الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 717
- بتاريخ: 31 - 03 - 1947
معروف الرصافي
للأستاذ عباس محمود العقاد
في هذا الكتاب دراسة أدبية للشاعر العراقي الكبير وبيئته السياسية والاجتماعية كتبها الأستاذ بدوي أحمد طبانة مدرس اللغة العربية وآدابها في دار المعلمين العالية ببغداد.
ونحن نرحب بهذا الكتاب وبأمثاله لأكثر من سبب واحد:
لأن تأليف الكتب عن الشعراء المحدثين بعد وفاتهم سنة حسنة لم نأخذ بها كثيراً في حياتنا الأدبية العصرية.
فقد يشتهر الشاعر ويسير شعره في الآفاق ويلتف به المعجبون والرواة المتشيعون. ثم تنقضي حياته فتنقضي العناية به وبشعره وتطويه كل سنة تمضي بعده في حجاب بعد حجاب، وقصارى ما يبلغه من بقاء الذكر أن يعاد طبع ديوانه إن كانت له ذرية يعنيها طبعه والإبقاء على شهرة صاحبه، أو كان طبع الديوان لا يكلف طابعيه مغرماً ولا مشقة. فأما الدراسة والتحليل وتخليد السيرة في الكتب التي تصلح للمطالعة والتداول فذلك عمل نادر في حياتنا الأدبية العصرية أو معدوم. لأن الذين ظفروا بعد موتهم بالكتابة عنهم لم يكن فضلهم كله مقصوراً على الشعر والعبقرية الشعرية، وكانت شفاعتهم إلى الذكر مناصب الدولة أو غير ذلك من الشفاعات.
ونرحب بكتاب (معروف الرصافي) مرة أخرى لأنه علامة من علامات التقارب بين الأقطار العربية في هذه الآونة التي وجب فيها التقارب بين هذه الأقطار وتهيأت له العوامل والأسباب. وكثيراً ما سمعنا العتب من أدباء العرب في سورية ولبنان وفلسطين والعراق والحجاز لأن صحف مصر لا تفسح صدورها للتنويه بآثارهم والتعقيب على أعمالهم، فكنا نقول لهم إن شأن أدباء العرب في ذلك كشأن الأدباء المصريين أنفسهم بغير خلاف. لأن الصحافة المصرية لا تكتب عن مؤلفات الأدباء المصريين ولا تتبع أعمالهم بالنقد أو الثناء، ومن المصادفات التي تذكر في هذا الصدد إن كثيراً من الصحف المصرية يتولاها أناس من أصول لبنانية أو سورية، فليس في الأمر تمييز بين أمم العرب بل هو تقصير شامل لكل أمة منها بلا استثناء.
أما إذا رجعنا إلى الشعب المصري - بمعزل عن الصحافة - فقد يكون إقباله على
المؤلفات العربية متى وصلت إليه أكثر من إقباله على المؤلفات المصرية، لأنه في هذه الحالة يضيف حب الاستطلاع وحب المجاملة إلى حب التقدير والاستفادة.
فالآن يسرنا أن نرى أديباً مصرياً يتجرد لدراسة شاعر عراقي كبير ويسبق أدباء العراق إلى هذه الدراسة وهي من واجب الأدباء في الأقطار العربية جمعاء، وقد أشار الأستاذ الجليل السيد محمد رضا الشبيبي وزير المعارف السابق بالعراق إلى هذا المعنى في مقدمته للكتاب فقال:(ومما راقني جداً أن يضطلع بها مؤلف مصري فيحوز قصب السبق في هذا المضمار على أدباء العراق) ثم قال: (وقد تصفحت الكتاب فإذا مؤلفه الأستاذ قد ألم بكثير من النواحي التي ينبغي الإلمام بها في هذا الشأن، فلم يفته البحث في بيئة الرصافي ومنشئه وسيرته وفنه وشاعريته إلى غير ذلك. وقد كون آراءه في النقد وذكر ما للشاعر وما عليه، والموازنة بين محاسنه ومساويه في الشعر والأدب تكويناً لطيفاً يدل على تجرد وإنصاف في كثير من فصول الكتاب).
وقد استعان الأديب المؤلف بجميع المؤهلات التي تندبه للكتابة عن شعر الرصافي وأدبه ومسيرة حياته. لأنه عاش حيث عاش واطلع على معاهد شعره وسيرته، وانطوى له على إعجاب يتيح له أن يفهمه وينصفه وأن يعطف على موضوع دراسته. وربما كان العطف على موضوع الدراسة أول شرط من شروط التأليف في ذلك الموضوع، فإن الناقد الذي يدرس شاعراً أو كاتباً أو رجلاً من رجال تاريخ كائناً ما كان لا يراد منه أن يتعقبه تعقب الغريم أو يدينه إدانة القاضي أو ينظر إليه نظرته إلى غريب لا يعينه أمره ويستوي عنده إنصافه وظلمه. وإنما يراد منه أن يشعر بشعوره وأن يخلص إلى بواطن نفسه، ولا سبيل له إلى ذلك بغير عطف وصداقة نفسية تعينه على الفهم الصحيح.
ولكن هذا العطف لم يمنع الأديب المؤلف من نقد الشاعر حيث يجب نقده في أدبه أو خلقه كما قال الأستاذ الجليل مقدم الكتاب. فمن أمثلة ذلك إنه أنكر عليه التبذل في الغزل فقال: (وله إلى جانب هذا الهوى المتوزع والقلب المتفرق غزل مبتذل ووصف مكشوف لا يتورع فيه الرصافي عن ذكر الخفيات وإنداء العورات في غير تحفظ ولا احتشام، مما يأباه العقل الحكيم ويمجه الذوق السليم، وما كان يليق منه ولا يقبل هذا وهو الذي جعل شعره صورة لمجتمعه وقائداً لأمته، ولا سيما بعد ما عرف إقبال الناس على آثاره وحفظهم
لأقواله).
وللنافذ حق في هذا النقد المتفقد عليه. ولا عذر للرصافي فيما يعاب من تبذله إلا إنه وارث من وراث مدرسة العباسيين في بغداد. وقد أطلعت تلك المدرسة أبا نواس والبحتري كما أطلعت الشريف وأبن المعتز. ولا تحسب أن أدباء العصر في العراق يعدون هاتين المدرستين في أسلوب النظم ووجهته. فمن جنح إلى مدرسة الشريف وأبن المعتز فهناك اللفظ الجزل والنمط الرفيع والغزل العفيف، ومن جنح إلى مدرسة أبي نواس فقد يجمح جماحه أو يتبعه في التمرد وخلع الربقة والرقبة في بعض الأمور. فيقف عند الثورة على القديم ولا يتطوح معه في الخلاعة والمجون. . . ولابد للمدرسة من الجناح المتطرف كما يقولون في لغة الحرب والسياسة، فكان الرصافي ذلك الجناح وعليه جناحه ولا مراء!
على أن الأستاذ طبانة قد أفلح ولا شك في إبراز محاسن الشاعر وتشويق القراء إلى استقصاء شعره في مظانه؛ فإن الشواهد التي أتى بها في سياق الترجمة إما حسنات أدبية تروق القارئ لما فيها من الظرف والبلاغة والسجايا المأثورة كقول الرصافي يخاطب وطنه:
يا موطناً لست منه في موادعة
…
عش بعد موتى عيش الوادع الهاني
فكل من فيك تعنيني سعادتهم
…
وكل أبنائك الأعداء إخواني
إن سرّك الدهر يوماً سرني، وإذا
…
آذاك بالمزعجات الدهر آذاني
أو قوله في الهجاء:
سوّد الله منك يا شيخ وجهاً
…
غش حتى باللحية السوداء
لو نتفنا من شعرها وغزلنا
…
لنسجنا خمسين ثوب رياء
أو قوله في الرد على من يعيبون ظهور الفتاة على مسارح التمثيل:
وما العار أن تبدو الفتاة بمسرح
…
تمثل حالي عزة وإباء
ولكن عاراً أن تزيا رجالكم
…
على مسرح التمثيل زي نساء
فإن لم تكن الشواهد من هذا القبيل فهي مراجع تاريخية يهم القارئ أن يتابعها للوقوف على مناسباتها، وهي على الجملة مناسبات الشرق الحديث في معرض السياسة والاجتماع.
ولم يبرز الأستاذ طبانة فضائل الرصافي وكفى؛ بل هو قد أبرز من فضائل أهل العراق ما
تضرب به الأمثال في تواريخ الأدب بين جميع الأقوام، فنحن لا نرى في تلك التواريخ أمثلة كثيرة لمروءة ذلك المحسن الأريحي السيد (مظهر الشاوي) الذي تكفل بالشاعر في شيخوخته ومنحته فأجرى عليه أربعين دينارً مشاهرة مدة حياته، ولا نرى في تلك التواريخ وفاء كثيراً كالوفاء الذي ظهر من أهل بغداد في تشييع الرصافي إلى مثواه. فكل ما أنكروه عليه أيام حياته من تمرد أو خروج على العرف والعقيدة لم يذكروه ساعة فارق الحياة؛ بل ذكروا له الفضل وحده غير معتز بصولة الجاه أو حواشي المنصب والثراء، فشيعوه ألوفاً إلى مقره الأخير.
عباس محمود العقاد
منطقة إنطاكية وخليج الاسكندرونة
للأستاذ أحمد رمزي بك
لمعت كناصية الحصان الأشقر
…
نار بمعتلج الكتب الأحمر
وفتحت إنطاكية الروم التي
…
نشزت معاقلها على الاسكندر
وطئت مناكبها جيادك فانثنت
…
تلقى أجنتها بنات الأصفر
هذا شعر للأبيوردي خاطب به ملكشاه بن ألب أرسلان حينما فتحت الدولة السلجوقية إنطاكية، ولست أعرف ركناً من أركان الدنيا برز في التاريخ بروز هذه البقعة من الأرض، فقد لفتت أنظار الإنسان منذ بدأ يفكر وينظم حياته، فما تأسس ملك أو سيادة أو ظهرت قوة فنية أو دعوة دينية إلا وجعلت من أول أهدافها امتلاك هذه البقعة التي شهدت مصارع الدول، وحمل صعيدها إزراء الحروب وما يتخللها من إزهاق الأرواح، ذلك تاريخها في القرون الغابرة وهذا عهدنا بها اليوم في تاريخنا الحديث. لقد شغلت رجال السياسة بعد الحرب الماضية واهتمت بمصيرها هيئة عصبة الأمم، ثم كان من نصيبها أن ضمت إلى أراضي الجمهورية التركية وبقيت معها طول الحرب العالمية الثانية، وما انتهت هذه أو قاربت نهايتها واستقلت سوريا، حتى قامت تطالب بها، ولا يعلم غير علام الغيوب ما تخبئه لها الأقدار والأيام القادمة.
وإذا ورد ذكر هذه البقعة برز اسم مدينة إنطاكية لأنها رأت من السعد والعظمة في زمن ملكها أنطيوكس الكبير (223 - 187 ق. م) ما جعلها سيدة المدن. فكان أن أصبحت حاضرة سوريا وفاقت غيرها في الثورة والعلوم والمتاجر، ولما دخلت تحت سلطان روما حصل أهلها على حقوق المواطنين في الدولة الرومانية، وإذا بها قد أصبحت إحدى عواصم ثلاث كبرى: روما والقسطنطينية وإنطاكية.
ولقد حاول بعض مفكري الغرب من الفرنسيين أن يجلعوا من ملك أنطيوكس تتمة لملك الإسكندر ومن أثر عمله تكملة لسلطان الغرب على الشرق، ودليلاً على تفوق العقل اليوناني على العقل السامي، والصورة التي أعطاها العهد القديم والمؤرخ يوسيفوس للعاهل اليوناني تنبئ بأنه كان ملكاً مستبداً جباراً، فقد ورد عنه في كتاب المؤرخ اليهودي ما يأتي: (إنه دخل مصر بجيش كثيف وعجلات وفيلة وأسطول عظيم فاستحوذ عليها ثم قوى أمره
وعظم شأنه حتى استولى على كثير من الأمم وأطاعته ملوك فارس وغيرهم من الملوك فداخله العجب والكبرياء وطغى وتجبر وسبب الكثير من الآلام لأهل المشرق).
فهذه القوة التي طغت على الشرق يقول عنها الكاتب الفرنسي إنها بقية من عبقرية الإسكندر، وإن بقاءها كان من ضرورات بقاء الاصلح، لأنها تحمل قبساً من روح الهيلينية إلى الشرق، وإنها قوة دافعة منظمة منشئة لأنها أدبت الناس وأخذتهم بالسيف وعلمتهم ما لم يعلموا. ولكن روما لم تلمس الحقائق حين ساقت كتائبها وأخذت إنطاكية مركز هذه الحركة ولذلك لما حطمت الممالك والعروش التي أنشأها أتباع الإسكندر، كانت تحارب نفوذ الهيلينة في الشرق وكانت تحطم بأيديها سيطرة الغرب على الأمم الشرقية. فروما حينما تنازعت مع أهل إنطاكية وقضت على عظمتهم مهدت لشعوب الشرق عودة، بدأت بقيام الفرتيين أو البارتيين وهم قوم عرفوا بشدة المراس والصبر على القتال، وظهرت غضب اليهود بحركة المكابيين وتطورت بظهور المسيحية ضد هذا التحكم ثم في مذاهبها المختلفة التي يعبر عنها بالكنائس الشرقية، والتي تعتبر نفثة ضد استحواذ أهل الغرب على المسيحية وهي شرقية في أصولها ومبادئها ومراميها، وما كان هذا ليحدث لولا اختلاف الكلمة وتعارض المصالح بين روما والإغريق المحتلين لأراضي الشرق، فلو تم بينهم التعاون والتفاهم والتآزر والتكاتف وما تمليه وشائج القربى. لما تهيأت الأسباب لقيام الشرق مرة أخرى، ولما تفاعلت العوامل التي مهدت السبيل أمام جيوش المسلمين فاستولت بعد قرون قليلة على إرث روما وبيزنطة وما أنشأه الإسكندر من مجد وملك قبل ذلك. وتلك دعوة لها خطورتها لأن معناها إن الخلاف الذي قام بين فرنسا وبريطانيا على سوريا ولبنان يمثل النزاع الذي نشب بين روما وأهل إنطاكية في المشرق وأن الإمبراطورية البريطانية تلعب اللعب الخطرة التي أخذت بها الإمبراطورية الرومانية منذ عشرين قرناً فهي قد قضت على نفوذ فرنسا وأبعدتها عن سواحل البحر الأبيض المتوسط في شرقية، كما زحزحت روما نفاذ الهيلينية عن هذا الشاطئ، فكانت النتيجة أن خرج الشرق من تحت سيطرة روما واليونانيين وتقلص حكم الغرب عن أمم المشرق، فإياكم أن يحدث لكم ما حدث للقدماء من قبل ويخرج الشرق من يد بريطانيا وفرنسا على السوء.
وإنما سقنا هذا الحديث للتدليل على أثر هذه البقعة من الأرض في عقول القوم من ناحية
السيطرة الفكرية والرغبة في التحكم على مقادير الشعوب من شباك يطل علينا ويثير لنا الكثير من المشاكل. ولقد نظرنا إليها من الوجهة التي يرى بها رجل الفكر الغربي فلنجرب نظرة رجل الدين.
كانت إنطاكية مثل الإسكندرية ميداناً للتنازع بين الوثنية والمسيحية، ذلك التنازع الذي انتهى بانتصار الفكر السامي ممثلاً في تعاليم معلم الناصرة، ولكن إنطاكية فاقت الإسكندرية في ناحية أثرها في حياة المسيحية، فكلتا المدينتين أوتيت حظها من حياة الترف واللهو والخلاعة والتغاضي عن الفضيلة. ثم قامت في كل منها دعوة للخير والصلاح وترك الدنيا والابتهال إلى الله، ولكن النكبات المتتالية وخصوصاً الزلازل المدمرة جعلت أهلها في حيرة منها، وأخيراً قر رأيهم على أن يطلقوا على إنطاكية اسم (مدينة الله) وتحصنوا بالفضائل وجانبوا الرذائل وتقربوا بهذا لله زلفى؛ وكان أن عرفت مدينتهم وسط مدن العالم بأنها حازت سلطان الحياة الدينية، وإذا بكرسيها يتلألأ وسط كراسي ملكوت السماء، ويقول عنها الناس: ليس في المسيحية كلها بعد روما سوى إنطاكية الخالدة.
