الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 715
- بتاريخ: 17 - 03 - 1947
بدع التشبيه.
. .
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني خطاب من (مستفسر) يسألني فيه بعض التوضيح لمسألتين عرضت لهما في محاضرة عن (الأدب المصري بين حربين) ألقيتها في نادي خريجي القسم الإنجليزي بالجامعة المصرية. وهما بدعة التشبيه والروايات التي تسمى بالملاحم الاجتماعية.
أما بدعة التشبيه فقد كانت مناسبة الكلام فيها أن أدباء الصناعة كانوا يحسبون الوصف فرصة لاختلاق الأشباه التي لا أصل لها في الطبيعة ولا في إحساس الشاعر. فكان الشاعر يصف الدمع الأحمر لأنه استنفد ماء شئونه فجرى الدمع من دم مآقيه، فيأتي بعده من يعارضه بوصف الدمع الأخضر أو الدمع الأسود أو الدمع الأصفر إلى غير ذلك من الألوان التي لم تشاهد قط في عين إنسان.
فمن تعليلاتهم لاحمرار الدمع قول الأرجاني:
دنون عشية التوديع مني
…
ولي عينان بالدم تجريان
ولم يمسحن إكراماً جفوني
…
ولكن رمن تخضيب البنان
فالدمع هنا نوع من صبغة الأظافر أو صبغة الأنامل التي تقابل (المانيكور) في هذا الزمان.
ولكنه عند ابن سيناء الملك انعكاس لون الخدود:
لا تحسبوا أني بكيت دماً
…
ولئن بكيت فليس بالبدع
لكن دمعي حين قابله
…
ألقى شعاع الخد في الدمع
وكذلك هو عند الباخرزي حين يقول:
شكوت الذي ألقى سهاداً وعبرة
…
وقلت احمرار الدمع يخبر عن وجدي
فقال محال ما ادعيت وإنما
…
سرقت بعينيك التورد من خدي
أما ابن الساعاتي فالدمع عنده مطر، والمطر من البرق، والبرق كالصفائح الدامية. . . فلا عجب أن تجري الدموع بلون الدماء كما قال:
سلوا بالحمى أين الظباء السوانح
…
وهل ظل بعدي بانه المتناوح
جرى ماء عيني يوم كاظمة دماً
…
فأعلمني أن البروق صفائح
وتتحول المسألة إلى أنبيق تقطير عند يوسف بن لؤلؤ الذهبي فيقول:
قالوا تباكى بالدموع وما بكى
…
بدم على عيش تصرم وانقضى
فأجبتهم هو من دمي لكنه
…
لما تصعّد صار يقطر أبيضا
وإلى هنا تنحصر المشابهة في الدمع والدم وهما في بنية الإنسان وفي تركيب العيون.
إلا أنها لا تنحصر فيهما طويلاً حتى يعرض لحلها خليل ابن إيبك الصفدي شارح لامية العجم فيروي في كتابه (تشنيف السمع بانسكاب الدمع) أن الدمع يسودّ كما قال بعضهم:
وقائلة ما بال دمعك أسودا
…
وجسمك مصفر وأنت نحيل
فقلت لها أفنى جفاؤك مدمعي
…
وهذا سواد المقلتين يسيل
ويعجب الصفدي بالمعنى ولكنه يستضعف الشعر (كأنه عروس جليت في ثياب حداد). . . ثم ينتقل إلى الدمع الأخضر فيروي هذين البيتين:
وقائلة ما بال دمعك أخضرا
…
فقلت لها: هل تفهمين إشارتي
ألم تعلمي أن الدموع تجففت
…
فأجريتها يا محنتي من مرارتي
ويعود الصفدي فيعقب قائلاً: (وهذا المقطوع ركيك. وإنما الاستطراد اضطرني إلى ذلك. ولقائله عذر واضح لكونه دفع إلى مضيق هذا الجواب، وكنت قد كلفت نظم شئ في الدمع الأخضر فاتفق لي هذا المعنى فنظمته وهو:
يقول عذولي ما لدمعك أخضرا
…
جرى في هوى ظبي غلا في نفاره
فقلت صفا دمعي وقابلت صدغه
…
فأبصرب فيه لون آس عذاره
وتبرعت بالنظم في الدمع الأصفر فقلت:
وقائلة ما بال دمعك أصفرا
…
فقلت لها ما حال عن أصل مائه
ولكن خدي أصفر من سقم الهوى
…
فسال به والماء لون إنائه
وهكذا كانوا يفهمون الوصف على أنه مناسبة لاختلاق التشبيهات التي لا وجود لها في الحس ولا في الطبيعة، ولا يشبهون لتقريب المحسوسات إلى العاطفة والخيال.
فلما خلص الشعر من أوهاق الصناعة بطل هذا الاختلاق وأعقبته محاولة التشبيه للتقريب وصدق التمثيل. وهذه خطوة تقدم لاشك فيه. . . فلا يقدح في هذا التقدم أن يكون السابقون أبرع من اللاحقين في اصطياد التشبيهات وتمحل المناسبات. فإن الذي يعمد إلى التشبيه لأنه يحس ويتخيل خير من الذي يعمد إليه لأنه يعرض براعته في التلفيق والاختلاق، وإن
قصر الصادق عن المختلق في ظواهر التشبيه.
عرضت لهذا التطور في سياق الكلام على نهضة الشعر الحديث بعد هبوط الصناعة به إلى ذلك الحضيض. فبلغ من دهشة السامعين أن طالباً أزهرياً منهم ظن أنني وضعت هذه الشواهد من عندي لتمثيل تلك النزعة واستبعد أن يجد شاعر في نظم تلك السخافات. فأرضاني منه هذا الشك لأنه كان من أدل الدلائل على ارتقاء الأذواق وتطور الافهام. فما كان براعة يتسابق إليها الأدباء قبل بضعة قرون أصبح في زماننا هذا سخفاً لا يعقل أن يخطر على بال أديب ولا قارئ، وكفى بذلك دليلاً على نشأة الأدب من جديد بعد ذلك المسخ وذلك الانحدار.
ويحق لمن أراد أن يستزيد من تحقيق تلك الأعجوبة أن يعرف مرجعها في ذلك الكتاب الذي أشرنا إليه، فإن كتاب (تشنيف السمع) قد طبع بمطبعة الموسوعات بشارع باب الخلق وليس هو بالمخطوط النادر الوجود
أما الروايات المطولة التي سميناها بالملاحم الاجتماعية فقد عرضنا لها في المحاضرة لنقول إنها لم تظهر في الأدب المصري لأنها تتوقف على قيام المشكلات الاجتماعية التي تدور عليها. وستظهر في حينها متى ظهرت موضوعاتها وظهر أبطالها وذوو (الشخصيات) التي تؤدي أدوارها في الحياة
وقد خطر لبعض السامعين أن يناقش هذا الرأي لأنه أخطأ فهم العنوان وأخطأ فهم التطبيق.
فقد حسب أن القصة التي تسمى بالملحمة وقف على موضوعات كموضوعات الإلياذة وما إليها، أو أنها مقصورة على معارك الحروب وبطولة القتال.
وليس لذلك مسوغ من أصل الكلمة ولا من تطبيقها في الروايات.
فإن الكلمة اليونانية لا تشير في أصلها إلى حرب ولا أسطورة إلهية. ولا تتجاوز معنى الأقصوصة أو الأنشودة.
وتطبيق هذا العنوان القديم لا يستلزم حصر الملحمة في الأساطير لأن رواية موتلي عن الجمهورية الهولندية تحسب من الملاحم وهي تدور على وقائع التاريخ.
وهو لا يستلزم حصر الملحمة في المعارك الحربية لأن (الكوميديا الإلهية) ملحمة وليست هي من روايات المعارك الحربية، ولو جاز الأخذ بالقشور لما جازت تسميتها بالكوميدية
ولا (بالأبوبي) على هذا الاعتبار.
وإنما تطلق الملحمة في عصرنا وقبل عصرنا على كل قصة مطولة تدور على موضوع فخم من موضوعات البطولة والعظمة، وهي من ثم صالحة لأن تظهر في كل زمان متى ظهر الموضوع الذي تدور عليه، وليس من الحتم أن تقف بعد عصر هوميروس أو عصور الأساطير.
عباس محمود العقاد
أوراق.
. .
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
شرعت منذ ساعتين أقلب أوراقي في خزانة كتبي وأرتبها وأمزق م لا أحتاج إليه. وأنا وأمثالي من الأوراق في جهاد دائم. إن أغضيت قليلاً تراكمت على المكتب والكراسي وكان منظرها همَّاً، والتفكير فيها ألماً، ونغّصت علينا العمل. فلابد أن يتعهد الإنسان أوراقه بين الحين والحين وإلا غلبته وتراكمت حوله تراكم الهموم.
وفي طبعي إلْف يدعوني إلى الاحتفاظ بأوراق لا غناء عنها، وكلما طال عليها الزمن، وبعد العهد بما فيها زادت قرباً إلى نفسي، وحباً إلى قلبي، وعزّت عليّ عزة الذِكَر القديمة، والحوادث التي تؤرخ الحياة الماضية.
وقد عثرت - وأنا ماض في نقد الأوراق وتمزيق بعضها، وقد غلبني التعب والملل فهان عليّ تمزيق أوراق ضننت بها زمناً طويلاً - على ظرف فيه وريقات شتى فجلست بها أقلبها وأتسلى بذكرياتها. فإذا هي الوريقات تمثل تقلب الإنسان في هذه الدنيا بين أعمال مختلفة، وشواغل شتى. إن جمع بعضها إلى بعض كانت مفارقات مضحكة أو عظات مبكية.
هذه الوريقات في هذا الظرف الصغير ترجع إلى سفري إلى تركيا قبل تسع سنوات:
فهذه أبيات فيها كتب تركية في موضوعات شتى ومعها بيان أثمانها. بين هذه الكتب نسخة عربية مخطوطة من أمثال الميداني، ونسخة جليلة من كتاب المثنوي أغلب الظن أنها كانت في يد العالم الشاعر الصوفي العظيم الشيخ عبد الرحمن الجامي. ذكرتني هذه الورقة بمجالس لي عند الورّاقين في حيّ بايزيد من أحياء اسطنبول، وهو أحب أحيائها إلى نفسي.
وورقة أخرى فيها أسماء أربع عشرة من خزائن الكتب في هذه المدينة العظيمة اسطنبول وقد دخلتها كلها ونعمت بالقراءة والبحث عن الكتب القيمة فيها.
وأوراق أخرى من هذا الضرب الذي شغلنا في السفر والحضر واليقظة والنوم.
ورقة فيها قطع من الشعر التركي خطها أديب عالم تركي ظفرت بصحبته في تلك الرحلة
هو المرحوم فريد بك. وكان رحمه الله متشائماً كثير السخرية.
ومن هذه الأبيات وأحسبها من نظمه:
كجدي دنيادن آداملق دوره سي
اعتماد إيت كَل بد قول راجح
شمدي حيوانلقده درفيض ورواج
روح إنسانية الفاتحة
وترجمتها:
مضى من الدنيا دور الإنسانية. اعتمد على هذا القول الراجح والحيوانية الآن في فيض ورواج. فلروح الإنسانية الفاتحة.
وبعدها ورقة فيها بيان بكتب مخطوطة قديمة محلاّة رأيتها عند واحدة من ولاة الترك السابقين. ورأيت كيف يعتز بها، ولسان حاله يقول:
وقد تخرج الحاجات يا أم عامر
…
كرائم من ربّ بهن ضنين
ثم ورقة تذكر بزيارتي بيت الشعب في أنقره وما لقيت هناك من رجال وآراء وتحف وآثار.
وبطاقة فيها ذكر كتب وآثار رأيتها في مدينة قونية حينما زرت ضريح جلال الدين الرومي، ودار المولوية التي صيّرت اليوم متحفاً. وكم لي في دار المولوية من وقفات، وعظات. وكم لها في النفس من ذكريات.
وصورة صغيرة لرجل كريم رافقته في طريقي من اسكيشهر إلى قونية وسايرته في قونية ساعات فحفظ الودّ، وأهدى إليّ صورته وعلى ظهرها كلمة تعرب عن أخوته وصداقته. وتاريخها 13 أيلول سنة 1937، وقد افترقنا ولم يعد أحدنا عن صاحبه من بعد شيئاً. ورحم الله حافظاً الشيرازي. يقول:
(اغتنم الصحبة فإننا حين نفترق من هذا المنزل ذي الطريقين لا نستطيع أن نلتقي أبداً).
وكل منازل هذه الحياة ذات طريقين بل طرق. إن افترقت بالمجتمعين لم يكونوا من اللقاء على يقين.
وبيدي الآن صفحة كتبت بخط نسخي جميل وباللغة التركية وهي رسالة من أحد أدباء
الترك إلى آخر يعرب عن تحسره على الشاعر الكبير الصديق المرحوم محمود عاكف. ولست أتذكر الآن المنشئ ولا الكاتب.
وهي صحيفة جديرة أن تترجم إلى العربية وتنشر تجديداً لذكرى شاعر الإسلام عاكف الذي سعدنا بصحبته في مصر سنين.
وهاتان ورقتان نشرتهما فإذا أبيات لي في وصف دمشق وإحدى ذكرياتها مسطورة بالرصاص وللمداد فيها إصلاح وتغيير كالتمثال لا يزال يعمل في جوانبه إزميل النحات، وأول الأبيات:
دمشق يا قرّة العيون
…
وبسمة الفؤاد والجبين
لله يوم خلست فيه
…
ساعاً من الدهر ذي الشجون
دخلت خلف العصور داراً
…
عاد بها غابر السنين
رأيت تاريخنا تتجلى
…
يفيض بالشعر والفنون الخ
وهي أبيات كثيرة وصفت فيها داراً قديمة من دور دمشق ذات الحدائق والنوافير والنقوش والزخارف التي تمثل تاريخنا يوم كنا نبني بأيدينا وعقولنا لأنفسنا قبل أن نسلب الاستقلال في كل شئ، ونُعنى بالتقليد في كل شئ.
وآخر الأبيات:
خرجت منها يقول قلبي
…
للرِجْل: بالله أنظِريني
ومن الأوراق كتاب من النادي العربي في دمشق يتضمن شكري على محاضرة ألقيتها فيه موضوعها: النهضة العربية.
وأوراق غير هذه فيها حساب الفنادق. ومالي وللحساب.
هذا ظرف صغير نشرت منه هذه الذِكَر كلها، وقد مضت عليها تسع سنين وكأنما وقعت أمس.
وكل حياتنا ملأى بالوقائع، والفِكر والعِبر ولكنها تمر سريعة مرّ الزمان. ويُنحي عليها الزمان المحّاء بالمحو والنسيان. فهل من مدّكر.
أثارت هذه الوريقات ذكريات في نفسي، تتصل بها ذكريات وكشفت النسيان عن حوادث عفّى الزمن على آثارها. فسارعت بكتابة هذه الكلمة قبل أن يمحو الزمان الذِكَر، ويفجع
بعد العين بالأثر.
عبد الوهاب عزام
ثِبْ وَثْباً.
. .
للأستاذ علي الطنطاوي
كان أبي رحمه الله يوقظني كل غداة لأصلي الصبح، يناديني فأجيبه والنوم في عيني أقول:
- حاضر. سأقوم حالاً.
- فيقول: لا تتراخَ. ثب وثباً.
فأتراخى وأتكاسل، ثم أتناوم فلا أردّ، أو أردّ ولا أقوم، حتى يملّ مني فيدعني. وتوفي أبي، وكبرت، وقرأت الكتب وجالست العلماء، وخبرت الدنيا، وجربت الأمور، فلم أجد تجربة أجدى، ولا كلمة أنفع، ولا موعظة أعظم أثراً في المعاش والمعاد، والأفراد والجماعات. من كلمة أبي تلك:(ثب وثباً) لو أن الله جلّت حكمته مدّ في أجله قليلاً حتى يعوّدني العمل بها، والسير عليها، ولم تخترمه المنية وأنا صغير لم أتمرس بعد بحرب الشيطان ولم أستكمل العدة لدفع أذاه، ورد كيده عني، فلبثت في نضال معه إلى اليوم، أغلبه حيناً، ويغلبني، لعنة الله عليه، في أكثر الأحيان.
