الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 714
- بتاريخ: 10 - 03 - 1947
إنه جهاد لا سياسة!
للأستاذ محمود محمد شاكر
عجبتُ أشدَّ العجب حين قرأت في الأسابيع الماضية خبر وَساطة سورية ولبنان وغيرهما من بلاد العرب والتي أرادوا بها اجتلابَ التفاهم بين بريطانيا ومصر والسودان. ومعنى ذلك أن البلادَ التي دفعتها الغيرة والصداقة والقُربَى إلى هذه الوساطة، تَعْني أو تظنُّ أو تؤمِّل أن تكون المفاوضة بيننا وبين بريطانيا خيراً من الارتفاع إلى مجلس الأمن أو الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، ليقضي بيننا فيما اختلفنا فيه!
وللعجب من مِثْل هذا الفِعْل وجوهٌ كثيرةٌ. فمن ذلك أننا ظللنَا نفاوض هذه الدولة المتغطرسة سنين طوالا مغرّرِين بالمفاوضة، فما أجدتْ علينا إلا ألواناً من البلاء، وعلمتنا ضروباً من كَذِب الألسنة واحتيالها وخداعها، وعرفنا أن بريطانيا تراوغ ما استطاعت المراوغة، وتتجنَّى ما أطاقت التجنِّي، ولا نكسبُ نحنُ من ذلك شيئا إلا الفرقَة والتدابُر والتنابُذ والتشاتُم، وهي كلُّها من مبيدات الأمم. نعم، وكانت العبْرة التي لا عِبْرة بعدها أن القوم الذي ظلُّوا أكثر من خمسة وعشرين عاماُ يُصرُّون على أن المفاوضة هي خير طريق لاستنقاذ حقوقنا من الأيدي الغاصبة، هم هُم القوم الذين عرفوا أن لا جدْوى من المفاوضة، فقطوعها وآثروا أن يرفعوا الأمر إلى هيئة دولية تحكُمُ بيننا، هذا فضلا عن أن صريح الرأي، وصريح الدلالة، وصريح التجربة، تُوحي جميعاً بأن بريطانيا لم تستفد قطُّ من شيء في هذا الشرق المبتلى بها ما استفادت من مبدأ المفاوضة. فهو الذي أتاح لها في مصر مثلا أن تُطفئَ جمرة الشعب المصري التي ظلَّت تتوهَّج فيما بعد سنة 1919، حتى صدق فيها قول المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكاتِ
…
ولكنه ضحكٌ كالبُكىَ
فمن هذه المضحكات المبكية، ما كان من تغرير المفاوضين الذين جاءوا بمعاهدة 1936، والذين استطاعوا أن يصبُّوا في آذان الشعب من الكلام الفاتن حتى احتفل بها احتفاله المذكور على أنها (معاهدة الشرف والاستقلال)!! ومن ذلك أن ترى شعباً قد أوذي وامتُهِن وحقّر على يدِ فئة من طُغاة العسكريين فإذا هو يحمل ممثل هذا العشب بعدَ قليل على الأعناق! ونحنُ لا نذكر هذا رغبة في ذكره، ولكن الذين توسَّطوا ينبغي لهم أن يعرفوا هذه
الفظائع التي أورثتنا إياها مبادئ المفاوضة وما يتبعُها.
ومن أساس العجب أيضاً أن سورية ولبنان تعلم حق العلم، وتعلم بالتجربة التي جربتها مع الفرنسيين، أن المفاوضة لا تجدي، وأنها لم تنل حقَّها إلا حين كانت يداً واحدةً تطالب بحقها المغصوب، فلم تقبل معاهدة ولا شروطاً ولا وعوداً تعد بها فرنسا، وأصرت على ذلك إصرارَ الكِرامِ القادرين، فإذا فرنسا تجلو بجيوشها جميعاً عن كل بقعةٍ من بقاعها، وكل مكتب من مكاتبها. فالذين يعرفون هذا في أنفسِهم، إذا هم أتوا خلافه أو أرادوا غيرهم على إتيان خلافه، إنما يزيدون العجبَ عجباً ولا ريبَ.
أما العجبُ العاجبُ فهو أن هذه الدول التي بذلت وساطتها نسيتْ موقف بريطانيا في مسالة السودان كل النسيان، وغفلت عن السرّ الذي دفع بها إلى إيثار التشدّد على المساهلة، والصراحة على المواربة. وذلك أنها لا تريدُ أن تفصِل السودان عن مصر مُكايدةً لها أو انتقاماً منها، بل لأنها لا تريدُ الجلاءَ عن مصر كل الجلاءِ، وهي تعلم أن السودان هو مصر، فبقاؤها فيه هو بقاؤها في مصر سواءً بسواء. ولكن بريطانيا لا تريدُ أن تفضح نفسَها بالإصرار على البقاء في أرض مصر، فاخترعت قصة الدفاع عن مصير السودان واستقلاله أو تهيئته للحكم الذاتي وأنه لا بُدَّ لذلك من أن تبقى فيه حتى يتهيَّأ ويستعدّ، وأن تمنع مصر الباغية من العدوان على السودان!! وهذا كله تدْليسٌ بيّنٌ، وكنا نرجو أن يعرف المتوسِّطون حقيقة هذه المسألة على وجهها فيكفُّوا عن الوساطة التي تعود بنا إلى المفاوضة - أي إلى تعذيب الشعب المصري السوداني سنين أُخَر، وإلى بقاءِ العالم كله جاهلا بعدالة قضية مصر والسودان على وجهها الصحيح.
وأما أعجبُ العجبِ فهو أنهم نسوا ما تُلاقي فلسطين على يد البريطانيين اليوم، من إرخائها الحبْل لنذالة الإرهاب اليهودي ومعاونتها في هجرة اليهود بأساليبها الخدَّاعة، واحتمالها في ذلك الأمر ما لم تكن تحتملُ قليلا أو كثيراً من مثله حين ثارتِ العربُ على ظلمها وبغيها وعدوانها هي وأشياعها من يهود. وهل ننسى، نحن العرب، لم وعدت بريطانيا شّذَّاذَ اليهود. الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، بأن ينشئوا في فلسطين وطناً قوميَاً، ثم معاونتهم لهم في ذلك، ثم إغضاءها عن جشع اليهود بعد ذلك وطلبهم إنشاء (دولة يهودية) تقوم في قلبِ الأوطان العربية التي تحيط بها من كل ناحية؟
إن الوساطة لا تكون حقاً إلا حين تتوسَّط بين شريفين كريمين يُحْسِنان تقدير الوساطة. فما الذي رأته سورية ولبنان وسواهما من الشرف والكرَم في تاريخ بريطانيا في بلادِ العرب حتى تركب هذا المركب الوعر؟
الجواب: لا شيء، بل النقيض هو الصحيح.
وأنا لا أكتب هذا عتاباً ولا ملامة، فأنا لا أشك في أنهم جميعاً إنما أرادوا الخير، وظنُّوا الخير، وعملوا للخير، ولكن غير ذلك كان أولى وأدلَّ على فهم الحقائق.
لقد وضعت الحربُ العالمية الأولى (1914 - 1918) فإذا الشعوب (العربية) فِرَق مقطُّعة بين الدولتين الباغيتين فرنسا وبريطانيا، وكان رأي العرب مفرّقاً ضائعاً في فوضى الاضطراب الذي أعقب الحرب، ومع ذلك فقد قامت الثورات في كل مكان مطالبة بالحقوق الواضحة التي لا جدال في وضوحها، فأنكرتها علينا بريطانيا وفرنسا، ولكنا مع ذلك ثرنا وبقينا نثور في كل مكان.
ثم جاءتنا الحرب العالمية الثانية، فإذا رأى العرب مجتمع غير مفرق كما كان بعد الحرب الماضية، وبدأنا نثور فإذا الثورات عد خمدت بعد قليل، وإذا نحن نوشك أن نتفرق بعد اجتماع. ولعل هذا رأي غريب مع ما نرى من قيام الجامعة العربية، ومن تصريحات في مناسبات كثيرة بأنها تؤيد مطالب مصر أو مطالب غيرها من الأمم العربية بالإجماع. بيد أن السبب الذي من أجله أخشى تفرق الكلمة هو ما رأيت من أمثال هذه الوساطات التي ترد كلها إلى سبب واحد، هو أن الرأي العربي لم يدرس القضايا دراسة مستوعبة، ولم يتخذ لنفسه خطة بينة واضحة في كل قضية. وأظنه لو فعل ذلك لنفى من قلبه خاطر هذه الوساطات بين أقوام العرب، وبين الدول المتغطرسة التي لا أمانة لها، ولا هدف لها إلا استعباد هذا الشرق بأساليب (مطابقة لمقتضى الحال).
وإنه لأولى بنا جميعاً، نحن العرب، أن نصارح بالعداء كل أمة من أمم الطغيان الاستعماري، وأن نحذر كل الحذر مزالق السياسة وأساليبها الخداعة، فإننا أمم مجاهدة، وينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها في كل مكان، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. والمجاهد مقاتل، لا صاحب سياسة ومواربة ومداراة، فإن ضرر هذه الثلاثة على الشعوب المجاهدة أكبر من أن نغفل عنه أو نتهاون فيه.
وأنا أتعجب أحياناً: لماذا لا تتعاون الدول العربية جميعاً الدول الشرقية الخاضعة للإستعمار، فتهب هبة رجل واحد، وتقاطع هذه الدول الباغية، وتقول لها: إني لن أتعاون حتى أنال كل حقوقي كاملة غير منقوصة! وهذا شيء ليس بغريب بعد قيام هيئة الأمم المتحدة التي يزعمون أنها أنشئت للمحافظة على سلام العالم، والتي تنقض مبادئها كل حجة تقال في مسألة مخافة العدوان على هذه الأمم بعد خروج الجيوش المحتلة من اراضيها، ولو فعلنا ذلك، وأبينا أن نلقي السلم حتى تحل هذه القضايا الكثيرة التي عقدتها بريطانيا وأشياعها من الدول المستعمرة، لكان قريباً أن ننال كل ما نريد، ولكان ذلك معواناً للشعوب العربية والشرقية على الشعور بقوتها وعزتها واجتماع كلمتها، ولكان ذلك وقاء لنا من أن نكون كما نحن الآن: خداع يراد بمصر، وخداع يراد بالسودان، وخداع يراد بالمغرب، وخداع يراد بالهند وما جاورها.
إنه ليس عجيباً. بل الدلائل على صدقه وعلى صلاحه ما رأينا من نتائجه بعد قيام الجامعة العربية التي لا تزال في أول نشأتها. فالجامعة العربية على قلة وسائلها وقلة تجربتها، قد جعلت العالم الغربي كله يتنبه إلى أن في الدنيا شيئاً من القوة لا ينفع في الخلاص منه سلاح فتاك ولا غطرسة حربية. فإذا اجتمعت الكلمة في الشرق كله، وهبت الأمم الشرقية كلها مرة واحدة لاستيقظ العالم كله على صوت هذه الضجة المدوية، ولطالبت الأمم الغربية نفسها بدراسة هذه المسائل المعقدة وفهمها على وجهها الصحيح، لا على الوجه الذي ظلت بريطانيا وسواها من حكومات الاستعمار تعمل جهدها سنين مطاولة على تدليسه وبثه في صحافتها وكتبها وإذاعتها. فلا سبيل إلى رد هذه الأكاذيب جملة واحدة إلا بأن نشعر العالم جملة واحدة بما نريد فيتنبه ويستعد للمعرفة، ونكشف له عن الأكاذيب التي أذيعت عليه من قبل، ونفضح أساليب سياسية الاستعمار في تشويه الشعوب وقضايا الشعوب.
هذه رأي، وطريقة العمل له ميسرة وواضحة. وهو شيء كبير، ولكن صاحب الحق الذي يستهول الإقدام على بيان حقه بالأساليب التي ينبغي اتخاذها وإن عظمت، لن ينال شيئاً إلا العجز، وتراكم العجز بعد العجز، ثم ضياع حقه إلى الأبد.
ولقد بدأت مصر والسودان تخرج بقضيتها عن محيط المفاوضة إلى الاحتكام إلى الدول الممثلة في هيئة الأمم المتحدة، فينبغي على كل عربي وشرقي أن يحرضها على ركوب
هذا الطريق وإن شق مسلكه، وينبغي على كل دولة عربية وشرقية أن تقف صحافتها وإذاعتها صفاً واحداً للجهاد في سبيل مصر والسودان - أي سبيل فلسطين وليبية ومراكش والجزائر وتونس والهند وما والاها، أي في سبيل الدفاع عن حقوق جميع الشعوب التي ذاقت مرارة الاستعمار ونكاله أجيالاً أو أعواماً. والعاقبة للمجاهدين الصابرين على لأواء الجهاد وبأسائه.
محمود محمد شاكر
مصر العربية
للأستاذ أحمد رمزي بك
كتب أبو حيان التوحيدي عن العرب بعد أن شملتهم الدعوة النبوة والشريعة فقال: (قد رأيت كيف تحولت جميع محاسن الأمم إليهم. وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم، من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها، وهكذا يكون كل شيء تولاه الله بتوفيقه وساقه إلى أهله بتأييده). وتلك حال مصر العربية من يوم أن دخلها عمرو بن العاص وصحبه منقذين ومخلصين، يحملون أعلام الحرية لا فاتحين وغزاة. فهذه البقعة من الأرض التي خاطب أهلها عمرو من مسجده العتيق بالفسطاط فقال لهم:(اعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، تتجه قلوبهم إليكم، وتتشوق إلى دياركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية).
قد خط الله لها في سجل قدره وإرادته أن تكون من المبدأ قلب العروبة، فهيأ لها أن تجتمع محاسن الأمم إليها وفضائل الأجيال عليها، ومهد لها أن رجالا أتوا إلى الوادي لخدمته، بعبقريتهم سيوفهم، وكان أن صمد أهل مصر طول القرون الماضية وهم في رباط دائم، يخدمون الإسلام والعروبة بعلمهم وفكرهم، ويذودون عن الإسلام ونفوذ المسلمين بأيمانهم وسيوفهم، ألم تقم دولة آل طولون بما تعهدت به للدولة العباسية من حماية الشام وأهله والعواصم والثغور في طرسوس وما حولها؟ ألم يدرك المرض الأمير أحمد بن طولون في أنطاكية وهو عائد من جهاده ضد الروم في آسيا الصغرى ليموت بمصر؟
تلك سنة الله التي اختطها لأهل مصر في الأعصر الخالية، فكتب عليهم القتال والجهاد والشهادة وحملها لهم أمانة لجند مصر وأمرائها وملوكها، فما وهنت أعناقهم عن حملها، وإنما ساروا بها لألف سنة والنصر يواتيهم، والشهادة تلاحقهم، وكتبوا بدمائهم صفحات من المجد الخالد، يعرفها كل من اطلع على تاريخ مصر العربية الإسلامية وشوكتها أيام استقلالها وعظمتها كما اعترف بها كتاب الغرب الذين كشفوا بأبحاثهم عن معارك الحروب الصليبية، وإن ود كثير منهم أن يطمسوا الحقائق وتبعهم فريق منا يحاول التقليد ليخفى من أثر مصر وجهادها في تاريخ الإسلام والعروبة.
إننا في حاجة دائماً إلى من يذكرنا بمواقف مصر وجهاد أهلها السابق؛ لأن هذا التاريخ
الذي تنطق صفحاته بأيام النصر المتلاحقة المتتابعة عنصر هام من عناصر التكوين الروحي والعقلي للأمة المصرية، وهذاالإيحاء الدائم المتواصل المستمد من تاريخنا الإسلامي والعربي هو مصدر روحي لقوة الأمة وعبقريتها واستعدادها للتصادم ومقارعة الأحداث.
وأعود بهذه المناسبة إلى كلمة نشرتها عن الفكرة العربية وحاجتها إلى مجهود عدد كبير من المفكرين والباحثين ونظرت إليها كجزء مكمل للتكوين الروحي والعقلي للأمة المصرية. بل ذهبت في إيماني بها إلى تقرير مبدأ يتلخص في أن الكثير من مشاكلنا الخلقية والقومية، والتي تبدو لنا صعبة الحل؛ سيسهل علينا مواجهتها على ضوء الأسس الاجتماعية التي لا تعتمد على العقل وحده بل تحرك القلوب والمشاعر، وليس أعظم من الإيحاء الدائم المستمد من التاريخ الحي لتلقين الجماعات وإشعارها بالدور الذي لعبته في الماضي وتهيئتها لمواجهة المستقبل ومصاعبه.