ولذلك لا تعجب إذا وجدت عدداً من رؤساء الطوائف المسيحية يضعها في المكان الأسمى من نعوته وألقابه الكهنوتية فيقول كل منهم إنه صاحب كرسي إنطاكية وسائر الشرق. وهم على حق في ذلك لأن أنوار المسيحية أشرقت على الأرض من هذه البقعة، وانتقلت من مواجهة إسرائيل إلى مواجهة الدنيا، وفي ذلك يقول القديس لوقا:(وكان الذين تبددوا من أجل الضيق قد اجتازوا فينيقية وقبرص وإنطاكية وهم لا يكلمون أحداً بالكلمة إلا اليهود، ولكن قوماً منهم كانوا قبرصيين وقيرارتيين فهؤلاء لما قدموا إنطاكية أخذوا يكلمون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع).
ففي إنطاكية تحولت الدعوة إلى حركة عالمية. فهذا أثر من تأثير هذه البقعة الفريدة، التي كانت قبلة الدنيا ومجمع مدنية الشرق مع مدنية الغرب، ولو أدركتها المسيحية وهي في أبنا مجده وسطوتها؛ أي لو تقدمت قرنين من الزمن حينما كانت إنطاكية حاضرة سوريا وقد فاقت قرطاجنة وصور وصيدا، فالأغلب على الظن إن كانت تأخذ إنطاكية في عالم المسيحية مكان روما.
ويجمع المؤرخون على إن إنطاكية كانت مركزاً هاماً للدعوة المسيحية في القرن الرابع
وإن كان هناك من يقرر بأنها كانت منذ البداية أول مركز أرسل منه المبشرون المسيحيون إلى أقطار العالم، وظهر فيها القديس يوحنا فم الذهب بل كانت مسقط رأسه وسطعت فيها أعماله ومعجزاته، وكان أهلها مائتي ألف نسمة دخل نصفهم في الدين الجديد وتصدروا الدعوة إليه، ولذلك تذكرها الكتب المسيحية بأنها المدينة الأولى في العظمة بعد روما، وإنها تأتي في تاريخ الكنيسة بعد القدس، وهذا ما جعلها مكاناً يؤمه أهل التقوى والصلاح والعبادة ويهرع إليها الزوار لرؤية ما كانت تحويه من قبور القديسين والأبرار وما عرف عنها من العجائب والمعجزات.
فمدينة هذا تاريخها يأتي ذكرها دائماً في الكتب المقدسة وفي تاريخ الكنيسة ويتكرر هذا الاسم في الطقوس والصلوات ويرد في ألقاب رجال الدين من مختلف الطوائف والمذاهب، لا شك في مكانتها وعظمتها واحترامها في قلوب الناس، وإن مجرد ذكر اسمها يحرك ذكريات عزيزة على النفس، وهذا ما تؤكده الآيات الواردة في أعمال الرسل. (ثم خرج برنابا إلى طرسوس في طلب شاؤل ولما وجده أتي به إلى إنطاكية، وترددا سنة كاملة في هذه الكنيسة وعلما جمعاً كثيراً حتى إن التلاميذ دعوا مسيحيين بإنطاكية أولاً).
أحمد رمزي
حديث عن دمشق
للأستاذ علي الطنطاوي
دخلت مخزناً أمس أشتري منه شيئاً، فسمع لهجتي الشامية شيخ هم كان هناك، أبيض الشعر كأن رأسه ولحيته الثغامة، فإلتفت إلي وقال:
- أنت من دمشق؟
- قلت: نعم.
فسطع على وجه نور، وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة، مرت في رأسه، وأخذ بيدي هاشاً لي باشاً بوجهي، فأقعدني معه، وقال لي:
أهلاً بك، أهلاً وسهلاً، تشرفنا يا ولدي، فتعال. تعال حدثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي، وزاد إليها اشتياقي، حدثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن (الميزان). ألا يزال الميزان مثابة الطهر، ومعبد الجمال، وجنة الدنيا؟ ألا يزال السراة والتجار يصلون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حق النفس بالتأمل، كما قضوا في المساجد حق الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين، ويعطيهم نعيم الدارين؟ ألا يزال زاخراً بحلق الأحباب، وجماعات الصحاب، عاكفين على (سماورات) الشاي الأخضر (وسكى) المسلمين، يشرفون على (قنوات) و (باناس) وهما يخطران على العدوة الدنيا متعانقين متخاصرين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمين خلال الورد والفل والياسمين، كزوجين في شهر العسل، يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة، فيلقيان عليها حجاباً من زهر المشمش والدراقن والرمان، وعلى العدوة القصوى زوجان آخران حبيبان، يمضيان يتناجيان ويتخالسان القبل:(يزيد) و (تورا)؟ وبردى! ألا يزال يدب في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسماً إلى بنيه ثم يلوي عن مشهدهم بصره، وينطلق في طريقه لا يبالي. عاف الحب ومل الغرام، وعلمته تجارب العمر، إن كل ما في هذه الحياة باطل، إلا ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو متاع زائل؟ وقاسيون الجد العبقري الذي عاش عشرة ملايين سنة وما أنفك شاباً، وشاخ أبن أخيه بردى ولم يشخ، ألا يزال قاسيون قاعداً قعدة ملك جبار، قد رفع رأسه ومد ذراعين له من الصخر، فأحاط بهما دمشق وغوطتها، من الربوة إلى برزة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها، كما تنام الحبيبة إن أضناها
النعاس على ركبة الحبيب، واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل الوليد بصدر الأم الرؤوم؟ والشمس! ألا تزال الشمس تضحك لبردى وأبنائه، وتستخم أنوارها في مائة، وتسبح أشعتها في سمائه؟
و (صدر الباز) و (مصطبة الإمبراطور) و (الصوفانية) و (الشاذروان)؟ حدثني عنها. . . حدث عن دمشق، ألا يزال الناس يعيشون في دمشق للخير والجمال؟ ألا يزال التجار يخرجون من صلاة العصر، فيغلقون دكاكينهم ويمضون إلى بيوتهم، إلى أولادهم وأهليهم، ثم يتعشون المغرب، ويؤمون المساجد فإذ صليت العشاء خرجوا، فمنهم من عاد إلى داره ومنهم من ذهب إلى الدرس ومنهم من مشى إلى (الدور). . .
قل لي: ألا يزال (الدور) يجمع الإخوان المتآلفين، والأحبة المتصافين، يسمرون كل ليلة في منزل واحد منهم ينشدون الأشعار ويسوقون النوادر، ويروون المضحكات، ويطالعون الكتب، ويتجاذبون الحديث، ويأكلون أوان الحلويات؛ ويشربون الشاي، ثم ينصرفون إلى دورهم، وقد استمعوا أو في ما يكون الاستماع، وسروا أكثر ما يكون السرور، وما غشوا قهوة، ولا أمسوا ملهى، ولا جالسوا غريباً، ولا أتوا محرماً، ولا أنفقوا في غير وجهه مالاً؟
ألا تزال منازل المشايخ غي (زقاق النقيب) و (حمام أسامة) و (القيمرية) معاهد إرشاد، ومدارس علم، ودارات ملوك؟ قل لي: من بقى من تلك الأسر العلمية؛ آل حمزة وآل عابدين والطنطاوي والعطار والخاني والطيبي والشطي والأسطواني والكزبري والعمادي والمحاسني والمنيني والخطيب؟ ألا يزال فيها العلماء الأعلام أم تنكب الخلف طريق السلف، واستبدلوا الدنيا بالدين، والمال بالعلم، والمنصب بالتقوى؟ والعلماء ألا يزالون أعزة بالدين، يعرضون عن الملوك فيسعى إلى أبوابهم الملوك، ويزهدون الدنيا فتقبل عليهم الدنيا، ويهربون من الولايات والمناصب فتلحقهم المناصب والولايات؟ ألا يزال الناس يعكفون في دمشق على العلم لا يريدون به إلا الله والدار الآخرة، يثنون لذلك ركبهم ويحيون ليلهم، ويكدون نهارهم، ويقنعون في أيام الطلب بما سد الرمق، وحمل الجنب، وستر العورة، لا يسألون عما غاب من ذلك أو حضر، قد فكروا في غيره، وأقبلوا على سواه، فكان العلم أملهم، وكانت المطالعة شغلهم، وكان ثواب الله مبتغاهم، قد صغرت الدنيا في أعينهم حتى إنهم لم يروها ليتكالبوا عليها، ويذلوا من أجلها، و (يضربوا) عن التعلم إن
لم يصلوا إليها؟ ألا تزال هذه المدارس عامرة، يجيئها الطالب؛ فينام في غرفها، ويستمع من مشايخها ويأكل من أوقافها، ويجعلها دنياه لا دنيا له وراء جدرانها: العمرية والمرادية والنورية والبادرائية والقلبقجية ودار الحديث وجامع التوبة وباب المصلى والدقاق ومدرسة الخياطين وأمثالها. ألا تزال زاخرة بالطلاب عامرة بالعلم، عاملة للإصلاح؟
ومنازل دمشق! ألا تزال تلك المنازل الواسعة الصحون، ذات الظل والماء، والبرك والنوافير، والأشجار والزهور، والدواوين والمجالس، والصيانة والستر، فهي من خارجها مخازن تبن، ومن داخلها جنات عدن، وهي مصيف ومشتى، وهي مسكن وملهى، وهو دار وبستان.
ألا تزال في دمشق الأسرة كلها تعيش في المنزل الواحد: الجد والأب والأعمام والأولاد، ونساؤهم وأولادهم، ثم لا تجد خلافاً ولا شقاقاً، ولا دساً ولا كيداً، الصغير يوقر الكبير ويطيعه والكبير يرحم الصغير ويحبه، وكل يؤثر على نفسه، ولا يحب لغيره إلا ما يحب لها؟
ألا تزال المرأة لبيتها ولزوجها، لا تقيس الطرقات، ولا تقصد الأسواق، ولا تعتاد منازل الخياطات. إن احتاجت شيئاً اشتراه لها بعلها، وإن أرادت زيارة أهلها ذهب معها، وإن اشترت ثوباً خاطته بنفسها، والحجاب سابغ، والشهوات مقموعة، والزواج شامل. لا يبلغ الولد عشرين إلا وله ولد، ولا تصل البنت إلى الثامنة عشرة إلا ولها ولدان؟
والبوابات! هل زالت البوابات، التي كانت تغلق كل ليلة بعد العشاء وتسد الطرقات في وجوه لصوص الأموال والأعراض فلا تفتح إلا لقاصد بيته، أو ذاهب في حاجة مشروعة؟
والأحياء! ألا يزال في كل حي عقلاؤه وسادته، يسعون لخيره، ويعينون عاجزه، ويسعدون فقيرة، ويأخذون من فضل مال الغني ما يسد خلة المحتاج، وإذا رأى أحدهم غريباً في الحي سأله من هو وما يكون، فلا يدخل الحي إلا رجل شريف. وإن شاهد امرأة متبرجة نصحها وزجرها، وبحث عن وليها ليحميها. وإن علم بأن داراً ترتكب فاحشة، عقد مجلساً فدعا المؤجر والمستأجر وكانت المحاكمة التي لا تؤدي إلا إلى منع الفاحشة في غير ظلم ولا عدوان، فكان الحي كله كالأسرة الواحدة، وكان البلد مجموعة أسر كلها خير فاضل نبيل؟
ألا يزال الناس على وئام وسلام، فلا نزاع ولا خصام، يعرف كل منهم حقه فلا يطلب إلا
أقل منه، ويعرف ما عليه فلا يقصر في أدائه، وإن اختلفوا رجعوا إلى العالم ورضوا بحكمه لا يعرفون المحكمة إلا إن استحكم الخلاف، وقلما كان يستحكم الخلاف؟
ألا يزال القاضي الشرعي مرجع كل خصومة، ومصدر كل حكم، يحكم في كل قضية بشرع الله، فلا تطويل ولا تأجيل، ولا مراوغين ولا محامين؟
ألا يزال كل ما يحتاج إليه الناس يصنع في دمشق، فلا يأكلون إلا حاصلات بلادهم، ولا يلبسون إلا نسيج أيديهم، ولا يتداوون إلا بعشب أرضهم، لا يدفعون أموالهم إلى عدوهم، ولا يعينونه بها على أنفسهم؟
ألا يزالون سعداء راضين، قد انصرف العالم لعلمه، والتاجر لتجارته، والطالب لدرسه، والمرأة لبيتها، لا يشتغل أحد بغير شغله، ولا يدخل فيما لا يعنيه، قد تركوا السياسة لنفر منهم أخلصوا لهم فوثقوا بهم، ورأوا أمانتهم فأعطوهم طاعتهم، ورأوهم لا يسرقون مالهم، ولا يمالئون عدوهم، ولا يضيعون مصالحهم، فلم ينفسوا عليه زعامتهم، ولا ضيقوا عليه مكانتهم؟
فقلت للشيخ: منذ كم فارقت دمشق يا سيدي؟
فتنهد وقال: منذ سنة 1897، فارقتها شاباً، ولم أدخلها بعد ذلك أبداً.
فرحمت الشيخ أن أفجعه في أحلى ذكرياته، وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته فتلطفت فودعته، ولم أقل له شيئاً، وماذا أقول؟
أأقول له: إن أهل الشام قد انصرفوا عن صدر الباز والميزان والصوفانية والشاذروان وأهملوها حتى صارت مزابل، لأنهم آثروا عليها العباسية والهافانا وشهرزاد ونادي الصفا؟
وإنهم هجروا منازلها التي كانت جنات، ليسكنوا كالإفرنج في طبقات كأنها سجون أو مغارات، وإن أبناء العلماء الأتقياء، صاروا من الفساق الجهلاء، وإن مدارس العلم هدمت أو سرقت، وإن غرفها احتلت لتكون مساكن أو قهوات أو مخادع للشهوات، وإن طلبة العلم الديني يطلبونه للمناصب والمراتب والأموال والرواتب، وأن الأسر انصدع شملها، وتفرق جمعها، وإن النساء ملأن اليوم الطرقات، وأممن المخازن والسينمات، وعاشرن الشبان في المدارس واللهيات، وإن البنات كسدن في البيوت، لما آثر الشباب اللهو على الزواج، والسفاح على النكاح، وأن الأحياء غلب عليها سفهاؤها، وضعف عن حكمها عقلاؤها. وإن
الناس اختلفوا وتنازعوا، وفشا فيهم الغش والخداع، وإن المحاكم هجرت شرع الله وحكمت بقوانين فرنسا. وإن الناس تركوا أشغالهم واشتغلوا بالسياسة. وإن الزعماء طلبوا المال والجاه، وآثروا مصالحهم على مصالح الناس. وأن الموظفين غلبت عليهم الرشوات والبراطيل والسرقات، وإننا تركنا مصنوعات بلادنا وكرهنا أزياءها، وتعلقنا بأذناب الغربيين، وأعطيناه أموالنا. وإنه قد إرتفع الوفاق وحل الشقاق، وذهب الرخاء وجاء السخط، فالرجل يختلف أبداً مع زوجته، والأب ينازعه أبنه، والشريك يسرقه شريكه، وليس فينا راض ولا قانع ولا سعيد، ما فينا إلا شاكٍ باكٍ، كاره الحياة، متمنٍ الموت. . . ثم إننا لم نحس إن هذا كله من لعنة هذه المدنية الغربية، ومن ثمراتها المرة التي لا يمكن أن تثمر غيرها. . .
ولكن لا، فإن في دمشق خيراً كثيراً، لا يعرف خيرها إلا من يعيش في غيرها، إن دمشق التي يصفها الشيخ لم تمت، ولا تزال تتردد ذماؤها، فإما أن تنعشها (رابطة العلماء) ويمدها الإخلاص بالقوة حتى تنقذها، وإما أن يغلب القضاء، فيموت المريض تحت يد الطبيب. . .
ولن تموت دمشق الإسلامية بحول الله أبداً!
علي الطنطاوي
الشاعر خليل مطران
للأستاذ حبيب الزحلاوي
جسم نحيل معروق، ونظرات لامعة أخاذة، وصوت مبحوح لاهث من حنجرة صلبتها الأعوام الثمانون وقد ناهزها، وهو بالرغم منها على أحسن ما يكون اتقاد الذهن، ومضاء العزيمة، وخصب الإنتاج.
