المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 716 - بتاريخ: 24 - 03 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 716

- بتاريخ: 24 - 03 - 1947

ص: -1

‌الخيانة العظمى.

. .!

للأستاذ محمود محمد شاكر

كثرت لجاجة الصحف البريطانية ومراسليها في مسألة مصر والسودان، ولا تزال تلح في ترديد الأقوال التي تشكك في عرض قضية الجلاء عن وادي النيل - مصره وسودانه - على مجلس الأمن أو أية هيئة دولية يكون من حقها أن تنظر مثل هذه القضية، ولم تزل هذه الصحف ومراسلوها يدسّون كلمة (العودة إلى المفاوضة) دساً عجيباً حيث يحتاج إليها الكلام وحيث لا يحتاج. وهذه عادة قديمة وأسلوب عتيق كسائر أساليب بريطانيا في الخدع التافهة التي تسميها سياسة. ولسنا ندري على أيّ أساسٍ يبني هؤلاء المراسلون، أو الموحون إليهم، كلامهم وثرثرتهم هذه. ولكن الشيء الذي لا نشك نحن في البتّة، والذي ينبغي أن تعرفه بريطانيا ومن ترسلهم إلى مصر والسودان ليحملوا إليها أنباء هذه البلاد - هو أن الشعب المصريّ السودانيّ قد قال كلمته منذ اليوم، وقد قضى على كل سياسيٍّ يخرج على إجماع الشعب بالخيانة العظمى كما تفهمها الشعوب - لا كما تفهما الحكومات. وقد انعقد إجماع الشعب على اختلاف الأحزاب التي ينتمي إليها:

1 -

بأن لا مفاوضة بيننا وبين بريطانيا بتةً وقولاً واحداً.

2 -

وأن الجلاء كلمةٌ يراد بها أن تجلو بريطانيا عن وادي النيل لا عن مصر دون السودان.

3 -

وأن طلب الجلاء ينبغي أن يعرض على هيئة دولية لها شرفٌ تخاف أن يُثلم، ولها مكانة تتحرّج عن سقوطها في أعين البشر.

4 -

وأن التجربة قد دلّت على أن بريطانيا خِلْوٌ من هذين الشرطين، وهما شرطان لابد منهما لمن نرتفع إليه بقضيتنا أو من نفاوضه فيها.

5 -

وأن كل دعوةٍ يراد بها أن نعود إلى المفاوضة في حقٍ من الحقوق المكفولة لسائر البشر، ليست إلا خيانة توجب على مرتكبها ما توجبه سائر الخيانات من قصاصٍ.

6 -

وأن مصر والسودان أمةً واحدة، سوف تتولى بنفسها عقاب كل خائن.

هذا مختصر ما ينبغي لبريطانيا وساستها أن يعلموه علم اليقين.

أما مراسلوها وجواسيسها الذين كلِّفوا بأن يحملوا إليها الأنباء التي تهتدي بها في سياستها

ص: 1

التي تخص مصر والسودان فقد كذبوها أفحش الكذب، لا لأنهم يريدون الكذب على أمتهم البريطانية، كلا. بل لأنهم جهلوا كل الجهل طبيعة الشعب المصري السوداني، وخدعتهم الظواهر عن حقيقة النار المضطرمة في أحشاء مصر والسودان، منذ استيقن شعب مصر والسودان أن بريطانيا أمة من أخلاقها الغدر والوقيعة وإخلاف الوعد والتلوّن في ألفاظٍ من بهرج الكلام وزائفه

ونحن لن ننصب أنفسنا لإفهام هؤلاء القوم ما طبيعة شعب مصر والسودان، ولكنّا سنحدثهم عن مسألة المفاوضة نفسها كيف كان من أمرها، ولهم بعد ذلك أن يحكموا بما يشاءون، فإن إخراج الغرور من رأس المغرور أعسر من رد النور إلى عينَي الأكمه؛ ولاسيّما إذا كان غروراً بريطانياً متغطرساً.

ففي أوائل القرن الماضي قام في مصر فتى ينادي في جنبات هذا الوادي: (بلادي! بلادي!) فهبّت مصر والسودان مستجيبةً لهذا الداعي النبيل الصوت، الحبيب النداء، القويّ الإيمان. لقد كانت مصر والسودان هي التي تنادي مصر والسودان، فهي دمه، وهي أعصابه، وهي نفسه، وهي جنانه، وهي لسانه، وهي حقيقته التي صار بها هذا الفتى يدعى بين الناس (مصطفى كامل). ثم أوحت مصر والسودان إلى فتاها أن يقذف في وجه بريطانيا ذات البأس بكلمتها الخالدة:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، لأن حقيقة مصر والسودان المستقرّة في بيان هذا الفتى كانت تعلم من سرّ ضميرها أن هذا هو الحق، وأما كل شئٍ سواه فباطلٌ وقبضُ الريح، كما قال سليمان. نظرت مصر والسودان إلى هذا الفتى الضئيل المعروق وهي تبكي من فرط لهفتها وتخوّفها ومن فرط ما كانت تشعر به يومئذ من العجز الذي استهلكها وأثقلها عن أن تكون مثله توقّداً ونشاطاً وقوة وحياةً، ولكنها آمنت به ورضيت عنه وجعلت دمعها شهادة الإيمان بحقه وحقها الذي أجراه الله على لسانه

ونجمت يومئذٍ فئة من خلق الله الذين شاء برحمته وحكمته أن يجعل مصر والسودان لهم منبتاً ومباءةً كما جعلها منبتاً ومباءةً لسائر الهوامِّ وخَشاش الأرض وهمج الجو، وقامت بريطانيا تتعهد هذه الفئة وتغدوها وترضعها من درّها بغية أن تشتد فتكون سباعاً وجوارح وأعواناً لها على الفتك بهذا البلد الأمين، وما هو إلا قليلٌ حتى خرج منها خلقٌ يعوي في وجه الفتى وينبح ويهرّ هريراً لا ينقطع، ولكن مصر والسودان أبت إلا فتاها فأطاعته

ص: 2

وأنكرت تلك الفئة التي نبتت أبدانها على شئ غير نيلها وتربة هذا النيل.

ثم قبض الله إليه فتى مصر والسودان، فخرجت مصر والسودان في جنازته تبكي الصوت الذي ردّد الكلمة الخالدة المنبعثة من سرّ أحشائها:(بلادي! بلادي! لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، خرجت مصر والسودان حتى سباع بريطانيا وعواتها ونُبّاحها يبكون أيضاً، لأن في دمهم شيئاً من مصر كان يحن بهم إلى صوت بلادهم ومأتمها ونواحها.

بقيت مصر تذكر فتاها، وتسمع صدى كلماته من حيثما تلفتت، حتى جاءت الحرب العالمية الأولى وخشعت الأصوات لهدّ القنابل ودوي الرصاص، فما كاد يسكت ناطق الحرب حتى انبعثت مصر بالقوة الدافعة التي جيّشها في قلبها هذا الفتى الشاب، وصرخت في وجه بريطانيا الظافرة:(حقّي! حقّي! أيتها الغاصبة) لم تهَب بأسها ولا سطوتها ولا جبروت الظفر المسكر الذي ثملت بنشوته.

ثم كان شئٌ لا ندري كيف كان!!

كان منطق الحوادث يقضي بأن تردّد هذه الجماهير الثائرة كلمة مصر والسودان الخالدة: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، ولكنها اقتصرت يومئذ على ما يتضمن ذلك النداء الحكيم الذي نادى به فتى مصر فجعلت تقول (الاستقلال التام)، وخرجت بريطانيا تُقتِّل بالرصاص جمهوراً ثائراً مطالباً بحقه مستبسلاً في سبيله، فكلما انطلقت رصاصة انطلقت معها صيحةٌ واحدة من حناجر أمة بأسرها:(الاستقلال التام)، فكأنها رأتها تغني عن كلمتها:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء). فخما عندها كلمتان مترادفتان

وألحت بريطانيا في التقتيل والفتك والعدوان والبغي، وألحت مصر والسودان في الجرأة على باطل بريطانيا مطالبة بحقها وهو (الاستقلال التام)، ولم يكد يدور بخلدها شئ إلا هذا النداء وحده ليلاً ونهاراً وبكرة وعشية ويوماً بعد يوم، ولم يكن يجري في وهم الشعب الثائر المطالب بالحق أن أحداً سوف يقول: تعالي أفاوضكِ يا بريطانيا! فيحذر عندئذ حذره ويعود إلى ندائه الأول الذي هو الكلمة المستكنة المضمرة في دم هذا الشعب الذكي على قلة علمه، القوي على ضعف حيلته.

ثم كان شئ لا ندري كيف كان!!

كان زعيم هذا الشعب الثائر (سعد زغلول)، وكان رجلاً شيخاً، ولكن ناهيك به من شيخ،

ص: 3

وكان خطيباً حسبك من خطيب، كان يسمع الهمهمة التي تدور في دم الشعب ولا تجد لها بياناً، فيصوغ لها بياناً من عنده ويلقي به إلى الشعب فإذا هو يسمع كل ما في ضميره مترجماً في ألفاظ حية تتردّد في أذنيه. وفُتن الشعب بسعدٍ لسانه الذي ينطق بأسراره التي تتحيّر في دمه ولا يعرف كيف يبين عنها، وأسلم القياد لرجل يهديه ويرشده ويعبّر عنه، ويلطم بشيخوخته الوقورة الصاحية شباب بريطانيا الظافرة الطائشة السّكرى براح النصر.

ثم كان شئ الله يعلم كيف كان!!

فإذا هذا الشعب المأخوذ بسعد، الفائز بالثورة في طلب حقه المتهجّم على بريطانيا العاتية، المائج من منبع النيل إلى مصبه يطلب الحرية من قيوده وآصاره فتتلقاه أسنّة الرماح البريطانية ويتخطّف أرواحه رصاص الوحوش ذات المدنية العريقة منذ كان أرسطو إلى هذا اليوم!! إذا بهذا الشعب المنادي بالاستقلال التام يسمع دعوةً إلى مفاوضة بريطانيا لا يدري أحدٌ كيف جاءت وكيف تدسست إليه، وإذا سعدٌ هو المفاوض، فمشت مصر في آثار زعيمها ثقةً به وتسليماً له، ورجت لحكيمها الشيخ أن يرتدّ إليها باستقلالها التام. . .

كان هذا ولا يدري أحدٌ كيف كان!!

ولكن بقيت في مصر والسودان بقية لم تزل تسمع صدى كلمات الفتى الأول، فهبت تصرخ في وجه الشعب المطالب بالاستقلال التام!! حذار حذارِ، وألحت في صراخها ولكن مات صوتها في دوي الأصوات المطالبة بالاستقلال التام! وفي موج الجماهير، وفي أزيز الرصاص وهديره وقصفه. وأخيراً وقف رجل يسخر من كلمة مصر الخالدة:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) سخريةً لاذعة ملففة في ثوب الدعابة المحببة إلى هذا الشعب منذ قديم الزمان، والذي يداعب ويحب الدعابة ولا ينساها وهو في حبل المشنقة، أو في سياق الموت. وكانت هذه الدعابة أفعل من رصاص بريطانيا وحرابها ونذالتها جميعاً في قتل كلمة مصر والسودان:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، حتى صار من يقول بها معدوداً عند أصحاب العصبيات الجاهلية في عداد المجانين والموسوسين والبله والملاحيس.

نعم كان ذلك ولكن لا ندري كيف كان!!

ولكن بقي شئٌ واحدٌ جهلته بريطانيا وجواسيسها، وجهله كل مفراحٍ طيّاش من أصحاب العصبيات الجاهلية التي غلبت على قلوبهم وأعمت أعينهم. ذلك الشيء الواحد هو أن

ص: 4

المفاوضات ظلت تجري منذ أن بدأت إلى أن كانت سنة 1936، والشعب يتبع المفاوضة بقلبه عسى أن يرجع إليه الرجال المفاوضون بحق مصر كاملاً غير منقوص، وهو من ورائهم يدفعهم دفعاً رجاء أن ينفعهم ذلك فينتفع بنفعهم. ولكن. . . ولكن مرة أخرى وفي الثالثة كان الشعب يفعل ذلك مجتمعاً، فلو سألت كل رجل وكل أنثى وكل طفل أيضاً:(هل ترجو من وراء هذه المفاوضات خيراً؟) فهو قائل لك: (يا سيدي، يا ما جرّبنا) ثم يمضي لشأنه يائساً تكاد دماؤه التي تجري في عروقه تبكي من الحسرات التي تقطّع قلبه وتنهش ضمير حياته!

هكذا كانت مصر والسودان برغم المفاوضات الدائرة، وبرغم مطالبة الشعب مجتمعاً أحياناً بهذه المفاوضة. كانت الدماء تجري في الأبدان المصرية السودانية تهَمهم وتدمدم، ولكن الرجل الذي يفهم معنى هذه الهمهمة الخفية لم يكن موجوداً، وهي لا تستطيع العبارة عن نفسها بلسان ناطق مبين. وبقينا جميعاً ننظر، لأن عبارة أمثالنا لن تؤدّي إلى شئ، إذ لم يكن لأحدٍ يومئذٍ من قوة الاستجابة لنداء الدم المصري السوداني، ولا من استعداد الأبدان والعقول التي تجري فيها هذه الدماء، ما يجعل لكلمة مصر الخالدة (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) صدىً يتردد فيستجيب له الوادي كله كما استجاب للفتى الأول مصطفى كامل، وبقيت الأبدان العاقلة (والتي هي الشعب بأفراده) في ناحية، والدم الذي يجري في هذه الأبدان نفسها في ناحيةٍ أخرى - وجعل الله بأسنا بيننا، فكانت إرادة الله ولا رادّ لما أراد.

ثم كان شئٌ ونحن ندري كيف كان.

فقد سكنت زمجرة المدافع، وعجيج القنابل الذرية، وقام رجالٌ يريدون مفاوضة بريطانيا، ولكنهم لم يلبثوا إلا قليلاً حتى سمعوا صوت الدم المصري والسوداني ينطق من كل ناحية (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) فتمت المعجزة التي كان كل امرئ يترقبها، وكان لمصر والسودان النصر بعد الهزيمة المنكرة الأولى، وظهرت كلمة الحق حتى صار أكفَر الناس بها هو أشدهم إيماناً، وأجودهم في سبيلها بروحه وحياته، وعادت مصر والسودان إلى حقيقتها المستكنّة في سرّ القلوب والدماء والأحشاء! (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء): كلمة حكيمة صريحةٌ قوية، ظاهرة المعنى، بيّنة الطريق، كريمة المنبت لأنها بنت مصر والسودان - لا يسخر بها بعد اليوم أحدٌ إلا كان دمه هو أول من يسخر منه ويزدريه ويلعنه

ص: 5

ويبرأ من الانتساب إليه.

هذا ما كان من أمر المفاوضات بيننا وبين بريطانيا، فليفهمه من شاء كما شاء. وليقُل أصحاب الغرور المتغطرس، وليقل أشياعهم من المضللين: هذا شعرٌ، وهذه عاطفةٌ، ولكنها ليست بحقيقة معقولة أو تحليل متّزن. ونقول: نعم! إذا شئتم، ولكن الشعوب هي العواطف أولاً، وعواطف الشعوب أصدق حُكماً من عقول الساسة!

وأخيراً، ليعلم من لم يكن يعلم من المتغطرسين أو من الساسة العقلاء الذين أظلّتهم سماء مصر، إن دم الشعب قد نطق بالكلمة المتحيرة فيه، وأجمع عليها، وكتب على نفسه أن ينفي الحبث عن مصر والسودان. ومعنى ذلك أن كل من خرج على إجماعه فقد خان وادي النيل خيانة عظمى، وأنه رهنٌ بالقِصاص، وأن قصاص الشعوب أبقى على وجه الدهر من قصاص الحكومات.

والكلمة الآن لمصر والسودان، لا لفلان الزعيم ولا لفلان السياسي - فمن شاء أن يخالف عن كلمة مصر والسودان فليتقدم، ولينظر ما هو لاق في غد أو بعد غد.

محمود محمد شاكر

ص: 6

‌مقالة بلا موضوع!

للأستاذ علي الطنطاوي

قال لي من أيام صديق لي: أسمع؟

قالت: وهل تحسبني أصم؟

قال: إن كتابتك لا تعجبني.

قلت: آسف جداً!

قال: لا تسخر. سلني، لماذا؟

قلت: سألتك.

قال: لأنك لا تعرف الدنيا. . . لذلك تجيء كتابتك بعيدة عن الحقيقة، خالية من الصور، ليس فيها حياة، ولا ابتكار.

قلت: إن ناساً قد زعموا إلى غير ما قلت.

قال: هو ما أقول لك، فلا تصدقهم، إنهم يضحكون عليك إني ألحظ من كتابتك أنك تعيش منطوياً على نفسك، بعيداً عن الدنيا، فقل لي، بالله عليك، كيف كنت تعيش في دمشق؟

قلت: كما يعيش الناس؛ أغدو على محكمتي صباحاً وأخرج منها ظهراً، فأمر على المكتبة العربية وهي من أحب الأمكنة إليّ، وأصحابها إخوان كرام عليّ، فألبث فيها ساعة، وقد أتغدى فيها، ثم أمضي إلى الدار فلا أفارقها إلى غداة الغد، إلا مرات معدودة في السنة كلها أزور فيها صديقاً أو قريباً، أو أخطب في حفلة، وقد كنت قبل أن ألي القضاء أجلس أحياناً في قهوة، أو أمضي إلى سينما، فتركت ذلك كله.

