهم، ونضم جوانحنا على إكبارهم، ونرى أنفسنا صغاراً أمامهم، ونقلدهم في كل شيء ونمشي وراءهم، فماذا ينفعنا قولنا بألسنتنا إننا نكرههم ونعاديهم، ولا نقعد عن حقنا حتى نناله منهم برغمهم؟
لقد تعلمت في المدرسة الابتدائية حكاية لا أزال أذكرها إلى اليوم، هي أن رجلا كان يذبح العصافير في يوم بارد ويبكي، فقال عصفور منها لأخيه: ألا ترى إلى شفقة هذا الرجل
ورقة قلبه؟ قال: ويحك لا تنظر إلى دموعه، ولكن انظر إلى ما تصنع يداه.
فهل تظنون أن الإنكليز والفرنسيين أصغر أحلاماً من العصافير حتى يخدعوا وبخطبكم وأقوالكم، ويعموا عما تصنع أيديكم؟
إن قضية فلسطين لم يجر مثلها ولا في أيام نيرون. ولو قرأناها في أخبار الأولين، لما صدقنا أنه يسوغ في إنسانية البشر، وعقل العقلاء، أن تقول لرجل: أخرج من دارك ليأوي إليها هذا المشرد المسكين، ونم أنت في زقاق، أو اضطجع على المزبلة، أو مت حيث شئت. هذا قضاء المدنية، وهذا حكم الديمقراطية.
وإن حوادث المغرب لم يقع مثلها ولا على عهد محاكم التفتيش أن يذبح عشرات الألوف من الأبرياء، لأنهم قالوا لمن دخلوا عليهم بلدهم، واغتصب أرضهم، وأكل خبزهم: أطعمنا معك من خيرات أرضنا، وارفق بنا في عدوانك علينا. . .
فهل أحسسنا حقيقة ببغضاء الفرنسيين والإنكليز؟ ألا يزال فينا من يثني على الإنجليز في الصحف (تقريراً للحقيقة؟)، ويحتفل بدوهامل (تمجيداً للأدب؟) ويودع المجندات الإنكليزيات بالأسى (تقديراً للجمال؟)، ألا يزال فينا نواد أقيمت لتثبيت الصداقة بيننا وبين هؤلاء الذين فعلوا هذه الأفاعيل في فلسطين والمغرب؟
فكيف يجتمع الحب والبغض في قلب واحد؟
إننا في أيام لها ما بعدها، ومصائب تنسينا أواخرها أوائلها فإذا كنا جادين حقيقة في إنقاذ فلسطين والمغرب، وفي العمل لمصر وللعربية الإسلامية وكنا نريد أن نكون أمة تستحق أن تعيش، فيجب أن نتخلص أولا من استعمار الأوربيين أدمغتنا وألسنتنا وبيوتنا، وأن نحكم عقولنا فلا نقتبس منهم إلا ما نعتقد نفعه لنا، وأن نثق بأنفسنا، ونشعر بكرامتنا، وأن يفهم الحاكم منا أن لنا شرعاً أفضل من قوانينهم، فيجب أن نقتبس الأحكام من شرعنا، وأن يعلم الطالب أن لغتنا أكمل من لغاتهم، وأدبنا أسمى من آدابهم، وتاريخنا أمجد من تواريخهم، وأنها لم تخدم أمة العلم ما خدمته أمتنا، وأن يعتقد التاجر أن من الفرض عليه أن يروج البضاعة الوطنية، ويقاطع الأجنبية التي تزاحمها، وأن يؤمن الأديب بأن لهذه الأمة حقاً على قلمه، أن يدافع عنها، ويعيد إليها كرامتها، وثقتها بنفسها، ويصغر الأجنبي في عينها، وأن يفهم أخنع رجل فينا، أنه أعظم من أكبر خواجة من الخواجات، أو (مستر)
من المساترة أو (هر) أو (سنيور) من السنانير والهررة، وأن يعلم أنه هو صاحب البلد، وهؤلاء بين غاصب أو لص أو (شحاذ)، وله هو مقعد الدرجة الأولى في الترام، وله الغرفة الأولى في الفندق، والمائدة الأولى في المطعم، وأنه حينما يقنع بالأقل ويتوارى ويبتعد، ويدع الأجنبي يملك الأرض، والعمارات، والمتاجر، يكون مجرماً كالجندي الذي ينهزم بالمعركة.
وملاك الأمر كله، أن نعلم أننا أساتذة الدنيا، ونحن سادتها عززنا بقرآننا وديننا، ولا يزال القرآن مبعث عز لنا، فلنعد إليه ولنجعله إمامنا في حياتنا، ومعقد فخارنا، ولندع الدنيا إلى أتباعه لأنه لا فلاح لها إلا به.
إننا اليوم أضعف من الغربيين في القوى المادية، فلم يبق لنا إلا القوى الروحية: قوة الإيمان وقوة الأخلاق، وقوة العفاف فلنحافظ عليها، ولنحارب الإلحاد والنفاق والفجور، لأنها عون للعدو علينا، وسلاح له يعمل فينا، وأن نجرد للعدو جندا اخرجوا حبه من قلوبهم، وضلالاتهم من رؤؤسهم، وعاداته من بيوتهم، وأبغضوه بغضا بلغ الشغاف، وخالط الدم، وسرى في الأعضاء وظهر في الأفعال. جنداً صدورهم حافلة بالإيمان، عامرة باليقين، يثقون بماضيهم وأنهم يستمدون منه الظفر: من ألف معركة منصورة كانوا أبطالها ومن ألف سنة مباركة كانوا ملوك الأرض فيها، ويثقون بحاضرهم وأن دمائهم، ما أضاعت هذا الإرث، ورؤؤسهم ما فقدت هذه الذكريات، ونفوسهم ما خسرت ذلك الشمم وتلك الفضائل، ويثقون بمستقبلهم وأنهم سيملكون الأرض مره أخرى وسيعودون ملوكها. جنداً: شباباً هم في الحكمة كالشيوخ، لم تسترقهن الشهوات، ولم تستعبدهم الملذات، ولم تلعب بهم الصبايا، وشيوخاً هم في العزيمة كالشباب، لم تفتنهم المناصب، ولم يطغهم الغنى، ولم يسر في أعصابهم الخور. . .
بهذا الجيش فلنجاهد، جهاداً متصلا مستمراً، لايني ولا يقف حتى يهدم قلاع العدو كلها، ظاهرها ومضمرها، وواضحها وخفيها.
إن الجهاد إن لم يبدأ من البيت والمدرسة والجريدة، فلا يمكن أن ينتهي إلى الساحة الحمراء، فإذا أردتم أن تبلغوا نهاية الطريق فامشوا من أوله، وإن شئتم أن تصلوا إلى أعلى السلم فابدءوا من أسفله، فإن من يمشي من آخر الطريق يرجع إلى الوراء، ومن
ينزل من رأس السلم يصل إلى الأرض.!
(القاهرة)
علي الطنطاوي
النطق وكيف نشأ
في النوع الإنساني وفي الحيوانات العليا
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
1 -
هل النطق غريزي في الإنسان؟
يتعين علينا قبل الدخول في تصميم الموضوع أن نشير إلى نقطتين أو حقيقتين مقررتين ثابتتين:
تطور اللغات:
الحقيقة الأولى أن اللغات - وهي مظهر النطق أو صورته في مختلف الجماعات والبيئات الإنسانية - لم توجد كما هي منذ ظهور الإنسان على الأرض ولكنها تنشأ وتتطور شأن كل ما في الكون من جمادات ونباتات وحيوانات (بما فيها الإنسان) طبقا لنواميس النشوء والتطور. فمنذ أفي سنة لم يكن للغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية مثلا أثر من الوجود. فكيف نشأت ووجدت؟ لما فتح الرومان باقي أقاليم إيطاليا ثم فرنسا وإسبانيا والبرتغال انتشرت لغتهم اللاتينية في تلك البلاد وكانوا هم الفاتحون الأقوياء كما أنهم كانوا أرقى من السكان الأصليين في المدنية والشرائع والعلوم والفنون، لذلك لم تلبث اللاتينية حتى تغلبت على اللغات المحلية وحلت محلها جرياً على نواميس الانتخاب الطبيعي وما يترتب عليها من انهزام الضعيف وبقاء الأصلح. ولكنها (أي اللاتينية) تطورت بدورها في كل بلد منها تطوراً مختلفاً باختلاف كل من تلك البيئات الجديدة فتحولت شيئاً فشيئاً في فرنسا إلى الفرنسية وفي إيطاليا إلى الإيطالية وفي إسبانيا إلى الإسبانية وهكذا.
وكما أن الصور أو الحلقات المتوسطة بين الحيوانات والنباتات الحديثة وبين الأنواع القديمة التي تسلسلت منها موجودة وقد كشف عن الكثير منها متحجراً في طبقات الأرض التي تكونت في مختلف الأعصر الجيولوجية القديمة، كذلك الحلقات المتوسطة بين اللغات الحديثة وبين جداتها التي تسلسلت منها، وأعني بها المؤلفات التي وضعت بتلك اللغات في الأعصر المتعاقبة ووصل إلينا الكثير منها. فلغة الكتب والرسائل الفرنسية التي وضعت في القرن العاشر مثلا أو الثاني عشر قريبة من اللاتينية ومن مزيج من اللغات الأصلية
المحلية. وكلما اقتربنا من عصرنا الحالي نجدها تقترب من اللغة الفرنسية الحديثة بحيث نستطيع أن نتتبع تطور هذه اللغة التدريجي وتحولها شيئاً فشيئاً من اللغة اللاتينية التي اشتقت منها مع امتزاجها بشيء من اللغات المحلية الأصلية. وهكذا الحال بالنسبة للإسبانية وباقي اللغات المتسلسلة من اللاتينية. بل ولسائر اللغات الأخرى.
واللغات اللاتينية واليونانية القديمة (التي اشتقت منها اليونانية الحديثة) والجرمانية القديمة (التي تسلسلت منها الألمانية الحديثة وبعض لغات أوربا الوسطى والشمالية بل واللغة الإنكليزية نفسها)، ومعظم لغات أوربا الأصلية متسلسلة بدورها من لغة هندية قديمة وهي النسكريتية. وجميع هذه اللغات الهندية الأوربية تكتب من اليسار إلى اليمين خلافاً للغات السامية مثلا (التي منها العربية) فإنها تكتب من اليمين إلى اليسار عدا الأرقام لأنها من أصل هندي.
وما يقال عن اللغات الأوربية يقال عن اللغات الشرقية وغيرها. فمنذ ثلاثة آلاف سنه تقريباً لم تكن اللغة العربية ولا العبرية الحديثة ولا الحبشية ولا أخواتها الحالية قد وجدت. فكيف نشأت؟ إنها نشأت وتطورت جرياً على نفس النواميس الطبيعية المتقدم بيانها بفعل العوامل الاجتماعية والسياسية والتاريخية والطبيعية. فاللغة أو اللغات الأصلية القديمة اصطلح على تسميتها بالسامية تطورت تطوراً مختلفاً باختلاف الأقاليم والبيئات التي انتشرت فيها إلى أن تحولت إلى العربية القديمة، والعبرية القديمة والمصرية القديمة (التي اشتقت منها القبطية واستبدلت كتابه حروفها باليونانية)، والحبشية، والحميرية، والكلدانية أو البابلية، وغيرها. وقد استمرت عوامل التطور تعمل في هذه اللغات الأخيرة إلى أن تحولت شيئاً فشيئاً إلى اللغات الحديثة المعروفة. وسأعود في آخر هذا المقال إلى تطور اللغة العربية في مختلف البلاد الشرقية.
وكذلك الحال بالنسبة لمجموعة اللغات الطورانية القديمة والحديثة، (التي منها اللغة التركية ولغات آسيا الوسطى) وغيرها من اللغات الأخرى.
وكما أنه توجد في أنواع النباتات والحيوانات القديمة والحديثة وفي الإنسان أعضاء أثرية لا وظيفة لها إطلاقاً بدليل أنه يمكن استئصالها دون أن يصاب الفرد الذي تجرى له هذه العملية بأي ضرر أو نقص في حيويته، لأنها في الواقع آثار أعضاء قديمة كانت مستعملة
عند أجدادنا البعيدين ثم ضمرت شيئاً فشيئاً لعدم استعمالها عندما طرأت عليهم ظروف جديدة جعلتهم يستغنون عنها، كذلك توجد في بعض الألفاظ حروف أثرية لا تنطق ولكنها تدل على الأصل الذي تسلسلت منه. مثل لفظة الفرنسية أي جسم فإن حرفي ولا ينطقان ولكنهما كانا يلفظان في الأصل اللاتيني وكذلك لفظة الفرنسية فإن ال لا تلفظ ولكنها كانت تلفظ في الأصل اللاتيني ويجد القارئ الكثير من هذه الأمثلة في كتب علم نشوء اللغات وتطورها.
وخلاصة القول إن لغات البشر ليست ثابتة ولم توجد كما هي منذ ظهور الإنسان على الأرض ولكنها في تطور مستمر ينشأ الحديث منها من القديم ويتسلسل منه بطريقة التطور التدريجي. وسأبين فيما يلي كيف نشأ النطق في بادئ الأمر كما ينشأ الآن في الأطفال وفي كثير من الطيور والحيوانات العليا.
النطق غير غريزي في الإنسان:
والحقيقة الثانية التي يجب بيانها هي أن النطق ليس غريزياً في البشر ولا هو مميز لهم عن سائر الحيوانات (الإنسان حيوان ناطق) كما كانوا يعتقدون فيما مضى قبل تقدم العلم.
فإذا فصلنا طفلا عن البشر منذ ولادته وعهدنا في تربيته إلى شخص يتولى ذلك بعيداً عن الناس دون أن يفوه أمامه بأي لفظ، فإن هذا الطفل ينشأ عديم النطق بتاتاً إلا ما يصدر منه طبيعياً أو فسيولوجياً من أصوات الألم والانفعالات النفسية كالتأوهات والهمهمة والتأفف مثلما تفعل الحيوانات كما سنبينه فيما بعد. وقد يلجأ إلى بعض إشارات للتعبير عن حاجاته كرفع يده إلى فمه إذا أراد الأكل وما إلى ذلك من الحركات الطبيعية الآلية. وإذا سلمناه إلى جماعة من الخرس فإنه لا يلبث حتى يقلدهم في إشاراتهم ليعبر بذلك عما يتطلبه من أمور الحياة فيكون في ذلك كالأخرس دون أن يعرف إلى النطق سبيلا.