يمتاز مطران بالخلق الكريم، والحديث العذب، والسعي في الخير، ثم بشاعرية فريدة في نوعها.
يعود خلقه الكريم إلى أرومته الكريمة وتربيته الأرستقراطية المترفعة وإلى نحيزة هادئة ترى المداورة والصبر والاتئاد في التصعيد لبلوغ القمة خيراً من الانقضاض عليها كالنسور الجبارة.
وهو محدث بارع ينضح من ينابيع غزيرة وإطلاع ثقافي عام من أدب العرب والإفرنج قديمه وحديثه، لا يتفلسف مع الفلاسفة، ولا يتعالم مع العلماء، ولا يشعل مصباحه للعميان، يعطي من أدبه بقدر حاجة الطالب، ويهبط أو يرتفع وفق فهم السامع وإدراكه، وهو عف اللسان نصير الغائب، قليل الغضب، كثير التسامح.
من سجاياه سعيه للخير، وهو يتراخى وقد يتكاسل في السعي لخيره الخاص، ولكنه لا يتوانى ولا يتقاعس في السعي لفك ضيق، أو حل مشكلة، أو دفع نازلة، أو إزالة خصومة، أو تزويج فتاة من أية طائفة أو ملة كانت.
يعطي المعوز ما يستدره من مال الغني، وينتزع الدراهم من الشحيح البخيل ويأخذ الدينار من السخي الكريم يقيل بهما عثرات العاثرين.
ما قامت جمعية للبر، أو مؤسسة للخير، أو دار للشفاء، أو تألفت جماعة لعمل من الأعمال إلا وكان مطران من أوائل القائمين بها، وما نشأت بين السوريين واللبنانيين منشأة إلا وكان مطران من الساعين إلى إنشائها، وما شجر بين الطامعين أو بين محبي الظهور شجار على رئاسة أو عضوية في مجلس إلا وكان مطران أول المتنازلين عن الرئاسة أو العضوية حباً بإحلال الوئام محل الخصام. . .
هو ذا مطران الإنسان وقد حدد أمنيته في الحياة بقوله: (أمنيتي أن أجتاز طريقي دون أن
أسيء إلى أحد).
مشى مطران وشوقي وحافظ في جادة أدبية واحدة، وما لبث أن سلك كل منهم مسلكاً خاصاً به، وأزعم أن لا مناص لمن يتصدى لدراسة شعر مطران عن معالجة أربعة أنواع من الشعر انفرد بها مطران وحده دون معاصريه من الشعراء.
الأول: شعر المناسبات وينطوي فيه تاريخ حقبة من الزمن تبتدئ في الربع الأخير من القرن الماضي تشمل الأحداث الاجتماعية والشخصية والفردية.
الثاني: الوصف وفيه صورة تريك الموصوف كما برأه خالقه وكما كيفته الطبيعة حساً ومعنى.
الثالث: التحليل وهو ملاحم كبرى خص بها عظماء التاريخ وشعوبه وما كانوا عليه من صفات وخلائق وسجايا، وما في فطرتهم من ظلم وجود وطغيان.
الرابع: إبراز أقيسة اللغة ومقادير ثروتها في المفردات للتعبير عن ملكات النفس.
تجمع لمطران من شعره ما يملأ سبعة دواوين معدة للطبع منها واحد للأراجيز في أدب النفس، وترجم عن الفرنسية ثلاث عشرة رواية تمثيلية لشكسبير وراسين وكورنيل وهيجو وترجم أيضاً كتاب الموجز في علم الاقتصاد في خمسة أجزاء وألف كتاب (مرآة الأيام في التاريخ العام). ولم تخل صحيفة خلال هاتيك الأعوام، على مر الأيام من بحث أو درس أو تقريظ أو نقد لمطران، ولم يعتب منبر نضب في مجمع للأدب أو للخير أن لم يعتله مطران.
هو ذا شاعرنا الذي تحتفل به الأمم العربية اليوم في مصر، وهذه لمحات خاطفة من أدبه الخالد وخلقه الكريم.
حبيب الزحلاوي
مراجعات في الفلسفة:
نظرية المعرفة عند شوبنهور
للأستاذ عبد الكريم الناصري
يستهل شوبنهاور (1788 - 1860) أثره الرئيسي (العالم كإرادٍ وفكرة) بقوله: (العالم فكرتي). ولأجل أن يفهم معنى هذا القول على وجهه الصحيح يحسن بنا أن نقدم له بكلمة موجزة في نظرية المعرفة عند فيلسوفين، أحدهما أيرلندي هو بركلي (1685 - 1753)، والآخر ألماني هو كانت (1724 - 1804).
ونظرية الأول تتلخص في عبارته المشهورة: (وجود شيء أن يدرك) أو (الوجود هو الإدراك). فقد كان (لوك) ميز بين (الكيفيات الأولية) و (الكيفيات الثانوية) للموضوعات الخارجية. فالأولى، كالامتداد والشكل والحركة، توجد في الأشياء أنفسها بصرف النظر عن العقل. أما الثانية، كالألوان والأصوات والروائح، فلا وجود لها خارج الحس والعقل المدرك. وقضى بذلك على فكرة (الجوهر المادي) وجعل العقل هو المحل أو الحامل للموضوعات، وكل ما تتصف به، من امتداد وشكل وحركة وزمان وأصوات وأضواء وألوان. فكل هذه الأمور لا يمكن أن تقوم، أو تتصور، مستقلة عن الذات المدركة؛ ومن هنا كان من المناسب تماماً أن تدعى (أفكارا). ويقول بركلي هنا: إن أحداً لا ينازع في إن ذكرياتنا وتصوراتنا وتخيلاتنا إنما توجد في الذهن، ولا يمكن أن توجد بمعزل عنه؛ ولكن لا يقل عن هذا بداهة أن الاحساسات أي (الفكرات) المطبوعة على الحس، على اختلاف مركباتها، أي الموضوعات الخارجية المركبة منها، لا يمكن أن توجد إلا في ذهنٍ مدركٍ. وتتضح هذه الحقيقة كل الوضوح حين نتدبر معنى لفظة (الوجود) أو (الموجود) كما تطلقان على موضوعات الحس. فما عساي أعني حين أقول إن هذه المائدة موجودة؟ أتراني أعني شيئاً غير إني أبصرها وأحسها؟ وإذا كنت خارج الغرفة، وقلت إن المائدة موجودة، أتراني أعني شيئاً غير أنني لو كنت في الغرفة إذن لأبصرت بها، أو إن هناك ذهناً آخر يدركها؟ - لقد كانت ثمت رائحة: هذا معناه أني مشممتها؛ كان ثمت لون أو شكل، أي أني أدركته بالبصر أو اللمس. هذا، كما يقول بركلي، هو كل ما يمكن أن يفهم من أمثال هذه التعبيرات. أما القول بوجود الموضوعات المادية وجوداً مطلقاً فقول متهافت،
غير مفهوم أبداً. فإن وجود الأشياء أن تدرك ولا يمكن أن يكون لها أي وجودٍ خارج الأذهان التي تدركها.
ومن هنا فالمعرفة تتألف من عنصرين مختلفين، هما الموضوع أو الفكرة المعروفة، أو الذات العارفة. وليس يوجد إلا المدرَك أو المدرِك.
ولنلاحظ هنا إن كون الموضوعات المحسوسة فكراتٍ في العقل لا ينفي ما بينها وبين الأخيلة والتصورات من فروق هامة؛ كما إن إنكار (الجوهر) المادي لا يعني إنكار واقعية العالم المادي، وإنما معناه إنكار أن تكون هذه الواقعية مستقلةً عن العقل، وأن يكون للموضوع المادي وجود مطلق لا يتوقف على الذات المدركة.
ونظرية شوبنهاور في العالم الخارجي لا تختلف في جوهرها عن نظرية الأسقف العبقري، ومع ذلك فإنه يسلك إلى نظرية المعرفة طريقة (كانت)، ويستعير من مؤسس (النقد) لغته وأسلوب تفكيره. فلا مفر إذن من إلقاء نظرة، ولو عامة خاطفة، على نتائج نقد العقل الخالص (النظري)، بمقدار ما تتعلق هذه النتائج بموضوعنا.
لقد وضع (كانت) حداً حاسماً بين الشيء في ذاته، أو العالم المعقول، وبين الظواهر، أو العالم المحسوس. فالأول خارج المكان والزمان، وخارج نطاق المعرفة الإنسانية. أما الثاني فزماني مكاني بالضرورة، وداخل في نطاق المعرفة، والمعرفة العلمية مقصورة عليه، لا يمكن أن تتخطاه، فلا علم إلا العلم (بالظاهر) وقوانينه. وإنه لعلم صحيح ضروري، لهذا السبب: وهو إن العقل نفسه هو الذي يبدع عالم الظواهر، أو يشارك على الأقل في إبداعه، ويستن له قوانينه، ويخلع عليه شكوله الثابتة.
فالعالم المحسوس يقوم بالضرورة في إطارين: هما المكان والزمان. ولكن هذين الإطارين لا يرجعان إلى الأشياء في أنفسها، وإنما هما (صورتنا خالصتان) لحساسية العقل: ميدان فطريان قبليان، لا وجود لهما خارج الذات الحساسة المدركة. إنهما في الواقع (إسلوبان) أو (وسيلتان) لإدراكنا الأشياء، فلا سبيل إلى إدراك هذه إلا إذا دخل في المكان والزمان، وانطبعت بهذا الطابع العقلي الأجنبي عنها، وتحولت بذلك عن طبيعتها الأصلية، إنهما شرطا إمكان الإدراك والمعرفة؛ وبما إن معرفة الموضوعات هي ما ندعوه (بالتجربة) فالمكان والزمان إذن شرطاً إمكان التجربة، وعليهما تتوقف كل تجربة، واقعة أو ممكنة،
فلا يمكن أن يكونا مشتقين من التجربة، لأن الشرط يتقدم على الشروط، وإنما هما سابقان عليها أو هما (قبليان). ولذلك ترانا نستطيع أن نتمثل المكان والزمان خاليين من كل موضوع، تمثلاً عيانياً مباشراً، ولكننا لا نستطيع أن نتمثل الموضوعات بمعزل عن الزمان والمكان. ومؤسس النقد يسمى هاتين الصورتين، معتبرتين في نفسيهما، (بالعيان الخالص) كما إنه يسمى الإدراك الحسي (بالعيان التجريبي). وهذا الأخير يتوقف على شرطين: أولهما أن تقبل الحساسية أو تتسلم من (الخارج) تأثرات مختلفة، صادرة عن الموضوع الحقيقي أو الشيء في ذاته؛ وثانيهما أن تترتب الاحساسات الناشئة عن التأثر في صورتي الزمان والمكان، إذا كان العيان يتعلق بالموضوعات الخارجية، أو في الزمان وحده، إذا كان يتعلق بتعيناتنا الباطنة.
والظواهر الناشئة عن العيان تترابط برباط العلية، وتبدو على هيئة كميات وكيفيات، ونسب وعلاقات، وجواهر وأعراض؛ ولكن جميع هذه التعينات لا ترجع إلى الأشياء في ذاتها. وإنما هي أشكال أو (مقولات) ذهنية قبلية، نتصور العالم ونفهمه على نحوها. والقوة أو الملكة العقلية التي تقوم بهذا الدور هي (الذهن)(أو (الفهم). كما إن حساسية العقل، أو قدرته على قبول التأثرات، هي التي تقوم بالعيان أو الإدراك. وقد قرر (كانت) إن هناك اثنتي عشرة (مقولة) أو (تصوراً خالصاً)، تكون، مع المبادئ القبلية اللازمة عنها، ومع المكان والزمان، شروط إمكان التجربة. وتندرج المقولات، ثلاثاً ثلاثاً، تحت أربعة عناوين أساسية، وتؤلف بذلك مقولاً (الكمية) و (الكيفية) و (النسبة) و (الجهة). ولا حاجة لنا إلى التحدث عن هذه المقولات، ما دام شوبنهاور نفسه قد نبذها جميعاً، إلا مقولة واحدة: هي (العلية). وحسبنا أن نشير - في ختام هذه الخلاصة لمذهب (كانت) - إلى نقطتين أساسيتين فيه؛ أولاهما إن عالم الظواهر متوقف برمته وبغير استثناء على الذات وشكولها القبلية وإن عالم الأشياء في ذاتها (أو بالأحرى عالم (الشيء في ذاته)، ما دام إن (الكمية) مقولة ذهنية) مستقل عن الذات وصورها الفطرية، ولسنا نعرف، ولا يمكن أن نعرف، عنه شيئاً؛ فهو (س) مجهولة. والنقطة الثانية إن قيام الظاهرة مشروط، مع ذلك بتأثير الموضوع أو الشيء في حواسنا.
وقد هوجمت فكرة الشيء في ذاته منذ ظهورها هجوماً عنيفاً. كيف يزعم (كانت) إن
الموضوع (يؤثر) في الحساسية، وأن تأثيره ضروري لحصول الإدراك، مع إنه يؤكد في (التحليل المتعالي) إن المقولات، كمقولة الجوهر والواقع والعلية، لا تصح وراء عالم التجربة الممكنة، عالم الزمان والمكان؟ إن العلية تتعلق بالظواهر وحدها، فليس من حقنا أن نطبقها على ما هو خارج الظواهر، وليس لنا أن نصف الشيء في ذاته بأنه علة للظاهرة، بل ولا أن نقول بوجوده أصلاً. إذ من أبن لنا إنه موجود، وعلمنا محصور في دائرة التجربة؟ وكيف نزعم إنه (س) مجهولة ثم نقول إنه موجود، وإنه علة الظواهر؟
كذلك انتقد (الشيء في ذاته)؛ ومن جملة ناقديه (شولتسه) أستاذ شوبنهاور، و (فشته) الذي أنكر، بناءً على هذا النقد، أن يكون ثمة حقيقة مطلقة خارج (الذات)، وانتهى من ذلك إلى أن الشيء في ذاته هو الذات أو الأنا؛ فالأنا المطلق اللا متناهي يضع نفسه بنفسه، ويضع اللا أنا أو العالم الخارجي. على أن فشته، كما يلاحظ شوبهاور، لم يزد على أن جعل الذات (علة) للعالم الموضوعي، مع إن العلية هي الصورة القبلية لكل موضوع مدرك فقط، فلا يمكن أن تعدو عالم الموضوعات إلى العلاقة بينه وبين الذات.
وعلى أن شوبنهاور يأخذ بالنقد الموجه إلى فكرة الشيء في ذاته بحسب مفهومه عند كانت فإنه لا ينتهي من ذلك إلى إنكاره وإبطاله، وإنما هو بضد ذلك يقر (كانت) على القول به، ويراه كما رآه سلفه العظيم المطلق الكامن وراء عالم الظواهر. وإنما الذي يأخذه عليه إنه جعل هذا المطلق (علة) و (موضوعاً)، ووقع بذلك في الخلف والشناعة. إذ لا علة وراء إمكان التجربة، ولا موضوع بغير ذات. والقول بموضوع في نفسه، بموضوع لا تعرفه الذات، تناقض في الحدود. كل موضوع فهو بالضرورة موضوع بالنسبة إلى ذات، أو إدراك مدرك. ليس الشيء في ذاته بظاهرة أو فكرة، ولا هي بشيء (موجود) بالفعل، وإنما هو المطلق المستقر وراء الظواهر والموجودات الواقعية؛ هو ذاك الذي (يظهر)، ذاك الذي يرد أن يوجد، لأنه غير موجود. إنه الإرادة - إرادة الوجود. وقد قرر (كانت) إن الشيء في ذاته ممتنع على المعرفة، وشوبنهاور يسلم له هذا أيضاً، إن كان المقصود بالمعرفة المعرفة الخاضعة لمبدأ السبب الكافي؛ ولكن هناك ضرباً من المعرفة المباشرة، نستطيع أنن نكتشف به المطلق، ونكتشف إنه إرادة سرمدية: نزوع مطلق إلى الوجود والحياة والتحقق الموضوعي.