تدوّي هذه الكلمة في أذني كل صباح، فأسمع منها صوت أبي يقول لي:(قم إلى الصلاة؛ فالصلاة خير من النوم، وبكّر فالبركة في البكور) فيقول الشيطان: (الوقت فسيح، والنوم لذيذ، والفراش دافئ، والجو بارد) ولا أزال بين داعي الواجب وداعي اللذة، أفكر في متعة الصلاة وثواب الآخرة، فأتحفز للقيام وأتصور مشقة الوضوء، وبرد الماء، فانقلب من جنب إلى جنب. ولا تزال نفسي بينهما كنوّاس الساعة، تتردّد بين:(قم) و (نم) حتى تطلع الشمس ويفوّت الشيطان عليّ الصلاة، ويضيّق عليّ الوقت، فآكل طعامي لقمة بالطول ولقمة بالعرض، ولقمة تعترض في صدري فأغصُّ بها، وألبس ثيابي جورباً على الوجه وجورباً على القفا، وعقدة مائلة وقميصاً أعوج، وأنسى من عجلتي بعض أوراقي، وأهرول في الطريق، فأسيء هضمي، وأتعب معدتي، وأضحك الناس عليّ. ثم إني ما كسبت من هذا الإبطاء نوماً، ولا ازددت راحة، ولو 0وثبت) من أول لحظة لكان في ذلك رضا ربي بأداء الصلاة، وصحة جسمي بحسن الأكل وإجادة المضغ، وإكمال عملي بإعداد أوراقه على أناة، وحفظ منزلتي بين الناس بالسير على مهل.
وأنظر فأجدني أقرأ كل يوم مهما أقللت أكثر من مائتي صفحة، جلها مما لا يفيد علماً، ولا
يعلّم أدباً، ولا يقوّم خلقاً، وأدع عشرات الكتب الجدية النافعة في اللغة والأدب والفقه والتفسير؛ فأعزم على قراءتها، وأذهب فأعدُّها وأصفُّها على مكتبي، وأهم بالشروع بها، فأجدها كثيرة، فأرجئ النظر فيها، وأقول: سأبدأ في غد فما يضر التأخير إلى الغد وقد أخرتها هذه السنين كلها، فيجيء الغد والذي بعده، وتتصرم الأيام، وأقرأ خلال ذلك أضعاف أضعافها من الكتب التافهة، والصحف والمجلات التي لا تفيد شيئاً، وليس فيها إلا اللهو والتسلية وإضاعة الوقت، وتبديد ساعات العمر، وتبقى هذه الكتب مرصوفة على مكتبي يعلوها الغبار، حتى ترفعها ربّة الدار، ولم أمسها ولم أقترب منها.
ولو أني (وثبت إليها وثباً) لفرغت منها من زمان طويل.
وأنظر فأجدني قد كدت أنسى اللغة الفرنسية لطول ما أعرضت عنها، وانصرفت عن الاشتغال بها، وهي نافعة لي لا حباً بأهلها قبح الله أهلها؛ بل لأن فيها حكمة، والمؤمن يطلب الحكمة حيث وجدها، وآسف أني بدأت بتعلمها من سنة 1918 وواليت دراستها حتى حذقت صرفها ونحوها، ووقفت على شعرها ونثرها ثم نسيتها. وأعزم على تجديد العهد بها، والعودة إليها، وأهيئ كتبها ومعاجمها، ولكني لا (أثب) إليها. فتمضي السنون وأنا لم أشرع بها.
وأنظر فأرى الشحم قد ركبني، والسِمَن قد علاني، فأبطأ حركتي، وأثقل أعضائي، فأطالع كتب الرياضة، وأستشير رجالها، وأشتري أدواتها، وأنوي أن أمارسها، وأواظب عليها حتى يذهب شحمي، وينشط جسمي. . .
وأزمع وضع كتاب عن الخوارج، وآخر عن المهلب، وكتاب في الدين الإسلامي، وأجمع المصادر وأرسم الخطط، ولا يبقى إلا أن أمسك القلم لأكتب. . .
وأحاسب نفسي، فألقاها قد تنكبت طريقها، وتحولت عن وجهتها، وأنستها الدنيا آخرتها، وصرفتها عن ربها، فأعزم على التوبة، والتحري في المطعم والمشرب، وكفّ البصر وحفظ اللسان، والمحافظة على السنن والنوافل، وهجر رفاق السوء، وصحبة من يذكّر بالله ويدل عليه. . .
ولكني لا (أثب إلى ذلك)، بل أقبل عليه متراخياً، أرقب به يوماً بعد يوم، فتمرُّ الأيام، ولم أشرع برياضة، ولم أبدأ بكتاب، ولم أحقق توبة وإنما استسلمت للحياة فدار دولابها عليّ
وأنا ساكن، يصبح الصباح ويمسي المساء، (والحالة هي هِيَه، والعيشة هي هِيَه)، ما نشطت بالرياضة جسماً ولا شحذت بالمطالعة عقلاً، ولا زكيت بالتوبة نفساً، خسرت هذا كله لأني عصيت أبي، وخالفت عن أمره فلم أثب من الفراش وثباً، وبعت هذه الخيرات بتمددي ساعة تحت اللحاف، فما أعظم المبيع، وما أقل الثمن!
وهذا هو مرضنا جميعاً، وعلة عللنا وسبب أدوائنا، وليس تنقص واحداً منا المواعظ والأفكار، ولا يعوزه معرفة طرق الخير. فالمواعظ مبثوثة في كل كتاب، ومترددة على كل لسان، وماثلة حتى في وفاء الكلب، وصبر الحمار، ودأب النملة، وتوكل العصفور وظاهرة في طبائع الأشياء، وصفات الجمادات، من شاء موعظة وجدها، ومن ابتغى نصيحة وقع عليها. وطرق الخير معروفة لا يجهلها أحد، فكل أب يجد إن فكر خطة لتربية ولده خيراً من خطته، وكل تاجر يجد أسلوباً أحسن من أسلوبه لتوسيع تجارته، وكل رجل يعرف الطريق لتحسين صحته، وإصلاح سيرته في بيته مع أهله وزوجته، وفي طعامه وكسوته، وفي يقظته ونومته وأحمق الناس تمر به نفحات يرى فيها سبيل العقل واضحة، وأفسق الناس تسمو نفسه لحظات يبصر فيها قبح الفسوق وجمال الطاعة، ويشعر بالندم ويعزم على التوبة، ولكن ينقصنا المضاء والتصميم و (الوثوب) إلى الخيرات حين تلوح لنا وتمر بنا.
هذا هو مرضنا الذي طالما أضاع علينا أموالاً ومكاسب، وخيرات ومنافع، وأخرنا والأمم تتقدم، وهو مرض الجماعات منا والحكومات، فأعرضوا تاريخنا الحديث تروا كم فرصة أضعنا وكم غنيمة فوتنا، بل انظروا ماذا صنعنا في هذه الحرب وحدها واعجبوا منا إذا فتحت لنا إلى آمالنا باباً واسعاً فلم ندخله، ووضعت في أيدينا سلاحاً ماضياً فلم نستعمله: عجزنا أن نكون أقوى من عدونا، فأضعفته هذه الحرب لنقوى بضعفه، وشغلته عنا لنغتنم الفرصة فنسترد منه ما سلب منا، فأدركتنا رقة الشعور، فرحمناه، وأشفقنا عليه أن نزعجه بمطالبنا في بلواه، وآثرنا الذوق واللطف على واجب الوطنية والشرف، فلم نفتح أفواهنا لنقول له:(أعطنا الذي سرقته منا) بل أعنّاه على عدوّه وعلى أنفسنا، وأيدناه بألسنتنا وأموالنا وأيدينا، وزعم لنا، أنه ما حارب إلا لينصر الديموقراطية، فقلنا:(صحيح. فلتعش الديموقراطية) وقال لنا إنه يبذل دمه ليدافع عن الضعاف المظلومين، ويطهر الأرض من
النازيين الباغين، فقلنا:(بارك الله فيك، هذه شيمة السادة الأكرمين). وقال لنا، إنه إن يُغلب في هذه الحروب ينهدم صرح الحضارة، وينهدّ بناء التمدن، ويرجع البشر إلى شريعة الغاب، وطبيعة الذئاب، فقلنا:(هذا لاشك فيه، فأنتم حماة الحضارة، وأنتم أهل المدنية، وما الألمان إلا برابرة همج متوحشون). ولم يكن فينا أمة عاقلة إلا الهند، فلم تجامل هذه المجاملة السخيفة التي جاملناها، ولم تقترف هذه الجريمة التي اقترفناها، ولم ترق مثلنا الدموع على باريس، دار الفسقة الظالمين، أعداء العرب والمسلمين بل قامت تنادي بطلب الاستقلال، على حين كان أدباؤنا يمجدون الديموقراطية في الصحف، ومشايخنا يدعون لها على المنابر بالنصر فكانت عقوبتنا عاجلة، فلم تمر ثلاث سنوات على استجابة الدعاء وانتصار الأعداء، حتى فعل بنا أهل باريس التي بكينا عليها يوم نكبتها (جدد الله نكبتها) ولندن التي مجدنا ديمقراطيتها، ما لم يفعله هتلر باليهود، (وماذا فعل هتلر باليهود؟) ولا موسوليني في الحبشة، ولا الذئب بقطيع الغنم، فضربوا دمشق أقدم مدن الأرض بالقنابل، وذبحوا عشرات الألوف من أهل المغرب وأعانوا الهولنديين على الإندونيسيين ليملكوا أرضهم، ويسلبوهم بلادهم، ويقتلوا أبناءهم، ويسرقوا ثمارهم، ورموا فلسطين بشذاذ الآفاق، ونفايات الأمم، أهل الذلة والمسكنة اليهود، ودفعوا إليهم الرصاص، وأعطوهم السلاح، فسلطهم الله عليهم حتى ذبحوهم بسلاحهم، ثم رأوهم لا يستحقون الرصاص فالرصاص للجندي الشريف، فأعدوا لهم السوط فجلدوا به جلودهم، ومزقوا أبشارهم، فصاروا بذلك أذل من اليهود. . . وتنكروا لمصر من بعد ما لجئوا إليها فآوتهم، وسألوها المال فأعطتهم، وخطبوا منها على ظلمهم لها الودّ فوادّتهم، واستنصروها وهم أعداؤها على قوم لم يعادوها فنصرتهم، فكان جزاءها منهم بعدما أكلوا خبزها، وأخذوا مالها، وسكنوا في مساكنها، جزاء الذي أطعم الحية فلدغته، وآوى الضبع فأكلته.
فهل اعتبرنا؟ وهل عرفنا أن من لا (يثب) على الفرصة تفلت منه، ومن لا يضرب الحديد حامياً يبرد ويشتد فيعجز عنه؟ هل اعتزمنا (الوثوب) في فلسطين، وفي مصر، وفي المغرب، أم لا نزال نؤجل ونسوّف، حتى يأتي يوم لا ينفع فيه الوثوب، ولا يجدي العمل؟
هذه هي علتنا أفراداً وجماعات، مع أن المسلم أبعد الناس عن هذه العلة، وأحقهم بالبرء منها، لأن من مقاصد العبادات في دينه، تعليمه التنظيم والتصميم، لولا ذلك ما جعل الله
للصلاة (وقتاً) إذا تقدمت عنه دقيقة لم تصح الصلاة، وقّت للصوم وقتاً إن نقصت منه دقيقة فسد الصيام، وحدّد للحج وقتاً أن لم يكن فيه بطل الحج.
فيجب أن يجتمع لمحاربة هذه العلة، المعلم في المدرسة، والكاتب في الصحيفة، والواعظ في المسجد، حتى ننشئ نشئاً قوي الإرادة، ماضي العزم، (يثب) إلى غايته وثوب الأسد، ويحط عليها حط النسر، ولا يدع اليهود يكونون أمضى منه يداً، وأجرأ قلباً، وأعظم أثراً.
إن (الوثوب) إلى الخير، والثبات عليه، جماع الفضائل كلها، فإن تعلمناها لم نحتج بعدها إلى شئ.
علي الطنطاوي
الأزهر بين الجامع والجامعة
للأديب صبحي إبراهيم الصالح
أقبل منذ نعومة أظفاره على الدين مولعاً بدراسته شغوفاً بأسراره شديد الرغبة في بثه وإحيائه؛ حتى إذا نال الشهادة الثانوية في موطنه لبنان قدم القاهرة فانتسب إلى إحدى كليات الأزهر وإن في صدره لآمالاً كباراً، وأحلاماً عذاباً.
لم تكن آماله لنفسه فقد وهب للدين نفسه، ولا أحلامه في شخصه؛ وإنما كان كل رجائه ماثلاً في الأزهر الشريف يرقب وثبته الداعية إلى الإصلاح، وتطوره الباعث على التحرر.
أسرف في حسن ظنه بالأزهر: فما لبثت الأحداث أن صعدت الباب، لتظهره على المستور من وراء حجاب!
واقتصد في حسن ظنه وأصبح ضنيناً في مدحه حين رأى الأزهر على حقيقته. . . فاحترق من الألم فؤاده، وتقطع من الألم قلبه، وفاض من التحسر دمعه.
أخذ يستعرض في مخيلته صوراً للأزهر قد خلت فوجده - منذ بنائه إلى عهد قريب - غير مقصور على العبادة في خشية وخشوع، ولا على الصلاة في تذلل وخضوع، وغير مقصور على علوم الشريعة في تمحيص وتدقيق، ولا على آداب اللغة في تبويب وتنسيق. وإنما كان نسيجاً من ذاك وهذه، وكان النسيج من قوة الحبك ووثوق العرى بحيث استعصى على الحوادث حله مدى عشرة قرون حمل فيها الأزهر مشعل الحضارة بيده، وبدا للعالم كله مثالاً حياً للجامعة المقدسة الوقورة، ونفر إليه الوافدون يتلقون في حلقاته علوماً يزينها الإيمان، ومعارف يجملها الإخلاص، وآداباً يصقلها الخلق المتين.
لقد كان الشرق عزيزاً بالإسلام، يوم كان الغرب منزوياً في الظلام. . . ثم سكر الشرق سكرة أضاعت رشاده، فوثب الغرب وثبة بعثت جهاده!
وغلب الشرق على أمره فقلد الغرب في حضارته، وتأثر به في مدنيته، وانتقل بين عشية وضحاها من عهد مؤمن بالدين القويم، مخلص لرسالته السامية، خاضع لتشريعه الحكيم، مذعن لأحكامه العادلة، إلى عهد متفان في المادة الطاغية، غارق في بحرها المتلاطم مسحور بمتاعها الكاذب، مأخوذ بجمالها الخلاب.
ولا ريب أن مهابة رجال الدين تتفاوت قوة وضعفاً تبعاً لمكانة الدين في المجتمع، وإن مكانة الدين في المجتمع تعلو وتهبط تبعاً لنشاط القوامين عليه، الداعين إليه، فلا عجب إذا أتى على علماء الأزهر حين من الدهر كانوا فيه (ملوكاً لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم) في عصر كان فيه صوت الدين مسموعاً، وحكمه نافذاً، وأنصاره كثيرين. ولا غرو إذا نزعت الحياة مهابتهم هذه في عصر خفت فيه صوت الدين. وعطلت أحكامه، وقل دعاته. ولا بدع إذا سارع الأزهر - بدافع من حب البقاء، وحافز من صيانة الحياة - إلى مسايرة العصر الحديث الذي يعيش فيه فانتقل من حلقات الجامع إلى فصول الجامعة، ومن حصير الرواق إلى مقاعد الدراسة، ومن سراج الزيت إلى نور الكهرباء، محاولاً أن يتبوأ مركزاً في الحياة. . .
في مراحل هذا الانتقال أصبح عسيراً على الأزهر تعيين وجهته، ورسم خطته: فقد تعددت أمامه السبل، وتفرعت تحت بصره المسالك، وتشعبت بين يديه الدروب، ولبث في حيرة تنازعه فيها القديم والحديث، فقيض الله رجالاً أشربوا في قلوبهم الإصلاح بإيمانهم، فخافوا على الأزهر أن يسحقه الجديد إذا بقي على القديم، ولم يأمنوا أن يقطع صلته بماضيه إذا سارع إلى الجديد، فتحفظوا وكانوا أمة وسطاً، وأعلنوا للملأ شعارهم الخالد:(نحن لا نهجر القديم لأنه قديم، ولا نعشق الجديد لأنه جديد)!
وكانوا حكماء بهذا التحفظ، كما كانوا حكماء حين لم ينتظروا أن يتم الإصلاح في حياتهم، فبدءوا سلسلة الجهاد ثم تركوها في أيدي أنصارهم وأعوانهم الذين حرسوا في بيئة الأزهر وفي البيئات الموالية له شريعة تهاون بها المجتمع ولم يرعها حق الرعاية.
ومع أن التحفظ خطة حكيمة فقد نجم عنه كبت للشعور، وفي الكبت حرمان اللذائذ، وفي الحرمان إثارة إلى مستعذب الرغائب، وفي الإثارة تحد وإغراء، فكان طبيعياً أن يضيق الأزهري بقيوده في عصر الحرية والانطلاق، فينسى معاني الرضا القناعة المتمثلة في حصير الرواق وسراج الزيت وصومعة النسك، ويمسي حالماً بالوظائف والعلاوات، والمناصب والدرجات.