ويؤيد هذه الحقيقة، أي أن النطق اللغوي ليس غريزياً في الإنسان بل هو وليد البيئة ونتيجة التقليد السماعي - كما سيأتي بيانه - ما هو معروف للجميع من أن الطفل الذي ينشأ في وسط قوم يتكلمون العربية مثلا يتكلم هذه اللغة دون غيرها حتى إذا كان آباؤه وأجداده من أبناء لغة أخرى، وكذلك الحال إذا نشأ طفل عربي محض في فرنسا بعيداً عن أهله منذ ولادته فإنه لا يتكلم إلا الفرنسية وهكذا. وإذن فالنطق ليس بغريزي.
النطق في الحيوانات:
ومن جهة أخرى لا يخفي أن لكثير من الطيور وذوات الثدي وعلى الأخص القرود العليا، وكذلك الحشرات الاجتماعية كالنمل لغات صوتية أو اصطلاحية بسيطة يتفاهم بها أفرادها إلى حد ما. فإن لبعض الحيوانات إشارات طبيعية تعبر بها عن انفعالاتها النفسية. فالكلب مثلا يهز ذيله للترحيب بسيده ويتفوه ببعض أصوات خاصة لا يبديها إلا في مثل هذا الظرف، وهو يرخي ذيله إلى الأرض بين قدميه عند الخضوع والخشوع والخوف وهو والقطط وبعض الحيوانات الأخرى يكمشون آذانهم عند الخوف إذا هددوا مثلا بالضرب.
وللنمل طريقة للتفاهم أشبه بلغة الإشارات التلغرافية. فإذا تقابل اثنان منها من نوع واحد نراهما يتلامسان بزوائدهما الأمامية برهة ثم يسير كل منهما في طريقه. وإذا اكتشف أحدها شيئاً من الغذاء يسرع إلى استدعاء باقي أفراد جماعته، ومعلوم أنه ليس للنمل وسائر الحشرات قصبة هوائية ولا أوتار صوتية نظراً لأنه ليس لها رئتان بل إنها تتنفس من مسام عديدة على سطح جسمها ينفذ منها الهواء إلى داخل الجسم فلا يمكن والحالة هذه أن تحدث أي صوت تتفاهم به، ولا شك في أنها تتحدث مع بعضها بالإشارات بالطريقة المتقدم بيانها
وليست لغة الحيوانات قاصرة على الإشارات ولكن الكثير منها ينطق بأصوات للتعبير عما يجول في نفسيتها البسيطة من الانفعالات والمقاصد المحدودة. والذي يرقب القطط مثلا في المنازل يراها عند رؤية الطعام أو شم رائحته أو عندما تجوع تبدي نغمة خاصة. ولها عند نداء صغارها صوت آخر لا تنطق به إلا في هذه المناسبة فقط. وللإناث منها عند طلب الذكور صوت معروف أشبه بلفظه (داؤد).
والببغاء تنطق بكلام البشر بوضوح. وقد دلت المشاهدات والاختبارات على أنها تفهم في أغلب الأحيان مجمل ما تتفوه به مما تكون قد حفظته من باب التقليد في بادئ الأمر ثم تكرره وينتهي بها الأمر إلى أن لا تتفوه به بعد ذلك إلا في المناسبات التي تؤدي إليها معانيه، بل إنها كثيراً ترد على ما يوجهه إليها الإنسان بالألفاظ المناسبة مما يدل على أنها تدرك إلى حد ما معاني ما تسمع ومعاني ما تقول. ويتم لها ذلك بالتقليد والتلقين والتمرين كما يحدث للأطفال على وجه التقريب، ذلك لأن الأطفال يتعلمون بنفس هذه الطريقة:
التقليد والتلقين والتمرين.
أما تغريد الطيور فأمره معروف، وتمتاز به الذكور في بعض الأنواع لتغري الإناث حتى تكتسب إعجابها وتفوز بها. وتقيم أنواع أخرى منها اجتماعات على الأشجار أشبه بالحفلات الموسيقية يتبارى فيها الذكور في النطق بنغمات شجية مطربة لتخطب ود الإناث فتنتخب هذه أجملهم صوتا، كما أن أنواعاً أخرى يتباهى ذكورها أمام الإناث بريشهم الزاهي، ولهذا كان الذكور أجمل من الإناث لا في الطيور فقط ولكن في كثير من الفصائل والمراتب الحيوانية الأخرى نتيجة ذلك الانتخاب الجنسي الطبيعي طبقاً لنظرية داروين على أن أنصار نظرية لامارك في أسباب النشوء والتطور يضيفون إلى ذلك التفسير تفسيراً آخر يرجع إلى فعل العوامل الطبيعية الخارجية (البيئة والعوامل الجوية ونظام الحياة والعادة والاستعمال أو عدم الاستعمال الخ) والداخلية (العوامل الفسيولوجية والتفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل الجسم وعلى الأخص فعل الهرمونات التي تفرزها الغدد الصماء أي الغدد ذات الإفراز الداخلي).
ومما يرجح نظرية لامارك على نظرية داروين في تفسير تلك الظاهرة ونعني بها تفوق الذكور على الإناث في جمال الصوت وزهاء الريش وغزارة الشعر وجمال اللون وهو ما يحدث في كثير من أنواع الأسماك حيث تكتسب الذكور في موسم التلقيح ألواناً زاهية يسمونها في علم الحيوان (حلة الزفاف) على حين أن تلك الأنواع لا تتزاوج ولا تلقح بعضها تلقيحاً فعلياً مباشراً بل إن الإناث تفرز بويضاتها رأساً في الماء ثم يأتي الذكر ويفرز مادته المنوية في الماء أيضاً فيحدث التلقيح بين ما يلتقي منهما بفعل الأمواج، وكل هذا دون أن يتصل الذكور بالإناث. فلا شك في أن الألوان الزاهية التي تطرأ على الذكور إنما هي نتيجة التفاعلات الكيميائية التي تحدثها في الجسم الإفرازات الداخلية للخصيتين عند نضوجها وهي التي تنبت مثل الشوارب وشعر الذقن في ذكور النوع الإنساني وتؤثر في صوتهم وتكسبهم صفات الرجولة، كما أن إفرازات المبيضين تكسب الفتيات عند البلوغ نعومة المرأة وصفات الأنوثة فيها.
نعود إلى النطق في الحيوانات فنقول إن للقرود عامة وعلى الأخص القرود العليا الشبيهة بالإنسان (الغورلا، والشانبازيه، والأورنانجوتان، والجيبون) لغة أو لغات حقيقية وإن كانت
على أبسط صور النطق، مكونة من بعض أصوات أو مقاطع لا تبعد كثيراً عن لغات الأطفال في أوائل العام الثاني من ولادتهم ولغات بعض القبائل المتوحشة.
وقد التقط بعضهم أصوات أفراد من القرود على اسطوانات فوتوغرافية ثم أدارها أمام قرود من نفس النوع في حدائق الحيوانات فكانت تصغي إليهم باهتمام وتنبه وتبدي إشارات وحركات وتنطق بأصوات كأنها ترد عليها.
ومما يؤيد أيضاً أن النطق في الإنسان والحيوان ليس غريزياً وإنما هو مكتسب بالتقليد التجربة القديمة الآتية التي أجراها دين بارنجتون الإنكليزي ودونها في موسوعته الفلسفية التي ظهرت سنه 1773 في الجزء وقد نقلناها من كتاب العالم البيولوجي الفرنسي فيلكس ليدانتك (العلم والشعور) طبع سنة 1916 صحيفة 181 فقد أخذ بارنتجون عصافير صغيرة عقب ولادتها من نوع ونقلها إلى عش عصافير من نوع آخر يسمى فاقتبست تغريد هذه العصافير بطريق التقليد وظلت تغرده طيلة حياتها كأنها طبعت عليه إلى حد أنه وضعها بعد ذلك مع أفراد من نوعها فلم تستطع أن تجاريهم في تغريدهم الذي هو تغريد آبائها وأجدادها. ذلك لأن مخ العصافير المحدود يعجز عن وعي شيء جديد غير ما طبع فيه بطريق التقليد في مستهل حياة هذه الكائنات البسيطة.
وخلاصة القول إن النطق ليس بغرزي في البشر ولا هو قاصر عليهم وإنما هو ظاهرة فسيولوجية بسيكولوجية طرأت على بعض الحيوانات وتدرجت حتى وصلت إلى ما هي عليه في النوع الإنساني. كما أن اللغات ظاهرة اجتماعية
فالإنسان ليس بحيوان ناطق كما كانوا يعلموننا فيما مضى وهو لا يختلف في شيء من هذه الناحية عن باقي الحيوانات إلا في الدرجة فقط.
وكل ما هنالك هو أن الإنسان حيوان ثرثار كثير النطق يحب أن يتكلم بلا انقطاع في مجتمعاته الخاصة والعامة، في كل مكان وزمان، يخلق المناسبات ليشبع شهوة الكلام، وإذا تقابل اثنان على غير سابق معرفة في القطار أو الترام مثلاً نراهما يتحدثان ولو في أتفه المواضيع كالجو والطقس. وإذا لم يجد الإنسان من يتحدث معه يظل يتكلم مع نفسه ويكرر مثلاً ما قاله أو ما يود أن يقوله إلى لغيره، وأحياناً يصحب هذا الحديث إشارات يبديها بيده على غير قصد تنم عما يدور في نفسه. وحتى في نومه لا يخلو من الكلام، وكثيراً ما يتفوه
وهو على هذه الحالة بألفاظ واضحة أو غير واضحة يسمعها من بجواره. وكثرة الكلام مرض عند بعض الأشخاص يضايقون به غيرهم فيهرب الناس منهم.
وفي المقال التالي نتكلم عن نشوء النطق في النوع الإنساني ثم نعقبه ببحث خاص عن تطور اللغة العربية.
نصيف المنقباوي المحامي
من كتاب ديارات بغداد
الديارات وملحقاتها. . .
للأستاذ شكري محمود أحمد
الدير بيت يتعبد فيه الرهبان، ويكون بين الرياض والحدائق في ظواهر المدن والأمصار، أو في المواضع البعيدة عن الناس كالصحارى والمستشرفات ورؤوس الجبال.
وقد أخطأ ياقوت في الكلام على الدير والتعريف به في كتاب معجم البلدان بقوله: (ولا يكاد يكون بالمصر الأعظم، إنما في الصحارى ورؤوس الجبال). فإننا وجدنا أديرة كثيرة في ظواهر المدن، فقطربل مثلا وهي ملاصقة لبغداد فيها دير أشوني، قال الشابشتى:(وعيده اليوم الثالث من تشرين الأول، وهو من الأيام العظيمة ببغداد، يجتمع أهلها إليه كاجتماعهم إلى بعض أعيادهم، ولا يبقى أحد من أهل التطرب واللعب إلا خرج إليه. . . ويباهون بما يعدون لقصفهم، ويعمرون شطه وأكنافه، وديره وحاناته. . .) وفي قطربل أيضاً دير آخر أسمه دير (الجرجون) ذكره الشابشتى في الكلام على دير اشموني.
وقد أحصيت الأديرة التي كانت ملاصقة لبغداد أو قريبة منها فوجدتها تقرب العشرين ديراً، وربما كانت أكثر من هذا؛ أما الأديرة التي حول الحيرة أو قريبة منها فأكثر من عشرين ديراً. وهذا ينقض زعم ياقوت بأن الدير لا يكون في المصر الأعظم، وإذا استقصينا الشواهد على نقضه ضاق بنا المجال.
وربما يكون قول المقريزي في التعريف بالدير أقرب إلى الصواب، فقد قال:(الدير عند النصارى يختص بالنساك المقيمين به، والكنيسة مجمع عامتهم)
أما قول الفيروز ابادي في الدير، والتعريف به فقلق جداً لا يدل على اطلاع في هذا الموضوع، فقد قال:(الدير خان النصارى وجمعه أديار)، والخان يطلق على كل موضع يقام به في سفر أو غيره.
وقد جاء في الشعر العربي إشارات كثيرة إلى مواضع الأديرة التي تكون على سفوح الجبال أو في السهول والرياض. قال أبو الحسين بن أبي البغل الشاعر في دير الأعلى بالموصل، وقد اجتاز به يريد بلاد الشام:
انظر إليَّ بأعلى الدير مستشرفاً
…
لا يبلغ الطرف في أرجائه طرفا
كأنما غريت غر السحاب به
…
فجاء مختلفاً يلقاك مؤتلفا
فلست تبصر إلا جدولا سرباً،
…
أو جنة سدفاً، أو روضة أنفا
وربما كان هذا الدير (دير الأعلى) أكثر الأديرة ارتفاعاً.
قال العمري: (وله درجة منقورة في الجبل تفضي إلى دجلة نحو المائة مرقاة).
وقال ربيعة الضبي يصف إحدى الحسان:
لو إنها عرضت لأشمط راهب
…
في رأس مشرفة الذرى متبتل
جآر ساعات النيام لربه
…
حتى تخدر لحمه متشمعل
لصبا لبهجتها وحسن حديثا،
…
ولهمَّ من ناقوسه بتنزل
ومما جاء في وصف موضع الدير الذي يكون بين الحدائق والرياض تحف به البساتين والحقول قول ابن المعتز في دير عبدون:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر
…
ودير عبدون هطالٌ من المطر
يا طالما نبهتني للصبوح به
…
في ظلمة الليل والعصفور لم يطر
أصواتُ رهبان دير في صلاتهم
…
سود المدارع، نعَّارين في السحر
وقال جحظة البرمكي في دير أشموني بقطربل، وقد خرج إليه في عيد من أعياده، فلما وصل إلى الشط، مد عينيه لينظر موضعاً خالياً يصعد إليه، أو قوماً ظرافاً ينزل عليهم، فرأى فتياناً من أحسن الناس وجوهاً، وأنظفهم لباساً، وأظرفهم آلة، فصعد إليهم وصاح بغلامه: (يا غلام طنبوري ونبيذي، فقالوا: أما الطنبور فنعم، وأما النبيذ فلا، فجلست مع أحسن الناس أخلاقاً وأملحهم عشرة، وأخذنا في أمرنا، ثم تناولت الطنبور وغنيت شعراً لي:
سقياً لأشموني ولذاتها
…
والعيش فيما بين جناتها
سقياً لأيام مضت لي بها
…
ما بين شطيها وحاناتها
إذ اصطباحي في بساتينها
…
وإذ غبوقي في دياراتها
وعلى ذكر أشموني وخبر جحظة البرمكي وشعره فيه، يجمل بنا أن نذكر هذه القطعة البارعة لأبي الشبل البرجمي فيه، وهو كصاحبه جحظة من (عصابة السوء) النواسية:
شهدت مواطن اللذات طراً
…
وجبتُ بقاعها بحراً وبرا
فلم أر مثل أشموني محلاً
…
ألذ لحاضريه ولا أسرا
به جيشان من خيل وسفن
…
أناخا في ذراهُ واستقرا
كأنهما زحوف وغيً ولكن
…
إلى اللذات قد كرا وفرا
سلاحهما القواقز والقناني
…
وأكواس تدور هلم جرا
وضربهما المثالث والمثاني
…
إذا ما الضرب في الحرب استحرا
وأسرهما ظباء الدير (طوعاً)
…
إذا أسد الحروب أسرن قسرا
فالدير إذن يكون على قمم الجبال وسفوحها، وفي السهول بين الرياض والجنائن ملاصقاً للمدن أو بعيداً عنها في الصحارى والمواضع المنقطعة عن الناس.