وليس عالم الظواهر بمعلول للشيء في ذاته أو الإرادة، لأن العلية لا تصح إلا على الظواهر وحدهاً؛ وليس هناك، إن طلبنا الدقة في التعبير، عالمان مترابطان برابطة العلة والمعلول، وإنما هو عالم واحد ذو وجهين، وجه الفكرة أو التمثل، ووجه الإرادة أو النزوع - والأول مرئي مشهود، والثاني مغيب غير منظور. إنه من جهةٍ فكرة كله، ومن جهةٍ إرادة كله؛ وبعبارةً أخرى، إذا نظرنا إلى العالم من الخارج فهو فكرة، وإذا نظرنا إليه من الداخل فهو إرادة. وبعبارة أصح، ليس عالم الظواهر إلا تجسم الإرادة، أو تحققها الموضوعي؛ إنه الإرادة كما نراها، كما تبدو لنا.
وصور العالم المرئي هو الزمان والمكان والعلية، وهي كل ما استبقاه شوبنهاور من جهاز (كانت) القبلي؛ على إنه جعل ما أسماه بمبدأ السبب الكافي التعبير العام عن هذه الصور، كما إنه أدرج هذا المبدأ، في كل أشكاله، تحت صورة عليا، هي ازدواج الذات والموضوع، وسنأتي بعد على بيان هذا كله.
وبفضل المكان والزمان والعلية يتم لنا، ولسائر الحيوانات إدراك العالم الخارجي. والذي يقوم بهذا الإدراك أو العيان، ويربط المدركات الحسية برباط العلية، هو (الذهن) وحده، لا الحساسية ثم الذهن، كما ذهب إلى ذلك (كانت)؛ ولا (العقل). ولذا (فكل عيان ذهني). وقد ميز شوبنهاور بين (الذهن) و (العقل) كما ميز (كانت)، ولكن على حين أن الأخير جعل العقل (بمعناه الضيق) قوة الصور أو المثل الكلية المنظمة لأحكامنا، قصره الأول على قوة التصورات المجردة، التي يتميز بها الإنسان على العجماوات، وليس من شأن هذه الملكة أن تكتشف أو تبتكر شيئاً، فذلك من شأن الذهن وحده، وإنما شأنها تجريد المدركات، وتعميمها، وربط بعضها ببعض، وحفظها، وتيسير استعمالها في المقاصد العملية.
(يتبع)
عبد الكريم الناصري
يا إخواننا في وادي النيل!
(مهداة إلى الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي)
للأستاذ غائب طعمة فرمان
قرأت - فيما قرأت - في الرسالة الحبيبة إلى القلوب، العزيزة على النفوس، مقالة بليغة للأستاذ الكريم على الطنطاوي عنوانها (يوم من أيام بغداد) أجرى فيها من روحه الأبية، ومن دمه الكريم، قوة متفجرة تهز قلب كل عربي غيور، وتوقظ همة كل أبي أشم؛ فقد - والله - لمست منها قوة العاطفة، وسمو النفس، وكرم المحتد.
(ليست كالمقالات، جملاً ترصف، وكلمات تؤلف، ولكنها قلب يتفطر، وديناميت يتفجر. . .).
وغاية الأستاذ الكريم من هذه الكلمة الجميلة إيقاد الهمم، وإيقاظ النفوس، وشحذ العزائم؛ ليعلمنا (. . . إن مصر. . . أختنا الكبرى في العروبة، وقضية مصر قضيتنا، ووادي مصر وادينا، وعدو مصر عدونا، وإننا إن نخذل مصر نخذل بلادنا، وإلا نكن معها نحن أمتنا). ويتساءل في النهاية مخاطباً بغداد (أفتنامين يا بغداد في سرر الأمان ومصر في الشوارع تصارع الذئاب؟).
وليطمئن الأستاذ إلى إخلاص الشباب العراقي جميعاً.
وليثق بنا في ساعات المجد وفي سوح القتال.
وليعلم إن أجفاننا لا تهدأ، وإن قلوبنا لا تستقر، وإننا لا نخلد إلى السكينة، ولا ننام في سرر الأمان ما دامت مصر تتألم، والمغرب العربي يئن تحت نير الاستعمار، وفلسطين المجاهدة تتناهبها الأطماع، وتنهشها الذئاب البشرية، ويعبث بها أرباب المصالح الأجنبية، وترواغ في حقوقها ثعالب الصهيونية.
أجل لن نهدأ ولن نقر عيناً والبلاد العربية مجروحة تتنزى ألماً، لأن الشعلة المتوقدة في قلوبنا، والشجاعة الممتزجة بدمائنا، والإخلاص الثابت في نفوسنا، والصرخة المدوية في أعماق ضمائرنا - صرخة الحق، والعدالة، والحرية - كلها لا تزال في توقدها، وقوتها الأولى.
كلها أسس حياتنا، ومقدسات فكرنا، ومثلنا العليا التي نؤمن بها إيماننا بديننا.
إننا - معشر الشباب العراقيين - لا تزال ثابتين على عقائدنا، حافظين لعهودنا، سائرين في طريقنا القويمة وفق دستورنا العربي المقدس.
نحن لا نزال - كما عهدتنا - مؤمنين بحقنا الأسمى في الحياة، ذابين بأرواحنا وبما تملك أيماننا، رافعين راية الجهاد ضد كل معتد أثيم.
الحق، والعدالة، والحرية، ومكارم الأخلاق، والعزيمة، والإخلاص مواد دستورنا الأولى.
مصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، والجزيرة العربية، وشمال أفريقيا، بلاد أمتنا الكريمة.
ولسنا من العرب في شيء أن تخاذلنا في نصر كل بقعة من بقاعها.
أقسم لك أيها الأستاذ الكريم إننا لا نزال كما عهدتنا نناصر كل بلد عربي؛ إننا نتألم لسوريا ولبنان في محنتهما كما نتألم لمصر والسودان في قضيتهما، وإننا نفزع إلى الجهاد في سبيل فلسطين، كما نفزع إلى الذب عن الغرب الأقصى، المغرب العربي الكريم.
وشاعت في هذه الأيام أن العراق يتوانى عن مساعدة مصر في قضيتها. وتلك لعمري سبة للعراقيين.
فالعراق لا يتوانى ولن يتوانى عن نصرة البلاد العربية لأنه يشعر شعوراً عميقاً بما يصنعه الاستعمار البريطاني إن جروحه لم تندمل وإن صدى البارود لم يذهب عن أذنه، وإن طيف الثورة العراقية الكريمة منتصب أمام عينيه.
وما تلك النهم إلا دسيسة أجنبية تجد طريقها إلى عقول بعض السذج. إنها ألاعيب استعمارية تبث لتفريق الكلمة، وتشتيت الشمل، وشغل العقول.
إذا أردت أن تتأكد من صواب قولي؛ فلا تعتمد على ما تذيعه الصحف، وما تروجه الألسنة المغرضة، بل تعال معي إلى المحلات العامة، تعال معي إلى الشعب العراقي لنسأله: تعال إلى التلميذ في مدرسته، والعامل في معمله، والموظف في دائرته، والفلاح في حقله.
تعال إلى هؤلاء وأنظر إلى ما يقولونه.
تعال أتسمع القصة من أفواههم، ولتلمس أفكارهم: وتسبر غور أنفسهم، ولتعلم بم يفكرون؟
إنني لأقسم لك إنهم يفكرون في قضايا بلادهم، بلادهم بالمعنى الشامل الواسع، البلاد العربية: مصر، الشام، فلسطين، شمال أفريقيا.
وفي هذه الأيام يحل الوفد السوداني ضيفاً على العراق. فهل تعلم ما كان في نفس كل عراقي؟
لقد كانت في نفوسنا أحاديث قلبية نريد أن نبلغها.
لقد كانت قلوبنا تخفق، وشفاهنا ترتجف، وعيوننا تبتسم، ونفوسنا في هزة من الشوق.
لقد كانت في قلب كل عراقي كلمات يود أن يبلغها إلى الوفد السوداني الكريم قائلاً: يا إخواننا في وادي النيل إننا نؤيدكم من صميم، ونناصركم بأرواحنا، ونهتم بقضيتكم اهتمامنا بقضيتنا بل أكثر منها. . . إن الجراح التي تحسونها في بلادكم نشعر بها ونتألم لها. . إننا صوت واحد، صوت قلبي يصرخ في وجه المعتدي الأثيم: تباً لك من وغد، هذه الأرض أرضنا نريق من أجلها دماءنا. . . فلا تصدقوا ما يقوله عنا المستعمرون.
وفي النهاية نصرخ صرخة الشاعر العراقي:
أبشري يا طلعة الوادي الأمين
…
جاءك الأبطال بالنصر المبين
قد سمعنا عنك ما روعنا
…
فأتيناك أسوداً لا تلين
بغداد
غائب طعمة فرمان
حول (أغنية السودان)
للأستاذ علي متولي صلاح
نحمد لمحطة الإذاعة اختيارها - الفنية بعد الفنية - إحدى روائع شوقي الخالدات لتغني على الناس في مناسبة عابرة أو ظرف قائم أو لمقتضى حال يجب أن يقال فيه ما يطابقه.
وقد أحسنت الصنيع يوم اختارت قصيدته (نكبة دمشق) التي مطلعها (سلام من صبا بردى أرق)، وأحسنت الصنيع يوم اختارت قصيدته (ذكرى المولد) التي مطلعها (سلوا قلبي غداة سلا وتابا) ولو إنها أضافت إليها - توهما منها أن ذلك يجعلها أدنى إلى المناسبة القائمة وأكثر مطابقة لمقتضى الحال - ما كان منها كالرقعة الرخيصة في الوشى الثمين، ولو لم تفعل لتمت المطابقة دون الحاجة إلى هذا التكلف!
وأحسنت المحطة الصنيع أيضاً حين اختارت - في الأسبوع المنصرم - قصيدته (شهيد الحق) التي مطلعها (إلام الخلف بينكما إلاما) التي قيلت بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة المرحوم الزعيم مصطفى كامل، وأطلقت عليها اسم (أغنية السودان)!. .
ونحن نشكر للمحطة جاهدين أن تختار الشعر العالي، ونود لو إنها تتحلل يوماً بعد يوم من هذا الهذر والسخف الذي تنطق به حناجر بعض المغنين فيها، وإن تترك هذه الأغنيات الرخيصة المائعة التي تتسرب إلى نفوس الناس سماً وفساداً وانحلالاً. . . غير إننا ونحن بصدد الحديث عن اختيارها لقصيدة (شهيد الحق) نريد أن نبصرها بأمور كانت عسية أن تتجنبها، وليكون ذلك دستوراً لها إن أرادت حقاً أن يغني بها شعر رفيع عال كهذا الذي تختاره من شعر شوقي، وإن ذلك لجدير - في المستقبل - أن يعفيها من كل لوم، وأن يجنبها كل زلل، ويوقيها كل عثار.
1 -
فنحن لا نفهم أولاً كيف تعدو المحطة على التاريخ الأدبي والتاريخ السياسي فتنحرف بالقصيدة عن الغرض الذي قيلت فيه وتخرجها عما إليه قصد منشئها، ثم تعدو بذلك على ذكرى غالية لزعيم وطني من طراز قل أن يوجد بين الزعماء؟؟ ثم تسميها عنوة واقتداراً (أغنية السودان) وما بها صلة بالسودان إلا إنه ذكر فيها مرة!! ولقد كان للمحطة معدى عن ذلك لو إنها تمهلت قليلاً في الاختيار، أو وكلته إلى أهل الذكر في الأدب الذين يعرفون قول الذي قال:
قد عرفناك فاختيارك إذ كا
…
ن دليلاً على اللبيب اختياره!
كان لها معدى عن ذلك باختيار شعر آخر أو قصيدة أخرى لشوقي، وله في الوطنية شعر كثير، أو لحافظ وله قصائد متفرقة تفيض وطنية وحثاً على الاتحاد والائتلاف وتنديداً بالفرقة والاختلاف، ولكن محطة الإذاعة راقها مطلع القصيدة (إلام الخلف بينكمو إلاما) وملك عليها أمرها فلم تجد عنه منصرفاً! على إننا لا نفهم كيف أسمتها قصيدة (السودان) وأغل أبياتها التي غناها عبد الوهاب موجهة إلى (شهيد الحق) مصطفى كامل وكيف يوفق سامعوها بين عنوانها هذا وبين تلك الأبيات؟؟
2 -
على إن المحطة وهي تريد الدعوة إلى الائتلاف والاتحاد أغفلت الأبيات التي تؤدي إلى ذلك وتدعو له في القصيدة لأسباب يعلمها الله وحده! وإلا فهل دل على هذا الذي تهدف المحطة إليه من قول شوقي: -
لقد صارت لكم حكماً وغنما
…
وكان شعارها الموت الزؤاما
وثقتم واتهمتم في الليالي
…
فلا ثقة أدمن ولا اتهاما
ومن قوله: -
وكانت مصر أول من أصبتم
…
فلم تخص الجراح ولا الكُلاما
إذا كان الرماة رماة سوء
…
أحلوا غير مرماها السهاما
أبعد العروة الوثقى وصف
…
كأنياب الغضنفر لن يراما
تباغيم كأنكمو خلايا
…
من السرطان لا تجد الضماما؟
ومن قوله وقد يكون فيه دعوة واضحة صريحة إلى أن يكون الحكم في أيدي الأحزاب جميعاً متحدين مؤتلفين: -
ولينا الأمر حزباً بعد حزب
…
فلم نك مصلحين ولا كراما
جعلنا الحكم تولية وعزلا
…
ولم نعد الجزاء والانتقاما
وسنا الأمر حين خلا إلينا
…
بأهواء النفوس فما استقاما!
ولكن الأمر ما أغفلت المحطة كل ذلك. . .
3 -
كان التلحين الذي غناها به محمد عبد الوهاب بعيداً غاية البعد عن المعنى المنشود، لقد كان هذا اللحن أبعد شيء عن معاني الوطنية والاستنهاض والدعوة السريعة العاجلة إلى
الاتحاد والتهكم اللاذع - بالموسيقى اللاذعة - بهذا الاختلاف وتلك الفرقة، والمناداة العالية برأب الصدع، واللهفة الحارة إلى جمع الشمل. . . ما أحست والله وأنا أسمعها إلا بأنين وحشرجة وخفوت ونوم واحتضار!!
فرفقاً بالأدب العالي والموسيقى العالية يا محطة الإذاعة.
علي متولي صلاح
الأدب في سير أعلامه:
8 -
تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
بين العبث والندم
لن يصبر الفتى على المقام طويلاً ببسنايا، فإن المدينتين: موسكو وبطرسبرج لا تزال تدعوانه إلى مفاتنهما وزينتهما، وما إن يأخذ الفتى حظه من اللهو في إحداهما أو في كليهما حتى ينطلق إلى ياسنايا يطلب الهدوء ويأمل في التوبة، ويرجو أن يتفرغ لشؤون ضياعه، وعلى هذه الحال قضى الفتى ثلاث سنوات يلقي به طول عبثه إلى الندم، ويؤدي به سأمه من ندمه إلى ما كان فيه من عبث؛ وكان في حاليه يمثل حياتي أخويه. فإذا أمعن في عبثه ومجونه وعدم اكتراثه لشيء مثل حياة سيرجي، وإذا ندم وتقشف وزهد الحياة الدنيا وزينتها عاش عيشة ديمتري
ولم يقف عبثه عند حد في العاصمتين؛ فهو في ليله يسرف في الميسر ويغشى أمكنة اللهو وينتقل بين (صالونات) الارستوقراط وأماكن الغجريات المغنيات، يقضي أرب مشاعره من الجمال البهجة، وغاية بدنه من الفسوق والرجس، وهو في نهاره يستمتع بالصيد أو بركوب الصافنات الجياد، أو يملأ فراغه يلعب الورق أو الشطرنج أو بكتابة ما يداخله من ندم في دفتر يومياته، أو باللعب ساعة على البيان، وهو في ليله وفي نهاره يشرب الخمر ويصيب ما يلذه من طعام في أشهر مطاعم المدينة وأغلاها ثمناً. يفعل ذلك في رفقة من صحابته يعبثون ويلهون كما يعبث ويلهو، ويفوزون منه بما ينفق عليهم من ماله. . .
ويحاول أحياناً أن يصنع ما نصحت به عمته تاتيانا إليه، وذلك أن يرتبط بفتاة ذات خلق وكرم محتد، فيدور بعينيه في سهرات الأرستقراط يطالع وجه الأوانس، ويخفق قلبه هذه أو لتلك، ولكنه لا يلبث حتى ينطلق تحت ستار الظلمة إلى حيث يلقي نفسه بين ذراعي إحدى الغجريات!
