المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 718 - بتاريخ: 07 - 04 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧١٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 718

- بتاريخ: 07 - 04 - 1947

ص: -1

‌الجلاء الأعظم

للأستاذ محمود شاكر

أكتب هذا وكل ذرة في ثرى مصر وفي جوها وفي مائها تتلفت حواليها لتنظر إلى الضجة التي خفقت في جنيات الأرض المصرية لليوم المشهود - يوم الجلاء عن مدن الوجهين القبلي والبحري إلا ما استثنته بريطانيا عصباً وافتئاتا. نعم هو الجلاء - جلاء الجندي المتغطرس الذي كان يمشي على أديم مصر تياها مستكبراً متعاليا ليذل الشعب الذي احتقره وازدراء على قوته وعلى سلطانه، ولم يعبأ ولا بثيابه بكبريائه. وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الفقير الذي يسير في الطريق حافياً في أسمال؟ وكيف يفعل ذلك وهو الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من أمر الدنيا إلا ما حضر بين يديه؟ وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الذي هزمته بريطانيا في موقعه التل الكبير 1882، ثم انساحت جيوشها في أرضه بالمذلة التي كتبها الله عليه؟ هكذا كان يمشى كل جندي بريطاني على أرض مصر وهو يحدث نفسه بهذا كله، والمصري ينظر ليس فيها الحقد ولكن فيها الاحتقار، ويبتسم إليه ابتسامة ليس فيها الرضى ولكن فيها السخرية، ويصافحه مصافحة ليس فيها الترحيب ولكن فيها الإيمان بأن الذي أمامه إنسان مغرور يظن أن الدنيا باقية له، وهي الدنيا التي تداولتها من قبله القرون والأمم فرالوا وبادوا، ونالها من بعدهم من كانوا لهم تبعاً أو عبيداً.

هكذا كان ينظر الشعب الجاهل الفقير المهزوم بزعمهم نظرة فقيرة ولكنه عزيز، شعب جاهل ولكنه مؤمن، مهزوم ولكنه مترفع عن دنايا الأخلاق.

نعم هذا الجلاء، ولكن هل يقنع هذا الشعب به؟ وهل يزيله الفرح بما تم عن الهدف الذي رقى إليه؟ إن بريطانيا قد علمت أن لا قبل لها بإبقاء جنودها مفرقة في مدن مصر فتكون قذى في العيون يحدث آلاما تنبه النفوس يوماً بعد يوم إلى عدوانها وبغيها، فآثرت أن تحمل جنودها وتجمعهم في مكان بعيد عن عيون الشعب، تريد أن تجعل مثل هذا العبث منة يحملها الشعب المصري، فكيف عن مطالبتها وعن كشف عيوبها وسيئاتها وخبثها. فما رأت أن هذا الشعب العجيب قد فرح بجلائها عن بعض أرضه، ولكنه لم يكف عن مطالبتها، ولا عن إماطة اللئام عن رذائلها، قامت صحفها تزعم أن الصحف المصرية قد شنت على بريطانية (حملة سباب) ف نفس المكان الذي أشارت فيه إلى مسألة الجلاء

ص: 1

إشارة عابرة. وهذا دليل على أن موقف الشعب قد غاظها غيظاً شديداً وأنها كانت تؤمل أن تخدعنا بهذا الجلاء من أماكن في أرض مصر إلى مكان واحد حصين في أرض مصر أيضاً، فلما كان غير الذي أرادت زعمت أنها (حملة سباب).

ومن الذي يسب؟ أمصر المسكينة التي احتملت وقاحة جيوشها وقوادها منذ سنة 1882، وصفاقة رجالها جاءوا ليحكموا هذا الشعب بالقوة والبطش من أمثال كرومر وكتشنر واللنبي ولويد ومايلز لامبس؟ أهي مصر المسكينة التي تسب اليوم بريطانيا وقد سمعت سفاهة الصحافة البريطانية على شعبها وهو يوصف بالرعاع، وسباب الصحف البريطانية للطلبة المصريين الذين كانوا يخرجون من مدارسهم للجهاد في سبيل وطنهم وبلادهم.

إن مصر حين تصف أعمال بريطانيا بالسفاهة والوقاحة والصفاقة - لا تسب بل تقرر حقائق وتسميها بأسمائها التي خلقت لها، ولم تخرج في ذلك عما وصفها الرجال المحايدون الذين وقفوا ينظرون إلى أعمال بريطانيا في مصر والسودان. فالشعب المصري لا يسب بريطانيا وإنما تسبها أفعالها وأفعال رجالها. وإذا أرادت بريطانيا أن لا تسمع المسبة من الشعب المصري ومن سواه في أقطار الأرض، فلتقلع عن سياستها التي توجب لها هذه الصفات، والتي تدفع أمما كثيرة غير مصر والسودان إلى أن تصفها بأشد مما وصفتها به مصر والسودان.

والعداوة التي بيننا وبين بريطانيا قائمة ما بقى في أرض مصر من منبع النيل إلى مصبه جندي بريطاني واحد، ولن تكف عن عداوتها وعن ذكر سيئاتها إلا إذا جلت جلاء تاما عن كل مكان انتزعته من بلاد مصر والسودان بالكذب والمكر والخديعة والتدليس، ولن تكف ألسنة مصر عن وصف أعمال بريطانيا بأسمائها التي خلقت لها إلا إذا كفت هي عن عداوتها وأعطت كل ذي حق حقه. إنها عداوة باقية بيننا وبينها حتى تدع لنا أرضنا، وتدع للعراق أرضه، وتدع لفلسطين العربية أرضها، وتقاوم معنا كل باغ أعانته هي فيما مضى على بغيه وعدوانه، كالذي كان من أمرها في مسألة تونس ومراكش والجزائر وليبية وبلاد إفريقية التي أطلقت فيها يد فرنسا وإيطاليا ليطلقوا لها يدها في مصر وفي سوى مصر.

بل إن جلاء الجنود البريطانية لن يكفي وحده أن يكون مدعاة لنسيان تاريخ بريطانيا وأفعالها. لقد دخلت بريطانيا بلادنا وبلاد سوانا، فاستعانت بشذاذ الأمم الذي لا يجدون في

ص: 2

بلادهم ما يأكلون، وجاءت بهم إلى مصر والسودان وكل أرض كتب الله عليها أن تبتلي ببريطانيا وسياستها الاستعمارية، وحمت هؤلاء الشذاذ وشدت أزرهم وملكتهم الأموال والأرزاق، ونفخت في قلوبهم كبرياء الحقير الذي علا بعد ضعة، ومدت لهم مدا طويلا حتى صاروا سادة علينا وهم يأخذون ما في أيدينا - أي يسرقون ما قي أيدينا. أنت بالشذاذ من كل أمة وجعلتهم جاليات وأقليات وفرضت على نفسها حمايتهم فيما تزعم، واستنكفت لهم أن يتقاضوا في محاكم البلاد التي آوتهم بعد تشرد، وميزتهم عن أبناء البلاد في كل شئ حتى في معاملاتهم التجارية. حتى صارت لهم قوة بيوتنا، ويتعالون عنا، ويحتقرون أبناءنا ورجالنا، ويسخرون من آدابنا وعقائدنا. ويطعنون في أخلاقنا، ويشتموننا في الطرقات وهم في حمى بريطانيا ذات المجد والشرف!!

وأكبر من ذلك أنها حمت هؤلاء الشذاذ حماية أخرى ليكونوا لها جنوداً في ثياب مدنية، فأقطعتهم المدارس ينشئونها حيث يشاءون، وجاءت بدنلوب ليضرب التعليم المصري ضربات قاضية لا تزال إلى اليوم باقية لا تدري وزارة المعارف كيف تخلص منها. وإذا هذه المدارس تأخذ أبناءنا من بيوتنا، فتضعهم بين جدرانها، وتنفث فيهم سمها، وتحقر لهؤلاء الصغار بلادهم وأهلهم، وتمتهن لغتهم حتى كانت تمنع طلبتها عن أن يتكلموا بالعربية بتة، ولا في أوقات الفسحة ما بين الدروس، فإذا فعل ذلك طفل منهم عوقب أشد العقاب، وداروا به على الفصول كأنه مجرم قد ارتكب أشنع جريمة يعاقب عليها القانون وبقيت بريطانيا الممثلة في دنلوب ونظام دنلوب ورجال دنلوب تحمى هذا الوباء وهذا البلاء حتى استفحل، وخرج جيل من أبناء مصر نفسها ينظر إلى بلاده كأنها أرض غريبة يحتقرها كما رأى أستاذه الأجنبي يحتقرها، وكما رأى زميله الأجنبي يزدريها.

وأكبر من ذلك أيضاً أنها أخذت هؤلاء المساكين الذين أضلتهم مدارسهم الأجنبية فآوتهم ونصرتهم ثم مكنت لهم، وصاروا لها أشياعاً يثنون عليها ويفضلونها على سائر أهل الأرض، وعلى أهل بلادهم. واتخذوا لذلك كل أسلوب يدل اتخاذه على أن بريطانيا لا تتورع عن أن تجعل أخس الطبائع البشرية والشهوات الإنسانية سلاحاً تقاتل به الشعب الذي اعتدت عليه واستبدت به. فصار الشعب المصري يسمع مصرياً مثله يبسط لسانه في تاريخ شعبه وفي أخلاق شعبه غافلا عن السبب الأول الذي كان داعياً إلى انهيار هذا

ص: 3

الشعب، ألا وهو بريطانيا وشذاذها.

فكل هذا وكثير سواه كان احتلال أدبيا ضرب على مصر والسودان كما ضرب عليها الاحتلال العسكري، فنحن لن نكتفي بأن يزول الاحتلال بجلاء الجنود؛ بل لابد من إجلاء ما ورثناه الاحتلال العسكري من نظم ومن شيع ومن عادات ومن أخلاق؛ حتى لا يكون المصري والسوداني غربيا في بلاده، ممتهنا في أرضه، مضروبا بالفقر والجهل والهزيمة في دياره.

ذلك هو يوم الجلاء الأعظم: يوم يعود إلينا أخونا المصري السوداني المقيم في بريطانيا (يعقوب عثمان) ليقول لبلاده إني أخطأت فاغفري لي زلتي وتجاوزي عن خطيئتي، ويوم يخلع الشباب المصري السوداني من فتيان وفتيات كل الزينة التي أضفتها عليهم مدارس الليسية الفرنسية، وفكتوريا الإنجليزية، والمدارس الأمريكية، ويخرجوا إلى أهليهم خاشعين خاضعين نادمين يعتذرون من الآثام التي ألموا بها أو قارفوها في حق بلادهم وفي حق آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم وأسلافهم وأعقابهم. بل يوم يخرج المهدي عن أمواله لمصر والسودان، ويعفر وجهه في ثرى النيل الأعظم، ويستغفر الله مما كسب من الإثم في حق مصر والسودان، أرض آبائه وأجداده؛ بل في حق أبيه الذي لم تتورع بريطانيا عن إهانة عظامه وهو ميت لا يملك دفعا عن نفسه.

إنه يوم الجلاء الأعظم - يوم يقف كل مصري سوداني أيامه وساعاته للتكفير عما فرط منه، ويوم يعمل جاهداً في إزالة كل اثر للاحتلال في نفسه، ويوم يخرج إلى الطريق ليميط الأذى عنه استعداد لمقدم الأجيال الحرة التي ترث أرضا طاهرة لم تلوثها غفلة القرون الماضية أو ضعفها أو استكانتها أو رضاها بالذل والمهانة طمعا في مال زائل ومجد حائل.

إنه يوم الجلاء الأعظم، يوم لا يسمع ثرى مصر لسانا أعجميا من أهله أو من غير أهله ينطق بغير اللغة التي ينطقها الشعب المصري السوداني، ويوم لا يخرج المصري السوداني فتتحداه تلك الطوائف من شذاذ الأمم ناطقة بغير لسانه وساخرة من لسانه.

إنه يوم الجلاء الأعظم، يوم يستطيع المصري السوداني أن يقف على ثرى أرضه مطمئنا لأنه حر من أحرار، وينظر حوله متلفتا يمنة ويسرة فلا يرى إلا وجوها عربية وبلادا عربية تضم الأحرار أبناء الأحرار.

ص: 4

محمود محمد شاكر

ص: 5

‌من صفحات مطوية:

إنطاكية وخليج الإسكندرونة في الحرب العظمى الأولى

للأستاذ أحمد رمزي بك

ينعم المرء بمناظر رائعة إذا كان على ظهر باخرة تسير على مقربة من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إذ تظهر جبال لبنان والعلويين أمام ناظريه وتحتها المرافئ متقاربة متشابهة؛ فإذا جن الليل تبدو أنوار القرى المتناثرة على سفوح الجبال وهي تتلألأ في الظلام. إنه منظر يوحى لراكب البحر في ظلمات الليل البهيم شعور الأمن والاطمئنان، فتزول من نفسه مخاوف البحر ومخاطره. فإن وصلت إلى خليج الإسكندرونة وجدت البحر يغزو الأرض ويبدو هذا الجزء منه كأنه بحيرة تحيط بها الجبال من ثلاث جهات، ووراءها قمم عالية شامخة كأنها تناطح السماء: هذه جبال اللكام عند العرب وأمانوس عند الفرنجة وطوروس وجبال الكفرة، كاروطاغي، عند الأتراك.

ولقد كنت مسافراً مرة في أواسط الأناضول فبلغت مدينة قيصرية، وهي التي فتحها ملكنا الظاهر بيبرس، وركبت القطار منها إلى الشام، فوقف بنا عند مخرج نفق على جبال طوروس، وكان على رأسه محطة أشاروا على بالنزول فيها لآخذ منها القطار السريع من هذه الرابية العالية رأيت البحر ممتداً من بعيد، وكشفت سهول ولاية أضنة أو كيليكية، كما تبدو للناظر إليها من نافذة طائرة محلقة في السماء: قلت هذا هو أول ما تقع عليه أنظار كتائب الزاحفين من الشمال، وهذا ما رأته جنود الصائفة والحمدانيين وعسكر مصر أيام ابن طولون وبيبرس وقلاوون في عودتهم من حروب أرض الروم، بل قل هذا أول مناظر الحياة التي لقيها الصليبيون في زحفهم على سوريا بعد أيام الويل والحرمان التي ذاقوها في أرباض آسيا الصغرى.

فإذا انحدرت من مضايق الجبال ودخلت السهل واتجهت إلى الساحل كان أول ما يلفت النظر هذه البحيرة التي تكون خليج الإسكندرونة، لو رآها رجل البحر لقال عنها هذي أكبر مرافئ الشرق، وتصورها الموئل الطبيعي لمئات السفن، ولو نظر إليها رجل البر لقال هذا مركز من المراكز الممتازة في العالم. فهنا التصق الخليج بالأرض وكونا في التاريخ قطعة واحدة وأصبح لها قصة واحدة: هي قصة تلك البقاع من الدنيا التي لها ذنب واحد هو ما

ص: 6

حبتها به الطبيعة وجغرافية الأرض من مزايا.

هذي البقاع ليست كثيرة على الأرض ولكنها خلقت لتكون مسرحا للمشاكل والمعارك والتصادم وتتابع الحوادث والخطوب. إن مثلها كمثل بعض الناس ممن يأتي إلى الدنيا ليثير ضجة بين الخلق من يوم مولده إلى يوم وفاته كأنهم جاءوا إلى الدنيا تحت طالع من طوالع الضجيج أو سوء الحظ، كذلك هذه الرقعة من الماء والأرض والجبال، أتراها قد برزت للوجود تحت برج خاص من بروج السماء، فحكمت عليها الأقدار أن تكون فريسة للطامعين من ذوي الغلبة والسلطان، وموطناً للحروب والقتال، وأن يكتب على أهلها تحمل مصائب الدهر من ضيق الحصار ونقص في الأموال والأنفس، وتحمل غضب الطبيعة فما تثيره من أوبئة وزلازل، أن يكتب في سجل القدر لهذه البقعة من الأرض فيقترن اسمها بالعز آنا وتعلو علوا كبيرا حتى تسمو على غيرها من بقاع الأرض، ثم يلاحقها سوء الطالع فترى الأيام السود وتذوق الويل المرة بعد المرة حينما يطأها الفاتحون والغزاة، فتندك صروحها وتفنى بشاشة أهلها وتبكي نساؤها بكاء طويل في الليل كما يتحدث بذلك تاريخها في أكثر من عشرين قرنا من الزمن؟

وغريب أمر هذه البقعة: تقوم عليها المدنيات المختلفة وتتبادلها الشعوب، وينطق أهلها بكل لسان ويفنى شعب بعد شعب على أرضها ولكنها تخرج من وسط النكبات والمصائب وهي باقية لن تبيد، لأن الحياة لا تلبث أن تعود إليها. ولا تزال إلى اليوم إنطاكية وما حولها: ترى أسوارها القديمة وتلمس عظمتها الفانية. تراها صغيرة بجانب ما كانت عليه، ومع هذا تشعرك بماضيها ومجدها، وقد يدخل المرء مستهينا بها فيخرج منها وهو حامل في نفسه ما يدعو لاكبارها، إن فيها سراً يجبر الناس على احترامها.