لكن هذا كله لم يذهب بحسنات التحفظ في نظر المنصفين الذين يعلمون أن الإصلاح التدريجي البطيء خير وأحسن من الانتقال الفجائي السريع، لأن في البطىء اتزاناً ونظاماً،
وفي السرعة اضطراباً وفوضى.
والحق أن في الأزهر اليوم نهضة إصلاحية كبرى يعترضها كثير من العقبات. والحق أن في الأزهر ومعاهده شباباً غير قلائل يلتهبون غيرة على الدين، ولكنهم يفقدون القيادة الحكيمة والتوجيه الرشيد. ولو دللت العقاب، ووجه الشباب، لخطا الأزهر أشواطاً إلى الكمال. ولكن. . . أين الأسود لتعلم الأشبال؟
أوضح الأستاذ الطنطاوي ما كان يتلجلج في الصدر حين وجه على صفحات الرسالة كلمة إلى الأزهريين (بمناسبة حادث الشيخ أبي العيون).
كانت الكلمة وكتوبة بشعور فياض، وعاطفة جياشة، فلم أتمالك نفسي وأنا أتلوها من التأثر والبكاء. ورحت أتلوها على إخواني الأزهريين من المصريين وغير المصريين، فلم أجد إلا عيوناً تفيض، وقلوباً تلين. وليس بالجديد أن يكتب الأديب بمداد قلبه، فكثيراً ما يغلب على الأدباء إرهاف الحس، فيقارن أحدهم بوحي من عاطفته ما يسأم العقل من مقارنته، أو يمل من تحليله وتعليله.
هذه المقارنة الشعورية التي تجلت في المقال لم يكن فيها مقنع للأستاذ الكبير العقاد الذي رد عليها تحت عنوان (جامع وجامعة) وإني إذ أوافق الأستاذ علي أن الشرق في أشد الحاجة إلى تحويل أفكاره من مقارنات الشعور إلى مقارنات العقول، أرى أن موضوع الأزهر خاصة وبعض الموضوعات الأخرى ما برحت في حاجة إلى المقارنة الشعورية بين وقت وآخر، على شرط ألا يخالف الشعور العقل في حكمه، وإن خالفه في أسلوبه ونظمه.
إن هذه الحياة - كما هي بحاجة إلى العقل في حكمه الراجح الموزون - لا نستطيع أن نتجاهل أنها في بعض الأحيان بحاجة كذلك إلى الشعور في تصوير الحكم العقلي الجاف بصورة عاطفية مثيرة؛ وإلا فلن يكون للخطباء تأثير، ولا للشعراء تقدير، ولا للأدباء إجلال.
وإني لأعجب للأستاذ الفاضل - وهو الأديب الذي تفخر العروبة بآثاره - كيف استنبط من مقال الطنطاوي أن علة العلل في الأزهر هجرانه حصير الرواق وسراج الزيت وصومعة النسك، وأن البركة كل البركة مرهونة بالعودة إلى هذه الأشياء. وإني لأكثر عجباً بموازنة الأستاذ بين صلة الترام بقلة البركة في المبيعات والمشتريات وبين صلة سراج الزيت بما
كان عليه الأزهر وما صار إليه.
ليسمح لي الأستاذ الذي كثيراً ما تعلمت من مقالاته حرية البحث أن أكون حراً في نقدي إذا رضي أن يسميه نقداً وفي حكمي على موازنته بأنها قياس مع الفارق، ليس في رأيي فقط، بل في رأي إخواني الأزهريين الذين تلوت الرد عليهم فلم يجدوا فيها مقنعاً. والأزهريون - كما جاء في مقال الأستاذ - أفنوا حياتهم في دراسة المنطق، والتمكن من أسسه، والتدرب على صحة أقيسته التي تعصم الأذهان من خطأ التعليل، فلهم إذاً حق المناقشة والانتقاد.
وإني مستعد بلا ريب لتحمل مسئولية كلامي حين حكمت على تلك الموازنة بأنها قياس مع الفارق لأن الذي جعل للترام علاقة بقلة البركة رجل من عامة الناس باعتراف الأستاذ؛ أما الذي جعل لسراج الزيت علاقة بماضي الأزهر وحاضره فأديب كبير يعرف فضله الأستاذ.
ولست أزعم أن الأديب معصوم، فما أكثر ما يخطئ الأدباء! لكني لا أرى من الإنصاف للأستاذ الطنطاوي أن نحسبه يصور ما بنفسه تصوير العوام، أو يجري في وصف شعوره على ما يجري عليه الجهال، كأنه يعجز عن الموازنة بعقله، أو يرتبك في المقارنة بمنطقه.
ليس حنين الطنطاوي إلى حصير الرواق ليعود الأزهري إلى النوم عليه ولكن لأن فيه معنى القناعة. .
وليس تشوقه إلى سراج الزيت ليعود الأزهري إلى القراءة عليه ولكن لأن فيه معنى السهر في المطالعة والتحصيل. . .
وليس شغفه بذكرى صومعة النسك ليعود الأزهري إلى الانقطاع بين جدرانها، ولكن لأن فيها معنى التعفف والتقوى والصلاح. . .
وليست الأمثلة التي سردها عن العلماء الأعلام ليرغب الأزهريين في تقليل نصيبهم من المشاركة في الحياة العملية، ولكن لأن فيها إشادة بالمثل العليا التي كانت أخلاق الأسلاف. . .
وليست كلمته في ختام مقاله (يا إخواننا لم نجد والله خيراً في الجامعة الأزهرية فردوا علينا الجامع الأزهر) لينتقل بالأزهريين من جديد إلى الدراسة في حلقات الجامع، ولكن لأن فيها
مطالبة بإفاضة التقوى التي كانت روح الجامع الأزهر. فينبغي أن تكون روح الجامعة الأزهرية!!!
هذه الروح الطيبة التي فهمتها وفهمها إخواني من غضون الكلمة، ومن أجل ذلك بكيت وبكوا.
ولو استردت الجامعة الأزهرية هذه الروح لأدت رسالتها الأولى في بيان حكمة التشريع الإسلامي ونشر السلام في ربوع العالم تحت إشرافه، ثم لأدّت رسالتها الثانية التي لا تقل عن الأولى خطراً في استخراج حقائق (العلم الذي يعمل به المسلمون وغير المسلمين، وفي تدارك عيب العصر الحاضر. وهو العيب الجسام الذي يتمثل في العزل بين عالم العقل وعالم الروح. فيتعلم فيه الرجل وهو مؤمن ويؤمن فيه وهو عالم، ويحسن قيادة المتدينين المتعلمين).
تغمد الله الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق بسحائب رحمته، فقد كنت مثلك كبير الرجاء - يا سيدي العقاد - في إنجاز هذه المهمة على يديه!
قابلته رحمه الله أول ربيع الأول مع وفد من زملائي المصريين في كلية أصول الدين، وألقيت بين يديه كلمة جرى بها قلبي قبل لساني، رجوته فيها بتعديل الدراسة في الأزهر على أحدث المناهج العصرية، ليتمكن خريجه من أداء وظيفتيه في ثقافة العقل وثقافة الروح. ولست أنسى مدى حياتي تلك الدمعة الطاهرة التي اغرورقت بها عيناه وهو يقول بحضور فضيلتي وكيل الأزهر ومديره:(يا أبنائي هذه هي النهضة التي طالما تمنيت أن يسعى إليها أبناء الأزهر، وإني لأرجو أن تهيئوا الجو الصالح لأواصل عملي في اتزان وسكينة).
ولقد وفى رحمه الله بوعده فبقي يواصل العمل حتى توفاه الله إليه. وعسى أن يكون خلفه محققاً لرغبات الأزهر في الإصلاح. وبعد، فإن الطالب الأزهري اللبناني لم يكتب هذا المقال إلا ليصور آلامه وآماله، وإنه ليغتنم هذه الفرصة السانحة فيناشد الأستاذين الكبيرين العقاد والطنطاوي ليواصلا الحديث عن الأزهر، وأن يقوما بقسطهما في توجيه شبابه، حتى يعود الأزهر جامعاً لله فيه قداسة الجوامع وهيبتها ووقارها وجامعة للناس فيها علوم الجامعات وفنونها وآدابها، وفيها - فوق ذلك - روح تخرج الناس من الظلمات إلى النور.
صبحي إبراهيم الصالح
كلية أصول الدين
النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
2 -
نشوء النطق في النوع الإنساني
أثبتنا في مقالنا الأول بالمشاهدات والاختبارات المختلفة أن النطق ليس غريزياً في الإنسان ولا هو قاصر عليه ولا مميز له دون الحيوانات الأخرى، بل هو ظاهرة فسيولوجية بسيكولوجية طرأت عليه وعلى بعض الطيور وعدد من الحيوانات العليا وعلى الأخص القرود الشبيه بالإنسان، وإنما الرفق بين الإنسان وبين الحيوانات هو فرق في الدرجة ليس إلا.
ونتكلم اليوم عن كيفية نشوء النطق في الإنسان فنقول: إن لنا في كيفية نشوء النطق في الأطفال الآن وفي اللغة البسيطة التي يبدءون بها الكلام، وكذلك في لغات بعض القبائل المتوحشة الحالية، صورة مصغرة من كيفية نشوء النطق في أول أمره.
إن كل ما يمتاز به البشر عن الحيوانات الأخرى من هذه الناحية هو نمو المخ وبالتالي النشاط العقلي من جهة، ونمو التكوين التشريحي والفسيولوجي للأعضاء التي تشترك في عمليات النطق من جهة ثانية، ونمو الحياة الاجتماعية من جهة ثالثة في النوع الإنساني أكثر منه في الأنواع الحيوانية الأخرى للأسباب الطبيعية التي سيأتي الكلام عليها.
وقد بينّا في مقال نشر في (الرسالة) منذ بضع سنين أن الظروف الطارئة المحلية التي اضطرت أجدادنا البعيدين إلى الالتجاء للغابات ليحتموا بها ويقتاتوا بثمارها أدت إلى نمو اليدين أثر استعمالهما في تسلق الأشجار والقبض على فروعها. ومن القواعد المقررة في علم الحيوان أن جميع الحيوانات والطيور التي تعيش على الأشجار يقابل بعض أصابعها البعض الآخر للقبض على الفروع والأغصان. وهذا ما حدث للإنسان وللقرود وباقي مرتبة الحيوانات الرئيسية وقد سميت هكذا من باب التفخيم والتعظيم لأن من بينها النوع الإنساني.
ولقد توسع الإنسان في استعمال يديه بعد ذلك بالقبض على مختلف الأشياء ورفعها وفحصها ونقلها وكسرها وتقطيعها وتهيئتها لأغراضه المختلفة فخف العمل إلى حد كبير عن الفكين اللذين كانا يقومان بجميع تلك الأعمال ولهذا تقلصا وصغر حجمهما في الإنسان
إلى الشكل الذي هما عليه الآن بعد أن كانا على درجة كبيرة من الضخامة وممتدين إلى الأمام، وكانت تحركهما عضلات قوية تصل إلى قمة الرأس من كل ناحية فتلتف حول الجمجمة وتقيدها وتحول دون نموها ونمو ما تحتويه وهو المخ مركز التفكير واداته. وقد صغر حجم الفكين في البشر أكثر منه في القرود العليا الأخرى لأسباب محلية خاصة طرأت مصادفةً على الفريق الذي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى النوع الإنساني.
وكان من نتيجة تقليص الفكين في الإنسان بعد أن صارا قاصرين على مضغ الطعام أن قل بالتبعية شأن العضلات المحركة لها وصغر حجمها وصارت لا تصل إلا إلى أعلى الخدين بالقرب من الأذنين فتحررت الجمجمة من قيودها وتخلصت من ضغطها وخلا لها الجو فنمت ونما معها ما بداخلها وهو المخ نمواً كبيراً وهذا هو السر في تفوق الإنسان العقلي العظيم.
وترتب أيضاً على نمو اليدين واستخدامهما في كافة أعمال الحياة أن زالت الحاجة إلى الذيل فضمر وزال بعدم الاستعمال في الإنسان وفي القرود العليا (الغورلا، والشامبنزيه، والأورنجوتان والجيبون).
غير أن الذيل يظهر في أجنتها بما فيها النوع الإنساني في أول أطوار تكوينها ثم لا يلبث حتى يضمر ويزول جرياً على نواميس الوراثة الطبيعية لأن من القواعد المقررة في علم تكوين الجنين أن كل فرد يمر وهو جنين بجميع الأطوار التي مر بها نوعه في الأزمنة الغابرة. وهو ما يعبرون عنه بقولهم: (إن تطور جنين الفرد يلخص تطور نوعه) - وهذا دليل من الأدلة المختلفة على صحة ناموس التطور والتسلسل - وما زالت في الإنسان وفي القرود العليا المشار إليها بقية أثرية من الذيل وهي عبارة عن بضع فقرات ضامرة ملتحم بعضها ببعض في آخر السلسلة الفقرية ويسمونها:
ومن نتائج نمو اليدين أيضاً أن صغر حجم الأسنان لعدم استعمالها إلا في مضغ الطعام، وخاصة الأسنان الأمامية: الأنياب والأسنان القاطعة فصار المجال أوسع أمام الشفتين، وكانتا في الوقت نفسه قد ترهفتا - نتيجة صغر حجم الفكين - إلى أن تحولتا (الشفتان) شيئاً فشيئاً إلى أداة صالحة للابتسام والنطق
وخلاصة القول إننا مدينون بنمو مخنا وعقلنا، وتفوقنا على باقي الحيوانات الأخرى،
واستعدادنا للنطق بوضوح وبسهولة أكثر من الأنواع الأخرى؛ إلى نمو يدينا، نتيجة اعتياد أجدادنا البعيدين الحياة على الأشجار وتسلقهم إياها وقبضهم على فروعها وغصونها ألوفاً من السنين. ولاشك في أن التجاءهم إلى الأشجار والغابات كان لأسباب طبيعية طرأت عليهم مصادفةً كأن يكون الغذاء الذي كانوا يعيشون عليه من قبل قد قل أو أنعدم فاضطروا إلى تسلق الأشجار ليقتاتوا بثمارها، أو أنهم احتموا بها هرباً من الوحوش الكاسرة أو الزواحف والحشرات السامة أو من كوارث الطبيعة كالغرق وغيره. وهكذا أدت تلك العوامل المحلية الطبيعية المحض إلى نتائج هائلة لم تكن منتظرة
ولا يفوتنا أن نقول كلمة عن مراكز النطق في مخ الإنسان فقد تطورت للقيام بوظيفتها هذه، إما بنموها نمواً كبيراً أكثر مما كانت عليه في الطيور والقرود العليا، وإما بتحول بعض مراكز أخرى في المخ عن وظائفها الأصلية إلى وظيفة النطق المركزية. وإن حدوث هذا التحول في أعضاء الحيوانات والنباتات وفي أنسجتها من وظيفة إلى أخرى لكي تلائم الكائنات الحية الظروف المستجدة والعوامل الطبيعية الطارئة أمر شائع ومعروف في العلوم البيولوجية كتحول الأقدام إلى أجنحة في الزواحف القديمة التي اضطرتها الأسباب المحلية الحادثة أن تقفز من شجرة إلى شجرة أو من شاطئ إلى شاطئ إلى أن اعتادت الطيران، وتحولت إلى صف الطيور كما تنطق بصحة ذلك أحافير الصور أو الحلقات المتوسطة التي عثروا عليها متحجرةً في طبقات الأرض التي تكونت في تلك الأعصر الجيولوجية القديمة، وعلى الأخص الأركيوبتيركس وهو شكل متوسط بين الزواحف والطيور. ومثل تحول قشر السمك إلى الأسنان في الزواحف وذوات الثدي التي منها الإنسان، وتحول قشر السمك أيضاً إلى القشر الضخم الذي يغطي أجسام التماسيح، وإلى الهيكل الكبير الجامد الذي تتكون منه ظهور السلاحف.
ولعل مراكز النطق هذه التي نحن بصددها نمت في النوع الإنساني أكثر من اللازم حتى صار حيواناً ثرثاراً كثير الكلام كما قلنا في مقالنا السابق.