ويسمى الدير أحياناً بالعمر وجمعه أعمار قال صاحب تاج العروس في العمر: (والعمر بالضم المسجد والبيعة والكنيسة، سميت باسم المصدر لأنه يعمر فيها أي يعبد).
وقد فرق صاحب مراصد الاطلاع بين الدير والعمر، فخص ما كان منهما قريباً من المدن والعمران بالعمر وما كان بعيداً عنهما بالدير، وذلك في قوله:(. . . وما كان من مواضع المتعبدات التي فيها مساكن الرهبان بقرب العمران فإنه يسمى العمر).
وقد مرت هذه اللفظة في شعر الفتاك والماجنين الذين كانوا يألفون الديارات ويتطرحون فيها، قال أبو نؤاس:
أذنك الناقوس في الفجر
…
وغرد الراهب في العمر
وحنّ مخمور إلى خمرة
…
وجاءك الغيث على قدر
يا حبذا الصحبة في العمر
…
وحبذا نيسان من شهر
يا عاقد الزنار في الخصر
…
بحرمة الحانة والفهر
هات التي تعرف وجدي بها
…
واكن بما شئت عن الخمر
يا حبذا الجهر بأمر الصبا
…
ما كنت من ربك في ستر
وقد أرجع حبيب زيات هذه اللفظة (العمر) إلى أصل أرامي بمعنى البيت والمنزل.
ملحقات الدير:
تشتمل الأديرة على الكنيسة والهيكل، والقلالي وبيوت المائدة، ومستودعات الخمور، والبساتين ومعاصر الكروم والحانات ودور الضيافة، وحجر الرهبان، وحجره لرئيس الدير
الذي يشرف على تنظيمه.
ويحف بالدير أحياناً بنايات مرتفعة يسكن كل واحدة منها راهب يقال لها القلالي أو القليات، ومفردها على الأول قلية، وعلى الثاني قلاية، ومعناها الصومعة، وقد تكون هذه القلالي في داخل الدير خلف سوره.
وربما كانت هذه اللفظة (قلية) في الأصل خلية، وجمعها خلايا لأنها تشبه الخلايا في شكلها وانتظامها حول الدير.
وقد مرت هذه اللفظة في شعر العصبة النواسية في مواضع كثيرة نكتفي بقول الثرواني في دير بالحيرة عرف بقلاية القس.
قال:
خليلي من تيم وعجل هديتما
…
أضفيا بحث الكأس يومي إلى أمسي
وإن أنتما حييتماني تحية
…
فلا تعدوا ريحان قلاية القس
وتنتشر حول الأديرة الحقول والبساتين المعمورة بمختلف الأثمار والأزهار، وقد كانت الكروم أكثر هذه المزروعات عناية، وذلك لأن الخمور النصرانية التي كانت تدخر في الأديرة لها شهرة ممتازة يقبل عليها الناس من كل جانب.
واشتهرت المزرفة - وهي قربه ملاصقة لبغداد، فيها اديرة كثيرة - بالرمان الذي ضرب المثل بجودته حتى قيل الرمان المزرفي. وهذه القرية بين قطربل وبزوغي، وتبعد عن بغداد ثلاثة فراسخ.
ومن الأثمار التي عني بزراعتها في الأديار الزيتون والنارنج والفستق والبندق واللوز. وكان الرهبان يعنون بتربية النحل للاستفادة من شمعه وعسله.
وكانت الأديرة مزينة بالقناديل والصلبان والدمى، مصبوغة بالأدهان، وقد كانت هذه الدمى منقوشة على الحيطان بمختلف الألوان، ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد بالشعر على ذلك لأنها مرت في مواضع كثيرة من الشعر العربي، حتى أصبح ذكرها من متلزمات القصيدة - في بعض الأحيان - كذكر الأطلال والدمن والربوع.
في الغالب المشهور أن هذه الأديرة كانت محاطة بالأسوار المرتفعة خوفاً من اللصوص وقطاع الطرق والفتاك. وربما كان لها باب حديد كدير الأسكون بالحيرة، أو باب حجر
كدير باطا، ويسمى هذا الدير أيضاً (دير الحمار) وقد كان بين الموصل وتكريت قال ياقوت:(. . . وله باب حجر يذكر النصارى أن هذا الباب يفتحه الواحد والاثنان، فإن تجاوزوا السبعة لم يقدروا على فتحه. .).
ولكن هذه الأسوار المرتفعة، والأبواب الحديدية القوية لم تكن لتحمي الرهبان والراهبات على كثرة عددهم من اللصوص والفتاك، فقد أصيبوا كثيراً بالنهب والقتل وهتك الحرم.
وقصه اللصوص في دير العذارى خير شاهد على ذلك، وخبر الحادث يرويه لنا الجاحظ في كتابه (المعلمين) وهذا الكتاب مفقود، لكن الخبر ينقله عنه البكري والبلاذري وياقوت والشابشتي والعمري. قال: حدثني ابن فرج الثعلبي أن فتياناً من بني ملاص من ثعلبة، أرادو القطع على مال يمر بهم قرب دير العذارى، فجاءهم من خبرهم أن السلطان قد علم بأمرهم، وأن الخيل قد أقبلت تريدهم، فاختفوا في دير العذارى. فلما حصلوا فيه، سمعوا أصوات حوافر الخيل التي تطلبهم وهي راجعه من الطلب فأمنوا. فقال بعضهم لبعض: ما الذي يمنعكم أن تأخذوا القس وتشدوه وثاقاً، ثم يخلوا كل واحد منكم بواحدة من هذه الأبكار، فإذا طلع الفجر تفرقنا في البلاد؟ وكنا جماعة بعدد الأبكار اللواتي كن في حسابنا أبكاراً. ففعلنا ما أجمعنا عليه، فوجدناهن كلهن ثيبات قد فرغ منهن القس.
وينظم أحد هؤلاء اللصوص قصتهم هذه مع الرواهب قائلاً:
ودير العذارى فضوح لهن
…
وعند اللصوص حديث عجيب
خلونا بعشرين ديرية
…
ونيل الرواهب شئ غريب
إذا هن يرهزن رهز الظراف
…
وباب المدينة فج رحيب
واشتهرت قصة دير العذارى هذه حتى وردت في مواضع مختلفة في الشعر العربي.
وفي أحداث سنة 449 هـ (1057) يذكر صاحب مرآه الزمان: (فيها صعد عشرون رجلاً من الغز إلى دير للنصارى بميافارقين، فيه أربعمائة راهب، فذبحوا منهم مائة وعشرين واشترى الباقون نفوسهم بست مكاكي فضة وذهب).
فالأسوار المرتفعة والأبواب الحديدية التي كانت تحصن الأديرة لم تحافظ على الرهبان والرواهب، لذلك نجد أكثر هذه الأديرة متجمعة بالقرب من المدن الكبيرة، والعواصم المزدحمة، والأمصار المأهولة خوفاً من اللصوص وقطاع الطرق والفتاك.
أما الكرح بالكسر فبيت الراهب، ويكون أصغر من القلية، يسكن فيه الراهب إذا قعدت به الحال ولم يستطع الحصول على قلية. وجمع الكرح أكراح، ويجيء جمعه أيضاً على صيغه التصغير اكيراح. قال ابن منظور في اللسان ج 3 ص 405 هي بيوت للرهبان يخرج إليها النصارى في بعض أعيادهم. ومعنى هذه اللفظة اليونانية الكوخ الصغير.
وأشهر المواضع التي عرفت بالأكيراح هو دير حنة بالحيرة الذي وصفه أبو نؤاس في موضعين، قال:
دع البساتين من ورد وتفاح
…
واعدل هديت إلى ذات الأكيراح
اعدل إلى نفر دقت شخوصهم
…
من العبادة إلا نضو أشباح
يكرورن نواقيساً مرجعة
…
على الزبور بامساء واصباح
تنأى بسمعك عن صوت تكرهه
…
فلست تسمع فيه صوت فلاح
إلا الدراسة للإنجيل في كتب
…
ذكر المسيح بإبلاج وإفصاح
يا طيبه وعتيق الراح تحفتهم
…
بكل نوع من الطاسات رحراح
يسقيكها مدمج الخصرين ذو هيف
…
أخو مدارع صوف فوق أمساح
ويصف في موضع آخر من شعره رهبانه ورواهبه، وكيف أصبحوا أنضاءً من العبادة:
يا دير حنة من ذات الأكيراح
…
منن يصح عنك فإني لست بالصاح
رأيت فيك ظباء لا قرون لها
…
يلعبن منا بألباب وأرواح
دع التشاغل باللذات يا صاح
…
من العكوف على الريحان والراح
واعدل إلى فتية ذابت نفوسهم
…
من العبادة نحف الجسم أطلاح
لم يبق فيهم لرائيهم إذا حصلوا
…
خلاف ما خوفوه غير أشباح
تلقى بها كل محفو مفارقه
…
من الدهان، عليه سحق أمساح
لا يدلفون إلى ماء بآنية
…
إلا اغترافاً من الغدران بالراح
والغريب أن ناشر مسالك الأبصار يقول إن الأكيراح: بلد نزه كثير البساتين والرياض والمياه
والصحيح ما أثبتناه من أن الأكيراح هي بيوت صغيره تشبه القلية يسكنها راهب واحد إذا لم يستطع الحصول على قلية.
(بغداد)
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية
خواطر مسجوعة:
فلسفه الفأس. . .
قال صاحبي: هل ذكرت الفأس في كتابك، وعطفت عليها بآدابك؟ قلت: نعم وصفتها، وأنصفتها. فاسمع أيها الصاحب الرشيد، ما تريد:
الفأس في تكوينها لا تزيد، عن قطعة من حديد؛ ركبت في غصن تمرد بعد لين، وتجرد بعد تزيين. هذه في تكوينها هي الفأس، أداة البأس؛ فإن لم يدل صنعها على المهارة، فإن وراءها روح جبارة؛ ترد الشظف إن عدا، وتصد السغب إن اعتدى. .
رأيت حامل الفأس في الصباح، كجندي شاكي السلاح؛ يذل بطش العيش ببطش شديد، ويفل بأس البؤس ببأس الحديد؛ فقلت بخ بخ أيها الإنسان، هكذا العزة تصان! وبهذا الفأس يتحطم اليأس! سر في طريقك غير ملوم فلن يثنيك عن الحرية غشوم! وواصل الكد في إيمان، وابحث عن الرزق في اطمئنان؛ غير مسحور بكذب الآمال، ولا مأسور بذهب الأغلال، فإن فأسك أمضى في المنفعة، من السيف في المعمعة؛ وأسرع في الإجابة، من القلم في الكتابة؛ فلو حكمت بأنها أعز من حسام الكمي، وأغلى من يراع العبقري، لكنت في حكمك صائباً، ولم تك كاذباً!
والفأس في يدك أيها الزارع، كالمبضع في يد الطبيب البارع؛ لها رهبة السلاح، وعليها سمة الإصلاح، تعمل حدها في الأرض، فتنسق كثافتها، وتستأصل آفتها. وتمهد السبيل للماء. وتعد الحقل للنعماء. . .
وحسب الفأس شرفاً أنها تؤتي نائلها، وتحمل حاملها؛ بل تحنو على من يحنو عليها؛ وتعز من يلتجئ إليها؛ فترحمه من المن، وتقيه سوء الظن؛ وتدر به بطول الركوع على الخضوع لله، وتهون عليه ما تعقد من أسباب الحياة!
حامد بدر
الأدب في سير أعلامه
5 -
تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
فتى حائر
كان ليو في نحو الثالثة عشره من عمره حينما انتقل مع اخوته إلى قازان؛ وكان جدهم أحد حكام قازان من قبل فكان الصبية ملحوظي المكانة في مضطربهم الجديد وكان يصحب كل صبي منهم خادم خاص جيء به من بين عبيدهم في ساسنايا، وترفع الصبية عمن حولهم من الناس إلا من كانت لهم مثل مكانتهم ولذلك قلت خبرتهم بقازان وأهل قازان. . .
وكانت عمتهم يوشكافا التي يعيشون يومذاك في رعايتها طيبة القلب ولكنها لم تكن على قدر من الثقافة كبير، وكان زوجها من ذوي الثراء يجعل أكثر وقته للموسيقى ولعب الورق إليها؛ ولذلك كثيراً ما كان يغشى بيته جماعات من أصحابه وكثيراً ما صرف الصبية عن الجد من الأمور مشاهدتهم هذه الجماعات وأوحى إلى نفوسهم اللعب واللهو فكان لذلك سوء أثره في دروسهم.
ولكن ليو لا يسرف في ذلك إسراف اخوته، بل انه ليميل إلى مجافاتهم إلى حد ما منذ أن رآهم يتغيرون عما ألفهم، ورأى في أذواقهم وميولهم ما يحس أنه غريب عليه جديد عليهم وما لا يسمعه إلا أن ينكره منهم بينه وبين نفسه.
ولعله ما أنكر ذلك منهم إلا لأنه لا يستطيعه لنفسه، فقد عاوده ما يكدر نفسه من اهتمامه بهيئته وماذا عسى أن يكون وقعها في النفوس؛ وإنه ليطيل النظر في المرآة فلا تعجبه أذناه الكبيرتان ولا أنفه المفرطح الواسع المنخرين ولا عيناه الشهباوان الجاحظتان بعض الشيء ولا شفتاه الغليظتان بعض الغلظ.
