المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 719 - بتاريخ: 14 - 04 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧١٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 719

- بتاريخ: 14 - 04 - 1947

ص: -1

‌مقاييس وأصول في النقد والشعر

للأستاذ عباس محمود العقاد

(كتب الأديب السوري العصري الأستاذ خليل هنداوي مقالاً في مجلة الكتاب الفيحاء تناول فيه بالنقد مؤلف الأستاذ سيد قطب الحديث عن (كتب وشخصيات). واستطرد من نقده إلى الكلام على ما سماه المدرسة الشوقية والمدرسة العقادية في الشعر، ثم انتهى من كلامه قائلاً: ومثل شوقي لن تظهر قيمته مدرسة عقادية لأنها أظهرت فيه تحيزها يوم كانت تريد أن تجعل من المازني الشاعر الأكبر، ومن شكري الشاعر المصور. وها قد طلق المازني الشعر لأنه لم ير نفسه أهلاله، وها شعر شكري لا يردده أحد، لم يبقى من تلك الفئة إلا العقاد. والعقاد رجل ذهنية جبارة وعقل خصيب عجيب، لا يسمح له أن يطير إلا بقدر. . .

(وكان من الحق أن أرجع إلى صاحب المدرسة في هذا السؤال الذي أردت له جواباً شافياً عن هاتين المدرستين. . . فما قول الأستاذ فيما كتبه الهنداوي وما زعمه من التحيز وما حكم به بين المدرستين. . . الخ.

علي نافع

ونحن نوجز غاية الإيجاز في الجواب المفيد على هذا السؤال، فنقول إن التحيز في أحكام الأدب - وفي جميع الأحكام - أخلق أن ينسب إلى الذين يستحسنون أو يستهجنون لغير سبب يعلمونه إلا إنهم قد استحسنوا وإنهم قد استهجنوا ولا مزيد.

أما أن يبنى حكمك على أصول ومقاييس نعم الآداب كلها ولا تخص أحداً من الشعراء أو الكتاب فليس ذلك من التحيز في شيء كائناً ما كان الرأي الذي ترتئيه. وليس المتحيز إلا الذي يستمع إلى تلك الأصول والمقاييس فلا ينقدها ولا يبطلها ولا يفهمها على الوجه الصحيح.

ونحن لا يعنينا شاعر من الشعراء بعينه إذا فهمنا الشعر على حقيقته وطلبناه من معدنه. أما إذا كان نجهل تلك الحقيقة ولا نعرف المحك الصادق لذلك المعدن فالمصيبة أعم من محاباة شاعر أو الإجحاف به والتحامل عليه لأنها مصيبة الميزان نفسه لا مصيبة الشيء الموزون في إحدى كفيته، أو في كلتا كفتيه.

ص: 1

ونحن لم نقل إن المدرسة الشوقية خلو من محاسنها ومزاياها، ولا قلنا إنها لم تشتمل على شيء غير النقائص والعيوب.

ولكننا قلنا إنها لم تحقق للشعر أشرف مقاصده وأرفع مزاياه، وعرضناها على المقاييس الخالدة التي لا سبيل إلى التشكيك فيها بحال من الأحوال، فلم يصدق عليها مقياس منها ولا حاول أحد أن يصحح لنا ما قسناه مخالفاً فيه مذهبنا في (التطبيق).

وهذه خلاصة تلك المقاييس التي ندع إنكارها لمن يستطيع إنكارها، أو ندع تطبيقها على خلاف رأينا لمن يشاء كما يشاء.

فالمقياس الأول أن الشعر قيمة إنسانية قبل أن يكون قيمة لفظية أو صناعية.

فما من أمة على وجه الأرض إلا وهي تنظم الشعر على اختلاف اللغات والأوزان.

وهي لا تنظم الشعر لأنها تتكلم بهذه اللغة أو تلك، وتعرف هذا الضرب من العروض أو ذاك. ولكنها تنظمه لأنها كائنات إنسانية حية تجمعها كلها سليقة الإنسان ونوازع الحياة.

فأول مقياس للشعر الصادق الرفيع إنه يحتفظ بقيمته الكبرى إذا ترجم إلى جميع اللغات، لأنه يرجع إلى الطبيعة ولا يجعل مرجعه كله إلى أعاريض الأوزان أو موقع الألفاظ في الآذان.

نعم إن الموسيقية اللفظية مزية من مزايا الشعر في كل لغة من اللغات.

ولكنها إذا كانت هي مزيته الوحيدة؛ أو مزيته الكبرى التي لا ينهض بغيرها، فأول ما يفهم من ذلك إنه كلام منفصل من الطبيعة الإنسانية، وإنه صناعة محض وتلفيق من الألفاظ والأوزان، وليس من الشعر الإنساني الخالد في طراز رفيع.

والمقياس الثاني إن الشعر تعبير عن نفس صاحبه وإن كان وصفاً لغيره.

فإذا قرأت ديواناً كاملاً من الشعر وجب أن تعرف صاحبه وتتمثله في دخائل طبعه ونوازع سريرته وأطوار حياته.

وإذا تتبعت غزله - مثلاً - في أطوار تلك الحياة وجب أن تتمثل لك سمات حبه وسمات محبوبه في كل طور من تلك الأطوار.

فلا يكون الشعر تعبيراً عن نفس حية إذا كنت تجهل تلك النفس حين تقرأ ديوان صاحبها، ولا تستخرج لها من ديوانه ترجمة حياة داخلية لا يعوزها شيء غير الأرقام والأعلام.

ص: 2

ولا يكون الشعر تعبيراً إذا كنت تقرأ غزل الشاعر كله من صباه إلى شيخوخته فلا ترى فيه فارقاً بين محبوب ومحبوب، ولا بين عاطفة وعاطفة، ولا بين شباب ومشيب.

ولا يكون الشعر تعبيراً إذا كان صاحبه يزعم لك إنه معطيك صورة من الأحياء والجمادات وهي لا يعطيك صورة من نفسه.

وإنما هذا صناعة وفقر في نوازع الحياة؛ لا يبلغ بقائله من القوة أن يميزه (شخصاً كاملاً) بين غيره من شخوص الأحياء.

والمقياس الثالث للشعر الصادق أن القصيدة بنية حية أو (بنية عضوية) يقع كل جزء منها في موقعه الذي لا يغني فيه غيره، كما تتألف الأجسام من الجوارح والأعضاء.

فإذا عالجتها بالتقديم والتأخير ماتت كما يموت الجسم الحي الذي تضع قدميه في موضع رأسه أو رأسه في موضع قدميه.

أما إذا جاز لك أن تبعثرها شذر مذر ثم تعيدها في كل مرة على وضع جديد فهي إذن من عالم الجماد لا من عالم الأحياء. بل هي من عالم الجماد الذي لا فن فيه ولا تنسيق له ولا معنى لتركيبه. لأنك لا تستطيع أن تصنع هذا الصنيع بجماد كالتمثال أو جماد كالدولاب أو القدح المنقوش.

هذه أمثلة من المقاييس التي ندين بها في نقد الشعر وتقدير الشعراء. . .

فعلى أي وجه تجوز المخالفة فيها؟

لا تجوز المخالفة فيها إلا على وجه من وجهين:

فإما أن يقول القائل إن هذه المقاييس باطلة في جملتها وتفصيلها، وإن الشعر قد يكون من طراز الشعر الرفيع وهو لا يعطينا مزية إنسانية بمعزل عن رنين الأوزان وطلاوة الألفاظ، ولا يعبر لنا عن نفس صاحبه ودخيلة حياته، ولا تتماسك قصائده تماسك البنية الحية التي تستعصي على التقديم والتأخير.

فإن قال القائل هذا فهو وشأنه فيما يراه، والناس وشأنهم في الأخذ بما رآه.

أما إذا قبل تلك المقاييس وارتضاها فليس له غير وجه واحد للمخالفة فيما قدمناه، وذاك أن يقول إن المقاييس صحيحة ولكنها تنطبق على شعر المدرسة الشوقية وما جرى مجراها.