نعم لقد قدر لهذه البقعة من الأرض أن تبرز خلال العصور الماضية وأن يتحدث عنها الناس من أهل الشرق والغرب، وسنبذل بعض الجهد لنأتي بشيء من ذكرها في كل عصر من العصور السالفة وخصوصا ذلك العصر المملوء بالبطولة والكفاح: عصر الحروب الصليبية، ونذكر ما حولها من حصون الإفرنج وما أقيم أمامها من حصون المسلمين وقلاعهم والكتابة في هذه الناحية من أحب الأشياء إلى من يؤمن بعظمة ماضينا، ولكن هناك ناحية لا تزال خافية عن قراء العربية هي أهمية هذا الركن من العالم في الحرب

ص: 7

العظمى الأولى، فقد بقيت منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة بعيدة عن ميادين القتال ولم تغمرها الحوادث ولذلك لم يشهر اسمها ولم يعلم الناس عنها إلا لما أثيرت مسألتها أمام عصبة الأمم وأخذت تتطور مشكلتها بين فرنسا وتركيا ثم أخيرا سوريا وتركيا.

ولهذه المنطقة تاريخ طويل في مدة هذه الحرب وما تلاها من الحوادث، سنعرضه ملخصا ما أمكن راجعين من النهاية إلى البداية:

حينما قامت الحركة التركية وحصلت حكومة أنقرة على الانتصارات الأولى على اليونان. أرسلت وفدا إلى باريس في يولية سنة 1921 أخذ يفاوض الفرنسيين في عدة مسائل، وفي 25 أكتوبر سنة 1921 عقد اتفاق أنقرة الأول وفيه سلمت فرنسا بالحدود التركية التي تبدأ من بياس إلى ميدان اكبس ثم تستمر على شريط سكة حديد بغداد، وكان من ضمن ما اتفق عليه إقامة نظام إداري خاص بسنجق الإسكندرونة واعتبار اللغة التركية لغة رسمية فيه.

جاء هذا الاتفاق عقب حرب بين الفرنسيين والأتراك دامت من يناير 1920 إلى 1921 قال عنها الفرنسيون في كتابهم عن تاريخ الشرق ما يأتي: (إنها حرب مقدسة وقومية اتسمت بالقسوة والعنف اللذين يتصف بهما أهل تلك البلاد وأنها وافقت زمن غليان الحركة الكمالية التي استنفرت الأناضوليين في وجه مشروع يشعر بتفكيك الوطن التركي).

ويتعجب صديقنا الأستاذ أدموند رباط في كتابه بالفرنسية عن الوحدة السورية ويتساءل (كيف سلم الفرنسيون بعد معاركهم الطاحنة في كيليكية وخسائرهم فيها بهذه الحدود؟ ويقول إن في ذلك سرا سيبقى أمام مؤرخي المستقبل من المعميات التي يجدون الصعاب لفهمها).

أما نحن فلا نعجب وقد عرفنا النزاع والتنافس بين بريطانيا وفرنسا، وإنما نتساءل ونقول للكاتب الفرنسي الذي ذكرنا نظريته في المقالة الأولى: من كان يمثل دور الإمبراطورية الرومانية في عام 1921. بريطانيا أم فرنسا؟

إن مثل هذه الأمور تأخذ وقتا طويلا لكي تكتشف تفاصيلها وما يلابسها من المعميات. وقد يطرأ حادث طفيف يتمثل في طلب احتلال الإسكندرونة وخليجها فينتج عنه أكبر الأمور وبعيد إلى ذكريات السياسيين مسائل ومشاكل بقيت لمدة طويلة طي الكتمان.

وهذا ما حدث في عام 1918 ففي أكتوبر سلمت الدولة العثمانية وأمضت هدنة مدروس، وكانت الجيوش التركية تحتل منطقة إنطاكية وتشرف على خليج الإسكندرونة وبقيت في

ص: 8

حوزتها بعد إمضاء هذه الهدنة، ولما كانت شروطها تحتم إجلاء الجنود والضباط والقواد الألمان فقد تقرر سفر الجنزال فون ساندرس ومن معه، وعليه تسلم القائد مصطفى كمال القيادة، وقد فهم أمرين: الأول أن الهدنة عقد لوقف القتال بين المتحاربين وأن الأراضي التي في حوزة الأتراك تبقى معهم لحين إمضاء معاهدة الصلح، والثاني: أن خط الحدود لوطنه هو الذي أثبته الأتراك بقوة السلاح في آخر معركة دارت مع الإنجليز والهنود في شمالي مدينة حلب عند انسحابهم منها وترتب على هذه المعركة إيقاف الزحف البريطاني على نقطة تبعد ثلاثين كيلو متراً من المدينة.

ويقرر في مذكراته ومخابرته الرسمية أن هذا الخط من صنع يديه، ولذلك تمسك به حتى النهاية في مفاوضاته مع الفرنسين، ولم يكتف بذلك بل عارض قبل ذلك الحكومة المركزية حينما طلب الإنجليز السماح لهم باستعمال خليج الإسكندرونة والميناء لتموين جيوشهم المحتلة لمدينة حلب، وتبادل مع رئيس الوزارة مكاتبات في منتهى الخطورة، وكانت هذه الفترة موجهة له في حياته المقبلة لأنه من تلك اللحظة بدأ يفكر في تأليف جيش من شراذم الوحدات التي تحت قيادته، حينما أقنعته الحوادث بأن إنقاذ البلاد يحتم مداومة القتال إلى النهاية.

فالمطالبة بتسليم ميناء الإسكندرونة كان معناه احتلال المنطقة، وقد أثار هذا الطلب مخاوف الفرنسيين لماسيرد بعد ذلك من تفاصيل في هذا البحث، وأثار قلق القائد التركي الذي فسر احتلال هذه المنطقة كرغبة في احتلال غيرها من الأراضي وأن هذا الطلب يهدم الشروط المتفق عليها. فلما طلبت منه الحكومة إجابة هذا الطلب أجابه بصراحة:

(أنا لا أتزحزح عن عقيدتي بوجوب تعيين وتحديد التضحية التي يمكن أن تبذلها الدولة بعد هزيمتها)، وكتب إلى رئيس الوزارة (إن الانقياد إلى البريطانيين في طلباتهم قبل إزالة ما في نصوص المعاهدة من إبهام وليس لا يبقى هناك وسيلة للوقوف أمام أطماعهم).

وكان الفرنسيون على علم بنيات البريطانيين وهم حلفاؤهم طول مدة الحرب، وكان الأتراك على علم بما يدور حولهم وما يمكن أن يسببه لهم التساهل والإغضاء عن حقوقهم، والآن وقد نشرت أغلب وثائق الحرب العظمى الأولى، أصبح من السهل تتبع المركز الخطير الذي لعبته منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة في استراتيجية الحرب بين السنوات

ص: 9

1914و1918.

وسوف نبدأ من الناحية التركية ثم ننتقل إلى وجهة النظر البريطانية: ففي سنة 1916 تألقت مجموعة من الفرق أطلق عليها اسم مجموعة الصاعقة (ييلدريم) وكانت حلب مركزاً لها وتولى قيادتها الماريشال فون فالكنهاين ومعه نخبة من رجال الجيش والبحريةوالطيران، ومن الاطلاع على التاريخ الرسمي الذي نشرته وزارة الحربية التركية في نشراتها عن تاريخ الحرب؛ يتبين أن القصد من تأليف هذه القوة هو السيطرة على ميادين القتال في فلسطين والعراق ثم حماية منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة ضد أي هجوم يشنه الحلفاء ويكون القصد منه قطع المواصلات العسكرية وعمليات تموين الجيوش في أهم نقطة حساسة في أراضي الإمبراطورية العثمانية.

ويؤكد هذا ما كتبه هندنرج: (لو وفق الإنجليز إلى إنزال جنودهم في خليج الإسكندرونة لفقدت تركيا الحرب نهائياً أو اضطرت إلى الاحتماء في جبال طوروس)، وكان قد شبه في مذكراته هذه المنطقة بالشريان الحيوي لتموين الجيوش التي تقاتل في العراق وسوريا وفلسطين وقال:(إن مدافع السواحل لم يكن لها وجود).

وأشار إلى ما قاله أنور باشا (من أن أمله الوحيد هو ألا يلمس العدو حالة الضعف التي عليها خليج الإسكندرونة).

ولذلك ختم حديثه بقوله (إن قيام الدولة العثمانية أو استمرار الحرب كان مرتبطا بمصير هذه البقعة، وإن الضربات التي لقيتها بسقوط بغداد وتحطيم جبهة فلسطين جعل تجمع جيوش الصاعقة ضرورياً، وألزم منه إسناد قيادة هذه المجموعة إلى قائد ألماني معروف وهذا ما جعله يوافق على هذا التعيين). ومن اطلاعك على ذلك يتضح ما مر بمخيلة مصطفى كمال حينما تمسك بشروط الهدنة ولمس في الإخلال بها رغبة جديدة لاتخاذ سياسة أشد عداء لبلاده، وقد كان محقاً في ذلك لأن نيات البريطانيين من ناحية خليج الإسكندرونة لم تكن خافية طول مدة الحرب كما قلنا؛ فقد ذكرت المؤلفات الرسمية لوزارة الحربية البريطانية عن تاريخ الحب العظمى ما دار من نقاش بين اللورد كتشنر والجنرال مكسويل في نوفمبر سنة 1914 بخصوص إنزال حملة بريطانية على خليج الإسكندرونة وتوجيه ضربة قاصمة إلى منطقة إنطاكية ونهاية الخطوط الحديدية في جبال طوروس

ص: 10

حتى يمكن تحطيم مواصلات الإمبراطورية العثمانية.

وقد تبين من هذه المحادثات أن احتلال هذه المنطقة قد درسته القيادة البريطانية درسا وافيا، وكان القصد من إنزال الجنود هو حماية مصر أو منع الحملة التركية الموجهة إلى مهاجمة قناة السويس من إتمام فتح مصر، وكان هذا المشروع جديا لدرجة أن نظر إلى الناحية السياسية التي ستنتج عنه وهي قيام ثورات الأرمن ووسط قبائل النصيرية والإسماعيلية وتحريك كل ما يؤدى إلى انحلال الحكم التركي، وقد عرض كل ذلك بموافقة الإمبريالية البريطانية على مجلس الوزراء، ولكن كتشنر عاد أمام أسباب عسكرية وسياسية إلى التمسك بضرورة حماية قناة السويس والوقوف موقفاً دفاعيا سلبياً والاكتفاء بتشديد الرقابة والحصار على شواطئ سوريا بأكملها، وبادرت القيادة البريطانية إرسال الفرق البريطانية والهندية التي صدت هجوم جمال باشا على مصر في فبراير سنة 1915.

ثم عادت حملة خليج الإسكندرونة إلى الظهور مرة أخرى، وكان ذلك في نهاية عام 1915 حينما فشلت بريطانيا في حرب الدردنيل وقررت إخلاء شبه الجزيرة وسحب جنودها منها فقد جاء كتشنر بصفته وزيراً للحربية إلى ميادين القتال في غاليبولي ومصر ولمس بنفسه سوء الحالة العسكرية قبل الإخلاء وما تحمله من تطورات ومفاجآت وأشار إلى رد الفعل الذي قد يحدث بعد فشل حملة الدردنيل في العالم الإسلامي وإلى وجود عدد من الفرق التركية المدربة على أصول القتال الحديث بعد اشتباكها في معارك الدردنيل، ثم نظر إلى أن دخول بلغاريا الحرب قد فتح الطريق بين تركيا وألمانيا وأصبح تدفق الأسلحة والعتاد ممكناً، ولذلك تجدد الخطر مرة أخرى على مصر وهي مركز الزاوية في العمليات الحربية البريطانية. . . وجاء التصريح الذي ألقاه أنور باشا أمام مجلس المبعوثين وقال فيه (إن الحلمة الأولى على مصر كانت عملية استكشافية تعرضية وسيعقبها حملة ثانية لاسترجاع مصر)، لتحريك هذه المخاوف.

ولذلك ازداد قلق ماكسويل وصارح وزارة الحربية البريطانية بأن إخلاء الدردنيل سيكون شديد الوطأة على المكلفين بحماية مصر وسيكون أثرة بعيداً من الناحيتين السياسية والعسكرية إن لم تبادر بريطانيا بتوجيه ضربة عاجلة إلى الدولة العثمانية. وعاد ليعزز اقتراح كتشنر بضرورة إنزال حملة بريطانية على خليج الإسكندرونة بل ذهب في تحمسه

ص: 11

أن عرض على حكومته أن احتلال هذه المنطقة يجب أن يسبق عمليات الأخلاق في الدردنيل. ورجعت وزارة الحربية إلى دراسة هذه الحملة وقدرت القوات اللازمة بمائة ألف مقاتل وأخذت القيادة العليا مع قيادة الأسطول تضمان الخطط التفصيلية، واتفق الطرفان على مبدأ الجمع بين المشكلة السورية ومسألة الدفاع عن مصر، وضرورة تنسيق العمليات الحربية بين قناة السويس وخليج الإسكندرونة.

وعرضت جميع الخطط في الاجتماع الحربي الذي عقده كتشنر في جزيرة مدروس ودعي إليه كبار القواد، وكان قرارهم على ضرورة احتلال منطقة الإسكندرونة بالإجماع حتى حددت في هذا الاجتماع على الخرائط الأماكن الذي اختيرت لا نزال الجنود ولكن هذا المشروع تعرض من الوجهة الفنية العسكرية لانتقاد رياسة أركان الحرب العامة للإمبراطورية، ودارت عدة مناقشات طويلة يجدها الباحث مفصلة في الكتب والوثائق الرسمية، وفي أثناء ذلك جاءت المذكرة الفرنسية التي قدمها الكولونيل دي بانوس الملحق العسكري بسفارة فرنسا بلندرة، وهي المذكرة التي قضت على المشروع لتعارضه مع مصالح الفرنسيين إذ جاء فيها إن أي عمل جربي في هذه المنطقة يجب أن يكون باتفاق الحكومتين لأن فرنسا لا تدافع عن مصالحها الاقتصادية فحسب، وإنما تضع الناحية السياسية والنفوذ الأدبي قبل كل اعتبار في بلاد تعدها بواسطة الاتفاقات الدولية داخلة في مناطق نفوذها وذهب رئيس وزارة بريطانيا إلى باريس ولما عاد أصدرت الحكومة البريطانية قراراً برفض مشروع الحملة واستبعاد فكرة احتلال خليج الإسكندرونة، وإن بقيت كل من تركيا وألمانيا تنتظران هذه الحملة حتى نهاية الحرب العظمى وإعلان الهدنة.

ذكر هندنبرج في مذكراته أن أعباءه مدة الحرب لم تكن تسمح له بقراءة التقارير التي يرفعها إليه خبراؤه العسكريون فكان يكتفي بالملخصات ولكن لفت نظره ما جاء في أحدها من أن نهاية الحرب سوف تقرر في خليج الإسكندرونة، وذلك باستدراج العدو إلى معركة كلس.

قال (كنت أجهل هذا الاسم، ولهذا كان أول عمل لي هو البحث عنه وقد وجدته اسما لبلدة صغيرة في شمالي حلب).

ومن الغريب أن الانتقادات التي وجهها الخبراء البريطانيون إلى مشروع كتشنر ترتكز

ص: 12

على افتراض تجمع في هذه الناحية وقالوا إن طبيعة المنطقة بأكملها تساعد على إخفاء قوات كبيرة في أماكن مختلفة وتسهل عمليات الدفاع والمفاجأة.

إن الفكرة التي نظر إليها باستهتار القائد الألماني العظيم كانت من ضمن الأسباب الفنية التي أخرت تنفيذ هذه الحملة.

والآن وقد قامت سوريا تطالب بعودة هذه المنطقة إلى أراضيها نعرض هنا هذه الآراء على المهتمين بمستقبل الشرق وأممه إذ نستخلص منها حقيقة ثابتة هي أن الدفاع عن البحر الأبيض المتوسط سيتولاه في المستقبل أهله، وإنه لن يقتصر على المضايق وسواحل اليونان وجزر بحر ايجه بل يرتكز على منطقة الإسكندرونة وأن الدفاع عن وادي النيل كما رأينا يرتبط ارتباطا وثيقا بالدفاع عن هذه الناحية في السنوات القادمة.

أما ملاحم العروبة والإسلام على هذه الأرض فلها عودة في مقال قريب بإذن الله.