على أن له في القراءة مصرفاً عن هذا، وعزاء ومتعة غير ما يسعى إليه اخوته من متعة؛ وهو اليوم في الرابعة عشرة من عمره يلتهم ما تصل إليه يده من الكتب التهاماً؛ ولن يزال مكباً على كتابه ساعات طويلة حتى لينسى نفسه، لأنه يعيش بخياله فيما قرأ؛ وكان مما
قرأه يومئذ كتاب ألف ليلة وقد أثرت في خياله وحسه قصة (الأربعين لصاً) تأثيراً قوياً وكذلك فعلت قصة الأمير (قمر الزمان)؛ وقرأ الغلام شعر بوشكين وأعجب بقصيدته عن نابليون، وراقته قصة (الدجاجة السوداء) للكاتب الروسي بوجورولسكي؛ وقرأ الإنجيل وكم تأثر قلبه بقصة يوسف فأن أثرها فيه كان على حد قوله هائلا، ولم يزل بعد ذلك بسنين يصف ما أعجبه من وجازتها وبساطتها وصدقها، ولم يكد يبلغ الخامسة عشرة من عمره حتى أصبح مسحوراً بجان جاك روسو، وإنه من فرط تأثره به ليكاد ينسى كل شيء غيره، وقد بلغ افتتانه به أنه استبدل صورة له بما كان يضع فوق صدره من صليب، واقبل على اعترافاته وكتابيه (إميل) و (هلويز الجديدة) فقرأها مرة بعد مرهة، وكلما أعاد قراءتها ازداد حبه لها واشتد تأثره بها. قال بعد ذلك يصف هذا السحر (كانت صفحات كثيرة منه وثيقة الصلة بنفسي، حتى لقد خيل إلي أني أنا الذي كتبتها لا محالة).
ويمتلئ ذهن الفتى في السادسة عشرة بكثير من مسائل الفلسفة، بل إنه ليطمع أن يحل ألغاز هذا الوجود فيشغل نفسه بالنظر في خلود الروح ووظيفة الإنسان في هذا الكون وصلته به وإمكان وجود حياه أخرى إلى أمثالها من المعضلات والمسائل.
وينظر الفتى في نفسه فيصل إلى رأي، وذلك أن سعادة المرء لا تتوقف على العوامل الخارجية في ذاتها ولكن على صلة الإنسان بهذه العوامل، ومن ذلك مثلاً أن الإنسان إذا أخذ نفسه بالتقشف وتعود الآلام ألف شقاء العيش وآلامه فلن يشقى به ولن يألم منه وعلى ذلك فقد أخذ نفسه بألوان من العنف والشدة كأن يحمل بعض الكتب الثقيلة زمناً ويداه ممدودتان، وكان يضرب جسمه وقد تعرى بحبل حتى تدمع عيناه، ثم إنه يقنع نفسه بأن التفكير في الموت أمر لا محل له وللإنسان أن يستمتع بالساعة التي هو فيها فالموت أمر لابد منه والحياة أتفه من أن يعنى بها المرء قلبه، فليمرح الفتى ما وسعه المرح ولينصرف عن الدرس وليقبل على كل ما يلذه من طيبات الحياة خيرها وشرها وليقض وقته في قراءة القصص وأكل الحلوى. . .
ويحاول أن يتدسس إلى أعماق نفسه ليرى ماذا يجري في شعوره فيصل به الأمر إلى ما يقرب من الخبل، تجد ذلك في قوله (وكنت أفكر في أني أفكر فيما كنت فيه أفكر) وإنه ليستغرق في تفكيره هذا حتى ليأكل ما في يده ذات مره من ديدان كان أعدها طعماً للسمك
أثناء صيده ثم يمج الديدان من فمه بين الضحك والتقزز.
ولا يلبث الفتى حتى يجد نفسه قد أخذه التشاؤم من جميع أقطاره، ثم يجد نفسه مستغرقاً في هذا التشاؤم استغراقاً، فلا فكاك له منه ولا منتدح عنه. تجد ذلك واضحاً في عبارة جاءت له في كتابه (عهد اليفاعة)، ولئن كان هذا الكتاب كسابقه (عهد الطفولة) وكلاحقه (عهد الشباب) لم يكتب على أنه تاريخ حياته فأن أكثر ما جاء فيه من وصف لشخصيات خلقها وأكثر ما جاء على ألسنه هذه الشخصيات يدر حول حياته ومن كان له بهم في هذه العهود صلة. قال (لم تشتد نزعة فلسفية في نفسي كما اشتدت نزعة التشاؤم، تلك النزعة التي أشرفت بي ذات مرة على حافة الخبل فقد تخيلت أنه ما من شيء أو شخص هو قائم في هذا الوجود بجانب شخصي؛ وأن الأشياء جميعاً ليست أشياء فقط، ولكنها صور فحسب لا تظهر إلا عندما أتجه بفكري إليها، وإنها لتختفي حين ينتهي تفكيري فيها؛ وقصارى القول أني وافقت شلنج فيما ذهب إليه من أن الأشياء لا وجود لها في ذاتها وإنما الموجود هو علاقتي بها؛ ومرت بي لحظات وصلت فيها تحت تأثير هذه الفكرة المتسلطة علي إلى حالة من الخبل حتى لألتفت في سرعة حولي كي أدرك اللا شيء. . . لقد ازدهتني هذه الكشوف الفلسفية التي بلغتها وأثارت غروري إلى حد عظيم، وكثيراً ما تخيلت أني رجل عظيم يكشف حقائق لخير بني الإنسان، وبهذا الشعور الذي انطوت عليه نفسي، شعور الكبرياء نظرت إلى باقي البشر، ولكني ما واجهت أحداً من هؤلاء الفانين إلا أحسست بالخجل حياله، الأمر الذي يحمل على كثير من العجب، وكلما رفعت قدري نفسي شعرت أني أقل مقدرة لا على إظهار ما يخالجني من شعور الرفعة فحسب، بل كذلك على أن أعود نفسي أن أتجنب الخجل الذي يعتريني من أبسط كلماتي وحركاتي).
وتتوزع فؤاده هواجس الشباب وأحلامه، فبينما هو مستغرق في تشاؤمه مسرف فيه، إذا به يميل بغتة إلى التفاؤل فيجمع عزمه على أن يجد في تحصيل دروسه وأن يكون خير مثال للطالب المجتهد، ويذهب به التفاؤل إلى حد أن يعتزم العمل على أن يكون موضع إعجاب كل من يراه من الناس فإن لم يتفق له هذا في نواحي الكفاية والبطولة، فليس ذلك بمانعه أن يبلغ مأربه في أن يصبح أغنى بني الدنيا وأشهرهم مكانة.
ولكنه لا تكاد تنقضي أيام على ما عقد عليه العزم حتى يعود إلى تشاؤمه والى بطالته
ولهوه، ثم إنه يطلق العنان لرغبات جسده، وهو فتى قوي البدن متدفق الحيوية يكاد يلتهب مم يخالجه من رغبات هذا البدن على الرغم من إسرافه فيما يطفئ به هذا الظمأ المتصل به؛ وما يزال به شيطانه يغريه ويزين له كثيراً من الإثم، ويسوقه إلى مهاوي الفتنة حتى يوقع في حبائله فتاة من الخدم ذات ملاحة فيغويها ويقضى منها وطره! ويبلغ نبأ هذا الإثم عمته فتطرد الفتاه من البيت إلى حيث تتلقاها مهاوي الرذيلة ثم يطويها الموت قبل أوانه على صورة محزنة نكراء. . .
وما يعنينا هذا الفعل إلا لأنه استقر في أعماق وجدانه. فكان منه حين تجاوز السبعين من عمره صورة فذة لأهم شخصية في قصة تعد من أعظم آثاره الفنية وأخلدها ألا وهي قصة (البعث)
ويضطرب الفتى اضطراباً شديداً بين وساوس الشباب، فما يكاد يخالجه الندم على ما يعده تفريطاً منه في جنب الفضيلة، حتى يستسلم ثانية إلى الرذيلة، ثم يعود فيجمع عزمه على الورع والطهر والعفة وعلى أن يأخذ نفسه بالجد من الأمور، ولكنه لا يلبث حتى ينقاد إلى ما يوسوس له به شيطانه.
وهكذا ما يزال الفتى يتعلق بالكمال مرة، وينحدر حتى يقرب من قرارة الانحطاط مرة، ويرضى عن نفسه حيناً ويجثم على صدره الندم حيناً، دون أن يستقر على وضع أو يركن إلى رأي. . .
وللمرء أن يعجب حقاً من أن تشغل الفتى مثل هاتيك الأمور في سن كسنه يومئذ؛ ولقد كان بعد ذلك بسنين يشعر بما عسى أن تثير من عجب، بل إنه كان يخشى ألا يصدقها المرء أو أن يردها إلى المبالغة في القول كما ذكر ذلك في كتابه (عهد اليفاعة). فما كان التفكير المتصل في الحياة والناس، وما كانت الرغبة في بلوغ الكمال وتلمس السبيل إلى تحقيق تلك الرغبة مما يكافئ تلك السن، ولولا ذلك الوضع الذي كان فيه وهو حدث لم يلتحق بعد بجامعة من الجامعات، وحسب أنداده أن يقرأ الفتى منهم قصة أو يلهو بديوان شعر. . .
ولكنه كان فيما يشبه الحمى يومئذ مما يجول في رأسه من أفكار وما يهجس في نفسه من خواطر، وما يلج تلك النفس الحائرة من رغبة في السمو ومن طموح نحو المثل الأعلى، وإن تولستوي الفتى اليوم لهو صورة مصغرة لتولستوي الكاتب العظيم في غد، يوم يشتغل
ذهنه الجبار بالفن وبالدين وبمسائل الاجتماع، ويوم يبحث حائراً قانطاً أول الأمر عن الغرض من هذه الحياة، حتى تنزل الكنيسة عليه إذ يرى أن الغرض من الحياة يتلخص في العمل على السمو بها نحو ما يريد الله من كمال.
وإن تحمسه للمعرفة على هذه الصورة واهتمامه بان يبلغ ما يطمح إليه من رفعة لدليل لا يدع مجالاً للريب على أنه فطر على البحث عن الحقيقة وأنه من العباقرة القلائل الذين تفطن بهم الإنسانية إلى سر وجودها، والذين يأتون إلى العالم على فترات من الزمن ليقيموا الدليل بوجودهم في ذاته على أن حياة الإنسان جديرة بأن يحياها الإنسان.
وإنك لتجد مثالا لما كان يعنى به نفسه يومئذ فيما جاء بكتابه (عهد اليفاعة) قال:
(كنت يومئذ في نحو السادسة عشرة، وكان العرفاء لا يزالون يترددون علي، وكنت أتهيأ في فتور وكره لألتحق بالجامعة. . . وفي ذلك الوقت الذي أعده نهاية اليفاعة وبدء الشباب، كانت تقوم أحلامي على مشاعر أربعة: أولها حبي (لها) تلك المرأة الخيالية التي كنت أحلم بها دائماً على وتيرة واحدة والتي كنت أتوقع أن ألقاها في أية لحظة في أي مكان ما؛ وثانيها محبتي في أن أغدو محبوباً، فقد رغبت في أن يعرفني كافة الناس وأن يحبوني، ورغبت في أن أصرح باسمي فأجد من الناس جميعاً ما يدل على اهتمامهم بما أصرح به وأراهم يحيطون بي فيسمعوني شكرهم إياي على أمر ما؛ وثالثهما أملي في حظ عظيم غير عادي، وقد بلغ من تسلط هذا الأمل علي أن أشرف بي على الجنون، ورابع مشاعري وهو أهمها كان إحساسي باشمئزازي من نفسي واستشعاري الندم، ولكنه كان ندماً ممتزجاً بالأمل في السعادة ولذلك لم يخالطه الحزن. . . ولقد أحسست السرور في نفوري من الماضي وحاولت أن أجعله أكثر اسوداداً مما كان عليه في واقع الأمر. وذلك أنه كلما كانت ذكرياتي عن الماضي أكثر سواداً، ظهر لي الحاضر الناصع الواضح أكثر وضاءة ووضوحاً، وتراءت لقلبي أحلام المستقبل أكثر جمالا وبهجة، ولقد كان ذلك الصوت المنبعث في نفسي صوت الندم والرغبة القوية الحادة في بلوغ الكمال هو الإحساس الرئيسي لروحي في تلك الحقبة من نموي، وكان هو الذي رسم لي أساس نظراتي في نفسي وفي البشرية وفيما خلق الله من كون).
وكان له يومئذ صديق في قازان، كان فتى طويل القامة، عريض المنكبين حسن الهيئة، في
وجهه ملاحة ورقة، يبتسم عن أسنان جميلة دقيقة، ويزين رأسه شعر مسبل ناعم، ولكنه كان على الرغم من ذلك خجولاً كصاحبه إذا لقي الناس، بل لعله كان أشد منه خجلاً وأكثر حساسية. . .
وقد حبب هذا الفتى إلى تولستوي إخلاصه لما يعتقد من رأي وتحمسه له وصراحته في التعبير عما في نفسه مهما يكن من أمره، وقد سأل ديا كوف ذات مرة - وهذا هو اسمه - صاحبه تولستوي قائلا أتدري لماذا أحبك أكثر مما أحب غيرك؟ ذلك لأنك صريح لا تكتم شيئا في نفسك، وهكذا يجتمع الفتيان على الصراحة فتربط بينهما، وإنهما ليتقاربان في كثير من ميولهما، ويتضح لهما ذلك فيما يديرانه بينهما من حوار في أمور كثيرة، فيما يتصل بالدين وفيما يتصل بالمجتمع وأركانه من حكومة وتعليم ونظم مالية وما إليها.
ولقد كان هذا الفتى شديد التأثير في حياة صاحبه فما فرغ من محاورته مرة إلا قويت في نفسه الرغبة في العمل على الكمال المنشود، والانطلاق من حياه اللهو والعبث، تلك الحياة التي يذهب فيها العمر سدى، ولئن لم يك لتولستوي ما لصاحبه من حسن الهيئة فليس ذلك بمانعه أن يعمل على كسب ما يحمل الناس على الإعجاب به مما هو أهم وأجدى من المنظر وحسن الطلعة، بل إنه لحافزه إلى ذلك العمل الذي يعقد عليه عزمه.
على أنه عزم كأكثر مما يعتزم الشباب فما يلبث أن يذهب فيما تحيطه به الحياة من مسراتها ومغرياتها، ولكم اضطرب تولستوي بين عزمه وبين لهوه، ولكم جدد العزم ثم تحلل من عزمه.