ومعنى ذلك إنه يستطيع أن يستخلص من دواوين شوقي صورة صادقة له كالصورة التي

ص: 3

نستخلصها من الدواوين لأمثال المتنبي والمعري وأبن الرومي وأبي نواس وأن يعرف من غزله أطواراً لحبه في الشاب والمشيب، وأوصافاً لمن أحبهم ونظم الغزل فيهم على اختلاف المحاسن والسجايا وألوان الغرام.

ومعنى ذلك إنه يستطيع أن يترجم قصائد شوقي ويحتفظ لها بالجوهر الذي لا يزول بزوال المحاسن اللفظية والنغمة الموسيقية، ويستطيع أن يتحدى الناقد بقصيدة تتماسك في بنيتها كما يتماسك الأحياء وتستعصي على محاولة التقديم والتأخير.

فإذا استطاع هذا جاز له إن يسمى استحسانه استحساناً وأن يسمى كلامه رداً على نقد وبياناً في معرف الآراء والأذواق.

أما أن يكون قصاراه (الاستحسان وبس)! فله أن يستحسن (وبس) كما يريد، وله أن يقول إن المستحسنين مثله (وبس) كثيرون. . . ولكن أي استحسان هذا الذي تقيمونه معياراً لآداب الإنسانية يا هؤلاء؟

إن الذين طربوا لشعر شوقي ولم يلمسوا مواطن النقص فيه هم بأعيانهم أولئك الذين طربوا لتلك الأغاني السقيمة الشائعة، ورددوها وترنموا بها ولا يزالون يترنمون بها وهي تغثي النفوس وتفرغ المعدات.

أفهذا هو المقياس القويم المستقيم، وما نبسط نحن من خلاصة الآداب الإنسانية هو التحيز والعجز عن التقدير؟

أفهموا يا هؤلاء أولاً.

وأفهموا يا هؤلاء ثانياً.

وأفهموا يا هؤلاء أولاً وأخيراً.

أفهموا قبل أن تتهموا، وأفهموا قبل أن تنصبوا أنفسكم قدوة للنقد والتقدير، ومحكمة تقضي بالتحيز وتستأثر لقضائها بالإنصاف.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌2 - تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فينا

للأستاذ محمد جمال الدين حسن

المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن للحلم:

رأيتم أن دراستنا لسيكولوجية الأخطاء لم تكن عديمة الفائدة، فقد استطعنا بفضل الجهود التي بذلناها في هذا الاتجاه أن نصل، عن طريق الفروض التمهيدية التي تعلمونها، إلى نتيجتين: الأولى فهم لطبيعة عنصر الحلم، والثانية العثور على طريقة لتفسير الأحلام. أما عن طبيعة عنصر الحلم فقد رأينا إنه ليس في حد ذاته شيئاً رئيسياً، وإنما هو بديل من شيء آخر مجهول لدى الشخص الحالم. وإنا لنأمل في تطبيق هذا الفهم على الحلم بأكمله كمجموعة من هذه العناصر، والطريقة التي سنتبعها هي أن ندع بعض الأفكار البديلة تتوارد على خاطرنا، وبواسطة الترابط المطلق سنصل إلى كشف الغطاء عن الأفكار اللاشعورية وإبرازها إلى منطقة الشعور.

فإذا انتقلنا الآن من النظر إلى العنصر الواحد ونظرنا إلى الحلم كوحدة كاملة وجدنا أن الحلم ما هو إلا تحريف لشيء آخر لا شعوري وأن الغرض من التفسير هو الكشف عن هذه الأفكار اللاشعورية، وعلى هذا يجب مراعاة الثلاث قواعد الهامة الآتية عند التفسير:

1 -

لا داعي للاهتمام بالمعنى السطحي للحلم سواء أكان معقولاً أو غير معقول، واضحاً أم غير واضح، فهو لا يحتوي بأي حال من الأحوال على الأفكار اللاشعورية التي نبحث عنها.

2 -

يجب علينا أن نركز جهودنا في محاولة تذكر أفكار بديلة لكل عنصر على حدة من غير أن تنعم النظر فيها كثيراً لنرى إن كانت تحتوي على شيء يلائم الحلم أو لا يلائمه. كما يجب علينا أن لا نهتم كثيراً إذا شعرنا أن هذه الأفكار تقودنا بعيداً عن عنصر الحلم.

3 -

يجب علينا أن ننتظر حتى تبرز الأفكار اللاشعورية الخفية التي نبحث عنها من تلقاء نفسها كما حدث في حالة الكلمة المنسية (موناكو) التي رويتها لكم في المحاضرة السابقة.

ص: 5

والآن أظنكم أدركتم إنه لا داعي مطلقاً للقلق أو المبالاة إذا كنا لا نتذكر الحلم بأكمله بل نتذكر جزءاً كبيراً أو صغيراً منه فقط، وأيضاً إذا كنا نتذكر هذا الجزء جيداً أم لا فالحلم كما نتذكره ليس هو الشيء الحقيقي الذي نبحث عنه وإنما هو بجيل محرف له نستطيع بوساطة الأفكار البديلة التي تنتج عنه أن نقترب من المعنى الحقيقي وأن نصل إلى إبراز الأفكار اللاشعورية إلى منطقة الشعور. فإذا حدث إننا أخطأنا في تذكر الحلم فمعنى ذلك أن تحريفاً آخر وقع في البديل وهذا التحريف لا يمكن أن يكون من غير دافع.

وكما أن في استطاعتنا أن نفسر أحلام الغير فإن في استطاعتنا كذلك أن نفسر أحلامنا، والحقيقة إننا نتعلم كثيراً من هذا التفسير. فإذا حدث أن أجرينا تجربة على أنفسنا فإننا نلاحظ أن هناك قوة داخلية تعمل على عرقلة التفسير. حقيقة أن الأفكار المترابطة تتوارد على خاطرنا ولكنا نجد أننا لا نريد أن نعترف بها جميعاً بل نأخذ في نقدها والتمييز بينها لتنتخب ما هو صالح فنقول لأنفسنا:(لا: هذه الفكرة لا تلائم الحلم). أو (هذه فكرة تافهة جداً). أو (هذه فكرة بعيدة عن الموضوع). ثم نلاحظ إننا بهذه الاعتراضات كلها قد خنقنا الأفكار المترابطة وفي النهاية أقصيناها عنا قبل أن تتمكن من الظهور بوضوح تام. وعلى هذا فإننا نحاول من ناحية أن نتمسك بالفكرة الأصلية، أي عنصر الحلم نفسه، ومن ناحية أخرى نعرقل عملية الترابط المطلق عندما نحاول النقد والتمييز. فإذا حدث إننا لم نقم بالتفسير بل تركنا شخصاً آخر يقوم به فإننا نلاحظ جيداً إن هناك دافعاً آخر يدفعنا إلى هذا التمييز بين الأفكار المترابطة فنقول لأنفسنا في بعض الأحيان:(لا هذه فكرة يثقل على النفس التحدث بها. إني لا أستطيع بل لن أقولها له).

ومن الواضح أن هذه الاعتراضات تهدد مسعانا بالفشل، ولذا يجب علينا أن نتخذ لأنفسنا الحيطة ضدها. فإذا كنا نقوم بتفسير أحلامنا وجب علينا أن نعقد العزم على أن لا نخضع لهذه الاعتراضات مهما بدت قوية، وإذا كنا نقوم بتفسير أحلام الغير فيجب أن نضع نصب عينيه هذه القاعدة الصارمة وهي أن لا يخفى عنا أي فكرة تخطر على باله أثناء عملية الترابط المطلق حتى لو اعترضها أحد الاعتراضات الأربعة التي ذكرتها لكم كأن تبدو عديمة الأهمية أو سخيفة، أو غير ملائمة، أو يثقل على النفس التحدث بها. وقد يأخذ الشخص على نفسه عهداً أن لا يخرج عن هذه القاعدة، ولكنا سنشعر بالخيبة والضيق بلا

ص: 6

شك عندما نرى أنه سرعان ما ينسى هذا الوعد. وقد نحسب لأول وهلة أن هذا النسيان يرجع إلى عدم ثقته في نجاح عملية الترابط المطلق على الرغم من تأكيداتنا القاطعة له. وربما كانت الخطوة التالية لذلك هي أن نحاول أن نجتذبه أولاً إلى نظريتنا بأن نعطيه كتباً يقرأها أو نرسله إلى محاضرات يسمعها حتى يتحول إلى وجهة نظرنا في الموضوع، ولكن قليلاً من التفكير يرينا أنه لا داعي لاتخاذ مثل هذه الخدوة الخاطئة، لأننا سنرى أننا أنفسنا عرضة لمثل هذه الاعتراضات على الرغم من عدم شكنا البتة في نجاح طريقتنا.