ويحلم تارة أحلام الزواج فيهو قلبه إلى الآنسات في صحبة أمهاتهن وقد تبرجن وأبدين
زينتهن، ويتظرف في حديثه ويظهر أكثر ما يستطيع من مظاهر الارستقراطية والنبل، ولكنه سرعان ما ينصرف عن هذا إلى ما يوسوس به الشيطان من فجور وإثم يطفئ به ضرام بدنه القوي الذي ما يزال يلتهب من شهوة ويعود إليه تارة تخيله إنه محب وإنه أسير هوى غادة عرفها في موسكو هي الأميرة شرباتوث، وإن كانت هذه الغادة لتجهل كل الجهل ما تحدثه به نفسه من حب، ولا تفطن إلى ما يخيل إليه إنها بعثته في نفسه من عاطفة. . .
وكذلك تساوره أحياناً رغبته في الكمال، تلك الرغبة التي تسلطت عليه زمناً في قازان، ولكن الكمال هنا يتخذ منحنى جديداً غير منحنى الثقافة والمعرفة؛ فهو يريد اليوم أن يكون رجل مجتمعات، يشار إليه في المنتديات والصالونات، ويريد أن يكون حديث مجالس ينصت إله ذوو المكانة ويصفونه بأحسن أوصافهم من النبل والتهذيب والظرف واللباقة؛ ولكنه لا يستقر على هذا الاتجاه. وما هي إلا أن توسوس له أقل المغريات حتى يعود إلى مجونه وجنونه، ليعب منهما ما يشاء له شبابه ثم يعمد إلى دفتره فيثبت فيه ما يخالجه من ندم ومن تأنيب منه لنفسه؛ وهكذا يحيا الفتى في المدينتين حياة لا تختلف عن حياته في قازان إلا ربما يكون من إفراد في اللهو وإسراف في المال.
ولن يزال الفتى كالفراش الهائم يطير من زهرة إلى زهرة، ومن ثمرة إلى ثمرة، أو يقع على اللهب ليرتد عنه ثم يجذبه الضوء فينجذب إليه، ولا يجد ما يبثه خلجات شعوره ونوازع وجدانه إلا دفتر يومياته؛ كتب في هذا الدفتر سنة 1850 يقول وقد كان في موسكو (إن هذه ثالث سنة لي أقضي شتاءها في موسكو دون أن أكون في منصب ما؛ هنا حيث أفضي حياة سخيفة لا غناء فيها، حياة فارغة لا تهدف إلى غرض؛ ولم أحي هذه الحياة لأن كل امرئ في موسكو يفعل مثلما أفعل، ولكن لأن مثل هذه الحياة هيأت لي أسباب المسرة).
وبلغت حاله من السوء في أواخر تلك السنة بما أسرف على نفسه من الميسر أن أصبح يطلب القليل من المال فلا يكاد يجده ولذلك فكر في أن يشغل منصباً يرتزق من وظيفته، واتجه إلى منصب مدير البريد في مدينة تولا؛ ولكنه لم يجد من ذوي النفوذ من أقربائه من أعانه على تحقيق هذا المطلب، كما لم يجد في نفسه المقدرة على أن يعمل عمل الموظفين فانصرف عن هذا المتجه. . .
لكن ماذا عسى أن يصنع وقد اشتدت به الحاجة إلى المال وفدحته أعباء الدين؟. . . يا عجباً! إنه يريد أن يحذق لعب الورق ليكس المال من الميسر، عسى أن يعوض شيئاً مما خسره فيما سلف من لعبه، وإنما هو كما عرف من قبل وسيلة لإتلافه؛ ثم إن الفتى يضيق بحياته هذه حتى ما يطبق صبراً فيفد إلى ياسنايابوليانا ويقضي الفتى في ضيعته بضعة أشهر لا يكدر عليه صفوه ولا يقطع هدوءه إلا إلحاح عاطفته الحيوانية عليه وظمأ بدنه ذلك الظمأ الذي لا يفتر؛ ولكنه يغالب تلك العاطفة بكل ما في طوقه من عزم، ويصبر على ذلك الظمأ ما وسعه الصبر؛ ثم لا يلبث حتى يجد نفسه وقد غلب على أمره فعاد أكثر مما كان نهماً وطمعاً. والحق إنه كان يعاني كثيراً من الضيق من جراء فشله كلما فشل في مغالبة هذه العاطفة؛ أشار إلى ذلك مرة لأحد مترجمي حياته بعد أن تقدم به العمر فذكر إنه ما من شيء كان أشق على نفسه من محاولته قهر هذه العادة التي تسلطت عليه فلم يقو على دفعها؛ ولقد كان يتأثم منها ويندم أشد الندم كلما منى بفشل جديد، تجد ذلك في مثل قوله سنة 1850 (إني أعيش عيشة بهيمية، ولقد هجرت كل ما عسى أن يشغلني من عمل؛ وإن ذلك ليكدر روحي كدراً شديداً).
ولا يكاد الفتى يجمع من المال قدراً حتى يعود إلى موسكو في شهر مارس سنة 1851؛ وفي نفسه هذه المرة أن يبتعد عن كل ما يشين لأنه اليوم يريد أن يصل إلى مكانة مرموقة في المجتمع وأن يشغل منصباً ذا خطر وأن يتزوج من ذات ثراء ومحتد. . .
وراح يغشى أواسط الارستقراط يشهد الحفلات والولائم، يهمه أن يتعرف على العلية وذوي المكانة والنفوذ؛ إذا جلس في حلقة أخذ بقسط موفور من الجدل والحديث، وحاول ما استطاع أن يكون هو الذي يدبر الكلام ويصرف وجوهه، وحرص على أن تكون آراؤه مثيرة للدهشة أو للانتباه أو للمعارضة، واجتهد أن يبرز أقصى ما لديه من علم فيما يتشقق إليه الحديث من مسائل فيفيض ويشرح وجهة نظره ويسرد الأمثلة ويبسط الحجج في لهجة المتمكن القادر.
وعادت تطوف برأسه أحلام الزواج؛ وعاد يتذكر ما تمنته له عمته تاتيانا؛ فقد كان أجمل ما تمنته له في رأيها أن يتزوج بفتاة عظيمة الثورة وأن يمتلك من رقيق الزراع أكثر ما يستطاع أن يمتلك؛ ولكنه يرى إن مثل هذا الرباط لن يكون إلا بالحب، وهذا ما لا يحس
أنه انتهى فيه إلى رأي. . .
وكان لا يزال يطمع أن يعينه بعض ذوي النفوذ والجاه من أقربائه أو أصدقائه على أن يظفر بمنصب من مناصب الدولة ينعم فيه بالمال والجاه، ولكنه لم يصل من ذلك إلى كل ما يريد. .
وكان قد صمم عند مجيئه إلى موسكو ألا يقرب الميسر وقد أوصته عمته أن يتحرر من هذه العادة المتلفة للمال الموبقة للروح؛ ونفذ الفتى أول الأمر ما عقد عزمه عليه وابتعد عن الميسر كل الابتعاد كأنه أمر ينفر منه بطبعه؛ ولكن ما كان أعجب عودته إليه بعد قليل بأمل من جديد أن يجد فيه مخرجاً مما هو فيه من عسر؛ ولعب ما وسعه اللعب وخسر خسارة كبيرة، ولكن الخسارة لم تزده إلا إسرافاً في اللعب وعد اكتراث لما يكون للعب من عاقبة حلوة كانت أو مرة قاسية المرارة؛ ولقد بلغ به الأمر أن رهن ساعته يوماً ليدفع ثمن معطف ذي فراء أراد أن يدخل على روحه بعض البهجة يلبسه والتنبل به وإن صفرت من المال يده. . .
وضاق صدره بحياته على هذه الصورة وعزا هذا الاضطراب إلى ضعف عزيمته. كتب في دفتره يقول (إن ألاحظ إن أهم عاطفتين تتسلطان علي هما الميل إلى اللعب ثم الغرور)؛ وراح يتهم نفسه كل يوم في دفتره ويندم ما وسعه الندم؛ وجعل لكل يوم من أيام الأسبوع في دفتر آخر فضائل يؤديها وأخذ يشير بعلامة إلى ما قصر في أدائه حتى لا يعود إلى التقصير في مثل ذلك اليوم من الأسبوع التالي؛ ثم لاذ الفتى بالدين فزهد الحياة أياماً فصام وصلى وألف دعاء يدعو به الله ليخرجه مما هو فيه. .
ولمحت للفتى بارقة أمل؛ لم لا يجعل الأدب حرفة له؟ ألم تكن عمته تاتيانا على حق قالت له ذات يوم (إني أعجب يا عزيزي ليو كيف لا تكتب رواية ولك مثل ما لك من خيال؟).
وكان الفتى يقرأ القصص أكثر ما يقرأ، ولم ينقطع عن القراءة مهما شغلته الشواغل أو ملأ حياته اللهو، ولا يزال إعجابه بروسو عظيماً، وكذلك لا يزال يجعل لدكنز منزلة عظيمة في نفسه؛ أما الكتاب الروس فقد كل يقبل منهم على بوشكين وجوجول إقبالاً شديداً، وكان لثانيهما تأثير قوي في خياله وعلقه؛ وبدأ يلتمع اسم ترجنيف وكان أكبر من تولستوي بعشر سنوات، وقد نشر أكل كتبه سنة 1847 وهو مذكرات رجل صيد، وكان لهذا الكتاب كذلك
تأثير عميق في خيال ليو ووجدانه، وبخاصة ما أظهره مؤلفه في فنه القوي المحكم من حياة رقيق الأرض. . . وقرأ الفتى لغير هؤلاء الكتاب كتب شلر وكتب ستيرن وغيرهما من فحول القصة والشعر.
وتصادف أن كانت قصة دكنز العظيمة دافيد كوبرفيلد تنشر يومئذ تباعاً في إحدى المجلات فأحدثت في نفسه أثراً لم تحدث مثل قصة غيرها وظلت لها في نفسه المكانة الأولى حتى آخر حياته.
وماذا عسى أن يكتب الفتى؟ ذلك ما حيره أول الأمر حيرة شديدة؛ أيصف حياة الغجر كما فعل بوشكين وإنه اليوم بهم عليم؟ أيكتب قصة عمته تاتيانا؟ لا إنه لا يميل إلى هذه ولا إلى تلك فماذا يكتب؟ ليصف زيارته بالأمس لتلك الأميرة شيرباتوف التي ظن أنه يحبها؛ وأقبل الفتى فوصف هذه الزيارة، ولقد نشرت هذه القصة الصغيرة حديثاً بعد أن عثر عليها ورأى الناس أول عمل أدبي لنابغة كتاب القصة في القرن التاسع عشر فإذا بهذه الباكورة تنطق بكثير من دلائل عبقريته. . .
ويقول ليو في دفتره (إن الوصف ليس كل شيء. كيف ينقل المرء إلى القارئ شعوره؟). قال ذلك لأنه كان قد اعتزم أن يجعل الوصف غايته من الكتابة فيصف كل ما تقع عليه عيناه.
ثم بدا له وكأن أثر دافيد كوبرفيلد قوياً في نفسه أن يكتب أيام طفولته، وانكب على الكتابة كل صباح من الساعة الخامسة حتى الحادية عشر حتى أتم باكورة آثاره التي كتب لها الخلود.
ولكن حياة اللهو وما أسفاه تعود فتصرفه عن هذا الجد. فيقبل على لذاذاته ويسرف من جديد في مجونه وعبثه، ثم لا يجد آخر الأمر خيراً من أن يلوذ بضيعته من هذه الحياة التي سئمها وسئم نفسه بسببها فيعود إلى باسنايا في صيف عام 1851 ولم يتزوج من ذات ثراء ولم يظفر بمكانة في المجتمع ولا بمنصب خطير من مناصب الدولة، ولم يتحرر من الميسر ولا مما يوهن عزمه من نوازع بدنه القوي الذي لا تهدأ حيوانيته. . .
وأقام في القرية أياماً يخالجه شعور الندم على ما كان من عبثه الذي أسرف فيه على نفسه وشعور الحسرة على ما آلت إليها حاله من عسر ومن دين، وينظر اليوم إلى هؤلاء الرقيق
الزراع الذين أراد إصلاحهم بالأمس فيؤله أنه انقلب اليوم مبدداً لما تنتجه أيديهم من خير؛ فلا هو أصلحهم ولا أفاد من كدهم إلا ذلك المال الذي يذهب هباء في الميسر والترف والغرور والفسوق.
وينقاد إلى جموح بدنه في القرية كما كان يفعل في المدينة، لا يهدأ هذا البدن ولا ينطفئ لهبه؛ ولكنه يشعر باشمئزاز شديد ذات ليلة أثر فعلة من فعلات الشباب فعلها تحت جنح الظلام، وكأنما استيقظت في نفسه مشاعر جديدة في تلك اللحظة جعلته ينكر هذا الذي فعل إنكاراً شديداً كان أكثر قيمة من ذلك الندم الذي كان يخالجه كل مرة ثم لا يلبث أن يموت.
كره الفتى حياته كرهاً شديداً، وضاق بالمقام في ياسنايا وفي موسكو وفي بطرسبرج، وما له غير الرحيل شفاء لنفسه ومنجاة لروحه، فليرتحل إلى حيث لا يجد شيئاً يذكره بالذي كرهه أشد الكره وأنكره كل الإنكار من مواطن مجونه وعبثه وفراغ حياته.
(يتبع)
الخفيف
محاضرات في التفسير
للأستاذ علي العماري
تحتفل قاعة المحاضرات بدار الحكمة في يوم الأربعاء من كل أسبوع بنخبة ممتازة من رجال العلم والأدب في القاهرة يستمعون إلى أحاديث في تفسير القرآن الكريم يلقبها طائفة من العلماء الأعلام، سمعنا منهم إلى الآن فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف والدكتور عبد الوهاب عزام بك والأستاذ عبد الوهاب حمودة، ومع إنهم أسمعونا الطيب المعجب، وطالعونا بأساليب جديدة في تأويل الآيات وفهمها وتفهيمها، ومع إننا نحب أن نسمعهم كثيراً إلا إننا مع ذلك نحب أن نسمع غيرهم من كبار المشتغلي بدراسة القرآن الكريم، فإننا اليوم في حاجة إلى الإطلاع على أكثر من أسلوب في هذا التفسير خصوصاً وقد زاد تنبه الأذهان إلى ضرورة وضع تفسير جديد سهل المأخذ قريب التناول خالياً من تلك الأساطير التي ملأ بها المفسرون كتبهم، وليس القول في قلة جدوى هذه التفاسير، وعدم غنائها من مواليد هذا العصر ولكنه قديم، فقد أنحى بعض العلماء الفضلاء عليها باللائمة، ومن هؤلاء إمام البلاغة الشيخ عبد القاهر الجزجاني فقد قال في كتابه دلائل الإعجاز (ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن توهموا أبداً في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل إنها على ظواهرها فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضوع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل. هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق).
ونحن اليوم أكثر معرفة بهذه الأبواب المفتوحة من الجهل في بعض التفاسير، وأشد حاجة إلى أسس جديدة صحيحة غير هذه الأسس القديمة، وهذه المحاضرات تبشر ببداية حسنة، ففيها من دقة الفهم، وجمال العرض والبعد عن الفضول ما يجعلنا نؤمل أن تكون خطوة أولى في سبيل وضع هذا التفسير المرتقب، ويا حبذا لو قام المشرفون على تنظيم هذه المحاضرات بطبعها حتى تذيع وتنتشر ويعم بها النفع.