ومن العوامل الرئيسية الهامة التي دعت الإنسان إلى النطق والكلام، الحياة الاجتماعية. فبعد أن كان أجدادنا البعيدون يعيشون فرادى لاحظوا أنه كلما صار فريق منهم جماعة يستطيعون القيام بالأعمال التي لا يقوى عليها الواحد منهم منفرداً كالدفاع عن أنفسهم ضد
وحش مفترس أو كصيد فريسة كبيرة أو زحزحة صخرة ضخمة أو تسلق شجرة عالية لجني ثمارها أو تقطيع أخشابها لتهيئة مأوى أمين وغير ذلك من صعاب أمور الحياة. ولكن حياة جماعاتهم هذه كانت قصيرة الأمد في بادئ الأمر لأن الأقوياء منهم كانوا يبطشون بالضعفاء ليستولوا عنوة أو خلسة على ما حصلوا عليه من الغداء أو الإناث أو المأوى الصالح، فلا يلبثون أن يتشتتوا هرباً من اعتداء بعضهم على بعضهم، فيشعر الفرد منهم بضعفه وهو وحيد أمام قوى الطبيعة والوحوش المفترسة الخ. فيجتمعون ثم يتشتتون ثم يجتمعون، وفي كل مرة يزدادون اقتناعاً بفوائد الحياة جماعة، وأخيراً فطنوا إلى أنه لابد لبقائهم مجتمعين من احترام حياة الغير وملكيته وإناثه وغير ذلك من القواعد التي دعت إليها المصلحة المحض - مصلحة الجماعة وبالتالي مصلحة الفرد وانتقلت هذه الصفات أو القواعد - التي نسميها حميدة لأنها منافعه - من الآباء إلى الأبناء، ومن جيل إلى جيل حتى صارت غريزية فينا أو كادت، وهذا هو منشأ الغريزة الاجتماعية الأخلاقية في الإنسان وفي الحيوانات التي تعيش جماعة كالنمل والقرود العليا.
نعود إلى النطق فنقول: إنه ما إن بدأ أفراد الناس وأفراد باقي الحيوانات الاجتماعية يعيشون جماعة حتى شعروا بالحاجة إلى التفاهم بعضهم مع بعض والتعبير بأية وسيلة عما يجول في خواطرهم مما يهم كل واحد منهم أو يهم الجماعة. وكان الاستعداد للنطق قد تحقق عندهم بعد أن نما مخهم، وتقلص الفكان وصغر حجم الأسنان، وتحررت الشفتان وترهفتا على الوجه المتقدم بيانه، نتيجة لنمو اليدين، بسبب تسلق الأشجار والحياة في الغابات. فأخذوا يحاولون بعضهم التفاهم مع بعض بمختلف الطرق.
التفاهم بالإشارات:
أخذ الناس وسائر الحيوانات العليا - ومثلهم الأطفال الآن - يبدون إشارات كانت في بادئ الأمر آلية غير اختيارية ولا تقليدية تدل على الانفعالات النفسية أو الحاجات الجسمانية الحيوية وهذه الإشارات ترجع إلى عوامل بيولوجية وفسيولوجية بعضها معروف أسبابه وبعضها مجهول كتقطيب الوجه عند الغضب أو الحزن أو الابتسام عند الارتياح والسرور وكهز ذيل الكلب عند الفرح والترحيب بقدوم من يحب، وكهز رأس الإنسان للدلالة على التعجب وانحنائها للمذلة والخضوع، وكالعض على الأصابع للدلالة على الندم، وككثير من
الإشارات التي يصاحب بها الإنسان كلامه الآن ويمكن ردها إلى عوامل بيولوجية قديمة ورثناها عن أجدادنا الذين تسلسلنا منهم.
ثم اعتاد الإنسان أن يقوم بهذه الإشارات بمحض إرادته للتعبير عن المعاني التي تؤدي إليها فصارت اختيارية. فإذا أراد أن يعبر عن استهجانه لشيء أو كراهيته لشخص نراه يقطب وجهه كأنه يقول: (إني أكره هذا). ومثل ذلك ما اعتاده الناس من قديم الزمان أن يرفعوا رؤوسهم إلى أعلى للتعبير عن النفي أو يهزها إلى اليمين واليسار لهذا الغرض نفسه. كأنهم يقولون (لا) كما أنهم يعبرون عن الإيجاب بخفضها نحو الأرض بمعنى (نعم).
ثم أخذوا يعبرون عما يقصدون بتقليد شكل الأشياء التي يريدون الإفصاح عنها أو عن بعض صفاتها كما يفعل الأطفال والخرس الآن.
وبعد أن كانت إشارات الإنسان في أول الأمر تعبيراً عن المحسوسات والأجسام المادية تطورت تدريجياً تحت تأثير حاجات الناس المستمرة وارتقاء حياتهم الاجتماعية والعقلية وتحولت (أي الإشارات) إلى التعبير عن المعاني الرمزية والمعنوية. فبعد أن كانوا يعبرون عن الصخر مثلاً بإشارة إلى قطعة منه صاروا يدللون بهذه الإشارة إلى معنى الصلابة. وهذا ما تفعله إلى الآن كثير من القبائل البعيدة عن العمران سواء في إشاراتهم أو في لغاتهم الكلامية البسيطة المحدودة. وهذه هي أيضاً إشارة الخرس عن هذا المعنى - معنى الصلابة.
ومما يروى على سبيل الفكاهة لهذه المناسبة أن حرس برلين يعبرون من زمن عن شخص فرنسي بحركة يدهم بعنف على رأسهم من الخلف كمن يحاول قطعها. وقد اتضح أن هذه الحركة تشير إلى حادث موت لويس السادس عشر ملك فرنسا الذي أعدمته الثورة الفرنسية بالمقصلة.
(يتبع)
نصيف المنقبادي
المحامي
صور من حياة الإنجليز الاجتماعية في اقرن الثامن
عشر
للكاتب العظيم يوسف أديسون
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
1672 -
1719
حياة المؤلف:
(أتم دراسته في جامعة أكسفورد، متمكناً من اللاتينية تمكناً أثار إعجاب الشاعر دريدن، للقصائد الرائعة التي كان ينشرها بتلك اللغة. ونشر 1704 ملحمة بعنوان (كمباين) أي الحملة، أشاد فيها بالنصر العظيم الذي انتصره الإنجليز في معركة بلنهيم. وفي 1706 عين عضواً في مجلس النواب البريطاني فوزيراً للدولة. وسافر بعد ذلك إلى أيرلندا سكرتيراً لحاكمها العاماللورد ورتون. وكان صديقاً حميماً لرجال الأدب في عصره مثل ستيل، وسوفت وفي عام 1709 ابتدأ سلسلة مقالاته الاجتماعية والأدبية التي صور فيها حياة الإنجليز أتم تصوير، والتي ننقل عنها هذه الصور الاجتماعية، وأخذ ينشرها في صحيفة صديقه الحميم ريتشارد ستيل التي كانت تصدر باسم تتلر. وفي عام 1712 تعاون مع صديقه ستيل على إصدار صحيفتي السبكتاتور والغارديان. ولما عاد حزب الأحرار إلى الحكم عام 1715 عين سكرتيراً عاماً لأيرلندا وأصدر جريدته السياسية فري هولد. وفي عام 1716 عين مديراً للتجارة وتزوج من الكونتس وروك. وترك الخدمة العامة سنة 1718 براتب تقاعدي مقداره ألف وخمسمائة جنيه في العام وتوفي في السنة التالية ودفن في كنيسة وستمنستر مقر العظماء.
لقد رثاه شاعر وهجاه آخر بعد موته، وللرثاء والهجاء قصة نوجزها فيما يأتي: كان توماس تكيل يعيش في رعاية أديسون وكان يعطف عليه أشد العطف وقد تخرج في أكسفورد أيضاً. وكان الشاعر الكسندر بوب ينشر ترجمة الإلياذة، وكلما نشر فصلاً، أسرع تكيل إلى نشر الفصل ذاته من ترجمته في جرائد ستيل، فكان يجن بوب من ذلك ويفترض أن
أديسون هو الذي يحرضه على ذلك. ولذلك كان الرثاء الموجع من الشاعر تيكل، والهجاء المقذع من بوب)
مباراة في التكشير:
أشرت في مقال سابق، إلى اقتراح قُدّم بإجراء مباريات بين الفنانين، وتخصيص الجوائز، تشجيعاً للإنتاج المحلي في الصناعات اليدوية بين الصناع البريطانيين؛ وقد أدهشني بعد ذلك الإعلان التالي في صحيفة بوست بوي في عدديها الصادرين في الحادي عشر من الشهر الجاري والخامس عشر من شهر أكتوبر التالي، (سيعطى إناء خزفي قيمته ستة جنيهات جائزة لسباق يقام في كولزهل من مقاطعة وروك شير بين الجياد الصافنات، وسيعطى إناء خزفي آخر، أقل قيمة من الأول، لسباق بين الحمير، وخصص خاتم ذهبي، لمباراة تقام في نفس اليوم بين الرجال في التكشير).
أما أولى هذه المباريات فقد تكون لها فائدة معقولة؛ وأما المباريات الأخريان، فلا أرى لهما فائدة معقولة. أما لماذا يريدون إقامة مباراة بين الحمير وأخرى بين الرجال في وروك شير، دون أي مكان في إنجلترا، فهو أمر لا أستطيع له فهماً وتعليلاً. لقد قرأت كثيراً عن الألعاب الأولمبية، فلم أجد فيها سباقاً للحمير أو مباراة للتكشير؛ ولكن مهما كانت الأسباب المؤدية إلى ذلك، فقد اتصل بعلمي أن مجموعات من الحمير تدرب ويسخى عليها في الطعام، وأن عدداً كبيراً من الرجال على بعد عشرة أميال من مكان المباراة - يقضي الواحد منهم الساعات أمام المرآة يمرن عضلات وجهه استعداداً لذلك اليوم العظيم.
لقد أثارت الجائزة المقترحة تنافساً كبيراً بين طبقات الشعب، حتى ليخشى أن تتشوه الوجوه، ويعرف الرجل أنه من وروك شير، بمجرد تكشيره. لقد كانت التفاحة الذهبية جائزة الجمال الساحر في الماضي، فأصبح الخاتم الذهبي جائزة تشويه ما ركب الخالق من جمال في الوجوه.
وإنه لمن دواعي الغبطة أن ألفت نظر الفنانين الهولنديين، إلى اغتنام هذه الفرصة لرسم مجموعة من الوجوه التي ستشترك في تلك المباراة العتيدة.
وتذكرني هذه المناسبة، بحديث اتصل بي من رجل قرأ الإعلان عن مسابقة التكشير التي نحن بصددها، فحدث أصحابه القصة التالية:
حينما سقطت مدينة تامور، كان بين الاحتفالات الشعبية، مباراة في التكشير، على خاتم قدمه قاض من حزب الأحرار. وكان أول المتبارين رجل فرنسي، مرّ عرضاً بتلك المدينة، وخيل إليه أن نحافته وقبح وجهه، ربما كانا عوناً له على نيل الجائزة، فوضعت له منصة أمام الجمهور وطلب إليه أن يصعد إليها وأن يواجه الناس. وابتدأ يشد عضلات وجهه، ويديرها يمنة ويسرة، وقد استطاع أن يظهر عشرين سناً من أسنانه في التكشيرة الأولى؛ وسرت همسات الاستياء بين الناس مخافة أن يظفر هذا الأجنبي بشرف الجائزة، ولكن حسن الحظ أظهر أنه لا يجيد إلا التكشير المرح، فلذلك لم يظفر بالجائزة.
واعتلى المنصة بعده إنجليزي، يعتبر الأول في فن التكشير، فأجاد إجادة لا مزيد عليها، حتى لقد قيل إن عشرات من النساء الحبالى أجهضن، ولكن المحكمين أخبروا بأن الرجل يعقوبي (نسبة إلى أتباع الملك جيمس الثاني أو ابنه)، وساء الجمهور أن ينال رجل يخرج في عقيدته السياسية على العرف العام، وأن يصبح بطل التكشير في المقاطعة، فطلبوا إليه أن يقسم يمين الولاء للنظام الحاضر، فرفض وكان السرور عظيماً بإخراجه من بين المتبارين
وتقدم بعده للمنصة عشرات من المتبارين كان سوء الحظ حليفهم، ولست أنسى من بينهم فلاحاً يعيش في طرف ناء من المقاطعة، رزقه الله فكين طويلين، كشر بهما عن سحنة الشياطين نعوذ بالله منها. وقد أدهش الجمهور بمهارته في تكشيرة معقدة، وكادت الجائزة أن تعطى له لولا أن أحد المتبارين برهن للمحكمين على أنه استعمل الغش في المباراة؛ ذلك أنه قد مرن عضلات وجهه على نوع من عصير الفاكهة أكسب تلك العضلات هذا اللين العجيب، وأن حبة زعرور قد وجدت قريبة من مكان وقوفه، فوافق المحكمون على إخراجه باعتباره محتالاً.
وتقدم بعد هؤلاء إسكافي يدعى جيلز جورجون دلت المقدمات على أنه سيربح الجائزة لإظهاره ألواناً من التكشير، اخترعها، وهو يجاهد في رتق الأحذية. لقد ذهبت الملامح الإنسانية من وجهه في التكشيرة الأولى؛ وانقلب وجهه في الثانية إلى ما يشبه المزراب، وأصبح قرداً بشعاً في الثالثة، وأصبح رهيباً كذئب البحر في الرابعة، وككسارة اللوز في الخامسة، وكان إعجاب الجمهور عظيماً بمهارته فمنح بالإجماع الخاتم الذهبي. وأعجب ما
يتصل بهذا الإسكافي ونيله الجائزة، أن فتاة ريفية جميلة طالما تودد إليها هذا الرجل فرفضته في الماضي، وما كانت تراه يتسلم الجائزة الثمينة بين إعجاب الجمهور وهتافه وتصفيقه حتى سارعت إليه تطلب وده، وتزوجا في الأسبوع التالي. وكان خاتم الخطبة تلك الجائزة التي تعتز وتباهي لداتها بها.
ليس في النية أن تنتهي هذه المقالة بأفكار جدية، إنما ألفت نظر المسؤولين عن إقامة هذه المباريات إلى الجرم الشنيع الذي يقترفونه في حق مواطنيهم بتشجيعهم مباريات حيوانية منحطة من هذا النوع، أقل ما يقال فيها أنها دعوة علنية إلى التشبه بالقردة والحيوانات؛ وأنهم يملئون رؤوس هؤلاء الجهلاء بطموح رخيص، بدلاً من الارتفاع بهم إلى مستوى تهذيبي يليق بالإنسان.
علي محمد سرطاوي
فنان.
. .!
للأستاذ ثروت أباظة
يسقط على مجلسك دون أن تعرفه، فلا تملك إلا أن تنعم فيه النظر، فهو أشعث أغبر كأنه ابن السلكة قد وافى بعد إيغال في شعاب الصحراء. . . ضامر شاحب كأنه عامل قد أضرب عن الزاد، قذر الملبس يذكرك بالمار أمام منزلك صندوقه على كتفه يصرخ بأعلى صوته (بوابير جاز أصلح)
تريد أن تسأله من أنت. . . والويل لك إذا فعلت. . . لأنه لا يسمح لإنسان ألا يعرفه وقد أفنى نفسه في سبيل الشهرة. . . إن غيره لا يجهد سوى عقله وقلمه فينالها. . أما هو الشاعر الحق فقد أجهد عقله حتى جهد. . وقلمه حتى تحطم وجسمه حتى ذوى، ثم أنت لا تعرفه؟! ففيم إذن أهمل هذه اللحية وجعلك لا تعرف أن كان يزيلها أو هو يرسلها. . . أليس هذا فناً؟. وفيم إذن أطلق حول أذنيه هذه الإطارات من شعره. . كثة تكاد تخفي أذنه. . طويلة توشك أن تصل إلى فكه. . وفيم إذن ركب لنفسه هذا الرأس الثاني من الشعر. . . إن غطى الطربوش رأسه الأول برز من خلفه يخبر أنه. . فنان. . لا. لابد أن تعرفه أردت أو لم ترد. . تعرفه هكذا دون أن يخبرك. . إن سألته من أنت؟ ثار في وجهك وزمجر واستأسد بعد خنوع، إنه فنان يجلس إليك فيخبرك أنه لم ينم ليلته وأنه هكذا دائماً. . هائم على وجهه في غير مهيم. . . شارد في غير مشرد إنه فنان. . والفن في اعتقاده عزوف عن الراحة وشذوذ يفتعله هو. . وقد لا يتحدث عن نفسه فيروح يرصف القواعد للعبقرية ويضع الخطوط الواضحة بينها وبين الاكتمال العلمي فهو يقول إن العلم شئ سهل الحيازة داني القطوف. . يستطيع أي فدم أن يكون عالماً ولكن العبقرية قبس من الأشعة الإلهية أرسله الله إلى صاحب القسمة فهو شارد اللب يمشي دون وعي ويجلس على غير علم، إنه من الواصلين هكذا هكذا. . ولكن ماذا أفاد الرجل من كل هذا. . انتظر. . انتظر هاهو ذا يتبعه بجملته الخالدة، والله كثيراً ما أمشي في الشوارع دون أن أعرف لنفسي اتجاهاً، إنه عبقري ما أسهل العبقرية وما أشبه العباقرة بعمال التنظيم. . . هكذا الرجل لا يهمه بعد هذا إن كان فنه ناضجاً أو فجاً. المهم أن يتشعوذ وأن يعرفه الناس هكذا وهو بعد فنان. . . أراد الفن أو أبى، لا تظلم الرجل إنه لا يأتي هذا تصنعاً ولكنه تطبع طال به
الأمد فأصبح طبعاً.