أحمد رمزي

ص: 13

‌رثاء الأستاذ الأكبر

للأستاذ عباس محمود العقاد

عصف النعّي بكل قلب خافق

يوم استطار بنعي عبد الرزاق

من راب سمع السامين بخطبه

وهو المعلم كل علم صادق

ومن استقام على الفضيلة والتُّقى

ورعى مع المخلوق حق الخالق

ومن ارتضى شيم الثبات لزيه

ولرأيه، ولكل سمت لائق

ومن اتقى حسد الحسود بخير ما

يُرجى ويُحسد من نُهى وخلائق

نظرٌ كساري النجم مؤتلق على

أدب كأفواف الربيع العابق

بلغ المدى في الدين والدنيا معاً

وعلا من الأحساب ذروة شاهق

أسفاً عليه! وكم حزين آسف

أسفي على ذاك المحيا الرائق

ماذا عليه لو استتم بقاءه

كتمامه في كل وصف فائق

ذاك الذي كملت جوانب فضله

وتناسقت في الحسن أي تناسق

من مثل نابغة النوابغ، مصطفى

في سابق من مجده أو لاحق

رجّاه والده الكريم لغاية

حسبني، فوفاها وفاء الواثق

ربّاهِ حبراً للديانة فاستوى

في نخبة الأحبار أسبق سابق

ونماه في حجر العبادة مسلماً

فهدى الحجيج وحج كلَّ منافق

وأعده للعلم فاستوفى به

حظ العليم الفيلسوف الحاذق

وغذاه بالتبيان فانقادت له

غرر اليراع بكل معنى شائق

وهداه للإحسان فهو وليه

لمعاهد الإحسان غير مفارق

ورجاه للعلياء فاستبق الخطى

سبق الكرام إلى المقام السامق

لا وانياً عنها، ولا متعجلا

فيها، تعجّل مشفق من عائق

وكأنه وعد الأمين وفى به

فطوى صحيفته كلمح البارق

لو لم يكن قدراً قضاه لما قضى

كالنجم يرجع غارباً من شارق

إن المطالع لا يقر قرارها

بعد التمام، ولا تدوم لطارق

يا آخذاً من كل شئ صفوه

بوركت من ذي معجزات خارق

ص: 14

حتى الخمول بلغت غاية حظه

عجباً، وأنت من العلا في حالق

لم ألق قبلك من نبيه آمن

من شرة الباغي وغيظ الحانق

تلك المدامع ما امتزجن بدمعة

من كاذب في حزنه أو ماذق

ولتلك من رضوان ربك آية

تخذت من الإجماع أصدق ناطق

فادخل حظيرته بخير خلائق

مرضية منه وخير علائق

مال الموت يا كشاف كل حقيقة

إلا حقائق حُجَّبت بحقائق

ص: 15

‌مصطفى عبد الرزاق

الشيخ الأكبر الذي فقدناه!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

أيها الروح الزكي الكريم الذي حبسه الموت عن كل قلب عرفه كما يحبس النسيم الرخي عن قلب المحرر الظمآن!

أيها العقل الكبير الذي حول في نفسه ما عرفه من هدى الدين وفلسفة الرأي الصحيح إلى حكمة الخلق الراجح واللفظ النزيه والعمل المبرر، فلم ير فيه الناس ذلك التناقض البغيض بين حكمة القول وطبش العمل، وعلم الدرس وجهل العيش، بل رأوا دينه وعلمه وحكمته كماء الشجرة الطيبة يحيها ويجري فيها عنصرا أصيلا يتحول لبابا حيا وورقا حريريا نديا وزهرا شذيا وثمرا شهيا يملأ الحواس والإدراك وحيه وتعبيره، لا كالماء في شجرة الحنظل يتحول فيها إلى مر زعاق، أو في دم الأفعى يتحول إلى سم مدوف كما يتحول العلم في بعض العقول!

ويا أيتها الواحة المخضلة الوارفة التي كانت تعيش هادئة في مد الرمال الطاغية، رمال الخيلاء العلمية المزدهاة والتعقرات الكلامية الجوفاء، والدعاوى العريضة والمزاعم المنادية على نفسها مناداة المتاجر في الأسواق!

ويا أيتها السكينة النفسية التي كانت تشع على من يقرب منها ألواناً من الرضى والطمأنينة، وتدخله إلى رحاب عالم من السكون والصمت المتحدث!

ويا أيتها (القطعة الفنية) الباقية من الشرق الكريم في وجوهه الحيية وألفاظه العفيفة وثيابه الساترة التي فيها شخصيته وأبوته ووقاره!

ويا أيتها الصوفية العقلية العملية التي تربى مريدها بالأدب الرفيع يتحلى به الكبير أمام الصغير فيأخذه عنه بدون قوالب ألفاظ وفلسفات ومجادلات، بل بذلك السر الخفي الذي يعطيه الآباء الحكماء للأبناء!

ويا أيتها المكرمات التي لا حد لما كانت تبذله من جاهها ومالها وحسن إقبالها على المحتاجين إلى برها، كأنها الينبوع الفياض في هدوء بين قسوة الظروف وشح الأنفس!

ويا أيتها التقاليد الصالحة العارفة بما عند قومها من محامد، فهي معتزة بها مستمسكة بعراها

ص: 16

في آداب البيت والزي واللهجة وإن اختلف الزمان واختلت الأوضاع وطغت عوامل التحلل من الواجبات والتقاليد الكريمة على البيت والألسنة والحرمات!

ألا أيتها المعاني والعوالم التي كانت مجسمة في هذا الجسم المهذب الحواشي الدمث الجوانب الذي كان الكمال والسمت يقيده في الحركة واللفتة والكلمة. . . . هل يملك مثلي ممن كان يعيش معك فترات يجدد فيها ذكرى والده في صورتك وروحك ويحي الوفاء الذي كان بينكما، إلا أن ينظر الآن من وراء الغيب إلى هذه الحفرة التي أسلموا إليها ذلك الجسم الزكي الحبيب الذي كان مجتلاك أيتها المعاني؟! وماذا يغني النظر في تلك الحفر التي مضى إليها كل من كان ويمضي إليها كل من هو كائن في أبد الآبدين؟!. . . هل يغني إلا الحسرة على الفقد وضياع ما في يد الإنسانية من تلك المعاني العزيزة النفسية التي هيهات أن تجتمع في ذات إلا في خطفات زمنية وذوات معدودة يجود بها الزمان على بخل وشذوذ؟ إن هذه الذوات التي تجتمع فيها هذه الخلال إنما هي الكتب الحية والكلمات المجسمة التي تفسر الأفكار والأحلام التي يقرؤها القارئون في عالم الكتب المسطورة فيظنونها مخلوقات من عالم الأطياف لا حياة لها على هذه الأرض حتى يروا النموذج في شخص حي فيصدقوا. . . .

وكم يرى الناس من عالم يملأ طباق الفكر علما، ولكنه لا يملأ الفجوة الواعية الحساسة الصادقة في النفس! لأن علمه منفصل عن ذاته وحياته، فهو في فكره كالشيء المقتنى في يده، لم يجر من ذاته مجرى الدم في قلبه والرأي في عقله والخلق في سلوكه فهو حقيق ألا يرى الناس فيه قدوة تهدم أرواحهم القلقة. وإنما ينظرون إلى علمه بإعجاب، كإعجابهم بالمشعوذ أو الحاوي!

وكم رأى الناس من روحي لا يحسن الكلام ولكن يحسن السلوك والعمل وتفيض يداه بالخبر وقلبه بالعطف فيكون فيه للناس علامة مشيرة أبدا إلى منطقة النجاة من لجج الوحل والدنس التي تقطع السبل على الرجل المتطهر! فإذا اجتمع العلم والروح في شخص كان فضل الله عليه عظميا، فإذا كان ذلك على غنى وجاه لرجل يؤدى زكاة الغنى والجاه بالكيل الوافي كان ذلك فضلا عظيما مضاعفاً يعتبر ندرة تجمع عليها القلوب بالحمد.

أنا واثق أن كل فرد من اتصل بالعقيد يستطيع أن يسرد وقائع شخصية له من مكارم هذه

ص: 17

الذات، أدبية أو مادية، ولذلك أقترح أن تدون هذه المكارم لتضم إلى المذخور المأثور عن أجواد العرب وساداتهم وعلماء المسلمين الأبرار، فإن في هذا التدوين ثروة تضاف إلى عبقرية الخلق التي هي أعظم العبقريات في الإنسان على رغم ما يشاع عن عبقرية الفكر أو عبقرية الفن، لأن عبقرية الخلق هي (فن الحياة) الذي ينمو في ظلاله الاجتماع الإنساني بما فيه من نتاج فكري وفني وعملي، فهي عبقرية أشبه شئ بالأمومة المضحية الفادية المعطية من غير أخذ. وهي عبقرية يختص الله بها قلوب طراز من الرجال يصح أن يسمى (الرجال الأمهات)! لشدة حبهم لنفع الإنسانية وتفانيهم في خدمتها وبرها.

أيها الروح الزكي الذي كان أبا وأخا وصديقا للجميع؛ إن القوم اجتمعوا لا ليكرموا ذكراك، فإنها عنصر من مكونات معنى الكرم ذاته في إفهام الناس في هذا العصر. . . . ولكنهم اجتمعوا ليكرموا أنفسهم بحديث ذكراك. ولو أرادوا أن يكرموك لأدركوا منك في حياتك كامل ما أدركوه بعد فقدك. . . ولكنهم اعتادوا مع الأسف ألا يكرموا الفضائل إلا بعد موت الفاضل. . لأن انتقال الموت فاجأهم ويفجعهم فيحسون أن الأرض تزلزل تحت أقدامهم بعد أن يتحطم قطب من أقطاب حياتهم عليه. . . وكانوا يدورون حوله وهم لا يشعرون. . . .

فمتى ترشد الأمم الشرقية فتتمتع بثمارها الناضجة التي أودع الله فيها سر النوع البشري قبل عطبها أو اختطافها! لماذا لا ندرك منازلهم في قلوبنا إلا بعد فقدهم، لماذا لا نسرهم في حياتهم بالاستجابة لداعية الخير في نفوسهم حتى يمضوا مطمئنين إلى بقاء الخير والبر بعدهم؟ لماذا لا تكون المدائح قبل المرائي؟

ما أصدق تلك الكلمة التي قالها الأول:

لا أعرفنك بعد الموت تندبي

وفي حياتي ما زودتني زادي!

وما أصدق قول الآخر:

ترى الفتى ينكر فضل الفتى

ما دام حياً فإذا ما ذهب.

لج به الحرص على نكته

يكتبها عنه بماء الذهب!

فاللهم أرشدنا وبصرنا حتى ندرك أن أعظم ثروات الأمة هم رجالها الأفذاذ في الخلق والعلم فتنتفع بهم وتتمتع بعبقريتهم، ولا نضيعهم ثم نبكي عليهم!

روح الله الفقيد وأرواح أحبائه، وأحسن العزاء فيه للجميع فإنه فقيد الجميع.

ص: 18

عبد المنعم خلاف

ص: 19

‌مراجعات في الفلسفة:

نظرية المعرفة عند شوبنهور

للأستاذ عبد الكريم الناصري

- 2 -

وللذهن وظيفة واحدة، وهي معرفة (العلية). ولكن العلية تفترض الزمان والمكان مقدماً، وتفترضهما متلازمين متحدين. إذ ليست العلية مجرد توال للأشياء في الزمان، وإنما هي هذا التوالي بالإشارة إلى موضع من المكان؛ ولا هي مجرد وجود الأشياء في المكان، وإنما هي هذا الوجود بالإشارة إلى لحظات الزمان. إن العلية هي (حاصل ضرب المكان في الزمان) وبهذه الوظيفة الواحدة، أعني معرفة العلة من المعلول، والمعلول من العلة، يدرك الذهن العالم الواقعي. والمعلول هنا هو تأثرت (الموضع المباشر) أي الجسم الحيوان، ومهمة الذهن أن يحيل هذه التأثرات - التي نعطاها مباشرة - إلى عللها الخارجية، وبذلك يتم إدراك هذه العلل كموضوعات ممتدة في المكان. وليست الإحالة المذكورة عملية تجريدية تصورية، وإنما هي فعل مباشر، فوري، ضروري، ولولا الذهن ووظيفته، لما أمكن الإنسان والحيوان أن يدركا العالم المادي القائم في المكان، والمتغير في الزمان، والمترابط برباط العليه، بل لكانا يشعران شعورا (نباتياً) غامضا بتغيرات البدن، وأحاسيسه المتوالية، دون أن يكون لمثل هذا التوالي دلالة مفهومة؛ وإنما تكتسب التغيرات المتعاقبة في (الزمان) معناها وترجع الأحاسيس مدركات حسية، ممتدة في (المكان) بفضل الذهن، حين ينتقل من الإحساس إلى علته، أي الموضوع الخارجي ومن هنا فالعلم المادي (لا يوجد إلا بالنسبة إلى الذهن، وبواسطة الذهن، وفي الذهن).

وتتدرج معرفة العلية من أبسط أشكالها، وهو الإدراك الحسي، أو معرفة الصلة العلية بين الموضوع المباشر والموضوعات غير المباشرة المؤثرة فيه، حتى أغلب درجات الروابط العلية القائمة بين الموضوعات غير المباشرة، وينتظم ذلك استكشاف القوانين الطبيعية؛ فإن هذا كله من عمل الذهن والعيان، وليس من عمل العقل والتصور، وما المجردات في الواقع إلا انعكاسات باهته لعالم الحس والعيان.

ص: 20

ولكن إذا كان الإدراك يحصل عن طريق معرفة العلية، فليس معنى ذلك، فيما يرى شوبنهاور، أن صلة الذات بالموضوع صلة علة بمعلول، لأن هذه الصلة لا تقوم إلا بين الموضوع المباشر والموضوعات غير المباشرة أي بين (الموضوعات) وحدها - وليست تعدو الموضوعات إلى الذات. ومن ثم لا يجوز لنا أن نعتبر الموضوع معلولا للذات، ولا الذات معلولة للموضوع. إن العلية هي شرط إمكان وجود (الموضوع) وصورته العامة ولكن الموضوع يفترض الذات مقدما أو ضمناً، إذ لا موضع بغير ذات تدركه، فإذا كان ثمت موضوع، فهناك بالضرورة ذات. ويعكس ذلك يقال، إن الذات تتضمن وجود الموضوع فلا ذات بغير موضوع، ولا عارف بغير معروف. وبذلك يكون ازدواج الذات والموضوع أعم صورة لعالم (الفكرة). أنه أعم من الزمان والمكان والعلية. لأن كل هذه الصور تتضمن النسبة إلى الذات. لا شئ في هذا العالم إلا وهو - أولا وقبل كل اعتبار - موضوع بالنسبة إلى الذات، أو هو (فكرة). ومن هنا فليس للعالم المحسوس واقعية (متعالية) أو مطلقة، ولكن هذا لا ينفي واقعيته (التجريبي)، أو النسبية. ولكل كان مدرك أن يقول:(إن العالم فكرتي)، وإن كان الإنسان وحده قادرا على تصور هذه الحقيقة في وعيه المروي المجرد. (وهو إن يفعل ذلك حقا) كما يقول شوبنهاور في أول أثره الرئيسي، (يكون قد بلغ الحكمة الفلسفية. وعندئذ يتضح له ويتيقن عنده أن ما يعرفه ليس شمسا ولا أرضاً، وإنما هو عين ترى شمساً ويد تحس أرضاً، وأن العالم الذي يحيط به لا يوجد إلا بالنسبة إلى شئ آخر، هو الوعي.). وإذا كان ههنا حقيقة يمكن أن تقرر مقدما أو (قبليا) - أي قبل كل تجربة - فهي هذه الحقيقة، لأنها (تعبر عن أعم صورة لكل تجربة ممكنة ومتصورة صورة هي أعم في الزمان، والمكان، والعلية، لأن هذه الصور جميعا تفترضها مقدما. . . . إن ازدواج الموضوع، والذات هو الصورة المشتركة بين جميع أصناف الفكرات، هو الصورة التي بمقتضاها وحدها يمكن أن تقوم أو تتصور أية فكرة، أياما كان نوعها، مجردة أو عيانية، خالصة أو تجريبية. ما من حقيقة إذن أكثر يقينا، وأكثر استقلالا عن سائر الحقائق، وأقل حاجة إلى الدليل من هذه الحقيقة، وهي أن كل ما يوجد بالنسبة إلى المعرفة، وبالتالي هذا العالم كله، فإنما هو موضوع بالنسبة إلى الذات، إدراك مدرك، وبالإيجاز فكرة).