قال: وفي مصر؟ كيف تعيش ومن زرت وماذا رأيت؟

قلت: أعيش أعيش أنا وأسرتي في منزل خالي، وأمضي إلى (الرسالة) كل يوم، وإلى الوزارة أو المحكمة أو المجلس الحسبي في أكتر الأيام. وأنا في مصر كما كنت في الشام، معتزل متفرّد أفرّ من لقاء الناس، وأنأى عن المجامع، ولم أزر أحداً في داره إلا نفراً من علماء الأزهر، وزرت لجنة التأليف والترجمة مرة، وجلست مرة واحدة في القهوة، وخمساً في السينما، رأيت في إحداها (فلماً) عربياً فخرجت منه غضبان أسِفاً، ورأيت في سائرها أفلاماً فرنجية، ومشيت إلى الحدائق والمتاحف ولولا الصغار ما مشيت إليها؛ فقد وجدت

ص: 7

الحدائق، مجمع غيد ودار مواعيد، ورأيت الناس في حديقة الحيوانات، ينظرون إلى امرأة مضطجعة على المقعد أكثر ما ينظرون إلى سبع البحر، ويضحكون لفتيات يلعبن على الحشيش أكثر مما يضحكون للقردة تتراقص في الأقفاص. . .

قال: وهذا كل شئ؟

قلت: نعم. لا شئ فوقه ولا تحته.

قال: ألم أقل لك، إنك لا تعرف الدنيا؟

قلت: فكيف تريد أن أعرفها؟

قال: كما يعرفها كل أدباء العالم، وذلك. . . ولكن قل لي أولاً، هل تحب؟

قلت: أحب؟ نعم. وهل في الدنيا من لا يحب؟

قال: تحب من؟

قلت: أحب أولادي، وأهلي، وإخوتي، وعمتي. . .

فصاح: لا لا، ما هذا أعني. هل أنت عاشق؟ إذن يجب أن تعشق، إنه لا شئ كالعشق يصب الحياة في الأدب.

قلت: هل تريد أن أختار فتاة من الطريق فأعشقها؟

قال: من الطريق، من الشباك، من السينما، المهم أن تعشق.

قلت: ويكفي هذا لتعجبك كتابتي، وترى فيها حياة؟

قال: نعم.

قلت: سهلة، سأعملها غداً؛ أحلق، وألبس أحسن ثيابي، وإن لم يكن عندي، والكلام بيننا، إلا ثوب واحد، ألبسه كل يوم، وأقف في. . . أين يقفون عادة؟ في شارع عماد الدين مثلاً، ثم أختار أجمل امرأة تمر بي، فأقول لها: العفو يا ست، أو يا مدموازيل، كما تقولون في مصر، كلمة من فضلك. فتقول: ماذا؟ فأقول: أنا كاتب يكتب مقالات مريضة، وقد وصف لي أطباء الأدب، أن أحب لتصح مقالاتي، فهل تأذنين لي أن أحبك؟

قال: أنا لا أحب الهزل.

قلت: تحب الجد؟ إذن قل لي، ماذا بعد الحب؟ أي بعد الموعد واللقاء؟ ماذا تكون النتيجة على رجل متزوج له أولاد، وعلى امرأة لا يمكن أن تكون عجوزاً ولا كهلة ما تكون إلا

ص: 8

فتاة غريرة، أو عذراء بكراً، لم يطوّح بها الاحتياج والفقر، ولكن هذه المدنية الملعونة، وهذا السفور والاختلاط؟ أيساوي ما أفقده من شرفي وديني، وما تضيعه من عفافها ومستقبلها، المقالات التي أكتبها يومئذ حية مشتعلة؟ وهل تكون تلك المقالات إلا جريمة ثانية لأنها تدعو إلى مثل هذا الحب؟

قال: إنك تتكلم بلسان العصر الماضي، إنا لن نرجع إلى الوراء، فلا تحاول المستحيل، هذه هي دنيا اليوم، ولابد أن أريكها؛ فقم معي.

قلت: إلى أين؟

قال: لا تسأل: امش حيث أقودك.

قلت: بشرط أن لا تدخلني خمارة ولا ماخوراً ولا مرقصاً، ولا مجمعاً فيه نساء سوافر.

قال: فكيف إذن ترى الدنيا؟

قلت: وليست الدنيا إلا هناك؟ هذه دنيا الرجس. . .

قال: ينبغي أن يرى الأديب كل شئ.

قلت: إننا تعلمنا من مشايخنا الرجعيين، أسلوب الدعوة إلى الله، وكيف تكون بالحكمة والتدريج لا تكون طفرة، فلماذا لا تمشون يا أيها المجددون على هذه الحكمة في الدعوة إلى. . . إلى. . . رؤية الدنيا؟!

قال: طيب، آخذك اليوم إلى أمكنة لا تنكرها ولا تأباها

فضحكت وقلت: ثم تمشي بي خطوة بعد خطوة، حتى تبلغ بي حيث تريد. هذه هي الحكمة.

قال: هيا بنا، على أن لا تنفق شيئاً، أنت في ضيافتي.

وأركبني سيارة، سلكت بنا شوارع على النيل، رأينا فيها أزواجاً من الناس، أزواجاً في العدد لا بعقد المأذون الشرعي فقال لي: ترى هؤلاء؟

قلت: نعم.

قال: مثل هذا يفتح قريحة الأديب حتى تتدفق بالشعر الحي الذي يهز القلوب من قراراتها، فهل أمتع من هذا؟ جمال الطبيعة وجمال الحب. . .

قلت: والحكومة ترى هذا ولا تمنعه! والعلماء يبصرونه ولا ينكرونه! والآباء. . .

ص: 9

قال: علماء إيه؟ وبتاع إيه؟ إنت فين يا أخي؟

ومشينا، ومر بي على قصور شامخات، فسماها ووصف لي ما يجري فيها، من دفق الذهب على موائد الميسر، وخنق الأعراض في سرر الشهوات، وحرق الأكباد بكؤوس الشراب، ثم قال لي فجأة: هل تعرف الرقص؟

قلت: لا، ولم أحضر في عمري حفلة رقص، ولم أر راقصة إلا في السينما يوم كنت أدخلها

فصفَق كفاً بكف، وأبدى الرثاء لي والشفقة عليّ، وقال بلهجة المؤدب الناصح، للمريد الطائع:

يجب أن تتعلم الرقص، إن له في مصر مدارس خاصة، وإنك تلقى فيها من يلزمك الحب إلزاماً. . .

قلت: وهل الرقص إلا الفاحشة المستترة، كالسم يوضع في علب الحلوى؟

فقال متحمساً: لا. أبداً. من قال هذا؟

قلت: أنا.

قال: هذه أفكار المتأخرين الجامدين.

قلت: وما هي أفكار المتقدمين المائعين؟

قال: ثق أننا لا نفكر أبداً عند الرقص إلا في الرياضة والموسيقى. . .

قلت: ألست تعانق فتاة غريبة عنك، يكاد يمس وجهك وجهها، وصدرك صدرها، و. . . أعني ألست تحتضنها؟

قال: وماذا في ذلك؟ لماذا تنظرون إلا إلى الناحية البهيمية؟ هذا فن!

قلت: وكشف أفخاذ بنات المدارس للرياضة فن، وتجردهن للسباحة فن، وجلب الفتاة العارية ليصورها طلاب مدرسة الفنون الجميلة فن، إن كلمة الفن اليوم مرادفة لكلمة الفجور عند أجدادنا الأولين.

وانتهى الطريق فنزلنا من السيارة، وقلت:

أشكرك. السلام عليكم.

قال: إلى أين؟ إننا سنتعشى ثم نبدأ سهرتنا.

قلت: نبدأ؟ صارت الساعة التاسعة!

ص: 10

قال: وماله؟

قلت: نتعشى في البيت ونعود.

قال: دعك من البيت، إنا اتفقنا على أن أريك الدنيا.

قلت: وهل البيت في الآخرة؟

فأصرّ فعلمت أن العشاء في السوق من شرائط رؤية الدنيا إجادة الكتابة، فقبلت ومشينا.

قلت: إني أعرف (مطعماً) جيد الطبخ.

قال: أي مطعم؟

قلت: الحاتي.

قال: الحاتي؟! تعال أرك الدنيا. امش. امش. . .

قلت: وأين الدنيا؟

قال:. . . . . . . . .

وسمى أسماء نسيتها.

وأدخلني واحداً من هذه المطاعم، فرأيت مكاناً مزدحماً، وسقفاً واطياً، وهواء ثقيلاً، ودخاناً مطبقاً، وضجة مرهقة، وموائد ملتصقة، ثم جاءنا النادل فكلمته بالعربية، فلوى شدقه استكباراً ولم يفهم ولم يجب، فكلمه صاحبي بلغة لا أعرفها، فجاءنا بطعام أدعو الله أن لا يطعمه مؤمناً، إلا إذا عذبه به في الدنيا تكفيراً لذنبه، وتخليصاً له من عذاب الآخرة، طعاماً خبيثاً، وشيئاً كالضفادع والسراطين وعقارب البحر ودود البر، وحشرات الجو، وشيئاً لزجاً كأنه مرهم الزنك مخلوطاً بالاكتيول فرفعت يدي عنه ولم أميه، وأكل صاحبي بشماله، لأن من العيب كما فهمت أن يأكل باليمين. . . واستعمل ملاعق وأشواكاً وسكاكين كباراً وصغاراً تسلح عصابة كاملة. . . ثم جاء النادل بزجاجة فتحها له، قرأت عليها اسم خمرة من الخمور، فالتفت فإذا الذي نحن فيه خمارة، فغضبت وقمت، وقلت:

أما إذا بلغ الأمر مبلغه، فاعلم أني أمزح معك، وأتسلى بصحبتك، وما أحب أن تمتد المزحة أكثر من هذا، ولله عليّ أن لا أصحبك بعد اليوم

ورأيته قبل أن أنصرف، قد دفع ثمن عشائه وزجاجته تسعين قرشاً، أطعم بمثلها أسرتي كلها يوماً كاملاً.

ص: 11

وعدت إلى الدار، فتلقاني أهله بالمودة والبشر، وأسرع الأولاد وتعلقوا بي، فأحسست إذ أبصرت دعة المنزل، ونعمة الأهل، وسعادة الفضيلة، ولذة الاستقرار، بمثل ما تشعر به السمكة تلقى في الماء، بعد أن أشرفت على الاختناق.

هذا وما مشينا إلا خطوة واحدة من الطريق، وما رأيت إلا المطعم، فكيف لو أكملت الطريق ورأيت الدنيا؟!

لا. لا أريد هذه (الدنيا)، خلّيتها لكم، فاسرحوا فيها وحدكم وامرحوا، لا أريدها، حسبي دنياي، فهي خير لي وأجدى عليّ، ولو لم يكن فيها إلا راحة الأعصاب، وهدوء البال، وصحة الجسم، لكان ذلك مرغباً لي فيها، صارفاً لي عما سواها، فكيف ومع ذلك كله تقدير الناس، ورضا الله؟

أما الأدب فإن كان لا يعجب الناس منه إلا ما يجئ بسهر الليالي، وذرع الطرقات، وسُكنى المراقص، وإغراء الغيد بالفواحش، وسلوك طريق جهنم، فإن أهون شئ عليّ أن أهجره وأن أطلق الكتابة ثلاثاً، ثم لا أعود إليها، ولا أقبل عليها، وأن أنام بعد مستريحاً خليّ القلب فارغ الذهن، إذ لم أخسر بتركها شيئاً ولا خسر القراء!

علي الطنطاوي

ص: 12

‌صورتان للخير والشر

للأستاذ عبد المنعم خلاف

رجلان. . .

أحدهما ملك كريم هبط إلى الأرض بروح السماء، وسيصعد إلى السماء بمكرمات الأرض. . .

وثانيهما روح خبيث صعد من الطين كأنه فقاعة من غاز عفن! وكأنه بثرة ذات قيح وصديد في وجه مجدور. . .، ثم عاد وسفل في الطين وأبى الارتفاع، وسيكون مرجعه إلى عالمه، كالم نجاسات الأرض. . .

وقد رأيتهما في مكان واحد في وقت واحد، فرأيت الضدين الأبديين الخالدين تصطرع روحهما على روحي، فكانت محنة هي محنة العيش بين المتناقضين كمحنة الحديد يوقع عليه في النار ثم (يُطَشّ) في ماء مثلوج. . .

أولهما له وجه أصيل الحسن والسماحة عميق المعاني الإنسانية، يأخذك إلى رحاب الوضوح التفاؤل والحب العميق للخير، ويدعوك إلى تصديق ما أتت به دعوات السلام والحب والبر، وله عينان كأنهما منبعا نور وصفاء يغسلك بأشعته ويطهرك وينير لك سبل الحياة.

والثاني له وجه عميق القبح ممسوخ المعاني، رآه مرة أحد أرباب الصفاء والنفاذ فقال: إنه وجه غادر. . . وله عينان كأنهما جُبّان جفّ فيهما الماء وسكن الظلام وانطلقت الحشرات، فهما يغمران قلبك بالظلام والوحشة، ويأخذان فكرك وخيالك إلى أودية التشاؤم والكراهية للإنسانية، ويوحيان إليك أن كل ما تقرأ عن عالم الخير والسلام وهم واهمين وغفلة غافلين بلهاء. . .

وللأول يد تفيض بالفيض فيضاً ولا تحبسه عن أحد، وتعطي الناس مستحقين وغير مستحقين، وتمسح الجراح والآلام، وترتق الفتوق وتسد الثغور وتسند الذي يريد أن ينهار وتشير دائماً إلى منطقة النجاة والسلام كأنها علامة إرشاد منصوبة على طريق الإنسانية. . .

وللثاني يد كأنها ناب ذئبة جائعة ذات أجراء صغيرة، فهي تختطف لنفسها ولأجرائها قلوب

ص: 13

الناس وأكبادهم أو كأنها فم قبر مخروق يأخذ ولا يعطي إلا الشكل والفقد. . .

الأول عظيم بالطبع، عظيم بالوضع، يتوجه مجد الفعال العظيمة والمكرمات الخالدة، ولكنه يتواضع حتى يحس محدثه ومجالسه أنه أمام رحمة مجسمة خلفت إنساناً. . .

والثاني لا يحملك وجهه وعمله على إعطائه ما يليق بآدمي من احترام وائتناس، وإنما تجفل لمرآه أول ما تقع على عينك ظلاله وعلى وعيك أعماله، ولا يحملك ما يحاول أن يحيط به من زينة الثياب والرياش والأثاث البراق إلا على مقارنة قبح ذاته وصفاته بجمال ما يحيط به من الأثاث الجامد!

هذا الأول أسدى لنفسي معاني كثيرة من الخير، وما تملك نفسي إلا أن تسدي إليه الحب وتسجيل الذكر وتخليد الصورة في مثل هذه المناسبة، لأنه مرتفع عن مستوى الحاجة. . . وذاك الثاني أسدى لنفسي شراً كثيراً، وأقل ما أسديت إليه أنني كنت ألتمس المعاذير لقبح خلقه وهوان شأنه على معاشريه، وكنت أغضي عن ذلك رحمة له إذ لم يخلق نفسه، وأنا أرحم القبح ولكن لا أهواه كابن المعتز. ومع ذلك فقد كان حمقه معي أعظم مما مع غيري. . .

وتسأله لماذا يا فلان؟ فيخرس لسانه ويجيب وجهه بتعليل الطبع السائر على نهجه. . . ولقد أجاب لسانه مرة حين قلت له: إنني لا أطيق الشر فهلم معي إلى الخير. . . فقال: لن تستطيع أن تغير ما في القلوب بالأقوال. . .

فكانت هذه حكمته الوحيدة الخالدة. . .

هذا النوع من الناس هو الذي قد يحملك على جحود الخير والإيمان بالشر، إذ يحيل قلبك من هدوئه واطمئنانه إلى الثورة والتشكك واعتناق الشر وتحطيم المثل العليا، أو أنه على الأقل يجعلك تعتقد أن الشر عريق في الوجود عراقة الخير، كأنهما مخلوقان لإلهين مختلفين يحتربان ويصطرعان على تسيير دفة الدنيا، يديرها أحدهما إلى الأبيض ويديرها الآخر إلى الأسود. فيجب أن تطيع الثاني كالأول ويتسع قلبك له وتطاوع شيطانك فيه بحيث لا يحدك ضميرك ولا وجدان ساعة بُحران الشر واحتدام الضغينة فلكل وقت، فكن للشر بقلبك كما تكون للخير بقلبك!

هكذا يسمم هذا النوع من الناس نفسك بشزّة نفسه، كما يسمم الثعبان دمك بلسعة نابه

ص: 14

ومسموم لعابه، فلا تتمالك إلا أن تقئ وتهذي وتتلوى وتأتي بالحماقات والشناعات. . .

إنه يجذبك من عالم أحلامك السعيدة العليا إلى الحضيض الذي تتمرغ فيه وتتقلب عليه مع بنات الطين والظلام. . .

إنه بوق الشيطان ينفخ فيه على أفاعي الشر والضغينة في الحجرات المظلمة من نفسك كلما أوشكت أن تموت؛ لتحيا دائماً معك لأنها أعظم جنوده التي أرصدها لحرب ذلك الطفل العبقري الوديع: الحب!

وإن هذه الأفاعي إذا صحت ونشطت فلن تأكل في الحقيقة إلا فلذات قلبك ولن تشرب إلا دمك. . . ولقد جعلت من الذين أوسعوا لها من صدورهم مسمومي الإدراك مطموسي الإحساس بجمال الوجود ولذة الحب والرحمة.

إنها كريهة الدبيب مغتالة لأفضل ما في النفس، مثيرة للدم الأسود المحموم.

إن الشر يجب أن لا يكون إلا لدفع الشر الذي لا يُدفع بالخير. فيجب على القديس الحليم أن يكون عنيفاً شديداً مع الذين لا يرون المثل الأعلى إلا في الشر والعنف. . . أما أن يتخذ ذخيرة وغذاء تجتره النفس انسياقاً مع الغرائز القديمة، واستجابة للوحش الذي فينا، وتنمية لنوازعه وتنقيباً عن سفالاته المطمورة فذلك هو الهدم لدعائم الحضارة والارتداد والانتكاس إلى الوحشية التي تطمس الآفاق التي رأتها الإنسانية على ضوء السكينة النفسية والحب المتبادل.

فليُعِن الله محبي الخير على الحرب الدائرة بينهم وبين هذه النفوس العريقة في عالم الأذى. . .

وليحفظ رقة الخير وضعفه بين الشرور كما يحفظ حرير الورد من جوار الأشواك المسنونة المشرعة التي تهدده دائماً بالتمزق وتؤذي من يريد أن ينعم به نعمة خالصة.