وقد استمعت في آخر مرة إلى فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف يفسر الآيات الأولى من سورة آل عمران، وقد أعجبت به إعجاباً ملأ نفسي، غي إني كنت أود أن
أناقشه في بعض ما عرض له، وقد لقيته بعد المحاضرة فاعتذر بأنه متعب فرأيت عرضها على صفحات الرسالة الغراء، ذكر الأستاذ - كغيره - إن القرآن اشتمل على كثير من السنن الكونية، ولست أريد أن أخالف عليه في هذا، وأن أعيد ما قاله جماعة من كبار العلماء وفندوا به هذه النظرة إلى القرآن فلكل وجهة، وقال إن القرآن صريح في الدلالة على هذه الحركة وذكر قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) وربما تعجب معي كيف ذهب على المحاضر - وهو رجل فاضل - موضع هذه الآية من القرآن، ولكن هذا يدلنا أكبر الدلالة على استيلاء النقص على جملة البشر، والعرب يقولون في أمثالهم (قد يكبو الجواد). هذه الآية في سورة النمل تصور حالة من أحوال يوم القيامة (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش) وكما قال تعالى في سورة الكهف (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً) جاءت هذه الآية في هذا السياق (ونفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، وكل أتوه داخرين، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) فليس بخاف أن الآية تذكر حالة من أحوال ذلك اليوم وليس فيها أية إشارة إلى حال الجبال في الدنيا وقد بدا لبعض من ناقشته في هذا الأمر إن قول الله تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) فيه دليل على إنه هذه الرؤية مما يكون في الدنيا وإليه ما قاله الإمام الزمخشري في تفسيره الكشاف (صنع الله. يريد به الإثابة والمعاقبة، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب حيث قال (الذي أتقن كل شيء) يعني إن مقابلته الحسنة بالثواب، والسيئة بالعقاب من جملة إحكامه للأشياء، وإتقانه لها، وإجرائه لها على قضايا الحكمة إنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك).
على العماري
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشينبي
902 -
مناظرة بين عالمين
سأل الإمام أبو الحسن الأشعري شيخ السنة الإمام أبا علي الجبائي رئيس المعتزلة عن ثلاث أخوة، أحدهم كان مؤمناً براً تقياً، والثاني كان كافراً فاسقاً شقياً، والثالث كان صغيراً، فماتوا فكيف حالهم؟
فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة.
فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟
فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما قد وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات.
قال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة.
فقال الجبائي: يقول الباري (جل وعلا) كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت، وصرت مستحقاً للعذاب الأليم فراعيت مصلحتك.
فقال الأشعري: فلو قال الأخر الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي فلم راعيت مصلحته دوني؟
فقال الجبائي للأشعري: إنك مجنون.
فقال: لا، بل وقف حمار الشيخ في العقبة! وانقطع الجبائي.
903 -
أمريكة. . .
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لأبن فضل الله العمري:
قال شيخنا فريد الدهر أبو الثناء محمود أبي القاسم الأصفهاني أمتع الله به: لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفاً من الجهة الأخرى. وإذا لم أمنع أن يكون منكشفاً من تلك الجهة لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما
عندنا أو من أنواع وأجناس أخرى.
مفاتيح الغيب للرازي في تفسير (الرحمن على العرش استوى) من رده على أصحاب الجهة:
إن العالم كرة، فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض، وبالعكس، فلو كان المعبود مختصاً بجهة فتلك الجهة، وإن كانت فوقاً لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المعبود تحت جميع الأشياء.
شرح النهج لأبن أبي الحديد:
وهي (الأرض) كروية الشكل فمن على حدبة الكرة لا يرى من تحته، ومن تحته لا يراه، ومن على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الآخر، والله تعالى يدرك ذلك كله، ولا يحجب عنه شيء منها بشيء.
904 -
فدرى ومثبت في الجاهلية
الأغاني: سماك بن حرب قال لي يحيى بن متي راوية الأعشى وكان نصرانياً عبادياً وكان معمراً: كان الأعشى قدرياً، وكان لبيد مثبتاً، قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى
…
ناعم البال، ومن شاء أضل
وقال الأعشى:
أستأثر الله بالوفاء وبالعدل (م)
…
وولى الملامة الرجلا
قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشترى منهم الخمر فلقنوه ذلك.
905 -
شعبانية
الشريشي في شرح المقامات: حكى الفقيه أبو الحسن أن أباه حدثه إن الأديب أبا الطاهر بن أبي ركب حضر عنده بسبتة بقرية شنان في نزهة شعبان لاستقبال رمضان، فأكل من حضر ضروباً من الأطعمة والألوان، فقال أبو الطاهر (رحمه الله تعالى) لأبي عبد الله بن زرقون: أجز:
حمدت لشعبان المبارك شعبة
…
تسهل عني الجوع في رمضان
فقال أبو عبد الله (رحمه الله تعالى):
كما حمد الصب المتيم زورة
…
أطاق لها الهجران طول زمان
فقال أبو طاهر:
دعوها بشعبانية فلو إنهم
…
دعوها بشبعانية لكفاني
906 -
أردت أن أكنسه من القصيدة. . .
ثمرات الأوراق فيما طاب من نوادر الأدب وراق لأبن حجة الحموي: قال أبن سناء الملك من أبيات:
صليني وهذا الحسن باق فربما
…
يعزل بيت الحسن منه ويكنس
فوقف القاضي الفاضل رحمه الله على هذه القصيدة وكتب إلى أبن سناء الملك من جملة فصل:
. . . والقصيدة فائقة في حسنها بديعة في فنها ولكن (بيت يعزل ويكنس) أردت أن أكنسه من القصيدة، فإن لفظة الكنس غير لائقة بمكانها.
فأجاب أبن سناء الملك قائلاً: قد علم المملوك ما نبه عليه مولانا من أمر البيت الذي أراد أن يكنسه من القصيدة. وقد كان المملوك مشغوفاً بهذا البيت مستحلياً له معجباً به معتقداً أن قافيته أميرة ذلك الشعر وسيدة قوافيه، وما أوقعه في الكنس إلا أبن المعتز. والمولى يعلم أن المملوك لم يزل يجري خلف هذا الرجال ويطلب مطالبه فتتعسر عليه وتتعذر. . . وحبك الشيء يعمي ويصم فقد أعماه حبه وأصمه إلى أن نظم تلك اللفظة في تلك الأبيات تقليداً لأبن المعتز. . .
فأجابه (القاضي الفاضل) بقوله. . . ولا حجة في احتجاجه بابن المعتز عن الكنس في بيته فإنه غير معصوم من الغلط، ولا يقلد إلا في الصواب فقط. . . وقد تعصب القاضي السعيد (يعني أبن سناء الملك) على أبي تمام فنقصه حظه، وأما البحتري فأعطاه أكثر من حقه.
ولو كان هذا موضع العتب لاشتفى
…
فؤادي ولكن للعتاب مواضع
رحيل.
. .!
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
ودِّعيني قبلما يدنو رحيلي
…
بلقاء يغمر القلب حنانا
ودعي البسمة في الثغر الجميل
…
تملأ الروح صفاء وأمانا
ودعيني قبلما يذبل زهري
فغداً يشرد في الصحراء عطري
يسأل الأيام عن إلهام شعري
إن إلهاميَ في الثغر الجميل
عند إشراقك في يوم رحيلي
ودعيني قبلما أغدو غريباً
…
عن منى قلبي وأشقي باحتراقي
لحظة تبصر عيناي الحبيبا
…
هي نوري في دياجير الفراق
كلما فاض بي الشوق لثغرك
وصفاء الذهب الحلو بشعرك
وسجود القلب في محراب ظهرك
أتملى في ثناياها الحبيبا
سلوة تسعد في البعد الغريبا
ودعيني آن يا قلبي وداعي
…
ودنت ساعة يأسي وفنائي
ودعيني، آه من نار التياعي
…
عندما تصرخ أصداء التنائي
عن قريب منذرات بارتحالي
أنا أخشاها فيما سوء المآل
لو دنت مني أشباح الزوال
قبلما تهدأ نيران التياعي
بلقاء منك من قبل الوداع
سوف أمضي ذاهلاً يوم الرحيل
…
وسنا عينيك يسري في ضميري
كاشفاً بالنور والحب سبيلي
…
كلما أظلم في عيني مصيري
لحظات منك من قبل البعاد
هي خلدي، هي هدبي، هي زادي
في صباح الشوق أو ليل السهاد
فتعالي قبلما يدون رحيلي
بسنا عينيك والثغر الجميل
ودعيني واسكبي الصبر بقلبي
…
علني أسطيع صبراً في البعاد
وعسى يهدأ في الأعماق حبي
…
بالذي يلقاه من صفو الوداد
عند توديعك لي يوم الفراق
وارتواء القلب من خمر التلاق
قبلما تكويه نيران اشتياقي
للمنى والسعد من أيام حبي
فتعالى ودعي روحي وقلبي
ودعيني، ودعيني، ودعيني
حديث المدفع.
. .!
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
(إذا عبرت (وادي شعبي) وأنت في الطريق من القدس إلى
عمان، عاصمة شرق الأردن، رأيت هناك مدفعاً مطرحاً في
سفح جبل، وهو من بقايا الحرب العظمى الأولى. ويذكر الذي
أدركوا تلك الحرب العجب العاجب من بطش هذا المدفع
وتحديه إلى أن ضرب الضرب القاضية. . .).
عجبت له من أبكم كيف ينطق
…
بأعجب ما يجلو بيان ومنطق
ويروي عن التاريخ وهو مطرَّح
…
(بوادي شعيب) عبرة ليس تخلق
وقفت به أصغي، وبي لحديثه
…
وما فيه من هول وزول تشوق
يقول: لقد كانت قناتي صلبة
…
ولي خلق صعب الشكيمة ضيق
أروج شماريخ الجبال ومعقلي
…
منيع، على هام السحاب محلق
وبي تتذرى من بني الحرب عصبة
…
إذا رزدق منها وني هب رزدق
ونازعني عجب المدل بحوله
…
فكنت أخا حمق يطيش ويحرق
أفح فحيح الصل أشرع نابه
…
وفي فيه ما يؤذي النفوس ويرهق
وأرسل من زرق المنايا على الورى
…
بهول مبيد، ليس فيه ترفق
ولم أدر أن الدهر أزمع ضربة
…
تريني بأن الدهر أضرى وأنزق
رماني بها صماء، فانهدَّ كاهلي
…
ورحت لَقى، والنفس تردَى وتزهَق
تلفت حولي، لا رجالي هم هم
…
ولا حملاتي في الشدائد تصدق
ولم تغني عني المعامع صولتي
…
ولم يجدني جيش، ولم يحم خندق
وعُلِّت كيف البغي يوفي بأهله
…
على مهلك يردى البغاة ويصعق
وما أنفك يرويها لغاد ورائح
…
عظات، تلقاها النفوس فتشفق
وكم عبرة للظالمين. . . وإنما
…
تنكب عنها الظالمون وأعنقوا
الأدب والفن في أسبوع
ساعة مع الأستاذ وديع البستاني:
كانت ساعة طيبة حافلة قضيتها مع الأستاذ الشاعر وديع البساني، وكان الأستاذ قد طار منذ قريب إلى لندن في مهمة سياسية عربية، فاغتنمها فرصة للبحث عن أصول الأدب الهندي القديم في مكتبة المتحف البريطاني ومراجعة الملاحم الهندية العريقة التي عكف على نقلها إلى اللغة العربية سنوات طويلة، وقد أشرنا إلى خبر هذا في عددين سابقين من (الرسالة) وبعد أن أنجز الأستاذ مهمته وأخذ طريق العودة إلى وطنه (حينا)، أثر النزول في مصر لقضاء فترة من الوقت، وقد زرته حيث ينزل بفندق الكونتنتال في أمسية من أمسيات الأسبوع الماضي فتلقاني بالسرور وجلس يُفيض علي من زاخر علمه، ويحدثني عن آثار جهده في نقل أصول الأدب الهندي وما وقف عليه في ذلك من التحقيقات، فكان حديثاً عامراً قيدت منه بعض الشوارد المفيدة والشواهد النافعة. . .
الحمى. . . الحرام:
. . . سألت الأستاذ عن هذه الملاحم الهندية التي عنى بنقلها وعكف على ترجمتها، فوضع بين يدي حزمة ضخمة من المجلدات والطوامير وقال هذه هي الآثار المقدسة. وإذا قلت المقدسة فإني أعني إنها ظلت طوال العصر القديم كالحمى الحرام لا يفتح بابه لكل طارق ولا يباح عبروه لكل سالك، إذ كان البراهمة يحيطون كتب الحكمة القديمة المعروفة باسم (الفيدا) وملحمتي الرامايانا والمهابهاراتا بسياج من التقديس، فكان البراهمة لا يبيحون الإطلاع عليها إلا لأبناء الطبقات الممتازة، أما العامة من العمال وغيرهم فكانوا يحللون قتل الشخص منهم إذا اختلط نفسه ولو مصادفة بنفس من يتلو آية من كتب الحكمة أو يردد بيتاً من الرامايانا والمهابهارات، ولما قام حاكم الهند في عام 1784 بترجمة نشيد السماء ونشيد المعلم (كريشنا) إلى اللغة الإنجليزية نثراً وضع لذلك النشيد مقدمة افتخر فيها بأنه كان أول من أتاح له البراهمة ترجمة هذا النشيد. والحق أن هذا النشيد - وعدد أبياته في اللغة الهندية القديمة نحو ستمائة بيت - هو أول ما نقل من الأدب الهندي القديم إلى لغة أخرى، ومن بعد ذلك توافرت جهود الباحثين في نقل الملاحم الهندية، فقد نقلت الرامايانا كاملةً إلى اللغة الفرنسية كما ترجمت إلى الإيطالية بقلم أديب إيطالي تحت رعاية أحد الملوك
الإيطاليين. ولها ترجمات عديدة في الألمانية والإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى، وحين أقول الرامايانا فإني أقصد رامايانا فالميكي التي نظمت بالسنسكريتية وذلك تمييزاً لها عن ملحمة أخرى لنفس القصيدة وضعت منذ ثلاثة قرون بلغة أخرى من لغات الهند، وقد بلغني أن الأديب المسلم العظيم الدكتور عبد الحق رئيس جمعية ترقي الأدب الأوردي آخذ في ترجمة رامايانا فالميكي إلى اللغة الأوربية وهي من أشهر اللغات الحية في الهند اليوم. وأحب أن أقول لك إني أطلعت على هذه الرامايانا الحديثة مترجمة إلى الإنجليزية، فوجدتها قد نقلت في لغة رديئة وتروي قصصاً تطنب في ذكر راما البطل المعبود، وقد علمت أخيراً أن هذه الرامايانا أخرجت في السينما وتكلف إخراجها نحو 27 ألف جنيه ولكنها في مدى سنة حصلت للشركة التي تولت إخراجها 240 ألف جنيه ربحاً.
فتح جديد في علم الفيلولوجي:
قال الأستاذ: ولقد أدى نقل الملاحم الهندية القديمة إلى اللغات الأوربية إلى فتح باب جديد للبحث في فقه اللغة (الفيلولوجيا) وإن من نظر الآن في قاموس كامل للغة الإنجليزية يدهشه ما يرى من كثرة المفردات الإنجليزية التي ترجع إلى أصل سنسكريتي، وسيكون لنقل هذه الآثار إلى اللغة العربية نفس الأثر؛ فقد ثبت لي ثبوت اليقين إن هناك تشابهاً كثيراً بين المفردات في اللغة العربية واللغة السنسكريتية، فكلمة (الفيدا) وكلمتي دين وديانة، وأسمي (البستاني) يرجع إلى أصل سنسكريتي فقد وردت كلمة (بستان) في شعر جرير الخطفي، وهي في الأصل مؤلفة من كلمة (بو) و (ستان)، وأصل (بو) في اللغة البهلوية - أي الفارسية القديمة - بول، ومنها الكلمة العربية (فول) وهي البقل المعروض الذي إذا زرع منه الحقل كان أبهى ما يكون منظراً وأطيب ما يكون رائحة بزهره الجميل. ومن كلمة (بول) أخذ اسم الزهرة في الفرنسية والإنجليزية، والمعنى الجامع في هذا كله: الرائحة الطيبة. وأما كلمة (ستان) فهي أصل لمئات الكلمات في اللغات اللاتينية وفي اللغة العربية. فإن معناها المكان أو الوقوف، ومنها هندستان أي مكان الهند وتركستان أو مكان الترك. فكلمة (بستان) معناها مكان الروائح.