يتحدث إليك عن حب خاب وأمل خبا، ثم عن حب ما يزال متقد الجذوة، وهو إن فعل نظر إلى شئ خلفه يشبه الإنسان وسأله أن يخبرك عن (ليلى) ما يعلم فيأخذ شبه الإنسان في الكلام واصفاً المحبوبة. . . فتتوقع أنت في هذه اللحظة أوصافاً تخجل الشمس إبان ضحوتها وتزري بالغصن أوده الصبا. . . تتهيأ أذنك لأوصاف المحبوبة لا يخالجها شك في جمالها وفتنتها، ولكن هذا أمر طبيعي ليس فيه شذوذ؛ أو يرتضي الفنان لنفسه أن تطلق على سجيتها الأولى ولو في الحب؟ لا ودون ذلك الفن أجمع. . . هاهو ذا الوصف يخبرك أن الحبيبة سوداء مفلفلة الشعر معبلة، مثقلة الشحم؛ ثم يلتفت بعد هذا إلى الفنان يسائله في عجب ما يزال متكلفاً: لم تحبها. . . إن كثيرات غيرها يهوينك وبودهن لو نظرت إليهن ولو نظرة واحدة يلتفت إليك الفنان متعجباً من نفسه هو أيضاً ولكنه يحاول أن يغالط نفسه قليلاً فيخبرك أن معشوقته شديدة الحساسية عليمة بنبضات الشعر وخفقات الشعور. وإنها - وهو المهم - تحترم شعوره الحساس الرقيق فهو قد يغضب وقد يضربها ولكنها لا تؤذي إحساسه بكلمة وتحافظ على كرامته ما وسعها الحفاظ ومهما كلفتها تلك الخطة من إجهاد لشعورها الرهيف. . . وجماع أمرها وأمره أنها تفهمه وأنه يفهمها
عجيب أن يتكلم الرجل عن الكرامة ولكن كرامته هي الأخرى شاذة من نوع آخر. . . فهو قد يسألك القرش على غير معرفة ولكنه مع هذا ذو كرامة - وهو يفرط في الخمر على حساب غيره ثم يخرج إلى الطريق العام عربيداً. . . ولكنه ذو كرامة. . . وهو ينتقي أقذر الملابس ويضعها على نفسه كما توضع البردعة. . . وما يزال ذا كرامة.
إن الرجل ليس فقيراً، فهو يعمل ويحصل على أموال كثيرة ولكنه يضيعها لا لشيء إلا ليستجدي، ولعله يستجدي وهي في جيبه لمجرد الشعوذة والمحافظة على كرامته الفريدة.
قرأ ذلك الشاعر في بدء حياته بعض تراجم لشعراء غربيين قدامى - فرأى ما يفعله بودلير وسمع ما قيل عن بايرون، فظن أن الفن عربدة كعربدتهم وتحلل كتحللهم، وظن أن هذه العربدة وذلك التحلل هما الطريق السوي الممهد إلى الخلود. . . نسي الرجل أن هؤلاء كانوا أصحاب أفكار سامية وعاطفة ملتهبة نابضة وعلم مكتمل ناضج وأنهم نجحوا برغم سلوكهم لا بسبب سلوكهم.
إن من هؤلاء الشعراء المشعوذين من إذا انصرف عن شعوذته إلى فنه لكان نتاجه حقيقاً بالاحترام فكثيراً منهم ذو ملكة مهيأة للفن تهيئة يفتقدها الكثير. . . ولكنه أخطأ الطريق أو لعله رأى وعورتها. . . فانثنى عنها إلى طريق أخرى أكثر وعورة على الكرامة الحقة ولكنها سهلة معبدة للكرامة المشعوذة.
ثروت أباظة
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
888 -
إنهما مما أهل به لغير الله
الموافقات للشاطبي: نهي عن (معاقرة الأعراب) وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما، يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقراً أجودهما، نهي عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان أوان حوادث تتجدد لهم وفي نحو ذلك من الأمور.
وخرّج أبو داود: (نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتبارين أن يؤكل) وهما المتعارضان ليُرى أيهما يغلب صاحبه. وهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل، فإذا زيد عليه هذا القصد كان تشريكاً في المشروع، ولحظاً لغير أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز وقوله فيها: إنها مما أهل به لغير الله.
889 -
بحث لغوي في شج وشجى
الاقتضاب في شرح أدب الكتاب للبطليوسي.
قد أكثر اللغويون من إنكار التشديد في هذه اللفظة (الشجى) وذلك عجب منهم، لأنه لا خلاف بينهم أن يقال: شجوت الرجل أشجوه إذا أحزنته، وشجى يشجى شجاً إذا حزن، فإذا قيل: شج بالتخفيف كان اسم فاعل من شجى يشجى فهو شج كقولك عمى يعمى فهو عم، وإذا قيل: شجى بالتشديد كان اسم مفعول من شجوته أشجوه فهو مشجو وشجي كقولك مقتول وقتيل ومجروح وجريح. وقد روي أن ابن قتيبة قال لأبي تمام الطائي: يا أبا تمام، أخطأت في قولك:
ألا ويل الشجي من الخليِّ
…
وبالي الربع من إحدى بليِّ
فقال له أبو تمام: ولم قلت ذلك؟
قال: لأن يعقوب قال: شج بالتخفيف ولا يشدد.
فقال له أبو تمام: من أفصح عندك؟ ابن الجُرمقانية يعقوب أم أبو الأسود الدؤلي حيث
يقول:
ويل الشجي من الخلي فإنه
…
نصب الفؤاد لشجوه مغموم
والذي قاله أبو تمام صحيح، وقد طابق فيه السماع والقياس، وقد قال أبو دؤاد الإيادي، وناهيك به حجة:
من لعين بدمعها موليه
…
ولنفس مما عناها شجيه
890 -
خذ بيدي فهكذا تزول النعم
تاريخ بغداد للخطيب: أبو محمد عبد الله المعروف بابن الأكفاني قال سمعت أبي يقول: حججت في بعض السنين وحج في تلك السنة أبو القاسم عبد الله بن محمد وأبو بكر محمد بن جعفر الأدَمي القارئ صاحب الألحان، كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن وأجهرهم بالقراءة. فلما صرنا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءني أبو القاسم فقال لي: ههنا رجل ضرير قد جمع حلقة في مسجد رسول الله وقعد يقص ويروي الكذب من الأحاديث الموضوعة والأخبار المفتعلة فإن رأيت أن تمضي بنا إليه لننكر عليه ذلك ونمنعه منه، فقلت له: يا أبا القاسم، إن كلامنا لا يؤثر مع هذا الجمع الكثير والخلق العظيم، ولسنا ببغداد فيعرف لنا موضوعنا، وننزل منازلنا، ولكن ههنا أمر آخر وهو الصواب وأقبلت على أبي بكر الأدمي فقلت له: استعد واقرأ، فما هو إلا أن ابتدأ بالقراءة حتى افلت الحلقة، وانفصل الناس جميعاً، وأحاطوا بنا يسمعون قراءة أبي بكر، وتركوا الضرير وحده، فسمعته يقول لقائده: خذ بيدي فهكذا تزول النعم!!
891 -
كلنا صيادون ولكن الشباك تختلف
النجوم الزاهرة: قال القاضي التنوخي: جاء رجل من الصوفية إلى بجكم، فوعظه بالعربية والفارسية حتى أبكاه، فلما خرج قال بجكم لرجل: احمل معك ألف درهم وادفعها إليه، فأخذها الرجل ولحقه، وأقبل بجكم يقول. ما أظنه يقبلها، فلما عاد الغلام ويده فارغة قال بجكم: أخذها؟
قال: نعم.
فقال بجكم بالفارسية: كلنا صيادون ولكن الشباك تختلف. . .
892 -
سيرة أردشير
ثمار القلوب في المضاف والمنسوب لأبي منصور الثعالبي:
سيرة أردشير - من حسن سيرته أن له كتاباً في حسن السيرة يضرب المثل به، وتقتبس الملوك من نوادره، فمن نكته قوله:
إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة.
لا صلاح للخاصة مع فساد العامة، ولا نظام للدهماء مع دولة الغوغاء.
أوحش الأشياء عند الملوك رأس صار ذنباً وذنب صار رأساً.
لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا بعمارة إلا بعدل وحسن سياسة.
ومن كلامه: القتل أنفى للقتل. وأجمل منه في معناه قول الله تعالى: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.
893 -
جعلك من عجائب البحر
أخبار الظراف والمتماجنين لابن الجوزي: قال أبو الحسن السلامي الشاعر: مدح الخالديان سيف الدولة بن حمدان بقصيدة أولها:
تصد ودارها صدد
…
وتوعده ولا تعد
وقد قتلته ظالمة
…
فلا عقل ولا قود
وقال فيها في مدحه:
فوجه كله قمر
…
وسائر جسمه أسد
فأعجب بها سيف الدولة، واستحسن هذا البيت، وجعل يردده، فدخل عليه الشيظمي الشاعر فقال له: اسمع هذا البيت وأنشده، فقال الشيظمي: احمد ربك فقد جعلك من عجائب البحر
894 -
راحة الجسم والنفس والقلب واللسان
عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة:
من كلام ثابت بن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام. . .
توقيع
(طلبت صغرى كريمتي الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا إلى
أبيها أن يسجل عيد ميلادها في كراسة توقيعاتها فكانت هذه
الأبيات:
وهبتك قلباً مع شقيقيك عامراً
…
بأغلى الذي عندي من الحب والعطف
وأسكنتكم أحناءه منزلاً لكم
…
فلو قد صددتم عنه أسكنتكم طرفي
وأصفيتكم من جنة النفس رحمة
…
ويسعد نفسي أنها لم تزل تصفي
وأبدي حنو الوالدين. . . وأتقي
…
فأخفي. . . فينهلُّ الحنو الذي أخفي
إذا ما بذلتم لي جزاء يضيء لي
…
بقية أيامي. . فمن ساكب العرف
وإن كانت الآباء كهف فروعهم
…
فكهفكمو حبي وحبكمو كهفي
عزيز أباظة
في مهرجان جامعة أدباء العروبة في الزقازيق:
حنين إلى الموطن الأول
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
تسليم مشتاق، ولهفة زائر
…
يا مهد أحلامي، ونبع خواطري
ومجال فجري وهو يومئ للضحى
…
أن تستفيض على الصباح الباكر
ومنارة الأفق الذي لما يزل
…
يهفو له قلبي، ويرنو ناظري
ومثار أشواقي الوليدة، والهوى
…
في عشه يحبو بخطو عاثر
متفزعاً من كل سار صادح
…
ومبلبلاً من كل طيف عابر
إني ذكرت على (مويس) جراحه
…
وغنيت عن دمعي بلوعة ذاكر
رف الشباب على رباه مثلما
…
رف الهتوف على الغدير الزاخر
هذي الضفاف الناعسات ملاعبي
…
يا طالما يقظت لقلبي الساهر
نديت منها أدمعي وسكبتها
…
آلام مهجور، وجفوة هاجر
وقرأت فوق ظلالها أسطورتي
…
وأبحتها أن تستشف سرائري
ونثرت آهاتي على آهاتها
…
في النسمة الحيرى، ونوح الطائر
يا سامري بين الخمائل هاهنا
…
جئنا نجدد عهدنا، يا سامري
أوفى عليك الركب، نفحة مبدع
…
ونشيد فنان، وهتفة شاعر
حفوا بركب وزيرهم في نشوة
…
كالطير حفت بالخميل الناضر
من لي بركب العبقريين الألى
…
صدحوا على لجب الزمان الهادر
وشدوا ملاحم مجدهم وتسابقوا
…
في صيحة الداعي، وعزم القادر
حسب الوزير الألمعي وحسبهم
…
إحياء مجد للعروبة غابر
مجد أظل الشمس تحت لوائه
…
ومشى على هام الزمان الجائر
عزت به الفصحى، فأطلع صبحها
…
والدهر يضرب في ظلام حائر
لله من رجل ينشر مجدها
…
في مجده سلمت يمين الناشر
ليشيع في الدنيا الجمال، ويحتفي
…
بالخير في هدي البيان الساحر
تلك الأيادي يا دسوقي صنعتها
…
وورثتها من كابر عن كابر
أنا بعضها، فمواهبي شبت على
…
بيت هنالك في غزالة عامر
لا كرمة في روضة ساقيتها
…
نجوى صلاتي في لحون مزاهري
وعصرتها خمراً ودرت بها على
…
ندمان روضك بين أنس غامر
أسقي وأسقى من سلاف شعشعت
…
بكريم أمجاد، ونبل عناصر
يا سيدي أسر العروبة جهدكم
…
في بعثها، لا زال فضل الآسر
من يبعث الشعراء يبعث قومه
…
للمجد في وضح النهار السافر
فإذا سئلت عن الذي نحيا له
…
في الشرق والنيل العزيز القاهر
فقل البيان. أعيش أرعى أهله
…
في الخافقين. وتلك تلك مفاخري
في ظل فاروق سنرفع ذكره
…
ليدور في فلك الزمان الدائر
رجعة إلى مويس
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
وصل الركب يا نديم فهات
…
هذه رملتي، وتلك رباتي
الرياض اللفاء، والرفرف الخض
…
ر، ومغني الصبا، وملهي اللدات
ومغاني عماتك النخل فرعا
…
ء صموتاً كعهدها قائمات
والطريق الغيان في جانب النه
…
ر عروس الأصيل، حلم الغداة
(ومويس) السكران راوية الح
…
ب، وساقي لحونه الثملات
معبد الراهب الخليع بساط
…
للندامى، وموعد للغواة
العجوز الزنديق خمارة الشع
…
ر، وعُزّى ندمانها، واللات
خطر الفن حوله فجثا يس
…
تغفر الحسن، والعيون اللواتي
وعلى صدره بغام حنين
…
وعلى شطه عرام سقاة
أنا أيضاً من السقاة ولي في
…
ذلك الشط قصتي ورواتي
فوق هذا الثرى سكبت من العم
…
ر سنيناً عصرتها من حياتي
وعلى هذه الرمال تناول
…
ت حديث المأساة، والمسلاة
والزمان المطمور تحت رباها
…
بعض ذاتي، وفيه بعض صفاتي
فاعذروني إذا لويت الرك
…
ب ف، ي أسير في ذكرياتي
يا سقى الله بالزقازيق أحلا
…
م صباي النواضر العطرات
وسنيناً كأنها طرفة العي
…
ن خفاقاً مررن كاللحظات
يسترقن الخطى إلى شاطئ النس
…
يان في موكب رهيب الصمات
من ترى أيقظ الخواطر حولي
…
وأثار المطوي من صفحاتي
وأعاد الأيام. . . والمعهد السا
…
مق مسروج بالنجوم الهداة
العدول الأعلام أمثلة الزه
…
د، وشيخانه الفحول الثقات
ورفيق كأنه هامش الشر
…
ح إذا صات يمضغ القافات.!
حنبلي كأنه الجبل الأو
…
رق صخابة كثير اللتات. .!
السراج العليل يشهق في مح
…
رابه، والبلى يروح، وياتي.!
ونضيج مفلفل لاذع الطع
…
مة يشوي أصابعي، ولهاتي
يتصبى المجاورين فننص
…
ب عليه كالفاتحين الغزاة
اترك المتن، واطو حاشية السع
…
د، وأدرك شيخون قبل الفوات
أنا من مازن، ومازن مني
…
والليالي القمراء من صدحاتي
أبهذا النديم ويحك أوفي
…
ت فمل بي على (مويس) وهات
أنا في شطه أراجع في سف
…
ر وجودي أيامي الخاليات
أنا في شطه أراقب فعل الد
…
هر في أهله وأرقب ذاتي
أنا في شطه أقاوم إغرا
…
ء خيالي بهذه الذكريات
أوقظ الماضي البعيد وأخشى
…
أن تغيم الأشباح في خلجاتي
وأنا الشاعر الذي زمزم الكا
…
س فرنت بهذه المرقصات
ليت من عقني وألحد بالشع
…
ر يرد الأخيذ من خطراتي
جنة الحب.
. .!
للأستاذ أحمد مخيمر
خذي قناعك لا تلقيه إغراء
…
يا لمحة أشرقت من طور سيناَء
هذي المحاسن لم يجمعن في جسد
…
فحسبك اليوم للعشاق إغواء
كنا ألبّاء والأيام هادئة
…
حتى طلعت، فلم نصبح ألباء
جنّ الحنين حنوناً في أضالعها
…
وأوسعتنا ليالي الشوق إضماء
وأيقظت ما طوته من رغائبنا
…
يد الزمان فما يملكن إغفاء
ينظرن من شرفات الروح في لهف
…
يبغين من لمحات الحسن إدناء.