ونحن الآن في مصر أمام حركة قومية تحدث العالم عنها، ووقفت البلاد إزاءها وقفة من تلك الوقفات التاريخية الخالدة، إذ أجمعت الأمة ممثلة في أحزابها ورجالها وساستها في المطالبة بحق ثابت لها، وهذا عمل عظيم رائع يملأ النفس تفاؤلا ويكاد يشعرنا بأن الأيام المقبلة ستكون حتما أسعد لنا من الليالي القاتمة السواد التي مضت. وإنا لنحس بأن هذه الدفعة وليدة الوعي القائم والرغبة المنبعثة عن إرادة شاملة للتحرر، بل فيها ما يقنع بأن هذه الإرادة ترمي إلى أبعد من ذلك كله: ترمي إلى إثبات كفاية هذه الأمة ومقدرتها على التقدم وإلى تأكيد شخصيتها وتحررها من الصلات القائمة لكي تعتمد في حل مشاكلها القادمة على القوة الكامنة فيها وحدها. هذه حالتنا اليوم في موقفنا إزاء الأحداث القادمة، ولئن شغلتنا قضية البلاد بمشاكلها الداخلية والخارجية ومصاعبها؛ فنحن في حاجة ماسة إلى تعهد هذه اليقظة، بعمل دائم من رجال الفكر، لكي تقوم هذه النهضة على أساس عقلي دائم، ولكي تبرز القيم الروحية لهذا الوعي، حتى تغمر الدوافع القومية كل طبقات الأمة. فيكتب لنهضتنا الدوام والاستمرار، وتحمل طابع الخلود الذي يلازم الحركات القومية الكبرى.
وهذا ما يدعونا إلى تقرير بعض المبادئ العامة التي تصلح لأن يؤمن بها كل منا. فالمبدأ
الأساسي الذي تقوم به علاقات هذا الوطن بالعالم: يتلخص في أن الأمة المصرية في نضالها وكفاحها لا تضمر شراً لأحد من الناس أو لإحدى الدول الأخرى، وإنما تطلب معاملة الند للند، أي لا تسمح لأي دولة أن تعاملها معاملة أقل من المعاملة المعتادة التي توجد بين دولة أوربية ودولة أوربية أخرى، أي المعاملة المدنية التي تفرض أوربا قيامها مع أي مجموع راق متطور. ومعنى ذلك أن هذه البلاد كاملة السيادة فهي ليست مستعمرة، وعلى من يعيش فيها أن يخضع لأنظمتها وقوانينها ومحاكمها وتشريعها ويرعى قواعد الضيافة ويعود نفسه على احترم الأمة المصرية وتاريخها وتقاليدها.
وتستند هذه القاعدة لقيام صلات مع العالم المتمدين، على مبدأ شامل عام: هو أن الأمة المصرية تسكن هذه الأرض المعلومة بحدودها، وأن لها أرض الوطن الحق الطبيعي التاريخي الثابت، وما من شك في أن هذه الأمة ممثلة في أفرادها وجماعاتها وهيئاتها، تريد أن تحيا وهي متمتعة بكل حرياتها التي تكفلها حقوق الإنسان، وأن تتمسك بكامل شخصيتها ومميزاتها. ومعنى ذلك أنها لن تتنازل عن شيء من حرياتها ومميزاتها لأن كل هذا وديعة بأيدي الجيل الحالي سيسلمها كاملة وبأمانة إلى الأجيال القادمة وهي لا تقبل التفريط أو التساهل، لأن الأمة التي تفقد هذه الأشياء تصبح في النواحي التي ضعفت لديها، فريسة سهلة لما يحيط بها من تأثير الأمم الأخرى.
وأعظم مظاهر الشخصية للأمم هي اللغة: ولغتنا العربية هي من أعظم لغات الأرض بل هي أقوى اللغات السامية التي شقت بحيوية أهلها طريقها في التاريخ، وتمثلت فيها عبقرية الأمم العربية وتفوق الفكر السامي وقدرته على الخلود ومواجهة أحداث الزمن ونكباته، ولها ميزة انفردت بها عن سائر اللغات السلمية وهي أن غيرها فني وانقرض وبقيت لغتنا خلال القرون وهي حافظة على قوة التعبير والقدرة على التطور والإبداع.
وفي العالم الحديث ثقافات متعددة أو هي بعدد الأمم الحية وللعصر اتجاهات، ولكن لنا ثقافة نريد أن تكون حية وهي ثقافتنا العربية وليدة كفاحنا وجهادنا. لا ننوي أن تطغي عليها ثقافة أخرى من لاتينية أو انجلوسكسونية أو سوفييتية مهم علا كسب أهلها في مضمار الحضارة، لأن ثقافتنا جزء ثابت مكون للشخصية المصرية لا يمكن أن نتنازل عنه أو نقصر في حقه بل يجب أن يبرز في كل ركن وناحية من نواحي نشاطنا. ونحن نطمع أن
نأخذ بما في الكون من أشياء نافعة وأفكار مبدعة، ونريد أن نساهم بقسط في تطور الفكر وإبداعه، فذلك حق لنا وضرورة لازمة، ونطمع فيما يطمع فيه غيرنا وهو استكمال النقص فينا لإبراز عناصر الحياة وتدفقها في ثقافتنا ولجعلها حقيقة عالمية تفني حين يفنى العالم بأكمله.
ونحن نعرف ما في قوانين الطبيعة من تفاوت وتفرقة، وما تمليه قواعد الطاقة ونظم الحياة الحديثة وما في العالم من قدرة وقوى محركة، ونعرف مواطن النقص لدينا وأماكن الضعف عندنا، ولكننا سنقبل المعركة كما دخلها الآباء والأجداد من قبل، سنتقدم بغير هوادة، لا تقدم اليائس بل تقدم الواثق من نفسه، سوف لا نقف بعد اليوم لأن الجمود تراجع، وستبرز فينا القوى الكامنة والمستمدة من عناصر الفتوحات الكبرى بشكل يبهر العالم. ولا يغرنكم ما ترون من تطاحن وتناحر واختلاف وتنابذ، أن ما يبدو مستحيلا أو بعيداً للوصول إليه سيتحقق، وسنرى الأحزاب مدارس لإخراج الرجال وتدريب القادة، ستملي النهضة قوانينها الثابتة المستمدة من روح الحياة والتاريخ، وتأخذ سيرها الطبيعي بعد التحرر، وتجعل من الأتباع والأعوان أنصاراً للفكرة الكبرى يثبتون على مبادئهم، ويفرضون على القادة التمسك ببرامجهم السياسية، فلا خصومة شخصية ولا كراهية يمليها الحقد، ستكون المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، ومصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد. وسنصل بالعلم والتدريب والنظام إلى خلق طبقة من الرجال: لا يخشون في الحق لومة لائم، أشداء على أنفسهم، فيهم الصبر والتؤدة والإقدام والسرعة، لديهم البصيرة النافذة والعناد والجرأة، نرى في أعينهم الثبات على الرأي، ونلمس في مشيتهم قوة الإرادة والسرور في ملاحقة الأخطار والصعب من الأمور، سيجمع بينهم طائفة من العواطف النبيلة أهمها حبهم لبلادهم وشعورهم بضرورة التفاهم والتعاون لترقية هذا الوطن: سنرى الشافعي في رجل الدين، وابن بكار في القضاء، وابن خلدون في العلماء، وصلاح الدين وبيبرس في القواد والزعماء وسنقول يومئذ ما قاله توسيديد (إن قوة المدينة في رجالها لا في قلاعها ولا في أسطولها).
أحمد رمزي
للتاريخ:
يوم من أيام بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
(لعل ذكرى هذا اليوم تهز بغداد، دار الأعزة الصيد، فيكون فيها لمصر وقضيتها يوم مثله. . .)
طلعت جريدة (البلاد) على أهل بغداد، صباح اليوم الأخير من آذار (مارس) 1939، وفي صدرها مقالة (لكاتب شامي أستحي أن أسميه)، ليست كمقالات، جملا ترصف، وكلمات تؤلف، ولكنها قلب يتفطر، وديناميت يتفجر، عنوانها:(يا غازي. يا غازي. يا غازي). وفيها:
يا غازي، تدعوك الأيامى الثاكلات، يا غازي يناديك اليتامى المظلومون، يا غازي يستنصرك الضعاف العزل، والعجائز الركع، والأطفال الرضع. يا غازي يهتف باسمك الشباب الذي يواجه بجسمه المصفحات، وبصدره الدبابات، ويحارب الدولة الطاغية الغاشمة، لا سلاح له إلا إيمانه، وأمله بالله، ثم بالعرب، وبك يا مليك العرب، يا غازي!
يا غازي: دعوة غريق ينادي منقذه القوي!
يا غازي: هتاف مريض يدعو طبيبه الآسي!
يا غازي: إهابة مشرف على اليأس بالسيد المأمول!
يا غازي: صرخة الدم، واللغة، والدين، والمجد، والجوار.
يا غازي: المدد! المدد!
يا غازي!
لقد نادت امرأة واحدة، في سالف الدهر:(وامعتصماه) فاهتز لها هذا العرش: عرشك. وماج لها هذا الشعب: شعبك وخرجت الجيوش: جيوش بغداد، فلم ترجع إلا وفي ركابها المجد والنصر. فمن غيرك، وغير العراق لهذه الأمة التي حملت البلاء، ورأت الشدائد، وشاهدت ألوان الموت، وخانها الحليف، ونقض عهده لها القوي، وجرد دباباته الضخمة، ومدافعه وعتاده، ليحارب بها النساء والأطفال والشيوخ؟ من غيرك وغير العراق لهذه الأمة التي تنادي اليوم:(واعراقاه). (واغازياه)!
فقم يا أيها (المعتصم)، لبها على (الخيول البلق) فان كتاب التاريخ أعدوا صحفهم، وأمسكوا بأقلامهم ليكتبوا المفخرة مرة ثانية للعراق، ولملك العراق!
إن الأمة التي أحبت فيصلا، وأحبها فيصل تناديك اليوم يوم الخطب بابن فيصل!
إن الشعب الذي بايع فيصلا، هو على بيعته لك، فهل تضيع شعبك يا أبا فيصل؟
إن القصر الذي كان يسكنه أبوك ملكاً، والذي كنت تلهو في حدائقه طفلا، هو اليوم مقر عدو العرب، منه يصدر الأمر بتقتيل رجالهم ونسائهم وأطفالهم، يسكنه اليوم العدو الذي بغى على فيصل، وسرق منه عرشه. فأنقذ تراث فيصل، من عدو فيصل، وعد أنت إلى قصر فيصل، يا بن فيصل!
يا غازي؟
الشباب الذين سقطوا في شوارع دمشق شهداء البغي، ماتوا وهم يهتفون باسمك يا غازي. العجائز تلقين أبناءهن المصرعين على أرض الوطن، وهن يهتفن باسمك يا غازي.
يا غازي، كم من طفل وطفلة، عدا عليهم الظالمون، فتلفتوا حولهم يفتشون عن المنقذ الذي حفظوا اسمه، ورفعوا رؤوساً يسيل من جراحها الدم، وأشاروا إلى الشرق بأصابعهم الصغيرة المخضبة بالنجيع الأحمر، ورددوا اسمك: يا غازي!
يا غازي! بك علقوا الآمال، ومنك ينتظرون العون، أفتدع هذا الشعب بين براثن الوحوش يعبثون بكرامته وأمجاده وحياته وكرامته كرامة العرب، وأمجاده أمجادهم، وحياته حياتهم؟
أتتركهم يموتون، وبغداد تستروح رائحة الربيع العطر، وتستمع إلى جرس النشيد الحلو، وتنام على فراش النعيم؟
يا مليكي!
هذا يوم من أيام التاريخ له ما بعده، فلا يقولن التاريخ:(يا ليتهم نصروا الشام في وقت محنته! يا ليتهم لم يدعوه رهن الحديد والنار)!
الشام في كرب شديد. . . الشام في ضيق!
لقد ضج لما يعاني الشام قبر محمد، يا سليل محمد!
لقد اهتز الحطيم وزمزم، ومادت جبال مكة، يا حفيد شريف مكة!
يا مليك العرب: الشام يدعوك. الشام يستجير بك. الشام يهتف باسمك: (يا غازي. يا
غازي. يا غازي!)
نشرت المقالة في أشهر جرائد بغداد، فألهبت شبابها، وشباب بغداد كونت أعصابهم من نور ومن نار، وخلقت أيديهم من الندى ومن الحديد، وملئت قلوبهم نخوة وسماحة، وأترعت شجاعة وكرماً.
فإذا حاربوا أذلوا عزيزاً
…
وإذا سالموا أعزوا ذليلا
وإذا عز معشر زال يوما
…
منع السيف عزهم أن يزولا
وشباب بغداد، جند العروبة حيثما كان للعروبة أرض، وحماة الحمى، وأسد الغاب. أن أطلقت رصاصة في الشام، أو في مصر، أحسوا أزيزها. وإن أشعلت فيها نار وجدوا حرها. وإن سقط شهيد كان عندهم مأتمه، وإن أصيب جريح كان في ضلوعهم ألمه. وشباب بغداد إن غضبوا الإعصار الجارف، والبحر الطاغي، والصواعق المنقضة، والموت. هل من الموت مهرب؟ وشباب بغداد أن رضوا النسيم الرخي، والربيع الطلق، والسلسبيل العذب، والحياة. هل في الوجود أحلى من الحياة؟
وعلم شباب بغداد، أن ديار الشام في خطر، وأن (حلفاءها) قد نقضوا عهدهم لها، وعادوا كما كانوا أعدائها، فأسروا كرامها وسودوا لئامها، وجرعوها من (مدنيتهم. . .) الصاب والحنظل المسموم، وأن شعب الشام قد لبس لأمة الجهاد، ونزل إلى الشوارع يجالد البارود بالحجارة، ويرد الدبابات بالخناجر، حتى سقطت الدور على أهلها فغدت لهم مقابر، وامتلأت بالأبرياء السجون، واشتد الخطب وعظم البلاء، وقل الناصر، وانقطع المدد. . .
. . . واشتعلت الحماسة في صدور شباب بغداد ناراً، ومشت هذه النار في قلوب الشعب، فلم تمض ساعات حتى صار حديث الشام حديث الناس في كل مكان، في القهوات، والطرقات، والمنازل والمدارس، ولم يعد الطلاب يصغون إلى درس، أو يستمعون إلى مدرس، أيشتغلون بالمفاضلة بين الفرزدق وجرير، وبحساب بعد القمر ومساحة سيبريه، والشام غارقة في دماء بنيها، عابقة برائحة البارود، رازحة تحت أثقال المدافع، تطؤها نعال الفرنسيين والسنغال؟. . . أيطلب الشكولاته من لا يجد الرغيف؟ أيقرأ الأشعار من تأكل بيته من حوله النار؟ إنهم يريدون أن يطيروا إلى الشام، ليطبقوا في ساحاتها ما تعلموه في دروس الفتوة من فنون القتال.
وفوجئ الناس في المساء، بإذاعة هذه المقالة من محطة الملك الخاصة، في قصر الزهور، فلما انتهى المذيع من تلاوتها، كانت مفاجأة للناس أشد وأمجد، حين سمعوا صوت الملك غازي الذي يعرفونه، يقول:
(لبيك. لبيك يا سورية!).
فكانت هذه الكلمة سحراً ماضياً جعل كل منزل في بغداد ثكنة، وكل قهوة معسكراً، وكل رجل جندياً شاكي السلاح، ينتظر الأمر بالهجوم على الجن والإنس والعفاريت لا يهاب شيئاً، ولا يخشى أحداً، ما دامت الحرب حرباً مقدسة لنصرة الشام، والقائد الملك الشاب الحبيب
وكانت حال لا توصف، ولا تصور ولا تمحو الأيام أثرها.
ودعا ناظر الثانوية المركزية في صبيحة الغد نفراً من المدرسين العراقيين والشاميين منهم كاتب المقال، وأفهمهم سراً، (ولا ضير اليوم في إذاعة هذا السر) أن الحكومة (حكومة السيد نوري السعيد) ترغب في مظاهرة احتجاجية على فرنسا، وأنه ترك لنا أمر تنظيمها، فكان ذلك أحب إلينا من خزائن المال نعطاها، وأسمى المراتب نمنحها، وخرجنا فأخذنا في عملنا.
وكان في بغداد وضواحيها عشر ثانويات، فاقتسمنا ثانوياتها العشر. ينفرد كل منا بإعداد طلاب مدرسته للمظاهرة، وتفننا في هذا الإعداد، واستبقنا فيه، وكنت امرأ أكتب ولكني لا أحسن بيتاً واحداً من الشعر، فبحثت عمن ينظم لمدرستنا نشيداً لهذا اليوم فلم أجد، فنظمت أنا أنشودة مهلهلة النسج، ضعيفة التأليف، لكنها خارجة من القلب وتقع في القلوب، ثم وضعت لها أنا. . . لحناً لفقته من ألحان الأناشيد التي كنت حفظتها قديماً ونسيها الناس، وعمدت إلى لوحات صنعناها من القماش. . . فكتبت عليها كلمات تعبر عن الحقيقة التي امتلأت بها نفوس البغداديين مثل:
(الله جعل العرب أمة واحدة فلن تفرقهم يد مخلوق)
(نحن جند الوحدة العربية، إننا سنكتبها بالدم)
(من تعدى على دمشق فقد اعتدى على بغداد)
(لبيك لبيك يا سورية، إننا آتون)
(يا سورية، لن تضامي وشباب العراق في الوجود)
وسهرت مع الطلاب في كتابتها وتلوينها، وأنا الذي لم يمسك من قبل (ريشة) قط.