ص: 21

الذات والموضوع إذن هما قطبا عالم الفكرة، وشطراه الضروريان. والذات هي (ذلك الذي يعرف كل شئ، وليس يعرفه شئ)، وهي لذلك حاملة الظواهر، وشرط كل ما يعرف أو يمكن أن يعرف شرط العالم كله، باعتباره فكرة. وكل منا هو هذا الحامل للعالم الظاهر، بجباله وأنهاره، ونجومه وأفلاكه؛ كل منا ذات، ولكن من حيث هو يعرف، لا من حيث هو معروف، أو موضوع معرفة. ذلك أننا لسنا محض عقول خالصة، وإنما نحن أبدان أيضا. والبدن موضوع بين الموضوعات، وخاضع لشروط وجودها (المكان والزمان والعلية)؛ وبما أن الزمان والمكان هما شرطا الكثرة أو التعدد، فأبداننا تتعدد؛ ولكن الذات لا تخضع لهذين الشرطين، لأنهما يتعلقان بالموضوعات أو المعروفات فقط ولكن يفترضان الذات العارفة مقدما؛ ولذا فالذات لا تتعدد؛ ولكنها ليست بعد واحدة؛ (إنما هي حاضرة - كاملة لا غير منقسمة - في كل كائن مدرك. ولذا فأي كائن مدرك خليق بأن يكون، مع الموضوع، عالم الفكرة كله، كأتم ما تكونه الملايين القائمة؛ ولكن لو اختفى هذا الكائن الواحد، إذن لاختفى العالم كله، بما هو فكرة) هذان الشطران إذن مقترنان، متضايفان، لا سبيل إلى فصل أحدهما عن الآخر كل منهما يحد صاحبه مباشرة، فحيث يبدأ الموضوع تنتهي الذات.

ومن الممكن اعتبار الزمان والمكان والعلية، التي تستقر في وعينا قبليا، وتكون الشكول العامة للعالم الموضوعي، الحد المشترك الذي تلتقي فيه الذات والموضوع. ولذلك نستطيع أن نكتشف هذه المبادئ إما من الموضوع (أو بعدياً) وإما من الذات (أو قبلياً). وقد جعل شوبنهاور مبدأ السبب الكافي - كما سبق القول - التعبير العام عن جميع معارفنا القبلية الخاصة. وبمقتضاه تسود الضرورة السببية جميع أنواع الفكر أو الموضوعات. فما من موضوع إلا وهو معين من جهة معين من جهة أخرى. فلا شئ مستقل، لا شئ حر، لا شئ مطلق، بل كل شئ نسبي، قائم بغيره، مفتقر إلى غيره، موجود لأن غيره موجود. إن عالم الظواهر خاضع لقوانين ضرورية صارمة، وكل هذه القوانين ترجع في النهاية إلى مبدأ السبب الكافي.

وقد شرح شوبنهاور هذا المبدأ، بأشكاله الأربعة، في رسالته الموسومة (بالجذر الرباعي لمبدأ السبب الكافي، وهي أطروحته للدكتوراه، ومجمل القول فيه أن هناك أربعة أصناف من الموضوعات وهي (المدركات الحسية) و (التصورات) و (العيانات الخالصة) و

ص: 22

(المشيئات). وكل من هذه الأصناف خاضع لشكل من أشكال المبدأ المذكور، الذي يقوم طبيعة الموضوعات بما هي موضوعات، أي تمثلات بالنسبة إلى الذات. فالصنف الأول يسوده مبدأ الصيرورة والثاني يسوده مبدأ المعرفة والثالث يسوده مبدأ الوجود والرابع يسوده مبدأ الفعل

(البقية في العدد القادم)

عبد الكريم الناصري

ص: 23

‌الأدب في سير أعلامه

9 -

تولستوي

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

روسيا لا تزال في الغسق

أهل على أوربا نور القرن التاسع عشر وروسيا ما تزال في الغسق؛ ولئن لاحت في أفقها بشائر الفجر لحظة على يد قيصرها الإسكندر الأول ولى أمرها في أول أعوام هذه القرن فإنها ما لبثت أن علمت أنه الفجر الكاذب!

كان الإسكندر يريد أن يوجه همه إلى النهوض ببلاده في الداخل، وقد اعتزم أن يجنبها ويلات الحرب في الخارج، ولكن سرعان ما فطن أن طوفان الحرب لابد مدركه فحالف إنجلترة والنمسا وظاهرهما على نابليون، ومن ثم ذهبت بشائر الفجر أباديد في حلكة الليل العابس.

وما لبثت أن ساق نابليون الجيش الأعظم ليذل به روسيا ولكن حملته عليها كانت بداية نهايته؛ ولما حمل بعد وترلو إلى سنت هيلانة، أصبح القيصر في القارة مرموق المكانة عظيم الخطر ولكن هذا الوضع الذي هيأته الظروف لروسيا في سياسة القارة كان يتطلب رجلا غير الإسكندر، فلقد حار هذا الرجل بين دعاة الرجعية وأنصار الحرية كما أضله زمنا تصوفه وحلمه اللذيذ الذي خيل إليه أن في الإمكان أن تجعل أوربا تسامح المسيحية أساس العلاقات الدولية؛ وأخيرا تغلبت عليه سياسة مترنخ، فصار من أكبر أنصار الرجعية في القارة وفي روسيا، وفقد دعاة الحرية أملا عللوا به أنفسهم برهة على يديه.

وأخذت أوروبا تقاوم الرجعية فكانت تلوح بشائر النور مرة وتختفي مرة، ولكنها ترى كل مرة أسطع منها في سالفتها نورا وأطول أمداً حتى ذهب الليل وانهل النور فأضاء كل ركن في القارة ومحا كل ظلمة.

ولكن ليل روسيا قائم قاتم وآفاقها عابسة دامسة؛ وكان يدب تحت هذا الليل نحو تسعة وأربعين مليونا من الأنفس كلهم عبيد ومن هؤلاء زهاء ثلاثة وعشرين مليونا تابعون

ص: 24

للقيصر، ومثل هذا العدد تابعون لملاك الأراضي، وما تبقى بعد ذلك فتابعون للكنيسة أو أوزاع وخدام.

ولم يك هؤلاء الملايين يملكون من أمرهم شيئا؛ إذ كانوا في كل أمر خاضعين لمشيئة سادتهم لا ينتقلون من جهة إلى جهة غيرها ولا يمتلكون شيئا أو يبيعونه إلا بإذن من هؤلاء السادة؛ وهم فوق ذلك مكلفون بأن يؤدوا للسيد ما يطلب من المال كضريبة أو كمنحة وأن يعملوا مسخرين في أرضه، وللسيد إذا باع أرضه أن يبيعهم كما تباع القطعان والسلع؛ وهو ينزل بهم ما شاء من أنواع العقاب كالجلد والحبس والنفي إلى سيبيريا.

وكان السادة الأرستقراط يعيشون عيشة مترفة، ولهم في قصورهم كل ما في الحياة الأوربية من مظاهر النعيم، فالموائد والحفلات الساهرة الأثاث والخدم على اختلاف أعمالهم ومراتبهم كل أولئك على النمط الأوربي. وأخذت العادات وآداب المجتمع الأوربي تتغلب على عادات الروس وعرفهم في هذه البيوت الأرستوقراطية التي تجعل قياس التمدن الأخذ بأكبر قسط من كل ما هو أوربي، حتى اللغة فإنهم في هذا الوسط يتكلمون الفرنسية في حفلاتهم التي تجمع بين الرجال والنساء وفق الأسلوب الأوربي. . .

وانحطت الحكومة، فلا أمانة ولا عدالة، ولا إصلاح؛ وكانت وظائف الدولة لمن يدفع من المال أكثر مما يدفع غيره، لو لمن كان له بذوي الجاه صلة، فأصبحت الرشوة أمرا لا غرابة فيه، وتفشت حتى تسللت إلى المحاكم دانيها وعاليها، ولم يكن للحكومة منهاج أو شبة منهاج للإصلاح، وحسب رجالها في المقاطعات أن يجمعوا لأنفسهم المال بكل ما وسعهم من حيلة أو واتاهم من بطش. . .

وكان الملايين من الزراع أضعف من أن يشتكوا؛ لهذا حملوا الآلام كما تحملها الدواب فلم يكونوا صابرين على حالهم وإنما لم تكن لهم فيه حيلة! ولقد كانت حال هؤلاء المساكين أسوأ كثيراً من حال المزارعين في فرنسا قبل ثورتهم الكبرى، ولكن أولئك الفرنسيين كانت بينهم طبقة امتلكت وتعلمت وتأثرت بكتابة المفكرين والفلاسفة وهي الطبقة الوسطى، ومن بين صفوف هذه الطبقة انبعثت الشكوى ثم رجفت بعد ذلك الراجفة!

أما في روسيا فلم يكن غير كبار الملاك وهم السادة وملايين الزراع وهم العبيد؛ على أن مقاومة الاستبداد في روسيا جاء على يد نفر من هؤلاء السادة المتملكين، الأمر الذي يبدو

ص: 25

عجبا لما فيه من تناقض؛ ولكن للمسألة وجها يفسر هذا التناقض، وذلك أن هؤلاء السادة لم يكرهوا الاستبداد ولكنهم كرهوا أن تعتمد الحكومة القيصرية على طبقة الموظفين والحكام ومعظم رجالها من عنصر ألماني وتهمل أعيان الروس رغبة في القضاء على طموحهم نحو التسلط، ومن ثم رحب هؤلاء بكل شكوى تنبعث ضد القيصر وحكومته.

وثمة فريق آخر أشد العطف على كل رغبة في الإصلاح وهؤلاء هم رجال الجيش العائدون من فرنسا والقارة بعد سقوط نابليون وبخاصة الشبان، فلقد امتلأت قلوبهم بآمال وأحلام، وعادوا إلى روسيا آملين أن يطلع على بلادهم نور يزيح عنها هذا الغسق، كما عاد لافابيت وأقرانه من شباب فرنسا الذين تطوعوا في صفوف الأمريكان في حرب استقلالهم إلى وطنهم يحملون مبادئ الثورة ويرتقبون الميلاد الجديد. . .

وتسامع هؤلاء الرجال بالجمعيات السرية في القارة كالكاربوناري في إيطاليا والهيتيريان في اليونان، فأسسوا لهم في روسيا رابطة الخير العام، وجعلوها سرية بالضرورة، وتفرع من هذه الجمعية فرع في الشمال كانت وجهته الملكية الدستورية، وفرع في الجنوب كان لا يرى غير الجمهورية؛ كما نبتت في الجنوب جماعة سرية أخرى جعلت منهاجها ضم جميع السلاف في اتحاد عام ولكن هذه الجمعيات كانت كما وصفها أحد الكتاب (جيلا لا آباء له ولا أبناء)، فظلوا بعد أفكارهم ومبادئهم عن أذهان معاصريهم محصورين لا يكاد نطاقهم يتسع، ولم يأتوا عملا ذا بال إلا في سنة 1825 فإن لما مات الإسكندر ترك ثلاثة أخوة كان أكبرهم قسطنطين ولذلك فهو وارث الحكم، ولكن الذي ارتقى العرش كان نيقولا بدعوى أن أخاه تنازل له عن حقه كما أراد القيصر المتوفى؛ وأحيط ارتقاء نيقولا العرش على هذا النحو بشبهات فانتهزت الجمعيات السرية الفرصة ورفضت فرقة جيش موسكو أن تقسم يمين الولاء للقيصر الجديد، ووقعت بعض القلاقل في الجنوب، ولكن القيصر ما لبث أن تغلب على هذه الحركة في يسر وتعرف بحركة الديسمبريين لأنها وقعت في ديسمبر من ذلك العام؛ وقضى بعض أفراد الجمعيات نحبهم ونفى البعض إلى سبيريا. قال أحد زعمائهم عند إعدامه (لقد كان خطأي أني حالت أن أجمع الحصيد قبل أن أبذر الحب)؛ وقال آخر (لقد عرفت من قبل أن لا أمل لنا في النجاح كما عرفت أنه لابد أن أضحي بحياتي! إن ساعة الحصار آتية فيما بعد).

ص: 26

لقد كان الحصار الذي يرجون هو الحكم الدستوري والمساواة لدى القانون وتحرير الزراع؛ ولئن قضى عليهم اليوم فلم تذهب دماءهم عبثاً، دم هو مهر للحرية الزهراء. . .

واشتدت حلكة الغسق في عهد نيقولا الذي عرف منذ البداية بالصرامة القاسية، وامتدت يد الطغيان إلى كل مكان، فعلى كل ما يطبع من الكتب والصحف وما يرد منها من الخارج. رقيب عتيد له من السلطان ما يمكنه من إلقاء أي شخص في غيابة السجن أو نفيه بغير محاكمة؛ والشباب سجناء في روسيا لا يسمح له لهم بالتعلم في أوروبا مخافة العدوى، ورجال الشرطة السرية يبثون عيونهم في كل ركن، ولا يحد سلطانهم قانون ولا عرف؛ ولا تقل آثامهم وفظائعهم عن فظائع محاكم التفتيش الإسبانية في العصور الوسطى إن لم تزد عنها فحشا وهولا، والقيصر مهيمن متربع على عرشه يحسب سكون الناس رضاء وولاء أو لا يجري في حسابه من عصيان أو ولاء. . .

ونسى القيصر أو لم يدر بخلده أن الحرية يعمل لها أعداؤها وأنصارها على سواء، فأولئك يذيقون الناس لباس الذل والخوف ليزدادوا له مقتا ويحتالوا على النجاة منه؛ وهؤلاء يذيقونهم الأمن والسلام ليلذهم طعمه ويحرصوا على الدفاع عنه.

ونعم القيصر بالا بما يرى من هدوءه، ولكن دوى العاصفة يسمع من خارج روسيا لا من داخلها، فها هي ذي حرب القرم تضعه وجيشه منذ سنة 1853 تلقاء جيوش انجلترة وفرنسا وتركيا مجتمعة، ويتلفت القيصر باحثا عن حماسة الروس فينقلب إليه البصر خاسئا إذ أن كل ذي رأى في البلاد ينقم على الجيش ضعفه ويعزو ذلك إلى ما شمل الحكومة كلها من فساد. . ويحرم الطاغية من الاحترام كما حرم من المحبة، ويوشك أن يسمع دوياً آخر من داخل بلاده؛ وأي دوي كان إذ مس أذنه أشد إزعاجاً له مما احتواه ذلك المخطوط الذي تداوله الناس فيما تداولوا من المخطوطات على غفلة من الرقيب والشرطة السرية. قال مؤلفه فيما قال (يقول القيصر: لقد جعلني الله حيث أنا مهيمنا على روسيا فعليكم أن تنحنوا راكعين أمامي فإن عرشي هو كرسيه، ولا تعنوا أنفسكم بالمصالح العامة فإني أفكر من أجلكم وأسهر على مصالحكم كل ساعة؛ إن عيني الساهرة تنفذ إلى المساوئ الداخلية وإلى ما يعده لنا في الخارج أعداؤنا؛ وما أنا في حاجة إلى من يشير على فإن الله يلهمني الحكمة فافخروا إذا أيها الروس بأنكم عبيدي واجعلوا مشيئتي قانونكم.

ص: 27

ولقد أنصتنا معشر الروس إلى هذه الكلمات في خشوع عميق وسلمنا طائعين. فماذا كانت العاقبة؟ كانت عاقبة ذلك أن دفعت المصالح الحقيقية تحت جبال من أكداس الأوراق الحكومية، وصار يستمسك بحرفية القانون في كل ما يصدر منا، بينما يترك الإهمال والجريمة بغير عقاب إذا جاءت من أعوان الحكومة، هؤلاء الذين يتمرغون في التراب أمام الوزارة ثم يسرقون في غير حياء. . . لقد باتت السرقة أمرا مألوفا حتى أصبح أكثر الناس احتراما أكثرهم سرقة؛ وصارت تقرر كفايات الضباط بمجرد النظر؛ وإذا حصل شخص على منصب قائد فإنه في نفس الوقت يمكن عده حاكما قديرا أو مهندسا ممتازاً أو سياسيا حكيما. وإن هؤلاء الذين يختارون حكاما في الجملة هم طغاة حقا يوكل إليهم عذاب الناس في الإقليم؛ وكذلك تملأ المناصب الأخرى دون أقل مراعاة للاستحقاق، فسائس الخيل مثلا يعين رقيباً للمطبوعات! ولماجن الأحمق من حاشية القيصر يعين أميرا للبحر!. . . وماذا صنعنا نحن معشر الروس طوال ذلك الوقت؟ لقد نمتا!. . أدى الفلاح ما فرض عليه وهو يئن ورهن المالكأااا نصف ضيعته وهو يئن، وأدبنا جميعا ما يطلب منا لرجال الحكومة ونحن نئن؛ ولقد هززنا رؤوسنا أحيانا في جد هامسين إن هذا عار وهوان، كما تهامسنا أن لا عدل في ساحات العدل، وأن الملايين يقضون حياتهم عبثا في سبيل تمتع القيصر بسياحاته وجواسق حرسه ومباني أبهته وسرادقاته؛ إن كل شئ حولنا خطأ، ومع ذلك فأنا بضمير هادئ يشاغب بعضنا ليحظى بالتقدم خطوة ليلحق بهذه الخدمة التي نمقتها كل المقت. . . فإذا صاح أحد بنا بغتة في هذه الغفلة الشاملة أن أفيقوا وجاهدوا في سبيل الحق وفي سبيل روسيا فما أعظم ما يبدو لنا من سخفه، ثم إنه يتعلم في سجن مظلم في سبيريا أي إثم عظيم ارتكبه بمحاولته إقلاق ما يغط فيه الغافلون من العبيد من نوم عميق.