عبد المنعم خلاف

ص: 15

‌تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فينا

للأستاذ محمد جمال الدين حسن

بعض الفروض التمهيدية وطريقة التفسير:

كان العلماء إلى ما قبل ظهور علم التحليل النفسي يفسرون الحلم على أنه ظاهرة جسمية تنشأ عن اضطراب في المعدة أو ما شابه ذلك من مؤثرات عضوية. أما نحن فسنفرض أن الحلم ظاهرة عقلية لا جسمية. وقد لا يكون لهذا الفرض ما يبرره، ولكن ليس هناك ما يمنعه أيضاً، فالحلم إذا كان ظاهرة جسمية لا يهمنا في شئ ولكنه يكون ذا فائدة لنا إذا كان ظاهرة عقلية. وعلى هذا فسنسلم بصحة هذا الفرض وسنرى من النتائج التي سنصل إليها إن كنا على خطأ أم على صواب. والآن ما هو الغرض من هذا البحث وإلى أي غاية نوجه هذه الجهود؟ إن غرضنا هو الغرض من كل بحث علمي، أي الوصول إلى دراسة واضحة للظواهر الطبيعية وتكوين علاقة بينها وإخضاعها لسلطتنا على قدر الإمكان.

وعلى هذا فسنواصل بحثنا على فرض أن الأحلام ظاهرة عقلية، ومعنى هذا أنها خيالات رآها الحالم أو كلمات تفوهها أثناء النوم ولكنها لا تدلنا على شئ ولا نستطيع أن نفهم لها معنى.

لنفرض أني تفوهت أمامكم بكلام غير مفهوم فماذا أنتم صانعون؟ ألا تسألونني الإيضاح عما أريد؟ أظن هذا هو الحل المعقول. فلم إذاً لا نتبع نفس الطريقة فنسأل الحالم عن معنى حلمه؟

تذكرون أننا سبق أن وجدنا أنفسنا في مثل هذا الوضع عندما كنا نبحث في زلات اللسان، وقد بينت لكم أنه يجب علينا في هذه الحالة أن نسأل صاحب الزلة عما يقصده أو ما كان يفكر فيه حتى نستطيع أن نصل إلى الدوافع الخفية التي دفعته إلى ارتكاب هذه الزلة، كما بينت لكم أن التحليل النفسي مبني كله على هذه الطريقة، أي ترك الشخص الذي نحلله يجيب بنفسه على مشاكله. وعلى هذا فالحالم يجب عليه أن يفسر لنا حلمه بنفسه

ص: 16

ولكن الأمر ليس هنا بالسهولة التي نظن، ففي حالات الزلات كانت هذا الطريقة تنجح في كثير من الأحيان، ولكن في أحيان أخرى كان الشخص المستجوب يرفض الإجابة عن شئ بل كان يرفض الجواب الذي نقترحه عليه من استنتاجاتنا في غيظ وحنق. أما في حالة الأحلام فليس هناك أمثلة من النوع الأول، فالحالم دائماً يقول إنه لا يعلم شيئاً عن حلمه، وهو لا يستطيع أن يرفض تفسيرنا لأنه ليس لدينا ما نقدمه له. فمادام لا يعلم شيئاً ونحن لا نعلم شيئاً ومن المؤكد أن شخصاً ثالثاً لا يعلم شيئاً كذلك، فلا مطمع لنا إذاً في الوصول إلى حل موفق. أعلينا عندئذ أن نقلع عن هذه المحاولة ونقر بعجزنا؟ إذا كان منكم من يرغب في ذلك فليفعل. أما إذا كنتم راغبين في مواصلة البحث ففي استطاعتكم أن تتبعوني فسأريكم أن الشخص الحالم في الواقع يعلم معنى حلمه ولكنه لا يدري أنه يعلم وعلى هذا يظن أنه لا يعلم.

أظن أنه من المحتمل أن تلفتوا نظري عند هذه النقطة إلى أنني قد عدت إلى تقديم فرض آخر ولما يمض على تقديمي الفرض الأول وقت طويل، وأنني بعملي هذا قد بعدت عن جادة الصواب ودقة البحث ولكني أوجه نظركم إلى أني لم أجئ هنا لأتظاهر أمامكم بالشعوذة فأقدم إليكم حقائق سهلة مستساغة بينما أخفي عنكم الصعوبات والشكوك حتى تطمئن نفوسكم إلى أنكم قد تعلمتم شيئاً جديداً. وعلى هذا أقول لكم إني فعلاً قد فرضت فرضين متداخلين فمن يجد منكم في هذا مشقة أو عدم دقة فما عليه إلا أن يتركنا في خير. ولكني أوجه نظركم إلى أن هذين الفرضين ليسا على درجة واحدة من الأهمية. فأحدهما وهو القائل بأن الأحلام ظاهرة عقلية هو الفرض الذي نأمل في إثباته عن طريق النتائج التي سنصل إليها. أما الفرض الآخر فقد سبق إثباته في مجال مختلف وأنا في الواقع لم أعمل أكثر من أن سمحت لنفسي باستعارته في بحثنا هذا. وهذا المجال المختلف الذي أقصده هو التنويم المغناطيسي فقد شاهدت برنهيم عام 1889 في نانسي وهو يقوم بتجاربه على رجل من المدينة نومه تنويماً مغناطيسياً، وعندما استيقظ الرجل بدا لأول وهلة أنه لا يدري شيئاً عما قام به أثناء النوم وقد ادعى أنه لا يستطيع أن يتذكر شيئاً، غير أن برنهيم ألح عليه في السؤال مؤكداً له أنه يعلم كل شئ وأنه لو أجهد نفسه قليلاً لاستطاع أن يتذكر كل ما حدث له. وما كان أشد دهشتنا عندما بدأ الرجل فعلاً يتذكر شيئاً فشيئاً

ص: 17

بعض ما حدث له أثناء النوم، وكلما تذكر شيئاً اشتدت ذاكرته فتذكر أشياء أخرى حتى استطاع في النهاية أن يتذكر بالضبط كل ما قام به وهو نائم. ألا يصح لنا إذاً أن نستنتج من هذا أن هذه الذكريات كانت في عقله من مبدأ الأمر ولكنها كانت فقط صعبة المنال؛ فهو لم يكن يدري أنه يعلم بها ولكنه كان يعتقد أنه يجهلها. وهو في هذه الحالة يشبه الشخص الحالم تمام الشبه. والوقع أن هناك علاقة واضحة بين التنويم المغناطيسي والنوم الذي هو شرط أساسي للحلم. فالتنويم المغناطيسي يطلق عليه فعلاً النوم الصناعي، فنحن نقول للشخص الذي نريد أن ننومه مغناطيسياً:(نم!) وما نوعز به إليه وهو نائم يمكن مقارنته بالأحلام في حالة النوم الطبيعي. فالحالة العقلية واحدة في الاثنين، فكما أننا في النوم الطبيعي نقطع كل صلة تربطنا بالعالم الخارجي، فكذلك نفعل في حالة التنويم المغناطيسي فيما عدا الشخص الذي يقوم بتنويمنا والذي نبقى معلقين به.

أظن من الممكن الآن أن نعود إلى عملنا ونحن أكثر ثقة من ذي قبل. رأينا إذاً أن من المحتمل جداً أن الحالم يعلم شيئاً عن حلمه، ولكن المسألة هي كيف يمكننا أن نسهل له الوقوف على هذه المعلومات وإعطائها إيانا؟ الطريقة التي سنتبعها هي أن نسأل الحالم عن معنى حلمه وكيف حلم هذا الحلم، والكلمات التي يجيب بها يجب أن تؤخذ على أنها الإيضاح المطلوب بغض النظر عن كونه يظن أنه يعلم أو لا يعلم شيئاً عن الحلم.

أظن هذه الطريقة بسيطة جداً، ولكني مع هذا أخشى أن تثير فيكم معارضة شديدة فتصيحون:(فرض ثالث! وهو أبعد احتمالاً من سابقيه! أتعني أننا إذا سألنا الحالم عن الأفكار التي تتوارد على خاطرنا فأجابنا على الفور فما علينا إلا أن نأخذ إجابته هذه على أنها الإيضاح المطلوب؟ ولكن من المؤكد أنه قد لا يجد ما يجيب به على الإطلاق أو قد تتوارد على خاطره أفكار يعلم بها الله. إنا لا نستطيع أن نتخيل على أي أساس بنيت هذا الأمل، فهو في الحقيقة يتطلب اعتماداً أكثر من اللازم على العناية الإلهية في الوقت الذي نحن فيه أحوج ما نكون إلى نفاذ البصيرة والمقدرة على النقد. وفضلاً عن ذلك فالحلم لا يتكون من عنصر واحد كزلة اللسان، ولكنه يتكون من عناصر كثيرة؛ فإذا كان الأمر كذلك، فعلى أيها يمكننا الاعتماد؟).

أظن أنكم على حق في جميع النقط الغير أساسية. فالحلم حقاً يختلف عن زلة اللسان من

ص: 18

ناحية تركيبه من عناصر كثيرة كما إنه يختلف عنها من نواح أخرى كذلك، وهذه الاختلافات كلها يجب أن تراعى عند التحليل. ولذا فأني أقترح عليكم أن نقسم الحلم إلى عناصره المختلفة وأن نختبر كل عنصر على حدة، وبذا نكون قد أعدنا التشابه الذي بينه وبين زلة اللسان. وأنتم كذلك على حق عندما تقولون إن الحالم عندما يستجوب عن عنصر من عناصر حلمه قد يجيب بأنه لا يجد لديه أفكاراً تتعلق به، وهناك حالات نكتفي فيها بهذا الرد قد أدلكم عليها فيما بعد. أما في أغلب الأحيان فيجب علينا أن نناقضه وأن نلح عليه في الجواب مؤكدين له أن لابد من وجود فكرة ما لديه وسنرى أننا كنا على صواب، فسيبدأ بقوله:(إن هذا يذكرني بشيء حدث لي منذ وقت قريب!) أو (إن هذا حدث لي بالأمس!) وسنرى من هذا أن الأحلام ترتبط ارتباطاً وثيقاً بآثار اليوم السابق. وأخيراً قد يستطيع الحالم إذا اتخذ الحلم نقطة ابتداء أن يصل إلى تذكر حوادث من الماضي البعيد.

أما من حيث النتيجة العامة فأنتم على خطأ. فإذا كنتم تحسبون أن اعتبار الأفكار الأولى التي ترد على خاطر الحالم كجواب عما نسأل عنه مسألة اختيارية بحتة، وإذا كنتم تحسبون أن هذه الأفكار قد تكون هوائية لا علاقة لها بما نحن في صدد البحث عنه، وأنها لا تدل إلا على ثقتي العمياء في العناية الإلهية إذا توقعت شيئاً آخر. . . إذا كنتم تحسبون هذا فأنتم على خطأ مبين. وهذا الخطأ راجع إلى الاعتقاد الراسخ فيكم بأن القوى النفسية حرة غير مقيدة في اختيارها وهذا اعتقاد غير علمي، لذا يجب علي أن أطلب منكم أن تنظروا بعين الاحترام إلى هذه الحقيقة الواقعة: وهي أن فكرة واحدة فقط ولا شئ غيرها هي التي تخطر على بال الحالم عندما يستجوب عن حلمه.

ولما كانت هذه النقطة على درجة كبيرة من الأهمية، لذا أسألكم أن تلتفتوا إليها التفاتاً خاصاً. فعندما أسأل شخصاً عما يخطر على باله بالنسبة لعنصر ما من عناصر حلمه فإن ما أطلبه منه هو أن يستسلم لعملية الترابط المطلق وهذه العملية تحتاج إلى حالة من الانتباه تختلف اختلافاً بيناً عن حالة التروي بل هي في الواقع تعوقها. وبعض الناس يتهيأ لهذه الحالة في سهولة ويسر، والبعض الآخر يلاقي في ذلك عناء كبيراً وعدم استعداد غير معقول. وقد يحسب المرء أن عملية الترابط المطلق التي تنشأ عندما نطلب من شخص ما أن يفكر في اسم خاص أو عدد ما تكون أكثر حرية ويكون لدى الشخصين فرصة أكبر

ص: 19

للاختيار؛ ولكن الواقع أنه يمكن أن نثبت أنه في كل حالة توجد عوامل عقلية خفية هي التي تحدد نوعي الترابط، وهذه العوامل تكون مجهولة لدينا في اللحظة التي تبدأ فيها عملها، ولتوضيح ذلك أضرب لكم المثل الآتي:

حدث في يوم من الأيام بينما كنت أعالج شاباً أن ذكرت له شيئاً عن هذا الموضوع وأكدت له أنه على الرغم من الحرية الظاهرة في الاختيار في مثل هذه الحالات فإننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفكر في أي اسم لا يمكن أن نثبت أن الظروف المحيطة بالشخص الذي نقوم معه بالتجربة، وسجيته والحالة التي كان عليها هي التي تحدد هذا الاسم. ولما كان بطبعه ميالاً إلى الشك فقد عرضت عليه أن يقوم بالتجربة في التو واللحظة. وقد سهلت له الأمر بأن طلبت منه أن يفكر في اسم امرأة من صاحباته لما كنت اعلم عن علاقاته المتعددة بكثير من الفتيات والنساء. ولكنه لدهشتي، أو لدهشته على الأصح، لم يغمرني على الفور بسيل من الأسماء، وإنما ظل ساكناً مدة ثم اعترف بان الاسم الوحيد الذي خطر على باله في هذه المدة هو ألبين ولكن الأغرب من ذلك هو أني عندما سألته ما علاقتك بهذا الاسم وكم من النساء تعرفت به؟ أخبرني أنه لا يعرف أحداً بهذا الاسم وأن لا أفكار لديه يربطها به. وقد يظن المرء أن التجربة قد فشلت، ولكن لا، فقد تم التحليل ولسنا في حاجة إلى أفكار أخرى. فالشاب نفسه كان أشقر بشكل غريب، فكانت في حديثي معه أثناء التحليل أداعبه بقولي له (وهي اسم الرجل الأبيض الوجه والشعر) وعلاوةً على ذلك فقد كنا في هذا الوقت منهمكين في تحليل العنصر النسوي في طبيعته. وعلى هذا فقد كان هو نفسه هذه (المرأة) التي شغلته في هذا الوقت أكثر من أي امرأة أخرى.

وكذلك الحال في الألحان التي يترنم بها الإنسان في أوقات فراغه فقد يستطيع إذا حللناها أن نصل إلى مصدرها ومعرفة الأفكار التي كانت تشغل عقلنا في هذا الوقت من غير أن نحس بها فإذا كانت الأفكار الحرة التوارد مقيدة هذا التقييد فإننا نكون على حق إذاً عندما نستنتج أن الأفكار التي تتوارد نتيجة لفكرة محركة واحدة تكون كذلك مقيدة غير مطلقة. وقد أثبتت التجارب كحقيقة واقعة إنها لا تكون متعلقة بالفكرة، المحركة فحسب، بل إنها كذلك تعتمد على ألوان من التفكير وضروب من المؤثرات القوية (أو العقد كما نسميها) لا نعلم عنها شيئاً في ذلك الوقت، أو بعبارة أخرى تعتمد على نشاط لا شعوري.

ص: 20

وقد أتخذ الترابط الذي من هذا النوع أساساً لتجارب عديدة أفادتنا كثيراً ولعبت دوراً ملحوظاً في تاريخ الحركة التحليل النفسي. فمدرسة وندت هي التي ابتكرت طريقة (تجربة الترابط) وفيها يطلب من الشخص الذي تجري عليه التجارب أن يجيب على كلمة - محركة - بأسرع ما يمكنه من كلمات رد الفعل - وتلاحظ النقط الآنية أثناء التجربة: وهي الفترة التي تمضي بين النطق بالكلمة - المحركة وكلمات رد الفعل، وطبيعة هذه الكلمات والأخطاء التي ترتكب عند إعادة التجربة إذا أمكن. أما مدرسة زيوريخ تحت رئاسة بلولير وجنج فقد توصلت إلى تفسير رد الفعل في تجربة الترابط بأن ثالث الشخص الذي تجري عليه التجربة أن يلقى قليلاً من الضوء على الأفكار التي تبدو ذات أهمية وذلك بوساطة سلسلة أخرى من الأفكار المترابطة. وقد اتضح من هذه الطريقة أن هذه الردود الغير مألوفة لها اتصال وثيق بالعقد التي في نفس الشخص. وقد كان هذا الاكتشاف هو الخيط الأول الذي ربط بين علم النفس التجريبي وبين التحليل النفساني أظن أنكم من سماع هذا الشرح ستقولون:(إننا نسلم معك إن هذه الأفكار المترابطة خاضعة لقيد معينة وليست محض اختياركما كنا نظن من قبل، كما إننا نعترف بهذا أيضاً في حالة الأحلام ولكن ليس هذا ما يعنينا. إنك تقرر أن كل ترابط بعنصر من الحلم له دافع عقلي خفي لا نعلم عنه شيئاً ولكنا لا نستطيع أن نرى أي برهان على ذلك، حقيقة إننا نتوقع أن تكون الأفكار التي تترابط بعنصر من الحلم ذات صلة وثيقة بالعقد التي في نفس الحالم ولكن ما هي الفائدة؟ إن هذا لن يساعدنا البتة في تفهم معنى الحلم ولكنه يوصلنا فقد إلى بعض المعرفة عن هذه الأشياء المسماة بالعقد، كما في حالة تجربة الترابط، ولكن أي علاقة بين هذه العقد وبين الأحلام؟).

إنكم على حق ولكنكم تغفلون نقطة هامة وهي نفس النقطة التي منعتني من اتخاذ (تجربة الترابط) نقطة ابتداء لهذا البحث. فنحن في حالة التجربة أحرار في اختيار الكلمة - المحركة، وهي الشيء الوحيد الذي يتوقف عليه رد الفعل، أما كلمات رد الفعل نفسها فتعمل كوسيط بين الكلمة المحركة والعقدة التي في نفس الشخص الذي تجري عليه التجربة. أما في حالة الحلم فالكلمة المحركة تستبدل بشيء مشتق من حالة الحالم العقلية، وهذا الشيء ينبع من مناطق مجهولة لديه، وعلى هذا فمن المحتمل جداً أن يكون هو نفسه

ص: 21

(إحدى مشتقات العقدة) فليس من الوهم إذاً أن ندعى أن الأفكار التي تترابط مع عناصر الحلم لم تحددها عقدة أخرى غير العقدة التي كونت هذا العنصر الخاص من الحلم وإنها في نهاية الأمر ستوصلنا إلى اكتشاف هذه العقدة.