ولم أنم تلك الليلة بل كنت أنتقل من مكان إلى مكان حتى إذا أصبحنا بكرت إلى ساحة الاجتماع، وهي الساحة الفيحاء بين دار الكتب والمتوسطة الغربية ودار المعلمين العليا فوجدتها تعج بالطلاب من كل مدرسة، وكلهم بلباس الفتوة لا يمتاز طالب منهم من طالب، فكيف أجمع طلاب مدرستي وأصفهم؟
وطفقت أصرخ ولا سامع ولا مجيب ومن يسمع النداء في هذا المحشر الذي جمع فيه عشرة آلاف طالب متحمس كلهم يصيح ويتكلم؟ ثم ألهمني الله فكرة فدعوت عريفاً من عرفاء الطلبة، ميزته من شرائط الفضة على ذراعه، فانتصب أمامي، وحيا ووقف وقفة عسكرية ينتظر مني الأمر. فقلت له: صف هؤلاء الطلاب. فأعاد التحية وقال: حاضر. وانصرف، وأنا أعجب منه كيف يقول:(حاضر)، وقد عجزت من قبله عن ذلك ويعجز عشرة من أمثالي! وإذا به يدعو طالباً معه بوق، فينفخ به، فتقع المعجزة، ويعم الصمت، كأن المتوكل قد طلع بضوء وجهه. . .
. . . . . . . . . فانجلت تلك الدجى وإنجاب ذاك العثير ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هذه الخلائق كلها، تغدو صفاً طويلاً صامتاً مرتباً. وقد مني إخواننا فقلت فيهم خطبة. ومشينا، حتى إذا بلغنا أوائل ميدان باب المعظم، قابلتنا مواكب الشعب الهائلة آتية من حي الفضل وتلك الأرجاء، فتداني الجبلان، والتقى البحران، فعادا بحراً واحداً، تلتطم أمواجه، وتعلو أثباجه، بحراً من الناس ملأ باب المعظم وأفواه الشوارع المفضية إليه، والأرض البراح من هنا ومن هناك. وقام الخطباء في كل مكان فلن يبق في اللغة كلمة تمجيد إلا قيلت للشام، ولا لفظة تحقير إلا سيقت لفرنسا، ولا جملة تعبر عن القوة والإيمان والاستعداد إلا ألقيت على الناس، ولا شيء يهز القلب ويحرك العزائم إلا كان ثم مشى هذا البحر. وإلى أين تمشي البحار؟ والشوارع قد سدت بالناس، والناس على الأرصفة وفي الشبابيك وعلى الأسطحة. وفي كل مكان هتاف ونداء، فالطلاب ينشدون، والعامة يحدون والنساء يزغردن، والتكبير والتهليل، والمواكب تمتد، والخلائق تتوافد، حتى حلت بغداد كلها في شارع الرشيد من باب المعظم إلى باب الشرقي، وكان يوم ما رأيت له مثيلا قط.
إننا لم نخض في ذلك اليوم ملحمة، ولا شهدنا معمعة، ولا أرقنا لعدو دماً، ولم نجاوز فيه الكلام، ولكنه كلام جعل كل فتى من هؤلاء الفتيان بطلا، وترك في نفسه ذخيرة تمده بالقوة دهراً، وصب في نفسه من العزة ما جعل نفسه أسمى من النجم، وأكبر من الدنيا. كلام ولكنه كان أساساً من الصخر الراسي في صرح الوحدة العربية غداً والإسلامية بعد غد. كلام ولكنه أرهب العدو وخلع قلبه، ورده عن قصده، ودفع من عدوانه. كلام ولكن بمثله تحيا الأمم، وتبنى النهضات، وتكتب تواريخ المجد. كلام، وإن من الكلام لفعالا من أعظم الفعال، وقوة من أمضى القوى، ومجداً من أسمى الأمجاد.
إن الشام يذكر لك يا بغداد في عرس الاستقلال، ما أسديت إليه في بؤس الاحتلال، فهلا اتخذت عند مصر يداً مثلها تذكرها لك يد الدهر؟
إن مصر، يا بغداد، أختنا الكبرى في العروبة، وقضية مصر قضيتنا، ووادي مصر وادينا، وعدو مصر عدونا، وإننا إن نخذل مصر نخذل بلادنا، وإلا نكن معها نحن أمتنا.
يا بغداد، يا ذات المجد، يا مثوى البطولة، يا عرين الآساد، أن مصر قد عدا عليها العادون، وكشر لها عن أنياب الذئب، من كان يجيئها أيام الحرب في فروة الحمل، سائلا يطلب منها العون ولمال. إنه يريد الآن أن يفرق بين أسودها وأسمرها، وأعلاها وأدناها ويسرق منها نصف واديها، أفتنامين يا بغداد في سرر الأمان، ومصر في الشوارع تصارع الذئاب؟
يا بغداد! اليوم يومك، يا بغداد!!
علي الطنطاوي
أم كلثوم تلقي درسا
للأستاذ عبد المنعم خلاف
منذ أن غردت أم كلثوم. تلك القصيدة الفذة (سلو قلبي غداة سلا وتابا) لأول مرة وأنا أشعر أن القلم يريد أن يسجل شيئاً لا يد من تسجيله إزاء ما تجلى في هذه الأغنية من البيان الرفيع والموضوع الكريم والتلحين الشرقي الخالص.
غير أن الأيام قد ذهب مطلها بالقلم مذاهب النسيان والإبطاء، ولكن ما تتأذى به الآذان كل يوم من الأغاني التافهة المسمومة يلح علي بذكرى هذه الأغنية والتنويه بها، ولفت أنظار وزارة الشؤون ومحطة الإذاعة بما يحب قوله تعليقاً على هذا الحادث الأول من نوعه في أغاني أم كلثوم، بل ربما في أغاني هذا الجيل الذي احتملت أعصابه من سموم الأغاني التافهة المسمومة الساقطة ما سمم المنابع وأسقط الهمم وأفسد الذوق وأطفأ الأشواق الرفيعة التي تضطرم في الأفئدة حين تهب عليها الأصداء والهتافات وأنسام الشجو من حنجرة تغرد على طبيعتها السليمة القوية، أو وتر يرتعش في يد ينضب إليها النغم الذائب الحادر في أعصاب العازف المترجم عن تلك الخفايا والأسرار والكلمات المكنونة في الكون ولا يخرج خبأها ويكشف سرها إلا أنامل عازف يعرف كيف يخنق الوتر الدقيق فيخرج حنينة، أو فم ساحر ينفخ في الناي فيخرج أنينه، أو لامس ماهر يلمس الطبل أو الدف فيهيج شجونه، ويرسلها في دبيب ودوي رهيب إلى الأسماع والأوصال فيدخل عليها من هواتف ما وراء المادة والكثافة والجمود ما يدخل!
ولقد هب على قلوب سامعي هذه الأغنية من أم كلثوم نسمات رفيعة من الطرب الحق الذي يثير أعظم ما في النفس الإنسانية من أحاسيس الحب والجمال والقوة والدين والوطنية والبر والتبتل والألم اللذيذ الوديع والرحمة القلقة الملهوفة، والثورة العازمة الواثقة، ما أجرى فيها طهارة ونقاء يطردان الدم الأسود المسموم، ويجريان بدله الدم النقي المطهر للنفوس من عوامل الضعف والفسولة والتخدير والحب الوضيع.
ولقد تقبل الجمهور المصري هذه الأغنية بكل حواسه الموسيقية والمعنوية في الحب والدين والوطنية بما يشجع على أن تتجه الأغاني إلى خدمة الأهداف القومية والأمجاد الرفيعة خدمة لا تتأتى إلا عن طريق الأناشيد السائرة على الحناجر الساحرة التي لها من السلطان
على نفوس جماهير الرجال والنساء والأطفال ما ليس لقواد الاجتماع والسياسة والدين، وخاصة في هذا العصر الذي تلاحق فيه الإذاعة الفرد في كل مكان وتقتحم عليه حتى مخادع نومه.
وقديماً كانت (الأصوات) التي يغنيها المغنون العرب للخلفاء والسلاطين والجماهير من منتقي الشعر الرفيع، وكان الغناء بها من أسباب رواج الأدب الكريم.
وكان للبيت الواحد أو للأبيات التي يتغنى بها التأثير اللازم لمعانيها والنتائج الحتمية لدى سامعيها، حتى إن غناء أحد المغنين ببيتين في مجلس الرشيد كان الحافز المثير والنقطة المطففة التي طفحت بها كأس الرشيد فأنزل نكبته بالبرامكة.
ولو علمت أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم بمدى سلطانهم على تربية الناشئين لخافوا الله في تلك النفوس الغضة التي تلاحقها أغانيهم من المهد.
وفي الموسيقى تستعرض قلوب الأمم، وقد استطاعت كل أمة أن تلقط توقيعات من طبيعة بيئتها التي تعيش فيها تطرب لها وترقص بها في ساعات الطفور والمرح والهيام في عالم الرؤى والأحلام، وتعرض فيها أفانين حياتها وأصداء الهواتف الطبيعية في آذانها وصور الدنيا الباطنة كما تراها في مرآتها الخفية.
فالقلب العربي أو المكسيكي أو الهندي أو الألماني أو الزنجي أو غيرهما يمكنك أن تعرف خلاصة اتجاهاته في الحياة حين تسمع ألحانه وأشواقه فيها.
وبودي أن يجتمع جوق عالمي عظيم من فنانين عالميين ليضع ألحاناً آخذة من جميع الأصداء والهواتف لتوجيه قلوب البشر ليدركوا السر الواحد الذي في قلوبهم جميعاً بدون ألفاظ.
وبودي كذلك أن أجمع الوجوه الإنسانية الكريمة من الأجناس المختلفة وتؤلف منها (هرموني) وتناسقاً بصرياً يرى عشاق التحف والطرف ما في العقد البشري المنظوم من جمال وثراء. . .
وبودي كذلك أن أقيم معرضا للطفولة الإنسانية البريئة الموحدة اللغة والإشارة والإدراك قبل أن تأخذها سبل أممها المتفرقة فتجعلها أباديد متناكرة كأنها فصائل أجناس متعادية متناقضة. . .
وبودي كذلك أن أقيم معرضاً للقمم الإنسانية العالية العاملة المجاهدة القريبة من عرش الله بالنسك والفكر والعلم والعمل، حتى يراها الفاجرون القاعدون في السفح. . . بودي كل أولئك! ولكن ما مبلغ جهدي غير الآمال والأحلام السعيدة. . .
وإني لأتساءل: من أين أتى الإنسان بهذه الأنغام العالية المعقدة التي يخرجها من المزامير والصنوج والأوتار؟ إن كل أصوات الطبيعة ساذجة محدودة المقاطع ليس فيها إلا توقيع بسيط، فكيف أتى الإنسان بهذه الألحان التي تهيج أعصابه وتثير أشواقه نحو الجمال والحياة وتأخذ بأنفاسه وحواسه نحو المجهول؟ ولماذا تثير الألحان العظيمة قوة الإيمان وانفساح مدى الحياة في أعماق القلوب؟ أيكون ذلك ناشئا من أن روح هذا الإنسان ذات ذخيرة كامنة من أيام حياة في عالم ذي طرب دائم، فلما أخرج منه وأنسى ما فيه صار يبحث في ذهول ولهفة إلى إيجاد أصداء وصور منها في هذه الدار الفانية؟ فجعل ينبش في ذبذبات الأوتار والصنوج عن ذلك النغم الذي كان يعمر جو الجنة ويختلط بأنفاس رياحها ويهب على النفس مع هبوب نسماتها وخفوق خافقاتها؟
إني أشعر أن لتلك الأصداء الموسيقية تأثير الحياة أو الموت على الأعصاب. . . إن لها في الأعصاب وحياً كوحي النسمات وقطرات الندى ودفقات المزن ونضحات الأشعة وانعكاسات الألوان. . إنها أفواه نافخة من شذى الجنة أو لافحة من زفرات جنهم أحياناً. وإني أتلقاها بحاسة خاصة. والألفاظ هنا تضيق والشرح يترك للوجدان المشترك لدى كل حساس. إنها من أعجب ما أودع الله في طبيعة الأشياء!.
وإذا قيل إن الألفاظ والمعلومات (أشياء) أفادها الإنسان من محيطه وتسلسلت حتى تركبت في عقله وصارت هكذا كما نراها معقدة؛ فماذا يقال في النغمات؟ إنها لا تكون أكثر من فيض نفسي، ولا تكون نقلا عن (معلوم) في الطبيعة، وإنما هي تعبير خفي يفيض به همس المجهول في أعماق النفس. ولذلك قال القدماء عنها إنها فضل كلام نفسي ضاق عنه النطق. .
وإن الآلات الموسيقية تظل صامتة خرساء حتى تمسكها يد الإنسان فتنطقها بالأغاريد الغريبة التي في قلبه هو لا في قلبها هي. . .
والشخصية الموسيقية شخصية خفية ليس لها مدد تستعلن به إلا من داخلها، وإني لأسمع
إلى الموسيقى الألمانية في ألحان عباقرتها فأدرك ما في نفس الألمان من كبت وتمزيق وهيام وحيرة وصوفية عاجزة عن رؤية الطريق، وصرخات الإنسان الفريد المحس بضياعه في رحاب الكون. .
وأسمع إلى موسيقى الزنوج فأحس فيها طمأنينة الجهل وصخب الغرائز ومجابهة المجهول بدون إحساس به وحيرة فيه.
وهكذا أغلب ألحان الأمم.
ولكني حين أسمع أكثر ألحان الموسيقيين المصريين المحدثين أشعر بشيء مخدر كئيب لا فلسفة فيه ولا أصالة طبع معه، وإنما يختبئ وراءه (دعاء جنسي) مريض غير صحيح الذكورة ولا صحيح الأنوثة.
فهل تدرك (وزارة الشؤون الاجتماعية) ذلك أو لا تدركه؟ إن كانت تدركه فما أحراها وهي المشرفة على الإذاعة الموسيقية أن تحمي الجيل الناشئ من هذه السموم المخدرة التي تنفثها تلك الموسيقى التافهة وأن تجرب وضع برنامج من الموسيقى القوية تستعين في وضعه باللفظ القوي واللحن القوي والذوق الناقد الذي يدرك خطورة الأمر.
وإن كانت لا تدركه فما أضيع هذه الأمة التي تتخذ على شؤونها رعاة يسيرهم القطيع!
عبد المنعم خلاف
معاوية بين يدي عائشة
للأستاذ سعيد الأفغاني
الشورى أساس من أسس الحكم في الإسلام، فكلما كان حظ الحكم منها أوفى كان أقرب إلى روح الإسلام. والحاكم الأعلى في العرف الإسلامي أجير للناس كافة: يسهر على مصالحهم ويمضي أحكام الشرع ويستوفي أجره من بيت ما لهم وليس يملك من الأمر غير ذلك.
انقضى عهد الراشدين وفهم أجلاء الصحابة ورؤوس الناس للحكم هذا الفهم؛ فلما اتفق أن ولي الخليفة عثمان رضي الله عنه بعض الأكفياء من أقربائه أعمالا، أعظم الناس ذلك وخافوا أن تصير مصالحهم العامة حكرة لأحد أياً كان أو وقفاً على أسرة أية كانت، ففشت القالة في عثمان وكان هذا أول الشر الذي أودى بخلافته.
أما معاوية، فإن أربعين عاماً سلخها في حكم الشام إلى جوار إمبراطورية الرومان وفي ديارهم القديمة، قد انحرفت به عن الجادة في أمر الحكم، فلم يسلك به الطريق الإسلامي الذي رأينا أساليب مختلفة له في عهد الراشدين، وإنما سلك به طريقاً (بيزانطياً) وأراد الخلافة أسلوباً ملكياً على أساس بيزنطة، وانتوى لها نية فطفق يتألف لها الناس ويهيئ لها الأمور. . . فلما وجد الأحوال مواتية أعلنها بيعة بولاية العهد من بعده لابنه يزيد.
ولم يفعل ذلك معاوية حتى سبر أغوار الأمصار وطباع الناس؛ وكانت قد استلانت واستكانت مدة عشرين عاماً بسبب سياسته وسياسة ولاته الحازمين الأشداء. نعم لقد استكانت إلى الطاعة، حتى من يجيش حمية من رؤوس الناس وأحرارهم، روض معاوية إياهم وأنفتهم بلطفه وعطائه الجم حتى أسلسوا القيادة، أما من لم يسلس له فقد جعله جزر السيوف كما فعل في أمر حجر بن عدي وأصحابه. هذا وقد حصد الموت مدة أربعين سنة أكثر الصحابة وزعماء الجماهير ممن يهابهم معاوية.