ولكنا بدلاً من التبرم بهذا الإهمال من الشخص الحالم في المحافظة على وعوده لنا سنتخذ من هذه التجربة مادة صالحة لنا في الحصول على شيء جديد، شيء ذي أهمية كبرى لأننا لم نكن نتوقعه البتة. فمن الواضح أن عملية تفسير الأحلام تلاقي معارضة قوية بوساطة (مقاومة) تبدو على هيئة اعتراضات في شكل نقد، وهذه المقاومة لا علاقة لها بإقناع الحالم نظرياً بنجاح العملية. وقد أثبتت التجارب أن الاعتراضات التي من هذا النوع ليس لها ما يبررها بل على العكس قد ثبت أن الأفكار التي يحاول الشخص إخفاءها عنا هي بغير استثناء على درجة كبيرة من الأهمية، وأنها لازمة جداً للوصول إلى الأفكار اللاشعورية. وعلى هذا يجب علينا أن نعتني عناية خاصة بالأفكار التي يصحبها اعتراضات من هذا النوع.

وهذه (المقاومة) تعتبر شيئاً جديداً لم يكن متوقعاً بالمرة. وهي ظاهرة لم تكن ضمن الفروض التي فرضناها في مبدأ الأمر ولكنا اكتشفناها أثناء البحث. وإنا لنخشى أن تكون هذه الظاهرة عقبة في طريقنا مما قد يدعونا إلى اليأس أو الكف عن بذل المجهود في تفسير الأحلام. ولكنا من وجهة أخرى قد نجد لذة في التغلب على هذه الصعوبات، فهذه المقاومة التي تعترضنا كلما توغلنا في البحث عن الأفكار اللاشعورية لابد وأنها تخفي وراءها شيئاً ذا أهمية عظمى. وإلا فما الداعي لهذه الصعوبات التي نلاقيها ولا غرض لها إلا التستر والتعمية على قدر الإمكان؟ إن الطفل عندما يرفض أن يفتح لنا قبضة يده ليرينا ما بداخلها فما لا شك فيه أنه يقبض على شيء لا حق له في امتلاكه.

وهذا العامل الجديد (المقاومة) يختلف من الناحية الكمية باختلاف الأحلام. فقد نجد أنفسنا أثناء العمل عرضة لمقاومات قوية ومقاومات ضعيفة. وهناك عامل آخر كثيراً ما نلاقيه

ص: 7

أثناء التفسير يمكن أن نقرنه بهذا العامل، أعني أنه في بعض الأحيان قد تكفي أفكار قليلة أو فكرة واحدة فقط للوصول من عنصر الحلم إلى الأفكار اللاشعورية التي تستتر وراءه، بينما في أحيان أخرى قد نحتاج إلى سلسلة طويلة من الأفكار المترابطة، وإلى التغلب على كثير من الاعتراضات قبل الوصول إلى غايتنا. وهذه الأفكار المترابطة يختلف عددها باختلاف شدة المقاومة، فإذا كانت المقاومة ضعيفة فإن الأفكار البديلة تكون قريبة من الأفكار اللاشعورية، أما إذا كانت المقاومة قوية فإنها تسبب تحريفاً كبيراً في الأفكار البديلة، ومن ثم نحتاج إلى طريق أطول للوصول إلى الأفكار اللاشعورية نفسها.

أظن أن من الأوفق الآن أن نختار حلماً من الأحلام ونطبق عليه طريقتنا في التفسير لنرى إن كان ما توقعناه صحيحاً أو لا؟ ولكن أي حلم نختار؟ هذه هي المشكلة. فأنتم لا تعلمون الصعوبات التي ألاقيها في ذلك، ولا أنا بمستطيع أن أفسر لكم هذه الصعوبات الآن. وقد يرى بعضكم أن الحلم الواضح الغير مشوش يكون سهل التفسير ولكنه بذلك يكون قد ارتكب خطأ كبيراً، فقد أثبت التحليل أن مثل هذه الأحلام تكون قد تعرضت إلى درجة عالية من التحريف وعلى هذا فإنني أقترح عليكم أن نختبر عنصراً واحداً فقط من الحلم ونطبق عليه طريقتنا لنرى ماذا ستكون النتيجة:

(أ) قصت علي سيدة أنها وهي طفلة كانت دائماً تحلم: (إن الله يلبس على رأسه قبعة من الورق تغطي عينيه). كيف نستطيع إذاً أن نفسر هذا الحلم إذا لم تمد لنا صاحبته يد المساعدة؟ أظنه من غير المعقول فالحلم يبدو تافهاً لا معنى له. ولكن هذه السخافة سرعان ما تختفي عندما تروي لنا السيدة أن أهلها وهي فتاة صغيرة كانوا يضعون على رأسها مثل هذه القبعة كلما جلست إلى المائدة لأنها لم تكن تكف عن النظر أطباق أخواتها لترى إن كان أحدهم قد نال نصيبا أكبر من نصيبها. ومن الواضح إن هذه القبعة كانت تستخدم كعائق يعوقها عن التلفت يميناً وشمالاً، وقد روت السيدة هذه المعلومات غير صعوبة تذكر. وقد استطاعت أن تفسر الحلم بنفسها عندما تواردت على خاطرها فكرة مترابطة أخرى قالت:(ولما كنت قد لقنت وأنا طفلة إن الله يرى كل شيء ويعلم كل شيء، فلا بد أن الحلم يعني أنني مثل الله قد رأيت وعرفت كل شيء، على الرغم من محاولتهم منعي من ذلك). أظن هذا المثل بسيطاً جداً.

ص: 8

(ب) رأى أحد مرضاي حلماً طويلاً نوعاً ما كان منه الجزء الآتي: (كان لفيف من أفراد عائلته يجلسون حول مائدة ذات شكل خاص. . . الخ) وقد لفتت هذه المائدة نظر الحالم إلى إنه قد سبق له أن رأى مائدة تشبهها عند زيارته لإحدى العائلات. ومن ثم تسلسلت أفكاره على النمط الآتي: كانت العلاقة بين الابن والأب في هذه العائلة من نوع غريب، وقد أضاف الحالم أن علاقته بأبيه كانت في الحقيقة من نفس النوع. وعلى هذا فقد اتخذت المائدة في الحلم كأداة للتشبيه.

وليس من المستغرب أن يلتفت صاحبنا إلى مثل هذه التفاصيل التافهة كشكل المائدة، فقد كان على علم منذ زمن طويل بما يتطلبه تفسير الأحلام فنحن تنكر إنكاراً باتاً أن هناك شيئاً اسمه المصادفة في الأحلام، بل على العكس فإننا نتوقع أن نصل إلى غايتنا عن طريق البحث في هذه التفاهات التي تبدو كأنها غير مقصودة. وقد تعجبون جداً لأن الحلم لم يقع اختياره إلا على المائدة كأداة يعبر بها عن الفكرة:(إن العلاقات بيننا تشبه العلاقات بينهم تماماً) ولكن من الممكن توضيح ذلك أيضاً إذا علمتم أن العائلة المذكورة تدعى عائلة فالحالم عندما جعل أهله يجلسون على نفس المائدة كان يعني أنهم أيضاً كانوا (أي مائدتين).

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن

ص: 9

‌عالم إيطالي يدافع عن تعدد الزوجات

انسجام مبادئ الإسلام مع تطور المدنية

للأستاذ علي عبد الله

من أسرار الشريعة الإسلامية السمحة، إنها تتفق مع نظام الحياة وتطورها، وإنها تصلح لجميع الأزمان والأجيال، فلا يتحرج المسلم الذي عاش في القرن الأول من أن يعيش في القرن العشرين، دون أن يجد غضاضة أو حرجاً أو أوضاعاً تباعد بينه وبين دينه. وقد امتاز الإسلام وهو الدين الذي أعزه الله بمسايرته لتطور المدنية، واتساع صدره لما في الحياة من مفاجآت، وانسجامه مع التقدم العلمي، والسمو الفكري، والإبداع الفني.