دعوني أضرب لكم مثلاً آخر تتبينون منه أن الحقائق كثيراً ما تحقق صدق نظريتنا. وهذا المثل هو نسيان الأسماء المعزوفة لدينا ومحاولة تذكرها، فالذي يحدث في هذه الحالة يشبه تمام الشبه ما يحدث في حالة تحليل الأحلام. فلنفرض مثلاً إني نسيت اسماً ما ولكني أشعر في قرارة نفسي أني واثق من معرفته فماذا أفعل؟ لا شك إني سأحاول أن أبذل كل جهد مستطاع في محاولة تذكره، ولكن التجارب علمتني أن كثرة التفكير لا تجدي وأن في استطاعتي دائماً أن أفكر في اسم آخر أو أسماء عديدة أخرى غير الاسم الذي نسيته فإذا حدث أن خطر على بالي أحد هذه الأسماء طوعاً من تلقاء ذاته فهنا فقط يكون الشبه واضحاً بين هذه الحالة وحالة تحليل الأحلام. فعنصر الحلم كذلك ليس هو ما أبحث عنه وإنما هو عوض عن شيء آخر، وهذا الشيء الآخر هو ما لا أعرفه وما أسعى إلى اكتشاف عن طريق تحليل الحلم. ماذا أفعل إذاً لأتذكر الاسم الذي نسيته؟ إن ما يحدث هو أني أوجه التفاتي إلى هذا الاسم الذي خطر على بالي عوضاً عن الاسم المنسي ثم أحاول أن أدع أسماء أخرى تتوارد على خاطري في ترابط مطلق، وبهذه الطريقة أستطيع أن أصل في النهاية إلى الاسم الذي نسيته. ومن المشاهد في مثل هذه الحالات إني عندما أتذكر هذا الاسم ألاحظ دائماً إن هناك علاقة بينه وبين الأسماء التي تركتها تخطر على بالي عوضاً عنه. فقد حدث لي مثلاً أن حاولت في يوم ما أن أتذكر اسم القطر الصغير الذي يقع على ضفاف الريفييرا والذي عاصمته (مونتكارلو) ولكني لم أستطع على الرغم من تأكدي من معرفته. فأخذت أفكر في كل من أعرف في هذا القطر وما كان لي فيه من علاقات ولكن بلا جدوى. وأخيراً كففت عن التفكير وتركت أسماء أخرى تتوارد على خاطري طواعية واختياراً. وقد توالت هذه الأسماء بسرعة وهي مونتكارلو نفسها ثم بيدمون، ومونتفيدو، ومونتنجرو، وكوليكو. وقد لاحظت أن ثلاثة من هذه الأسماء البديلة تحتوي على نفس المقطع (مون) وفي الحال تذكرت الاسم الذي أبحث عنه وهو (موناكو) ومن هذا ترون أن هذه الأسماء البديلة قد نشأت فعلاً عن الاسم المنسي، فالثلاثة الأسماء

ص: 22

الأولى تحتوي على المقطع الأول (مون) والاسم الرابع يحتوي على المقطع الأخير (كو) أما السبب في هذا النسيان المؤقت فهو أن (موناكو) هي الاسم لإيطالي (لمونيخ) وقد كانت لي ذكريات في هذه المدينة هي التي وقفت حائلاً بيني وبين تذكر الاسم الذي أريد.

وعلى هذا فما هو ممكن في حالة نسيان الأسماء لابد أن يكون ممكناً كذلك في حالة تفسير الأحلام فإذا ابتدأنا من العناصر البديلة فإنه لا بد أن نصل في النهاية إلى غرضنا الحقيقي عن طريق سلسلة من الأفكار المترابطة، كما إنه في استطاعتنا (كما هو الحال في نسيان الأسماء) أن نفرض أن هذه الأفكار التي نشأت عن عنصر الحلم لم يحددها هذا العنصر فحسب بل حددتها أيضاً الدوافع اللاشعورية التي أنتجت الحلم. فإن أمكن هذا فإننا نكون بذلك قد قطعنا شوطاً بعيداً في تبرير طريقتنا في التفسير.

المترجم

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن

ص: 23

‌الأدب في سير أعلامه

7 -

تولستوي

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

بين الجد واللهو

ودع تولستوي قازان وفي نفسه أنه ودع اللهو والعبث فما إليهما من عودة، وبلغ ياسنايا تلك الضيعة المحبوبة وقد زاده محبة لها إنها غدت من نصيبه، وإن ليشعر أنه أصبح مسؤولاً عنها وعمن يعيش فيها من الناس؛ ولقد زاد هذا الشعور لا ريب في نفسه العزم أن يطلق حياة اللعب والعبث. . .

ثم إن فكرة تسيطر على لبه اليوم وتملأ جوانب نفسه، ومؤداها أن يعمل في جد على إصلاح حال الفلاحين في الضيعة وما جاورها، فما يليق به أن يذرهم فيما هم فيه من جهل وبؤس.

وتستمع إليه العمة تاتيانا دهشة مبتسمة فما يخرج الأمر عندها عن أن يكون نزعة جديدة من نزعات الشباب؛ ولكنه يعود كل يوم إلى هذا الحديث وإنه لأقوى عزماً وأكثر جداً؛ وإن تفكيره في هذا الأمر ليصرفه عن القراءة وعن الموسيقى التي أحبها حباً عميقاً خبرته عمته؛ وإنها لتجلس إلى البيان تحاول أن تمتعه بلحن مما يجب فما يروعها إلا انصرافه عنها وعن لحنها ليقبل على حديث إصلاح الفلاحين. . .

وتعجبت عمته ويزداد عجبها إذ تراه يتخذ لنفسه زياً خاصاً به يعتزم أن يلبسه في كل وقت وفي كل مكان لأنه يظهره في مظهر الفيلسوف؛ ولكن الفتى لا يلبث حتى يخلع هذا الرداء ويلقي به لأن أحد الزائرين لم يتمالك نفسه ذات مرة من الضحك من مظهره، كره الفتى أن يكون موضع استهزاء، وهو الذي طالما تأنق وتنبل بالثياب. . .

وما الذي ألقى في قلب الفتى هذه الرغبة القوية في إصلاح حال الفلاحين؟ أهي مجرد نزعة من نزعات الشباب حقاً؟ أم هي خيال ألقاه في نفسه قراءة قصة حديثة تسمى (القرية) ألفها قصصي يدعى جريجوروفتش وصور فيها حياة الفلاحين، صورة مؤلمة

ص: 24

تبعث في النفوس شعور الرثاء لحالهم؟ أم أن مرد ذلك إلى عاطفة عرف بها منذ طفولته وهي أنه يحب أن يرى الناس جميعاً حوله سعداء؟ الحق أن الفتى ما كان ليستطيع أن يرى مظاهر البؤس من حوله ثم لا يتحرك لها قلبه الإنساني الرحيم، وكيف كان يطيق أن يسمع فيما سمع أن امرأة نحبها من الجهد، وأن المرض فتك بالناس فلا يستطيعون له دفعاً؛ وكيف كان يطيق أن يرى بعض الفلاحين يخرون على قدميه سجداً يسألونه القوت؛ لقد كان ذلك يؤلمه أشد الألم أو كما يقول (إن ذلك كان يؤلمني كما تؤلمني ذكرى جريمة ارتكبت لو يكفر عنها).

على أنه يعجب أشد العجب من إعراض الفلاحين عن إصلاحاته؛ وبألم إذ يرى في وجوههم الشك والإنكار والعناد، وإذ يسمع أنهم يصفون ما بنى لهم من أكواخ جديدة بأنها سجون وأنهم يرمون بالمدارس التي افتتحها لأبنائهم والتي كان يعلمهم فيها بنفسه أحياناً، فعندهم إن هذه المدارس تحرمهم من معاونة أبنائهم إياهم في أعمال الزراعة؛ ويقلب تولستوي كفيه حائراً من أمرهم، وفي نفسه شعور الغضب ومرارة الخيبة. . .

ولا يلبث اليأس أن يصرفه عما شرع فيه، فينصرف عنه مكرهاً لأنه كان شديد التعلق به، يدلنا على ذلك ما جاء في قصة كتبها بعد سنوات قليلة، هي القصة المسماة (صباح أحد الملوك) فقد صور فيها أميراً يحلم بأن يعلم الفلاحين ويسعدهم ويوفر لهم أقواتهم، ويصلح رذائلهم التي تنجم من الجهل والتعلق بالخرافات ويجعلهم يحبون الهدى والحق؛ وفي هذه القصة يترك الأمير الجامعة ليعود إلى القرية ويكتب إلى عمته برغبته في إصلاح حال الفلاحين في ضياعه قائلاً بعد أن يصف مبلغ بؤسهم:(أليس واجبي الواضح المقدس أن أعني بحال هذه الأنفس السبعمائة التي سوف يسألني الله عنها حساباً؛ ثم أليس من الإجرام أن أجري وراء أنماط من اللهو والطمع بينما أدعهم لمشايخ أو رؤساءهم عليهم خشن غلاظ؟ ولم أبحث في نواحي أخرى عما عسى أن يظهرني بمظهر الرجل النافع الخير في حين أن أمامي هذا الواجب الوضئ النبيل الذي أعرفه عن وثوق وخبرة؟).

ولم يكن يدور بخلده أن يجد من الفلاحين هذا الجمود، فما أشد ما كره ما كان فيه من جد وما أسرع ما أقبل على لهوه وعبثه، وقد نما إليه أن أخاه سيرجى يعيش مع غجرية مغنية عيشة مطلقة من كل قيد في ضيعته؛ فحبب إليه عبث أخيه أن يعود هو كذلك إلى عبثه،

ص: 25

فأقبل على المجون واللعب وأسرف في ذلك إسرافاً شديداً وبخاصة في مخالطة النساء مخالطة لا تأثم منها ولا تورع فيها حتى لقد أحدثت أثرها في بدنه القوي أو كادت، وحتى لقد عاد الفتى إلى سالف ندمه فانه يكتب في يومياته في منتصف شهر يونيو سنة 1847 يقول (ما أصعب على من يقع تحت تأثير الشر أو يزيد ما تنطوي عليه نفسه من خير. . . هل أبلغ بعد الأمد الذي أجدني فيه مستقلاً عن المؤثرات الخارجية؟ إن ذلك معناه في رأيي الوصول إلى كمال عظيم، حيث إنه في حال الرجل الذي يتخلص من العوامل الخارجية تسيطر الروح على الجانب المادي منه بالضرورة فيبلغ ما يريد؛ وسأضع اليوم لنفسي قاعدة جديدة وهي أن الاجتماع بالنساء إن هو إلا شر من شرور المجتمع لابد منه، وعلى المرء أن يتجنبه ما استطاع؛ وممن نتعلم في الواقع الشهوة والخنوثة والتفاهية في كل شيء إن لم نتعلمه من النساء؟ وعلى من تقع تبعة فقداننا تلك المشاعر الغريزية فينا كالشجاعة والمناعة والبأس والتصبر والعدالة إن لم تقع على المرأة؟ إن المرأة أشد استجابة من الرجل للمؤثرات، وكانت في عصور الفضيلة خيراً منا، ولكنها الآن في عصر الفساد والرذيلة قد باتت أسوأ منا وأرذل).

وتلمح إليه العمة تاتيانا ذات يوم بقولها (إنه لا شيء يكون الشاب خيراً مما يكون ارتباطه بفتاة ذات خلق)؛ ولكن توثب حيويته وعرامة فتوته وحبه الاستقلال، كل أولئك يميل به عن أن يركن إلى ما تقول. . .

وسيكبر هذا الفتى وقد ذاق حلو الحياة ومرها فيكون له من ذلك مادة لفنه وسيفيد من لهوه هذا كما يفيد من جده، فما ينسى شيئاً مما تطالعها به الحياة، وسوف نرى نظرته هذه إلى المرأة سنة 1847 وهو في التاسعة عشرة، تتجدد في قصة يكتبها سنة 1889 وهو في الحادية والستين، وهي قصة كروتنزرسناتا.

لم يعد للفتى أمل في إصلاح فلاحيه وأحسن أنه يقضي أيامه في باسنايا عبثاً فصمم على الرحيل منها، وفي شهر أكتوبر سنة 1848 سافر إلى موسكو حيث قضى ثلاثة أشهر أو أربعة طلق العنان لا يلويه عن العبث واللهو شيء، وله من فراغه وشبابه وماله ما يزيد جموحه ويمد في حبال غوايته؛ ثم سافر الفتى إلى بطرسبرج فدخل جامعتها ليدرس القانون ثانية وليحصل على درجة علمية تهيئه للالتحاق بوظيفة من الوظائف المدنية.

ص: 26

وأقبل الفتى على الدراسة في جد وعزم كأن لم يعرف اللعب يوماً؛ وكتب إلى أخيه في فبراير سنة 1849 يخبره بما هو فيه من جد، وينبئه بأنه سيبقى في وبطرسبرج إلى الأبد؛ ويصف له في كتابه مبلغ ما للحياة في هذه المدينة من أثر نفسه، فكل شيء يبعث على الجد والدأب، وكل امرئ يسعى سعيه حتى لن يجد المرء من يصحبه إلى حياة عابثة، ولن يستطيع المرء أن يحيا هذه الحياة وحده إلى أن يقول لأخيه (أعلم أنك لن تصدق أني غيرت ما بنفسي وأنك ستقول إنها المرة العشرون ولكن في غير جدوى؛ كلا. . . لقد تغيرت الآن. . . وفوق ذلك فإنني اليوم بداخلي إحساس بأن المرء لا يستطيع أن يعيش بالنظريات والتفلسف، ولكنه ينبغي أن يحيا حياة واقعية، أعني أنه يجب أن يسلك سلوكاً عملياً. . . وهذه خطوة واسعة نحو التقدم).

وفي شهر أبريل يجتاز ليو امتحاناً في القانون المدني والقانون الجنائي بتفوق ملحوظ؛ على أن ذلك لم يكن في الواقع ثمرة جهد متصل وإنما كان ثمرة أسبوعين استوعب فيهما ما استطاع أن يستوعبه من هاتين المادتين.

وفي شهر مايو يكتب لأخيه فإذا به يقول في كتابه (أي سير يوشا. . . أتوقع أنك سوف تقول لي أكثر من عرفت ضعف عزيمة، ولكي أكون أميناً، ينبغي أن أقول إن الله يعلم ماذا كنت أفعل هنا!. . . لقد جئت بطرسبرج بغير سبب معين، ولم أعمل هنا عملاً ذا عائدة، وقصاراى أني أنفقت مالاً كثيراً حتى لقد تورطت في الدين؛ يا للغباء! وأي غباء؟ لن تستطيع أن تصدق كيف يؤلمني ذلك، وبخاصة تلك الديون التي يجب أن أؤديها بأسرع ما في وسعي، وذلك لأنني إن لم أفعل فلست أفقد المال فحسب، بل أفقد معه شرف سمعتي. أعلم أنك ستضج بالشكوى، ولكني ماذا عسى أن أصنع؟ إن الإنسان يقترف مثل هذه الحماقة مرة في مدى عمره. . . وإني لأركن إلى عطفك إذ أرجو منك أن تتدبر في إخراجي من هذا الوضع الكريه حيث أجدني مفلساً يحيط بي الدين من كل جانب).

ويعتزم الفتى أن يلتحق بالجيش في فرقة الفرسان متطوعاً في الحرب، وأن يترك جامعة بطرسبرج دون أن يتم دراسته فيها كما ترك جامعة قازان من قبل وكانت الحرب التي يريد أن يتطوع فيها هي تلك الحرب الظالمة التي قذفت بها النمسا الأحرار المجاهدين في المجر، أولئك البواسل الذين رغبوا في الاستقلال عنها وردوا جيشها وقد عصفت

ص: 27

العواصف بأنحاء الإمبراطورية حتى استعانت بالجيش الروسي فجاء لمعونتها خمسون ومائتي ألف من هذا الجيش، وكانت روسيا تريد أن تطفئ نار الثورة في المجر حتى لا تمتد إلى بولندة وكانت تحت حكمها فتخلع عنها نير الاحتلال؛ ومن عجب أن يتجه تولستوي إلى التطوع في حرب ظالمة كهذه الحرب وهو الذي سوف يكون في غده من أكبر الساخطين على العدوان وعلى الحرب أيا كانت بواعثها. . .

وكان لزاماً على من يتطوع أن يقضي سنتين في صحبة الجيش العامل قبل أن يسمح له بحمل السلاح والقتال، ولكن تولستوي كان يطمع أن يتخذ مكانه في الصفوف قبل انتهاء هذه المدة بما عسى أن يبدي من مهارة وقوة، وإن خياله ليس له كل شيء فما إن يفكر في أمر حتى يحسبه حقيقة واقعة، وإنه ليحدث نفسه بأن عمله في الجيش سوف يكسبه خبرة بالحياة والناس، وسوف يخلق منه شخصاً جديداً، إذ إنه بهذا العمل ينجو مما يغريه به الفراغ والشباب من عبث ولهو. . .

ولكنه لا يلبث إلا قليلاً حتى يكتب لأخيه يقول له: (أثبت في كتابي الأخير إليك كثيراً من اللغو، وكان أبرزه ما أشرت إليه من رغبة في التحاقي بفرقة الفرسان، وسوف لا أفعل ذلك إلا إذا فشلت في امتحاناتي أو إذا كانت الحرب ذات خطر).