مع كل ذلك، لم يخل إعلان البيعة ليزيد من صدمة للنفوس عامة، فأكثرها وقف ثم رضى بالقدر المحتم، وبعضها أنكر ورفع عقيرته بالإنكار.
أما السيدة عائشة فقد لزمت بيتها وسكينتها، وأنا أقطع أنها جاهدت نفسها بهذه السكينة أعظم الجهاد، وكبتتها أعظم الكبت وكظمت غيظاً ما كانت لتكظمه. فما كان هذا الأمر بالأمر الحقير، إنه أعظم ما مر بالسيدة من خروج على الإسلام وتنكر لروحه؛ ولكنها
ذكرى يوم الجمل والدماء المهراقة فيه، الدماء دائماً هي الشبح الذي يلوح لعائشة كلما همت بإنكار منكر فترعد فرائصها وتستجير بالله من كل خير يؤدي إلى شر.
لكن أعوان معاوية فاتهم اللطف في تأتيهم لهذا الخرق لحرمة الخلافة، ولم يدركوا ما فيه من كسر لحرية ألفها العرب وشورى يتعبدون بها، ونظم سامية تجري منهم مجرى الدم من العروق. ظن أعوان معاوية أن البيعة ليزيد أمر من هذه الأمور الكثيرة التي يرد بها البريد فتعلق للناس وتنفذ في يسر وصمت. . . مما لا يصدم عقيدة ولا يجافي روحاً ولا يكسر تقاليد أصيلة ولا يذل أنفة قومية.
أرسل معاوية أمره إلى الأمصار بأخذ البيعة لابنه يزيد من بعده، فوقف عامله على المدينة مروان بن الحكم يعلن هذه البيعة على منبر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فكان إنكار الناس لها واحداً، وكان متكلمهم عبد الرحمن بن أبي بكر أخو السيدة عائشة، فقد رد على مروان قائلاً:
(كذبت والله يا مروان وكذب معاوية معك، لا يكون ذلك. لا تحدثوا علينا سنة الروم: (كلما مات هرقل قام مكانه هرقل)، (لقد جئتم بها هرقلية وقوقية؛ تبايعون لأبنائكم؟)
قال مروان: (سنة أبي بكر وعمر).
عبد الرحمن: (بل سنة هرقل وقيصر)، (ما لأبي بكر لم يستخلفني؟ وما لعمر لم يستخلف عبد الله؟).
واشتد الغضب والحنق بمروان فقال:
- يا أيها الناس، إن هذا الذي قال الله فيه:(والذي قال لوالديه: أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله: ويلك آمن، إن وعد الله حق، فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين).
حينئذ، فرغ صبر عائشة وهي تسمع من حجرتها بالمسجد، وقد رأت أن عبث مروان تطاول إلى القرآن، فغضبت وقالت لمن حولها:(ألا بن الصديق يقول هذا؟؟ استروني) فستروها فجهرت ورددت جوانب المسجد صوتها قائلة:
- كذبت والله يا مروان، ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته؛ إن ذلك رجل معروف نسبه. . . ولكن (رسول) الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت قضض (قطعة) من لعنة الله
يا بن الزرقاء، أعلينا تتأول القرآن؟! لولا أني أرى الناس كأنهم يرتعشون لقلت قولا يخرج من أقطارها).
وكان لهذه الصرخة أثرها في الجماهير فانخذل مروان وانكسر ولم يعرف أن يقول غير هذه الكلمة: (ما يومنا منك بواحد)
لقد كان جبهها مروان شديداً عنيفاً حاطماً، وما باختيارها جبهته، ولكنه أحرجها. إن الذي بوسعها أن تفعله هو حيادها في أمر هذه البيعة غير المشروعة، وحسبها ذلك قهراً لنفسها وللواجب عليها، وكذلك كان: فلم ترد على مروان شيئاً لما أعلن بيعة يزيد، لكن مروان امتد أذاه إلى أخيها بغير حق، ثم امتد إلى ما هو أشد حرمة من أخيها وما لا يجوز لمسلم أن يقر عبثاً فيه، لقد امتد عبث مروان إلى كتاب الله يدعي أن آية نزلت في عبد الرحمن وهي لم تنزل فيه. . .
لم يكن للسيدة ولا لغيرها أن تسكت على هذا النكر الذي ارتكبه مروان نصرة لعصبيته السياسية.
وأي كان فقد امتنع عبد الرحمن بن أبي بكر عن البيعة وامتنع الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، وامتنع لامتناعهم أهل الحجاز.
كتب مروان بالذي كان لمعاوية، فأقبل نحو المدينة فلما دنا منها استقبله أهلها وفيهم الأربعة المذكورون، (فأقبل على عبد الرحمن بن أبي بكر فسبه وقال:(لا مرحباً بك ولا أهلاً).
فلما دخل الحسين بن علي قال: (لا مرحباً بك ولا أهلاً، بدلة يترقرق دمها - ولله - مهريقة).
فلما دخل ابن الزبير قال معاوية: (لا مرحباً بك ولا أهلا، ضب تلعة مدخل رأسه تحت ذنبه).
فلما دخل عبد الله بن عمر قال معاوية: (لا مرحباً بك ولا أهلاً) وسبه فقال عبد الله: (إني لست بأهل لهذه المقالة)
قال معاوية: (بلى، ولما هو شر منها).
معاوية في بيت عائشة:
دخل معاوية المدينة وكله خوف من السيدة عائشة أن تشتد عليه فيما ابتدع وما يريد أن
يبتدع في أمر خلافة المسلمين مما يهون معه كل ما كان الناس نقموا على عثمان. ثم هو يخشى أن تكون السيدة سنداً وملجأ وقوة لهؤلاء الأربعة الأعلام الحجاز من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعاوية من الذين يتأتون للشر قبل وقوعه، ولا تحملهم قوتهم عليه أن يكابروه حتى يقضوا عليه، توفيراً لقواهم ورجالهم، وسياسة لهؤلاء الخصوم عسى أن يصبحوا في جملة أنصارهم فيزيدوا بهم قوتهم.
أراد معاوية أن يتلطف لما في قلب السيدة عليه، فقد قتل قائده - بأمره على ما أرجح - أخاها محمد بن أبي بكر بمصر شر قتله وأشدها نكالا: حرمه قبل قتله شربة ماء وكان يتهالك ظمأ ثم أدرج جثته في جيفة حمار فأحرقها، ولم ينج أخاها من القتل والإحراق شفاعة عائشة ولا إرسالها في أمره رسولا خاصاً من أشراف بني أمية؛ وكذلك أرسلت تشفع أيضا في حجر بن عدي وأصحابه فلم تفد شفاعتها شيئاً. ولا ريب أن في نفس السيدة على معاوية - لذلك - ما فيها، ولكنها كظمت غيظها وردت حنقها. ثم كان من مروان مع أخيها عبد الرحمن في أمر البيعة ليزيد ما رأيت آنفاً.
ومعاوية يخشى أن يفيض الإناء فيكون له من عائشة يوم مثل يوم الدار أو يوم الجمل، والحملة عليه اليوم مواتية ناجحة لاقحة: لهذا الخرق الذي أتاه في الإسلام بأخذ البيعة لابنه يزيد مع أن أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار وأولي الحل والعقد من رجال العلم متوافرون يشهدون ويسمعون: قد تخطى معاوية مشيختهم وأجلاءهم إلى شاب مستهتر سكير سيئ السيرة رقيق الدين فيما زعموا.
لهذا كله، عزم معاوية أن يروض أصعب الناس عليه يومئذ وأشدهم وأجدرهم إذا قال (هلم) أن يلبيه الناس من كل صوب ويثوروا تحت لوائه: عزم قبل كل شيء على زيارة عائشة والتذلل لها وموادتها، (فأقبل ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أم المؤمنين، فاستأذن، فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحد، وكان عندها مولاها ذكوان، فلما استقر به المجلس ابتدرته عائشة تقول:
(يا معاوية، أكنت تأمن أن أقعد لك رجلا فأقتلك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟).
كان التقريع عنيفاً مفاجئاً كما ترى، لكن داهية الأمويين - على ما يظهر - كان يتوقع مثله، فلم تصدمه المفاجأة، بل أجاب متملقاً متودداً:
- ما كنت لتفعلين ذلك.
- ولم؟
- لأني في بيت آمن: بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فطامن ذلك من عنفها. ثم إنها حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول الله وذكرت أبا بكر وعمر، وحضته على الاقتداء بهما والاتباع لأثرهما. . . ثم صمتت. وكان على معاوية أن يجيب على خطبتها هذه، ولكنه لم يخطب مخافة إلا يبلغ ما بلغت، فارتجل الحديث ارتجالا في الأمر الذي قدم لأجله، وتلطف في تهوينه وتقريبه، وقال:
- (أنت والله يا أم المؤمنين العالمة بالله وبرسوله. دللتنا على الحق وحضضتنا على حظ أنفسنا، وأنت أهل لأن يطاع أمرك ويسمع قولك، وإن أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم؛ أفترين أن يقضوا عهودهم ومواثيقهم؟؟).
فلما سمعت عائشة ذلك علمت أنه سيمضي أمره فأوصته بهؤلاء المخالفين: أخيها عبد الرحمن وأصحابه فقالت:
- (أما ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتق الله في هؤلاء الرهط ولا تعجل فيهم، فلعلهم لا يصنعون إلا ما أحببت).
ثم قام معاوية، فلما قام ذكرت عائشة فعلته الشنعاء في حجر وصحبه، فقرعته قائلة:
- (يا معاوية، قتلت حجراً وأصحابه العابدين المجتهدين؟)
فقال معاوية مراوغا: (دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟).
قالت: (صالح).
قال: (فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا).
وهكذا انتهى اللقاء الأول بين الخليفة الداهية العظيم وعائشة أم المؤمنين، وأصابه بعض ما يستحق من التعنيف على لسان السيدة
ثم خرج معاوية ومعه ذكوان مولى عائشة، فاتكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول:
(تالله ما رأيت كاليوم خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله) ثم مضى. ولا تظنن وأنت تقرا كلام معاوية آنفاً أن فيه حجة أو أن السيدة اقتنعت، فليس مما يقنع مثلها أن يقال لها
في منكر تنكره (هذا قضاء من قضاء الله)، لكن عزيمة سبقت منها في اعتزال السياسة والفتن جعلها تمر بهذه الحجة الواهية متغافلة. ومعاوية يعلم ذلك منها، وكلا الاثنين يجامل صاحبه ويدافع شره.
ثم كان لقاء آخر بمكة زور له معاوية جواباً فيه شبه الحجة في قتل حجر وأصحابه.
والذي أذهب إليه أن السيدة لا تريد هذا التأنيب، وإنما تلوح لمعاوية بقضايا قد تلجأ إلى التشنيع بها عليه إذا هو حاول أن يمس أخاها عبد الرحمن وصحبه بأذى أو بطش، ففهم كل منهما عن صاحبه.
وكأن مكانتها رحمها الله قيدت معاوية عن التصرف كما يريد في إحكام الأمر لابنه في الحجاز فمات وفي نفسه غصة من منزلة عائشة بين المسلمين وتخوف لما قد يكون منها.
أما اجتناب السيدة الشدة في إنكار هذا المنكر فيشرحه أحسن شرح حالها في احتضارها:
ذكروا أنها لما احتضرت جزعت، فقيل لها (أتجزعين يا أم المؤمنين وأنت زوجة رسول الله وأم المؤمنين وابنة أبي بكر الصديق؟). فقالت (إن يوم الجمل معترض في حلقي. . . ليتني كنت نسياً منسياً).
سعيد الأفغاني
الأدب في سبر أعلامه
6 -
تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
طالب فاشل
لما بلغ ليو السادسة عشرة من عمره أراد أن يلتحق بجامعة قازان، واختار قسم اللغات الشرقية إذ كانت بغيته أن يكون في غده من رجال السياسة؛ وكان لا بد لمن يلتحق بهذا القسم أن يجتاز امتحان اللغات العربية والتتارية والتركية، مضافا إليها بعض اللغات الغربية وبعض فروع المعرفة العامة، ونجح الفتى في بعض مواد هذا الامتحان وأخفق في بعض؛ وقد حصل في اللغة الفرنسية على أعلى درجة، وتفوق في الألمانية والعربية والتركية، وكان أقل من ذلك جودة في المنطق والرياضة واللغة والإنجليزية والأدب الروسي؛ أما التاريخ والجغرافيا فقد كان نصيبه فيهما الرسوب إلى حد بعيد، وقد ذكر عن نفسه أنه سئل أن يعدد المواني الفرنسية فما استطاع أن يذكر منها واحدة؛ ثم أعيد امتحانه بعد أشهر فيما رسب فيه فنجح وقبلته الجامعة منتسباً. . .
وجلس بين صفوف الطلاب، منصرفاً أكثر وقته عما يقول الأساتذة، يقلب عينيه في أقرانه حيناً فيعجبه منظر هذا وتضحكه هيئة ذاك؛ وينظر إلى الأستاذ حينا فيسخر مما يقول أو يرسم صورة هزلية؛ ثم ينشغل عما حوله حينا كأنما أخذته عن نفسه فما يفيق إلا على نهوض الطلاب ينطلقون من درسهم، فيسرع في انطلاقه منه لأنه ضائق به صدره. . .
وكيف يجعل الفتى للدرس باله وإنه لفي شغل تارة بما يطوف برأسه من أحلام الشباب وأوهامه، وآونة بما يهبط على خاطره من أفكار منها ما يتصل بالدين ومنها ما يتصل بالحياة. . .
أما عن الشباب وأحلامه فقد كان له في قازان مجال أي مجال للهو واللعب، وألفى الفتى نفسه وقد أخذ حب اللهو عليه كل مذاهبه وطالعته مفاتن الحياة ومسراتها من جميع أقطاره، وهو فتى متوثب الشباب تعتلج في نفسه عواطف شتى من الحب والطموح والشهوة وكل
ما هو بسييل من هذا؛ ولذلك ألقى بنفسه في متع الحياة صالحها وفاسدها وأرخى العنان لشهواته ونزواته، حتى لينسى في تلك المسرات كل ما عني به نفسه من قبل من رغبة في الكمال. . .
والكمال عنده يوم ذاك أن يلبس أحسن الثياب وأجملها وأن يفتن في اختيار الألوان حتى يحمل الناس على الإعجاب بذوقه، ولعل عدم رضائه عن خلقته قد أدى به إلى كثير من الإسراف في هذا السبيل؛ ثم إنه يلعب الورق ويشرب الخمر في جماعات من لذاته؛ ويدخن الطباق في غليون جميل يحرص أن يكون ثمنه أغلى ثمن، ويتطيب ويمشط شعره ويدهنه بما يكسبه اللمعان، ويتكلم الفرنسية في أناقة متكلفة؛ وإنه ليشهد كل حفلة يقيمها أرستقراط المدينة وذلك بدعوة من أصحابها فما يفوت أحداً أن يدعوه وقد أمسى شخصية من شخصيات المجتمع، وإنه ليبذل قصارى جهده أن يلفت الأنظار إليه، ولكم يبهجه أن يتحقق له ما يريد وبخاصة إذا ظفر بنظرات الأوانس، ولكم يؤلمه ويكدر عليه عيشه أن يصادف من أحد عدم الاكتراث له أو الفتور في تحيته؛ وإنه ليندس بين كل جماعة فيتحدث ويعرض آراءه ويخالف ويعارض ليبرهن على أصالته وقوة شخصيته.
وإنه ليغشى دور اللهو جميعاً، فيتكلف أكثر ما يستطيع من مظهر أرستقراطي في حديثه وتحياته ومشيته وجلسته؛ ويدلي بآرائه فيما يشهد من تمثيل أو يسمع من موسيقى، ويأخذ بقسط من الرقص، وإن كان لا يحسنه كما يجب أن يحسنه.