أقدم الملاحم وأطولها:
وسألت الأستاذ عما حققه من تاريخ نظم الراماينا والمهاباراتا فقال: إن الرامايانا أقدم من المهاباراتا بنحو قرن واحد وعدد أبياتها في الأصل السنسكريتي 24 ألف بيت فهي أقدم الملاحم العالمية قاطبة. أما المهاباراتا فعدد أبياتها 124 ألف بيت فهي أطول الملاحم العالمية قاطبة، ولكن عشرات الآلاف من أبيات المهاباراتا قد نظمت في مباحث وموضوعات عامة كأحكام الزواج وآداب الضيافة وتقديم القربان وفلسفة خلاص النفس مما لم يهتم أحد من المترجمين بنقله إلى اللغات الأوربية؛ إلا إن الحكومة الهندية قد أحدثت ترجمة كاملة نثرية باللغة الإنجليزية لهذه الملحمة وطبعت في كلكتا منذ أكثر من مائة سنة.
وآراء الباحثين تختلف في تعيين التاريخ للأدب الهندي القديم، فالمتهندون الذين وقفوا حياتهم على البحث في أصول الأدب السنسكريتي يذهبون إلى أن تاريخ هذا الأدب في وجوده يتراوح بين 2400 سنة و2000 سنة قبل الميلاد، والبراهمة والمحققون من أبناء الهند يعتقدون أن تاريخ وجوده أقدم من ذلك بكثير. ومهما يكن من شيء فإني على يقين بأن الرامايانا والمهاباراتا قد تقدمتا في الوجود على الإلياذة، وإذا كان هناك مظاهر كثيرة من التشابه بين هاتين الملحمتين والإلياذة فإن التاريخ لم يذكر إن فاتحاً فتح الهند قبل الإسكندر المقدوني الذي كان يحمل الإلياذة ويسرح كل أسير يروي بيتاً منها. ومن المعلوم على اليقين إن عهد الإسكندر أحدث من عهد الإلياذة نفسها. وفي أثناء سفرتي الثالثة إلى لندن، وهي هذه السفر عنيت بالاطلاع على ماجد من الكتب في مكتبة المتحف البريطاني لاستيفاء البحث في هذه الناحية، وقد سرني أنني لم أجد شيئاً هناك ينقض ما كنت قد وقفت عليه في هذا الشأن.
في ضيافة طاغور:
وحدثنا الأستاذ عن شغفه بالأدب الهندي القديم والروح الهندية الفياضة بالتأمل العميق وهو لما يزل في مطلع شبابه فقال: لقد أخذت وأنا في طراوة العمر بذلك النغم الذي تبينته في الأدب الهندي والفلسفة الهندية وحملتني نفسي في هذا السبيل على أن أعيش عيشة أهل الهند وأن أنسك نسكهم فسافرت إلى هناك وقضيت شهرين في ضيافة طاغور، وأخذت أروض نفسي على حياة الهنود الناسكين، وكنت قد أحسست في جنايا قلبي بكل المشاعر
الإنسانية كشعور المحب وشعور العاشق وشعور الصديق ولكن لم أكن قد أحسست بعد بشعور الوالد، ومن ثم رغبت في الزواج وحملني الإحساس بشعور الأبوة أن أكون أباً، وتزوجت وأقلعت عن حياة النسك ولكني بقيت مندمجاً في تلك الروح الهندية العميقة مأخوذاً بصفائها، ومن ثم كان شغفي بتلك الآداب الهندية القديمة ونقلها إلى اللغة العربية إذ إنها لم تنقل للغة العربية بل لا تزال مجهولة لأبناء العروبة على حين قد عرفها أبناء اللغات الأخرى.
هذه الملاحم:
قال الأستاذ وقد نقلت الرامايانا أعنى رامايانا فالميكي والمهابارابا. والنالا ودامينتي وهي إحدى القصص الخمس المروية في المهاباراتا وقد ثبت إن ثلاث من أبواب كليلة ودمنة وردت قصصها في المهاباراتا ووقع تعريبي لنا لا ودامينتي في 1254 بيتاً، كما نقلت مسرحية الشاكونتالا وقد وضع هذه المسرحية شاعر عاش بين القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد اسمه قاليداس، كما عنيت بنقل الأساطير الهندية القديمة المعروفة بكتب الحكمة وهي ترجع في تاريخها إلى ما قبل وجود الملاحم. . . هذا وقد أسمعني الأستاذ جملة فصول من هذه الملاحم التي نقلها شعراً فأعجبني إنه استطاع أن يكون شاعراً يؤثر الديباجة الرائقة والأسلوب الشعري الموسيقي حتى لقد فاق في ذلك البستاني الكبير في ترجمة الإلياذة. وقد استرعى نظري إنه نقل من الرامايانا فصلاً عن (وصف الشتاء في بنشقائي) فآثر نقله بنغمه الهندي على بحر غير بحور الشعر المعروفة في العربية، وقد أخبرني إنه أثر ذلك ليعطي صورة صادقة من النغم الهندي والروح الهندية.
في الدين الهندي:
وسألته عما يقال عن المعبود (كريشنا) في الأدب الهندي وهل هو يقابل (أبولو) في أدب اليونان. فقال لي أن كريشنا لا يقابل أحداً من آلهة اليونان أو اللاتين، وإنما هو التجسد الثامن عند الهنود، ويعتبر بوذا التجسد التاسع؛ أما التجسد العاشر فلم يظهر بعد وعلامة ظهوره عندهم أن تقوم الملوك ملكاً على ملك وأن تطلب المرأة مساواتها بالرجل. ويعتبر راما التجسد السابع كما أعتبر المسيح تجسداً إذ نسب إلى الله أباً وهذه فكرة هندية قديمة.
فإن كلا من كريشنا وراما نطفة الإله قشنوا وشيوا وهو أقنوم موحد (برهم)، فالدين الهندي دين توحيد لا دين تعديد.
لغة القرآن:
وانتقل الأستاذ يحدثني عن ذكرياته في الحياة ونشأته في الأدب فقال: لقد نشأت في رعاية أبن العم الشيخ سليمان البستاني معرب الإلياذة وكنت أقول الشعر وكان يسددني في طريقه، فلما علم إني بلغت فيه مبلغاً ناداني في يوم وقال لي يا وديع، لقد سرت في طريق الشعر وبلغت فيه مبلغاً، ولكن هل تحسن القراءة؟ ثم ناولني كتاباً وقال اقرأ، فقرأت، ثم قال لا بأس، ولكن أنصحك يا وديع أن تحفظ كثيراً من القرآن الكريم، وأن تقف على أحكام تجويده وتلاوته وتروض لسانك عليه فإن ذلك مما يقوم قراءتك، وإن ذلك هو الأساس السليم لتقويم اللسان في القراءة. وإني قد أخذت نفسي بذلك في صدر شبابي وهكذا أبناء الأسرة البستانية الذين أمسكوا أنفسهم بالعناية بالأدب، فأخذت بنصيحته ونفذتها.
وبعد ألا ترى أيها القارئ إنها كانت ساعة حافلة بالأدب والعلم؟ أجل وإني لأسدي صادق الشكر عليها إلى الأستاذ الجليل.
المجمع اللغوي يؤبن عضوين من أعضائه:
أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية هذا الأسبوع حفل تأبين في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية لفقدي العلم والإنسانية المغفور لهما الشيخ مصطفى عبد الرزاق والدكتور علي إبراهيم باشا، وبعد أن أفتتح معالي أحمد لطفي السيد باشا رئيس المجمع الحفل بكلمة رصينة في تقدير مناقب الفقيدين العظيمين وتصوير الخسارة بفقدهما تقدم الدكتور علي توفيق شوشة باشا فألقى كلمة خاصة بتأبين المغفور له علي إبراهيم باشا استهلها بالحديث عن حياة الفقيد طالباً ثم دكتوراً صغير اختار مدينة أسيوط ميداناً لنشاطه ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى القاهرة إذ ذاع صيته وطبقت شهرته فافتتح مستشفى يحمل اسمه في شارع الصنافيري فلم يكن هذا المستشفى مجرد عيادة بل كان كذلك مجال خير عميم للتخفيف من ويلات الإنسانية وميدان نشاط ثقافي رائع إذ صدرت منه أول مجلة طبية حياته رجل الإنسانية وخادمها، فكان دائماً المجاهد في مكافحة الأمراض المتوطنة والأمراض الوافدة، وكان دائماً يعمل في حرص بالغ على رفع صوت مصر في المؤتمرات الدولية، ثم كان
إلى جانب عبقريته الطبية صاحب ذوق فني وطبيعة جمال النفس وصفاء الذهن وقد تجلى هذا في شغفه رحمه بالتحف النفيسة والآثار الغالية الجميلة.
وألقى الأستاذ أحمد أمين بك كلمة التأبين للمغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق فقال: رحم الله صديقنا وزميلنا مصطفى فقد كان ممتازاً في خلقه؛ ممتازاً في نفسه؛ ممتازاً في علمه، أما امتيازه في خلقه فقد نأى به عما يتخلق به أمثاله من أبناء الحسب والنسب والغني والجاه فما بطر ولا تعجرف، وأما امتيازه في نفسه فإنه يظهر في أسلوبه الذي كان يؤثره واختيار اللفظ الأنيق في تدبيج عبارته؛ ثم تحدث عما كان يتحلى به من كرم النفس وسماحة اليد وبذل العون للمحتاج، وإنتقال بعد ذلك فتحدث عن حياة الفقيد ونشأته الأولى في كنف الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبدة ثم تنقله بعد ذلك في مدارج الحياة حتى انتهى إلى مشيخة الأزهر ثم قال إنه كان في هذه المرحلة الأخيرة من حياته برماً لما يحيط به من الصعاب في القصد إلى إصلاح الأزهر، وكان يطوي نفسه على كثير من الخير في هذا السبيل لولا إن عاجلته المنية. . .
رحم الله الفقيدين الجليلين اللذين خسرتهما مصر، وخسرهما العلم، وفقدتهما الإنسانية. . .
(الجاحظ)
الكتب
المشكلة الألمانية
(دراسة سياسية اقتصادية اجتماعية)
تأليف الأستاذ سامي عازر جبران المحامي
للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك
الأستاذ سامي عازر جبران محام شاب نابه لم يقصر نشاطه على المحاماة؛ بل له في الصحف والمجلات - وفي المجتمعات أحياناً - بحوث في المسائل السياسية والاجتماعية لها طابع خاص من الدرس والتمحيص. ولعله اقتبس هذه الميزة عن والده المحامي الكبير الأستاذ عازر جبران، فقد كانت أحاديثه ومناقشاته في مجلس الشيوخ متسمة باتساع في الأفق وإحاطة بدقائق الموضوعات التي يطرقها. ولقد زاملته وزاملني في هذا المجلس وقتاً ما. ووددت لو استمرت هذه الزمالة. ولكن الحكومة لم تجدد تعيينه بعد انتهاء مدة عضويته. وهو ثالث ثلاثة كان عدم تجديد تعيينهم حجة لي على الذين يرمون هذا الشعب بأنه لا يحسن اختيار الأكفاء لتمثيله في انتخابات حرة. وقلت لهؤلاء اللائمين أن يخففوا من غلوائهم في تجريح الشعب. وضبت لهم الأمثلة على اختيار الحكومة أمعن في الخطأ وعدم تقدير الكفايات من اختيار الشعب إذا تركت له حريته في الانتخاب. منهم الأستاذ عازر جبران وسلم اللائمون بأن حجتي مقبولة بالنسبة لهؤلاء الثلاثة.
(المشكلة الألمانية) دراسة منسقة مستفيضة للأستاذ سامي أخرجها في كتاب متوسط الحجم. عالج فيه مسألة من أهم المسائل العالمية التي تشغل أفكار الناس كافة. وهي الطريقة التي يحسن أن تعامل بها ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الأخيرة. وقد طرق المؤلف هذا الموضوع من شتى نواحيه. وعرضه على القارئ عرضاً شائقاً، وقرن كل دراسة لفصوله بالرأي الذي يرتئيه. ويبدو لن يقرأ الكتاب أن مؤلفه درس المسائل التي عرض لها دراسة مستفيضة. وأحاط بالبحوث التي أخرجها علماء السياسة وأقطابها. فجاء كتابه ثمرة طيبة لدراسات وتأملات عميقة. وفي الحق أن القارئ لهذه الدراسات يسره أن يرى فيها وفي مثلها صورة من جهود الشباب في نشر الثقافة السياسية والاجتماعية بطريقة علمية تأليفية.
ولا يرى الأستاذ سامي أخذ ألمانيا بالشدة المتناهية في الانتقام وساق على ذلك أدلة مقنعة، أهمها إن المعاملة الصارمة التي عوملت بها عقب الحرب العالمية الأولى كانت من العناصر التي ولدت الحرب العالمية الثانية. وإن مسؤولية الحربين لا يمكن أن تحصر في سياسة ألمانيا وحدها. وإن نظرية تفرد شعب بالذات بصفة الاعتداء والوحشية نظرية تعسفية؛ لأن أصل شعوب الأرض واحد أياً كان ذلك الأصل. ولأن النازية (الوطنية الاشتراكية) هي سمة ألمانية الفاشية، والفاشية لا هي بالألمانية ولا هي بالإيطالية ولا هي باليابانية؛ وكلنها ظاهرة دولية انتشرت في مختلف بقاع العالم.
وساق الأستاذ سامي الأدلة على إن الشعب الألماني شعب مسالم بطبعه. لم يكن راغباً في الحرب بل كان يميل عنها وينفر منها. ولكن النازية هي التي دفعته إلى الحرب. فمن الإنصاف أن لا يؤخذ الشعب بجريرة النازية. وإن مهمة الديمقراطية المنتصرة ليست في تحطيم الشعب الألماني بل في تحطيم النازية وحدها. أما إذا هي عملت على تحطيم الشعب الألماني فإن هذا سيثير في نفسه روح البغض والكراهية مما يمهد في المستقبل إلى حرب عالمية أخرى. وإن الاحتلال العسكري الطويل في ألمانيا يعطل الثورة الاجتماعية المرتقبة فيها والتي تميل بها إلى الديمقراطية.
ومن آرائه الموافقة قوله إنه لا يمكن أن نتصور أن أية محكمة دولية أو أية حكومة أوربية يصح أن تكون أكثر من ستار شفاف لديكتاتورية يفرضونها على العالم، وإن التاريخ يعلمنا إنه من النادر أن استعمل القوي قوته استعمالاه محايداً للصالح العام، وأن الحل الوحيد الحاسم يتلخص في تحويل ملكية القوات الحربية من ملكية الدول منفردة إلى ملكية دولية عامة. لأنه طالما أن كل دولة تملك قواتها الحربية وأسلحتها فسيظل (توازن القوى) هو الشغل الشاغل للسياسة الدولية.
وقارن الأستاذ سامي بين موقف المنتصرين في أعقاب الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وموقفهم في مؤتمر فينا سنة 1814 - 1815 عقب سقوط نابليون وانتصار الحلفاء على فرنسا وقتئذ، وكيف عولمت فرنسا معاملة معتدلة فقبلت شروط الصلح ونفذتها راضية دون أن تفكر في الانقضاض عليها، فلم تنشب في أوربا حرب عالمية كبرى زهاء مائة عام. على عكس ما وقع في مؤتمر فرساي سنة 1919 فإن
شروط المنتصرين القاسية مع ألمانيا جعلت الحرب العالمية الثانية تقوم قبل انقضاء ربع قرن على الحرب العالمية الأولى.
وبعد فإني أهنئ الأستاذ سامي عازر جبران بهذا الكتاب القيم. وبهذا الجهد الموقف في البحث والتفكير، والعرض والتحليل وحسن الأداء. وأرجو له المزيد في الإنتاج والتأليف.
عبد الرحمن الرافعي
معجم أدباء الأطباء
تأليف الأستاذ الباحث محمد الخليلي
موضوع هذا الكتاب يقتصر على طائفة خاصة من الأعلام هم أدباء الأطباء، والعلاقة بين الأدب والطب علاقة وثيقة، وكثيرون هم الذي نبغوا في الناحيتين وبرزوا في الصناعتين، وقد كان العرب يعتبرون الطب أحد فروع الأدب، وكانت الموسيقى وكل وسائل الطرب مما يستخدمه الأطباء في مهنتهم، ونظراً لأن آثار هؤلاء الأطباء الأدباء قد تبعثرت في بطون الكتب القديمة عني الأستاذ محمد الخليلي من علماء النجف الأشرف يجمع تراجمهم وآثارهم في مجمع شامل أخرج الجزء الأول منه، وهو الذي نقدمه اليوم إلى القراء.