وجاء الربيع يبعث البهجة والحياة في كل حي، وطافت بخيال الفتى مجاليه في أسحاره وآصاله، هناك في ضيعته المحبوبة ياسنايا بوليانا، فسرعان ما أنطلق من جامعة بطرسبرج كما انطلق قبل من جامعة قازان، وسرعان ما أبعد عن فكره وخياله العمل في الجيش وفي الوظائف المدنية جميعاً، ثم أقبل على ياسنايا، وليس في نفسه هذه المرة من عزم إلا تعلم الموسيقى!

(يتبع)

الخفيف

ص: 28

‌النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟

للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

2 -

نشوء النطق في الإنسان

التفاهم بالأصوات:

وفي الوقت نفسه استعان أفراد النوع الإنساني على التفاهم بالأصوات - فوق لغة الإشارات المتقدم بيانها - وقد بدءوا بالأصوات الطبيعية للتعبير عن الانفعالات النفسية أو الآلام الجسمانية والحاجات الحيوية كالتنهد والتأوه والأنين والتأفف وغير ذلك كما تفعل الأطفال والحيوانات. وما نزال نرى لغات بعض القبائل المتوحشة التي تعيش في أواسط أوستراليا وفي أواسط أمريكا الجنوبية في هذا الطور من تطورات لغة البشر إلى الآن، فإنهم نظراً لقلة مواد لغاتهم البسيطة يضطرون للتعبير عن أغراضهم إلى الإكثار من استعمال الإشارات. فإذا تكلموا صوتوا وأشاروا بأيديهم وأرجلهم وأعينهم، والإشارات جزء من لغتهم لا يمكنهم الاستغناء عنه فهم لا يستطيعون التفاهم ليلاً. وألفاظ لغتهم أقرب إلى الأصوات الطبيعية ولغات القرود العليا منها إلى ألفاظ سائر لغات البشر وهناك قبائل أخرى بأوستراليا لا تسعفهم لغتهم في التعبير عما وراء الاثنين بلفظ واحد إذ ليس لديهم من الألفاظ العددية إلا لفظتان فقط هما (نتات) أي واحد، و (نايس) أي اثنين. فإذا أرادوا ثلاثة أضافوهما إلى بعضهما وقالوا:(نايس نتات) أو أربعة (نايس نايس) أو خمسة (نايس نايس نتات) أو ستة (نايس نايس نايس). أما السبعة فما فوقها فيقفون عندها حيارى وهم يعبرون عنها بقولهم ما معناه (كثير).

ثم بارتقاء الناس عقلياً ومدنياً وتقدمهم في الحياة الاجتماعية مع قيام حاجات جديدة لهم؛ كل هذا جعلهم يتصرفون في ألفاظهم الأولى ويتوسعون وينوعونها ويفرعون ألفاظاً أخرى فيها إما بتقليد أصوات الطبيعة وانفعالات النفس وإما بالرمز إلى المعاني بألفاظ كانت تدل في بادئ الأمر على الماديات، كما يفعل الأطفال إلى الآن. فأول لفظة يتفوه بها الطفل الرضيع عندما يبدأ في النطق هي (أم) أو (ما) يقصد بها الرضاع، وهو في هذا يعبر تعبيراً طبيعياً عن ذلك المعنى لأنه إنما يقلد الحركة الآلية الفسيولوجية المحض التي يقوم بها لأطباق

ص: 29

بشفتيه على ثدي أمه وهو حين يفعل ذلك كأنه يلفظ حرف الميم الذي لا يمكن النطق به إلا بإطباق الشفتين على بعضهما. ثم يتقدم الطفل في السن والنطق قليلاً فيتوسع في ذلك اللفظ الطبيعي إلى (مم) يطلقها على الرضاع أولاً ثم على جميع أنواع الأغذية، وعلى والدته نفسها ويفرع منها (ماما).

وهذا عين ما حدث للإنسانية نفسها في أول عهدها بالنطق ولذلك نجد أن جميع شعوب العالم تعبر عن الأم (أي الوالدة) بألفاظ متشابهة في جميع اللغات تشترك في حرف الميم سالف الذكر.

وكانت اللفظة الواحدة في اللغات الأولى القديمة وفي اللغات المتأخرة الحديثة تدل على الاسم والفعل على اختلاف أزمته (الماضي والمضارع والأمر)، ولم تكن الضمائر وحروف الجر والنسبة والإضافة وغيرها قد ظهرت بعد. فكان الناس - وما زالوا في كثير من اللغات البسيطة إلى الآن - ينوعون معاني اللفظة الواحدة بإضافة لفظة أخرى إليها. فالصينيون مثلاً لخلو لغتهم من حرف الجر (في) يستعيضون عنه بلفظة (وسط) فيقولون (وسط مملكة) أي (في المملكة) ولأنهم لا يعرفون حرف الباء السببية يستعملون بدلها كلمة كاملة مستقلة. فعندما يريدون التعبير مثلاً عن معنى (قتل رجلاً بالعصا) يقولون (قتل رجلاً واستعمل عصا).

وتتقدم لغات البشر خطوة أخرى باستعمال الألفاظ الدالة على المحسوسات والأجسام المادية للتعبير عن المعاني الرمزية والمعنوية فلا تشمل كثير من اللغات البسيطة القديمة والحديثة عل كلمة تدل على معنى الصلابة، ولهذا يستعمل المتكلمون بها لفظة (حجر) للتعبير عن ذلك المعنى كما فعل الناس في لغة إشاراتهم وكما يفعل الخرس الآن. ولا تشمل لغات أخرى على لفظة تؤدي معنى الطول فيعبرون عنه بلفظة (ساق)، وعن لفظة مستدير بقولهم (مثل القمر). ويستعمل العرب أحياناً لفظة (قلب) المادية للتعبير عن (وسط) فيقولون (قلب المدينة) بدلاً من (وسط المدينة) وذلك لأن القلب في وسط الجسم. ولفظة وسط نفسها تحولت في لغتنا العصرية من المعنى المادي ونعني به وسط الأجسام إلى معنى معنوي محض أي وسط غير الماديات وصارت تستعمل بمعنى بيئة.

وقد استطاع علماء نشوء اللغات وتطورها واشتقاقها أن يردوا معظم الألفاظ المستعملة الآن

ص: 30

في اللغات الحديثة إلى أصول بسيطة تحاكي أصواتاً طبيعية أو انفعالات نفسية أو آلاماً جسمانية أو تقلد فعلاً مادياً مألوفاً، ويطول بنا المقام لو أردنا استيعاب ذلك فنكتفي ببعض أمثلة عن أصول الألفاظ العربية نقتبسها من كتاب جورجي زيدان الذين نحن بصدده. فمن ذلك ألفاظ: قط وقطب وقطف وقطع وقطم وقطش وقطل، فإنها جميعها تتضمن معنى القطع والأصل المشترك بينها هو لفظة قط وهو حكاية صوت القطع كما لا يخفى - وباللغة الإنجليزية أيضاً (كت) - وبتطور اللغة وارتقاء المتكلمين بها في المدنية تنوعت مدلولاتها بإضافة لفظة ثانية إلى لفظة قط للتعبير عن مختلف معاني القطع وعلى ممر الزمن ضمرت اللفظة الثانية كما تضمر أعضاء الحيوانات والنباتات، وكادت تندثر ولم يبق منها الآن إلا حرف واحد اندمج في لفظة قط وصار وإياها كلمة واحدة بالطرق المقرر في علوم فقه اللغات.

ومن متنوعات (قط) لفظاً (قص) ومنها قصم وقصل وقصب وقصر وقصف وقص، وجميعها تفيد القطع وتحاكي بعض أصوات تنوعاته القطع بالمقص. ومن تحولات قص لفظة كس وهي محاكاة صوت الكسر ولا سيما كسر الخشب - وبالفرنسية أي كسر - ومنها كس وكسر وكسع وكسم. وتحولت (قص) لفظاً من ناحية أخر إلى (جز) ومنها جذه وجذب (بمعنى انقطع فيقال جذب الريق أي انقطع) وجذف وجذم وجميعها تتضمن معنى القطع أو تنوعاته ويجانس جذ جز وهو محاكاة صوت الشعر وتنوعت من جز وجزء وجزع وجزل وجزم. وإن تنوع معنى القطع يفوق المئات عدا فضلاً عن اشتقاقات كل لفظة منها اسماً وفعلاً ونعتاً وفاعلاً ومفعولاً ثلاثياً ورباعياً وخماسياً وغير ذلك مما تطورت إليه اللغة وتحولت من أصولها البسيطة الأولية. وكانت تدل في أول استعمالها على معانٍ حقيقية حسية ثم أطلقوها على معانٍ مجازة وكلها ترجع إلى أصل واحد وهو محاكاة صوت طبيعي وهو صوت القطع.

وهكذا الحالب بالنسبة لمعظم ألفاظ اللغة. فمن (هب) بمعنى ثار أو هاج فرع هب وهيج (أي ضرب ضرباً شديداً)، وهبذ أي أسرع في المشي وهبش بمعنى هيج المتقدمة، وهبص الرجل أي نشط أو عجل، وهبا الفرس أي فر. وهي جميعها تتضمن معنى (هب) وهي محاكاة صوت اللهيب إذا نفخه الإنسان أو نفخه الريح. ومن الألفاظ التي تدل على السرور

ص: 31

وطلاقة الوجه: بسب وبساء وبسم وبسط وبسل وبش أي حسنت سحنته وجميعها ترجع إلى معنى واحد وهو (بس) التي يغلب أنها تحولت لفظاً عن بش وهي من الأصوات التي ينطق بها الإنسان غريزياً عند الاستحسان كقول العامة إذا استحسنوا شيئاً أو أعجبوا به (إش) ومنها بش. ووجه بشوش. ومن ضروب معاني الفتح فق وفقاء وفقح وفقر وفقص وفقس وفقش. والعامة تقول فقع. وترجع جميعها إلى (فق) وهي حكاية صوت القربة إذا شقت وهي ملائ أو ما شاكل ذلك من الأصوات القريبة.

وفي الأمثلة المتقدمة جاء الحرف المزيد - المشتق من كلمة إضافية قديمة - في آخر الكلمة الأولى وهذا هو الأغلب ولكن قد يكون في الوسط أي بين الحرفين الأصليين كشلق من شق، وفرق من فق، وقرط من قط، وقرص من قص وقرض من قض، وشرق من شق، ولحس ولعس ولهس من لس.

وألفاظ أخرى كثيرة مشتقة في الأصل من أصوات طبيعية تعبر عن انفعالات نفسية أو حالات جسمانية فسيولوجية يخرجها الإنسان أو الحيوان باختياره أو عن غير قصد مثل (آه) للتألم والتنهد. ولا يخفي أن الآلام وسائر انفعالات النفس تحدث اضطراباً في التنفس عن طريق الجهاز العصبي فيضطر الحزين أو المغموم أو المهموم أن يستنشق من فترة إلى أخرى كمية زائدة من الهواء ليعوض ما فاته من التنفس الناقص أثناء اضطرابه أو حزنه. وهذا هو التنهد بعينه: وقد اشتقت من لفظة (آه) ألفاظ كثيرة منها التأوه وتأوه ومنها لفظة (تنهد) نفسها. ومن ذلك الهمهمة وهي الصوت الحاصل من الزفير عن الحزن ومنها الهم والمهموم الخ. والزفير أي إخراج النفس بشدة عند عمل شاق والشخير وهو محاكاة النائم وهو يغط. والنحنحة والعطاس والسعال. ومن ذلك لفظة (وي) وقد تركب منها ومن اللام لفظة وبل ويعبرون بها على التفجع أو حلول الشر واستعملوها اسماً لوادٍ في جهنم، وشقوا منها ويله بمعنى فضيحة وركبوا من ويل ألفاظ أخرى منها ويح، ومنها ويب وربما كان أصلها (وي أب) للاستغاثة بالأب ولفظة (ويخ) ربما كان أصلها (وي أخ) للاستغاثة بالأخ. وكذلك الألفاظ العديدة المشتقة من كلمة أف ومنها الأنف والتأفف والمنفخ وغيرها.

ويؤيد أن اللغة العربية نشأت هكذا إننا نجد تلك الألفاظ الأصلية في أخواتها العبرية والحميرية والآشورية والحبشية والكلدانية والمصرية القديمة وجميعها مشتقة من أصل أو

ص: 32

أصول قديمة اكتشفت آثار بعضها ولا يزال بعضها الآخر مجهولاً. وهي مجموعة اللغات المسماة باللغات الشرقية أو السامية. ويمكننا أن نتبين هنا أصل نشوء وتنوع وتطور الأسماء والأفعال على تباين صورها والحروف المختلفة كحرف الجر والنفي والإضافة والإشارة وكذلك الضمائر، ويمكننا أن نتتبع كيفية تحول جميع هذه الألفاظ وتسلسلها من اللغات السامية القديمة إلى اللغة العربية وأخواتها السامية الحديثة كالعبرية وغيرها. ولكن المقام لا يتسع لذلك فنكتفي بمثل أو مثلين:

فالظرف (مع) في لغتنا العربية يقابله في العبرية (عم)، وفي السريانية (عم) فلا شك في أن (مع) العربية مقلوبة عن (عم) العبرية والسريانية. ومن الغريب أن هذه اللفظة نفسها تفيد أيضاً في هاتين اللغتين - فوق معنى الظرفية - معنى (شعب) ومعنى (العم الشرعي). فيستدل من ذلك أن الأصل فيها معنى الاجتماع والاتحاد فاستعملوها اسماً للعم الشرعي وانتقلت للعربية كما هي، واستعملوها أداة عطف وانتقلت إلى العربية مقلوبة - أو أنها قلبت في الطريق.

ولفظة (ليس) النافية في اللغة العربية أصلها (لا) حرف النفي و (أيس) التي معناها في العبرية الكون أو الوجود ولم تنتقل هذه الكلمة إلى العربية أو إنها انتقلت ولم تلبث حتى اندثرت لعدم استعمالها. فلفظة ليس المستعملة الآن في العربية معناها نفي الوجود و (أيس) هذه بمعناها المذكور موجودة في كثير من اللغات السامية وغير السامية. فهي في العبرية القديمة (يش)، وفي السريانية (إيت)، وفي اللاتينية والسنسكريتية والفارسية واليونانية وفروعهن (إيست أي الكون أو الوجود، وفي الفرنسية القديمة المتسلسلة من اللاتينية كما لا يخفي (إيست أيضاً ومنها تحولت في الفرنسية من اللاتنية كما لا يخفي (إيست أيضاً ومنها تحولت في الفرنسية الحديثة إلى فعل الذي أصله في الفرنسية القديمة الذي يفيد معنى الوجود أو الكينونة وإن عبارة أصلها ومعلوم أن حركة (8) المسماة المستجدة في الفرنسية الحديثة حلت محل حرف في الفرنسية القديمة وعلى هذا النحو تحولت لفظة بمعنى فندق إلى

وكلمة (مال) العربية التي يعتقد جمهور الناس إنها لفظة ثابتة قائمة بنفسها إنما هي مركبة في الواقع من (ما) الموصولة ولام الإضافة كقولهم ما للرجل وما عليه أي الذي له والذي

ص: 33

عليه، وقد اندمج هذان الحرفان على مر الزمن وأصبحا كلمة واحدة مستقلة بمعنى المال. واشتقت منها ألفاظ عديدة منها مول واشتقاقاتها فعلاً واسعاً وفاعلاً ومفعولاً، ومنها ملك وملكية ومملوك وفعل ملك وامتلك الخ ومنها ملك وجمعها ملوك. ولا يبعد أن يكون مال يميل مأخوذ عن تلك اللفظة لأن الميل فيه معنى الحب والرغبة، والمال أحب شيء للإنسان.

وما يقال عن اللغة العربية وأخواتها وأجدادها السامية يقال عن اللغات الهندية الأوروبية والطورانية وجميع لغات العالم.

وخلاصة القول إن النطق ظاهرة طبيعية محضة بدأت على أبسط صورة في الحيوانات العليا التي تعيش جماعة مثل بعض الطيور وبعض أنواع ذوات الثدي وعلى الأخص القرود العليا (أما النمل فله طريقة صامتة للتفاهم والتعبير). وقد ارتقى النطق واتسع في الإنسان نتيجة العوامل الطبيعية المتقدم بيانها التي أدت تطور النوع الإنساني وتحوله إلى شكله الحالي. فالفرق بين الإنسان والحيوانات إنما هو فرق في الدرجة فقط - درجة التطور - وليس في طبيعة الأمور.

وقد نشأت اللغات - وهي ظاهرة اجتماعية طبيعية محض - من النطق بأصوات بسيطة لجأ إليها الإنسان الأول للتفاهم وكان يعبر بها عن الانفعالات النفسية أو الآلام الجسمانية أو الحاجات الحيوية، ويقلد بها الأصوات الطبيعية للأشياء والأفعال المختلفة أو أصوات الحيوانات والطيور أو عوامل الطبيعة. ثم تصرف فيها وتوسع بالنحت والاشتقاق والقياس والإضافة والإدماج وتحويل الألفاظ من معانيها المادية إلى المعاني الرمزية والمعنوية الخ طبقاً لحاجاتهم المستجدة مع تقدمه في المدنية وارتقاء الحياة الاجتماعية والعقلية. فصارت اللغات البسيطة الأولية تتطور هكذا تطوراً يختلف باختلاف البيئات والأقاليم فنشأت اللهجات المختلفة واستمرت هذه في التطور والتحول عن أمهاتها حتى أصبحت لغات جديدة مستقلة تولدت من كل واحد منها لغة أو لغات أخرى تسلسلت منها اللغات القديمة ثم الحديثة على نحو تطور الكائنات الحية النباتية والحيوانية (بما فيها الإنسان) وتسلسل الحديث منها من القديم طبقاً لنواميس التطور والتحول الطبيعية التي تشمل كل ما في الكون وعلى الأرض من الجمادات والكائنات الحية (وهي صورة من صور الجمادات

ص: 34

ومظهر من مظاهرها) واللغات والشرائع والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية.