وإنه ليحسب أكثر من مرة أنه نضو حب، فيخيل إليه تارة أنه أسير هوى لشقيقة صاحبه دياكوف، وتحدثه نفسه أنها خير ما يختار من زوجة؛ ثم إذا به يتجه بخياله وقلبه إلى صديقة لأخته ماري إذ يراها وهي طالبة في معهد عال تجمع إلى جمال الخلقة حسن الخلق وسعة الثقافة؛ ولكنه لا يلبث أن يرى نفسه وقد علق قلبه بفتاة تزوجت حديثاً، ولكنه يؤثر أن يموت بين يديها على أن يكاشفها بما يحس نحوها من حب. . . ولن تزال أحلام الحب تطوف بقلبه شأنه في ذلك شأن غيره من الشباب، ولا تزال الرغبة في الزواج تلح على نفسه وتوحي إليه كثيراً من الأماني العذاب، ولكنه لا يستقر على رأي، وقصاراه أن يحلم بمن يتوق إلى أن يحبها لتكون له زوجاً تجمع بين صدق العاطفة ورجاحة العقل وتحس نحوه مثلما يحسه نحوها وتفهمه كما يفهمها، وأنى له أن يظفر بهذه الزوجة التي لا يجدها
إلا فيما يحلم من حلم؟
ولم يقتصر الفتى على الأحلام، فقد كان طلب نساء يسعى إليهن ويسعين إليه ولا يتورع أن يتسلل إلى بيوت يتهامس الناس بأسمائها ويتغامزون بها؛ ولن تخرج المرأة في رأيه عن إحدى اثنتين، فإما واحدة يلهو بها ويطفئ بها لهيب جسده، وإما ثانية يحلم بين يديها أحلام الزواج والعفة ولا يستطيع خياله أن يتجه لحظة أمامها إلى معنى من معاني السوء، ومن عجيب أمره أنه على تنبله بالثياب والمال وعلى حيويته وقوة بدنه كان خجولا شديد الاضطراب إذا وجد نفسه في مجلس أوانس أو سيدات مهما بلغت ألفته لهن، أو إذا تحدث إلى فتاة أو سيدة فما يزول عنه خجله أو يبارحه اضطرابه إلا بعد حين.
ومن كان يحيا حياة كهذه مطلق العنان مسرفا في اللهو كان حقيقة أن يفشل في طلب العلم؛ ولذلك فشل تولستوي فشلا كبيراً، على أنه يحاول أن يبرئ نفسه فيرد سبب إخفاقه إلى اضطغان أستاذ التاريخ الروسي عليه، ويزعم أنه كان حسن الإلمام بهذه المادة، كما يعلم أن هذا الأستاذ أسقطه كذلك في اللغة الألمانية على الرغم من أنه يجيدها أكثر من أي طالب آخر في قسمه بما لا تجوز معه المقارنة.
وترك تولستوي كلية اللغات الشرقية إلى كلية القانون، ولكنه في عامه الثاني بالجامعة لم يك أحسن حالا منه في عامه الأول، فقد ظل مسرفا في لهوه لا يقف فيه عند حد، يسهر أكثر لياليه حتى يسفر الصبح في مجونه وفتونه، ولبث على هذه الحال حتى انتصف العام الدراسي أو جاوز المنتصف.
وكان في الجامعة يتنبل بماله وثيابه، ويصل إليها على جواد جميل وحوله بعض الخدم، ولا يجالس أو يصاحب إلا من يراه في مثل طبقته، ويترفع على من يراه دونه، ولذلك كان بغيضاً إلى هؤلاء ثقيلا عندهم، قال أحدهم يصف شعوره نحوه (لقد كنت أبتعد عن الكونت، ذلك الذي نفرني من أول الأمر تظاهره بالجفاء كما نفرني شعره القصير الخشن وما ينبعث من عينيه نصف المقفولتين من نعنى يخز النفس، وإني لم ألق قط شاباً مثل ما لهذا الشاب من ذهاب بالنفس ورضاء عنها، الأمر الذي يعد غريباً كما أنه لا يفهم؛ وقلما كنت أقابل الكونت أول الأمر، ذلك الذي على الرغم من قميء منظره وخجله قد اتخذ له رفقة ممن يدعون الأرستقراط؛ وقلما عني بأن يرد تحيتي كأنما يريد أن يشير بذلك إلى أننا
أبعد من أن نتساوى حتى في هذا المكان حيث أنه يأتي إليه في عربة أو على ظهر جواد وآتي أنا راجلا) وذكر هذا الزميل مرة أخرى أنه تصادف أن حبس في حجرة في الكلية هو وتولستوي بعض الوقت عقابا لهما على تقصير، فرأى تولستوي في يده كتاب تاريخ، فقال إن التاريخ في رأيه أتفه موضوع، فما هو إلا مجموعة من الخرافات والتفاصيل العديمة الجدوى تتخللها طائفة من الأرقام وأسماء الأعلام؛ وتطرق الحديث إلى الشعر فتهكم تولستوي وسخر من الشعر؛ ثم تحدث عن التعليم الجامعي بوجه عام فسخر منه ما وسعته السخرية وسخر من تسمية الجامعة دير العلم إلى أن قال (ويحق لنا أن نتوقع أننا نترك هذا الدير رجلين نافعين مزودين بالمعرفة، لكن ماذا عسى أن نحمله معنا من الجامعة حقاً، وأي شيء نصلح له ولمن من الناس نكون ضرورين؟
هذا هو رأي زميله عنه، ولكن الذين عرفوا تولستوي وقد نسي تكلفه يجدونه شخصاً غير هذا، فهو ذكي الفؤاد محبب العشرة إلى رفقائه، طيب القلب، واسع الأفق متوثب الروح، صادق الحماسة لما يعتقد أنه حق أو صواب.
وهو في أثناء إجازته الصيفية في ياسنايا، ينسى ما كان منه في المدينة من تكلف يبعد به عن طبيعته، ولو أن أحداً من خلانه وآه هناك لأخذه العجب من أن يكون هذه هو الطالب الإرستقراطي الذي عرفه في الجامعة؛ فهو هنا في القرية يستحم في النهر ويجلس تحت شجرة يطالع قصة فرنسية، ويصيد السمك أو الطير ويمشي في الغابة ما وسعه المشي وقد أطلق نفسه على سجيتها، فلا أناقة في ملبس ولا تكلف في مشية أو جلسة أو حديث؛ وإنه لينام في شرفة ويأكل حيث يحب ويلبس ما يلائم لبسه الحر فحسب؛ حتى إذا عاد إلى المدينة رجع إلى تكلفه وأرستقراطيته.
ونجده يعد إسرافه في لهوه يثوب بعد منتصف العام الدراسي الثاني إلى شيء من الجد؛ ويجد لذة في دراسة القانون المقارن والقانون الجنائي وعقوبة الإعدام، ويقبل على القراءة إقبالا شديداً حتى ليتجاوز المقرر كثيراً في هذه الموضوعات، ويأنس منه أستاذه هذا الإقبال فيكلفه أن يقارن بين كتاب منتسكيو (روح القوانين) وبين قانون كاترين الثانية، فيجد الفتى في هذه المقارنة متعة عظيمة حتى ليميل إلى ترك الجامعة كي يستطيع أن يقرأ ما يحب أن يقرأ في غير قيد بما يتطلب المنهاج، فإنه إذا أقبل على قراءة شيء أحبه لا
يحب أن ينصرف عنه إلى غيره حتى يستوعبه ويستوفي منه ما يريد. ويخرج الفتى من مقارنته بين الكتابين بأن كاترين في كتابها قد خلطت آراء منتسكيو الحرة باستبدادها وغرورها، وأن هذا الكتاب قد أجدى على كاترين من الصيت أكثر مما أجدى على روسيا من الخير. . .
وفي شهر مارس من سنة 1847 يصيبه المرض ويلح على بدنه القوي فيحمل إلى مستشفى يقضي به أياماً؛ وهناك يبدأ الفتى كتابه يومياته فتكون هذه اليوميات من أهم مصادر تاريخ حياته، فلقد دأب على كتابتها أكثر أيام عمره؛ ولم ينقطع عنها إلا بضع سنين ثم عاد إليها.
وكانت أول صفحة منها بتاريخ اليوم السابع عشر من ذلك الشهر ومما جاء فيها قوله: (ليس يصحبني خادم هنا ولا يساعدني أحد، وعلى ذلك فلن يؤثر مؤثر خارجي في ذاكرتي أو حكمي على الأشياء، ويجب تبعاً لذلك أن يزداد نشاطي العقلي. . . وإن أهم ما كسبته من ذلك هو أن أرى في وضوح أن تلك الحياة المضطربة التي يعزوها الناس عرفا إلى الشباب إنما مردها في الحق إلى فساد روحي مبكر؛ إن من يعيش في جماعة يجد في العزلة من الفائدة له مثلما يجده منها في الجماعة من كان يعيش في عزلة؛ وما على المرء إلا أن ينسحب من الجماعة وينطوي على نفسه ليرى كيف يطرح عقله ذلك المنظار الذي كان يرى خلاله كل شيء حتى ذلك الوقت في ضوء مهوش. . . ولأن يكتب المرء عشرة مجلدات في الفلسفة أهون عليه من أن يحقق فكرة واحدة تحقيقاً عملياً).
وفي منتصف أبريل من تلك السنة كتب في يومياته يقول: (لقد فشلت منذ قريب في أن أجعل سلوكي كما أريد، وكان مرد ذلك بادئ الرأي إلى أنني تركت المستشفى، ثم بعد ذلك إلى من أجدني أعود إلى مخالطتهم من رفقة يوماً بعد يوم؛ وأختتم ذلك بأنه ينبغي أن يقودني تغيير المكان إلى أن أفكر في جد كيف تؤثر فيَّ الظروف الخارجية كلما تجددت الشروط والأوضاع).
ويتفكر في مستقبله فيعاوده ما كان يطمح إليه من كمال على الرغم مما أسرف فيه من عبث ولهو فيقول: (إني أجدني دائماً بحيث يطالعني هذا السؤال: ما الغرض من حياة الإنسان؟ ويغض النظر عما بلغته بطول تفكيري من نتائج وعما أعده في رأيي منبع
الحياة؛ فإني ما أزال أصل إلى خاتمة لا تتغير ومؤداها أن الغرض من الوجود الإنساني إنما هو أن نبذل أكبر عون نستطيعه في سبيل أن يرقى كل شيء حي رقياً عالمياً عاماً؛ وإني لو لم أجد غرضاً لحياتي لكنت أشقى بني الفناء على أن يكون غرضاً نافعاً عاماً. . . وعلى ذلك فيجب أن تكون حياتي اليوم كفاحاً دائباً نشطاً في سبيل تحقيق هذا الغرض الذي ليس لي غرض سواه).
ويعود الفتى إلى اعتزامه وما يقطعه إلى نفسه من مواثيق فيذكر ما سوف يأخذ به نفسه من ألوان الجد في عاميه القادمين بالقرية، فسيدرس القانون كله ليتهيأ للامتحان النهائي للجامعة وسيدرس الطب العملي وقسطاً من ناحيته النظرية واللغات الفرنسية والروسية والألمانية والإنجليزية والطليانية واللاتينية، والزراعة النظرية والعملية والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم الطبيعية، وسيدون ما يعن له من ملاحظات وسيبلغ الكمال في الفن والموسيقى، وسيكتب المقالات في شتى المواضيع التي يدرسها إلى غير ذلك من ألوان الجد والدأب. . .
ثم إنه يقطع على نفسه عهداً أن ينجز ما جمع عزمه عليه مهما تكن العقبات وأن ينجزه على خير وجه وألا يرجع إلى الكتب فيما نسي من أمر بل يعمل على أن يسترده من ذاكرته؛ وأن يحرص على أن يبذل عقله أقصى ما في وسعه من طاقة وأن يجهر بقراءته وتفكيره، وألا يخجل من أن يصارح من يقطعون عليه عمله بأنهم يعوقونه عنه؛ وليدعهم أول الأمر يشعرون بذلك فإن لم يفهموا فليصارحهم به في شيء من الاعتذار.
وحق للمرء أن يعجب من هذا الذي يعتزمه الفتى بعد ما كان من لعبه وبطالته، ولعل إسرافه على نفسه هو الذي يوحي إليه بما عسى أن ينسيه ذلك العبث ويعوضه عما فاته من جد؛ وفيم العجب وتلك حال من حالات الشباب، والشباب يتخيل أنه قادر على كل شيء فلننظر ماذا أنجز الفتى من هذا الذي جمع العزم عليه.
لم يلبث الفتى أن ترك الجامعة دون أن يحصل على شهادة ما؛ ففي سنة 1846 خرج أخوه نيقولا من الجامعة والتحق بالجيش، وعاش ليو مع أخويه الباقيين في بيت استأجروه وقد تركوا بيت عمتهم فلا رقيب عليهم؛ وبعد أشهر قليلة قسمت ثروة أبيهم بينهم فكانت ياسنايا بوليانا من نصيب ليو، مضافاً إليها أربع ضياع أخرى تبلغ أربعمائة وخمسة آلاف من
الأفدنة، كما كان من نصيبه نحو خمسين وثلثمائة من الفلاحين الذكور ومن ورائهم أسرهم؛ وفي يناير سنة 1846 يحس ليو بكثير من الضيق بعد أن بارح أخوه الجامعة كما يسأم حياة المدينة وملاهيها وغرورها، وحياة الجامعة وقيودها والامتحانات وسخفها، فيكتب إلى إدارة الجامعة لتستبعد اسمه من سجلاتها معتذراً بسوء صحته وبأمور تتصل بمطالب أسرته؛ ونطلق من الجامعة إلى غير عودة، فهل هو فاعل في غده ما تخيله في قازان من ضروب الجد؟
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
881 -
فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية:
ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله (سبحانه) أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلا، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه، فيكون خائناً لله ورسوله وغاشاً له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله. والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق. وكثيراً ما نرى المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده. فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول هذا هو الصواب، وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق.
في الأحكام السلطانية للماوردي:
يجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من أعتقد المذهب أبي حنيفة، لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإذا أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه، وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم، وهذا - وإن كانت السياسة تقتضيه - فأحكام الشرع لا توجيه لأن التقليد محظور، والاجتهاد فيها مستحق. وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه وقضى بما أداه اجتهاده إليه وأن خالف ما تقدم حكمه. .
822 -
وقدرك خير من وليمة جارك
الأغاني: (قال إسحاق الموصلي) قال لي أبو زياد الكلابي: أولم جار لي يكنى أبا سفيان
وليمة ودعاني لها، فانتظرت رسوله حتى تصرم يومي فلم يأت، فقلت لامرأتي:
إن أبا سفيان ليس بمولم
…
فقومي فهاتيِ فلقة من حوارك
فقلت له أليس غيرُ هذا فقال: لا، إنما أرسلته يتيما، فقلت: أفلا أجيزه، قال شأنك، فقلت له:
فبيتك خير من بيوت كثيرة
…
وقدرك خير من وليمة جارك
فضحك ثم قال: أحسنت بأبي أنت وأمي، جئت والله به قبلا. . وما ألوم الخليفة أن يجعلك في سماره ويتلمح بك، وإنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، ولو كان الشباب يشترى لابتعته لك بإحدى عيني ويمني يدي، على أن فيك بحمد الله ومنة بقية تسر الودود، وترغم الحسود.
883 -
المسألة دولية لا دليلية
العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ لصالح بن مهدي المقبلي اليمني (المتوفى سنة 1180):
مثال ما استصغر في الفروع ما فعله الزيدية في عصرنا هذا ولم يكن في أوائلهم، وهو تحريم الفاطميات على من ليس بفاطمي. وجهه الغلو في الرياسة، ولا ينبغي أن يذكر ما تشبثوا به فإنما هو كذب ومخرقة وقد أستدل بعضهم بأن نكاح الفاطمية بمن ليس بفاطمي - بحسب العرف الطارئ - كالهتك لحرمة أهل البيت والوضع من شأنهم فلا يجوز فعله. والتطبيق منذ عصر الصحابة إلى الآن على التزويج بهن في جميع الأرض حتى رأينا وضعاء يترفع عنهم آحاد الناس يتزوجون بالفاطمية ولم يقع استنكار، وإن أردتم، في بقعتكم هذه من جبال اليمن فأما علماء الدين فليس عندهم إلا اتباع الدليل، ولا يستنكرون إلا مخالفته وأما العامة أتباع كل ناعق فإنهم نشئوا في منع الدولة لذلك ودعوى تحريمه وتهويله وظنوه كذلك، فإن المسألة دولية لا دليلية. ثم صرن (يعني الفاطميات) الآن في اليمن يشيب أكثرهن بلا زواج، وتفسد من تفسد، ويتفرع على فساد من تفسد منهن مفاسد أخرى، لأن الرفيع يحاذر مالا يحاذره الوضيع فيقتحم في تستيره نفسه كل هول، وقد علم أن النساء أكثر من الرجال فمن أين لنا فاطميون يقومون بهن؟ وليتهم مع هذا حملتهم النخوة الحمية على القيام بهن وإيثارهن ولكن يعدلون إلى ما يقضي به هواهم من بنات السوقة والحبش! فترى الفاطميات اليوم في اليمن متجرعات لهذه المظلمة مع ما علم من
الأمر الشرعي من المسارعة إلى التزويج (إلا تفعلوه تكن في الأرض فتنة وفساد كبير).
884 -
وإنما الشأن في الحار جداً والبارد جداً
البيان والتبيين للجاحظ: أنا أقول: إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع. . . ولا ألذ في الأسماع ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة. . . من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء والعقلاء العلماء والبلغاء. . . إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني، وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم ومن الألفاظ الشريفة الكريمة المعاني كما أن النادرة الباردة جداً قد تكون أطيب من النادرة الحارة جداً، وإنما الكرب الذي يخيم على القلوب ويأخذ بالأنفاس النادرة الفاترة التي لا هي حارة، ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط، وإنما الشان في الحار جداً والبارد جداً. . .