وكان ديا كوف هو شخصية ديمتري في كتابه (عهد اليفاعة) فما يفوت كاتب الغد أن يصور أشخاصه كما رآهم في مضطرب الحياة، ولن ينسى شيئاً مما رأى أو يسهو عن أمر يتصل بما يقوم في رأسه من فكرة مهما بلغ من ضآلة هذا الأمر، وتلك ناحية من أهم نواحي مقدرته الفنية يوم يغدو أعظم من كتب القصة في أدب قومه وأحد أفذاذها القلائل في أدب أوربا كلها. .
وستمضي الاعوام ويبقى أثر ديا كوف في نفسه، فقد كان مما أوحته إليه صحبته عبادة الفضيلة، وأن غاية الإنسان في الحياة العمل على بلوغ الكمال والسمو بالنفس أبداً، وسوف يظهر أثر ديا كوف في قصة الحرب والسلم فيما جاء على لسان (أندري) أحد شخصيات
القصة قبل معركة أوسترلتز إذ يقول (إني أرغب في المجد، أرغب أن أكون معروفاً عند الناس وأن يحبني الناس، ومالي رغبة غير هذه، وما أعيش إلا من أجلها. . . وإني وإن كان ذلك مني أمراً مروعاً غير طبيعي لأضحى حتى بأعز الناس عندي في سبيل لحظة من المجد والفوز على الرجال ومحبة من لا أعرفهم من الناس ومن سوف لا أعرفهم أبداً
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
874 -
الله
التبصر في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين لأبي المظفر عماد الدين الأسفرايني:
إن الله لا يجوز عليه الكيفية والكمية والأينية، لأن من لا مثل له لا يمكن أن يقال فيه: كيف هو؟ ومن لا عدد له لا يقال فيه: كم هو؟ ومن لا أول له لا يقال له: مم كان؟ ومن لا مكان له لا يقال فيه: أين كان؟
وقد جاء فيه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أشفى البيان حين قيل له: أين الله؟
فقال: إن الذي أين الأين لا يقال له: أين.
فقيل له: كيف الله؟
فقال: إن الذي كيف الكيف لا يقال له: كيف.
وسأله آخر: ما جهة وجه الله؟ فأمر حتى أتي بشمعة فوضعها في أنبوبة قصب فقال للسائل: ما وجه هذه الشمعة؟ وبأي جانب مختص؟
فقال له السائل: ليس بمختص بجانب دون جانب
فقال: ففيم السؤال إذن؟
857 ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم:
إن اليهود يقولون للدنيا أربع آلاف سنة ونيف، والنصارى يقولون: للدنيا خمسه آلاف سنة، وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا، وأما من ادعى في ذلك سبعة آلاف سنه أو أكثر أو أقل فقد كذب، وقال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظه تصح، بل صح عنه عليه السلام خلافه، بل نقطع على أن للدنيا عمراً لا يعلمه إلا الله عز وجل قال الله (تعالى)(ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنتم في الأمم قبلكم، إلا كالشعرة البيضاء في الثور
الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض) هذا عنه عليه السلام ثابت، وهو عليه السلام لا يقول إلا عين الحق، ولا يسامح بشيء من الباطل. . .
876 -
أثر العربية والأدب في يهودي
عيون الأخبار لابن قتيبة:. . . أبو العيناء قال: كان بالبصرة لنا صديق يهودي، وكان ذا مال وقد تأدب وقال الشعر، وعرف شيئاً من العلوم، وكان له ولد ذكور، فلما حضرته الوفاة جمع ماله وفرقه على أهل العلم والأدب، ولم يترك لولده ميراثا، فعوتب على ذلك فقال:
رأيت مالي ابرّ من ولدي
…
فاليوم لا نحلة ولا صدقة
من كان منهم لها فأبعده=الله ومن كان صالحا رزقه
877 -
فلو أنني لاقيته ما عرفته
تتمة اليتيمة: أبو الحسن محمد بن الحسين العثماني قال:
أنشدني ابن المغربي الوزير لنفسه في بلوغ الغاية من السلوة، ولم أسمع في معناه أبلغ منه:
حبيب ملكت الصبر بعد فراقه
…
على أنني علقته والفته
محاسنُ يأسي شخصه من تفكري
…
فلو أنني لاقيته ما عرفته
878 -
اقعد، اجلس
وفيات الأعيان: هو (أي ابن خالويه) القائل: دخلت يوما على سيف الدولة بن حمدان، فلما مثلت بين يديه قال لي: اقعد، ولم يقل اجلس، فتبينت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب واطلاعه على أسرار كلام العرب. وإنما قال ابن خالويه هذا لأن المختار عند أهل الأدب أن يقال للقائم: أقعد، وللنائم والساجد: اجلس، وعلله بعضهم بأن القعود هو الانتقال من العلو إلى السفل، ولهذا قيل لمن أصيب برجليه: مقعد، والجلوس هو الانتقال من السفل إلى العلو، ولهذا قيل لنجد: جلساء لارتفاعها وقيل لمن أتاها: جالس وقد جلس، ونه قول مروان ابن الحكم لمن كان والياً بالمدينة يخاطب الفرزدق:
قل للفرزدق والسفاهة كاسمها
…
غن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
أي اقصد الجلساء وهي نجد.
879 -
أمر لا يدرك إلا بالذوق
ابن أبي الحديد: غن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق والحلو والاحلى والعالي والأعلى من الكلام - أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه، وهو بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء، مشربة حمرة، دقيقة الشفتين، نقية الثغر، كحلاء العينين، أسيلة الخد، دقيقه الأنف، معتدلة القامة. والأخرى دونها من هذه الصفات، والمحاسن لكنها أحلى في العيون والقلوب منها وأليق وأصلح، ولا يدري لأي سبب كان ذلك. ولكنه بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله. وهكذا الكلام، نعم يبقى الفرق بين الموضعين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعض على بعض يدركه كل من له عين صحيحة وأما الكلام فلا يعرفه إلا أهل الذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك ينبغي أن ترجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض إن كنت عادماً لذلك من نفسك.
880 -
يا ظبية البان ترعى في خمائله
في (الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم) للصفدي:
(ما من شاعر في الغالب إلا وقد عارض الشريف الرضي في قصيدته التي أولها:
يا ظبية البان ترعى في خمائله
…
ليهنك اليوم إن القلب مرعاك
وما منهم من رزق سعادته).
قلت: هذه أبيات منها، قال بعد المطلع:
الماء عندك مبذول لشاربه
…
وليس يرويك إلا مدمع الباكي
هبت لنا من رياح الغور رائحة
…
بعد الرقاد عرفناها برياك
حكت لحاظك ما في الريم من ملح
…
يوم اللقاء فكان الفضل للحاكي
كأن طرفك يوم الجزع يخبرنا
…
بما طوى عنك من أسماء قتلاك
أنت النعيم لقلبي والعذاب له
…
فما أمرّك في قلبي وأحلاك
سهم أصاب وراميه بذي سلم
…
من بالعراق لقد أبعدت مرماك
عندي رسائل شوق لست أذكرها
…
لولا الرقيب لقد بلغتها فاك
لو كانت اللمة السوداء من عددي
…
يوم الغميم لما أفلت أشراكي
من بودلير
أوهام.
للأستاذ محمد علي مخلوف
نسيت وفي أحداث يومي ما ينسي
…
فلا تذكري ما كان مني بالأمس!
أجل كنت ريان الجوانح بالمنى
…
وكنت قرير العين أنعم بالأنس
هي الموجة. . . الفرحى تضل طريقها
…
إلى القلب في ألفاف موج من البؤس
أنا الشاعر الحيران في عالم الرؤى
…
أُطل على الأكوان من هيكل القدس
تغازلني الأرواح في سبحاتها
…
وتنشدني حتى أغيب عن حسي
وأحيا على الدنيا غريباً مشرداً
…
حليف هوى حتى يواريني رمسي
وأصبو إلى الأنغام والغيد والطلى
…
وإن عصفت أفكاري السود في رأسي
يريب رفاقي ما بدا من تمردي
…
وإيثاري اللهو البريء على درسي
وما علموا أني دفنت مواهبي
…
وحطمت أقلامي وثرت على طرسي
وردد فيَّ الدهر أنشودة البلى
…
مغلفة الأصداء خافتة الجرس!
وأخرست الآلام أوتار مزهري
…
وغاضت ينابيع السعادة في نفسي
لقد فرغت كأسي. . . فمن لي بغيرها
…
وهيهات أن أحيا وقد فرغت كأسي
ظننت الهوى يدني من الخلد موكبي
…
فكان الهوى دون المظنة والحدس
وفي حقل عمري كم غرزت تجارباً
…
ولكن غيري قد جنى ثمر الغرس
وقلبي في نهر الحياة سفينة
…
تميد على صُم الصخور ولا ترسي
يلين إذا مسَّ الرجاء شغافه
…
ويقسو إذا طافت به ثورة اليأس
ويحمل أعباء ثقالا. . . تؤوده
…
ولا يتشكى حين يصبح أو يمسي
بلى إنه في الحب قد صار كالذي
…
تخبطه الشيطان من ألم المسِّ
وفي الشك للحيران ومض هداية
…
يضجُّ معانيه، فيرتاح للهمس
لقد بعت في سوف المآثم عفتي
…
وحظي من الأخلاق بالثمن البخس
وها هو ذا ثوب التقى قد نزعته
…
لتغسله الأقدار في حمأة الرجس
طمست على قلبي فغاب صوابه
…
وهوَّم في داج من الريب والهجس
وإن حياتي لن يضيء ظلامها. . .
…
سوى قبس من نور حسنك يا شمسي
فلا تذكري ما كان مني بالأمس!
…
نسيت وفي أحداث يومي ما ينسى
قبل الرحيل
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
أغداً أرحل عن جنة حبي
…
أغداً؟ لا كان من عمري غد!
تاركا في معبد الأشواق قلبي
…
تعبث الذكرى به والموعد!
كل شيء هنا يذكر أني
قد أذبت الوجد من قلبي وعيني
…
وغداً أرحل!!. . . لا كان غد
يا عيوني. . . ودعيها ثم نوحي
…
فحرام أن ترى الدمع بعيني
وابسمي صبراً كما تبسم روحي
…
بالذي يخلد في قلبي وأذني
من ليالي الوصل في ضل الأماني
حينما كنا كأصداء الأغاني
…
نتهادى وغدا. . . تبعد عني!
أغداً أرحل عن وكر الأماني
…
وغداً تذبل أزهار اللقاء
يا غدي لا كنت من عمر الزمان
…
لا رأتك العين يا ظل الفناء
كيف أحيا مفرد القلب غريبا
كيف أنسى ثغرها الحلو الحبيبا
…
كيف أنساها. . . وأيام الهناء
يا طريقي. . . كم هاهنا سرنا معاً
…
أترى في البعد تنسى خطواتي؟
وهنا الحب. . . بقلبينا سعى
…
راقص الفرحة حلو الأغانيات
كم ضحكنا. . كم بكينا. . ها هنا
وانطلقنا. . خلف أسراب المنى
…
آه ما أقسى فراق الذكريات
بين مصر والسودان:
قصة الروح. . .
للأستاذ عثمان طه شاهين
أخذت الحضارة تصلح على ضفاف النيل وواديه منذ أن بدأ الإنسان يشتغل بالزراعة وبدأت حياة الاستقرار وإنشاء الحكومات، وحيث أن المصريين - كما يقول هيرودوت - هم أقدم أمة متمدينة على الأرض فقد أخذت حضارتهم تنبث إذن على ضفاف الوادي متجهة مع الماء نحو الجنوب، تاركة فيه رواسب متباينة من هذه المدنية القديمة، وعلى هذا الأساس فقد بذرت البذور الأولى من قصة هذه الروح، ثم أن هذه الصلة قد تكونت عن صدق وإخلاص لأن السودانيين كانوا يدينون بالدين المصري القديم ويتكلمون اللغة المصرية.
يرى المحدثون من الباحثين أن معالم الحضارة المصرية القديمة والثقافة العربية قد تسربتا إلى السودان الشمالي عن طريق مصر، وقد استطاع هذا الإقليم أن ينتج في وقت ما حضارة شبه مصرية من حيث طابعها ومظهرها، ومنه خرج الغزاة اللذين أسسوا إحدى الأسر الفرعونية كما أنه أقرب من حيث ثقافته وحالته البشرية العامة إلى مصر من إقليم النوبة الشمالية نفسه مما يرجح الأخذ بان قصة هذه الروح تقوم على دعائم ثابتة وعلى أركان وطيدة راسخة تمد الروح من جهادها العبقري للتخلص من وبقة الاستعمار.
فالروح في الشمال لم تستكن يا صاح - في تاريخها الطويل - للغزاة الفاتحين؛ فإذا نظرنا إلى غزاة مصر من الإغريق والرومان فأنا نجد أنهم لم يفلحوا في فرض طابعهم على الحياة المصرية ذلك لأن هنالك قوة حيوية كامنة في نفوس المصريين تستحثهم الدوام وتوجههم للثورة على الغالبين، فغدوا هم غالبين منتصرين، مسيطرين على المجرى الطبيعي لوادي النيل؛ ومن هنا ندرك أن الروح المؤمنة الشاعرة تنتصر على الدوام لأن رسالتها تنبعث من قوى الإيمان الصادق.
وإذا انتقلنا مع الزمان نقلة سريعة باحثين عن الأثر الذي تركته الحياة العربية في جنوب الوادي فإننا نلمح تجاوباً سريعاً في حياة الروح في الشمال والجنوب، ذلك لأن الآلام واحدة والآمال واحدة كذلك، ومرجع ذلك ومرده إلى وحدة اللغة والدين والعادات والتقاليد، لأن
حياة الأمم - كما نعلم - لا تتكون إلا عن طريق هذه النظم الإجماعية الكبرى التي تعبر تعبيراً صادقاً عن التطور الطبيعي المرموق، وعلى هذا فالإيمان الذي يدعوا إليه أبناء الشمال عن الجلاء ووحدة الوادي يجد سبيله النافذ إلى أبناء الجنوب فهم يستمسكون به ويدافعون عنه ويضحون في سبيله بأغلى ما يملكون. فالروحان المتعانقان في الشمال وفي الجنوب يؤمنان ويجاهدان ويعملان. . .