نصيف المنغبادي

ص: 35

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

895 -

بين ملك وعالم

نفخ الطيب: قال الحجاري صاحب (المسهب في إخبار المغرب):

كنت كثيراً ما أستشكل هذه التسمية لما قال غير واحد أن (المسهب) إنما هو بفتح الهاء. والفقرة الثانية وهي المغرب تقتضي أن يكون بكسر الهاء. ولم يزل ذلك بتردد في خاطري إلى أن وقفت على سؤال في ذلك رفعه المعتمد بن عباد سلطان الأندلس إلى الفقيه الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن سليمان النحوي الشنتمري المشهور بالأعلم، ونص السؤال:

(سألك - أبقاك الله - الوزير الكاتب أبو عمرو بن غطمش - سلمه الله - عن (المسهب) وزعم أنك تقول بالفتح والكسر، والذي ذكره ابن قتيبة في أدب الكتاب والزبيدي في مختصر العين (أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر الكلام بالفتح خاصة) فبين لي - أبقاك الله تعالى - ما نعتقد فيه، وإلى أي كتاب تسند القولين لأقف على صحة من ذلك).

فأجابه: (وصل إلى - أدام تعالى توفيقك - هذا السؤال العزيز، ووقفت على ما تضمنه، والذي أحفظه وأعتقده أن (المسهب) بالفتح المكثر في غير صواب وأن المسهب، بالكسر البليغ المكثر في الصواب، إلا إني لا أسند ذلك إلى كتاب بعينه ولكني أذكره عن أبي علي البغدادي عن كتاب (البارع) أو غيره معلقاً في عدة نسخ من كتاب (البيان والتبيين) على بين في صدره لمكي بن سوادة:

حصر مسهب جريء جبان

خير عي الرجال عي السكوت

والمعلقة: (تقول العرب أسهب الرجل فهو مسهب وأحصن فهو محصن وألفج فهو ملفج إذا أفتقر، قال الخليل: يقال: رجل مسهب ومسهب، قال أبو علي: أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر في غير صواب، وأسهب فهو مسهب بالكسر إذا أكثر وأصاب، قال أبو عبيدة: أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر من خرف وتلف ذهن، وقال أبو عبيد عن الأصمعي: أسهب الرجل فهو مسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا خرف وأهتر. . .) انتهت المعلقة. فرأى مملوكك - أيدك الله تعالى - واعتقاده أن المسهب بالفتح لا يوصف به الباليغ المحسن ولا المكثر المصيب، ألا ترى إلى قول الشاعر (حصر مسهب) أنه قرن في المسهب بالحصر

ص: 36

وذمه بالصفتين، وجعل المسهب أحق بالعي من الساكت والحصر فقال:(خير عي الرجال عي السكوت) والدليل على أن (المسهب) بالكسر يقال للبليغ المكثر في الصواب أنهم يقولون للجواد من الخيل مسهب بالكسر خاصة لأنها بمعنى الإجادة والإحسان، وليس قول أبن قتيبة والزبيدي في المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب، لأن الإكثار من الكلام داخل في معنى الذم لأنه من الثرثرة والهذر، ألا تراهم قالوا: رجل مكثار كما قالوا: ثرثار ومهذار. فهذا ما عندي والله (تعالى) الموقف للصواب.

896 -

أبو بكر، علي

وفيات الأعيان: كانت لأبي الفرج بن الجوزي في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يحكى عنه أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر، وعلي (رضى الله عنهما) فرضي الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاموا شخصاً سأله عند ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته. ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنية: هو أبو بكر لأن ابنته عائشة (رضى الله عنها) تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت الشيعة: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحته. وهذا من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإنعام النظر كان في غاية الحسن فضلاً عن البديهة.

897 -

وخير منه عندي

في (بدائع البدائه) لعلي بن ظافر الأزدي:

أخبرني القاضي السعيد (أبن سناء الملك) قال: أخبرني الشريف الجليل الوافد من العراق على الدولة المصرية قال: اجتمعت في بعض الأيام بأمين الدولة أبي الحسن هبة الله بن صاعد المعروف بابن التلميذ فأخذنا في ذم الدهر وإخنائه على أهل الفضل وإذا بكلاب الصيد التي برسم الخليفة قد أبرزت في جلال الوشى والديباج فحرك ذلك ما كنا نتجاذب أهدابه في الدهر فقلت: من كان يكسو الكلاب وشيا ثم يقنع لي بجلدي واستجزته فقال:

الكلب خير عنده

مني، وخير منه عندي. . .

898 -

خفيف على القلب. . .

ص: 37

الكنايات للثعالبي: حدثني أبو جعفر محمد بن موسى الموسى قال دخلت يوماً إلى الشيخ أبي نصر بن أربد ببخاري وعنده علوي مبرم قد تأذى بطول جلوسه وكثرة كلامه، فلما نهض قال لي نصر: أبن عمك هذا خفيف على القلب، فقلت: نعم مساعداً له على رأيه. فتبسم ضاحكاً من قولي، وقال لي: لم تفطن للغرض، فما زلت أفكر حتى وقع لي أنه أراد خفيفاً مقلوباً وهو الثقيل، وهذا المعنى أراد أبو سعد دوست بقوله:

وأثقل من قد زارني وكأنما

تقلب في أجفان عيني وفي قلبي

فقلت له لما برمت بقربه

أراك على قلبي خفيفاً على القلب

وكان الناصر العلوي الأطروش إذا كله إنسان فلم يسمعه قال له: يا هذا، أرفع صوتك، فإن بأذني بعض ما بروحك، يكنى عن الثقل.

899 -

أيشربن من هذا الشراب؟

الحيوان للجاحظ: حدثنا ربعي الأنصاري أن عجوزاً من الأعراب جلست في طريق مكة إلى فتيان يشربون نبيذاً لهم، فسقوها قدحاً فطابت نفسها وتبسمت، ثم سقوها قدحاً آخر فاحمر وجهها وضحكت، فسقوها قدحاً ثالثاً فقالت: خبروني عن نسائكم بالعراق أيشربن من هذا الشراب؟

فقالوا: نعم.

فقالت: زنين ورب الكعبة. . .

900 -

يأتم يأبى فروخ. .

الحيوان للجاحظ: قال بعض ظرفاء الكوفيين:

فإن يشرب أبو فروخ أشرب

وإن كانت معتقة عقارا

وإن يأكل أبو فروخ آكل

وإن كانت خنانيصاً صغاراً

901 -

ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك؟

نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: قال أبو العلاء المعري:

يا ليت شعري وما ليت بنافعة

ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك

كم خاض في أثرك الأقوام واختلفوا=قدماً فما أوضحوا حقاً ولا تركوا

ص: 38

شمس تغيب ويقفو إثرها قمر

ونور صبح يوافى بعده حلك

طحنت طحن الرحى من قبلنا أمماً

شتى ولم يدر خلق أية سلكوا

وقال: إنك طبع خامس نفر

عمري لقد زعموا بطلاً وقد أفكوا

راموا سرائر للرحمن حجبها

ما نالهن نبي لا ولا ملك

ص: 39

‌زرقاء العيون

للأديب عبد العظيم عمر زين الدين

حينما ترحل النجوم عن الكو

ن إلى عالم من الخلد زاخر

حينما تختفي الرؤى سابحات

وتجوز الأحلام وادي الخواطر

حينما يحمل النسيم من المش

رق بشرى السنا إلى كل ساهر

تجديني يا فتنتي أتملى

نور دنياك في بشاش طائر

حينما ينضج الندى وجنة الور

د فتهتز للشروق النواظر

حينما يبسم الضياء على الأف

ق ابتسام الآمال في قلب حائر

حينما تبعث النسائم بالمو

ج فينساب في افتتان المغامر

تجديني أطوي الطريق لوادي

ك وظلي على البحيرة سائر

حينما تنفض العذارى من الج

ن غلالاتهن من كل ساتر

يتمطين فوق أرجوحة المو

ج ويرقصن في عيون الأزاهر

حينما تسرح الفراشات عطشى

لرحيق على الشفاه النواضر

تجديني أدق بابك في رف

ق وقلبي للحسن حي المشاعر

تجديني بباب كوخك نشوا

ن، أحييك في الضياء الحبيب

فرحتي باللقاء تطلق روحي

تتهادى مع النسيم الرطيب

لتزيح الستار عن خدرك الحا

لم بالسحر، بالرؤى، بالغروب

وأتملى الضياء من صدرك الخا

فق بالحب، بالحنان العجيب

يا صبا العمر، ذاك مغناك نادى

والحبيب المشوق، هيا أجيبي

وخذيني من قفرة الوجد والشو

ق إلى ساحل الهوى، واعبري بي

أنا أهوى الجمال منك رحيقاً

ينبت الحب في الفؤاد الجديب

وحياة تفيض فيها معان

كل يوم جديدة في القلوب

أنا عندي كل الذي تتشه_ين فهاتي، كما وعدت نصيبي

في عيوني نجوى يصوبها الشو

ق لعينيك، في حنان غريب

وبقلبي من أسطر الحب قرآن

طهور ترتيله في وجيبي

ص: 40

وحواليك هالة من حناني

لتراعيك دائماً من قريب

عجب ما أرى بعينيك من عم

ق، ومن فتنة، ومن أضواء

وغريب هذا الشعاع الذي يج

ذب روحي للجه المتنائي

والنداء القهار يسلبني رش

دي، فويلاه من فتون النداء!

أترى فيه لو تبعت خلودي

أم أرى مصرعي وألقي فنائي

حدقي بي يافتنتي، ودعيني

في خيالي وسرحتي وانتشائي

واجعليني أنسى كياني، وعمري،

ونعيمي، وبهجتي، وشقائي

وأرى الدهر والمكان بعيني

ك وسحر الرؤى، ونور السماء

أطلقيني في ظل جفنيك أحيا

عبقري الصبا، جديد الرواء

حدقي بي يا جنتي يا حميمي

يا دوائي من غلتي وشقائي

وأزيحي الخصلات عن خدك النا

عم حتى أرتاد دنيا الضياء

سكن الكون حولنا وأصاخ الس

مع ما حولنا من الأحياء

والغدير الرجراج كف عن الس

ير، ومال الصفصاف للأصغاء

أسندي رأسك البديع إلى صد

ري وكوني رفيقتي في هيامي

وصلي من طريق عينيك روحي

نا، وطوفي بصدري المترامي

واجعليني أحس أنى قد نل

ت نصيبي الموعود من أيامي

وأغمري وجنتي من أفق عيني

ك بنور من الرضا والسلام

أنا راو، أتيت واديك وحدي

من وراء الأزمان والأيام

من بلاد لم يعرف الحب أهلو

ها فعاشوا في وحشة وظلام

قضوا العمر في قيود من الجس

م وأفنوه في انتظار الحمام

وذوي القلب بينهم من ظماء

وقضى دون دمعة أو سلام

إن قومي قد شيعوني كميت

قربوه في معبد الآثام

قيل: ذو جنة يعيش على الح

لم، ويحيا في عالم الأوهام

وفتى راح في الخيال بعيداً

وفقدناه في خضم الزحام

آه. . . يا ليتهم يرون مسرا

ت المعنى، وفرحة المستهام

ص: 41

خبريني، ما قصة العين والجف

ن؟ إذا أنشدا حديث الغرام

وعظات الكهان في معبد الحب

وأسطورة الهوى في الأنام

أنت أهلي، وشيعتي وقبيلي

وبواديك موطني ومقامي

ومنامي على هواك وصحوي

وابتدائي في ظله وختامي

نبئيني يا زهرتي - أي ربع

كان مهداً لزهرتي - أي وادي؟

أي دوح أظل عودك ريا

ن، ونبع سقى صباك الهادي؟

أي أفق بزغت فيه ضياء

كان صحواً ويقظة في البوادي؟

أي فذ أخذت عنه أناشي

دك حتى قدست في الإنشاد؟

علم الله أن هذي مغاني_ك بعينيك في جلاء بوادي

والعهود البيضاء من عمرك الزا

هي أمامي من ليلة الميلاد

وأراها على شواطئ نبع

أزرق اليم، صافي الإزباد

تتهادين كالنسيم وكالح

لم، وكاللحن في جمال التهادي

كالفراش النشوان من بهجة النو

ر، طليق على المروج. وغادي

خطرات الأقدام منك على الشط

كوقع الندى على الأعواد

يلثم الزهر طرف ثوبك حباً

ويناجيك في جوي العباد

وتحليك هذه الشمس إعجاباً

بتاج من السنا المياد

يا فتاتي هذي مغاني مرآتك

تبدو في مقلتيك نديه

ذلك العالم المليء بأرواح

عذاري وأنفس سحريه

لفها الطهر في غلالات حس

وبراها خلاقها عذرية

أنت فيها لحن بديع سماوي

المعاني، مخلد العبقرية

فإليها حيث التلاقي خلود

ومسراتنا بها أبديه

وخذيني على جناحك مشتا

قاً وعودي للسحر - يا جنيه

سوف نحيا بها سوياً كأنا

نرجسات غيسانة بربه

ولنا الحب والجمال معان

ساميات في روحنا علويه

عبد العظيم عمر زين الدين

ص: 42

كلية الآداب - إسكندرية

ص: 43

‌الأدب والفن في أسبوع

رجالنا المنسيون:

كتب أديب فاضل في جريدة (الأهرام) مقالاً عن المغفور له حفني ناصف بك بمناسبة ذكرى وفاته، وقد اقترح على الحكومة أن تهتم بإنشاء مدفن فخم تضم فيه رفات أولئك العبقريين تخليداً لذكرهم واعترافاً بفضلهم وتذكيراً للأبناء بما أسدوا وأجدوا في خدمة أوطانهم.

وليس هذا الاقتراح بالجديد، فقد ردده كثيرون من قبل، على أن الرجاء في تحقيقه ضئيل بل معدوم، لأننا أمة نعيش على مبدأ (مات الميت فليحيى الحي) وليس من شيمتنا تقدير الفضل لذاته، ولا الاعتراف بالجميل لأصحابه حتى ولو كان أصحاب هذا الجميل هم أبناؤنا وأساتذتنا وأعز الناس على نفوسنا. ولهذا طوى كثير من رجالنا الكبار في مطاوي النسيان، وأصبحوا - بعد أن ملأوا الدنيا بأعمالهم - في خبر كان. . .

حنفي ناصف ومحمد سلطان ومحمد المهدي ومحمد الخضري وعبد الوهاب النجار وعبد العزيز جاويش وغيرهم من الطلائع الذين تخرجوا في دار العلوم لا يعلم عنهم أبناء دار العلم شيئاً، ولا يحسون أثراً من فضلهم وعلمهم، ولا يقفون على شيء من ذكرهم وخبرهم!

ومحمد عبده وأبو خطوة والمرصفي والعباسي وعلي يوسف، وعشرات من إخوانهم الذين تخرجوا في الأزهر لا يعرف عنهم أبناء الأزهر شيئاً ولا يحسون أثراً من فضلهم وعلمهم ولا يقفون على شيء من ذكرهم وخبرهم!!

وأمين الرافعي وسيد كامل ومحمد مسعود وعبد القادر حمزة وتوفيق فرغلي، وعشرات الصحفيين من إخوانهم لا يعلم عنهم أبناء الصحافة اليوم شيئاً ولا يحسون أثراً من فضلهم وعلمهم، وللصحفيين ناد يجتمعون فيه ولكنك مع الأسف لا تجد فيه صورة واحدة من صور أولئك الصحفيين الذين أيقظوا وجدان الأمة وبثوا كيان الشعب.

ومن منا يذكر أحمد زكي تيمور وتوفيق العدل والنجاري والفلكي وسواهم من الأعلام الأفذاذ عليهم رضوان الله أجمعين.

وآسفاه! كأننا جيل خلق بدون آباه وتربى من غير أساتذة فلا تقل يا سيدي مقبرة للأدباء، ولكن قل لعل الأبناء أن يذكروا الآباء.

ص: 44

تأثير الأندلس في أوربا وأمريكا:

بمناسبة المحاضرات التي ألقاها أخيراً المستشرق الفرنسي ليبقى بروفنسيال بجامعة فاروق الأول عن الشعر العربي في الأندلس أذكر أن الشاعر الأسباني (فرنسيسكو فيجاسباتسا) ألقي محاضرة منذ عشرين عاماً في مدينة (بيونس أيرس) أشاد فيها بأخلاق الشعب العربي في الأندلس وأطري سجاياه النبيلة وما فطر عليه في الفصاحة والسليقة الشعرية ثم قال (وإن هذه السليقة الشعرية لتكاد تكون ملموسة بنغماتها فيه ومعانيها في الشعر الشعبي الذي تعبر به الأمة الأسبانية عن مشاعرها الحقيقة، وقد انتقلت هذه الروح العربية من إسبانيا إلى أمريكا اللاتينية بواسطة هذا الشعر الشعبي الذي حمله إليها الأسبانيون ولا سيما المهاجرون من الأندلس الذين كانوا في طليعة المستعمرين لأمريكا الجنوبية!!

هذا ما شهد به مفكر كبير من أبناء إسبانيا، ولست أدري رأى المستشرق بروفنسيال في هذه الحقيقة، ولعله يكون قد عرض لها في حديثه عن تأثير الشعر الأندلسي في أوروبا.

التأثير الديني:

لاحظ القائمون بأمر المسرح الشعبي في وزارة الشئون الاجتماعية أن الناحية الدينية هي أقوى مؤثر على عواطف الجماهير واجتذاب مشاعرهم، ولهذا يفكر المشرفون على هذا المسرح في استغلال هذه الناحية على أوسع مدى فيما يقدمون إلى أبناء الريف من المشاهد والتمثيليات.

وهذا في الواقع أمر مفهوم، فإن الشعب المصري شعب متدين بالفطرة، وهو أقدم شعوب الأرض اتجاهاً إلى الله، ولا يزال للنغم الديني في الشرق عامة سحره ولذته، وإن من الواجب أن تقوم دعاياتنا الاجتماعية على ما يتجاوب مع عواطف الشعب وينسجم مع روحه ومشاعره، ولا يمكن أن تفيد تلك الدعاية وتؤتى ثمرها إذا جرينا فيها على التقليد للغرب واقتباس العواطف الغريبة عنا، وما دامت وزارة الشئون الاجتماعية قد لمست هذا بالتجربة فلعلها تتجه ذلك الاتجاه، بأن تتبين نفسية البيئات الشعبية وتتلمس الأوتار الحساسة في عواطف الجماهير وميولهم فتضرب عليها وتأخذهم إلى الإصلاح من طريقها.