وكلما بلغ العقل البشري غايته من الكمال واتسع نطاق الأبحاث العلمية إلى حدود الإعجاز، أدرك العالم أسرار الإسلام وآمنوا بأن هذه المبادئ المحمدية السامية هي أصلح المبادئ وأكفلها لسعادة الحياة، وأقدرها على ضمان العيش الهنيء والصفو المريء، والمتاع الموفور!!

وبين يدي الآن وأنا أكتب هذه الكلمة محاضرة لعالم إيطالي جليل ألقاها في مدينة شيكاغو في موضوع تعدد الزوجات في اجتماع حضره أكثر من خمسة آلاف رجل وسيدة وقد قال في هذه المحاضرة ما نصه (إن تعدد الزوجات أصبح في هذا الوقت ضرورة من ضرورات الحياة الحديثة، وقد أضحت مسئوليات الزوجة عديد بشكل مستحيل عليها معه أن تقود بلوازمها الخاصة كامرأة وزوجة وهو الأمر الذي حال بين الأزواج وبين كثير من المتع والرغبات.

ولست أرى علاجاً لهذه المشكلة سوى أن يكون للزوج أربع زوجات يوزع العمل بينهن حسب الكفاءات ونوحي الاختصاص: فالزوجة الأولى بحكم أقدميتها تتولى تربية الأولاد، والثانية تتولى الإشراف على نظام العمل والشئون المنزلية العامة، وتقوم الثالثة بإعداد كل ما يلزم للزوج من وسائل الراحة. أما الرابعة فمهمتها الترويح والترفيه عن الزوج وملاطفته، والتفنن في إدخال السرور عليه، ومسح غبر المتاعب عن رأسه، وجعل غرفتا عشاً لغرامه، وفردوساً لأحلامه!!).

هذا هو ملخص رأي العلامة الإيطالي هيراد في محاضرته الجديدة، وقد أشارت جريدة

ص: 10

المصري الغراء إلى هذه المحاضرة إشارة لطيفة.

ويعتقد الكونت هيراد إن السعادة الزوجية لا يمكن أن تقوم دعائمها إلا على هذا الأساس إذ تقوم كل زوجة بمهمتها على نظام دقيق، فإذا مرضت إحدى الزوجات أما ماتت كان لابد للزوج أن يعيد النظر في تنظيم مملكته من جديد وأن يبحث عن زوجة شابة جميلة يضعها في مركز الصدارة العظمى من هذه المملكة.

وقد كان المفروض أن يثور المستمعون على هذه الآراء الجديدة الجريئة التي تخالف ما أصطلح القوم عليه وتتعارض مع تقاليدهم المأثورة والموروثة.

ولكن الأمر كان على العكس إذ قوبلت المحاضرة بالسرور والإعجاب والتصفيق من المستمعين جميعاً ذكراناً وإناثاً.

وأحب أن أعلق هنا على هذه الآراء التي نشرتها الصحف على إنها من مبتكرات العلامة الكونت هيراد لأنها منقولة مع شيء من التحريف من أحكام الشريعة الإسلامية التي طالعت العالم بها منذ ثلاثة عشر قرناً، وقد كان الغربيون يعتبرون هذه الأحكام من عيوب الدين الإسلامي ويتخذونها سبيلاً للطن فيه، كما كانوا يعيبون على المسلمين إقرارهم لمبادئ الطلاق. فلما كشف الله عن بصائرهم، وطار رماد التعصب من عيونهم، وارتقت بهم المدنية إلى إدراك أسرار الحياة، وفهم حقائق الوجود، آمنوا بتعاليم الإسلام وأقروها ونفذوها بالفعل على اعتبار إنها ضرورة من ضرورات العيش، حتى ليخيل إلي أنهم قد أصبحوا مسلمين بقوة الواقع وإن لم يعلنوا إسلامهم بحكم التقاليد!!

وأتذكر أني ألقيت في العام الماضي محاضرة في نادي رابطة الموظفين بالمنصورة عن حكمة تعدد الزوجات في الإسلام حضرها كثير من أهل الرأي والعلم، فلما انتهيت منها قام شاب من إخواننا المسيحيين ومن مدرسي المدارس الثانوية، فأعلن في صراحة عجيبة بأن لم يكن يعرف أبداً أن الإسلام بمثل هذه السماحة وهذا اليسر، وإنه يشعر تحت تأثير الإعجاب بما انطوت عليه أحكام الشريعة الإسلامية من مزايا وفضائل وأسرار؛ إنه مسلم بجوارحه وروحه!! فدوت القاعة الكبرى بتصفيق حماسي هز جوانح الجميع.

أما تعدد الزوجات في الإسلام فحكمة أرقى بكثير مما ذكره الكونت هيراد، وهو في اعتقادي من مزايا الدين الإسلامي وفضائله، على أن يكون هذا التعدد لحكمة وضرورة، لا

ص: 11

للهو ولا للمتاع ولا لمجرد العبث والتنقل بين أذرع الغيد!! ويمكن النظر في حكمته من ناحية الباعث عليه، فإذا كان لرجل زوجة مريضة ويئس من شفائها ورأى من الوفاة لها أن يبقيها للعناية بها على أن يأتي بزوجة أخرى تعفه وتروح عنه فما هي الحكمة في منعه عن هذا الزواج، وهي شيء تنادي به الفطرة والطبيعة وحقائق الحياة!! وهل ذلك خير أم نتركه يتخذ الأولى زوجة والأخرى خليلة؟؟

إن الدين الإسلامي ينظر إلى الحقائق مجردة ولا يؤمن بالخداع والنفاق، ولا يوافق أبداً على أن يتخذ الرجل زوجة واحد ثم يتخذ بجانبها خليلتين أو ثلاثاً! ثم يدعي بعد ذلك أنه قد اقتصر على واحدة وهو في الواقع متزوج بأربع، واحدة بشريعة الله وثلاث بشريعة الشيطان!! ومع ذلك فالإسلام لا يكلفه إلا أن يجعل الحرام حلالاً.

وما ذلك إلا لأنه دين واقعي يحارب الرياء والخداع والتظاهر بما لا يتفق مع الواقع.

وماذا يصنع العالم في عشرين مليوناً من الفتيات في أوربا وحدها تركتهن الحرب الضروس بدون أزواج؟ المسألة واضحة، فإما أن يبيح القوم تعدد الزوجات لرجل واحد أو يبيحوا البغاء لهؤلاء المسكينات!! وهنا تظهر عبقرية الإسلام في الاحتياط للطوارئ وتنظيم نواميس الحياة، والتشريع الصالح للخلود.

وهذه ألمانيا المحتلة قد نفذت بالفعل نظام تعدد الزوجات بناءً على طلب الفتيات والنساء وإلحاحهن؛ لا على طلب الرجال. ولو قلنا للألمانيات الجائعات المشردات إن الإسلام هو الذي وضع لكم هذا التشريع المحكم وأعده لمثل هذه المحنة القومية لهتفن بحياة الإسلام!! الدين الذي جاء لإنقاذ البشرية والإنسانية من الوبلات!!

وليست ألمانيا وحدها هي التي أخذت بنظام الإسلام في هذه الظروف العصيبة، بل تبعتها إيطاليا مقر البابوية، وهاهي ذي أمريكا تسير في هذا الطريق. بل وهذا هو برناردشو يقرر في صراحة واضحة بأن مبادئ الإسلام ستغزو العالم لأنها المبادئ الصالحة للبقاء!!

وبعد فقد آن الأوان للدنيا كلها أن تصغي لهذه الآية الكريمة:

(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)!!