ولكن ما هي العناصر التي تمد هذه الروح وتذكيها، وما هي الآثار التي يخلفها هذا الإيمان، وما هو المدى الذي تتطلع إليه هذه الروح في غدها القريب السعيد؟ كل هذه النتائج يتلمسها المتتبعون لسير الحوادث في جنوب الوادي في هذه الآونة الأخيرة؛ ذلك أن حركة وادي النيل قد أخذت تظهر منذ أن هب المخلصون من السودانيين تلك الهبة المعروفة والتي تمخضت عن حوادث سنة 1924 الدامية إذ قتل فيها من قتل وشرد فيها من شرد، فكانت تلك الحركة إذن وقوداً يذكي لروح الشعبية في جنوب الوادي، وقد وجدت تلك الحركة صداها في نفوس الشعراء من شباب ذلك الحين فانبعثت الألحان الثائرة من عبد الله بن عبد الرحمن، ومدثر البوشي، وعبد الله البنا، وصالح عبد القادر. فكانت الشرارة الأولى للروح الثائرة المؤمنة. . .
وإذا نظرنا إلى قصة الروح في الشمال فإنا نجد أن الحملة الفرنسية قد كان لها دور بعيد في تأريخ هذه الروح، إذ كان الفرنسيون أول أمة غربية هبطت مصر في تأريخها الحديث واستولت عليها، وبهذا فقد اتجهت أنظار الدول الأوربية إلى مصر وغدا لها في تاريخ الروح الأوربية طور جديد؛ أضف إلى هذا أن إنكلترا قد أخذت تهتم بمصر اهتماماً عظيما وذلك لمركزها الجغرافي المرموق، وأخذت تعمل - بالتالي - للحيلولة دون وقوع مصر في يد دولة غربية أخرى، ومن هنا تلعب قصة الروح دورها الذي انفردت به من بعد على مدى التاريخ؛ ومن هنا ظهرت لجنوب الوادي مكانته في نظر السياسة الإنجليزية كما هو معروف.
ومن البداهة أن يلاقي العباقرة من العظماء والمجاهدين والفنانين الآلام المبرحة في سبيل الوصول إلى القمة في حياة الروح، ذلك لأن التخلص من طبيعة الأرض يمسك بهم من الانفلات والصعود فيجاهدون ويجاهدون، ومن البداهة كذلك أن تلاقي الأمم هذه الآلام في
تاريخها للوصول إلى العزة والكرامة والاستقلال، فالإيمان والمثابرة شرطان ضروريان للروح في سبيل تلمس مثلها العليا الكريمة، والغاية قريبة - مهما بعدت الشقة - إذا دعمتها إرادة قوية وإيمان مطلق.
كانت الروح التي نادى بها جمال الدين الأفغاني مشتعلة وهاجة، إذ لبث في مصر سنوات يتصل بالطلبة من كل أرجاء العالم الإسلامي ويبث تعاليمه ومبادئه فتجد الاستجابة المؤمنة في نفوس أبناء الأزهر بشكل لم يعهد له مثيل في العصور الحديثة وأخذ الإمام محمد عبده يعيد للفكر قدسيته وللدين مكانته من حيث النظر العقلي السديد مما يذكر الباحثين بابن رشد حينما أراد أن يؤاخي بين الشريعة والحقيقة، ومن هنا كان لهذه الحركة صدى بعيد في الجنوب فارتبط الجهاد على الإصلاح والإيمان كما يرتبط اليوم على الجلاء والوحدة، وكان ذلك النشاط المرموق يستمد قوته وبقائه من الحركة العرابية في الشمال ومن حركة المهدي في الجنوب، وعلى هذا فقد تلاقت الأكف والقلوب والحناجر بالدعاء والتضحية والإباء. . . .
أما اليوم - في حياتنا المعاصرة الرشيدة - فقد أخذت الروح في الشمال تعبر تعبيراً صادقاً عن إيمانها بالجنوب، وأخذ الأديب السياسي الفنان هيكل باشا يصوغ هذا التعبير إذ قال:(إن مصر لم ترد في يوم من الأيام سيطرة على السودان ولا تسلطاً على أهله ولا استغلالا لموارده، ولكنا ونحن نعيش في واد واحد تتحد فيه مرافقنا واقتصادياتنا ومقوماتنا جميعاً لا يستطيع أحدنا أن يستغني عن صاحبه في الشمال أو في الجنوب، كما أن أهل لغرب طالما كرروا ويكررون أن الأمم الصغيرة خاصة لا يمكن أن تعيش وحدها بل يجب أن تتكتل لتصبح قوية قادرة على التعاون، والأمم لا تتكتل إلا إذا تجاورت، وليس هناك تجاور أقرب من تجاور السودانيين والمصريين).
وأخذت الروح في الجنوب تعبر تعبيراً صادقا عن إيمانها بالشمال وتجعل هذا التعبير في القوى المدخورة التي ادخرتها الأمة لوفدها الأمين، وفي هذه الآثار القوية المتجلية في وجود الشعب ومشاعره وأحاسيسه وفي الأفكار التي يبعث بها الجنوب على صفحات الصحف المحلية والخارجية وفي الوثيقة الدموية التي خطها الشباب بقلبه وروحه ودمه، وفي كل ما يحدث من ثورات ويسيل من دماء تعبر عن هذا الإيمان وتكشف عن طبيعة
الروح وهي تتخذ طريقها للتعبير. . .
آمنت الروح على ضفاف الوادي بأنها ستنال حريتها وكرامتها، وكان من طبيعة هذا الإيمان أن تتجاوب أنغام التضحية والفداء فأخذت القلوب تتلاقى في الشمال والجنوب مؤمنة برسالة الحرية والإخاء داعية لأنغام الجهاد، فسالت الدماء الطاهرة على قرى الوادي مؤذنة بميلاد الفجر الجديد، وارتفعت الحناجر منادية بالثورة في شباب الجامعة في الشمال وفي أروقة العلم في الجنوب ولفظ الشهداء أنفاسهم الأخيرة وهم ينادون بالاستقلال للوادي الكريم، فأذن المؤذن بميلاد الفجر الجديد.
نعم، قد أراد الوادي اليوم أن يكون خالصاً لبنيه، وإذا أرادت الأمم شيئاً فهي واصلة إلى ما تريد. فالروح إذن إنما تعبر تعبيراً صادقاً عن أحاسيس أبناء الوادي ومشاعرهم وتترجم عن مواطن القوة والكمال فيهم:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
…
فلا بد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
…
ولا بد للقيد أن ينكسر
ذلك لأن إرادة الحياة - كما يقول الشابي - إنما تخلق بالأمم القوية الشاعرة التي تؤمن برسالتها في الحياة وفي حقها في الوجود.
يا إخوان الطفولة ويا حماة العرين! انظروا إلى الأسد البريطاني يفغر فاه ليلتهم القوى المذخورة في النفس. فلنكن يقظين، فالإنجليز معكم يا إخوان يسيطرون على كل شبر في الجنوب، وينبشون بينكم في كل مكان، ويصرفون الأمور بعددهم العديد الجم، فكونوا يقظين حريصين ناظرين، واعلموا أن جهادهم في الحرب قد استنفد منهم كل ما يملكون وفي الجنوب عوض للجهود التي بذلت وللنفوس التي حطمت وللأرواح التي حاق بها الخسران. . .
هل تؤمنون اليوم بان الإنجليز يؤيدون حركة الانفصال ويرعونها لأن فيها خير البلاد ورفاهيتها وتقدمها، وهل يقوم حاكم السودان بجولاته في الغرب والشرق، شارحاً قصة الحكم الذاتي، متحدثا ًعن أسطورة الاستقلال، داعياً إلى مذهبه الجديد، هل يصدق أولئك وغيرهم بأن الحاكم الإنجليزي يفعل ذلك لخير السودان أم لخير الإمبراطورية!؟
نحن مؤمنون يا صحاب بأن موسيقى الحياة تسير على أنغام عذاب، ونحن مؤمنون بأن
حركة الانفصال تلعب بها أصابع خفية ناشزة، فلتشدوا الأوتار من جديد ولتصلحوا الحياة، كيما تستقيم، واعزفوا لأطفال اليوم ورجال الغد بأن الإنجليز هم الداهية الدهياء في الشرق الحديث، وابعثوا الأنغام هادئة نقية، وآمنوا بأن للوادي روحاً وجسما وانظروا إلى رسالة السماء. . .
ولتسر هذه الروح مؤمنة برسالتها في الشمال وفي الجنوب واليدان ممدودتان - من ريشة الفنان - قبل الأرض تباركان الخير وتبذران الحب للساعين. . .
عثمان طه شاهين
ليسانسيه في الفلسفة
الأدب والفن في أسبوع
هذا واجب قومي:
تلقت وزارة المعارف رسائل من بعض الهيئات الثقافية والعلمية في الحبشة وإريتريا وجنوب أفريقيا والهند وغيرها من الأقطار الإفريقية والأسيوية وكلها تطلب أن تساعدها الوزارة ثقافياً وعلمياً بما يعينها في أداء مهمتها، وكلها تلح أن تبادر الوزارة المصرية إلى بذل هذه المعونة لشدة الحاجة إليها.
ولست أدري ماذا صنعت أو ستصنع الوزارة بهذه الطلبات ولا مدى ما عندها من الاستعداد لبذل المعونة المطلوبة، ولكني أبادر فأقول إن من الواجب على الوزارة أن تبذل هذه المعونة، وتلبي جميع هذه الطلبات مهما كلفها الأمر ومهما لقيت في سبيل ذلك من الضيق والرهق، لأنها بهذا تؤدي واجباً على مصر نحو قوميتها ونحو مكانتها.
إن مصر تقف اليوم موقف الزعامة للعالم الإسلامي والعربي، وللمجد تكاليف شاقة مرهقة، فنحن لا نستطيع أن نحتفظ لمصر بزعامتها ولا أن ندعم مكانتها عند الأقطار العربية والإسلامية إلا إذا حققنا لهذه الأقطار ما تنشده عندنا وما ترجوه فينا وتطلبه منا، وقد كان من الواجب علينا أن نتبرع بهذه الخدمات الثقافية، فكيف وقد توجه إلينا الرجاء بتحقيقها والنهوض بتأديتها. . .
لقد قرأت فيما قرأت من أنباء هذا الأسبوع أن إنجلترا تعاني من داخل بلادها ضنكا في شؤون المعيشة، وأن أفراد الشعب هناك لا يحصلون على حاجتهم من مواد الطعام واللباس، على حين أن إنجلترا تصدر الكميات الضخمة من هذه المواد إلى الخارج، وذلك لأنها تريد أن تحتفظ بأسواقها التجارية وأن تظل عند أمل الشعوب التي تقع تحت سيطرتها فيها، فهي تضحي وتطلب إلى شعبها أن يحتمل الرهق حتى لا تغلبها دولة منافسة على أسواقها، وحتى لا تجد أمة فرصة لاقتحام الميدان عليها. . .
فيا حبذا لو أخذت وزارة المعارف عندنا بهذا المبدأ في تلبية ما يطلب منا من تأدية المعونات الثقافية في الخارج، ويا حبذا لو قدرت الوزارة أن الأمر واجب قومي لابد فيه من التضحية وتجنيد الجهود مهما كنا في أشد الحاجة إلى تلك الجهود.
المعجم اللغوي التاريخي:
يشتغل المجمع اللغوي الآن بإنجاز المعجم اللغوي التاريخي الذي وضعه المستشرق الألماني المعروف الدكتور فيشر، وقد قدر المبلغ اللازم لطبع هذا المعجم وإخراجه بألف وخمسمائة جنيه، وإنه في الواقع لمبلغ ضئيل بالنسبة لقيمة ذلك المعجم النافع الذي ليس له مثيل في اللغة العربية.
أقول لا مثيل له في العربية لأنه ليس لدينا معجم لغوي يشرح تطور الكلمات العربية في دلالاتها ومعانيها وما جرى في استعمالاتها المختلفة على نحو ما يعني به علماء فقه اللغة، وقد حاول جار الله الزمخشري في معجمه (الأساس) وضعاً قريباً من هذا ولكنه جعل قصده إلى إظهار تطور الألفاظ وانتقالها من الاستعمال الحقيقي إلى الاستعمال المجازي. وفي العصر الحديث عمد المستشرق فيشر إلى سد هذه الثلمة في القواميس العربية ولما لم تكن هناك مصادر تعينه في قصده جعل كل اعتماده على مراجعة النصوص العربية، ومعنى هذا أن التراث العربي كله كان مصدر بحثه، ولقد اضطلع الرجل بهذه المهمة الشاقة في صبر العلماء وأناتهم حتى استطاع أن يحرر في ذلك آلاف الجذاذات لتكون مادة القاموس إذا ما رتبت.
وعندما اختير هذا المستشرق عضواً في المجمع اللغوي بمصر تقدم إلى المجمع بفكرته وعمله في هذا القاموس فشهد المجمع بأنها فكرة رشيدة وعمل جليل وأخذ الأهبة للعمل على إتمام هذا المعجم وإخراجه في الوقت قريب.
وكان أن قامت الحرب، وسافر فيشر إلى بلاده، وجاءت الأنباء بأنه قضى نحبه في إحدى الغارات، وطوى أمله وعمله في مطاوي النسيان، إذ لم يكن (ضمير) السياسة يسمح بأن يظهر هذا العمل لذلك العالم الذي ينتسب إلى بني الألمان مهما كان عمله خالصاً للعلم. ثم انتهت الحرب، وظهر أن فيشر لا يزال حياً والحمد لله، وأن أحداث الحرب الرهيبة لم تنسه الرغبة في إتمام عمله بإخراج ذلك المعجم الذي وقف عليه العمر، وعلى هذا عاد المجمع يهتم بإظهار هذا الأثر النافع المفيد، وكل ما نرجو أن لا يبدو ما يدعو إلى التطويح به والتسويف فيه.
. . . إن العلم أمانة!!
في مجلة (المباحث) - وهي مجلة تصدر في تونس لخدمة الأدب والفن والتاريخ والفلسفة - قرأت فصلين متتابعين عن (كتاب ألف ليله وليلة)، فما انتهيت من قراءتهما حتى تبين لي أني نظرت هذا البحث من قبل، ولما أثرت الذاكرة ظهر لي أن الكاتب أخذ بحثه أخذاً كاملاً أميناً من بحث كتبه صاحب (الرسالة) عن (ألف ليلة وليلة)، ومن العجيب أن صاحب (الرسالة) قد حاضر بهذا البحث أبناء العراق، ونشرته مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ثم مجلة المعرفة في مصر، وأثبتته (دائرة المعارف الإسلامية) في التعليق على مادة ألف ليلة وليلة وسجله صاحبه في كتاب (في أصول الأدب)، ولكن كل هذا لم يحمل الأستاذ التونسي على الإشارة إلى صاحب البحث إبراء للذمة.