يا روضة من رياض الحب زاهرة
…
طابت ظلالها، وأنساماً، وأنداء
كسوت جسمك من فرع إلى قدم
…
غلالة من رفيف الظل ملساء
ولم يزل نبعك الرقراق مندفقاً
…
لم يأل من وردوه الدهر إرواء
أظل أسمع موسيقى الحياة به
…
تطوف بالروح أنغاماً وأصداء
حسبت كل رنين حيث تبعثه
…
طيفاً من العالم العلويّ وضاء
يبث ما شاء من ريّ ومن ظمأ
…
ويرسم العيش بأساء ونعماء
يا جنة الحب لولا ما سقيت به
…
من الدموع لما أصبحت غنّاء
ليس الذي في الغصون الخضر من ثمر
…
إلا قلوباً صديّات وأحناء
أزهارك النضر رفت فوقها ذكراً
…
وجسمتها يد الأقدار أهواء
وما العبير سوى الأشواق ضائعة
…
لا تستطيع لها الأدواح إخفاء
ما بال بابك لم يفتح لحارسه
…
وما لأغصانك اللفاء خرساء
أتاك طائرها الصداح، تدفعه
…
أشواقه. . فامنحيه الحب والماء
نسيته فتناسى وهو مدَّكر
…
وكان - لولا قديم الود - نسّاء
يا جنة الحب لا يخط لديك ولا
…
عتب عليك، ولم نبرح أحباء
غنت طيورك في الفيوم فاستمعي
…
ما يعجز القوم إفصاحاً وإلقاء
إذا شدونا إلى الدنيا بقافية
…
مالت إلى جرسها الأجيال إصغاء
وأوقفت خطوها الأيام، والتفتت
…
حتى ترى عزة للشعر قعساء
من خمرة الحب نسقيه، ونعصره
…
من كرمة الخلد للصادين صهباء
الأدب والفن في أسبوع
روائع الفن العالمي:
يقول (جيبو) في كتابه (علم الجمال): لا يخلد من إلياذة هوميروس إلا صلاة عجوز وابتسامة وداع بين زوجين. . .
ويقول (رومان رولان): لا شئ يؤثر على النفس تأثير تحفة فنية صاغتها يد فنان وكونها حذقه وتفكيره، فإذا سمع المرء إيقاع (بيتهوفن) الموسيقي أو تأمل لوحة من لوحات (رامبرانت) نسي ذاته وذابت أنانيته وشاهد الطيبة تتدفق من تلك القلوب الكبيرة ولمع في ناظريه شعاع ذكائهم. . .
ذكرت هذا الكلام وأحسسته في نفسي وأنا أنقل النظر والفكر من لوحة إلى لوحة في المعرض الدولي للفن الحديث الذي أقيم بالسراي الكبرى بالجزيرة وتفضل جلالة الملك بافتتاحه يوم الأحد الماضي وشاهده كثير من رجالات الدولة وكبرائها، ومحبي الفنون وهواتها.
وقفت أول ما وقفت في القسم المصري بالمعرض فاستغرقني التأمل في كثير من اللوحات الخالدة، أعجبني (الفرسان الثلاثة) لمحمد حسن بك و (بنات البحر) للأستاذ محمد سعيد و (الذكر) لمحمود سعيد بك، وهكذا أخذت أتأمل جميع المعروضات المختلفة في هذا القسم للمرحوم المثال مختار والمرحوم سحاب ألماظ والأساتذة جابر وأحمد عثمان وسعيد الصدر والسيدة إيمي نمر، ولكني أعجبت إعجاباً خاصاً بذلك الاتجاه الشعبي الذي اتجه إليه الأستاذ محمد مصطفى عزت في لوحته (قهوة بلدي في خان الخليلي)، وفي صورته الرائعة (نهر النيل)، وقد بلغني أن هذه الصورة الرائعة حظيت بالرضا السامي من جلالة الملك فأثنى على صاحبها ولا عجب أن تتجه عواطف ملك النيل وراعيه إلى (النيل).
وانتقلت بعد ذلك إلى القسم الفرنسي فشاهدت ما ضم من أعمال فنية رائعة في الرسم والنحت، وقطع نادرة من السجاد والتحف والنقوش وكلها تنطق بالشعر والجمال.
وفي القسم البريطاني شاهدت مجموعة من المطبوعات الملونة يرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر، وأربعين لوحة تصور عدة مناظر مختلفة وأكثرها مناظر علمية واقعية وهي الروح التي تسيطر على الفن الإنجليزي.
أما في القسم الروسي فقد استوقف نظري صورة البطولة (ثلاثة أبطال من التاريخ) و (أغنية البطولة) و (سباق)، أليست هذه الصور صورة تمثل روسيا في بطولتها وفي سباقها أصدق تمثيل. . .
وكان آخر المطاف بالقسم الأمريكي، وفي هذا القسم عرضت المجموعة التاريخية الفنية لجمعية الفنون الدولية وهي تشتمل على ستين صورة أمريكية يرجع تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والعشرين. وكلها من أروع ما أخرج الفنانون الأمريكيون
قال صاحبي بعد أن انتهينا من مطافنا: أنظر. إن الفن بقوته وروعته يعلو على جميع الأطماع الإنسانية ويحطم جميع الفوارق، ألا ترانا هنا نوزع إعجابنا على المصري والإنجليزي والفرنسي والروسي والأمريكي من غير تفريق ولا تحيز، ولكنا لا نحتمل هذا ولا نستسيغه في المجال السياسي والزحام الدولي.
في معرض الآثار العربية:
وأقامت دار الآثار العربية معرضاً افتتحه معالي وزير المعارف في الأسبوع المنصرم وحضره كثيرون من هواة الآثار الفنية والمعنيين بالدراسات التاريخية والأثرية والأدبية، وقد عرضت الدار في هذا المعرض أكثر من مائة وخمسين قطعة لا يعرف تاريخها بالضبط ولهذا سمتها الدار بالآثار غير المعروفة وإن كان من المرجح أن أقدمها لا يسبق في وجوده القرن التاسع الميلادي كما أن أحدثها لا يتجاوز القرن الخامس عشر.
وتشتمل هذه المعروضات على حلي من الذهب الخالص وقطع من القاشاني الفارسي الجميل والزخرف المزوق ونسائج من الصوف البديع وغير ذلك من الزجاج المضيء والصور التي تؤرخ عصرها بما تحمل من طابع الذوق والفن. ومن أروع ما شاهدت مجموعة أثرية نادرة من مختلف القطع كان المغفور له علي إبراهيم باشا قد أوصى بعرضها قبل وفاته بأيام
ولقد شاهدت هذا المعرض، وقضيت ساعة كاملة أتفحص ما فيه من القطع الأثرية الغالية النادرة ثم خرجت وكأني قد استوعبت كتاباً ممتعاً في تاريخ الحضارة الإسلامية، بل لقد تمثل لي فيما شاهدت متعة فنية وفائدة عقلية مما لا يمكن أن يتمثل في قراءة أي كتاب، ذلك لأن الآثار تحمل طابع الذوق وطابع العقل.
على أن مما يؤسف له أن هذا المعرض وأمثاله لا يستلفت في مصر إلا أنظار الهواة لهذا الفن، أعني عشاق الآثار والتحف القديمة، مع أنه معرض ثقافي يجب أن يهتم به طلاب الثقافة من كل لون، وهذا يرجع إلى ضعف الاهتمام بهذه الناحية في مدارسنا وفي دراساتنا، بل إن وزارة المعارف نفسها لا تزال تنظر إلى هذه الناحية على أنها من مظاهر الكمال كما يقولون فلا تبذل لها من العناية والاهتمام ما يجب، أليس من المؤلم أن تضيق دار الآثار العربية منذ سنوات بمحتوياتها، وترتفع بذلك الشكوى إثر الشكوى ولكن لا سميع ولا مجيب، وكأن الأمر لا يعني وزارة المعارف في كثير ولا قليل. . . حقاً إنها حال تدعو إلى الأسف. . .
ذكرى الأستاذ الأكبر مصطفى عبد الرزاق:
تألفت لجنة برياسة الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد باشا لتخليد ذكرى المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق، وقد أهابت هذه اللجنة بأصدقاء الفقيد وتلامذته ومريديه والمخلصين للدراسة والبحث العلمي أن يسهموا في مساعدة اللجنة على إنشاء جائزة باسم الفقيد الكريم لتشجيع الدراسات الإسلامية في مصر.
وإنها لفكرة طيبة، نرجو أن لا تكون نخوة يثيرها الحزن على فقد ذلك الإمام ثم تخبو شأن فكرات لها مماثلة، كما نرجو أن تنهض هذه اللجنة بما يجب نحو ذكرى الفقيد من جمع آثاره ونشرها وإذاعتها إلى جانب ما تهتم له بإنشاء تلك الجائزة العلمية، ونحن نعرف أن الشيخ مصطفى عبد الرزاق قد أنفق حياته الحافلة للصالح العام، فخدم الأزهر، وخدم الجامعة، وخدم الوزارة، وخدم في ميدان الثقافة العامة، كما خدم في هيئة سياسية لها مكانتها، فهل لهذه الجهات أن تجتمع كلها ظهرة واحدة على تخليد ذكراه وإحياء تراثه وإذاعته؟ إنها لو فعلت ستؤدي شيئاً له قيمته وخطره، وستنهض بالواجب على أتم ما يكون الواجب، ولكن هيهات، فإن شعورنا نحو من نفقد من رجالنا يتضاءل بمرور الأيام، ورحم الله شوقي إذ يقول:
يزار كثيراً، فدون الكثير
…
فغباً، فينسى، كأن لم يزر
شعور كريم:
نهض جماعة من تلامذة الأب الكرملي ومريديه الذين انتفعوا بعلمه واغترفوا من بحره لتخليد ذكرى أستاذهم وشيخهم فرأوا أن خير سبيل في ذلك هو إحياء تراثه ونشر كل ما يعرفون من آثاره، وخاصة ما ترك من مؤلفات لم تطبع، وما كتب من مقالات لم تظهر، على أن يضيفوا إلى هذا كل ما كتبه الكاتبون عن ذلك الباحث العظيم الذي خسرته اللغة العربية وخسره العلم والأدب.
ويقولون إن مثل هذه الآثار التي تعدها الجماعة للنشر (رسائل) تبودلت بين المغفور له أحمد تيمور باشا والأب الكرملي، وهي رسائل تدور على مناقشات وتحقيقات في اللغة والأدب والتاريخ ويقوم بطبع هذه الرسائل والتعليق عليها الأستاذان كوركيس عواد وميخائيل عواد وهما من تلامذة الفقيد وخاصته.
وإلى جانب هذا تهتم لجنة التأليف والترجمة والنشر في وزارة المعارف العراقية بإخراج مؤلفات الفقيد وطبعها طبعاً محققاً مصححاً حتى يعم النفع بها من جهة، ويكون إخراجها براً بذكرى الكرملي من جهة أخرى.
وهذا شعور كريم، وعمل خير وبر، خير حيث يتيسر الانتفاع بتلك الآثار الجليلة، وبر لأنه دلالة وفاء لذكرى رجل وقف حياته على خدمة العلم، ويا حبذا لو نهجنا هذا النهج في إحياء ذكرى أدبائنا وعلمائنا بأن نحرص على آثارهم من الضياع، ونضن بمخلفاتهم أن تباع، وأن نقوم بطبع كل ما تركوه من مؤلفات، وإذاعة ما أبدوا من آراء وتحقيقات، فإن هذا كله أجدى وأنفع من تلك الحفلات التقليدية التي نقيمها، وتلك الخطب (التأبينية) التي نتفضل عليهم بها، وهي خطب لا نفع بها للأحياء ولا بر فيها بالأموات.
ذكرى اليازجي:
احتفلت لبنان في الأسبوع الماضي بذكرى مرور مائة عام على مولد الشيخ إبراهيم اليازجي، وأذاعت محطة الإذاعة هناك بهذه المناسبة برنامجاً حافلاً اشترك فيه كبار الأدباء والشعراء وفي طليعتهم الشاعر الكبير شبلي ملاط بك إذ ألقى قصيدة عامرة صور فيها عصر اليازجي وحظه في عصره أقوى تصوير وأروعه.
وإن مما يؤسف له أن تمر هذه الذكرى فلا يشعر بها أديب أو شاعر في مصر، ولا تهتم
الإذاعة المصرية عندنا بأن تصنع فيها شيئاً مما صنعته زميلتها في لبنان، مع أن ذكرى اليازجي دين في عنقنا، وواجب يفرضه عرفان الجميل علينا.
حقاً، إن اليازجي قد نبت في لبنان، فكانت موطن مولده ونشأته، ولكنه جاء إلى مصر أديباً كبيراً وعالماً نحريراً فمنح مصر من أدبه وعلمه كل خير وبركة، إذ أصدر بها مجلة (البيان) ثم مجلة (الضياء)، وعني عناية خاصة بتصحيح أساليب الأدباء وتقويمها والتنبيه على الأخطاء الشائعة في لغة الصحفيين، وجمع هذا كله في كتاب سماه:(لغة الجرائد)، وكان الكاتب أو الشاعر في مصر لا يأخذ حظه من التقدير أو الاعتبار إلا إذا فاز بشهادة من اليازجي تزكيه في قومه، وقد ظل الرجل في مصر يفيد بعلمه وأدبه ويجاهد في خطته حتى أعياه الجهد ومات بداء السرطان في ضاحية الزيتون.
هذا هو اليازجي، عاش لمصر بعلمه وأدبه، فكان الواجب علينا أن نكون سباقين للقيام بالواجب نحو ذكراه. . .
جامعة القلم:
طالعت في الصحف أخيراً أن جماعة من الأدباء ورجال اللغة الذين خبروا تصحيح الكتب وتقويم الأساليب وشئون الطباعة قد تألفوا فيما بينهم وأسموا رابطتهم (جماعة القلم) واتخذوا لهم مكاناً وجعلوا من غايتهم مساعدة المؤلفين والناشرين والطابعين على إخراج المؤلفات مصححة مضبوطة محققة بما يضمن خلوها من أخطاء الصناعة وأخطاء الطباعة.
وقد أذاعت هذه الجماعة أو الجامعة كما تقول: أن الذي دفعها إلى هذه الغاية ما لمسته من كثرة الأغاليط والأخطاء في المؤلفات والمحاضرات والأغاني والأفلام والمقالات والرسائل التي تخدش اللغة وتحرف الكلم عن مواضعه وتضلل القراء وتهوي بقيمة المؤلفات وتسئ إلى سمعة مصر زعيمة الشرق، فرأت أن تنهض لتلافي هذا كله حتى تخرج المؤلفات خالية من الزلات بريئة من العثرات
ومهما يكن من شئ فإنها غاية حميدة ومهمة تقع موقعها من الحاجة، فإن المطبوعات الكثيرة التي تقذف بها المطابع في هذه الأيام تخرج مشحونة بالأخطاء والشناعات، وبما يضحك ويبكي من فنون الأغاليط، وذلك يرجع إما لعجز المؤلفين أو قصور الناشرين أو
عجلة الطابعين، وشيوع الأخطاء في المؤلفات من أخطر الأخطار على الثقافة العامة لأنه يؤدي إلى شيوع اللحن وانحلال اللغة في الألسن وضعف ملكتها في الأذهان، ولكن ما جدوى هذا وقد أصبحنا في عصر يتظرف أبناؤه باللحن في اللغة، ويرون الحرص على صحيح التركيب وصواب اللفظ من دلائل الجمود والتأخر.
إننا نطالب بشيء أجدى من هذا، إننا نطالب وزارة المعارف بإنشاء رقابة لا تسمح بإخراج الكتب والمؤلفات إلا إذا استوفت شرائطها من سلامة الأسلوب وصواب الأداء وحينئذ يضطر المؤلفون والكاتبون إلى تحري الصواب فيما يكتبون.
الأستاذ ليفي بروفنسال:
قدم إلى مصر منذ أسبوع إجابة لدعوة جامعة فاروق الأول بالإسكندرية المستشرق الفرنسي المعروف الأستاذ ليفي بروفنسال لإلقاء سلسلة من المحاضرات الأدبية باللغة الفرنسية، وقد تقرر أن يلقي أربع محاضرات، ألقى الأولى منها فعلاً مساء يوم الخميس الماضي بقاعة المحاضرات بكلية الطب في جامعة فاروق الأول وكان موضوعها (الشعر العربي الكلاسيكي في إسبانيا)، ويلقي الثانية مساء الاثنين (اليوم) وموضوعها (الشعر العربي الشعبي في إسبانيا)، والثالثة في مساء الخميس القادم وموضوعها (العلاقة بين الشعر العربي الأندلسي والشعر الأوربي الوسيط)، أما الرابعة فسيتحدث فيها الأستاذ المحاضر عن (غرناطة الإسلامية وقصر الحمراء) وسيكون الموعد بإلقائها مساء السبت من الأسبوع القادم.