تمثال للأمير شكيب:

ص: 45

قررت الجالية اللبنانية في الولايات الأمريكية إقامة تمثال لفقيد العروبة الأمير شكيب أرسلان اعترافاً بفضله على العرب والأدب وتقديراً لخدماته الجليلة للأمم العربية في حياته، ووفاء لذلك الرجل العظيم الذي عاش غريباً مشرداً ينادي بالحرية والاستقلال لسائر الأقطار العربية.

وهذا واجب تؤديه الجالية اللبنانية في مطارح الغربة، ولكن يبقى على أبناء العروبة في المواطن الأصيل أن يجعلوا للفقيد تذكاراً حيث نشأ وحيث جاهد وناضل ليذكر الأبناء ويشحذ من عزيمة الأحفاد؟!

نشيد عالمي للشباب:

يعقد الاتحاد العالمي للشباب الديمقراطي مهرجاناً عالمياً في مدينة براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا يستمر من 20 يوليو القادم إلى 17 أغسطس، وسترجى في هذا المهرجان مسابقة عالمية لاختيار نشيد للشباب الديمقراطي العالمي، على أن يكتب النشيد بأية لغة ثم يترجم عند تقديمه إلى الإنكليزية أو الفرنسية أو الروسية أو الإسبانية، ويشترط فيه أن يعبر عن أفكار الشباب الديمقراطي ورغباته في قيام تفاهم عالمي وسلم دائم يشمل جميع أبناء الأرض، وأن يصور مرح الشباب وحيويته وحماسته، وقد طلب الاتحاد مسابقات محلية لاختيار نشيد تتقدم به إلى المسابقة العامة التي ستجري في ذلك المهرجان العام.

وأنا لا أثق بمثل هذه المسابقات ولا أعتقد أنها تنتج نشيداً له سحره وحيويته وفيه من القوة وفيض الإيمان ما يضمن له الخلود والبقاء والاتصال بالقلوب، ذلك لأن الأناشيد لا تصنع ولا تقترح على الشعراء والأدباء، ولكنها تكون فيضاً من الإيمان والحماسة يتنزل على الشاعر في فترة من فترات التجلي كتنزل الوحي، وجميع الأناشيد التي تصنع وتقترح فإنها أشبه ما تكون بالأناشيد التي تصنع لتلاميذ المدارس.

وعلى أية حال فأي معنى سيؤثره الشباب في نشيده، أهو - كما يقول - الرغبة في قيام تفاهم عالمي وسلم دائم في جميع أنحاء العالم، وما قيمة هذه الرغبة وما جدواها بإزاء ذلك التناحر الذي يقوم بين السياسيين في مؤتمراتهم حول اقتسام النفوذ وفرض السلطان على الضعفاء؟!

ص: 46

معرض الكتاب اللبناني:

يعتقد القائمون بنشر الكتب العربية في لبنان (أن الكتاب اللبناني في مصر مغمور ومحاط بالغموض، وأن ذلك يرجع إلى نقص في تنظيم النشر أكثر مما يعود إلى عدم إقبال القراء المصريين).

لهذا أقيم معرض للكتاب اللبناني في دار القنصلية اللبنانية وقد افتتحه وزير لبنان المفوض بعد ظهر يوم الجمعة الماضي بحضور كثيرين من رجال العلم والأدب والصحافة. وتقرر أن يظل هذا المعرض مفتوحاً عشرة أيام وذلك لإعطاء أبناء مصر صورة عن حركة النشر الثقافي في لبنان.

وقد علمت أن ناشري الكتب في بيروت قد اجتمعوا أخيراً وألفوا اتحاداً من بينهم يجمع شملهم ويوحد غايتهم وذلك بالدعاية (للكتاب اللبناني في الأقطار العربية والمهاجر المتصلة بها).

كما أذيع من بيروت أن أصحاب المطابع سيصدرون نشرة دورية باللغتين العربية والفرنسية تشتمل على أبناء الطباعة وأعمال النشر.

ومما يذكر بهذه المناسبة أن معرضاً للكتاب العربي الفلسطيني قد أقيم في يافا في الأسبوع الماضي وفي النية إقامة هذا المعرض في فرصة أخرى وذلك للدعاية للكتاب العربي فلسطين. . .

ونحن نرجو أن تقابل هذه الحركة في لبنان حركة مماثلة في مصر وفي سورية وفي سائر الأقطار العربية، وأن يكون هدف الجميع تنظيم أعمال النشر بما يضمن رواج الكتب العربية في سائر أنحاء العالم العربي، على أن يراعي هؤلاء الناشرون أنهم يؤدون خدمة ثقافية قومية أكثر مما يحترفونها مهنة تجارية.

كتاب عن المملكة العربية:

أصبحت البلاد العربية السعودية في الآونة الأخيرة مثاراً لاهتمام الباحثين الأمريكيين ومجالاً لعنايتهم في الكتاب والتأليف ولقد كان من مظاهر هذا الاهتمام أن ظهر أخيراً كتاب للكاتب الأمريكي المستر تويتشل باللغة الإنجليزية ألم فيه المؤلف بتاريخ تلك البلاد ثم

ص: 47

تحدث عن وضعها الجغرافي والاقتصادي وموافق الاستغلال والانتفاع فيها، ثم قال إن هذه الصحراء العربية التي كانت مهداً للدين ستصبح مصدراً للثروة وستخرج أمة جديدة تتبوأ مكانتها في التجارة والرقى الاجتماعي.

وقد وقع المؤلف في بعض الأخطاء التاريخية وقرر بعض الأحكام التي لا تطابق الحقيقة في روح الإسلام واتجاهه، وعلى أن هذا ليس بالأمر المهم لأنه ديدن أولئك الأجانب عادة فيما يكتبون عن الإسلام وبلاد الإسلام فإنهم كثيراً ما يتردون في فرض الأحكام الخاطئة بحسن نية أو سوء نية، وإنما المهم الذي يسترعي الأنظار هو أن نلمس هذا الاهتمام المفاجئ عند الباحثين الأمريكيين بتاريخ البلاد العربية السعودية وطبيعة أرضها وسمائها وما فيها من موارد الثورة مصادر الانتفاع، فليس من شك في أنه ليس بالاهتمام الخالص لوجه البحث والعلم وكنه اهتمام بجاري السياسة الأمريكية في اهتمامها بمرافق تلك البلاد، ومن ثم يجب أن نقابل تلك التأليف التي تظهر في هذه الناحية بكثير من الحذر وتدقيق النظر.

(الجاحظ)

(الرسالة): بمناسبة ما كتبه (الجاحظ) عن رجالنا المنسيين من العلماء والأدباء والفنانين نقول إن الرسالة تحشد الجهد وتعد العدة لنشر سلسلة من التراجم المستفيضة لأولئك الأعلام والتعريف بآثارهم وآرائهم وستبدأ في نشرها قريباً، والرسالة لا تريد أن تستقل بهذا الجهد، وترجو من جميع الذين لديهم خبر في ذلك أن يعاونوها على أداء هذا الواجب.

ص: 48

‌من هنا وهناك

ليس:

وجود هذا الفعل في اللغة العربية غريب جداً. غريب في صيغته، غريب في زمنه وغريب في مادته.

ولقد تنبه القدماء إلى صيغته فقالوا: إن أصله ليس بكسر الياء ولكن الياء سكنت استثقالاً، كما سكنت عين كل ما كان على هذا الوزن (قاعدة ذكرها المبرد في الكامل).

أما زمنه فقالوا أنه استعمل بلفظ الماضي للحال (وهذا غريب سنعلم وجهه).

وأما مادته فلم يعرفوا عنها شيئاً أو عرفوا عنها كل شيء فقد ألمعوا إلى أن أصلها لا أيس (وهي ملاحظة لها خطرها).

ويتصل بليس ليت فالمعروف في النحو أنها حرف تمن ولكن بعض العرب يجريها مجرى الفعل (كما في الصحاح).

والمهم أن ليت كليس إلا أنها تقدمت خطوة فاحتلت صيغة واضحة في الأفعال فقيل لات. والأخفش يقول إنهم شبهوها بليس وأضمروا فيها اسم الفاعل.

أما نحن فماذا نقول؟ نقول كما قال الأقدمون في ليس: إن أصلها لا أيس كما نقول في ليت أن أصلها لا أيت. لا معروفة وأيس أوأيت (ما هي).

أيس هذه الرابطة تدل على كون مطلق كأيت وهي في أكثر اللغات واحدة تقريباً خصوصاً اللغات القديمة. ففي العبرانية (يش) وفي السريانية (إيت) وفي الفارسية واللاتينية (أيس) أو (أست). في الفارسية أست وفي الفرنسية وفي الألمانية وفي الإسبانية وفي الإنجليزية وهكذا نجد أن ليت العربية ما هي إلا، لاوأيت السريانية وتركت مع لا كما تركت أيس مع لا.

أما ما يختص بزمن ليس فهو بالضبط ما تدل عليه المادة في اللغات المذكورة: فهو - كما قال الأقدمون - الحال بالرغم من أن صيغتها للماضي.

هذه الكلمة في أغلب اللغات اختصت بشخص معين عند الربط أما في العربية وفي الفارسية فلا. نقول في العربية: لست ولست الخ كما نقول في الفارسية. استم أو هتم وهتى وهست وهستيم وهستيد وهستند.

ص: 49

ولكن في الفرنسية والأسبانية والألمانية والإنجليزية مثلاً ليس لها هذا التصرف المطلق كما هو معروف. فقد اختصت بأشخاص دون غيرهم واعتيض عنها في هذا الغير بروابط من أفعال مختلفة في مادتها كما سنبين ذلك فيما بعد.

إذاً فقد كانت في اللغة العربية رابطة للزمن الحالي ولكنها اندثرت ولم تبق منطوقاً بها إلا في النفي.

وهنا يسأل لماذا اندثرت في الإيجاب وبقيت ماثلة في النفي.

الجواب عن هذا في منتهى البساطة. فإن اللغة العربية لم تدون إلا في مرحلة متأخرة من نموها واستكمالها وإن هذه الرابطة استغنى عنها في التخاطب لأنها ليست بذات أهمية كبيرة فيه عند الإيجاب ولكنها لم يستغن عنها في التخاطب إذا كانت في النفي وهذا ما يحصل بالضبط الآن في هذه اللغات التي تحتفظ بهذه الرابطة في كتابتها عن الإيجاب فإنك إذا خاطبت أحد متكلميها وخصوصاً غير المثقف منهم فإنه يستغني عن الرابطة في الإيجاب ولكنه لا يستغني عنها في النفي.

وإذا اتضح ما قلنا في ليس فإن الأمر - عند القراء - في ليت ليس بهذا الوضوح فكيف صارت ليت تدل على التنمي في اللغة العربية؟

هذا سؤال نرجئ الإجابة عنه إلى المقال التالي.

وهنا سؤال أيضاً والإجابة عنه تزيد الموضوع وضوحاً ولا تترك فيه أي مجال للشك وهو:

إذا كان الأمر كما قلت في ليس وأنها مجرد لا + أيس التي للربط فيكيف صار خبرها منصوباً بعد أن كان مرفوعاً؟

والإجابة عنه نتركها حتى نجيب عن ليت بحول الله.

محمد بن ناويت التطواني

ليسانسيه في الآداب ودبلوم في اللغة الشرقية

فلسفة جديدة للألم:

نحن في عصر يحرص أبناؤه على فلسفة كل ظاهرة من ظواهره، وكل معنى من المعاني

ص: 50

التي يحسونها في الحياة، فهم يحاولون أن يفهموا الأمور بالتحليل والتأويل، ولا يقنعهم في هذا إلا أن يصلوا إلى طريق غريب، أو ما يحسبونه هكذا. . .

أقول هذا بمناسبة ما جاء في البريد الأوربي أخيراً عن صدور كتاب في بريطانيا بعنوان (من سريري في المستشفى) ألفه كاتب أقعده المرض في أحد المستشفيات وسجل فيه خواطره ومشاعره نحو المرض والعلاج وما انتابه من الألم، وقد استهل الكاتب كتابه بقوله:(من أكبر الخطأ أن نحسب المستشفى مكاناً للألم والبؤس، فإن الكثرة الساحقة من الذين يدخلون المستشفيات يخرجون منها صحاح الأجسام، معافي الأبدان، تاركين وراءهم الأتراح والآلام، والهموم والأسقام).

وتحدث عن شعوره بالألم فقال (إن الألم في الواقع أخف كثيراً من رهبة الألم، وفي شبابي كان أقل ألم يصيبني يقفل عيني بحجاب كثيف من الظلمة التي تبعد قلبي عن الإيمان، مع أني لم أكن في ذلك الوقت أشكو أكثر من وجع ضرس، أو خدش ذراع، وإني اليوم - بعد أن عانيت كثيراً من الآلام المبرحة - لأنظر إلى أوجاعي القديمة بعين الازدراء وأدهش لجبني القديم في احتمال آثارها التافهة الصغيرة).

ثم يقول: إن الألم ليس شراً في ذاته، بل إنه تنبيه يشير إلى وجود الشر، ويمهد للطبيب استئصال النازلة من موطنها، لذلك أرى أن إسكات الألم والعمل على تسكينه فحسب أخطر على المرء من إزالة علامات السير من شارع مزدحم بالسابلة).

ثم يختم هذه الفلسفة بقوله: (إن المرض مادة في ميثاق الحياة، فبعض الناس يحيون بدون كتب أو نزهات أو موسيقى، والأسكيمو يعيشون على نصيب ضئيل من نور الشمس، وأهالي جزر الباسفيك لا يقدمون الثلج وليست لهم به حاجة، والرهبان والراهبات يحرمون أنفسهم كثيراً من الملذات، ولكن الجميع يصرون على استكمال حياتهم إذا شابها شيء من نقص، أو اعتراها أثر من مرض. . .).

الحدود الإنسانية:

هذا عنوان كتاب ألفه أحد العلماء في جامعة تكساس بأمريكا وجعل قوامه دعوة موجهة إلى رجال العلم والفكر أن يوجهوا اهتمامهم إلى دراسة الإنسان وأن يعنوا بإنشاء فرع من العلوم هدفه فهم الإنسان على حقيقته:

ص: 51

ويقول هذا الباحث في كتابه إن الخطر الذي يهدد الإنسانية ليس خطراً خارجاً عنها، ولكنه كامن في أطوائها، فليس ثمة خطر من القنبلة الذرية وغير القنبلة الذرية وإنما الخطر كل الخطر مما يدور في داخل الإنسان ويتجه بتفكيره، ثم يقول إن المتاعب الناشئة الآن كلها نتيجة لعدم فهم الإنسان للإنسان، ولهذا يجب على العلماء أن يتجهوا إلى هذه الناحية وأن يوفروا علمهم على الناس وتعرف البواعث والانفعالات التي تحركهم على مسرح الحياة في جميع أدوار حياته، ومتى كان الإنسان مفهوماً في داخله استطعنا أن نتلافى الأخطار التي تهدد الإنسانية من الخارج. . .

ص: 52

‌البريد الأدبي

نعت الاسم المجموع بفعل (جمع أفعل وفعلاء):

قرأت في العدد (712) من رسالتكم تعليقاً لحبر اللغويين في بلاد الشام الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشيبي على نعت الاسم المجموع بفعلاء وقد أجاز ذلك - حفظه الله - وأشار في أثناء التعليق إلى قول لي وقول للأستاذ الرافعي رحمه الله في النعت المذكور، وقدم محصول رأيه بقوله:(نعتوا الاسم المجموع بفعلاء وفعل وليس في كلام المبرد في الكامل ما يدل على منع النعت بالمفرد). وإني أرى في كلامه ما يدل على المنع، قال (فإن أردت نعتاً محضاً يتبع المنعوت قلت: مررت بثياب سود وبخيل دهم، وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه). أراد به النعت الغالب الذي دخل في الاسمية والنعت المحض، وكرر تقرير القاعدة في موضع آخر، فمنع نعت الجمع بفعلاء مستفاد من قوله:(وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه) مريداً (أفعل) الذي هو اسم و (أفعل) الذي هو نعت، ومن قوله (نعتاً محضاً يتبع المنعوت) مريداً (أفعل) الثاني، لأن التمثيل يغني عن التفصيل، ويجوز في هذا الفن تعليل حكمين بعلة واحدة، والإيمان من مسالك العلة. أعني أن في قول المبرد إيماء إلى وجوب جمع النعت المحض بعد المنعوت المجموع وإن كان ظاهر مراده تكسير الصفة دل على ذلك تمثيله بـ (ثياب سود)، ومفرد الثياب مذكر وبـ (خيل دهم) ولابد من تأنيث الخيل، فقد جمع بين المذكر والمؤنث في التمثيل، ولو لم يرد تلك النكتة النعتية لا تقصر على المثال الأول، ثم إن تركه الإتيان بمنعوت عاقل مجموع مثل (نساء دعج ورجال شوس) دليل على إن لا فرق بين العاقل وغيره في هذا النعت.

ويجب أيضاً طرد الحكم في هذه المسألة فيقال (يجب جمع الخبر بأفعل وفعلاء إذا كان المبتدأ جمعاً أو دالاً على الجمع مثل (ثيابهم سود وخيلهم دهم)، ويجب الجمع في الحال أيضاً، وعليه قول المتأخر:

بأنا نورد الرايات بيضاً

ونصدرهن حمراً قد روينا

ولولا أن قوله - تعالى - (ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً) خاص بالعاقل لاستشهدت به، على أن نعت الاسم المجموع بفعل لغة القرآن الكريم كقوله تعالى (عليهم ثياب سندس خضر)(ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) وسبع سنبلات

ص: 53

خضر).