ولكننا مع هذا كله كان لنا عزاء واحد؛ أمر يحق أن نفخر به وذلك هو قوة روسيا، وها نحن أولاء أسفاه بعد تفاخرنا قد أخذنا على غرة وأحيط بنا ونحن غافلون. . . أفيقي يا روسيا! التهمك الأجانب من أعدائك وحطمتك العبودية؛ واضطهدك وأخجلاه الحمقى من ذوي السلطة ومن الجواسيس. . . . أفيقي من نومك هذا الذي امتد في جهل وغفلة وقفي ثابتة هادئة أمام عرش الطاغية واسأليه أن يقدم حسابا عن الكارثة القومية)

وكان رجال الحكومة يشعرون أن كثيرا من الأنظمة القائمة يومذاك إنما تقوم على ما يحسه

ص: 28

الناس في أنفسهم من اطمئنان إلى قوة القيصر أو قوة الدولة، فلما سقط حصن سباستبول زلزلت القيصرية زلزالا عنيفا، حتى لقد تناثرت الإشاعات أن القيصر نيقولا حين قضى نحبه إنما مات منتحراً، ولقد كان حكم ذلك القيصر الذي حكم روسيا ثلاثين سنة أشبه بظلمة الليل إذ تشتد حلكته قبيل الفجر، وكان لروسيا آخر عهدها بالظلمة، فلما مات تنفست الصعداء، وتلفتت تتلمس مطعم النور.

(يتبع)

الخفيف

ص: 29

‌1 - مضحكات مبكيات

للأستاذ صلاح الدين المنجد

(حديث أنقله إلى صديقي النابغة العالم الأستاذ علي الطنطاوي)

(صلاح الدين)

كنا أربعة نفر، مللنا عملنا الرسمي، فانطلقنا نستروح نسمات الربيع الدافئة المعطرة في غوطة دمشق، جنة الدنيا، وكنا نحس، وقد ابتعدنا عن المدينة مجمع الشقاق والنفاق، أننا نستطيع أن نتكلم. . . فلا رقيب يحصي أنفاسنا ونظراتنا وكلماتنا وليس من يطالبنا بالنفاق باسم اللباقة والتمدن والمصانعة. فقلت لصاحبنا الفتى: لقد أمر اللغة والأدب بهؤلاء الذي عادوا وقد لقنوا اللغة على الأعاجم من ذوي الرطانة والعطانة؛ لقد صادفت اليوم في طريقي طالبا في الجامعة فحدثني حديثا أهمني. . . حدثني أن أستاذه قرأ عليه نصا فيه (لبس ثوب الحداد) فقرأها (اَلحدَّاد) فلما قال له الطالب: إنها اِلحدَاد يا أستاذ! انتهره وأصر على أنها الحداّد. ثم ساق الأستاذ على ذلك دليلا تمسك به فقال هكذا أخذناها عن المستشرق فلان. . . أتعلمون من هو هذا المستشرق؟ إنه أوسع أهل الاستشراق علماَ، وأذكاهم فهما، وأفصحهم لسانا. وقوله لا يرد لأنه ثقة، ضابط، محرر.

قلت: لقد مسخ الزمان، فجاء بهؤلاء المسوخ الذين يقولون هكذا أخذناها عن المستشرق فلان. ليت شعري إذا كان الأستاذ هكذا، فكيف يأتي التلاميذ؛ وليت شعري أما درى من انتقى هؤلاء ليكونوا في الجامعة أنهم يهدمون اللغة ويهتكون الأدب؟ فقاطعني صاحبي، وقال لا تلم هؤلاء إذا أخطئوا. ولا تعجل عليهم بنقدك إذا تكبروا. . . فما كبرياؤهم غير ستر لجهلهم. إنهم ليسوا بشيء، ولو بلغوا رتبة الوزارة. فما يزال في الناس ناس يعلمون أن الفضل لأولى العلم، لا لذوي الجهل. لقد غشهم من أوفدهم لتلقى العربية عند ذوي الرطانة. . . فعادوا يغشون الطلاب بجهل فاضح، والناس بشهادات أزياف كواذب.

قال أكبرنا: ولكن هذا ليس بالأمر العجب. فهناك أعجب وأغرب. ألم يأتكم نبأ ذلك الذي عاد من أوربة، كما تعود هذه الجماعة الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، شغفا بأقوال المستشرقين، مدلها بمذاهبهم، فجعل نفسه من شباب محمد، فطنطن صحبه بعلمه وفضله، ثم أخرج كتابا، فإذا هو يطعن فيه على محمد، فيختلق ويفتري، ويدس ويماري ويأخذ

ص: 30

بالنبي إلى اليمن، ويقرئه التوراة والإنجيل ويجمعه إلى الرهبان والأحبار ثم يقول إنه ألف القرآن.

فما أدرى مما أعجب؟ أأعجب من هذا العلم الذي شداه، أم أعجب ممن يفتري على محمد، وهو من شباب محمد؟

قال صاحبي: لا تلم هذا أيضا. إنما هو ببغاء لقنوه الشر فأعاده. إنما لم أبويه اللذين أغفلا تربيته وسددا خطواته وعرفاه من هو محمد. ليت شعري أتطمع من المستشرقين أن يفعلوا غير هذا؟ إنه ليكفيهم أن يغرسوا في نفوس من يلقونه من ناشئة المسلمين الشك. . . في الدين، والكتاب، واللغة. . . فإذا شككت وكنت من الضعاف الإيمان، زلت بك القدم فهويت. لا تلم هذا، بل لم أولئك الذين لم يحسنوا تلقين الدين، ولا تعليم التاريخ، ولا انتقاء الأساتيذ. . .

قال ثالثنا: ولكن عندي ما ليس عندكم. فقد حدثت عن واحد من هؤلاء، هواه مع الشيوعيين، ومعدود في المسلمين وقد شارف على الأربعين، إنه عاد من أوربة يحمل دراسة عن كنيسة من كنائس فرنسة، نال بها الدكتوراه. فبلغني من صفته أنك إذا رأيته يمشي في الطريق، وهو يتثنى وأبصرته وقد نتف حاجبيه، وصفف شعره، حسبت أنه عانس تلبس البنطلون. دعوه يوما إلى المسجد الأموي ليحتفل بمولد الرسول. فنظر في بطاقة الدعوة شزراً، ثم غمز الجرس فأستدعى كاتبا عنده فلما أتاه قال له:

أما تزالون تنزعون نعالكم إذا دخلتم المسجد؟

فصعق الكاتب لهذا السؤال، وحدق بالسائل يريد أن يعلم أهو في الجد أم الهزل. فهذا سؤال لا يسأله مسلم. . . فأجابه.

- نعم يا سيدي.

قال: ومتى تتمدنون؟ لقد غبت عن دمشق تسعة أعوام كاملات وعدت فرأيتكم حيث كنتم. . . متى يصبح عندنا علماء يجتهدون، فيقلبون الدين رأساً على عقب؟ متى ينقذوننا مت خلع النعال، وينقذوننا من الركوع والسجود؟ لم لا يفعل المسلمون فعل النصارى؟ إنهم يدخلون كنائسهم بنعالهم، لا تتسخ جواربهم، فيقفون قليلا يرتلون. . . ثم يخرجون لم يتعبوا، ولم تتسخ سراويلهم!. لم لا تنشرون هذه الدعوة.؟ آه! سأنشرها بين طلابي بنفسي. . . .

ص: 31

وأخرس الكاتب، وطار لبه، وخرج ولم يجب، وهو يلعنه في قلبه ألف لعنة ولعنة. . .).

قال: لقد شككت عندما أخبرت؟ ولكني قصدت إلى الكاتب بنفسي فحدثني كما أخبرت.

قلنا: وكيف يسكت عنه علماء الدين؟ كيف تسكت عنه وزارة المعارف؟ أبمثل هؤلاء نحفظ الاستقلال؟ أنحفظه بإفساد العقائد الإلحاد والتخنث ونتف الحواجب؟ أنحفظه بالوقاحات؟ أهذا أستاذ قد أؤتمن على تثقيف الطلاب؟

قال صاحبي: لا تلم هذا أيضا؛ فمن عدم المروءة والدين طلب خلع النعال والتشبه بالنصارى ورفع الركوع والسجود من الصلاة. ولا تلم وزارة المعارف فهي أم الفوضى. ثم لا تلم علماء الدين، فهم في أمر دنياهم لاهون، وعن دينهم ساهون. إنما لم من نصبه لتثقيف التلاميذ ولم يخبروه. . . آه لو كان هنا الطنطاوي إذن لجرد قلمه لنصرة الدين والحق والشرف. ولأصلي هؤلاء نارا حامية تشويهم شياً.

قلت: أما قلت لكم لقد مسخ الزمان فجاء هؤلاء المسوخ! فانبرى، رجل كان يقربنا يسمعنا، وقال: كل ما ذكرتموه ليس بشيء. . . فعندي ما هو أعظم وأدهى. . .

قلنا: هات ما عندك هات.

(للكلام بقية)

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 32

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

908 -

فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا

منهاج السنة النبوية لابن تيمية: إن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد بعد الملك والمنصور وغيرهم فإما أن يقال: يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يتولى غيره كما يفعله من يرى السيف فهذا رأي فاسد فإن مفسدته أعظم من مصلحته، وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكان الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة بالبصرة وأمثال هؤلاء. وغاية هؤلاء إمام أن يغلبوا وإما أن يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي قتل كثيراً وقتله أبو جعفر المنصور.

وأما أهل الحرة وابن الأشعث فهزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينا، ولا أبقوا دنيا، والله (تعالى) لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا. وإن كان فاعل ذلك من عباد الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، ومع ذلك لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم.

وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين والله يغفر لهم كلهم.

909 -

النداء من الله للعباد ومن العباد لله

الموافقات للشاطبي: إن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ومن العباد لله سبحانه، فحين أتى من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضى للبعد ثابتا غير محذوف كقوله تعالى:(يا عبادي الذين آمنوا، إن أرضي واسعة)(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله)(قل: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا) فإني أتى بالنداء من العباد إلى الله تعالى جاء من غير حرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل، والله منزه عن التنبيه: (ربنا لا تؤاخذنا إن أخطأنا، وبنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته

ص: 33

على الذين من قبلنا) (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا). . . فحصل من هذا التنبيه على أدبين: أحدهما ترك حرف النداء ولآخر استشعار القرب، كما أن في إثبات الحرف التنبيه على معنيين: إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة وهو العبد، والدلالة على ارتفاع شأن المنادي وأنه منزه عن مدانات العباد، إذ هو في دنوه عال، وفي علوه دان، سبحانه!

910 -

تهنئة بعزل

الشريشي: من غرائب التكاتب في العزل ما كتب به أحمد ابن مهران معزول: بلغني (أعزك الله) انصرافك من عملك، فسررت بذلك ولم أستفظعه لعلمي بأن قدرك أجل وأعلى من أن يرفعك علم تتولاه، أو يضعك عزل عنه. والله لو لم تختر الانصراف وترد الانعزال لكان في لطف تدبيرك وثقوب رويتك وحسن تأتيك - ما تزيل به السبب الداعي إلى عزلك والباعث على صرفك. ونحن إلى أن نهنيك بهذا الحال أولى بنا أن نعزيك إذ أردت الصرف فأوتيته، وأحببت الاعتزال فأعطيته، فبارك الله لك في منقلبك، وهناك النعم بدوامها، ورزقك الشكر الموجب المزيد لك فيها.

911 -

تمتع من الدنيا فإنك فاني

سعيد بن حميد:

نمتع من الدنيا فإنك فإني

وإنك في أيدي الحوادث عاني

ولا يأتين يوم عليك وليلة

فتخلو من شرب وعزف قيان

فإني رأيت الدهر يلعب بالفتى

وينقله حانين تختلفان

فأما التي تمضي فأحلام نائم

وأما التي تبقى لها فأماني

921 -

. . . ما بعت الضيعة

شرح المقامات للشريشي: كان بالبصرة رجل ذو ضياع فأنفق ماله في الشراب، فباع ضيعته، فلما تم البيع قال له المشتري: تأتيني بالعشى أدفع لك المال وأشاهدك. فقال: لو كنت ممن يرى بالعشى ما بعت الضيعة. قال محمود بن الحسن الكاتب بعت داري فأصابني مثل هذا فقلت:

ص: 34

أتلفت مالي في العقار

وخرجت فيه عن عقاري

حتى إذا كتب الكتاب (م)

وجاءني رسل التجار

قالوا الشهادة بالعشى (م)

ونحن في صدر النهار

فأجبتهم ردوا الكتاب (م)

ولا تعنوا بانتظاري

لو كنت أظهر بالعشى (م)

لما سمحت ببيع داري

913 -

ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة

تاريخ الطبري: أحمد بن يوسف بن القاسم: سمعت إبراهيم ابن صالح يقول: كنا في مجلس ننتظر الأذان فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده، ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بن زائدة، وممن ذمه الحسن بن زيد، ثم إذن لنا، فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين ما كنت احسبني أبقى حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك فيثنى عليه، فقال أبو جعفر: وما استنكرت من ذلك؟ رجل استكفاه قوم فكفاهم، والله لوددت أتى وجدت مثل الحجاج حتى استكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين. فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك قال: ومن هم؟ كأنك تريد نفسك؟ قال: وإن أردتها فلم أبعد من ذلك. قال: كلا لست كذلك، إن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمنك فخنتنا. . .

معجم البلدان: ذكر الحجاج عند عبد الوهاب الثقفي بسوء، فغضب، وقال: إنما تذكرون المساوئ أو ما تعلمون أنه أول من ضرب درهما عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وأول من بنى مدينة بعد الصحابة في الإسلام، وأول من اتخذ المحامل وأن امرأة من المسلمين سبيت بالهند فنادت يا حجاجاه! فاتصل به ذلك، فجعل يقول: لبيك، لبيك، وأنفق سبعة آلاف ألف درهم حتى افتتح الهند، واستنقذ المرأة، وأحسن إليها، واتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهارا، إن كان ليلا أشعلوا نيرانا فتجرد الخيل إليهم، فكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط، وكان قزوين ثغرا حينئذ. . .

سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي: قال - عمر بن عبد العزيز -: ما حسدت الحجاج على شئ حسدي إياه في حبه القرآن وإعطائه أهله.

ص: 35

‌الواعظ الضرير!.

. . .

للشيخ حسن عبد العزيز الدالي

كان ذلك منذ ثلاثة أشهر، وكان المطر غزيرا، والبرد قارسا وأزقة القرية مملوءة بالأوحال، وقد لاذ أغلب الأهليين إلى دورهم طلبا للدفء، وإذا بشيخ وقور مكفوف البصر تقوده ابنته وهي في العاشرة من عمرها، عليه مهابة وله جلال، يخب في جبته وقفطانه وقد بلل المطر ثيابه فاصبح كالقاضي الذي قيل فيه:

وسخ الثوب والعمامة والبر

دون الوجه والقفا والغلام

دخل علينا فحييناه وأدفأناه، ثم قال:

شكرا ومعذرة يا سادة إذا كانت وظيفتي غير منسجمة مع حالتي، وكان عملي شاقا مرهقا، فإن كثرة العيال، والحاجة إلى العيش تجعل الرجل يركب الصعب، وأنا نكلف برسالة دينية يجب أن أؤديها مهما كان الثمن.

أثبتوني في دفتر 14 وبلغوني المسجد. . أنا واعظ المركز. . . ثم أدى رسالته وانقلب إلى أهله.

وفي هذا الأسبوع، دخل الشيخ علينا يتفصد وجهه عرقا وينوس برأسه من الحر؛ فالشيخ ربع القامة، شحيم الجسم، وقد افتر ثغره لطيفة، هي بسمة الرضاء بالقضاء، حدثناه وحدثنا، فكان مما قال إ، هـ في هذه السفرة عدم الرفيق فضل الطريق، بعد أن نزل من السيارة العامة، وكان لابد من أن يجتاز الترعة التي اعترضت طريقه، فخلع سرواله واجتازها وحمد الله على النجاة من الغرق. ثم إنه بالأمس القريب كان يؤدي رسالته في قرية أخرى، فأشلت الأطفال كلابها عليه فمزقت ثيابه وخدشت إهابه.

وفي ذات مرة نبه السائق أن ينزله أمام قرية كذا، فأنزله خارج حدود دائرته فحمد الله وشكره على أنه لم يصب بمكروه! يا سبحان الله، ما هكذا يكون الاختيار يا إدارة الوعظ والإرشاد؟ وما هكذا يكون الوضع السليم يا وزارة الداخلية!

إذا كان ولا بد أن يكون هذا العالم الجليل في سلك الوعظ والإرشاد، لذلاقة لسانه وقوة بيانه، وعظيم إيمانه، فألحقوه بمنطقة في مدينة يطمئن فيها على نفسه، ويستطيع أن يباشر مصلحة أهله ويأمن فيها على كرامته، فلا يجتاز ترعة، ولا تهره الكلاب ولا يضل

ص: 37

الطريق، حتى يخرج إلى دائرة أخرى، وهناك يكفيه مؤنه هذا العناء قائد صغير لا يكلفه غير دراهم معدودة. إن ما يقوم به فضيلة الشيخ المكفوف، من وعظ وإرشاد بالقرى في يوم كامل يقوم به فضيلة البصير في نصف يوم مع الراحة التامة والكرامة الموفورة.