وقد ترجم الباحث الفاضل في مجمعه هذا لسائر الأطباء الذين عرفوا بالأدب وكان لهم فيه أثر من شعر أو نثر، سواء في ذلك الذي نبغوا بالمشرق أو بالأندلس أو بشتى الأمصار والأقطار العربية وسواء في ذلك الذين ظهروا في الجاهلية أو في صدر الإسلام أو في العصر الحديث، فأنت تقرأ في هذا الجزء من المعجم مثلاً ترجمة أبن حذيم التيمي الطبيب العربي الجاهلي إلى جانب تراجم الدكاترة إبراهيم ناجي وأحمد زكي أبو شادي وشبلي شميل من أبناء هذا العصر.
والمؤلف يوجز في بعض التراجم ويفيض في بعضها، وذلك على حسب ما يقع له من المصادر، وهو يعني بإسناد كل رواية إلى صاحبها وكل ترجمة إلى مصادرها، وذلك مظهر من مظاهر الأمانة العلمية، وقد أورد التراجم على نسق الحروف الأبجدية، وقسم معجمه إلى جزئين، انتهى في الجزء الأول الذي بين أيدينا إلى حرف العين، على أن يستوفي البقية في الجزء الثاني، ونحن إذ نشكر للمؤلف النجفي الفاضل عمله الجليل،
ونظري فكرته وجهد في إخراج هذا المعجم المفيد نرجو أن يوفق لإصدار الجزء الثاني في القريب.
بين العلم والأدب
تأليف الأستاذ قدري حافظ طوفان
إذا تناول القارئ هذا الكتاب وهو من تأليف الأستاذ الباحث قدري حافظ طوفان من أبناء فلسطين النابغين وجده حجة لأبناء الشرق العربي فيما كان لهم من مجد سالف وفيما أسدوا إلى المدنية والمعرفة من فضل سابغ، فإن القسم الكبير من هذا الكتاب إنما هو في بحث التراث العربي والمآثر العربية في العلم والمعرفة وإطلاع أبناء العروبة على ما خلف آباؤهم من آثار نافعة يجب أن تكون ضمن أسلحتهم في تحقيق رسالتهم القومية التي ينشدونها في هذه الأيام.
ففي هذا الكتاب أحاديث ومقالات عن التراث العربي والحاجة إلى إحيائه، والأدب والرياضات، والملاحة عند العرب، وأبن ماجد أسد البحر الهائج، وبيت الأميرة والممهدون للاكتشاف والاختراع، وإلى جانب هذا مقالات عن نيوتن والجمعيات العلمية في إنجلترا، وحول القنبلة الذرية إلى غير ذلك من المقالات والفصول المختلفة التي تتقارب في الموضوع والغرض. وسيق للأستاذ المؤلف أن نشر هذه المقالات وأذاع بعضها في أحاديث الإذاعة ولكنه أحسن إذ جمعها في سفر لتكون مرجعاً يسهل تناوله.
والواقع إننا في نهضتنا قد عنينا بالدراسات الأدبية عناية واسعة، ولكن عنايتنا بتراثنا العلمي وبالثقافة العلمية لا تزال ضئيلة فاتجاه الأستاذ قدري إلى هذه الناحية اتجاه محمود نرجو أن يتسع أثره ويعم نفعه.
محمد فهمي عبد اللطيف
البريد الأدبي
العام والسنة:
من أحمد بن يحيى إلى الأستاذ لطفي عثمان - من أين جاءهم أن (السنة من أي يوم عددته إلى مثله والعام لا يكون إلا شتاء وصيفاً) حتى كان ما على غلاف مجلة الهلال الغراء: (أسست دار الهلال منذ نيف وخمسين عاماً) خطأ والصواب (أن يقال منذ خمسين سنة)؟!
وماذا يقولون في قوله تعالى عن نوح (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً)؟ هل يجب أن يكون استخدام العام بمعنى السنة أو أن تكون أعوام نوح مشتملة على شتاء كامل وصيف كامل بخلاف أعوام مجلة الهلال وأن يكون الاستثناء منقطعاً - هل يجب كل هذا ليصح قول أحمد بن يحيى في الفرق بين السنة والعام؟
وماذا يقولون أيضاً في قوله تعالى (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أني يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه. قال كم لبثت؟ قال لبثت يوماً أو بعض يوم، قال بل لبثت مائة عام)؟! أكان ابتداء الحساب مضبوطاً بحيث شكل كل عام صيفاً وشتاء أم هو عد من أي يوم إلى مثله؟ أم إن السنة والعام لا فرق بينهما وإن الصحيح هو مذهب العوام لا مذهب أحمد بن يحيى؟
وما قيل في هاتين الآيتين الكريمتين يقال في قوله تعالى: (وفصاله في عامين) ولا أحسب أن أحداً فهم من هذه الآية إنه إذا اتفق أن ولد المولود في بعض شتاء أو بعض صيف أن يلغي هذا ويبدأ بحساب صيف كامل وشتاء كامل ليتحقق معنى العام بل الكل - كل من رأيت قوله من الفقهاء - يقول بأن مدة الرضاع سنتان أي 24 شهراً، وما الداعي لأن يقول عامين وبقصد سنتين إلا أن يكون العام هو السنة؟ ويقال أيضاً في سائر الآيات الكريمة التي ورد فيها ذكر العام.
فلسطيني
في اللغة:
في العدد (713) من (الرسالة) الغراء قصيدة للأستاذ محمد علي مخلوف بعنوان (أوهام) يقول في بيت منها:
وقلبي في نهر الحياة سفينة
…
تميد على صم الصخور ولا ترسي
باستعمال الفعل (ترسي) في آخر البيت بالياء بدل الواو، إذ المعلوم أن الفعل (رسا) من باب عدا وسما أيضاً والمضارع منهما هو (يرسو) وليس يرسي بالياء كما ذكر الأستاذ.
ولا أظن القافية تسمح للأستاذ الشاعر بما أورده مخالفاً لقواعد اللغة، وهي ثابتة.
هذا، وللأستاذ (مخلوف) تحية الأديب، والسلام.
عدنان أسعد
جوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول
ذكرنا في عدد مضى إن إرادة صاحب الجلالة الملك فاروق
الأول قد اقتضت أن تنشأ ثلاث جوائز مالية سنوية قيمة كل
منها ألف جنيه يطلق عليها اسم (جوائز فؤاد الأول)
وتخصص كل منها لصاحب أحسن عمل أو إنتاج في الآداب
والعلوم القانون، ويكون موعد محنها في اليوم الثامن
والعشرين من شهر أبريل من كل عام لمناسبة ذكرى وفاة
المغفور له صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول. ورداً على هذه
التحية الملكية الكريمة للعلم وأهله أنشأت وزارة المعارف
ثلاث جوائز سنوية قيمة كل منها ألف جنيه تمنح لصاحب
أحسن عمل أو إنتاج في فرع من الفروع الرئيسية للعلوم
وتسمى (جوائز فؤاد الأول) ويكون موعد منحها في اليوم
الحادي عشر من شهر فبراير من كل عام ابتهاجاً بعيد الميلاد
الملكي السعيد. وبمقتضى قرار وزير المعارف بتاريخ
2731946 تألفت برياسته لجنة لوضع شروط المسابقة ومنح
الجوائز، وقد اجتمعت اللجنة أربع جلسات وانتهت إلى إقرار
الشروط التي ستعلنها على الناس. وقد انعقد إجماع اللجنة
على أن الجوائز تهدف أول ما تهدف إلى العلم النافع في
الحياة المصرية الملائم لتطورها والذي يساعد على استثمار
مصادر الثروة المصرية وزيادة الإنتاج.
ولهذه الجوائز لجنة دائمة تؤلف من وزير المعارف رئيساً وستة أعضاء يمثلون الفروع المختلفة، وتختار اللجنة الدائمة في كل عام لجاناً لفحص الإنتاج المقدم في كل مادة يعين أعضاؤها بقرار من وزير المعارف؛ وهذا هو القرار الوزاري لتعيين أعضاء هذه اللجان لهذا العام:
وزير المعارف العمومية
بعد الاطلاع على المرسوم الملكي الصادر في 15 شوال سنة 1365 (11 سبتمبر سنة 1946) بإنشاء جوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول وعلى البند الخامس من شروط منح هذه الجوائز الملحقة بهذا المرسوم.
وبعد موافقة اللجنة الدائمة لجوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول المؤلفة بمقتضى المرسوم الملكي الصادر في 4 محرم سنة 1366 (28 نوفمبر سنة 1946). قر:
المادة الأولى
تؤلف لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للآداب عن سنة 1947 من:
حضرة صاحب المعالي أحمد لطفي السيد باشا
(الدكتور إبراهيم بيومي مذكور
(الأستاذ أحمد حسن الزيات
(صاحب السعادة أنطون الجميل باشا
(صاحب العزة عبد الحميد العبادي بك
(الأستاذ محمد أحمد خلف الله
(الأستاذ محمد توفيق دياب
(صاحب السعادة الدكتور محمد حسين هيكل باشا
(صاحب العزة محمد عبد الواحد خلاف بك
(صاحب العزة الدكتور محمد عوض محمد بك
(صاحب السعادة الدكتور منصور فهمي باشا
ويتولى سكرتيرية هذه اللجنة حضرة صاحب العزة الدكتور محمد عوض محمد بك يعاونه حضرة الأستاذ علي أدهم
المادة الثانية
تؤلف لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للقانون عن سنة 1947 من:
حضرة صاحب المعالي الدكتور محمد بهي الدين بركات باشا
(صاحب العزة أحمد حلمي بك
(صاحب العزة جندي عبد الملك بك
(الدكتور حسن أحمد بغدادي
(الأستاذ حلمي بهجت بدوي
(صاحب العزة سليمان حافظ بك
(صاحب السعادة سيد مصطفى باشا
(صاحب العزة عبد الرحيم غنيم بك
(صاحب العزة عبده محرم بك
(صاحب السعادة علي زكي العرابي باشا
(صاحب العزة محمد الوكيل بك
(صاحب السعادة محمد كامل مرسي باشا
(صاحب العزة مصطفى مرعي بك
(الدكتور وحيد رأفت
ويتولى سركتيرية هذه اللجنة حضرت صاحب العزة عبده محرم بك يعاونه حضرة الدكتور حسن أحمد بغدادي
المادة الثالثة
تؤلف لجنة الفحص لجائز فؤاد الأول للعلوم الطبيعية والرياضية والفلكية عن سنة 1947 من:
حضرة صاحب السعادة حسن صادق باشا
(صاحب العزة الدكتور أحمد عبد السلام الكرادني
(صاحب العزة سيد فهمي بك
(الدكتور صادق بشارة
(صاحب العزة عبد الرحمن الشناوي بك
(صاحب العزة عبد العزيز أحمد بك
(صاحب السعادة عبد المجيد عمر باشا
(الدكتور عدنان والي
(صاحب العزة الدكتور محمد رضا مندور
(صاحب العزة محمد صادق جوهر بك
(الدكتور محمد مرسي أحمد
(الأستاذ محمود على فضلي
ويتولى سكرتيرية هذه اللجنة حضرة الدكتور محمد مرسي أحمد يعاونه حضرة الدكتور إبراهيم حلمي عبد الرحمن.
المادة الرابعة
على سعادة وكيل الوزارة المختص تنفيذ هذا القرار
وزير المعارف
النهوري
القصص
المحسنة. . .
مختصرة عن (مرسيل بريفو)
كان كل منا قد قص على الحاضرين قصة، أو حكى طرفة، أو روى خبراً، إلا سيدة حسناء، كانت جالسة طيلة الاستماع لكلامنا، وتحبس حديثها علينا، فقال لها أحدنا:
- أراك يا سيدتي تطيلين السكوت، فهل عدمت ما تقصينه علينا؟
فابتسمت المرأة ابتسامة قصيرة، وقالت؛ وكأنها اعتزمت على هجر الصمت الذي لزمته طويلاً، والخوض في حديث طويل:
- ليس فيما سأقصه عليكم، مجلبة لمرحكم وسروركم، ولكنه مع هذا شيء بسيط، أحسست له اضطراباً في أعماق نفسي، وأثراً بين حنايا ضلوعي، ثم اعتدلت في مجلسها، وتابعت قولها:
-. . . قبل أسبوع خرجت مع طفلتي (سوزان) - وهي كما تعلمون، طفلة وديعة، ذكية، في ربيعها الثاني - سائرة بها إلى مدرستها. وكان الجو رائقاً، والشمس مشرقة، فسرنا على قدمينا نجتاز شارع (الشانزليزيه) ونحن أشد ما نكون سروراً بالحياة، وغبطة بالدنيا. فلما وصلنا ملتقى (الرون برون) تقدم منا، بخطوات مرتجفة، وأقدام هزيلة، صبي فقير، ومد نحونا يده الصغيرة المرتعشة، يسألنا الرحمة، ويناشدنا المساعدة، وهو يتكلم بعينيه، لا بلسانه، فهو على ما يظهر، قد عدم المقدرة على الكلام.
وكنت آنئذ، أمسك يد ابنتي بيسراي، وأحمل مظلتي بيميني، وأقول الحق إنني لم أكلف نفسي عناء إخراج كيس نقودي، لأضع في يده شيئاً من المال، فتابعت مسيري مع طفلتي التي كانت تطيل النظر إليه.
وما كدنا نخطو عدة خطوات، حتى انقطعت طفلتي عن الكلام، وكفت عن مداعباتها لي. وأحسست أنا الأخرى الإحساس نفسه والرغبة في الصمت. ووصلنا ميدان (الكونكرد) ولم ننبس لا أنا ولا ابنتي بكلمة واحدة، منذ أو وقعت عينانا على وجه ذلك الصبي المسكين!
وشعرت في أعماق نفسي بشعور من الضيق كان يتزايد ويتعاظم كلما أوغلت في سيري، كما أحسست إنني قد أسأت إلى ذلك السائل المسكين إذ لم أمنحه شيئاً. غير إنني حاولت أن
أخفف جريمتي هذه، فقلت لنفسي: إنني سأساعد أول فقير أصادفه في طريقي بعد الآن.
وظننت إن هذا العزم سينقذني من تقريع ضميري، ويخلصني مما استولى علي من ضيق، ولكنه على عكس ما كنت أتأمل، فإن هذا الشعور، أخذ يزداد وبكبر، وأحسست في نفسي بما يشد قدمي، ويمنعها من متابعة سيرها، والعودة بي إلى ذلك المسكين. ورفعت (سوزان) وجهها الصغير إلي، وقالت:
- أماه. . .
- ما بك يا عزيزتي؟
لم لم تمنحي السائل الذي رأينها في الطريق شيئاً من المال؟
فعلت أن طفلتي، لم تركن إلى السكون، ولم تخلد إلى الصمت، إلا لأنها كانت مثلي مشغولة البال بذلك السائل المسكين، فقلت لها:
الحق معك يا عزيزتي، سنعود إليه ثانيةً.
وألقيت نظرة على ساعتي، فوجدت أن هناك متسعاً من الوقت لكي أعود إلى الصبي المسكين، وأمنحه شيئاً من النقود، ثم أعود بطفلتي إلى مدرستها.
ولم أتردد في استدعاء عربة، عدنا بها إلى (الشانزليزيه)، وكانت (سوزان) خلال الطريق، قلقة النظرات، وكنت أنا أحس في نفسي بمثل قلقلها خوفاً من أن لا نجد الصبي في مكانه.
ووصلنا المكان الذي أبصرناه فيه فلم نجده هنالك، فسألنا عنه عجوزاً كانت تحرس أحد الأبواب، فقالت لنا إنها تذكر إنها رأته قبل دقائق، وإنها لم تره في هذا المكان إلا اليوم فقط.
وينما نحن نهم بالرجوع خائبين، وإذا (بسوزان) تلمحه من بعيد مستنداً إلى جذع شجرة كبيرة. فأسرعت إليه بالنقود، ووضعتها في يديه، وعادت إلي مسرورة مغتبطة. أما أنا، فقد شعرت كأن عبئاً ثقيلاً قد أزيح عن كاهلي، وراحة لطيفة تعود إلى نفسي.
وسكتت الحسناء، فخيل إلينا أننا نعيش في جو غير الذي كنا نعيش فيه، وإننا نحيا حياةً غير تلك التي كنا نحيها، وكأننا كنا نقف خاشعين أمام فيض من الإنسانية والرحمة.
البصرة (عراق)
يوسف يعقوب حداد