ص: 12

وصدق الله العظيم

(المنصورة)

علي عبد الله

ص: 13

‌الأدب فير سير أعلامه:

10 -

تولستوي

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

خيوط من النور

لئن اشتدت حلكة الليل في عهد نيقولا، وأحاطت الناس المخاوف مما كان يتهددهم من المهالك، فإن خيوطاً من النور برغم ذلك كانت تتراءى على الأفق فتكون لأنفس الأحرار أنساً وشفاء وعزاء. . .

حالت القوة بين الروس وبين أي عمل يتصل بالسياسة فقام الفكر والأدب مقام العمل؛ ولكن أي فكر هذا وأي أدب وكيف يتسنى له أن يخرج من الرؤوس، وكيف تتجاوب به نفوس الأحرار والرقيب من ورائهم محيط وسلطة لا يجدها قانون ولا نقومها نصفة؟ ليس غير الفن ينفس به الأحرار عن أنفسهم وقد اختاروا من صور الفن: القصة والشعر والموسيقى. . . وراحوا يهمسون بهذا الفن همساً سوف يكون له في روسيا دوى عظيم.

كانت القصة الروسية على حد تعبير أحد الكتاب (صرخات من فوق خشبة الصلب)، ولكنها كانت صرخات القوى الذي أنطقه الألم الهائل على رغمه، لا صرخات الخائر الذي يستعطف ويبكي. . .

ولما كانت القصة في مقدمة الوسائل التي عبر بها الروس عما في نفوسهم، فقد برعوا فيها براعة جعلت الكثيرين من فطاحل النقد في أوروبا يسلمون لروسيا بالتنسيق في هذا الميدان، فعندهم أن فن القصة بلغ أوج كماله في القرن التاسع عشر في روسيا فقد سبق الروس في هذا القرن أساتذتهم من الفرنسيين والإنجليز والألمان حتى غدوا هم الأساتذة وأحدثوا في هذا القرن أثراً بعيداً في فن القصة في هذه الأمم الثلاث وفي غيرها ممن نقلوا القصة الروسية إلى آدابهم. . .

وليس بعجيب أن ينبغ الروس في هذا النوع من القصة، فأمام غيرهم مجال القول متسع في غير هذا الفن، ولكن الروس اضطروا أن يظلوا على القصة عاكفين زمناً طويلاً

ص: 14

فتهيأت لهم أسباب التفوق، وتعددت في القصة مذاهبهم وأساليب تعبيرهم، واتضحت هذه المذاهب واستقرت، وطوعت هذه الأساليب وأساس قيادها.

كان على كتاب القصة أن يخلقوا وسيلة بها يتكلمون ولكن على ألا يفطن إلى ما يريدون المنصتون من الحكام والرقباء، وكانت القصة في ذاتها كعمل فني خير معين لهم على ذلك ولكنهم أضافوا إليها ما أضافوا من صور الوصف فأبدعوا تصوير ما كانوا يريدون تصويره من مشاهد الحياة وآلامها، وألوان العواطف الإنسانية وخلجاتها؛ ولقد أدى بهم هذا إلى أن يسلكوا وإن لم يقصدوا مذهب الفن للفن، فلم يدعوا إلى شيء إيجابي أو يقترحوا علاجاً لداء؛ وإنما اكتفوا أو اضطروا في الحق أن يكتفوا بتصوير الحياة الروسية كما هي بما فيها من خير وشر، ومن هنا كذلك كان المذهب الواقي هو الغالب في القصة الروسية.

وكان هذا الوصف أعلى في الآذان صوتاً وأعمق في النفوس أثراً من كافة صورة التعبير التي أتيحت لغير الروس، من فلسفة ومقالة ومحاضرة وبحث، وتلك هي ميزة الفن وبخاصةً فن القصة وقد بلغت أقصى ما يبلغه فن كأداة للتعبير على أيدي أساطين القصة الروسية.

وثمة صفة أخرى للقصة الروسية، وتلك هي انطواؤها على كثير من النذر، ويشاركها في ذلك الشعر إلى حد كبير، حتى ليمكن القول إن الأدب الروسي في القرن التاسع عشر كان أكثر من أدب أية أمة تنبؤا بالمستقبل المخيف؛ بل لعل هذا التنبؤ هو خاصته التي مازته من غيره فهو نذير للناس بالهول والبلاء والشر المستطير، وقل أن كان بشيراً بشيء إلا بما يفهم مما يتضمنه هذا الشر المنتظر من معنى الثورة التي تذهب بالمساوئ القائمة وتفتتح في تاريخ البلاد عهداً جديداً. . .

ولقد كان الأدب الروسي في الواقع لهذه العوامل المحيطة به أدباً تأثراً؛ لا بما كان ينذر به من هول فحسب ولكن من هدوئه كان متنفساً للنفوس مما كانت تنطوي عليه من ثورة، أو كان شكاة وأنيناً أو (صرخات من فوق خشبة الصلب).

والفرق واضح بين هذا الأدب الروسي وبين أدب فرنسا قبيل ثورتها الكبرى على أيدي فلتير وروسو ودبدرو وإضرابهم فقد تفلسف أولئك الفرنسيون وسخروا وبينوا سبل الخلاص وواجهوا المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية مواجهة مباشرة فكانوا في

ص: 15

الغالب فلاسفة مفكرين، ولكن الروس صوروا فحسب، فلم يبينوا لنا المعايب الاجتماعية وأسبابها وشقاء العيش وعوامله، وإنما خلقوا لنا أناساً أشقياء يتألمون وتفدحهم كوارث الحياة ولا يدرون ماذا يفعلون.

ولقد أحدث هذا الأدب أثره العميق في النفوس على الرغم من الرقابة والرقباء، حتى انتهى الأمر إلى ثورة جارفة كانت في الواقع من صنع الفن وحده؛ وليس في هذا الذي نذكر شيء من الغلو، فبالفن لا بالأفكار المجردة، ولا بالدراسة المباشرة لمشكلات روسيا هدم أدباء الروس صرح العهد القديم، وعلى ألسنة أشخاصهم التي خلقوها وفي ميول هذه الأشخاص ونزعاتها وحركاتها عبر الكتاب عما يريده كل روسي وأفصحوا دون أن يقولوا قولاً صريحاً عما كان يشغل الأذهان من آراء في الاجتماع والسياسة والاقتصاد ما كان ليسمح بها الرقيب. . .

وفي الأدب الروسي جانب روحي أسكبه صفة إنسانية عامة بها وجد سبيله إلى قلوب الناس في كل أمة؛ وهذا الجانب الروحي فيه هو محاولة الوصول إلى خلاص للإنسان عامة من شرور الحياة وشقائها، وتوقعه حياة أخرى أسمى من هذه الحياة، ومرد ذلك في الواقع إلى هول ما عانى الروس من ظلم وما ذاقوا من ألم وشقاء. ومن عجب الأمور أن كثيراً من الأدباء الروس على ما بلوا من شرور الحياة حولهم وآثامها كانوا يؤمنون في كتابتهم بالخير وأنه هو الأصل في الإنسان، وأن الشر يأتيه من الحياة وملابساتها، فكان هؤلاء الأدباء متفائلين مع ما كانت تريهم الحياة من دواعي التشاؤم.

وكفر أدباء روسيا بمدنية الغرب وثقافة الغرب، فلم يروا إنهما حق كلهما، وإنما أحسوا فيهما بكثير من صور الباطل؛ وارتابوا في كثير من المبادئ التي أخذ بها العالم الغربي واطمأن إلى استقرارها وصلاحيتها لتقدم العمران والسمو بمستوى الحياة؛ وساورهم كثير من القلق فيما عسى أن تفضي إليه هذه المبادئ من كوارث قد تطيح بها وبمدنية الغرب جميعاً، وقد أضاف هذا الكفران بمدنية الغرب وثقافته إلى الأدب الروسي والقصة الروسية نغمة ارتاحت إليها النفوس القلقة، وزادت هذه النغمة ثورة هذا الأدب بروزاً، وجعلت له خطراً كبيراً في تاريخ الفكر البشري. . .

وأدى هذا الكفران بمدنية الغرب ومبادئ المجتمع الغربي إلى اتساع أفق الأدب الروسي،

ص: 16

فبات يتعمق النظر في مسائل الحياة والموت وما عسى أن يكون وراء هذا الكون العجيب من أسرار ود الأدباء لو استطاعوا أن يهتدوا إلى شيء ما، وقد صبغ هذا الاتجاه الأدب الروسي بصبغة دينية صوفية لا مثيل لها في أدب الغرب. . .