وكيفما كاد الأمر فإن القاعدة ثابتة باستقراء كلام الله تعالى وكلام العرب، وهو عندي أقوى الأدلة، أما الجملتان اللتان استدل بهما الأستاذ الكبير العالم على جواز نعت الاسم المجموع (لغير العاقل) بفعلاء وفعل فقد عراهما تحريف في النعت نفسه، فالأولى (وترى جراد البقول والرياحين وديدانها خضراء. . .) والأصل (خضراً) جمع خضراء، إلا أن الناسخ زاد بعد الألف همزة وغير صورتها، وحرف جمعها، والثانية (فنراها كلها سوداء) والأصل (سوداً) بالنصب والجمع ولكن الناسخ الماسخ فعل بها ما قد فعل بخضراً. وقد جرى كثير من هذا التصحيف في (فعل) المنكرة المنصوبة، دون المرفوعة والمجرورة، ومن ذلك ما ورد في رسم (لوب) من مختار الصحاح، ونصه:(اللوبة والنوبة بوزن الكوفة فيهما: الحرة الملبسة حجارة سوداء) والأصل - وهو الصواب - حجارة سوداً. ألا تراه قد قال في رسم (حر) من الكتاب نفسه (والحرة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار). وفي الصحاح من طبعة العجم (قال أبو عبيدة لوبة ونوبة للحرة وهي أرض ألبستها حجارة سود (كذا). فهذا القول على تحريف فيه جمع فيه النعت لما لم يكن إلى النصب المحرف إلى الأفراد سبيل، وفي نهاية المجد أبن الأثير (اللابة: الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها). وجاء في المغرب للمطرزي (اللابة واللوبة: الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود). وعلى ذلك جمهور اللغويين.

فالخطأ الذي انسرب في نسخة وزارة المعارف المصرية من مختار الصحاح إنما هو من آثار النساخ السيئة، وكذلك القول في الجملتين اللتين ذكرهما الأستاذ الكبير - على ما مرت إشارتنا إليه - فلا يصح الاستشهاد بهما، وما أظن سعادته إلا عادلة منذ اليوم عن الاحتجاج بهما، وهو المرء ينتجع الحق في ساحته ويستفاد العلم من قلمه وتستعذب مساجلته لمجده وسمو خلقه.

مصطفى جواد

في ديوان البحتري

في (الرسالة) رقم (714) عقب الأستاذ محمد النجار على بيتين للبحتري - صاحب الشعر

ص: 54

العربي - كانا قد وردا في تعقيب للأستاذ أحمد شكري في (الرسالة) رقم (713). فقال إن في البيتين تحريفاً كما في الديوان، فمشمش صوابها مشمس - وهو ضرب من الخمر - كما ذكر الأستاذ، وجب صوابها صب.

قلت: الأستاذ الفاضل مصيب في هذا التصويب. هذا وللديوان طبعتان، إحداهما مصرية - حيا الله مصر وأهلها - والأخرى بيروتيه، وقد جاءت الكلمتان في طبعة بيروت بصوابهما لم تفقداه، إلا أن هناك تغييراً في صورة البيت:

إذا صُبَّ في الكأس مسودّه

فكف النديم لها محبره

ففي طبعة بيروت ورد البيت هكذا:

إذا صُبَّ مسودّه في الزجاج

فكأس النديم به محبره

ولعل هذه هي الصورة الصحيحة للبيت، فإن كأس النديم أولى بأن تشبه بالمحبرة من كفه.

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوفان

رسالة الوعظ والإرشاد:

مساهمة لها أثرها الفعال في نفوس الجماهير؛ تلك التي يضطلع بها - كتب الوعظ والإرشاد في ذكرى مولد الحسين - فهو بعد عدته لمحاربة تلك العلل التي تهد كيان الأمة الروحي الاجتماعي عن طريق إذاعة المحاضرات بواسطة مكبرات الصوت. وليس في هذا من جديد يستحق النظر والتسجيل، إنما الجديد حقاً هو هذا الأسلوب الذي يصطنعونه في الطب لهذه الأدواء، فهو أسلوب جديد، جدير بالتشجيع لما له من التأثير الاجتماعي والخلقي في روح الأمة، لأنه يقوم على تناول أمراض البيئة وتصويرها في صور مؤثرة مخيفة، حتى إذا ثارت بواعث كراهيتها لتلك الأمراض، وبرزت دفائن احتقارها إياها، قدم لها العلاج الإسلامي في أبهى حلة، وساقها إياه شراباً طهوراً، فلو استطاع العلماء الذين ينهضون برسالة الوعظ في الأمة أن يدرسوا خصائص كل بيئة وعقليتها وأمراضها، ويحالوا علاج ما فيها على هذا الضوء. لكان لرسالتهم صداها القوي؛ في الإصلاح الاجتماعي والخلقي، وما أشد حاجة الريف خصوصاً إلى أمثال هذه الجهود التي تأخذ بيده

ص: 55

في حياته الاجتماعية والخلقية المتعثرة، فليس هناك من يستطيع انتشاله من هوته غير رجال الدين إن صح عزمهم، وقوى نشاطهم، واتسعت ثقافتهم الاجتماعية والنفسية بجانب ثقافتهم الدينية، حتى يتهيأ لهم أن يسيروا في معالجتهم تحت ضوئها، وأن يهتدوا في تأدية رسالتهم بإرشادها، فتختفي هذه الظاهرة التي كانت تملأ النفوس خزياً عندما كان الخطيب يرتقي المنبر. ثم يحدث الجمع الريفي الجاهل الفقير عن مضار التصييف في المصايف الأوربية. وأمثال هذه الموضوعات التي لا صلة بينها وبين من يحاول إصلاحهم، مما كان له أسوأ الأثر في تدهور الأمة اجتماعيا، وخلقيا، ولعل رجال الوعظ - وفيهم - صفوة من الشباب المثقف - يتلافون ما ورثوه عن عصور الركود والجمود والظلام، وأن يؤدوا واجبهم في عصر العلم، وفي عصف المذاهب الاجتماعية المتضاربة، وإزاء تلك الموجة الإلحادية التي ترمي إلى التخلص من الأديان، كما يجب أن ينهض به رجل الدين في عصر الثقافة والنور.

ص: 56

‌القصص

قصة من روائع الأدب الروسي:

الملك والناسك. . .!

للفيلسوف الروسي ليو تولستوي

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

زعموا أن ملكاً من ملوك القرون الغابرة الأولى. قيل له أن الفشل والإخفاق لن يملكا إليه سبيلاً، إذا ما أدرك دواماً خير الأحيان للانطلاق في العمل الذي يروق لباله ويعن لخاطره وإذا ما ألم بأجدر الناس بالإنصات إليهم والإصغاء إلى حديثهم. . . ومن هم أولئك الذين ينبغي عليه أن يجانبهم ويرغب عن مجلسهم!. . . وإذا ما تناهي علمه إلى معرفة أحق الأشياء بالعمل وأخلقها بالتحقيق فأمر الملك رجاله بأن يذيعوا في آفاق مملكته، أن كل من يشير على الملك بخير الأوقات للعمل وأجدر الناس بالإنصات والصحبة وأفضل الأشياء وأحقها بالعناية والرعاية سوف يجازى جزاء حسناً ويحظى بهبة سنية من لدنه. . . وأقبل العلماء وأهل الخبرة والتجربة من كل فج على الملك يتنافسون ويتسابقون يجلون له ما غمض عليه ويجيبونه على ما سألهم إياه. بيد أنهم تباينوا في آرائهم وتعارضوا في أقوالهم واختلفوا في مشورتهم. فقال بعضهم - جواباً على السؤال الأول - أن ليس ثمت سبيل إلى معرفة خير الأحيان إلا بتسطير لوحة تسجل عليها الأيام والأشهر والسنون، ولا يسير المرء في شئون الحياة إلا وفق نظامها. وبهذا ينجلي للمرء أي الأوقات خير من الأخرى وقال بعضهم إن ذلك لا يتأتى إلا بالفطنة واليقظة لما مضى ولما يجد من الأمور. فيتعرف على خيرها وأبلغها أهمية فيبتدره في حينه. وقال فريق منهم إنه مهما توخي الملك الدقة والدقة والبراعة في معرفة أجل الأوقات، فلن يبلغ مبتغاه. فمن أشق الأمور وأعضلها على الرجل الواحد أن يقرر الخير فيما يتراءى له من الأوقات. . . وعليه أن يعقد مجلساً من أصحاب الحكمة في دولته فيلقى منهم عوناً صادقاً على تحديد الوقت اللائق الموفق.

واختلفت آراؤهم على السؤال الثاني. فأجابه البعض بأن أجدر الناس بالرفقة والإصغاء هم أهل الشورى والحكمة، وقال آخرون بأنهم رجال دين والأطباء. . . بينما رجع البعض أن

ص: 57

الجند هم أفضل من يستفيد المرء من قربهم. . . أما عن السؤال الثالث فرأى جمع منهم أن أحق الأشياء بالرعاية هو العلم. . . ومال آخرون إلى إنه الحذق والبراعة في فنون الحرب والقتال. وارتأى بعضهم إنه الفناء في عبادة الله عز وجل وتأدية فروض الدين على أكمل وجه. . .

فلما استبان للملك أنهم لم يستقروا على رأي صائب راجح منع عنهم عطيته. . . وعقد في نفسه عازماً على أن يتوجه إلى ناسك ذاعت شهرته وطبقت حكمته كل أفق بعيد. . . يستلهمه النصيحة ويستوحيه المشورة. . . وكان ذلك الناسك يتعبد في جوف غابة لا يبرحها أبداً. . . ولا يلقى من الناس إلا الفقراء والمعوزين. فأحاط الملك نفسه بثوب بسيط، ليس عليه من ظواهر الملك شيئاً. . . وترجل عن جواده وخلف حرسه على مبعدة وانطلق وحده. . . فلما أدرك الناسك ألقاه يفلح الأرض أما صومعته. . . وحينما أبصره الناسك بادره بالتحية، وأثنى إلى فأسه يضرب بها أديم الأرض. . . فكانت الضربة التي يهوي بها فيقلب الترب تستنفد ما بقى في جسده من قوة، وتجعله يبهر من الإعياء وينهج من التعب. . . فقد كان شيخاً ضعيفاً وهنت عظامه ووهت قواه. . .!

فدنا الملك منه وأفصح له عما في نفسه قائلاً: (أيها الناسك الجليل. . . لقد أتيت إليك - عن نأي - أروم جوابك عن أسئلة ثلاثة: (أولهما: كيف يتاح لي أن أعلم خير الأوقات لأنجز خير الأعمال؟)، (وثانيهما: أي الناس أولى بالصحبة وأجدر بالاهتمام؟)، (وثالثهما: ما هي الأشياء التي تستوجب مني العناية وتستحق التفرغ لها؟). فأصغى الناسك إليه منصتاً، بيد أنه لم ينبس ببنت شفه جواباً. . . وبصق في راحتيه وعاد ينبش الأرض بفأسه وهو يفلحها من جديد. . . فارتفع صوت الملك - وقد لمح ما على الناسك من دلائل الضعف وظواهر الوهن: لقد بلغ التعب والإعياء منك مبلغاً. . . فناولني الفأس، أتولى عنك الإفلاح حيناً. . .!) فلما هوى الملك بالفأس إلى الأرض مرتين، رفع رأسه إلى الناسك، وسأله ثانية جواباً على ما بسطه له وصارحه به. . . فلم يتلفظ الناسك بشيء، بل مد ساعده إلى الملك يبتغي الفأس قائلاً:(استرح قليلاً، ودعني أوالي العمل برهة!) ولكن الملك رغب عن أن يعطيه الفأس، وعاد يحتفر الأرض.

تصرمت ساعات اليوم ومال ميزان النهار وتولى الضياء عن صفحة الكون. . . وراحت

ص: 58

الشمس تتوخى سبيلها إلى المغيب في خمرة موردة وراء الأشجار السوامق. . . فألقى الملك الفأس من يده وهو يقول: (لقد أتيت إليك أيها الناسك الجليل أبتغي جواباً لأسئلتي الثلاثة! فإن كنت لا تود أن تجيبني عليها فخبرني. . . لأنقل إلى داري!) فقال الناسك وهو يمد طرفة إلى الأفق (ثمة من يعدو! فدعنا نرى من يكون!) فتلفت الملك وراءه. . . فالتقى طرفه برجل ذي لحية كثة يركض نحوهما!. . . وقد أمسك يديه على بطنه، والدم يتفجر خلال أنامله. فلما بلغ مكان الملك هوى أمامه على الأرض وهو يئن ويتأوه في وحدة وألم. . . وقد تولاه الإغماء. . . فراح الملك والناسك ينضوان عنه ثيابه. . . فألقيا في بطنه جرحاً غائراً في الأمعاء. . . أخذ الملك يغسله بالماء. . . ويضمده بمنديله ثم برباط أتاه به الناسك من صومعته. . . بيد أن الدم لم ينقطع سيله، فعاد الملك يغير الرباط الملطخ بالدم بآخر أقتطعه من ثيابه. . . فلما توقف فيضه عن الجريان والترف عاد إلى الرجل الجريح رشده وصوابه وأفاق من غشيته. . . وطلب بعضاً من الماء فوافاه الملك بما سأله إياه. . . وكانت الشمس حينئذ قد هوت كالجمرة خلف الأفق وغابت عن صفحة السماء. . . وشاع البرد في كل مكان. . . فاستعان الملك بالناسك على رفع الرجل وحمله إلى داخل الكوخ حيث استقر في الفراش وأغمض جفونه وراح يغط في وسن هادئ وسبات عميق! وارتمى الملك في ركن من الكوخ وقد أعياه العمل وأضناه العناء والكدح فأغرق هو الآخر في النوم.

حينما استيقظ الملك في صبيحة اليوم التالي، كاد إلا يذكر أين مكانه، ولا يعرف ذلك الرجل الملتحي الذي يقبع في فراشه يحدق فيه ويرنو إليه بعينين نفاذتين. . . قال الرجل - وقد أحس أن الملك بدأ يستعيد وعيه ويفيق من نومه وراح ينظر إليه - (أضرع إليك أن تشملني بعفوك!) فأجابه الملك في رنة عجب:(إني لا أعرف من أنت. . . فعلام ترجو عفوي؟!) - (أنت لا تعرفني بيد أني أعلم من أنت!. فأنا ذلك العدو الذي أقسم غير حانث على أن ينزل بك نقمته وعدوانه جزاء ما أعدمت أخاه وانتهبت داره وشردت أهله. . . فقد تناهى إلى علمي أنك قاصد إلى الناسك. . . فبيت النية وعقدت العزم على أن أنهز هذه البادرة وأقتلك وأنت في سبيل العودة. . .! ولكن اليوم تقضي ولم أستبن لك أثراً. . .! فبرزت من مكمني لأنقب عنك. . .! فلمحني رجالك وتعرفوا علي، وأصابوني بجرح بالغ

ص: 59

في بطني. . . لدق أفلت منهم فتلقتني براثن الموت، وكدت أن أسلم الروح لولا أو توليتني بعنايتك فآسيت جراحي وآويتني في هذا الكوخ. . . لقد كنت متعمداً قتلك فأنقذت حياتي. . . جزيت خير الجزاء. . . والآن لو امتد بي الأجل فوف أقوم على خدمتك - إن رضيت - عامر القلب بالإخلاص لك كعبد من عبيدك الأوفياء. . . وكذلك أبنائي وأهل بيتي فقد قيدت عنق ربهم بمعروف لن ينساه فأسألك أن تعفو عني وتغفر لي!) فاستخف الملك الفرح والبشر وطربت نفسه وطاب قلبه بما رأى من السلم والوفاق الذي عقده مع عدوه في بساطة وهدوء فكسبه صديقاً وفياً. فلم يعف عنه فحسب بل أخبره بأنه سوف يبعث إليه بخيرة أطبائه وخدمه ليقوموا على العناية به ووعده بأن يرد عليه ماله المسلوب ويعيد إليه ملكه المغصوب.

غادر الملك صاحبه الجريح وأخذ يتلفت في ساحة الكوخ باحثاً بعينه عن الناسك ليرجوه من جديد أن يجيبه على أسئلته. فألفاه جاثياً على ركبته يغرس الحب في النقر التي احتفرها البارحة فدنا منه ودعاه قائلاً: (إني أرجوك لآخر مرة أن تجيبني على ما سألتك إياه. . . أيها الحكيم الجليل). . . فأجابه الناسك وهو ما يزال جاثياً على ساقيه الرقيقتين (لقد أجبت على ما تود!!) فتساءل الملك في دهش وعجب (كيف أجبت!؟ وما الذي تعنيه) فرفع إليه الناسك رأسه وعللا ثغره ابتسامة، وقال في صوت شاع في الهدوء والرزانة:(ألم تر أنك لو لم تترفق بي وترحم ضعفي بالأمس ولم تهيئ لي هذه الحفيرات بل انطلقت في سبيلك لهاجمك ذلك الرجل وبلغ منك مقتلاً. . . وحينئذ كنت تقعد نادماً تأكل قلبك الحسرة وتتمنى لو أنك مكثت لا تبرحني. إن خير وقت كان في ذلك الحين الذي كنت تحتفر فيه الأرض. . . وكنت أنا أولى الناس باهتمامك ورعايتك. . . وكان أفضل عمل أديته هو الإحسان إلى. .! وبعد حين أتانا ذلك الرجل يسعى راكضاً. . . فكان أدق وقت هو ذلك الذي توليته فيه بعنايتك وحدبك. . . إذ لو إنك رغبت عن معونته لقضى دون أن تحظى منه بسلام وحمد ولذا كان هو أجدر الناس وأحقهم بالاهتمام والعطف وكان ما أديته له من معروف من أروع أعمالك وأجمل فعالك. فأعلم إذن لأن ليس ثم إلا وقت واحد يستحق منك الاهتمام ذلك هو (الآن) الذي تكون فيه. . . فهو الآونة الوحيدة التي تتملك فيها قوتك وقدرتك، وأحق الناس بأن تعنى به هو من يكون معك فأنت لا تدري إذا كنت

ص: 60

تعامل غيره بعد ذلك أو يكون هو آخر من تعامل! وأجل الأشياء وأعظمها شأناً هو أن تبادر بالخير والمعروف إلى غيرك فلهذه الغاية السامية فطر الإنسان في هذا الكون.

(القاهرة)

مصطفى جميل مرسي

ص: 61