والأستاذ بروفنسال بقية من المستشرقين المخضرمين، وهو أحد الأعلام الذين أسهموا في إخراج وتحرير دائرة المعارف الإسلامية وله كثير من الدراسات الأدبية والتحقيقات التاريخية النافعة، وكل ما نرجو أن تعنى كلية الآداب في جامعة فاروق بتدوين تلك المحاضرات ونقلها إلى اللغة العربية حتى تكون مرجعاً يرجع إليه وينتفع به.
(الجاحظ)
البريد الأدبي
تكريم الأستاذ خليل مطران:
تنبيهاً للأذهان، لا تقريراً لما يجب أن يكتب في هذا الحادث الأدبي العظيم، نقول إن طائفة من أثرياء السوريين واللبنانيين من محبي أدب شاعرهم الخالد الأستاذ خليل مطران اجتمعت فجمعت سبعة آلاف جنيه لطبع دواوين شعره وسائر مؤلفاته الأدبية، وقد اختارت منها لجنة مؤلفة من عشرين عضواً قررت ما يلي:
1 -
طبع دواوين مطران السبعة منها (ديوان الخليل) الأول وقد طبع من زمن بعيد، وديوان للأراجيز في الأخلاق والآداب.
كذلك قررت طبع الروايات الأربع المترجمة عن شكسبير وهي هملت، ومكبث، وعطيل، وتاجر البندقية. والروايات الثلاث المنقولة عن كورناي وهي، السيد، وسنّا، وبوليوكيت وأيضاً طبع رواية (برينيس) المترجمة عن راسين (وهرناني) عن فكتور هيجو، (والغريب) عن بول بورجيه ورواية (القضاء والقدر) وقد عارض فيها الشاعر مطران رواية (قسمت) الإنجليزية التي رمى مؤلفها العرب بما هم براء منه، فأعاد الشاعر مطران بروايته (القضاء والقدر) الحق إلى نصابه ووصف العرب على حقيقتهم في أخلاقهم المعروفة، وآدابهم المأثورة
وللشاعر المحتفل به مؤلفات أخرى هي (الموجز في علم الاقتصاد) من خمسة أجزاء اشترك معه في ترجمتها المرحوم حافظ إبراهيم. وكتاب (مرآة الأيام في ملخص التاريخ العام) وكتاب (الإرادة) وهو مجموعة فصول في أدب النفس. وهذه الكتب لم تصدر اللجنة رأياً في إعادة طبعها بعد.
2 -
قررت إقامة حفلة بدار الأوبرا الملكية تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك بجعلها تحت رعايته، وقبل رئاستها حضرة صاحب المعالي وزير المعارف وستقام في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم السبت 29 مارس ويخطب فيها معالي السنهوري باشا وصاحبا السعادة علوية باشا وأنطون الجميل باشا وحضرة الشيخ المحترم عباس محمود العقاد وسينشد الأستاذ الأسمر قصيدة من شعره
3 -
تقيم لجنة الاحتفال مساء الأحد 30 مارس حفلة عشاء بفندق شبرد وتدعو إليها المائة
والسبعة والخمسين وجيهاً الذين تبرعوا بالسبعة آلاف جنيه لهذا الغرض ولفيفاً من أرباب العلم والأدب والوجاهة من أصدقاء المحتفل به يكون خطباؤها سعادة الدكتور محمد حسين هيكل باشا والأستاذ فؤاد صروف والشاعر محمد عبد الغني حسن.
4 -
تلبية دعوة معالي وزير المعارف إلى نزهة نيلية تستقر في القناطر الخيرية نهار الاثنين 31 مارس.
5 -
تلبية دعوة الأستاذ إدجار جلاد بك إلى حفلة غداء يقيمها في فندق شبرد لرجال السلك السياسي وأصحاب الصحف الأجنبية يوم أول أبريل.
6 -
حفلة يقيمها النادي الشرقي بالاشتراك مع الأندية السورية واللبنانية الأخرى وهي نادي الشبيبة، ونادي لبنان، ونادي الاتحاد الأرثوذكسي يوم الأربعاء 2 أبريل.
7 -
حفلة أخيرة تقيمها المفوضية اللبنانية يوم الخميس 3 أبريل
8 -
ولا تزال اللجنة تدعو كل من يريد الاشتراك في هذا العمل ولم يعرب عن هذه الرغبة بعد، أن يتفضل بمخاطبة سكرتير اللجنة صموئيل بك عطيه أو أمين الصندوق السيد إلياس مرشاق
ومما يجدر ذكره أن لجنة الاحتفال كانت قررت إصدار الجزء الأول والثاني من (ديوان الخليل) قبل إقامة الحفلة الأولى ولكن بعض الموانع الفنية حالت دون ذلك.
وأن محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية وكذلك محطة الإذاعة اللندنية للمستمع الغربي ، ، ، قد قبلتا مبدئياً إذاعة ملخص لما يقال في هذه الحفلات.
وأن السوريين واللبنانيين في مهاجرهم يشتركون أدبياً ومادياً في تكريم شاعر الأقطار العربية. كما أن الحكومة اللبنانية قد قررت الاشتراك في هذا الاحتفال وهو وفاء منها للشاعر الكبير
أما الأموال التي ستجمع لتكريم مطران، والفوائد التي تجنى من بيع مؤلفاته فستنفق على الجناح الخاص الذي سوف يحمل اسم الشاعر خليل مطران في المستشفى الذي شُرع في بنائه باسم دار الشفاء
ليطل الله بقاء مطران، لا ليقول للمحتفلين به ما قال فولتير العظيم يوم احتفلت أمته به (إنكم تريدون القضاء على حياتي من فرط الغبطة والسرور) بل ليسمع على مدى العمر
شكر كل ناطق بالعربية على ما أعطاهم من أدب وفن.
(حبيب)
حول اكتشاف واحة الكفرة:
جاء في (الرسالة) الغراء عدد 713 بتوقيع قارئ كلمة قصيرة رداً على ما نشرته أخبار اليوم بعدد 129 حول اكتشاف واحة الكفرة، ونحن بدورنا أردنا أن نثبت شيئاً عن هذه الواحة على ضوء ما كتبه حضرة القارئ المحترم والشيء بالشيء يذكر:
كانت واحة الكفرة المجهولة عند العامة ردحاً من الزمن محلاً يأويه الدعار وللصوص ومخبأ يلتجئ إليه العائثون الذين يشنون الغارة من مصر على السودان الفرنسي وبالعكس حيناً من الدهر، ولم تكن هذه الواحة معروفة عند الليبيين وقتذاك وقد سكنها في وقت من الأوقات (التبو) وهم قبيلة من القبائل السودانية وكانت هذه القبيلة غير متدينة بدين إلا بعد اتصالها بالسنوسي، ثم سكنها الكثير من العرب مثل قبائل (الجهمة) وقبائل (الجوازي) وأخيراً عمرت بأهلها الحاليين وهم قبائل (الزوية) وذلك سنة 1675م على وجه التقريب. ومن ذلك التاريخ أصبحت معروفة عند عرب برقة، وفي سنة 1854 وصل إلى تلك الواحة السيد عمر الفضيل موفداً من قبل الإمام الجليل السيد محمد السنوسي الكبير لبناء زاوية (الجوف) وبذلك أصبحت محط رحال القوافل السائرة بين ليبيا والسودان الفرنسي، وفي سنة 1874 اهتم خليفة السنوسي السيد محمد المهدي بهذه الواحة والطرق المؤدية إليها من الجهات الأربع فأرسل السيد محمد بن الشفيع (رئيس زاوية سرت) لحفر بئر (بشرى) الواقعة بين الكفرة والسودان الفرنسي، وفي سنة 1896 تحول السيد المهدي من زاوية الجغبوب إلى الكفرة فنسق بها الجنان وعمّر ما خرب منها وكثرت بها المباني وبنى بها معهداً لتحفيظ القرآن ودراسة علوم الشريعة وأمها السكان من جميع نواحي القطر الليبي، وفي نفس السنة زارها صادق بك (باشا) المؤيد العظم يحمل تحيات جلالة السلطان عبد الحميد إلى السيد المهدي وفي ذلك يقول الصادق:
مليك ملوك الأرض مذ كان في المهد
…
توالت هداياه على السيد المهدي
هدايا عظيم أهديت لمعظم
…
فمن هو كالمهدى إليه وكالمهدي
كعبد الحميد الملك يحمي حماه من؟
…
وكالسيد المهدي فمن هديه يهدي؟
أتى (صادق) يطوي المهامه قاصداً
…
إلى حرم المهدي المطايا له يهدي
يجوب الفيافي لا يميل إلى الكرى
…
حليف السرى يهوى مواصلة المهدي
يرى الصعب سهلاً والمتاعب راحة
…
وبُعد المدى قرباً وما مر كالشهد الخ
وقد زار صادق باشا سنة 1890 زاوية الجغبوب لنفس الغرض المذكور، وبعد وصول السيد المهدي إلى الكفرة كما سبق أرسل بكثير من البعثات الاستكشافية لبحث وتنقيب الطرق المؤدية من الكفرة إلى السودانين الفرنسي والمصري وإلى مصر ودراسة تلك الصحاري، ومن بين تلك البعثات تلك التي كان يرأسها السيد مصطفى السمالوسي كما جاء في كتاب أرسله العلامة الجليل السيد أحمد الريفي إلى السيد مصطفى المحجوب (رئيس زاوية الطليمون) فعثرت هذه البعثة على موقع واحة (العوينات) وواحة (مرقة) وكانت هاتان الواحتان إلى ذلك العهد مجهولتين، كما اكتشفت مواقع أخرى فلم يكن والحالة هذه المكتشف لواحة الكفرة أو العوينات صاحب السعادة أحمد باشا حسنين رحمه الله وجعل الجنة مثواه؛ ولكنه زار تلك الواحات وغيرها مصحوباً بالكثير من رجال السنوسي ولا يزال الكثير منهم على قيد الحياة.
محمد الطيب بن إدريس
برقية من صاحب (الأديب):
أشرت في عدد سابق من (الرسالة) إلى حديث نشرته مجلة (المعهد) التي تصدر في جنوب لبنان، وعزاه محرر تلك المجلة إلى الأستاذ ألبير أديب صاحب مجلة الأديب وزعم فيه أن الدكتور عبد الرحمن بدوي المدرس بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول إنما لبى دعوة كلية الآداب في لبنان لإلقاء المحاضرات التي ألقاها هناك لأمر يتصل بمركزه في الجامعة المصرية، وأن الفرنسيين وجهوا إليه هذه الدعوة ستراً لأساليبهم الاستعمارية.
وقد تلقينا برقية من الأستاذ ألبير أديب تأخر نشرها سهواً يقول فيها إنه لم (يتحدث إلى مجلة المعهد عن الدكتور عبد الرحمن بدوي) وأنه (نفى الحديث في مجلة الأديب عدد مارس).
ونحن نشكر للأستاذ صاحب (الأديب) هذه الغيرة على الحقيقة وبخاصة في جانب أستاذ مصري وجهت إليه دعوة علمية فلم يضن على أبناء لبنان بعلمه وأدبه، وننتظر من محرر (المعهد) أن ينصف الأستاذين بالاعتذار
(الجاحظ)
الكتب
أبو هريرة
(تأليف الأستاذ عبد الحسين الموسوي العاملي)
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
اسم كتاب ألفه الأستاذ الفاضل عبد الحسين الموسوي العاملي، وهو من الشيعة المقيمين بالشام، وقد أراد أن يدرس أبا هريرة درساً علمياً بريئاً من التعصب المذهبي، ولكنه لم يكد يفتتح كتابه حتى وقع فيما فر منه، وابتدأه من أول صفحة كتاباً لا ينظر إلى أبي هريرة في ذاته، وإنما ينظر إليه كشخص يقدسه أهل السنة المخالفون له في الغلو في التشيع، لأنا معشر أهل السنة نتشيع لعلي وأهل بيته رضي الله عنهم، ونسلك في ذلك مذهباً وسطاً بين المغالين في التشيع لهم، والذين يكرهونهم من الخوارج ونحوهم، وقد قال علي رضي الله عنه: خير هذه الأمة النمط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي.
فقد ذكر المؤلف أن الذي أوقع أهل السنة في الرضا عن أبي هريرة إنما هو مذهبهم في تعديل كل صحابي، واعتقاد أن الصحبة عصمة لا يمس صاحبها بحرج وإن فعل ما فعل، ثم ذكر أن الصحبة فضيلة جليلة ولكنها غير عاصمة، وأن الصحابة كان فيهم العدول والأولياء والأصفياء والصديقون، وكان فيهم مجهول الحال، وكان فيهم المنافقون من أهل الجرائم والعظائم، كما قال تعالى (ومن أهل المدينة مَرَدوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) فعدولهم حجة، ومجهول الحال نتبين أمره، وأهل الجرائم لا وزن لهم ولا لحديثهم، وقد درس المؤلف أبا هريرة على هذا الأساس ليثبت أنه كان منافقاً كذاباً مجرماً، فيكون عنده من الفريق الثالث الذي عده من الصحابة، ولا يكون هناك وزن له ولا لحديثه.
ونحن معشر أهل السنة لا نعتقد أن الصحبة عصمة، لأنه لا عصمة عندنا إلا مع وحي ونبوة، والشيعة هم الذين يقولون بوجود العصمة بعد النبوة، فالمؤلف فيما رمانا به من هذا على حد قولهم في أمثالهم: رمتني بدائها وانسلّت.
فالصحابة عندنا رجال كسائر الرجال، يصيبون كما يصيبون، ويخطئون كما يخطئون، ولهذا كان مذهب الصحابي ليس حجة عند جمهور أهل السنة، وكان الشافعي فيما أظن إذا
خالف مذهبه مذهب الصحابي يقول: هم رجال ونحن رجال
فالصحابي قد يخطئ في رأيه، وقد يخونه سمعه فيخطئ فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل السنة يجيزون تخطئة الصحابي فيما يقع فيه من الخطأ، لا فرق في ذلك بين أبي هريرة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يجيزون تجاوز ذلك إلى الطعن في دينهم، ورميهم بما رمى به المؤلف أبا هريرة من أنه كان منافقاً مجرماً كذاباً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عن أصحابه، ونحن نكرمه برضانا عمن رضي عنه، وبالتأدب في حقه وعدم الطعن عليه في دينه، وقد كان أبو هريرة من ألصق الأصحاب بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيهمنا أن يكون رضاه عنه في موضعه، وألا يكون رضاه عن منافق كان يخدعه في دينه، ولنخطئ أبا هريرة بعد ذلك فيما يثبت عليه أنه أخطأ فيه، مع صون اللسان عن السب والشتم والطعن في الدين، فليس هذا السب من النقد الصحيح في شئ، ولا من أدب الجدال في الدين والعلم، وقد نهانا الله عن ذلك في جدالنا مع من يخالفنا في الدين، فقال تعالى في الآية - 108 - من سورة الإنعام (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم)، وقال تعالى في الآية - 46 - من سورة العنكبوت (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، والمسلم أحق بذلك مع المسلم.
وقد ثبت أنه كان هناك رواة يضعون الحديث على أبي هريرة، ومنهم إسحاق بن نجيح الملطي، وعثمان بن خالد العثماني، وابنه محمد، وهو الذي روى عن أبي هريرة أنه دخل على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عثمان بن عفان وبيدها مشط، فقالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي آنفاً رجّلت شعره، فقال لي: كيف تجدين أبا عبد الله - يعني عثمان - قلت: بخير. قال: أكرميه، فإنه من أشبه أصحابي بي خلقاً. وهذا حديث باطل، لأن رقية ماتت في غزوة بدر، وأبو هريرة إنما أسلم بعد فتح خيبر، فلنحمل مثل هذا على أولئك الرواة، ولا داعي إلى الطعن في أبي هريرة.
ضبط الأعلام
(تأليف المغفور له أحمد تيمور باشا)
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
هذا أثر نافع مفيد، قام بتأليفه وتحريره فقيد العلم واللغة المغفور له أحمد تيمور باشا، ثم انتقل إلى جوار ربه ولم يكن قد استكمل ما رسم له من المقدمات والتمهيدات، كسائر ما ترك رحمه الله من الآثار والمؤلفات.