كان الشعر أسبق من النثر في هذا القرن ولذلك حق أن نتكلم أولاً عما كان للشعر من أثر فيما نحن بصدده، وقد تجلى هذا الأثر في شعر شاعرين كانت لهما أو على الأصح كانت لأولهما زعامة الشعر الروسي الحديث وهما بوشكين وليرمونتوف. وقد ولد أولهما سنة 1799 ومات في الشهر الأول من سنة 1837. وولد ثانيهما سنة 1814 ومات سنة 1841.

تمثلت الروح الجديدة في حياة بوشكين وفي شعره، ولقد كان لهذا الشاعر الفذ الذي مات في الثمانية والثلاثين من عمره، أعمق الأثر في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر. . .

يعد بوشكين بحق أحد عباقرة الشعر في جميع عصوره وعلى اختلاف بيئاته، فقد خلق موهوباً كما يخلق أفذاذ هذا الفن وفحوله فله قوة الشعر وعمق الفكرة وصدق الإحساس وحدته وسمو الروح وحرارة الإيمان وجمال النفس، وله إلى جانب ذلك الأداة الطيعة من التعبير الجميل القوي والموسيقي الرائعة الحلوة.

على أن ما يعنينا هنا هو أثر فنه لا قيمة ذلك الفن؛ ولقد كان أكبر تأثيره في حياة قومه بما تغنى به من أغاني الحرية، تلك الأغاني التي هزت النفوس هزاً.

تأثر بوشكين بشاعر عظيم متمرد تأثر هو اللورد بيرون الذي قضى نحبه سنة 1824 في حصار مسولنجي مصاباً بالطاعون، وقد كان يدافع مع المدافعين عن حرية اليونان، وأعجبت بوشكين حمية بيرون كما أعجبته طريقته في الشعر، وكان من أبرز خصائص بوشكين أنه يتمثل آثار غيره ويتأثر بها ولكنه لا يفقد أصالته ولذلك فقد احتفظ بروحه الروسية وإن اصطنع أسلوب بيرون.

تغنى بوشكين بعظمة روسيا وقوتها وكان يعد بطرس الأكبر بطلها الفرد، وغنى بمثل البكاء حياة فلاحيها وشقائهم، وكان شعره مليئاً بالنذر، فكان منذراً للطاغيين مبشراً بحرية سوف تنعم بها روسيا بعد طول الأسر والعذاب تجد ذلك في قوله (إنا منتظرون، وقلوبنا المتلهفة تخفق بالأمل في الحرية المقدسة كما ينتظر العاشق الشاب ساعة لقائه بفاتنته).

ص: 17

وتأثر بوشكين كذلك بمبادئ الثورة الفرنسية، وكان صديقاً للديستمبريين، ولكنه كان قد نفى إلى ضيعة أمه قبيل حركتهم فلم يشارك فيها ونجا بذلك من الموت لينظم لروسيا خير ما أخرجت من شعر وليوقظ مشاعرها ويطبع أدبها بطابعها، وليكون شعره حداءها الممتلئ بالأمل والسحر.

وكان حول بوشكين عدد من الشعراء، كان ليرمنتوف الذي بدأ ينظم الشعر من سن الرابعة عشرة أبرزهم وأقواهم موهبة، وقد تأثر هذا الشاب الشاعر بيوشكين أولاً ثم بشلر وأخيراً باللورد بيرون ذلك الذي أحبه ليرمونتوف حباً كاد ينسيه كل شاعر غيره حتى بوشكين نفسه.

وكان ليرمونتوف في شعره منذراً أكثر مما أنذر بوشكين، وقد أذاع قصيدة غفلا من اسمه سنة 1830 تنبأ فيها بالثورة، حتى ليعجب من يقرأها بعد الثورة البلشفية من صحة نبوءته؛ فكأنما كانت تتكشف له حجب الغيب؛ وتغنى ليرمونتوف بالحرية كما تغنى بوشكين، وكان ينظم الشعر في يسر فيجئ قوياً متدفقاً كالسيل، ولكن الموت لم يمهله لتمد موهبته غاية مدها فمات وهو في السابعة والعشرين. . . على أنه قبل وفاته بسنة أخرج وصية نثرية سنة 1840 تعد أول قصة تحليلية في الأدب الروسي الحديث وهي القصة المسماة (بطل من أبطال عصرنا)، ولذلك يعد هذا الشاعر الفذ طلعة في فن القصة.

ونعود بالحديث إلى القصة فنجد أن الكاتب الذي يعد مقامه في القصة كمقام بوشكين في الشعر هو جوجول المولود سنة 1809 والمتوفى سنة 1852؛ وليس معنى ذلك أنه لم يوجد قبل جوجول قصصي، وإنما نقصد أن جوجول كان رائد القصة الروسية في القرن التاسع عشر وكان زعيماً من أكبر زعمائها غير مدافع. . .

قام فن هذا القصصي على أساس السخرية من المعايب الاجتماعية في عصره، ولم تكن سخريته سخرية نفس هادئة تعطف على ما تخلق من الشخصيات وترفق بهم وتضحك مع الضاحكين كسخرية شارلزدكنز مثلاً، وإنما كان سخرية عنيفة هدامة تبرز المعايب عن سخيمة ونقمة كأنها سخرية شيطان يلهو بزلة فريسة من فرائس غوايته. . .

كان يؤلم جوجول أن يرى روسيا وقد ذاع فيها الشر والفساد والباطل، وماتت فيها روح العدالة والخير، وكان يقول دائماً إنها ممتلئة بالأقعنة الكاذبة حتى ما تقع العين على آدمي

ص: 18

واحد فيها، والحق أنه قلما اطمأن إلى وجود شيء من الخير في الحياة الروسية فقد استشرى الشر في رأيه حتى لم يدع للخير مجالاً. . .

وقد أنتج جوجول عدداً غير قليل من القصص والصور الاجتماعية، ويهمنا فيما نحن بصدده ثلاثة منها هي (المفتش العام) و (الأنفس الميتة) و (العباءة) أما القصة الأولى فهي ملهاة تهكمية تدور حول نبأ أذيع بأن مفتش الحكومة العام قادم للتفتيش في مدينة من مدن الأقاليم، ولما كان المفتش غير معروف فقد أخذ الموظفون مسافراً من المسافرين على أنه المفتش الموهوب الجانب، فأكرموا وفادته ومشوا بين يديه بالزلفى وأعطوه المال والهدايا، ولما رأى ذلك المسافر أنه قد أخذ منهم كل ما استطاع أخذه من المال فر هارباً؛ ويسدل الستار عقب إعلان إن المفتش الحقيقي قد وصل فعلاً!؛ وقد أحدثت هذه الملهاة ضجيجاً كبيراً وأثارت من حنق الحكومة على مؤلفها ما اضطره إلى مغادرة روسيا إلى إيطاليا حيث أتم قصته الكبرى (الأنفس الميتة).

تعد هذه القصة الثانية من أعظم الآثار في أدب أوروباً جميعاً ولم تكن لها عقدة معينة أو حكاية غرام، وقد أتمها جوجول في عدة سنوات، وفيها سخر أشد السخرية من كل ما عده معيباً في الحياة الروسية، وتهزأ بمن شاء من الأشخاص الذين صور أمثلة لهم في قصته الكبرى، وقد نفذت عينها نفاذاً عجيباً إلى كل معيب شائن في جوانب تلك الحياة وإلى كل وضيع مرذول من صور الناس وأنماطهم، لم يغادر شيئاً من ذلك إلا أحصاه. . .