885 -
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة
عيون الأخبار لابن قتيبة: قال أبو يقظان: ولي الحجاج محمد بن القاسم الثقفي قتال الأكراد بفارس فأباد منهم، ثم ولاه السند فافتتح السند والهند، وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، فقال فيه الشاعر:
إن السماحة والمرؤة والندى
…
لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة
…
ياقرب ذلك سودداً من مولد
وفي معجم الشعراء للمرزباني: وله يقول زياد الأعجم أو غيره:
قاد الجيوش لخمس عشرة حجة
…
ولداته عن ذاك في أشغال
قعدت بهم أهواؤهم وسمت به
…
همم الملوك وسورة الأبطال
وكان محمد بن القاسم من رجال الدهر.
886 -
. . . وإن أفطر قالوا معذور
نهاية الأرب: قال سعيد بن جبير: لم تر عيناي أجل من فضل عقل يتردى به الرجل؛ إن انكسر جبره، وإن تصدع نعشه، وإن ذل أعزه، وإن اعوج أقامه، وإن خاف أمنه، وإن حزن أفرحه، وإن تكلم صدقه، وأن أقام بين أظهر قوم اغتطبوا به، وإن غاب عنهم أسفوا
عليه، وإن بسط يده قالوا: جواد، وإن قبضها قالوا: مقتصد، وإن أشاروا قالوا: عالم، وإن صام قالوا: مجتهد، وإن أفطروا قالوا: معذور. . .
887 -
الحلواء، اللوزيتج، القطائف
محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصفهاني:
قال بختيشوع: الحلواء كلها، حقها أن تؤكل بعد الطعام لأن للمعدة ثوراناً عقب الامتلاء كثوران الفقاع، فإذا صادفت الحلاوة سكنت. وقول الناس: إن في المعدة زاوية لا يسدها إلا الحلاوة على أصله والآكل إذا اشتهى الحلاوة ثم فقدها وجد في حواسه نقصاً.
اللوزينج قاضي قضاة الحلوات.
قيل لبعض الناس: إن التمر في البطن، فقال: إذا كان التمر يسبح في البطن فإن اللوزينج يصلي فيها التروايح.
ألذ شيء على الصيام
…
من الحلاوات في الطعام
قطائف نضدت فحاكت
…
فرائد الدر في النظام
منومات على جنوب
…
في الجام كالصبية النيام
غروب شمس
للأستاذ كامل الصيرفي
(مهداه إلى روح شقيقتي الوحيدة التي رجعت إلى ربها راضية
مرضية).
تركت الدار موحشة الجناب
…
ورحت وأنت في شرخ الشباب
دفنتك في التراب وكنت عندي
…
أعز الخاطرين على التراب
وأودعت الثرى كنزاً ثميناً
…
من الأخلاق والشيم العذاب
وغاب مع السكون الجهم صوت
…
على نبراته يغفو اضطرابي
وغيب في ظلام القبر نور
…
وخلف لي لهيبا من عذاب
يؤرقني غيابك من حياتي
…
وما أقسى مرارات الغياب!
تلمست النجاة فرحت جسما
…
طري العود خفاق الإهاب
وعدت إلى لا نفس خفوق
…
ولا روح يلطف من مصابي
ولو أني استطعت بذوب قلبي
…
فديتك من أعاصير التباب
أنادي بأسمك الغالي، ولكن
…
أراك عييت عن رد الجواب
وكنت إذا سكت ملأت نفسي
…
بألوان الحديث المستطاب
أنادي. . . والأنين رجيع صوتي
…
وأهتف والجواب صدى انتحابي
وتغلبني الدموع. . . وأي صبر
…
يقر أمام دمع في انسكاب!
وأي مصيبة نزلت بساحي!
…
وأي رزيئة وقفت ببابي!
وما بالهين الخطب افتقادي
…
أعز الأقربين إلى انتسابي
فقدتك وافتقدت عزاء نفسي
…
وكنت لي العزاء وقد خلا بي!
أراك - وقد أراك الموت حلما -
…
بسمت فقد خلصت من العذاب
رؤى الدنيا كواذب خادعات
…
وقد صبغت بألوان كذاب
نساق إلى مفاتنها، ونمضي
…
مضي المصحرين إلى السراب
ونعشو كالفراش على شعاع
…
جحيمي الحرارة واللهاب
نؤمل ما نؤمل ثم تطوى
…
مع الأنفاس آمال خوابي
تعللنا بمعسول الأماني
…
وتمزج بالتعلة كل صاب
ونأخذ من يد الأيام كأساً
…
تداول بالقديم من الشراب
نجرعه وليس لنا سبيل
…
إلى الشكوى من الألم المذاب
وتسلبنا الأعز، وليس حرص
…
بمانع كفها من الاغتصاب
مضت بالأولين، وسوف تمضي
…
بنا وبغيرنا من كل باب
نعيش وحولنا أهل وصحب
…
ونحن من الحياة على اغتراب
وما حمل المرارة غير حي
…
زواه الموت عن هذا الركاب
يشيع نفسه في كل حين
…
وراء الراحلين من الصحاب. .!
شقيقتي العزيزة! لست أدري
…
أكنت خيال وهم في عبابي؟!
أسائل موج أيامي أكانت
…
ليالينا بها خفق الشهاب؟!
وكنا ناعمين على سبوح
…
رخي الريح يمرح في انسياب
يوحدنا الحنان الجم حتى
…
كأن رغاب نفسك من رغابي
فلم يعصف برحلتنا خلاف
…
ولم نعزف لجاجات الشغاب
ولم يلمم بنفسينا خصام
…
ولا خطرات بنا نسيم العتاب
فمالك قد قطعت سراك منها
…
وعوجل نجم عمرك باحتجاب؟!
وروع ليلنا الزاهي بفجر
…
دميم الوجه مهتوك النقاب
وهبت في الصباح الطلق ريح
…
تسوق إليه داكنة السحاب
وزلزت السفينة وهي تمضي
…
تشق عباب أمواج غضاب
منكسة الشراع كأن نعشاً
…
سرى في اليم ما بين اصطخاب
تمر بها العواصف معولات
…
كأن سبيلها أحشاء غاب
وقهقهت المقادر وهي تبدو
…
مسلحة بأظفار وناب
فألقى بي الأسى في غير وعي
…
شريد الفكر مشدوه الصواب
أجوب الشاطئين غريب دار
…
مطلسمة المعالم والشعاب
كأن نسيمها أنفاس جن
…
وأن حفيفة صمت اليباب!
محا منها البشاشة هول يوم
…
أساء إلى مغانيها الرطاب
شقيقتي العزيزة! أي خطب
…
بليت به ولم يك في حسابي!
كتاب حياتك اختتمته بلوى
…
فكان الرزء خاتمة الكتاب
طويل فصوله سنة وحلم
…
سريع الخطو ومضى الوثاب
طواه الموت مخترماً عجولا
…
كما يطوى الحديث بالاقتضاب
وكانت قصة القدر المعمي
…
وكانت قصة الزمن المحابي
صبرت على متاعبها، وكانت
…
شجونك في فؤادي كالحراب. . .
شقيقتي العزيزة! أي ذكرى
…
معطرة سمت عن كل عاب!
حديثك في فم الأهلين شهد
…
وبعدك عن ديارك كأس صاب
وما عودتني في العيش نأياً
…
فكيف وقد رحلت بلا إياب!
ذهبت شهيدة للقاء رب
…
كريم الأجر مرجو الثواب
حملت على يديك كتاب طهر
…
وعفة خاطر، وتقى شباب
رحلت وأنت باسمة رضاء
…
وما خلفت لي إلا اكتئابي
سأمضي بعد موتك في حياتي
…
كما يمضي المغامر في الضباب
خلت من كل سلوان وشاهت
…
وقد ضاقت بأحزاني رحابي. . .
حسن كامل الصيرفي
الأدب والفن في أسبوع
أصول الأدب الهندي
أشرنا في عدد سابق من (الرسالة) إلى الجهد المشكور الذي يبذله الأستاذ وديع البستاني في البحث عن أصول الفلسفة الهندية وآداب الهنود، وأشدنا بهمته في نقل تلك الآثار الخالدة إلى اللغة العربية بعد أن وفر جهده على دراستها أربعين عاماً أو تزيد.
وقد جاء في الأنباء البرقية أن الأستاذ وديع أتم فعلا نقل الملاحم الهندية القديمة إلى اللغة العربية، وهي (الرامايانا) و (المهابهاراتا) و (النالادماينتي) و (الشاكونتالا)، كما أنه ألف كتابا خامساً عن الأساطير الهندية القديمة. . .
و (الرامايانا) و (المهابهارتا) ملحمتان الإلياذة، والأوديسة، فموضوعها تصرفات الآلهة وقصص الأبطال، وتعتبر (الرامايانا) أهم من (المهابهارتا)، كالإلياذة بالنسبة الأدويسة أما (النالادامايانتي)، فإنها إحدى القصص الخمس التي تتألف منها (المهابهارتا)، وأما (الشاكونتالا) فإنها قصة عنيفة من النوع الدرامي. ولكنها تعتبر حديثة بالنسبة لسابقاتها، إذ وضعها الشاعر (كالنياسا) في أواخر القرن الثالث للميلاد.
ويقول الباحثون في الأدب المقارن إن (الرامايانا) تشبه الإلياذة إلى حد كبير، بل إنها تشبهها تمام المشابهة، فإن الهنود ينسبون وضعها إلى شاعر قديم يدعى (فالميكي) ولكن حياة هذا الشاعر غير محققة، وإن البحث الحديث ليشك في وجوده كما يشك في وجود هوميروس، وإذا كانت الإلياذة قد صورت آلهة اليونان مجتمعة بقمة الأولمب، فأن الرامايانا كذلك صورت معبودات الهنود مجتمعة في قمة جبل ميرو، وتنسب الإلياذة إلى المعبودات اليونانية أنها كانت تتغذى بماء الخلود، وكذلك تنسب الرامايانا إلى المعبودات الهندية أنها كانت تشرب ماء العنبرية أي ماء الحق الذي يضمن لهم الحياة الباقية، وفي الإلياذة يقف (جوبيتر) أبو المعبودات اليونانية وفي يده الصاعقة ليرسلها على المغضوب عليهم من الضالين، وكذلك في الرامايانا يقف (أندرا) شيخ معبودات الهنود وفي يده هذه الصاعقة، ولكن الهنود يصورون معبودهم الكبير في وضع مهيب إذ يمثلونه بثوب أزرق مرصع بعيون كثيرة متكئاً على قوس قزح ومن حوله الحور العين، وكأنهم بهذه الصورة يرمزون إلى السماء.
وكذلك نجد على وجه العموم مشابهة كثيرة بين الملاحم الهندية والملاحم اليونانية في تصوير الآله والأبطال، (ففينوس) الجميلة المعبودة عند اليونان تقابلها المعبودة (لكمى) عند الهنود ومن الغريب أن كلتيهما قد خلقت من زبد البحر، و (أبولون) إله الوحي والشعر والفنون يقابله (كريشنا) و (إيروس) إله الحب يقابله (كاما) وهكذا نجد لكل إله أو بطل مقابلا في مثل وضعه ووصفه.
وقد يؤدي هذا إلى الاعتقاد بوجود صلة بين الأدبيين، والواقع أن الباحثين في الأدب المقارن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى نتيجة حاسمة في هذا الشأن لأن الملاحم الهندية وضعت في القرن التاسع قبل الميلاد، وهو الزمن الذي وضعت فيه الملاحم اليونانية فلم تعرف أسبقية لأيهما بعد، كما لم تكشف صلة في ذلك الزمن بين الهنود واليونان، ولا شك أن عناية الأستاذ وديع البستاني بنقل تلك الملاحم الهندية إلى اللغة العربية سيعين على كشف هذه الحقيقة؛ ولا شك أنه بهذا الجهد الجبار يؤدي خدمة جليلة للآداب العربية، بل للآداب العالمية، وإنها لخدمة تزيد في التقدير والاعتبار عن تلك الخدمة السابقة التي نهض بها عمه الشيخ سليمان البستاني بترجمة الإلياذة إلى العربية، لأن الإلياذة كانت قد نقلت إلى كثير من اللغات الحية في العصر الحديث. أما الملاحم الهندية فأنها لا تزال بلغتها الهندية القديمة.
على أننا في هذا المقام نذكر باحثاً فاضلا بكل خير وهو المغفور له صالح جودت بك، فقد نقل إلى العربية عام 1912 قصة من تلك الملاحم الهندية وقدم لها بمقدمة أشاد فيها بالآداب الهندية القديمة وأشار إلى ما فيها من مظاهر لا تقل عما هو ملحوظ في آداب اليونان.
انحطاط المجلات المصرية:
بهذا العنوان كتبت مجلة (عالم الغد) العراقية كلمة قالت فيها: (يغمر العراق سيل لا ينقطع من المجلات المصرية الأسبوعية المصورة الرخيصة، وهي ملأى بالميوعة والخلاعة والعامية وسوء الأدب وليس فيها إلا الأدب الرخيص الذي يتنافى وعاداتنا وتقاليدنا ويتنافى ونهضتنا التي يجب أن تقوم على أسس ثقافية متينة وتستند إلى دعائم خلقية قويمة، ولو كانت هذه المجلات تباع بالمئات لغضضنا الطرف عنها ولكنها تباع بالآلاف وتتسلل إلى كل بيت ويقرؤها كل شاب وتتصفحها كل فتاة فلا نستطيع إذن أن نتجاهل تأثيرها في
أخلاق الناس ومستقبل الثقافة).
(ولقد ارتفعت الشكوى من هذه المجلات في مصر والعراق لأنها أخذت تتسابق في دعارتها. . . وتتفنن في إثارة شهوات المراهقين بما تعرضه من صور خليعة نابية، وما تنشر من أقاصيص مكشوفة بعيدة عن كل ذوق سليم، ونحن لا نعترض على نشر الصور الفنية، وإنما نعارض في نشر الصور الخليعة التي لا ترمي إلى غاية ثقافية وخلقية، فعلى مديرية الدعاية العامة واجب عظيم وهو مراقبة هذه المجلات مراقبة دقيقة والحيلولة دون تسربها إلى أسواق العراق محافظة على الثقافة الصحيحة والآداب العامة).
هذا ما كتبته تلك المجلة الثقافية العراقية، نشرناه بنصه وحروفه، وإن كنا قد حذفنا منه أسماء المجلات التي عينتها وعنتها بالحديث، ونحن ننشر هذا الكلام من غير تعليق، وكل ما نرجو أن نكون بصيرين على أنفسنا قبل أن يبصرنا غيرنا بأمورنا، وماذا يكون موقفنا إذا واجهتنا مديرية الدعاية في العراق بمنع دخول تلك المجلات المصرية إلى العراق بحجة أنها تسيء إلى الأخلاق؟
تاريخ دمشق:
من أنباء دمشق أن مصلحة الآثار هناك اتخذت خطة للعناية بالآثار الإسلامية، ورأت في ذلك أن تذيع نشرات دورية للتعريف بأهم تلك الآثار وأن تقوم بطبع الكتب المخطوطة القيمة التي تؤرخ دمشق وتتحدث عن خططها.
وهذه نهضة طيبة ووجهة حميدة نرجو أن تستمر في طريقها كما نرجو أن تسايرها نهضات مماثلة في مصر والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها من الأقطار العربية الإسلامية، فأن كثيراً من مصادر التاريخ الإسلامي وعواصم الإمبراطورية الإسلامية لا تزال مطمورة مجهولة، ولا يزال المؤرخون في العصر الحديث يجدون في معالجة هذه الموضوعات مشقة بالغة.
ومما يذكر بهذه المناسبة أن نهضة مماثلة لهذه النهضة الدمشقية كانت قد قامت في مصر، وكان لدينا طبقة من العلماء الباحثين الذين يعنون بهذه النواحي، ولكن هذه النهضة ركدت بل وقفت فجأة في منتصف الطريق، حتى إن كتاب مسالك الأبصار الذي حقق المغفور له أحمد زكي باشا الجزء الأول منه وأخرجه منذ ثلاثين عاماً لم يطبع منه أي جزء آخر
للآن، بل لقد أهمل أمر هذا السفر العظيم وأصبح في خبر كان.