يا أولى الأمر: أنقذوا أمثال هؤلاء المكفوفين من عناء هذا العمل، فالميدان واسع، والنقل سهل، والثواب من الله عظيم، وإن كانت الحكمة في تعيين المكفوفين للوعظ والإرشاد أن يعظوا الرجال والنساء، فما في الريف نساء يجتمعن لسماع الوعظ؛ وإن كان فمن وراء حجاب.

حبذا لو فكرت وزارة الشئون مع وزارة الداخلية تفكيرا جديا فعممت الإذاعة بالريف، وجعلت للوعظ نصيباً من الإذاعة كل أسبوع، فإن ذلك يكون أجدى وأصلح وأوفر. اذهبوا مشكورين يا أولى الأمر بهؤلاء الوعاظ إلى المساجد المغلقة والمهدمة فافتحوها وشيدوها.

اذهبوا بهم إلى التدريس بالمعاهد والوعظ بالسجون العمومية والفرعية. أفسحوا لهم المجال بالمحاكم الشرعية والمحاماة: إنكم إن فعلتم ذلك فقد خطوتم بنا إلى الأمام، وخففتم العبء عن هؤلاء المكفوفين الكرام. ولعلنا نسمع قريبا أن وزارة الشئون قد أخذت بيد أمثال فضيلة واعظ مركز طلخا المكفوف البصر وأجلسته بدار الإذاعة ليلقى محاضراته الدينية في هدوء واطمئنان بعد أن تعمم الإذاعة بالريف، فيعم النفع ويسلم الوضع، ويطمئن الشيخ. . . ليت. . . ليت!

حسن عبد العزيز الدالي

عمدة كفر دمبرة القديم

ص: 38

‌قصائد تكريم مطران في الميزان

للأستاذ علي متولي صلاح

كان وفاء كريما من أدباء العربية وعلية رجالها، وكان دينا استحق الوفاء والأداء لصاحبه منذ زمن سحيق، وكان تكريما أدنى ما ينبغي أن يكون، وأقل ما ينبغي أن يقدم لشيخ الشعراء وأستاذهم وإمامهم ورائدهم خليل مطران.

نعم. . . كان هذا التكريم - على روعته وجلاله - بعض ما ينبغي لهذا الشيخ الوقور جزاء وفاقا لما قدم للشعر العربي من جهد كبير متواصل، ولما قدم لشعراء العرب من مناهج وطرائق وراد لهم من مجاهل كانت محجبة مستخفية مطوبة، إلى أن تكشفت لعبقريته، وتفتحت لوحيه، وأشرقت على يديه. . .

ولقد عرف الناس ما كان في هذه الاحتفالات التي تتالت وتعاقبت أياما ثلاثة، وقرءوا كل ما فيها من خطب وما أنشد فيها من شعر، وشاهدوا حشود الناس تسعى من مصر وشقيقاتها إلى الاحتفال في نهضة كريمة ووفاء شديد، في زمن عز فيه الوفاء وغاض ماء الخير.

ولقد كان موكباً أدبياً فذاً متفرداً، تكلم فيه الأدباء الكبار والشعراء الكبار، وترجموا الرجل وآثاره ترجمة وافية مستفيضة وفصلوا القول فيه وفي فنون أدبه تفصلا، ودرسوا آثاره جميعاً دراسة لا زيادة لمستزيد عليها، فكان سجلا أدبيا وكان سفرا أدبيا رائعا حقا. . .

ونحن نجد أن من تمام هذا السجل ومن كمال هذا السفر أن يقول النقد الأدبي فيه كلمته، وأن يزن الميزان الأدبي محتوياته بميزانه العادل الدقيق، فذلك أدنى إلى أن يبلغ هذا السفر غايته، ويستوفى كماله!

ونحن - من جانبنا وعلى سوانا أن ينهض بالباقي! - آخذون في كلمات متتابعة في وزن وعرض الشعر الذي قيل، ووضعه في ميزان النقد الذي يعلم الله براءته من الهوى، وخلوصه من الغرض، وبعده عن الميل أو الانحراف عن الحق. . .

ولقد أنشد في هذه الاحتفالات فحول من شعراء العرب في مصر والعراق ولبنان هم أعينان الشعر وأعلام الأدب في بلادهم، وإن خليل مطران لقمين بأن يقول فيه هؤلاء، عسى بتمداحهم والإطراء منهم. . .

وكان أول هؤلاء الشعراء الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد فألقى قصيدته مثلثة القافية -

ص: 39

وهو نوع كان العقاد يكثر منه أيام صدر شبابه الأول - قاربت الخمسين بيتا تضمنت وصف الأستاذ المحتفل به وصفا دقيقا شاملا محيطا ألم فيه بجميع خصائصه وجميع سماته، بل وجميع قسماته، لم يترك دقيقة من دقائقه، ولم يدع خلجة من خلجات نفسه، ولا همسة من همسات قلبه، ولا خطرة من خطرات فؤاده. . . وتلك الإحاطة الشاملة، والإفاضة الكاملة هي مزية العقاد الكبرى في كل ما يكتب وما يتناول وما يصف.

ولقد زخرت قصيدة العقاد - كالعهد به دائما - بالمعاني البكر المستحدثة التي يزخر بها كل ما ينشئ ويكتب ويفيض بها كل ما يخرج للناس!

ولعلي لا أجد من لا يرى الجمال غاية الجمال، والمعنى البكر غاية البكورة - إن جازت هذه العبارة! - في قول العقاد عن مطران إنه (محراب القريض)! وفي قوله معدد سجاياه الكريمة:

ماذا أعدد من سجا - ياك الحان وهن شتى

أدباً وعرفاناً وآلا - ء محبة وسمتا

وإذا أطلت فغاية الإ - طراء أنك أنت أنتا

وأي طرافة وجدة واستحداث أبعد من قوله:

أنطقت بالعربية ال - فصحى معاجم شكسبير

ونقلتم نقل الأما - نة في الكبير وفي الصغير

بدلت في لغة اللسا - ن. . ولم تبدل في الضمير!

ولم ينس العقاد أن يعرض في قصيدته لما خدم مطران به التمثل والاقتصاد، ولما سبق به من التجديد والتحرر من ربقة القديم تحررا لطيفا لينا ليس بينه وبين تجديده كمال الانقطاع وتمام الانفصال، ولكنه تجديد وئيد رفيق هين يأخذ من القديم أبهاه ومن الجديد أزهاه، ويرتشف من كل بحر قطرة، ويقطف من كل بستان زهرة، فيستوي للناس بعد ذلك أدبا مشرقا رائعا يملك عليهم ألبابهم وهواهم وعقولهم. . . نعم فإن مطران كان ذلك المجدد، وإنه بحق للحلقة المفقودة بل الحلقة المنشودة بين المجددين!

(للكلام بقية)

علي متولي صلاح

ص: 40

‌صحائف مطوية:

قصة فاشودة. . .!

أو قصة الاستعمار الإنجليزي في السودان

رواية شعرية فكاهية للمغفور د. حافظ إبراهيم بك

(قصة فاشودة معروفة مشهورة، وتتلخص في أن بعثة فرنسية انحدرت من الحبشة إلى أعالي النيل ورفع قائدها العلم الفرنسي هناك فتصدى له حاكم السودان البريطاني بحجة أن هذه الأرض ملك لمصر، وتخرج الموقف يوم ذاك بين فرنسا وبريطانيا حتى توقع العالم قيام الحرب بينهما لهذا السبب، وقد استطاعت بريطانيا أن تفوز بغايتها وأن تتخذ من موقف الحكومة المصرية مطية لهذه الغاية.

وهذه الرواية من الشعر المجهول لحافظ إبراهيم فليست في ديوانه، ولا عرفها أحد له، ولكنا وقفنا عليها منشورة في إحدى المجلات عام 1901 م، فنحن ننشرها على أنها أثر أدبي نادر يكشف عن ناحية من نواحي الشاعرية في حافظ إبراهيم ثم لنذكر بها أنباء مصر بتارخها بمناسبة ما يجري من أفاعيل السياسة الإنجليزية في السودان).

محمد فهمي عبد اللطيف

تمهيد

فشودة رواية

للمصريين آيه

قد مثلت في العصر

ليهتدى في مصر

فما اهتدى ولا عقل

ولا درى كنه الحيل

بل شهد التمثيلا

ثم انثنى بخيلا

مولى الأكتاف

في ساعة الإسعاف

فلا تلم فرنسا

وفضلها لا تنس

وقل لمن رام السبب

شقاء مصر قد غلب

الفصل الأول: مرشان في قشودة

ص: 42

مرشان بالنيل التقى

من بعد ما عز اللقا

تقابلا في سلم

على الصفا الأتم

حيث المياه تجرى

نهراً بجنب نهر

والأرض بكر لم تزل

كما دحاها في الأزل

تخرج أصناف الثمر

تنبت أجناس الزهر

تفيض بالمأكول

من عدس وفول

ترابها التبر السنى

وكم بها من معدن

وغرسها ابن يومه

(لمرشن) وقومه

فهي كما الجنات

ما غير خذ وهات

مرشان فيها قد ثبت

كأنه عود نبت

يلين للعواصف

فما له ن قاصف

أخرجه دلكاس

ألعوبة للناس

ألعوبة وتنقضي

قد خاب فيها من رضى

وكيف كان العاقبة

فإن مصر الخائبة

إن لم يكن لبطرس

من طاقة بدلكس

ولاله من بورى

يسمع سالسبورى

ولاله من أمة

تنجده في الغمه

ولاله من دولة

تمده بالصولة

الفصل الثاني: مرشان والنيل

النيل كان نائما

رأى (المجور) قائما

يضربه في رأسه

يحسبه في رمسه

خاطبه يا نيل

يا أيها القتيل

يا تارك البلاد

لأفسد الأولاد

يا صانع الميراث

والصبية الأحداث

ص: 43

ذُبحت بالسكين

من ظالم مهين

وكان اهلك المدى

والحبل كانوا واليدا

فما صرخت صرخة

بل قد ذهبت فرخه

قد سقطت في زير

أو وقعت في البير

فلا تلمني بعد ذا

إذا تعمدت الأذى

إني أنا المحامي

عنك لدى الأنام

لا بد لي من حصه

قبل ضياع الفرصه

إذ قد غدا في النية

أن تحفظ القضية

فهبَّ داعي النيل

من نومه الطويل

يقول يا مرشان

يا أيها الشيطان

يا أسد القفار

يا حية البراري

يا سمكا عواماً

يا طائراً حوَّاماً

يا لبكة العجين

يا بسلة في طين

يا ضجة الطبول

على طريق الغول

يا خارجاً من علبه

يا حادثاً من لعبه

يا مشكلا لما نزل

ومشكلين إن رحل

إذا أردت جدي

فأنت خير عندي

من كل ذي قلب بطل

لجنة الأرض وصل

ما كانت الشهور

يكفى لها طابور

ولا الحمام الأزرق

يعصم منه زورق

ولا الأسود السود

يصدها بارود

ولا مجاهل الثرى

تطوى كما تطوى القرى

سلكتها يا غازي

أبية المجاز

حتى ملكت مجرى

بحر الغزال طرا

تبيعه وتشترى

براية وعسكرى

ص: 44

لكن تعال قل لي

ولا تكن مضلي

من ذا أباحك الحمى

من ذا حباك المغنما

من ذا لهذا جرّا

من ذا عليه جرّا

بحر الغزال مني

كيف يزول عني

وهذه فشوده

ربيبتي المعهوده

كيف أساء فيها

وكيف تقتليها

فاندفع الماجور

بسحره يدور

وقال قولا مقنعا

أثبت فيه ما ادعى

يا سيد الأنهار

وملك الديار

ماذا يهمك السقط

من بعدما الرأس سقط

الفصل الثالث: سالسبورى ومصر

وجاء سالسبورى

لمصر في سرور

يقول وهي تسمع

يقنعها فتقنع

يا مصر يا فتاتي

يا زينة البنات

يا مشتهى إنجلترا

يا بنت أخت لندرا

يا منية التاميز

والوطن العزيز

بل يا أتان الملكة

يا ألف ألف سكه

يا ناقة السردار

وجيشه الجرار

يا أصل ما قد أكتسب

من ثروة ومن تعب

يا بلداً ما فيه

ذو ناظر يبكيه

يا أمة ولا وطن

يا منزلا لمن سكن

يا موطئ الأقدام

يا فتنة الأقوام

إني أرى النشالا

يختلس الخلخالا

هيا نصيح السارقا

ونشهد الخلائقا

وبطرس والوزرا

يحررون القمطرا

ص: 45

ويثبتون فيه

نهمة سارقيه

وبعد عرض الشكوى

نقيم نحن الدعوى

ونظهر النصوصا

ونطرد اللصوصا

أو لا فقد خاب الأمل

ولا سبيل للعمل

فما أتم قوله

أن ضحكت مصر له

وأقبلت تقول

يا أيها المأمول

الوزرا عبيدكا

والكل من جنودكا

فاقض بما تشاء

لا يُنقص القضاء

رقصة الختام

إليكم عن بطرس

نادرة في المجلس

إذ قالت النظار:

يا من له الفخار

نرى المجال صعبا

ذئب بعض ذئبا

فهات حدث عنه

كيف خرجت منه

فقام فيهم ناصحاً

يقول قولا راجحاً

فشودة تعيش مثل اسمها فشوش

ما الخلف والتجافى

إلا على اللحاف

دفعته للورد

وبتُّ تحت جلدي

ص: 46

‌الأدب والفن في أسبوع

في تكريم مطران:

تميز الأسبوع الماضي بمظهر أدبي رائع هو نظهر التقدير للأدب والإكبار للفن والتكريم للمواهب والإعجاب بالخلق القويم، إذ اجتمع أبناء العروبة من سائر الأقطار في دار الأوبرا الملكية بعد ظهر يوم السبت الماضي لتكريم شاعر العروبة الكبير صاحب العزة خليل مطران بك. فكان جمعهم وما أبدوا فيه من جميل الرأي مظهراً من مظاهر الوفاء الطيب في عرفان الجميل للرجل الطيب.

وكل جميل يؤديه أبناء العروبة نحو مطران إنما هو وفاء للدين ورد لبعض الصنيع الذي بذله ذلك العبقري نحو أبناء العروبة وعاش عليه طول حياته المديدة إن شاء الله، فما حياة مطران في الواقع إلا فيضاً من المجاملة وحسن الصنيع يؤديه نحو الكبير والصغير والغني والفقير، وينهض بذلك في ميدان الحياة العامة ويأخذ به نفسه في النواحي الخاصة، ويبذل لذلك من أدبه ومن خلقه ما يعد غريباً عن طبيعة البشر، وناهيك برجل جاوز الثمانين ولا يستطيع أحد أن يحصى عليه إساءة لشخص أو موقف تخلف عن طريق الخير، على أنه مع هذا كله ظل على تواضعه لا يمن ولا يتطاول ولا يتنفج بما أجدى في الأدب وبما أبدى في الخير، فلا غرو إذا ما اجتمع أبناء العروبة لتكريمه وأجمعوا على تقديره، ولا غرو إذا ما صنعوا له ما هو أكبر من التكريم والتقدير. . .

حفل حافل:

ويطول بنا القول إذا أخذنا أنفسنا بتسجيل الذين حضروا هذا الاحتفال أو شاركوا فيه، ويكفى أن نعرف أنهم الطلائع من أعلام السياسة والقانون والأدب والصحافة والمقدرين للفن والمواهب في العالم العربي، ولقد زاد في روعة الحفل أن توجه الفاروق حفظه الله برعايته السامية فأناب مندوباً حضر الاحتفال وأبلغ المحتفى به سابغ العطف الكريم والتحية لشخصه خاصة ولأهل الأدب والعلم عامة.

الخطباء والشعراء:

وبعد أن ألقى الأستاذ خليل ثابت بك كلمة الافتتاح تعاقب الخطباء والشعراء في إلقاء

ص: 47

خطبهم وقصائدهم، فخطب أصحاب المعالي والسعادة والأساتذة عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف والدسوقي أباظه باشا وزير المواصلات ومحمد علي علوبة باشا وأنطوان الجميل باشا والأستاذ السراج مندوب سوريا والأستاذ زكي طليمات وألقى الشعراء قصائدهم وهم الأساتذة عباس محمود العقاد وعبد الرزاق محي الدين بك مندوب العراق ومحمد الأسمر وشيلي ملاط بك مندوب لبنان ثم ألقيت قصيدة شكر من المحتفى به ثم عزف الأستاذ سامي الشوا مقطوعة موسيقية تحية للشاعر الكبير.