ومنذ قريب تناولت مجلة أدبية سياسية تصدر في لبنان، فطالعت فيها قصه لشاب من أبناء لبنان يحسبونه في الكتاب وفي الشعراء أيضاً، ولكني ما كدت أنتهي منها حتى ذكرت إني قرأت تلك القصة في مجلة مصرية لكاتب مصري، وبعد المراجعة تبين لي أن لا فرق بين القصتين إلا أن الكاتب المصري جعل فتاة القصة من لبنان والكاتب اللبناني جعل فتاة قصته من مصر
وكم من عجائب وغرائب، وكلها من هذا القبيل، وإنها لجرأة أثيمة؛ فإن من الأمانة في العلم والإخلاص للأدب أن ينسب كل رأي لصاحبه، وأن يرد كل فضل لفاعله، وقد علمنا شيوخنا أن من شرائط الأدب والتأدب أن نسمي الاقتباس اقتباساً، والنقل نقلاً، وقالوا لنا أن من نسب رأياً إلى صاحبه فقد خلص من تبعته. أما سرقة الأفكار والتطاول بأنها من صنع الابتكار، فإنها لصوصية في تقدير الأخلاق، وجريمة في حكم القانون؛ وعجز يتدلى بصاحبه في عرف الناس.
ملاحم البدو:
قرأت في إحدى المجلات السودانية كلمة يقول فيها كاتبها: (إن في أشعار البدو الرحل في السودان وفي دوبيت العرب القاطنين أشعار كثيرة يتفق الخاطر فيها مع الخاطر العربي الأصيل، ويهيب بأبناء السودان وأدبائه أن يلتفتوا التفاتاً جدياً إلى هذا الضرب من الأدب المقارن.).
وكنت قد قرأت كلمة للباحث الفاضل الأستاذ أحمد رمزي بك في جريدة الأهرام أشاد فيها بالملاحم العربية البدوية وقال: (إن ترك هذه الثروة الأدبية التي يملكها العالم العربي بغير بحث واستقصاء وجمع وتسجيل جريمة في حق الأدب الشعبي والفني، وإني أطمع في أن أجد جماعة منظمة تعنى بهذه الناحية وتجمع هذه الثروة الفنية خاصة وأن أثرها لا يزال عميقاً في نفسية شعوب العروبة).
والواقع أن ملاحم العرب البدو جديرة بالاهتمام والتسجيل، ولكنا تغاضينا عن هذا التراث وأهملناه إهمالنا كبيراً، وقد كان للأجانب شغف وعناية بهذا التراث أكثر من عنايتنا به، فهل آن الأوان لأن نهتم بذلك التراث الحافل، وأن نبذل له ما يجب من الدراسة والتسجيل؟
معلوم!
يزور أقطار الشرق العربي في هذه الآونة مستر دكسون المستعرب الإنجليزي استعداداً لإصدار مجلة باللغة الإنجليزية في لندن للدفاع عن قضايا العرب في الشرق الأوسط وشمال إفريقية، ويقول مستر دكسون إن مجلته هذه لن تكون ذات صبغة سياسة، ولكنها ستعنى بالثقافة والعلم والحياة العربية، وستوزع في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة لكي يعرف الغربيون أكثر مما يعرفون الآن عن حياة العرب وقضاياهم.
وليس مستر دكسون بالرجل الغريب عن أقطار الشرق العربي، فقد أمضى بها من قبل نحو عشر سنوات، وتنقل في مصر والسودان وفلسطين وطرابلس وغيرها من هذه الأقطار، وهو يتقن اللغة العربية ولا يزال جاداً في الإحاطة بآدابها وثقافتها، وقد أنشأ أخيراً الجمعية الاسكتلندية العربية وأسند رياستها إلى السير والتر ماكسويل سكوت كما استعان في رعايتها بالسفراء العرب في لندن، ويقولون إنه الآن بسبيل تأليف جمعية أخرى في دبلن بأيرلندا. . .
ولكن ما هذا كله؟ وهل مستر دكسون يبذل كل هذا العناء للدفاع عن العرب وقضاياهم حقاً كما يقول ويقول أنصاره؟!
إنها لمفارقة لطيفة، وإنه لأسلوب من أساليب الدعاية الاستعمارية خبرناه من قبل، ووقفنا على اتجاهاته وأهدافه، فما نال أبناء الشرق العربي من ضر مثل ما نالهم على يد أولئك الأصدقاء الأعداء الذين يتطوعون للدفاع عنا ويذرفون الدموع السخينة لحالنا وما هي إلا
دموع التماسيح، ولكن عذر هؤلاء أن هذا الأسلوب لا يزال يجوز على ضعاف العقول من أبناء هذا الشرق الذين تأخذ بلبهم ظواهر الأمور.
إنجليزي يدافع عن العرب عند الإنجليز؟! معلوم!! معلوم ويا له من منطق مفهوم!!
هل هذا صحيح:
كانت كليه الآداب الفرنسية في لبنان قد وجهت الدعوة إلى الدكتور عبد الرحمن بدوي المدرس بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات الفلسفية هناك فلبى الدعوة، ويقولون إنه قد قوبل بالحفاوة والترحيب وإن محاضراته قد قوبلت كذلك بالاعتبار والتقدير.
ولكني طالعت في العدد الأخير من مجلة (المعهد) التي تصدر في جنوب لبنان حديثاً جرى بين محرر تلك المجلة وبين الأستاذ البير عمون صاحب مجلة (الأديب) عرضا فيه لهذه المسألة. فقال الأستاذ عمون - والعهد على راوي الحديث - (إن دعوة الفرنسيين للدكتور عبد الرحمن بدوي لإلقاء هذه المحاضرات ليست إلا إحدى مناوراتهم ومثالا لأساليبهم التي يخدمون بها مركزهم ويجلبون الناس إليهم، ولم يلب الدكتور بدوي الدعوة إلا لأن مركزه كأستاذ في الجامعة المصرية يكاد أن يكون مضطرباً في المدة الأخيرة، وذلك على أثر مذهب فيه شيء من الإباحية كان الدكتور قد دعا إليه في أحد كتبه، فأثار نقمة أولياء الأمر في مصر، وبخاصة أوساط الأزهر، ولا يستبعد أن يرى الدكتور هذه الدعوة بمثابة تأييد لمركزه، وهي من كلية في لبنان بلد العلم والثقافة).
هذا ما جاء في ذلك الحديث بنصه وبحروفه، وأنا رجل شديد الغيرة على أبناء وطني، وظني بهم أباة يترفعون عن أن يكونوا صنيعة لأية دوله مهما عظمت، وإن هذه الغيرة لتدفعني إلى سؤال الأستاذ بدوي: هل هذا صحيح؟!
(الجاحظ)
البَريدُ الأدبيَ
واحة الكفرة:
جاء في (أخبار اليوم) العدد (129) أن الذي اكتشف واحة الكفرة هو أحمد حسنين باشا رحمه الله، والباشا رجل أجمعت القلوب على محبته وتجلته، ولكن الحق يذكر، وذلك أن أول من زار واحة الكفرة من غير السنوسيين هو صادق باشا العظم رحمه الله أرسله إليها السلطان عبد الحميد موفداً إلى الشيخ المهدي السنوسي الكبير سنه 1884 ولم يصل إليها رسول قبله، وقد وضع عن رحلته تلك كتاباً باللغة التركية ترجمه إلى العربية جميل بك العظم رحمه الله، وقد أوفده بعد ذلك إلى نجاشي الحبشة منلك سنة 1906 ووضع عن رحلته الحبشية كتاباً ترجمه رفيق بك العظم رحمه الله، ودلة حقي بك العظم رئيس وزراء سوريه سابقاً، وعنه روينا هذا الحديث، والرحلتان مطبوعتان بالعربية.
(قارئ)
خطأ عروضي:
اطلعت في عدد الأهرام بتاريخ 19 فبراير سنه 1947 على قصيدة للأستاذ الشاعر محمد الأسمر في ذكرى وفاة المرحوم أحمد حسنين باشا مطلعها:
أعام مضى أم تلك أحلام حالم
…
وذكرى الكريم الحر أم وهم واهم!
قال فيها:
وعدت لنا من حفرة ومجاهل
…
ومن عالم تحت الثرى أي عالم!
فوقع في خطأ عروضي هو (سناد الإشباع)، وذلك بتغييره حركه الحرف الدخيل بعد ألف التأسيس من خفض في جميع الأبيات إلى فتح هنا في هذا البيت الأخير، وهو خطأ تواضع العروضيون على عدم استعماله أو الوقوع فيه.
هذا، والقصيدة المترعة بالذكريات واللوعات، لا يغض من قيمتها هنة من تلكم الهنات. والسلام.
عدنان أسعد
في اللغة:
كتب بعضهم في الرسالة الغراء: (انطلت عليه الحيلة) يريد جازت عليه. وأظن أن هذا التعبير أول ما دخل عن طريق الترجمة. فليت من يدل على تعبير قديم بهذا اللفظ.
ويقولون: (حديث طلي)، والطليّ كغني الصغير من أولاد الغنم جمعه طليان كرغفان (القاموس). وأما الحسن المعجب فهو الطل (القاموس أيضاً)
فلسطيني
طباق قلعة القاهرة:
كان الأستاذ أحمد رمزي بك أورد في (الأهرام) نص السخاوي في كتابه (الضوء اللامع في تاريخ القرن التاسع) عن سكن ناصر الدين محمد جقمق (بالغور بالقلعة) وقال: هل هناك مكان معلوم للقدماء بالقلعة كان يطلق عليه اسم (الغور)؟
نعم، كان في القلعة اثنتا عشرة طبقة، في كل طبقة نحو ألف ممن يتلقون دروس التدريب على الجندية والحرب، مع بعض علوم الشريعة والعلوم العصرية، ومن هذه الطباق طبقة قائمة على أرض منخفضة، فسميت (طبقة الغور). وفي (الضوء اللامع) يذكر كثيراً من هذه الطباق كطبقة الرفرف وطبقة الزمام وغيرهما.
وهذه الطباق كانت أكبر مدرسة حربية نعرفها في التاريخ وأقدمها، وقد تخرج منها آلاف من الضابط والقواد والأمراء، بل الملوك. ولو جمعت أخبار هذه الجامعة الحربية لجاءت في كتاب حافل.
وفي خطط المقريزي، وزبدة كشف الممالك لخليل بن شاهين الظاهري (المطبوع في أوربة) مفصل القول على هذه الطباق ونظامها، وفي در الحبب في تاريخ حلب لابن الحنبلي بحث عن صلة السلطان الغوري بطبقة الغور، ونسبته إليها، وأنها بفتح الغين، وفي (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) شيء من هذا وكان في المكتبة التيمورية خزانة خاصة لكتب الفروسية والرمي وآلات الحرب؛ ألف الكثير منها في عهد المماليك، وكان كثير منها يدرس في طباق القلعة.
محمد عبد الوهاب فايد
حول (اكتبوا للأطفال):
اطلعت في مجلتكم الزاهرة على كلمة الأديب محمد سيد كيلاني (اكتبوا للأطفال) ومع تقديري لاهتمامه بهذا العنصر الهام من عناصر نهضتنا العربية وتدوينه جهود الغربيين فيه آخذ عليه قوله بالحرف الواحد (أما في الشرق فلم يعن أحد بالاتجاه في هذه الناحية. . . الخ).
إذ قد قام المرسلون الأميركيون في بيروت ما بين 1885 و1899 بترجمة وطبع كتب كثيرة للأطفال باللغة العربية مثل حكاية روبنصون كروزو وغيرها من القصص الأدبية الأخلاقية (التي لا صلة لها بالدين) مكتوبة بأقلام كبار أدباء سوريا ولبنان يومئذ وموضوعاتها لذيذة وأساليبها شيقة تستهوي عقول الأحداث والأطفال وهي مزينة بالصور الجذابة، بل أذكر أنني كنت أقرأها وأنا طفل بين العاشرة والخامسة عشرة بشغف وسرور، وكان لدي العشرات منها وكانت جميعها مطبوعة طبعاً أنيقاً (وأحياناً مشكولة) في مطبعة الأميركان في بيروت ولعل الأديب الكيلاني يعثر في مكتبة خاصة أو في مكاتب بيروت على نسخ منها.
ثم إن كاتب هذه السطور (ولا فخر) أصدر مجلته الأسبوعية (مجلة الأولاد) في 15 فبراير سنه 1923 وظل يصدرها أسبوعياً حتى 12 مارس سنه 1931 وكان يتراوح ما يطبع منها في مطبعة اللطائف المصورة بين 14 و16 ألفاً وكانت طافحة بالرسوم المضحكة التي تسر الأطفال وتقر عيونهم وتكتب شروحها باللغة العامية المسجعة وفي أواخر سنيها كان يكتب فيها بلغة صحيحة بسيطة وأضيف إليها معلومات علمية طبيعية وألعاب للتسلية ومسابقات ولم نوقفها إلا لأسباب فنية قاهرة، وكانت معظم رسومها شرقية مصرية وبعد أن أوقفناها سعى الكثيرون من الأدباء والأديبات إلى إنشاء مجلات للأطفال والأولاد على غرار مجلة الأولاد ولكن أغلبها لم يقو على مكافحة الأزمات، وكانت آخر محاولة من الأستاذة إجلال حافظ ومجلات أخرى أظن أنها ما زالت تصدر وأذكر أن مجلة الأسبوع الزاهرة وبعض الصحف بدأت بنشر مواد مصورة للأطفال.
اسلندر مكاربوس
تعليق وتعقيب:
1 -
اذكر موضوعي حول (طيزناباذ) أديبة فلسطين فدوى طوقان بقصة صاحبة الفن علية بنت المهدي أخت الرشيد، وأقامتها بطيزناباذ بعد منصرفها من الحج، وهي التفاتة ظريفة من الأديبة الفاضلة أذكرتني أيضاً بما يشبه هذا الخبر من قصة حج أبي نواس الذي رواه سليمان بن نوبخت عندما أراد الحج فاستصحب أبا نواس بعد نفار منه وامتناع. لكن (راهب الكاس) اشترط على سليمان أن يتقدما الحاج إلى القادسية، ثم يعرجا (قليلاً) على طيزناباذ، ريثما يصل الحاج فعلا.
وكان في طيزناباذ خمار ظريف، لطيف الآلة، يعتق الشراب اسمه (سرجيس) له ذكاء وفطنة في المنادمة، فشرب أبو نواس هو وصديقه سليمان، ثم استيقظ ليصطبح (على عادته) فأنشد:
وخمار أنخت إليه ليلاً
…
قلائص قد ونين من السفار
فحجم والكرى في مقلتيه
…
كمخمور شكا ألم الخمار:
أين لي كيف صرت إلى حريمي
…
وجفن الليل مكتحل بقار؟
فقلت له: ترفق بي فإني
…
رأيت الصبح من خلل الديار
فكان جوابه أنْ قال: صبحٌ
…
ولا ضوء سوى ضوء العقار!