ولو أراد النقاد أن يعدوا عشرة كتب في فن القصة لها أثرها في توجيه هذا الفن، ولها خطرها فيما تقاس به رسالة هذا الفن لكان كتاب جوجول (الأنفس الميتة) أحد هذه الكتب العشرة بلا جدال، فهو فيما تواضع عليه نقدة الأدب أعظم ملحمة للضعة الآدمية في أدب العالم كله، وذلك حسب ما يفهم من معنى الملحمة كعمل فني، وليس كما قد يذهب إليه الذهن من معنى المعركة. فما في القصة معركة ما وإنما نقصد معنى الملحمة كما تسمى ملهاة دانتي المقدسة، أعنى أنها عمل أدبي شامل يحيط بكل شيء مما هو منه بسبب. . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 19

‌مرجعات في الفلسفة:

نظرية المعرفة عند شوبنهور

للأستاذ عبد الكريم الناصري

(تتمة ما نشر في العددين السابقين)

1 -

مبدأ الصيرورة:

أو مبدأ التغير، أو قانون العلة والمعلول. ومفاده أن كل شيء في العالم الواقعي المتغير فهو حلقة في سلسلة العلل والمعلولات، وخاضع إذاً للجبرية المطلقة. وسلسلة العلل أزلية أبدية، بمعنى إنها تمتد إلى الماضي اللامتناهي، وإلى المستقبل اللا متناهي. والعلة تسبق المعلول بالضرورة، فلا مجال لتبادلها الأثر في وقت واحد. وهناك ثلاثة أنواع من العلل؛ وهي (العلة) بمعناها الضيق، وتسود التغيرات الميكانيكية واللا عضوية، و (الحافز) أو المهيج الذي يتحكم في الحياة النباتية عند النباتات والحيوانات (كالهضم والدورة الدموية عند الحيوان والإنسان مثلاً)، و (الباعث)، وهو يسيطر على الأفعال المقودة بالإدراك والشعور عند الحيوان والإنسان.

2 -

مبدأ المعرفة:

يتحكم هذا المبدأ في تصوراتنا وأحكامنا. وقوة التصورات هي (العقل) الذي يختص به الإنسان، بينما (الذهن) مشترك بين الإنسان والحيوان. والتصورات أو المجردات تتوقف على المدركات أو العيانات، والتصور قد يحيل على تصور آخر، وهذا على آخر مثله، ولكن سلسلة الأفكار المجردة لا بد من أن تقف عند عيانٍ، ويكون هذا هو السبب الكافي للتصور الذي يتوقف عليه مباشرةً؛ كما أن هذا التصور هو الأساس الكافي للتصور الذي يتوقف عليه، أي الذي هو أكثر منه تجريداً. وهناك أربعة قوانين منطقة علياً، هي قانون الذاتية، وقانون التناقض، وقانون الثالث المرفوع، وقانون السبب الكافي للمعرفة.

3 -

مبدأ الوجود:

أو مبدأ المكان والزمان. ونحن لا نستطيع أن نتصور العالم الواقعي موجوداً إلا في الزمان

ص: 21

والمكان. ولكننا نستطيع، من وجهة أخرى، لا أن نتصورهما مستقلين عن التجربة تصوراً مجرداً فحسب، بل وأن ندركهما بالعيان المباشر. ومن أجل ذلك يعتبرهما شوبنهاور صنفاً مخصوصاً من أصناف الموضوعات. ومبدأ الوجود في الزمان هو (التوالي)، ومبدأ الوجود في المكان هو (الوضع). كل لحظة من الزمان تتعين باللحظة السابقة، وتعين اللحظة اللاحقة. ومواضع المكان يعين بعضها بعضاً بالتبادل. والإضافات (أي العلاقات) المكانية هي موضوع علم الهندسة، والإضافات الزمانية موضوع علم الحساب. وكل هذه الإضافات تدرك، أول ما تدرك، بالعيان الخالص، لا بالتصور والبرهان.

مبدأ العقل:

أو مبدأ البواعث أو الباعثية. وقد كنا - في كلامنا على مبدأ العلية - عددنا الباعث من أنواع العلل الثلاثة. ولكننا كنا عندئذ ننظر إلى العلية من الخارج. فإذا تأملنا الآن في أحوالنا الباطنة، وجدنا أن أفعالنا الإرادية أو مشيئاتنا تتعين بالأسباب التي ندعوها (البواعث). وقد وصف شوبنهاور قانون الباعثية (بأنه العلة مرئية من الداخل)، وعن طريقه يتم الانتقال من عالم الظواهر إلى الشيء في ذاته، ومن الفيزياء إلى الميتافيزيقا.

والمبدأ الأول من مبادئ السبب الكافي هو المبدأ الفيزياوي، والمبدأ الثاني هو المبدأ المنطقي، والثالث هو المبدأ الرياضي، والرابع هو المبدأ الأخلاقي. وهذا معناه أن (الضرورة) المطلقة تعمم عالم الظواهر؛ في صورة الضرورة الفيزياوية، والمنطقية، والرياضية، والأخلاقية. والفرد الإنساني ظاهرة بين الظواهر، فهو إذن خاضع خضوعاً تاماً للضرورة السببية الجبرية، ولا حرية له بهذا الاعتبار.

وكل مبدأ من هذه المبادئ لأربعة، أو بالأحرى كل (شكل) من أشكال هذا المبدأ الواحد، مبدأ السبب الكافي، يعبر كما قلنا آنفاً عن طبيعة الموضوعات الخاضعة له. فمبدأ الوجود في الزمان الخالص هو (التعاقب) أو (التوالي)، وليس الزمان شيئاً سوى هذه الرابطة. ومبدأ الوجود في المكان الخالص هو (الوضع)، وليس المكان في جوهره سوى (الوضع) والعلية هي الرابطة التي تسود موضوعات الإدراك الحسي، التي تملأ المكان والزمان، وتؤلف العالم المرئي، عالم المادة. فإذا سألنا: ما طبيعة المادة؟ فالجواب أن (المادة) ليست في جوهرها سوى العلية. كيان المادة كله هو الفعل، والفعل هو العلية، فالمادة علة

ص: 22

ومعلول، ولا شيء وراء ذلك. ومثل هذا يقال في تصوراتنا ومشيئاتنا. وصفوة القول إن كل موضوع من الموضوعات فإنما يوجد ويعرف بمقدار ما يرتبط بغيره من الموضوعات، وفقاً لمبدأ السبب الكافي في صورة من صوره الأربع. وهذه الرابطة تستنفد طبيعة الموضوع باعتباره موضوعاً فحسب، أي فكرة بالإضافة إلى الذات. فلنا إذن أن نقول أن عالم الموضوعات أو الفكرات لا يزيد عن كونه شبكة من العلائق والروابط والنسب، والوجود فيه إذن وجود محض نسبي. ومبدأ السبب الكافي، الذي يظهر لنا العالم مطبوعاً بطابعه (طابع الضرورة والنسبية) واحد متشابهة في كل صوره، فإذا اعتبرنا أبسط هذه الصور مثلاً، وهي الزمانية أو الزمان، فهمنا الصور الأخرى، وطبيعة عالم الظواهر. ونحن نجد أن كل لحظة من الزمان إنما توجد لأنها محت اللحظة السابقة، التي ولدتها، ثم لا تلبث أن تختفي هي أيضاً، إذ تمحوها اللحظة اللاحقة. فالماضي والمستقبل خاويان خواء الأحلام، وما الحاضر إلا الحد المترجرج، غير المنقسم، بين الماضي والمستقبل.

ومثل هذا الخواء نصيبه في المكان، وفي مضمون المكان والزمان، أي في كل ما يصدر عن البواعث والعلل، فلا شيء من ذلك يوجد إلا بالنسبة إلى شيء آخر مثله، أي نسبي زائل. (وهذا المذهب في لبابه قديم: فهو يظهر عند هرقليطي، حين يندب سيلان الأشياء الأبدي؛ وعند أفلاطون، حين يهبط بالموضوع إلى ما هو سائر أبداً، وليس بكائن قط؛ وعند اسبينوزا، في صورة القول بأعراض الجوهر الواحد، الكائن الباقي، كما إن (كانت) يعارض الظاهرة المحضة بالشيء ذاته. وأخيراً فإن حكمة الفلاسفة الهنود القديمة تصرح قائلة:(إن مايا، نقاب الوهم، هو الذي يغشى على أبصار الفانين، ويريهم عالماً لا يستطيعون أن يقولوا عنه، لا إنه موجود ولا إنه غير موجود: إنه كالحلم. إنه كضوء الشمس على الرمال، يحسبه المسافر على البعد ماء. . .) - ولكن ما يقصد إليه كل هؤلاء، وما يتحدثون عنه جميعاً، ليس شيئاً أكثر من هذا الذي نظرنا فيه: العالم باعتباره فكرة خاضعة لمبدأ السبب الكافي).