ولعل عاصمة من العواصم الإسلامية القديمة لم تجد من عناية المؤرخين بتاريخها وخططها وتطوراتها مثل ما وجدت القاهرة، ولكن مما يدعو إلى الأسف أن لا نجد بين أيدينا من ذلك إلا خطط المقريزي في القديم وخطط علي باشا مبارك في الحديث، على حين أن هناك عشرات الكتب المماثلة لا تزال مطمورة مجهولة فهل يمكن أن تتعاون دار الكتب المصرية ودار الآثار العربية على إخراج هذه الآثار؟
آثارنا:
ومن أنباء دمشق أيضاً أن رئيس البعثة الفرنسية التي كانت تقوم بأعمال الحفر والتنقيب في منطقة رأس شمر باللاذقية قد نقل جميع ما عثر من اللوحات الأثرية القيمة إلى فرنسا ولم يسلم للحكومة السورية منها شيئاً مع أن هذا يخالف نص الاتفاق الذي عقد بين الحكومة السورية والبعثة الفرنسية والذي يقضي باقتسام ما يعثر عليه من الآثار مناصفة بين الفريقين، وقد كتب محافظ اللاذقية إلى حكومته يقول أن رئيس البعثة الفرنسية يأبى أن يسلم شيئاً من الآثار التي عثر عليها بحجة أنه نقلها إلى فرنسا ليقوم بدراستها وفك رموزها، ثم يهيب بالحكومة أن تقاضيه نصيبها من هذه الآثار.
وهذه القصة في الواقع هي قصة جميع الآثار لأقطار الشرق، تلك الآثار الغالية التي سرقت تحت أبصارنا وأسماعنا وغمرت بها المتاحف الأوربية، على حين خلت منها متاحفنا ومكتباتنا وأصبحنا لا نستطيع تصحيح تاريخنا إلا إذا شددنا إليها الرحال أو تفضل مستشرق فقدم إلينا من دلائلها ما يريد هو لا ما نريد نحن.
(الجاحظ)
من هنا ومن هناك
ترجمة الآداب الثقافية العالمية:
أذيعت أخيراً أهم القرارات التي أقرتها الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في القسم الثاني من دورتها التي عقدت بنيويورك من 23 أكتوبر إلى 15 ديسمبر عام 1946 ومن بينها قراران خاصان بالناحية الثقافية أقترحهما الوفد اللبناني ووافقت عليهما الجمعية بالإجماع وهما:
أولا: تعتبر الجمعية العامة أن ترجمة الآداب الثقافية العالمية إلى لغات أعضاء الأمم المتحدة من شأنه أن يساعد على التفاهم وانتشار السلام بين الأمم إذ يخلق ثقافة مشتركة لجميع الشعوب.
لذلك فهي تحليل هذا الموضوع إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي ليحيله بدوره إلى المنطقة التهذيبية والاجتماعية والثقافية للأمم المتحدة لاتخاذ عمل ملائم، وتوصي المجلس والمنطقة أن يأخذا بعين الاعتبار المبادئ التالية في درس هذا الموضوع:
(ا) أن ترجمة هذه الآداب الثقافية العالمية هي مشروع ذو طابع عالمي له أهميه كبرى من ناحية التعاون والتفاهم الدولي حول المسائل الثقافية.
(ب) أن بعض الأمم ليس لديها التسهيلات الكافية ولا المعدات اللازمة لترجمة هذه الآداب العالمية إلى لغاتهم.
(ج) تعتبر هذه الترجمة من الحوافز التي تساعد على انتشار الثقافة بين الناس.
(د) أن معنى الآداب الثقافية لا ينحصر بالإشارة إلى أدب معين دون سواه بل يتناول جميع آداب الأمم وثقافتهم خصوصاً ما كان منها - بشهادة أكبر الثقاة - ذات قيمة باقية على الدهر
ثانياً: تعتبر الجمعية العامة أن أعضاء الأمم المتحدة ليسوا على مستوى من التطور الثقافي وإن بعض الأعضاء قد يحتاج إلى مشورة الخبراء الفنيين في مختلف نواحي الاقتصاد والاجتماع والثقافة، وإنها مدركة عظم المسؤولية الملقاة على عاتق الأمم المتحدة في تقديم هذه المشورة الفنية لهم بحكم نصوص ميثاقها نظراً لأهميتها في دعم السلم والرفاهية في العلم.
لذلك فهي تقرر إحالة هذا الموضوع إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالتعاون مع المؤسسات المختصة لإيجاد الوسائل الفعالة التي من شانها تأمين تقديم آراء الخبراء الفنيين في مختلف نواحي الاقتصاد والاجتماع والثقافة للدول الراغبة في الحصول على مثل هذه الآراء.
هذان هما القراران اللذان أقرتهما الجمعية العامة لهيئة الأمم بالإجماع، ونحن نسجلهما للتاريخ، ولعليا نراهم عن قريب عملا نافذاً، ولعل اتجاهات السياسة المغرضة لا تجعلهما حبراً على ورق، ولا تطويهما في مطاوي النسيان. . .
دولة المماليك البحرية:
أجمع المؤرخون على أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب هو أول من رتب المماليك البحرية وأول من سماهم بذلك الاسم نسبة إلى بحر النيل الذي كان يحيط بثكناتهم بجزيرة الروضة.
غير أن هذا الرأي لا يستند على أساس علمي صحيح، فلقد أثبت أستاذنا الدكتور محمد مصطفى زيادة بالأدلة العلمية القاطعة أن الصالح أيوب لم يكن أول من أوجد تلك الفرقة في مصر ولم يخترع لتسميتها أسم البحرية ولا أدل على ذلك من أن جده السلطان العادل كانت لديه طائفة من الأجناد أسمها البحرية العادلية كما أن الفرقة التي أنشأها الصالح نفسه كانت تعرف باسم البحرية الصالحية ولا معنى لهذه النسبة سوى ما أريد بها من تمييز تلك الطائفة عن الطوائف البحرية الأخرى المنسوبة لمن سبق الصالح أيوب أو من جاء بعده من السلاطين كالبحرية الظاهرية المنسوبة للسلطان الظاهر بيبرس البندقداري.
ويمكنني أن أرغم أستاذي القيمة بأدلة أخرى تتلخص في أن لفظ (البحرية) كان مستعملا في العهد الفاطمي في مصر حيث أطلق على طائفة من طوائف الجند، فيروي أبو المحاسن واصفاً ركاب الوزير في الموكب الخلافي الفاطمي (. . . ثم يأتي حامل الدرق والرمح. . . ثم الأكراد والغز المصطنعة وهم البحرية.
ولم تكن فرق البحرية موجودة قبل عهد الصالح أيوب في مصر فقط، بل كان يوجد في أوربا أيضاً فرق حربية جاءت إلى الأراضي الإسلامية وحاربت المسلمين في الشام وأطلق عليها المؤرخون العرب المعاصرون أسم (الفرنج البحرية) أو (الفرنج الغرب البحرية)
فيروي أبو شامة في مخطوطة (النيل على الروضتين) لوحة 8، 9، ح1 (ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وفيها فتح الملك العادل يافا. . . . ومن عجيب ما بلغني أنه كان في قلعتها أربعون فارساً من الفرنج الغرب البحرية فلما تحققوا نقب القلعة وأخذها دخلوا كنيستها وأغلقوا عليهم بابها وتجالدوا بسيوفهم بعضهم لبعض إلى أن هلكوا جميعاً وكسر المسلمون الباب يرون أن الفرنج ممتنعين (صحتها ممتنعون) فألفوهم قتلى عن آخرهم فتعجبوا عن حالهم).
ويروي أبو شامة في موضع آخر (ح1 لوحة 55)(وفي سنة 601هـ تغلبت طائفة من الفرنج البحرية يعرفون بالبنادق على قسطنطينية وأخرجوا الروم منها). وفي موضع ثالث ح2 لوحة 167 يذكر أبو شامة (في سنة 624هـ قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج البحرية على المعظم بعد اجتماعه بالكامل يطلب منه البلاد التي كان فتحها عمه صلاح الدين فأغلط له القول وقال قل لصاحبك ما أنا مثل العزيز ما له عندي إلا السيف).
ويروي ابن واصل في مخطوطة (مفرج الكروب) ح1 لوحة 150 (سنة 599هـ خرج من الاسبتار من حصن الأكراد والمرقب ومن وصل من الغرب وأغاروا على بلد بعرين وعدتهم خمسمائة فارس. . . . . فبلغ الملك المنصور (صاحب حماة) ذلك فخرج إليهم والتقاهم فكسرهم كسرة عظيمة وقتل منهم مقتلة كبيرة وكان من جملة القتلى. . . . . وقومص من البحرية وانهزم الباقون لا يلوون على أحد).
فلفظ بحرية إذن لم يكن جديداً على مصر حينما أنشأ الملك الصالح أيوب فرقته البحرية بل كان لفظاً عاماً أطلق على المسلمين والمسيحيين على السواء.
تبقى أمامنا المشكلة الأخيرة وهي لماذا سميت هذه الفرقة بالبحرية؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نشير أولا إلى خطأ الفكرة الشائعة بأن لفظ بحرية يرجع إلى بحر النيل الذي كان يحيط بثكنات فرقة البحرية الصالحية بجزيرة الروضة، فهذه النسبة لم يذكرها المؤرخون المعاصرون بتاتاً أمثال ابن واصل وأبي شامة، هذا فضلا عن أن وجود هذا الاسم منذ العهد الفاطمي في مصر ينفي هذا الزعم نفياً باتاً.
وأغلب الظن أنهم سموا بحرية لأنهم جاءوا من وراء البحار فيروي الجنرال جوانفيل أحد قواد حملة الملك لويس التاسع على مصر (1249 - 1250م) في كتابه (تاريخ حياة سان
لوي) العبارة التالية يعرف بها البحرية الصالحية:
أي أنهم كانوا يسمون بحرية أو رجال ما وراء البحر ،
والجنرال جرانفيل الذي ندين له بالكثير في تفاصيل هذه الحملة في كتابه المذكور، قد حارب المماليك البحرية الصالحية وأسر عندهم وتحدث إليهم، فروايته لها قيمتها بصفته رجلا معاصراً وشاهداً عياناً. وإذا علمنا أن المماليك البحرية زمن الأيوبيين والمماليك كانوا عبارة عن فئة من الغرباء والأجانب الذين جلبوا من أسواق النخاسة بالقوقاز وآسيا الصغرى وشواطئ البحر الأسود تأيدت لدينا عبارة جوانفيل السالفة الذكر.
من كل ما تقدم نرى أن لفظ بحرية في العصور الوسطى كان لفظاً عاماً أطلقه المسلمون والمسيحيون على الرجال الآتين من وراء البحار.
أحمد مختار العبادي
أمين مكتبة كلية العلوم بجامعة فاروق الأول
نجم يهوي.
في موجة من موجات الجنون قذف نجم بنفسه من سمائه العالية وهوى إلى أعماق البحر المظلمة. . .
حملقت ملايين النجوم فزعة مروعة وهي تشاهد هالة من الضوء تغيب في هذا الفضاء المطلق في لحظات معدودات. . .
لقد اندفع النجم إلى أعماق المحيط ذات القاع الصخري وانتثر هناك مع نجوم لاقت مصيره من قبل وابتلع البحر نورها مثله.
ماذا كان سبب مأساة هذا النجم الهادي. . .
أنا وحدي أعرف الجواب.
أنا وحدي أعرف ماذا كان يبليه ويعنيه أثناء إشراقه ولمعانه.
إنه دفع ثمن لمعانه المستمر وكفر عن تلألئه الدائم. . . مثله كمثل قطعة من الفحم الحي تضحك وتبين عن ثناياها لتخفي ظلمتها وسوادها، وكلما زاد تلألؤها ازداد احتراقها وهكذا
ضحك النجم وتوهج نوراً، وحينما لم يستطع أن يتحمل آلام الاحتراق هوى من سمائه.
من مملكة الضوء إلى ظلمات الأمواه.
ملايين من النجوم أبصرت النجم الساقط وضحكت في سخرية قائلة.
(إننا لم نسخر شيئاً. فلا نزال السماء منيرة كما كانت من قبل).
إبراهيم أبو الفتوح يوسف
المدرس بدار المعلمين ببغداد
البريد الأدبي
إلى العاتبين على الأستاذ الزيات
لقد ظلمتم الأستاذ، فما (هجع قلمه وسط الأحداث التي توقظ النيام)، ولا
(آثر السكوت ابتغاء الراحة والاستجمام) وما زال هذا القلم العضب
سيف الحق في كل مكان، وعلم البلاغة ومنار البيان، ولكنها عزلة
المرض، شفى الله الأدب بشفائه، وأقر بصحته عيون قرائه.
(علي)
قصة الروح:
تمثل الأستاذ عثمان طه شاهين في مقاله في مجلة الرسالة العدد (713) بهذه الأبيات:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
…
فلا بد أن يستجيب القدَرْ
ولا بد لليل أن ينجلي
…
ولا بد للقيد أن ينكسِرْ
وهي من المتقارب في ضربه المحذوف، غير أن البيت الثاني لحق به خطأ عروضي هو (إسناد التوجيه) وذلك بتغيير حركة الحرف قبل الروي المقيد من فتح إلى خفض، وهو منصوص على خطئه في قوانين العروض والعروضيين.
(الزيتون)
عدنان أسعد
نشر ديوان الشريف الرضي:
يتمتع الشريف الرضي بمكانة مرموقة بين فحول شعراء الأدب العربي؛ وديوانه يعد من النمط العالي. فناً، وصياغة؛ وحجما؛ وطبعاته مع ندرتها بين القراء الآن تشوبها شوائب التحريف الطاغي عليها؛ وتعتورها الأغلاط اللغوية المنتشرة؛ وكان يحز في نفس كل واحد من له اشتغال بالدراسات الأدبية؛ أن يظل ديوان الشربف الرضي ينوء تحت عبء الإهمال، ويعاني هذا الإجحاف؛ وقد قام العالم الباحث الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد
بإخراجه إخراجا علمياً دقيقاً؛ وشرح ألفاضه وصور المعنى الإجمالي للبيت؛ وتلافي ما فيه من تأريخ لا يتفق والحقائق التاريخية الثابتة؛ ورقم القصائد بأرقام مسلسلة؛ ورقم أيضا القصيدة بأرقام مسلسلة؛ وقد صدر بمقدمة طويلة جيدة؛ تناول فيها فن الشاعر وعصره؛ وخصائصه الشعرية؛ وقد قسمه إلى أربعة أجزاء؛ وتعهدت نشره (دار عيسى الحلبي) وهي تعد من أرقى دور النشر في الشرق؛ فجاء تحفة فنية في الإخراج؛ وآية رائعة في الطبع؛ وقد أوشك الجزء الأول أن يكون بين أيدي القراء.
محمد عبد الحليم أبو زيد
حول اكتبوا للأطفال:
تفضل الصحفي الكبير الأستاذ أسكندر مكاريوس بالتعليق على مقالي (اكتبوا للأطفال) وقد أخذ على إشارتي إلى أن هذا النوع من الكتابة لم يعن به في الشرق إلا منذ عهد قريب وكان على راس من شقوا أفقه أديبنا الكبير الأستاذ كامل كيلاني بتلك المكتبة الضخمة التي جرت على أدق منهاج واستوفت عناصر الإفادة والإمتاع والتشويق. فالأستاذ الناقد يذكرني بما كان من جهود بعض المرسلين الأمريكيين وما أصدره هو من مجلة الأولاد وما إليها. واحب أن يؤكد للأستاذ أني حين أشرت إلى حداثة العهد بالكتابة للأطفال لم أكن أعني أن العهود الماضية خلت من مطبوعات في هذا الصدد. فقد تعلم آباؤنا وتعلم آباؤهم من قبل وكانت بين أيديهم كتب حوت قصصاً (وحواديت) ولكني كنت أعني حداثة العهد بمحاولات تربوية موفقة تجاري ما نهدف إليه من آمال في إنشاء جيل جديد صحيح التنشئة قوية ملكاته الذهنية والنفسية واستقام لسانه على نطق عربي مبين. ولو كنت بصدد تأريخ حركة الكتابة للأطفال أسرد خيرها وشرها ووثباتها وعثراتها لما غادر شيئاً مما أشار إليه الكاتب الناقد وما احسبني لو فعلت ذلك أرضيه.
محمد سيد كيلاني
نيف. عام:
يجد القارئ في غلاف مجلة الهلال الغراء (الجزء 2 فبراير 1947 المجلد 55) العبارة الآتية: (أسست دار الهلال منذ نيف وخمسين عاماً، وكان لها - وما زالت - أهداف ثلاثة:
ثقافة - وصحافة - وطباعة).
لقد استعمل الكاتب الفاضل كلمة (نيف) قبل العقد من العدد والصواب أن يستعملها بعد العقد من العدد. جاء في أقرب الموارد: (النيف كسيد وقد يخفف: الزيادة يقال (عشرة ونيف) وكل ما زاد على العقد فنيف إلى أن يبلغ العقد الثاني. وعن ابن عباس أن ما حصلناه من أقوال حذاق البصريين والكوفيين أن النيف من واحدة إلى ثلاث والبضع من أربع إلى تسع. ولا يقال نيف إلا بعد عقد يقال (عشرة ونيف ومئة ونيف وألف ونيف).