يتضمن هذا الكتاب ضبط أسماء الأعلام في اللغة العربية، مما يقع فيه التحريف واللبس إما لندرته وغرابته أو لاختلاف النطق فيه وبعد العهد به، على أن المؤلف رحمه الله لم يكتف بهذا فيما ذكر من الأعلام، ولكنه أورد لها ترجمات قصيرة، وحقق لها ما استطاع من تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة، هذا في الواقع عمل شاق لا يدركه إلا من كابده، وما كان ليتيسر إلا للمغفور له تيمور باشا بما كان له من الاطلاع الواسع، وبما كان يملك من المخطوطات والآثار النادرة. فليس من شك في أن هذا الكتاب قد سدّ طلبة الباحثين والمحققين.
ولقد قامت بنشر هذا الكتاب (لجنة نشر المؤلفات التيمورية) وهي لجنة تألفت للنهوض بهذا العمل الجليل، ولكني أسفت كثيراً وتألمت! إذ وقعت في الكتاب على أغلاط نحوية ومطبعية لا تحصى، ففي صفحة واحدة وجدت قوله (عادياً عنها) والصواب (عارياً)، وقوله (وورد كثيراً منهطا) والصحيح (كثير) وقوله (كابن بنانه) والصواب (نباتة) وقوله (بذكر أبيه وجدّ غالباً) والصواب (وجده)، وإن التبعة في هذا كله على الناشر لا على المؤلف، فقد كان تيمور باشا رضوان الله عليه عالماً محققاً، وقد عرفته يقضي الأيام والليالي في تصحيح لفظ أو ضبط كلمة، فلعل اللجنة تتلافى هذا في الطبعة الثانية لهذا الكتاب، وتراعيه فيما تنشر من مؤلفات أخرى للفقيد العظيم.
أمهات المؤمنين. . .
(تأليف السيدة الفضلى وداد سكاكيني)
للأستاذ كامل محمد عجلان
أهدت إليّ الكاتبة الشرقية ضيفة مصر السيدة وداد سكاكيني كتابها الأخير (أمهات المؤمنين
وأخوات الشهداء).
وقراء الرسالة يعرفون هزجات قلمها الفنان، فلست في حاجة إلى وصف براعتها وحسن بيانها، ولكني أريد أن أحيي عاجلاً مرآتها التي جلتها لقراء العربية بعد مراياها الحسان.
وأنا سيئ الظن بآثار الأنوثة القلمية لأنني كلما تناولت عملاً فنياً لنسائنا الشرقيات بدت لي أصابع الرجل عليها شاهدة، ولعل حظ نساء مصر في الانتحال الأدبي أوفى من غيرهن في الأقطار الشقيقة.
لكن السيدة وداد فيما تقدمه لنا ترغمني على أن أستثنيها لأن أدبها تنشئه أناملها الصناع وأنفاسها التي تتموج على شباة قلمها يمدها قلب حي بين أضالع معمورة بحنان المرآة الغيرى على أختها في ماضيها وحاضرها. وكذلك كان كتابها عن أمهات المؤمنين مثل (أم الزهراء) و (أم الحسنين) و (أم المؤمنين) وغيرهن
وعناية السيدة وداد بجمال التصوير لم تمنعها من إبداء الخصائص التي تضيق بها في المرأة مع إيماننا بأنها من لوازم الأنثى حتى ولو كانت من أمهات المؤمنين كالهفوات الخفيفة التي تخللت صفاء الزوجية من جانب نساء الرسول.
وهو هو السمح الذي يصفح بفضل حلمه ورحابة صدره الذي أناره الله بنور النبوة.
وإن تعجب فلك أن تطيل الإعجاب بالسيدة وداد في مقدرتها على نخل كتب السيرة وغربلة روايات الأوائل حتى أخرجت لنا هذا الكتاب.
القصص
أسطورة من روائع الأدب الروسي:
بشر وشياطين
(قصة الخمر والدنان وغلبة الشيطان على الإنسان)
للكاتب الفيلسوف ليو تولستوي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
ما كاد الصبح يتنفس، وتخفق جنبات الكون بالحياة. . حتى هرع الفلاح الفقير يغذ الخطى إلى حقله. . . وقد بكر في غداته يروم الحرث والفلح. . . ويحمل معه كسرات يابسة من الخبز ليفطر ثمة بها. . .
فلما هيأ محراثه وربط إليه حصانه. . . علق ثوبه - وقد أودعه كسرات الخبز - إلى شجيرة دانية. . . وانطلق يشق أديم الأرض ويقلب الترب. . . حتى إذا ما تصرمت ساعات الصبح، وتراءت الضحى وأدركه العناء، وتبدى الإعياء والسغب على حصانه. . . أطلقه في سبيل الكلأ. . . وانثنى هو إلى شجيرة يبتغي الكسرات يسد بها جوعه الذي يبرح به. . .
فما إن بسط ثوبه حتى تولاه العجب.! إذ ألفى الخبز قد اختفى منه. . . فقلب الثوب بين يديه وراح يهزه، ولكن عبثاً!. فليس للخبز من أثر. فقال - يحدث نفسه وما زال الشك يتوزعها - (عجباً!!. . إن هذا غاية في الغرابة، إني لم ألمح أي إنسان هذه الصبيحة!. لعل أحدهم كان هنا، وأخذ معه الخبز.!).
أجل لقد أخذه واحداً من الشياطين الصغار، بينما كان الفلاح مستغرقاً في عمله. . . وكان في ذلك الحين قاعداً خلف الشجيرة يترقب ما سوف يتفوه به الفلاح من لعن وسباب. . .
فاض قلب الفلاح بالأسف وألم به الضيق لضياع الخبز الذي أعده لفطوره، بيد أنه ما لبث أن ارتفع صوته في هدوء:(ليست ثمة حيلة. . . وعلى كل حال فلن أقضي من الجوع!. وإني أحسب أن من استولى على الخبز أشد مني حاجة إليه. . . فهنيئاً لمن أخذه!.).
ومضى إلى جدول. . فرشف منه بعضاً من الماء ينقع به غلته. . ومال يستريح من عناء العمل ومن قرصة الجوع. . . وبعد حين أسرج جواده وقيده إلى المحراث وعاد يقلب به صفحة الترب من جديد. . .
فطأطأ الشيطان الصغير برأسه. . . وقد ركبه الخجل والألم لإخفاقه في حمل الفلاح على أن يزل لسانه ويشرع في سبيل الخطيئة. . . وانثنى إلى أستاذه الأكبر (إبليس) يروي له ما حدث! وكيف أنه أخفى عن الفلاح الفقير البائس كسرات الخبز فلم يحمله هذا على أن يتلفظ بكلمات السوء. . . بل قال وهو قرير النفس (هنيئاً لمن أخذها.!).
فصاح فيه (إبليس). . . وقد تملكه الغضب وزاد تلهب عينيه وكأنهما جمرتان وسرى الحنق والسخط إلى نفسه: (إنه خطؤك أنت. . . فلست تفقه ما ينبغي عليك أن تعمله. . . فبهذه الطريقة سوف يعيش الفلاحون وأزواجهم وذريتهم سعداء في راحة وهناء. . . يجب عليك أن تبث الضغينة وتنفث فيهم البغضاء وتفسد قلوبهم وتثير الحقد في نفوسهم. . . فهذه رسالتنا منذ أن خلق البشر. . . انطلق ثانية. . . وإني لأمهلك ثلاث سنوات لتصلح ما أتيته من خطأ. . . فإذا عدت بعدها ولم تفلح في أن تدع الشر ينساب في قلب ذلك الفلاح، فسوف أغرقك في الماء المقدس).
فارتعدت فرائص الشيطان الصغير من الفرق والهلع، وهو يرى أستاذه الأكبر يتوعده بالثبور والعذاب الأليم. . . فغاص في باطن الأرض، وهو يجهد ذهنه ويعصره بحثاً عن حيلة توغر قلب الفلاح، وتدفع عنه غضب إبليس. . . وما أرهبه من غضب!. فراح يفكر ويطيل التفكير حتى عثر على خطة بارعة.
فانقلب في شكل واحد من بني آدم. . . وتمثل بشراً سوياً. . . وذهب إلى الفلاح حيث سأله عملاً بأجر رخيص. . . فلم يجد هذا بأساً في أن يلحقه بخدمته ليكون له عوناً في زراعته.!
وفي السنة الأولى أشار على الفلاح بأن يزرع قمحاً في أرض غدقة جرداء ذات جدب ومحل. . . فعمل الفلاح بمشورته، وبذر قمحه في تلك الأرض السبخة. . . فلما انقضى الحول - وكان ذا صيف صيهد شديد الحر - لفحت الشمس غلال الفلاحين الآخرين فأحرقتها. . . دون قمح ذلك الفلاح فقد نما كثيفاً، وغلظت سنابله ودحس حبه. . . ففاض
عن حاجته بعد أن أترعت خزائنه وامتلأت. . . فألقاها جانباً. . .
فلما حان موعد الزرع من جديد أخذ الشيطان يزين له أن يبذر القمح هذه المرة في سفح الجبل. . . فرضخ الفلاح لمشيئته. . . بيد أن الصيف في هذه السنة كان طلقاً ذا ريح سجسج. . . فتلفت غلال الآخرين وعفنت ولم تجدل لها سنابل. . . أما الفلاح فقد تأتى له حصادٌ طيب أبلغ في الوفرة من سابقه. . . فحار الفلاح فيما يفعله بكل تلك الزيادة. . .
وحينئذ أوحى إليه الشيطان كيف يستخلص الخمر من الحنطة فينقعها حيناً ثم يقطرها حتى يبلغ منها الراح فيعتقه ثم يشربه. . .
فراح الفلاح يقطر الخمر. . . ويودعها في دنان. . . ثم يدعو رفاقه لينهلوا منها معه حتى ينهلهم الثمل والسكر.!
عاد الشيطان الصغير إلى أستاذه (إبليس) يحدثه بما فعل في زهو وخيلاء. . . فأخبره أستاذه الأكبر بأنه سوف يرافقه، فيرى بعينه ما وفق إليه تلميذه ورسوله. . .
فلما بلغ دار الفلاح ألفى هذا قد جمع حشداً من صحابه وجيرته يدعوهم إلى الشراب وكانت زوجته تدور عليهم بالقداح، فينهلون منها ويعلون، وبينما هي تمد يدها ببعض الشراب إلى واحد منهم. . . تعثرت قدمها فهوت على الأرض وتحطمت إحدى الدنان. . .
فاحتدم غيظ الفلاح، واستشاط غضباً على زوجته. . . وانطلق يعنفها ويلعنها:(ما هذا أيتها الكسيحة الحمقاء؟! هل عميت حتى تهرقي هذه الخمر النفيسة على الأرض؟! اغربي عن وجهي. لعنة الله عليك!.).
فلكز الشيطان الصغير أستاذه (إبليس) في جنبه بمرفقه وهو يقول في صوت رن فيه جرس الانتصار والزهو: (انظر. . . هذا هو الرجل الذي لم أتمكن من إثارة غضبه حينما كان الجوع يصرخ في أمعائه. . . وقد ضاعت منه كسرات الخبز!.)
وقام الفلاح يناول الخمر أضيافه. . . وما زال لسانه يجري باللعن والسب على زوجته. . . وحينئذ دلف إلى الدار أحد الفلاحين، وهو عائد لتوه من حقله. فرأى القوم ينهلون الخمر. . . فحدثته نفسه بأنه واجد عندهم بعض الشراب يبعث الراحة في نفسه، وقد أنهكه التعب وأضناه العمل. . . فجلس إلى أحد المقاعد وراح يتلمظ القطرة من الشراب. ولكن صاحبنا الفلاح - بدلاً من ان يجود عليه ببعض الخمر - قال له في صوت أجش شاعت فيه
الغلظة: (ليس عندي شراب لكل عابر سبيل!. . فتفضل بمغادرتنا).
فترسمت على شفتي (إبليس) ابتسامة. . . بيد أن الشيطان الصغير ما لبث أن همس في مسمعه: (انتظر بعض الوقت! وانظر ما سوف يفعلون!.).
نهل الرفقاء الأغنياء مع صاحبهم الفلاح، وجرعوا من الصهباء ما طاب لهم، ولذ لمذاقهم. . . وبدأت تسري بينهم أحاديث النفاق والخداع، وتجري على ألسنتهم ألفاظ السوء والنميمة. . . وتطير بين شفاههم كلمات الملق والمداهنة والرياء.
فأصغى (إبليس) لما يقولون. . . وسره ما رآه من نبوغ تلميذه الشيطان. . . وقال (إذا كان هذا الشراب يحملهم على أن يتبادلوا أحاديث المكر والخداع كما هي خلال الثعالب فإن ذلك يجعلهم عجينه طيعة في أيدينا نحن الشياطين!.).
فأجابه الشيطان الصغير: (دعهم يتناولون زقاً آخر من هذه الخمر. . . ثم ارقب ما يكون من أمرهم. . . إنهم الآن يبصبصون بأذنابهم كالثعالب، ويتماكرون في دهائها ولكن بعد حين سوف ينقلبون إلى ذئاب وحشية!.)
وزع الفلاح على الأضياف كؤوساً أخرى من الخمر فراحوا يعبون منها في نهم. . وبدأت أحاديثهم ترتفع وتخشن. وتنساب في رنتها غلظة ووحشية. . . فبعد أحاديث الملق والرياء، راحوا يتقاذفون بألفاظ السباب والشتائم، ويزمجرون في أصوات مخيفة ويلطم كل منهم الآخر على أنفه ويصفعه على وجهه واشتبك معهم كذلك الفلاح صاحب الدار. . .
فمد الشيطان الأكبر طرفه إلى ذلك، وقد بلغ منه السرور والبهجة مبلغاً عظيماً. . . وراح يردد (هذا عظيم. . . هذا عظيم!) ولكن العفريت ما لبث أن قال له (انتظر قليلاً فثمة ما هو أعظم من هذا. . . ترقبهم حتى يُفرغوا في أجوافهم دناً ثالثة. . . فينقلبوا من ذئاب وحشية تتلاطم وتتصافع، إلى خنازير لا تدرك ولا تعي. . .)
تناول الفلاحون دناً ثالثة. . . فارتفع لجاجهم وعطعطتهم وهم يلغطون كالبهائم التي لا تملك إحساساً ولا شعوراً. فأخذوا يصيحون دون أن يعرفوا سبباً لصياحهم ولا يصغي أحدهم للآخر!
وبدأ الحفل يشرف على منتهاه. . . وانطلق السكارى فرادى ومثنى وثلاث. . . تعلو صيحاتهم الحيوانية وصراخهم الوحشي في هدأة الدجى فيمزق سكونه في رهبة تبعث
الرعب!.
وهم الفلاح يودع أصدقاءه. . . ولكنه سقط في بركة من الماء الضحل. . فتلطخ جسده وثوبه بالوحل من هامته إلى أخمص قدمه. . فنفلت يلعن ويسب، وهو قابع في مكانه كالخنزير. .
قهقه (إبليس) عالياً. . وعاد يُطري نبوغ تلميذه ثم قال له: (لقد أمكنك أن تصلح خطأك حين أخفيت الخبز عن الفلاح. . وفزت بالنجاح فيما اختبرتك فيه. .
ولكن خبرني كيف يُركب هذا الشراب الساحر. . لابد أنك وضعت فيه خلاصة من دماء الثعالب. . وأضفت إليه دماء الذئاب ثم مزجتها بدم الخنازير. . ذلك ما جعلهم يتماكرون ويتملق بعضهم بعضاً في أول الأمر كالثعالب!. ثم يتضاربون كالذئاب. . ثم يصيحون كالخنازير التي فقدت إحساسها ومشاعرها)
فأجابه الشيطان الصغير: (لا يا سيدي الفاضل!. ليست هذه الطريقة التي اتبعتها في عمل هذا الشراب. . . كل ما فعلته هو أني لحظت أن الفلاح توفر لديه القمح وزاد عن حاجته!.
إن دماء الحيوانات والوحوش كامنة في عروق الإنسان منذ أن فُطر. . فطالما عنده ما كاد يكفي حاجته من الطعام والخبز. . ظلت هذه الدماء ساكنة حبيسة. . ولذا لم يغضب الفلاح حينما سرقت منه كسرة الخبز.!
وحينما توفر لديه القمح وراح يسعى إلى وجوه جديدة يتنعم فيها بهذا الوفر فدللته على متعة عظيمة. . هي الخمر فلما أخذ يقلب فضل الله وخيره عليه. . . إلى هذه الخمر ليتخذها متعة لنفسه، انطلقت دماء الثعالب ودماء الذئاب ودماء الخنازير من سكونها وراحت تعبث بنفسه وتعبث بعقله. . ولو أن الإنسان داوم على الشراب! لظل حيواناً وحشياً طيلة حياته. . . إن الرغد من أسباب الرذيلة!.).
فامتدح إبليس تلميذه الشيطان الصغير وأثنى على براعته وعفا عما بدر منه سابقاً من ذنوب. . . ورقاه إلى رتبة أعلى في دنيا الشياطين!
(القاهرة)
مصطفى جميل مرسي