وقام إلى العقار فسد فاها
…
فعاد الليل مسود الإزار
وشك بزالها في قعر دن
…
محفرة الجوانب والقرار
مصورة بصورة جند كسرى
…
وكسرى في قرار الطرجهار
وجل الجند تحت ركاب كسرى
…
بأعمدة وأقبية قصار
ثم جلس يشرب مع سليمان، وبقيا يصلون الليل بالنهار في اصطباح واغتباق، حتى ورد عليهما أوائل الحاج قد حجوا وعادوا فرحلا معهم إلى بغداد على أنهما كانا حجاجاً معهم. .
أما الآثار التي كانت شاخصة على عهد ياقوت والعمري والشابشتي فقد كانت تسمى في ذلك الحين (قباب أبي نواس).
2 -
ومما فاتني ذكره عن قطربل إن حاناتها اختصت بالنظافة وحسن الصفة، والتألق في الآلة، كما امتاز سقاتها وباعتها بالفطنة واللباقة والظرف، ونظافة المنازل والدنان.
واشتهرت قطربل بالمشمش حتى ذكره البحتري في شعره قائلاً:
شربت مشمش قطربل
…
وجرعتنا دقل الدسكره
إذا حُبَّ في الكاس مسوده
…
فكف النديم لها محبره
وكان ينزل هذه القرية الأعراب الذين يفدون على بغداد من البادية، وكانت لغتهم فصيحة لم تشبها شوائب اللحن، وفي القصة الزنبورية خير شاهد على ذلك. فقد نُقل عن الأصمعي أن هؤلاء الأعراب كانوا ينزلون بقطربل، وأن الكسائي لما ناظر سيبويه استشهد بلغتهم عليه، وفي ذلك يقول أبو محمد اليزيدي:
كنا نقيس النحو فيما مضى
…
على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه
…
على لغى أشياخ قطربل
إن الكسائي وأصحابه
…
يرقون في النحو إلى أسفل!
أما موقع قطربل بالنسبة إلى جغرافية العراق الحالية، فقد قال
صديقنا مصطفى جواد تعقيباً على ما كتبناه في الرسالة في
العدد 704 بكلمته المنشورة بجريدة العراق عدد 23949 بأنها
(فوق الكاظمية بكيلومترات قليلة مقابل بستان كاظم باشا من
الغرب) ويظن بأنها (كانت الموضع المعروف - اليوم -
بالتاجي)
بغداد
شكري أحمد
النهضة الأدبية في طرابلس:
منذ زوال الحكم الإيطالي الغاشم عن أرض ليبيا العزيزة (طرابلس وبرقة) والنهضة الأدبية تسير بخطوات ثابتة سريعة بصورة تدعو إلى التقدير والإعجاب.
فهنالك في كل من مدينة درنه وبنغازي عاصمة برقة التجارية وطرابلس في جميع هذه
المدن قد انتشرت الجمعيات الثقافية والندوات الأدبية التي تتلخص رسالتها في نشر الأدب العربي وبث روح الثقافة العربية بين جميع المواطنين.
وقد كتب المواطن الفاضل الأديب (صلاح الدين بن موسى) مقالا قيما في الرسالة (710) تحت عنوان (الحياة الأدبية في طرابلس الغرب بين الماضي والحاضر) ولكن فاته أن يذكر فيه كلا من الشاعرين العصاميين الأستاذ أحمد الشارف شاعر طرابلس والأستاذ أحمد رفيق المهدوي شاعر برقة وهما بحق علمان من أعلام الشعر والأدب في طرابلس الغرب:
ولقد اطلع أستاذنا العقاد على شيء من شعر الأستاذ رفيق فنال إعجابه وتقديره.
(القاهرة)
فرح بن جليل
بطل الريف:
اطلعت في العدد 711 من (الرسالة) على قصيدة أو بالأصح (مزدوجة) للأستاذ (أبو الوفاء) محمود رمزي نظيم فيها:
واخترعوا فحيّروا ألبابنا
…
وملكوا بسعيهم زِمامنا
كيف نقول ما لهم وما لنا
…
إذا استغل علمهم خمولنا
(والمزدوجة) كما ترى مؤسسة بألف التأسيس في الأشطر الثلاثة الأولى إلا في الشطر الرابع فقد غيّر من التأسيس إلى الردف وهو حرف الواو، وذلك ما نص العروضيون وتواضعوا على خطئه وعدم جواز استعماله.
وهي هنة هينة والسلام.
(الزيتون)
عدنان أسعد
القَصَصُ
أسطورة من الأدب الروسي:
الخير والشر. . .!
للكاتب الفيلسوف ليو تولستوي
(مهداة إلى أستاذنا الفاضل محمود الخفيف)
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
(من الهدى والتوفيق أن ننقل هذه القصة الرفيعة إلى العربية
في الحين الذي يقوم فيه الأديب الكبير الأستاذ محمود الخفيف
بترجمة رائعة لحياة ذلك الفيلسوف الذي ذاعت شهرته الأدبية
وشاعت عبقريته الفلسفية في جميع أنحاء العالم، وترجمت
كتاباته وقصصه إلى معظم اللغات في مختلف البلدان. . . وقد
سبق لنا أن قدمناه إلى قراء (الرسالة الغراء) في قصة
(الملاك) التي نشرناها تباعاً على صفحاتها في شهر أغسطس
سنه 1946.
وفي هذه القصة التي تتنازعها عوامل الخير والشر، وتضطرب فيها دوافع الحق والباطل. . . نلتقي بعبقرية تولستوي الفذة وعقله الجبار في خير ما سطره يراعه في تمجيد الفضيلة ورفعتها.! فهو يجلو لنا في ثنايا هذه القصة صفحة بارعة من الحلم والتسامح والعفو وضبط النفس التي تنزع بالمرء إلى ركوب متن الشطط والغي. . . وقد رأينا أنه من الأفضل أن نتناول عنوان هذه القصة بالإيجاز والتحوير لطوله. . . فهو في الأصل الذي نقلنا عنه ،
(م. جميل)
حدث في الأيام التي خلت وطوتها صفحات الدهر منذ القدم. . . أن كان ثمة رجل رضي النفس طيب القلب جليل الشأن عظيم القدر. . . أقبلت عليه الدنيا وأتاحت له وفراً من ماله فملك الضياع والديار. . . وراح يعيش في ثراء ورغد، ومن حوله جمع من العبيد يقومون على خدمته ويتولون قضاء حاجته. وقد بثهم سيدهم من الود وأخلص لهم من العطف ما جعل أفئدتهم تخفق بحبه وألسنتهم تلهج بحمده.!
وراحوا يتيهون بسيدهم فخراً وزهواً، يغبطون أنفسهم على هذا الفضل وهذه النعمة ويعربون لجيرتهم عن مبلغ هناءتهم قائلين:
(لم تطلع الشمس على من يضاهي سيدنا في طيبته ورقة عاطفته. . . فهو يطعمنا إذا ما أدركنا الجوع، ويخلع علينا من الثياب كل طريف ومن الأبراد كل جميل، ويهيئ لنا أعمالا تتفق ومقدرتنا وقوتنا. . . وما تلفظت شفتاه يوماً بكلمة سوء يرمينا بها ولا بيت لنا حقداً ولا ضغناً. . . فما هو كالسادة الآخرين الذين يذيقون عبيدهم هول العذاب ويقسون في عقابهم سواء أحق عليهم أم لم يحق.! ولا يحنون عليهم بكلمه عطف ولا يواسونهم إذا ما مسّهم الضر. . . أما سيدنا فقد وهبه الله قلباً يتمنى لنا الخير ونفساً ترجو لنا السعادة. . . نحن لا نأمل في حياة أهنأ ولا أرغد من هذه.!).
فضاق الشيطان ذرعاً بذلك الحب والود الذي يكنه العبيد لسيدهم، فعمد إلى واحد منهم يدعى (ألب) فسخره ليوغر صدورهم ويشيع بينهم الفتنة والعصيان ويسرب إليهم الفساد. . .
وبينما هم جلوس ذات يوم يتناقلون حديث العطف والكرم الذي يسبغه عليهم سيدهم ويحوطهم بفضله. . . رفع (ألب) صوته قائلا في خبث ودهاء: (إن من الغباء والحمق أن نغرق سيدنا بهذا الحمد ونحيطه بتلك الهالة من المديح. . . وهو لا يستحقها. فالشيطان قدير وكفيل بأن يكون كيساً رقيق الحاشية معكم إذا ما أديتم له كل ما يروم!. فنحن نخدم سيدنا في وفاء وإخلاص ونحقق له كل ما يساور نفسه ويراود فؤاده من بغيات. . . فما الذي يسعه سوى أن يكون رحيماً كريماً معنا؟!. دعونا نحاول أن ندفع إليه ضرراً ما ثم ننظر ما يكون من جلية أمره. . . وإني لعلى يقين من أنه لا يفضل أقرانه السادة. فلسوف
يلقى إساءتكم بمثلها بل وأشد منها. . .).
فانطلق بقية العبيد ينكرون هذا القول، ويدرءون الشبهات عن سيدهم وولي نعمتهم. . . بيد أنهم ما لبثوا أن عقدوا فيما بينهم رهناً مع (ألب) الذي أخذ على عاتقه أن يثير حفيظة سيده ويلهب غضبه. . . وقد تعهدوا بأن يدفعوا إليه بالثياب التي يحرمه منها سيده، ويقوموا مدافعين عنه أمامه أو يعمدوا إلى إطلاق سراحه أن حبس أو غل بالقيد!.
كان (ألب) راعياً مسئولا عن فِرْزِ من الغنم النادرة الغالية التي يعتز بها سيده. . .
وفي اليوم التالي حينما أقبل سيده في صحبة من أضيافه ليريهم ويمتع ناظرهم بتلك الأغنام الكريمة. . . غمز (ألب) بحاجبه لرفاقه وكأنه يقول لهم (انظروا الآن إلى أي حد سأثير غضبه وحنقه!.).
وتجمّع العبيد يمدون طرفهم من فوق سياج المرعى! وتسلق (الشيطان) شجرة سامقة حيث استقر فوقها وراح يرقب ما سوف يعمله (ألب) خادمه ورسوله.!
وتهادى السيد مع صحبه يعرض عليهم شياهه وحملانه. . . وانثنى يقول لهم وقد رنّ في صوته جرس الإعجاب والزهو: (إنها جميعاً كريمة نادرة، ولكن بينها كبشاً أصوف أعقص القرن - لا يقدر بمال - أعتز به كما أعتز بمقلتي.!).
وشاع الاضطراب بين حشد الأغنام، فانطلقت تعدو إلى جهة أخرى من المرعى، فلم تنهز للزائرين سانحة لرؤية ذلك الكبش الذي نوه صاحبه بجلال قيمته وعظم شأنه. . .
ولم تكد تستقر الشياه في مكانها حتى أثارها (ألب) من جديد فعادت تجري إلى كنف آخر، وهي تضطرب فيما بينها، وفوَّت على الزائرين نهزة اجتلائها وتبيُّن الكبش. . فلم يجد السيد بداً - وقد أدركه العناء وبرح به الإعياء - من أن يدعو (ألب) قائلاً:(أرجوك أن تحول بين ذلك الكبش الأعقص القرنين وبين الهرب وأمسك به معتنياً حتى تتاح لنا رؤيته)!
ما كاد السيد يقول ذلك، حتى انطلق (ألب) بين الشياه كالأسد الذي يسعى بين رعيل من الظباء!. وقبض على صوفة الكبش في عجلة وتناول رجلاً من أرجله فلواها في شدة حتى تهشمت عظامها وصارت له قعقعة الغصن اليابس حينما بطؤه الإنسان. . لقد حطم ساقه وجعله يخر على الأرض وهو يثأج ويثغي في ألم. . ثم لم يلبث (ألب). أن أمسك برجل
أخرى وحاول أن يلحق بها ما أصاب سابقتها!
فصاح الزائرون في جزع، وهتف العبيد في هيعة وفزع. وطرب الشيطان وهو قابع في مكانه على الشجرة، وهلل فرحاً لما رأى من نجاح خادمه وهو يسعى لإثارة سيده! وتقطَّب جبين السيد وعلتْه كآبة سوداء تنذر بعاصفة هوجاء، وزمهرت عيناه وقد اتقد فيهما لهيب الغضب والحنق والسخط. . وقد كاد أن ينشق من الغيظ. . بيد أنه طأطأ برأسه ولم ينبس ببنت شفه. .
ران الصمت - ولكنه صمت رهيب - على الأضياف وعلى العبيد وقد تعلقت أنفاسهم يترقبون ما سوف يتمخض عن هذه الجناية على الكبش المسكين الذي لا يُلفى له نظير!
وبعد هنيهة من السكون، هز السيد كتفيه وكأنه قد تخلص من حمل ثقيل كان يجثم على قلبه. . . ثم لم يلبث طويلا حتى رفع رأسه ومد بصره إلى الأفق البعيد مستغرقا في فكره لا يريم.!
وبغتة.! غاب التقطب عن صفحة جبينه وانفجرت أسارير وجهه وهدأت نفسه وقد عصف بها الاضطراب. . . ونظر إلى (ألب) في عطف وعلى ثغره ابتسامة عذبة. . . وقال في صوت رقيق شاعت فيه الوداعة والطمأنينة:
(إيه. . . يا ألب. . . لقد أغواك صاحبك الشيطان بإثارة غضبي ولكني سوف أخيّب مسعاه وأثير غضبه هو. . . فلست بحانق عليك ولا ساخط منك. . . إنك لتخشى عقابي ويداعب نفسك أمل في أن أعتق رقبتك!. فاعلم - إذن - أني لن أمسّك بسوء، كما أني - أمام هؤلاء الأضياف وتحت سمعهم وبصرهم - أطلق حريتك. . . فاذهب أينما شئت. . . فأنت حر من هذا اليوم. ولك أن تحمل معك ما تود من ملبس وطعام.)
وانثنى السيد عائداً مع رفقته إلى داره في هدوء وبشر أما الشيطان - وقد باء مسعاه بالخسران المبين - فقد هوى من فوق الشجرة. . . وغار في الأرض. . .
(القاهرة)
مصطفى جميل مرسي