واستخدم كلمة (عام) بمعنى سنة والصواب أن يقال: منذ خمسين سنة. قال ابن الجواليقي البغدادي: (ولا يفرق عوام الناس بين العام والسنة ويجعلونهما بمعنى. فيقولون لمن سافر في وقت من السنة أي وقت كان إلى مثله عام وهو غلط والصواب ما أخبرت به عن احمد بن يحيى قال: السنة من أي يوم عددته إلى مثله والعام لا يكون إلا شتاء وصيفا. وقال أبو منصور الأزهري في التهذيب: والعام حول يأتي على شتوة وصيفة فهو أخص من السنة فكل عام سنة وليس كل سنة عاماً. وإذا عددت من يوم إلى مثله فهو سنة وقد يكون فيه نصف الصيف ونصف الشتاء والعام لا يكون إلا صيفا وشتاءً متوالين).
(عمان)
لطفي عثمان
تعقيب:
1 -
في مقال (النطق وكيف نشأ) وردت العبارة الآتية: (فالإنسان ليس بحيوان ناطق، كما كانوا يعلموننا فيما مضى. وهو لا يختلف في شيء من هذه الناحية عن باقي الحيوانات إلا في الدرجة فقط) وقد فهم الكاتب أن النطق الذي جعله المناطقة فصلا يميز ماهية الإنسان عما عداها هو النطق اللساني، فحال ما ذكروه في حد الإنسان باطلا ولغواً من القول. وغاب عنهم انهم يريدون بالنطق التفكير بالقوة أي أن الإنسان خلق مهيئاً باستعداده ومواهبه لأن يفكر ويدرك الكلي من المعلومات وهذه ميزة لا يشركه سواه فيها، ولم يؤتها سائر الحيوان.
وقد آتى الكاتب من إشراك اللفظ بين معنييه اللغوي والاصطلاحي. وهذه أحد أركان
الوجوه التي توقع في الخطأ كما نص عليه علماء المنطق.
2 -
في ص 260 في نقل الأديب وردت العبارة الآتية: (ولهذا قيل للنجد جلساء) وهذا لا شك خطأ من الطبع وصوابه جلْس؛ فالجلس الأرض الغليضة أو المرتفعة، والجلساء لفظ غير معروف في المادة.
3 -
في ص 269 ورد تحت عنوان: (تعليق وتعقيب) أن قطربل اشتهرت بالمشمش حتى ذكره البحتري في قوله:
شربت مشمش قطربل
…
وجرَّعتنا دقل الدسكرة
إذا حب في الكأس مسودّة
…
فكف النديم لها محبرة
وفي البيتين تحريف كما في الديوان. فمشمش صوابها مشمس، وهو ضرب من الخمر، وحب صوابها صب.
محمد النجار
مدرس بكلية اللغة العربية
القصص
أُخت. . .
للأستاذ لبيب السعيد
نظر (صادق) على صورة أخته الصبية بقلب يفيض رحمة ويسيل حباً وحنواً. أن صورتها تطالعه بنظرة يراها تشع وداعة وقدساً، وبسمة ترف له لطفاً وأنساً.
وأراق على الصورة حنين روحه وضراعة فؤاده، ثم انثنى يفكر، وإن دموعه لتنحدر على خديه. . .
لقد حرمته الوظيفة بيت أسرته في المنيا: البيت الذي تملؤه هذه الأخت حياة بنشاطها اللطيف، وجمالا بوجهها الأبلج، ومتعة بحديثها العذب. . . نعم، وحرمته أن يسعد بالعناية بها عن كثب، وأن يستوثق في أصباحه وأمسائه أنها ناعمة في ظلال العافية، سابحة في صفاء النعيم. . .
أبداً تتجه روح (صادق) إلى أخته. . . لقد تزوج أخواتها اللائي يكبرنها، ورمى العيش بأخوتها المرامي، وبقيت هي مع أمها. . . أمها فحسب! فإن أباها قد لحق بآخرته. . . وتركها في سني الغرارة، محرومة من الطاف بره! ضعيفة! مستقبلها سر في ضمير الزمان. . .
إن صادق ليناجي أخته على البعد: (لن مات أبونا يا أختاه، فأنا مكانه، وحاشا أن تحسي بعده نقصاً. أن حياتي رخيصة جداً إذا لزمتك؛ لا تضعفي يا أختاه بل تقوي، تقوي حتى تستطيعي أن تستطيلي بقوتك عند الاقتضاء على كل قوية نهلت من عطف الأوبة أكثر مما نهلت!. . . إن حياتك يا عزيزتي لن تشاب برغم خطبك في أبيك بشائبة من هموم الحياة أو كدر العيش. ذرى لي كل هذا فأنا قوي عليه!).
ولقد ودع صادق قبل مجيئه إلى الإسكندرية أهله وأحباءه في المنيا، غير أخته، هرب من توديعها، سافر وهي في المدرسة، لأنه يدرك أن الحزن الذي كان سيطالعه من كلماتها ونظراتها أهول من أن يطيقه. ولذلك اكتفى بأن أخذ معه صورة لها من صور الامتحان، لتكون له زاداً في غربته، وانطلق وهو يجاهد في سد أبواب التفكير المفتحة. . .
وعندما مر القطار تجاه المقابر، ذكر (صادق) أباه الذي لولا فقده لصح له أن لا يميد من
المخاوف على أخته الناشئة. . . وأرسل دعاء قلبه وصلاة نفسه إلى الفقيد الحبيب، وضرع إلى الله، وهو ذارف العين متدفق الوجد: يا رب! أنت بأختي الضعيفة اليتيمة أبر مني وأكرم!!
وها هو في بيته الجديد الذي كأن الوحشة تجثم عليه، ليس بين كتبه شيء من كتب (عوارف) أخته، ولا سبيل له إلى مناقشة (عوارف) في دروسها، ولا إلى الاستمتاع بإنشائها الذي تمليه خطرات صباها الباكر الطاهر، ولا رسومها التي تخرج غالباً على حظ من الإحسان. . . والصباح يسفر، فلا يرى ولا يسمع (عوارف) وهي تهيئ نفسها للمدرسة: تسوي شعرها وتجمع كراسات يومها، وتنظم حقيبتها، وتصيخ لأبواق السيارات حتى إذا بلغها صوت سيارة المدرسة، جرت إليها في خفة العصفورة أو في لطف القطاة، متبلجاً بالبشر وجهها الحبي. والمساء يأتي فلا يرى (صادق) عوارف تقبل بصفحتها الآلقة وصوتها الحلو عليه وعلى أمها، تحدثهما عن يومها، وتفيض خاصة في الثناء الذي تلقته من أساتذاتها وأستاذيها، حتى إذا ما عابثها وهون من شأن مادحيها ومدحهم بدا الغضب والخجل في انكسار طرفها وتناقض بشاشتها، فيصلح صادق تواً من لهجته، ويتجه إليها بكل ما في قلبه من تقدير لرشدها وحنان عليها، ويسكب على وجهها الصغير قبلاته، فتطمئن (عوارف) وتطيب نفساً، وتشرق في الحال بسمتها العذبة على ثغرها السعيد.
كل حالات (عوارف) يمثلها له الشوق، فهي لا تفتأ ماثلة أمام عينيه بل في طيات قلبه. . . وكأنما الآن خلال ضلوعه من فرط الشوق إليها جمرات تتقد.
ويقف صادق أمام (فاترينات) المتاجر في الإسكندرية، فلا يذر شيئاً يمكن أن يفيد أخته أو يسرها على أي وجه إلا اشتراه إنه يريد أن يلبسها النعمي، وإنه ليتمنى لو كان يقدر أن يحيكها من خيوط قلبه! وإنه ليشتري لها الحين بعد الحين مجموعات من الكتب، فإذا لم يلق جديداً يناسبها اشترى لها مصاحف، فإذا قال له البائع مندهشاً: كفى مصاحف! عندك الأستامبولي طبعات، وعندك القاهري أشكالا، وعندك التفاسير كلها، وعندك الكبير الحجم والوسيط والصغير، همس صادق لنفسه: نعم. . . ولكن ليتني أحشد في رحاب (عوارف) كل بركة وكل نعمة!!
وفي صبح من الصباح، وهو يفتح نافذته، التقت عينه فجأة بعين غادة في ربيع العمر،
تنشر بعض الملابس في الشرفة المجاورة. . . وتكهرب صادق! كهربته عين الفتاة المشحونة جاذبية وسحراً، والتي مست في مثل ومضة البرق أغلاف قلبه. . . وأغضى بصره في استحياء، واسترجع جسمه كله من النافذة. . . وهو يقول لنفسه: فلأتدبر!! وما هي إلا هنيهة حتى عاد إلى النافذة وهو لا يدري لماذا يعود. . . ووقف واجم اللسان ولو أنه ناطق الأسارير بكل لذعات الرغبة وكل لهفات الحرمان. . .
وابتسمت له الجارة ابتسامة متوهجة بنوازع الحياة والشباب فأحس بسمتها تضيء جوانب نفسه، كما يضيء الصبح للمتململ تحت الظلام كما يشرق الأمل القوي على الحيوان، كما يهز الماء الأرض الهامدة.
ورد الابتسامة مبتهجاً ملتاعاً، منتبهاً مأخوذاً!!
ولما عاد إلى سكنه في العصر، كانت تعتلج في نفسه رغبات تلح في طلب المفيض. . . كان يريد أن يعل من المتعة التي نهل منها مصبحاً، فاتجه إلى الشباك وهو يناضل الحياء الذي عاش معه منذ نشأ في المنيا. ولاحظ أن بعض جيرانه يستطيعون رؤيته في مكانه، فعدل مصراع نافذته بحيث لا تراه إلا جارته البسامة، وتذكر أن خادمه العجوز قد فتح عليه الباب فجأة، فأغلق دونها الباب بالمفتاح. . . ونظر، فرأى فتاته مشغولة بتطريز قطعة قماش مولية ظهرها لشرفتها، فأراد أن يلفتها إليه، فلم يجد في غرفته المتواضعة غير الفرشاة يقرع بها على سقف طربوشه. ونجح فيما أراد، فقد التفتت إليه الفتاة سريعاً وانفرج ثغرها الحلو عن بسمات فاتنة عريضة تنطق ضمن ما تنطق به بأنها فطنت لحيلة صادق، وأنها سعيدة إذ تراه يعنى بها وانتهبت البسمات قلب صادق انتهاباً!. .
ووقفت الحسناء بأقرب نوافذها إلى جارها المفتون محتجبة بالستار عن عيون الجيران إلا عينيه الجائعتين. . . ومضت تكلمه في بساطة وألفة، وسألته في صوت خفيض، ويدها وعيناها وشفتاها وجيدها تعينها إلى الإبانة. . . سألته عن منشئه وعمله واستطردت فسألته لماذا لا تتزوج، فشدهته جرأتها غير المعهودة ولكنه ما لبث أن اعتذر عنها لدى نفسه بأنها تنزل من السذاجة المنزل الذي لا تدرك عنده ما قد يذهب إليه الناس من سوء الظن بها إذا سمعوها تسأل شاباً: لماذا لا يتزوج. وأجابها صادق عن كل أسئلتها في غير تحرج؛ وأحس عجبه لجرأتها يستحيل عاجلا إلى رضى عن صراحتها وارتياح لبساطتها.
وامتد حبل الحديث ولم يبق للكلفة ظل بينهما وكأنه وإياها نشآ معاً طفلين في دد وأمان!
وقال لها مدفوعاً بجنون العاطفة: أيكفيني هذا الحديث؟ ليتنا نجلس معاً! ليتنا نسير جنباً إلى جنب! تدبري لنا واحتالي!
فأجابت في رعونة مرحة: الأمر هين. . . نذهب إلى سيدي بشر أو المكس، بل لنبعد إلى الدخيلة.
ولم يكن صادق مستعداً لتقلي مثل هذه الإجابة الجريئة، فقال في استغراب: إلا تخافين؟
- مم؟
ونظر صادق فوقه وتحته وعن اليمين وعن الشمال، كأنما يريد أن يقول: من كل شيء في هذه الجهات، ولكنها مضت تقول وحركات جسمها كله تساعد على فهم أفكارها: إن فيكتورين جارتنا تقابل جارنا الضابط عند رأس الشارع، ومن هنا يركبان السيارة إلى كازينو السفينة في ستانلي، أو يذهبان إلى (اكسنونون) في المكس فيتغديان أو يتعشيان. هي حدثتني بذلك فلنصع كما يصنعان. وقد حدثتني فيكتورين أنها ترافق صديقها أحيانا إلى كابينة له في سيدي بشر، فلنقلدهما؛ أن الشاطئ الآن قليل الرواد، فالفضول فيه قليل. . . هكذا لاحظت فيكتورين. . .
وأثار هذا العرض السافر في نفس صادق ما اثار، فكله فتن قيام في الضلوع قعود. . .
وقال لفتاته: استعدي، وهيأ هو من نفسه، ووقف تجاهها قبل أن يخرجا، مشيراً إليها أن تنهج الطريق يساراً، ويتجه هو يمنة، ليعميا وجهتهما على الحلاق وبائع السجاير القريبين، وعلى من يكون في دكانيهما.
ونزلا مسرعين، ومضى كل منهما في طريقه المرسومة، ثم التقيا بعد دقائق عند محط السيارات، فركبا إلى الدخيلة. . .
وتحدثت (إغراء) بغير حساب ككل امرأة. وبغير عناء لمس (صادق) ظاهر أمرها، واستشف باطنه. أن أباها وأمها غالتهما شعوب، وإن لها لأخاً وحيداً يقتضيه عمله في أحد البيوت التجارية أن يغيب عنها أغلب النهار وزلفاً من الليل. إنها لطيفة الحديث، متسعرة العاطفة، وإن شبابها الظمآن ليحدوها إلى أي منهل يرتوي منه، وهو في قهره وسطوته يجعلها تنكب عن ذكر العواقب جانباً. . . إن (إغراء) متكلمة وساكتة، متلفتة وساكنة،
مبتسمة وعابسة جميلة حقاً، وجمالها في كل حالاتها يذهب بالقلب مذاهب. . . وصادق يراها بنزعاتها وشبابها وجمالها في قبضته، وإنه لفرح بها لأنها أول ما كسبت صبوته الوانية. . .
وبلغت السيارة غايتها، فهبط الرفيقان؛ ونقد صادق قائد السيارة أجره، ولكنه لم يرد حافظة نقوده إلى جيبه، بل وقف يتأمل بطاقة في محتوياتها. . . يتأملها في اهتمام، منشغلا عما هو فيه.
وصاحت به (إغراء) بعد دقائق مظهرة الملل: ما هذا؟ فلم يجب. . . واتجه بها منضدة في الكازينو وهو يبتسم لها ابتسامة باهتة يريد أن يستبقي بها رضاها، ويدرأ بها عنها الملل والخجل والدهشة.
وأطرق صادق فترة لا يتكلم، وصاحبته أمامه مستغربة لا تتكلم. . .
إن أخته طالعته بصورتها وهو يفتح حافظة نقوده، إنها قريباً ستجتاز الصِّبى إلى الشباب، وإنها لتناديه في استرحام عنيف أن يطلق سراح طير اقتحم الشر وما يدري. . إنها بقدسها تناشده أن لا يتلطخ، وأن يكون يقظ القلب. . .! إنها ترجوه، بل إنها تؤنبه! بل إنها تؤدبه!. . . وإن مستقبلها ليتراءى له منادياً: (استح لي ومني، وكما تتمناني تمنى مثلي لكل ضعيفة يتيمة!!. . .
وألقى صادق ببصره إلى الأرض خجلان، وبدا كأنه شيخ زلَّ وانفضح زلله؟ وود صادق لو كانت نيته إنساناً ليلقيه بلا رحمة في البحر الواسع حوله، أو ليطوّح به في الصحراء المترامية الدانية منه، ليبرأ إلى الله وليجرؤ أن يفكر في أخته ويناجيها ويتأمل وصورتها، ويلقاها بين حين وحين فيبسم لها وتبتسم له وتتعلق فه فخوراً ويتعلق بها فخوراً!
وقطع الصمت أخيراً والدموع في عينيه، و (إغراء) أمامه أعداها سكوته. . . قطع الصمت بقوله في جد وعزم قاطعين: فلتعودي إلى بيتك وإلى رشدك. . . لقد سوّغ هذا الخاطئ لنفسه أن يذلل لك عنان الشر، ويتهور معك إلى ما لا يتهور إليه الشرفاء، فأنقذتك منه صبية!. . .
وأحست (إغراء) وجدان (صادق) في قوله؛ أحست مشاعره وسرائره، فبدت إنسانةً غير التي هي. . . لقد ذلت نزعاتها الثائرة! وسألته في خشوع ومهابة. فمن هي منقذتي؟
- إنها أختي!
(القاهرة)
لبيب السعيد