إجماع الرأي

وقد أجمع الخطباء والشعراء في حديثهم عن مطران على أنه شاعر سلك في الشعر العربي طريق التجديد والابتكار وأنه أستاذ المدرسة الحديثة في الشعر، وأنه استطاع بعبقريته وباطلاعه الواسع أن يلائم بين طريقة العرب وطريقة الفرنج في براعة وتوفيق وأنه عاش طول حياته رجل فضل ونيل وخير وبر، وقد كان هذا جماع القول فيما تكلم به خطباء الحفل وشعراؤه وإن كان لكل ما أورد من الشواهد ونهجه في تناول الحديث.

الشعراء الثلاثة:

وكانت المناسبة بتكريم مطران مما أثار الحديث عن شوقي وحافظ، فقد عرض الخطباء إلى ذلك الثالوث الذي عاش مندمجاً كالحلقة المفرغة حتى كان أسماؤهم تتردد على الألسن وأشخاصهم تتوارد في كل موقف وكأنهم شخص واحد أو دعائم يتكون منها بنيان واحد، وإذا كان خطباء الحفل قد اختلفوا في تقدير الطاقة الشعرية لكل واحد من الثلاثة فإن هذا الخلاف قد قام منذ ظهر الثلاثة على مسرح الشعر، وسيظل قائما إلى ما شاء الله. . .

وأخيراً:

وأخيرا نقول: لقد أقيمت بقية الحفلات لمهرجان مطران في أيام الأسبوع المتوالية وقد كان بودنا أن نسجل كل ما بدا في تلك الحفلات من ألوان الأدب والفن وأن نؤدي هذا الواجب نحو الشاعر الكبير ولكن لجنة الاحتفال ضنت على (الرسالة) بأداء هذا الواجب، لأنها آثرت للمهرجان صبغة محلية رسمية لا تلائم روح مطران ولا تنسق يحال مع شخصيته وشاعريته!

ص: 48

تأبين الشيخ مصطفى عبد الرزاق:

تعددت حفلات التأبين لفقيد العلم والإسلام المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق؛ وكان أهمها وأجلها تلك الحفلة التي أقيمت في الأسبوع المنصرم بقاعة الاحتفالات بجامعة فؤاد الأول حيث خدم الفقيد بعلمه وأفاد بثقافته وخرج جيلا من الأساتذة في الأدب والفلسفة، وقد احتشد في هذه الحفلة جمهور كبير من رجال الدولة والأدب والصحافة وأساتذة الجامعة وطلابها وشيوخ الجامعة الأزهرية وأبنائها كما خطب فيها كثيرون كلهم من أعلام البيان وأعيان الكلام.

تكلم الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا فقال: لقد عرفت مصطفى يحكم عقله علمه، ويحكم علمه لسانه وقلمه. . .

وتكلم معالي عبد العزيز فهمي باشا فأوغل في فلسفة الموت ذلك الشيء الغامض على العقول والأفهام، المحير للفلاسفة والحكماء وتحدث سعادة الدكتور محمد حسين هيكل باشا فقال: لقد كان مصطفى المفكر الفيلسوف والأديب الكاتب، لا يعرف العنف ولا يميل إلى البطش بل كان يؤمن بالحرية لأنه حر الفكر وبالتسامح لأنه طيب القلب وديع الخلق. . .

وقال معالي إبراهيم دسوقي أباظه باشا: إن مصطفى كان رجل الأخلاق، ولكن الأقدار لم تمهله، فكانت الفجيعة فيه قاسية! وتناول الدكتور طه حسين شخصية الشيخ مصطفى من جميع نواحيها تناول العارف فقال: إن تاريخ الأدب العربي المعاصر حين يكتب سيحتل مصطفى في صفحاته مكانا ممتازا، وسيلاحظ الذين يكتبون التاريخ الأدبي لمصطفى أنه صورة صادقة أمينة للذكرى فقد كانت حياته ذكرى قوامها الوفاء.

وتحدث الدكتور منصور فهمي باشا عن مصطفى الصديق ومصطفى العالم المتمكن والحكيم الروحي وقال: إن الناس إذا كانوا قد نعموا من الفقيد بجانب الصديق الكريم فإنهم قد انتفعوا منه كذلك بجانب المرشد العليم والموجه الحكيم. . .

وتعاقب الباقون من الشعراء والخطباء فألقى الأستاذ العقاد قصيدة من شعره العميق، وتحدث الأستاذ أمين الخولي عن الناحية الجامعية من حياة الفقيد، ثم أنشدت قصيدة عامرة للأستاذ السيد حسن القاياتي، ثم تحدث الدكتور محمود عزمي عما كان للفقيد من فضل في تقريب المسألة بين اتجاهات الدين والاتجاهات العصرية ف العلوم، ثم ألقى الأستاذ محمود

ص: 49

غنيم قصيدة من رصين الشعر، ثم ألقى الشيخ عبد اللطيف دراز كلمة عن نواحي الفقيد المختلفة في ميدان العمل، وألقى الأستاذ فؤاد شاكر رئيس تحرير جريدة أم القرى بالمملكة السعودية قصيدة جيدة، ثم ألقى معالي الأستاذ علي عبد الرزاق شقيق الفقيد كلمة شكر باسم الأسرة. . .

وأخلص من هذا كله لأقول لك إن حفلات التأبين عندنا لا تزال تجرى على ذلك الوضع الدارج فهي أشبه بالمناحات، وإن الذين أبنوا الفقيد العظيم في هذا الحفل إنما أبنوه بدموعهم وسرعان ما تجف الدموع، فيذهب ذلك الكلام الكثير الذي قالوه ويحف وتبقى عبقرية مصطفى وشخصيته وسيرته حديث الناس. . .

تراث الأندلس:

أرسلت حكومة إسبانيا إلى الحكومة المصرية بدعوة موجهة إلى بعض أساتذة الجامعة وطلابها للقيام برجلة علمية إلى إسبانيا يقومون فيها بالإطلاع على أصول التراث الأندلسي، ويزورون العالم التي كان مسرحا للفكر العربي حقبة طويلة من التاريخ. ولعل إسبانيا تهدف بهذه الدعوة إلى التقرب من العرب على نحو ما تصنع إنجلترا وأمريكا وروسيا وفرنسا في هذه الأيام، أو لعلها تكون في هذا مخلصة للعلم والبحث والتاريخ، وعلى أي حال فمن الواجب أن نكون نحن مخلصين في تلبية هذه الدعوة وأن ننتهز هذه الفرصة السانحة للإفادة والدراسة وأن نستغلها للعلم والأدب والاطلاع على تراثنا الذي لا يزال مطموراً في أقبية تلك البلاد ومكتباتها.

إن المعلومات التي لدينا عن التراث الأندلسي محدود معدودة ونحن فيما نكتب عن هذا التراث نعتمد على جملة قليلة من المؤلفات العربية ابتذلت لكثرة ترديدنا لنصوصها، ثم على ما يقدمه إلينا المستشرقون والباحثون الأجانب الذين يسافرون للبحث والكشف عن الجديد في ذلك التراث، وقد نقل عنهم خطأ الرأي وضعف الاستنتاج، وإن العار أن نظل قانعين بهذا وأن لا يكون لنا في ذلك جهد يذكر، فلعل رجال الجامعة يستغلون هذه الدعوة إلى هذه الرحلة استغلالا علميا مفيدا ولعلها تكون مقدمة لرحلات متتابعة تؤتى ثمرها.

المستشرق بروفنسيال أيضا:

ص: 50

نشرنا في الرسالة من قبل أن المستشرق المعروف الأستاذ ليفي بروفنسيال قد ألقى أربع محاضرات عن الأدب الأندلسي في كلية الطب بالإسكندرية بدعوة من جامعة فاروق الأول، ولما كانت الظروف لم تمكنا من الاستماع لتلك المحاضرات فقد سألنا صديقا أدبيا من الذين حضروها وسمعوها فأخبرنا بأنها كانت محاضرات سطحية لا جديد فيها من الرواية أو الرأي وأنها لا تعدو المعلومات التي يتناولها الطلاب ويقدمها الأساتذة في مصر قال الصديق الفاضل؛ ومن العجب أن جامعة فاروق قد قدرت لهذا المستشرق ستين جنيها أجرا عن كل محاضرة كما سمعت، وقد كان في مقدورها أن تنظم سلسلة من المحاضرات يلقيها الأساتذة المصريون فيبلغون فيها فوق ما بلغ ذلك المستشرق، ولكن يظهر أننا لا نزال مأخوذين بقدرة هؤلاء المستشرقين لنبذل لهم المال من غير حساب.

هذا ما قاله الصديق، أردنا أن نسجله والعهدة عليه في صدق الرواية، ونقول بهذه المناسبة إن المعهد الفرنسي في مصر قد دعا المستشرق بروفنسيال لإلقاء ثلاث محاضرات عن الشعر الأندلسي وقد ألقى المحاضرة الأولى عن الشعر الأندلسي الفصيح، والثانية عن الشعر الأندلسي الشعبي وعنى في هذه المحاضرة عناية خاصة بالحديث عن ابن قزمان.

وفاء كريم:

أصدر الأستاذ (الحوماني) المجاهد العربي المعروف العدد الأخير من مجلته (العروبة) خاصا بالحديث عن المغفور له الأمير شكيب أرسلان فجاء سفرا حافلا بالمعلومات والطرائف عن حياة فقيد البيان وشرح مآثره ومظاهره جهاده في خدمة اللغة والدين والعروبة، وقد كان الأستاذ (الحوماني) صديقا أثيراً عند الأمير شكيب، وكانت له به صلات خاصة ومودات صادقة فكان من الواجب أن يتوجه إلى ذكراه بهذه التحية الطيبة، وإذا كان مجال القول في مجلة لا يتسع للإفاضة، فإننا نطمع أن يعمد الأستاذ الحوماني إلى جمع ذكرياته وما يعرف من خصوصيات الأمير في كتاب يكون مرجعا للباحثين على نحو ما صنع الأمير طيب الله ثراه نحو ذكرى شوقي بكتابه المعروف (شوقي أو صداقة أربعين عاما)

إسلام هرقل:

ص: 51

أقام طلبة المعهد الأزهري بالقاهرة في الأسبوع الماضي حفلة تمثيل في معهدهم مثلوا فيها رواية (إسلام هرقل) وهي من تأليف الطالب الأديب محمد عبد المنعم المغربي، وقد حضر هذه الحفلة طلاب المعهد وكثيرون من أساتذتهم وشيوخهم، وهذا خير يسترعى النظر لأنه مظهر التطور في الأزهر الحديث، فقد أدركنا عهدا في الأزهر كان شيوخه يختلفون في جواز ابتداء الشعر بالبسملة، فكان بعضهم يتسامح في جواز ذلك، وبعضهم يقول إنه لا يجوز لأن الشعر ليس من الأمور ذوات البال.

ولكنا عشنا حتى رأينا التمثيل يدخل الأزهر، ويؤثره شيوخه كلون من ألوان التثقيف للطلاب.

(الجاحظ)

ص: 52

‌البريد الأدبي

قلعة مصر القاهرة

أشكر للأستاذ محمد عبد الوهاب فايد اهتمامه وبحثه الأخير فقد اطلعت بعدد الرسالة على كلمته الشائقة بشان تحقيق الطباق بقلعة مصر القاهرة. وقوله (هذه الطباق كانت أكبر مدرسة حربية نعرفها في التاريخ وأقدمها، وقد تخرج منها آلاف من الضباط والقواد والأمراء بل الملوك، ولو جمعت أخبار هذه الجامعة الحربية لجاءت في كتاب حافل).

ولقد أردت بكلمتي في الأهرام أن أحقق غرضين: الأول إثارة البحث والاهتمام حول القلعة ومبانيها القديمة وأثرها في تاريخ مصر الإسلامي العربي. والثاني: تحقيق سم السلطان الغوري ونسبته الصحيح فقد رأينا بعض المؤرخين المتأخرين ينسبه إلى الغور بأفغانستان وهو يطلق على جبال وولاية بين هراة وغزنة كما ورد في معجم ياقوت.

أما الآن وقد انكشف فور القلعة، فيمكن التحقق من أصل هذه النسبة أو التأكد بنص تاريخي يثبت اتصال قانصوه الغوري بالغور في مستهل حياته.

ويهمنا جميعا الاهتمام بالقلعة ومبانيها وما تحويه من آثار لأنها في الواقع أكبر أثر قومي لمصر الإسلامية، ولذلك يتحتم علينا المحافظة عليها من عهد إنشائها إلى اليوم فلا يطغى عصر على عصر بل يحتفظ برونقها كاملا كما كانت في أبهى عصورها.

والذي أتمناه هو أن تسلم بأكملها إلى عهدة مصلحة الآثار الإسلامية وأن تتولاها بعنايتها بشرط أن توضع لها الوسائل الكافية حتى تتمكن من إعادة مبانيها وأبراجها إلى ما كانت عليه وأن تعيد أجزاء منها تمثل العهد الأيوبي. والعهود المملوكة ثم عصور آل عثمان والعهد العلوي.

لقد آلمني ما رأيت من قيام حائط مستحدث لم ير الموكلون بعمله سوى طفراء لأحد ملوك مصر القدماء لكي يقيموا حائطهم أمامه فأخفوا الكتابة وتكسرت أجزاء منها وهذا ما أخشى أن يتكرر.

إلا ترى وقد تعددت المعسكرات والمباني والثكنات أننا في حاجة إلى إخلاء القلعة من جنود الجيش وورش وزارة الدفاع حتى يخلو الجو لأهل البحث والعلم، وحتى ندرس برامج إعادة القلعة إلى سابق مجدها.

ص: 53

لقد رأيت قلعة مصر وقلعة دمشق وقلعة حلب وأرسلت كلمة تحت عنوان أمجاد ثلاثة للعروبة أدعو إلى إصلاحها كما فعل الفرنسيون بقلعة الحصن أي حصن الأكراد الواقع بأراضي سوريا.

أما قلعة مصر فقد كانت كرسي السلطنة في أزهى العصور حينما كانت مصر بحق حامية الإسلام وحينما كان الناس يقولون القلعة المحروسة وهذه القلعة ليست لمصر وحدها بل للإسلام وأمم العروبة التي شاركتنا في السباق أمجادنا وهي ليست للجيل الحاضر بل للأجيال القادمة.

وما يقال عنها يقال عن قلعة دمشق وقلعة حلب، ولقد عمل الفرنسيون عملا هائلا في قلعة بلادنا هي قلعة الحصن، وكان غرضهم أن يثبتوا الأصل الصليبي في مبانيها ولهم وجهة نظرهم، فهل تعجز الدول العربية أن تبرهن مرة واحدة على أنها أقدر من هؤلاء في إعادة الآثار الإسلامية إلى سابق عهدها؟ وتعمل عملا يشبه أو يقرب من عمل فرنسا؟

إننا لا نزال ننتظر ونؤمل! وأول عمل ننتظره هو إصلاح القلاع الثلاث، فهل يطول أملنا؟

أحمد رمزي

في تكريم الأستاذ خليل مطران بك:

شهدت حفل التكريم الذي أقيم للشاعر العظيم خليل مطران بدار الأوبرا الملكية في أمسية من أماسي هذا الأسبوع، وحين انشد الشعراء قصائدهم قلت: أين شاعر الشام فيشقشق هذه العشية بلسانه ويسحر تبيانه، وتلفت فلم أجد من صواب بلادي وجه شاعر وكانت تحتهم تهتز المنابر في مصر أيام الحفول السوالف في تكريم شوقي وحافظ، وتساءلت أين شفيق جبري الذي قراه المصريون ناثراً ولم يسمعوه إلى اليوم شاعراً، ورباع الشام طالعات بأزاهيره ودارات العراق عارفات بفيض خواطره، وأين فحل الشعراء محمد البرم فيرد بضفاف النيل لشعر العصر أبراد ماضيه القشيب في ديباجة جرير والأخطل، وما خبر النابغة الملهم عمر أبي ريشة الذي تردد شعره هواتف عبقر فيملك الألباب ويلعب بالشعور، وهل حالت الحوائل دون بدوى الجبل الذي سحر طه حسين في مهرجان المعري فقال له أدب العصر هذا سحر وليس بشعر.

ص: 54

بل أين شعراء الشباب وفيهم أمجد الطرابلسي الذي تطامن له الشعر على ريق العمر، وسليم الزركلي شاعر ميسلون بدماها وجلق ورباها، وأنور العطار وشعره المعطار، وجميل سلطان ذو الروعة والألحان، أين كل هؤلاء، أما كان في مكنة سوريا أن ترسل واحداً منهم لينشد قصيدة في تكريم شارع الأمة العربية؟ ومن سواهم أجدر بالإنشاد في حفلة إشادة يمجده، واعترافا بفضله ولقد شهدت الحفل الكريم خالياً من صوت المرأة التي تعتز بشاعرية الخليل وكان لها خير نصير، وقد شاء حفظه الله أن يشجعني بكلمة منه حين لقيني بباب الأوبرا تلك العشية فقال لي:

(. . . إنما أرجو من الله أن يفسح في أجلي حتى أشهد تكريمك وأقول فيه كلمتي) فجللني قوله بالخجل وكانت كلمته الكريمة باعثة لعبتي على لجنة الاحتفال التي نسيت المرأة في منهاجها الطويل.

فيا شاعري الذي أنبته مهد الشعر في فردوس لبنان زهرة إلهية، ليكون خير هدية لوادي النيل، اعترافا بالجميل، إنك خالد خلود الأهرام، ففي شعرك رواسم التجديد، وفي بيانك مياسم التخليد، لك تحياتي الطيبات.

(القاهرة)

وداد سكاكيني

أي القولين أصدق؟

احتفلت البلاد العربية بتكريم الشاعر خليل مطران بك وتسابق الشعراء والخطباء والكتاب إلى الإشادة بروائع شعره والتنويه بعظيم قدره.

ولقد كان من خير ما قيل في هذا التكريم تحية طيبة أرسلها الدكتور طه حسين بك على صفحات جريدة الأهرام خاطب فيها صديقه بقوله. (إنك لتعرف مكانك في قلبي ومنزلتك في نفسي وتعرف إعجابي تخلقك العظيم وإكباري لأدبك الرفيع وإعلاني في كل قطر زرته من أقطار الأرض في الشرق والغرب وإلى كل متحدث تحدثت إليه في الشعر من الشرقيين والغربيين أنك زعيم الشعر العربي المعاصر وأستاذ الشعراء العرب المعاصرين. لا يستثنى منهم أحد ولا يفرق منهم بين المقلدين والمجددين. وإنما أسميهم جميعا بأسمائهم

ص: 55

غير متحفظ ولا متردد ولا ملجلج ولا مجمجم، وإنما هو اللفظ الصريح أرسله واضحا جليا لا التواء فيه ولا غموض علمت المقلدين كيف يرتقون بتقليدهم. . . وعلمت المجددين كيف ينزهون أنفسهم عن الغلو. . وعلمت أولئك وهؤلاء أن الفن حر. . . كريم. . . نشيط. . . أنت حميت حافظا من أن يسرف في المحافظة. . . . وحميت شوقي. . . من أن يسرف في التجديد. . وأنت رسمت للمعاصرين من الشعراء هذه الطريق الوسطى التي تمسك على الأدب العربي شخصيته الخالدة وتتيح له أن يسلك سبيله إلى الرقى والكمال، وقد حاولوا أن يتبعوك في هذه الطريق فطار بعضهم بجناح واستسلم بعضهم فأراح وأقمت أنت على قمة الشعر الحديث شيخا جليلا وقوراً. . . .).

هذا بعض ما قاله الدكتور طه حسين بك وهو صريح واضح في أن مطرانا هو زعيم الشعراء في العصر الحديث بلا استثناء وأنه أستاذهم جميعاً - حتى حافظ وشوقي -!

ولكنا قد سمعنا الدكتور طه حسين بك نفسه منذ ثلاث عشرة سنة يقف في حفل تكريم العقاد الذي أقيم في سنة 1934 ويقول: -

(إن العقاد هو الصورة الناطقة واللسان الخالد والمرآة الصافية المجلوة التي حفظت صورة مصر الناهضة وأبقتها ذخرا للأجيال القادمة. . . أنا سعيد جداً. . . في أن أعلن رأي في صراحة وأن أقول. . . إني لا أؤمن في هذا العصر الحديث بشاعر عربي كما أؤمن بالعقاد أنا أعرف حق المعرفة وأقدر كما ينبغي نتيجة هذه المقالة التي أعلنها سعيداً مغتبطاً، أعلم هذا حق العلم وأعلنه مقتنعا به محتملا تبعاته).

وإني (أؤمن به وحده. . . لأني أجد عند العقاد مالا أجده عند غيره من الشعراء. . . وأكبر العقاد وأؤمن به وحده دون غيره من الشعراء في هذا العصر. . لأنه يصور لي هذا المثل الأعلى في الشعر. . هذا المثل الأعلى الذي يجمع بين جمال الشعر العربي القديم وبين أمل المصري الحديث. . .).

وختم قوله الذي استغرق صفحتين من جريدة الجهاد بهذه الصيحة (ضعوا لواء الشعر في يد العقاد وقولوا للأدباء الشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء فقد رفعه لك صاحبه).

هتاف هو حكم الدكتور طه حسين بك - بالأمس - في زعامة الشعر في العصر الحديث، وذاك قضاؤه الذي قضى به اليوم نعرضهما أمام الأدباء جميعا ليروا رأيهم فيهما

ص: 56

(المنصورة)

محمود أبو ريه

إلى الأستاذ محمود بك تيمور:

أنت تبكى آه ما أقسى الدموع

حينما تنساب يا محمود منكا

لا تلم دمعي ففي جمر الضلوع

قلبي الباكي أسى يسأل عنكا

كنت بالأمس تداري الحزنا

في وليد راح في عمر الورد

وأراك اليوم تبكي شجنا

روح إسماعيل في ساح الخلود

نحن نبكي من مضى. . . والدمع صدق

أترى ننسى؟ وقد عز الفداء

أأعزيك؟ أجل فالموت حق

ومصير الكون والدنيا فناء

عبد القادر محمود

مكتبة لوزارة العدل السورية:

رصدت وزارة العدل السورية مبلغا كبيرا من المال لشراء ماجد في مصر في هذه السنين من الكتب الشرعية والحقوقية والمالية وإمداد مكتبة الوزارة ومكتبات المحاكم بها وكلفت الأستاذ سامي بك العظيم مفتش العدلية العام الموجود في مصر الآن بالإشراف على انتقائها وشرائها.

كتاب (أبو هريرة)

نشرت مجلتكم الغراء (الرسالة) - في عددها 715 - كلمة للأستاذ الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي حول كتابي (أبو هريرة) فأبرأته مما نال مني ولم أتعقبه فيما أفرط من التمويه المغالطة.

ولكن البحث العلمي فرض على أن أمعن في قوله: (وقد ثبت أن هناك رواة يضعون الحديث على أبي هريرة ومنهم إسحاق بن نجيج الملطي وعثمان بن خالد العثماني وابنه محمد وهو الذي روى عن أبي هريرة أنه دخل على رقية بنت رسول الله امرأة عثمان بن عفان وبيدها مشط. فقالت: خرج رسول الله من عندي آنفاً رجلت شعره. فقال لي: كيف

ص: 57

تجدين أبا عبد الله - يعني عثمان - قلت: بخير. قال أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا. (قال) وهذا حديث باطل لأن رقيه ماتت في غزوة بدر وأبو هريرة إنما أسلم بعد فتح خيبر (قال): فلنحمل هذا على أولئك الرواة ولا داعي إلى الطعن في أبي هريرة).

قلت: لا يمكن حمله على أولئك الرواة من وجهين.

1 -

ثبوته عن أبي هريرة بالسند المتصل الصحيح وقد أخرجه وصححه الحافظ الكبير إمام المحدثين أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الحاكم النيسابوري في كتاب معرفة الصحابة أثناء ذكر وفاة رقية ودفنها في ص48 الجزء 4 من المستدرك وأورده الذهبي في تلخصيه معترفا بصحة سنده وإنكار متنه.

2 -

أمعنا في البحث عن سند هذا الحديث فلم نجد أحداً قبل اليوم زعم أنه يروى من طريق محمد بن عثمان بن خالد. وإنما روى بسندين لا ثالث لهما أوردها الحاكم وليس في واحد منهما إسحاق بن نجيح الملطي ولا عثمان بن خالد ولا ابنه محمد فكيف نحمله عليهم والحال هذه يا منصفون؟!.

وليت الشيخ يدلنا على مأخذه فيما حمله على محمد بن عثمان بن خالد العثماني إذ قال: وهو الذي روى عن أبي هريرة أنه دخل على رقية وبيدها مشط الخ، ومتى فعله كنا له شاكرين وسدد الله من أمعن نقد كتابي بنصح فنبهني إلى أخطائي محرراً للحق مجرداً من سواه.

(صور - لبنان)

عبد الحسين شرف الدين

ص: 58

‌الكتب

نموت ولا نسلم

(تأليف الأستاذ عباس علام)

الأستاذ عباس علام أحد النابهين القلائل الذين أسهموا في بناء الأدب التمثيلي والقصصي في اللغة العربية، لا أقصد بذلك الذين ترجموا وآثروا النقل والاقتباس، وإنما أقصد الذين ألفوا وآثروا تصوير حياتنا الاجتماعية وما يتمثل فيها من المظاهر والميول والاتجاهات واستجابوا في هذا إلى مواهبهم الفطرية. وإلى غيرتهم القومية، وإلى رغبتهم في إصلاح الحياة الاجتماعية.

ويمتاز الأستاذ علام في معالجة هذا الفن بالفهم الدقيق للمجتمع المصري وما يتدافع فيه من التيارات. فهو خبير بهذا المجتمع حيث يبدو في الشارع، وفي المنزل، وفي النادي، وفي الصلات التي تقوم بين الناس في شتى النواحي المختلفة، ولهذا تجده إذ يقص عليك قصة من قصصه كأنه يروى لك حادثة شاهدتها ورأيتها. ولهذا تجده أيضاً في تلمس نواحي هذا المجتمع يضع إصبعه على موطن العلة ويمثلها لعينيك حقيقة واضحة، ويكفى له في هذا أنه استطاع أن يحمل الحكومة في يوم من الأيام على إصدار القانون الذي يحقق المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق الزوجية، وذلك تحت تأثير مسرحيته المعروفة (باسم القانون).

وهذا الكتاب الذي تقدمه اليوم إلى القراء (نموت ولا نسلم وقصص أخرى) يشتمل على عشر قصص من وضع الأستاذ علام وتأليفه، خمس منها في تصوير النواحي الوطنية، وخمس أخرى في معالجة النواحي الاجتماعية، وجميعها تحمل طابع كاتبها الفاضل من صفاء الروح وقرب الأسلوب وتسلسل الحوار وبراعة التصوير. ويظهر أن عناية الأستاذ الفاضل بالقصص المسرحي قد أثرت عليه في ذلك، فجميع قصصه في تسلسلها وتصويرها يمكن تحويلها إلى المسرح بأدنى جهد، وإنك لتقرأ القصة له فترى أشخاصا يتحركون ويتكلمون، وتتمثل لك صورة ناطقة لا ألفاظا جامدة ميتة على الورق، ولقد أحسن نجل المؤلف الفاضل إذ قام بتقديم هذه المجموعة من قصص والده إلى الطبع، واعدا بأن يتولى طبع جميع قصصه ومسرحياته وتقديمها إلى القراء، فإن هذا مظهر بر بالأبوة

ص: 59

وبالأدب.

محمد فهمي عبد اللطيف

المربي

تمهيد في التصوف وأثر الأستاذ الكامل في تربية الروح

(تأليف الأستاذ حسن كامل الملطاوي)

ليس من ينكر من المنصفين أن الصوفية الحقيقيين كانوا من رواد المسلمين إلى المثل العليا، وكانوا في قضايا الحق والخير من العمال الأقوياء الأمناء. وتلك صحائفهم في كتب الجهاد لنشر الدين والفضيلة نضيرة مقروءة، ومناهجهم في تهذيب أتباعهم والتصاعد بهم في مدارج الرقي الروحي موصلة محمودة، وما زالت سيرهم بما تنضح به من إخلاص وإشراق وروحانية مناهل للواردين وذكرى للذاكرين.

بيد أنهم منوا في بعض مراحل تاريخهم بدخلاء حرموا المواهب الفكرية والروحانية والذوقية. فتعوضوا عنها بالتكبر على الناس والاستطالة، وجعلوا التصوف مجرد رسوم وإشارات، وأضافوا إليه شعبذات تردها الإسلامية ويجل عنها التصوف، شعبذات يقع أثرها في النفس تارة مضحكاً وتارة مبكيا.

وهكذا ذهبت في أهل الحقيقة الظنون مذاهب، ومزقتهم الأقاويل، وتطرف بعض الناس فرأوا التصوف الذي تهدف رسالته إلى إسعاد مظهراً من مظاهر الهبوط الاجتماعي!

وكان الظن بالمتعلمين أن يقبلوا على التصوف ليحسنوا العمل به كما أراده السابقون، ولسهموا في كشف الضباب الذي غلفه، فيعود نوره إلى الإشراق في القلوب فيملؤها سعادة وطمأنينة، ويعود بقوته الحقيقة إلى المجتمع الإنساني الذي مشى فيه لؤم الحياة، والذي أشقته المادة وبهظته الدنيات، فينقيه جميعا، ويوجد عالما مرتفعا قدسيا ولكنهم من أسف أعفو أنفسهم من الواجب، وقنعوا بإطلاق ألسنتهم بالثلم والهدم، بالحق وبالباطل

واليوم، نستنشي الرجاء من الشباب المثقف إذ نرى واحداً منهم وهو (الأستاذ حسن كامل الملطاوي) الذي تداولت كفايته الوظائف الطبية، يقدم لنا رسالته الجيدة في التصوف. والطريف أن المؤلف على ما لديه من ألوان الغذاء الصوفي المهضوم لم تتصل دراسته ولا

ص: 60

عمله بشئ يمت إلى التصوف بصلة، فهو منذ عهد الطلب من المشتغلين بشؤون الاقتصاد والمال.

قال مؤلفنا في مقدمته لرسالته: (وقد جهل بعض الناس رسالة الصوفية فعابوهم وأنكروا عليهم مسلكهم ظلما وزورا أو جهلا وغرورا، ولا عجب فالناس أعداء ما جهلوا، فمن قائل إن الصوفية بدعة لا أصل لها في الدين، ومن قائل إن الصوفية قوم كسالى متواكلون، ومن قائل إنهم متشددون، وكل هذا بعيد عن الصواب، وسأحاول إن شاء الله أن أبين في هذه الرسالة على قصرها شيئا من فضل هؤلاء السادة الأماثل، ولعلي أبلغ من ذلك المراد من إعطاء الناشئة الإسلامية فكرة صحيحة عن الصوفية وما تدعو إليه وما تؤديه للإسلام من خدمات في تربية القلوب وإصلاح الأرواح. . .).

ونستطيع أن نطمئن الأستاذ إلى أنه بلغ المأمول، فرسالته على إيجازها تنقل إلى الأذهان والأرواح التي تجهل التصوف معاني متسامية تهزها وتبهرها وتفتحها. . .

تكلم المؤلف موفقا عن معنى الصوفية، ومتى، وكيف نشأت، ومم اشتق اسمها، وعرض لغايتها، ثم لخص محسنا قواعد التصوف، واستطرد إلى إيضاح سبل الصوفية في نشر مبادئهم، وأوضح كيف يختار المريد شيخه، ثم عقب بترجمة مناسبة لأستاذه ومسلكه (الشيخ عبد السلام الحلواني) رحمه الله.

والمؤلف في كتابته يورد عن السلف الصالح عبارات جذابة. وترجمته لشيخه تتأرجح بالوفاء والحب، وتستأهل الثناء الأوفى، فقليل الآن من المريدين من يشكر لصنيعه أستاذه وقليل منهم من يسقى المودة بينه وبين شيخه، وخاصة بعد أن يذهب هذا إلى العالم البعيد. عالم الموت.

والذي يلفتني في ترجمة الشيخ - وهي حافلة كلها بما بجدد في الأذهان ذكرى الأسلاف الأمجاد من الصوفية - مناقب يجب أن تكون من ألمع مناقب المربين الصوفيين. . . تلك هي: استغناؤه عن الناس، وتعففه عما في أيدي مريديه، وتواضعه لهم. . .

ولا جرم أن شيخا لا يستوفي هذا الشمائل، فلا يقيم الموازين لغير المال، ويعمل تحت ستار المشيخة شحاذا أو سلابا، ويلقى الناس في ترفع شامخ، هو أبعد ما يكون عن التصوف، بل هو أبرز مظهر للفساد الخطير الذي دب إلى الصوفية، والذي يضرع رجالها

ص: 61

الصادقون إلى الله أن بهو ويبدل منه الروحانية والسمو.

والكلمة الختامية للمؤلف التي يناجي فيها شيخه ويشيد فيها بفضله هي بما فيها من حب صاف ووفاء خالص وعواطف حارة مؤثرة صلوات الشيخ الراحل الذي وقف على تربية الشباب عمر، والذي كان المؤلف من أقرب خلصائه.

وليس لدى ما آخذه على الرسالة سوى أن مؤلفها بما أوتى من طبع مشرق نقي وثروة في الثقافة الصوفية ضافية كان حقيقاً أن يطيل إمتاعنا بكتابته، لا سيما وأن أمامه منتدحاً كيراً للقول.

ولقد نشر المؤلف رسائل خاصة لأستاذه، وكنت أوثر لو صفيت هذه الرسائل من بعض أشياء لا يضار الجوهر من تصنيفها، بل لعل التصفية كانت تزيدها بروزاً وجملاً.

أما بعد، فالصوفية يطربون لهذه النفحة المباركة من المؤلف الصالح، ويعتزون بإقبال أمثاله على خدمة الدين والتصوف.

آجره الله ما فعل.

لبيب السعيد

نائب المشيخة البيومية بالدقهلية

ص: 62