عالم الظواهر إذن حلم باطل. وليس ثمة من فرق حقيقي بين ما ندعوه الواقع أو اليقظة، وبين حلم الرقاد. إذ ما عسى أن يكون معيار التفرقة؟ إن القول بأن أحلامنا أقل وضوحاً وتميزاً من إدراكنا في حال اليقظة، لا وجه له، إذ لم يتفق أن استطاع إنسان من الناس عقد

ص: 23

مقارنة عادلة بين الحالين، لأننا لا نستطيع أن نقارن إلا ذكرى الحلم بالواقع الحاضر. وقد جعل (كانت) ترابط الأفكار أو الموضوعات وفق قانون العلية معياراً للتفرقة بين حياة الواقع وبين الأحلام؛ ولكن يرد على هذا بأن تفاصيل كل حلم على حدته، على الأقل، تترابط تبعاً لمبدأ السبب الكافي في كل صورة؛ ولا ينقطع الترابط إلا بين اليقظة والأحلام، أو بين حلم وحلم. وعلى ذلك نستطيع أن نصوغ معيار (كانت) على الوجه التالي: إن الحلم (الطويل) - الذي نسميه (الحياة) - تترابط أجزاؤه جميعاً وفقاً لمبدأ السبب الكافي؛ ولكنه لا يرتبط هذا الارتباط بالأحلام (القصيرة) وإن كان كل حلم من هذا النوع الثاني مترابط الأجزاء على الوجه نفسه؛ ونحن إنما نميز بين الحلم الطويل والحلم القصير لانقطاع الصلة السببية بينهما.

والحق أن أعظم المفكرين والشعراء لم يترددوا في تشبيه الحياة بالحياة بالحلم. فأصحاب (الفيداس) و (البوراناس) مثلاً لا يملون من تشبيه العالم الواقعي - الذي يسمونه نسيج (مايا) - بالحلم. وكان أفلاطون كثيرا ما يقول: إن الناس يعيشون في حلم، وإن الفيلسوف وحده يحاول إيقاظ نفسه. وشكسبير من الشعراء يقول: لقد جبلنا من المادة التي تصنع منها الأحلام؛ وحيتانا القصيرة يحف بها النوم). وقد جعل كلدرون عنوان إحدى مسرحياته: (الحياة حلم). ولا يكتفي فيلسوفنا الأديب بما يقتبسه من الحكماء والشعراء، بل يدلي هو أيضاً بدلوه، ويستأذن قارئه في هذا التشبيه من تشبيهاته الرائعة: إن الحياة والأحلام صفحات من كتاب واحد. والقراءة المنظمة لهذا الكتاب هي الحياة الواقعية؛ ولكن بعد أن نتهي ساعات القراءة (أي اليقظة) ترانا كثيراً ما نستمر على تقليب الصفحات في تراخ وكل، فنقرأ صفحة من هنا وصفحة من هناك، بغير نظام أو إرتباط؛ وكثيراً ما تكون الصفحة مما قرأناه سابقاً، وقد تكون في بعض الأحيان جديدة علينا؛ ولكن الكتاب المقروء واحد لم يتبدل. ولا ريب في أن مثل هذه الصفحة المنفردة مقطوعة الصلة بالدراسة المنظمة للكتاب، ولكن الفرق لا يبدو كبيراً إذا تركنا أن القراءة المتصلة، كالأمر في قراءة الصفحة المفصولة؛ تبدأ وتنتهي فجأة، وفي وسعنا إذن أن نعتبر المقروء في الحالة الأولى صفحة واحدة كبيرة).

إن عالم الظواهر، هذا الحلم الذي لا نهاية له، والذي يتسلسل في الزمان والمكان وفقاً لمبدأ

ص: 24

السبب الكافي، هو موضوع التجربة المادية والعلوم المختلفة، كالفيزياء والكيمياء والتاريخ؛ فإن غاية العلم ومهمته استقصاء ترابط الظواهر أو الجزئيات أو الأفكار وفق المبدأ المذكور، وعلى هدى من (اللماذا). وتسمى هذه العملية بالتعليل وظيفة العلم إذن تعليل الظواهر؛ ومضمونه، الذي لا يستطيع يقدم لنا سواء، هو ما يصل إليه التعليل من الروابط السببية. أما مضمون الظواهر، ومعناه الأخير، أما الشيء في ذاته، فإن النظر فيه والإخبار عنه ليس من شأن العلم، لأنه خارج نطاق السبب الكافي، الذي يهتدي العلم في تعليلاته به. وإنما هو من شأن الفلسفة. العلم يستطيع أن يخبرنا لماذا، وكيف، وأين، ومتى، حدثت هذه الظاهرة عن تلك، ويستطيع أن يصوغ قوانين لاطراد الظواهر، من جذبية وكيماوية وكهربائية ومغناطيسية، ولكنه لا يستطيع أن ينبئنا (ما) المادة، وما الكهرباء وما الجذب وما الألفة الكيماوية، وما سائر (القوى الطبيعية) التي تبقى، بالنسبة إليه، (كيفيات خفية) أو صفات مستوردة؛ وهكذا يتركنا في جهل مطبق بشأن الطبيعة الباطنة لكل شيء. ولكن حيث ينتهي العلم تبدأ الفلسفة. فإن الوصول إلى هذه الطبيعة الباطنة، إلا ماهية العالم، والهدف الذي ترمي إليه، وهي لا تبلغه عن طريق التعليل ومبدأ السبب الكافي، فإن هذا المبدأ لا يمتد إليه كما سبق القول، وإنما تبلغه بضرب من المعرفة العيانية المباشرة، ويقول شوبنهاور هنا إن كل إنسان يعرف في الواقع ما هو العالم، ولكن هذه المعرفة تجريبية، وجدانية، غير متميزة؛ ووظيفة الفلسفة إعادة هذه المعرفة الغامضة بلغة تصورية تجريدية دقيقة. إن الفلسفة هي مجموع أحاكم عامة، أساسها الكافي هو العالم نفسه برمته؛ وهي لذلك تلخيص أو انعكاس للعالم، في صورة أفكار مجردة. . .

(بغداد)

عبد الكريم الناصري

ص: 25

‌نقبل منهم.

. .

للأستاذ ثروت أباظة

تلقينا (الرسالة) ونحن في مجلس كأنما أعد لها، فتناولها قارئ منا وأخذ يتلو علينا مقالاتها متنقلاً بين علم وفن وأدب حتى بلغ الصفحة الأخيرة، فطوينا الرسالة - لازالت منشورة - ثم أخذنا نجيل الحديث بيننا نخفف به ثقل الوقت ونقصر طوله. وكان في شعر المجلة أبيات من شاعر إلى أبنه يبثه الأبوة الرحيمة، ويعقد به الرجاء المأمول، فقال أديب جالس:

- عجيب أمر هذه الأبوة! كانت في صدر الزمان قداسة يشرف الابن أن يتطلع إليها ويستمع إلى ممثلها كأنه إله لا يصدر في أفعاله وأقواله إلا عن الصواب المحض. وكان الأب من ناحيته يرث القسوة عن أبيه وأجداده، فيبديها لأولاده، ولو ترك لعاطفته لما بدا منه غير الرحمة. وهكذا قام الصراع في قلب الوالد بين قسوة دخيلة ورحمة أصيلة، وظلت العاطفتان تصطرعان منذ عهد الرومان أيام كان الوالد يملك الحياة والموت على أهله حتى اليوم، إذ نرى الوالد يتوجه إلى أبنه بهذا الحب الصافي وبذلك الرجاء الواسع الذي يعلقه عليه. . . وهكذا تغلبت الرحمة الموهوبة على القسوة المكسوبة، وانطلقت النفوس لا يقيدها عرف، فأبان الوالد عن خلجاته، وكشف للابن عن نبضاته، فانسجم البيت على حب ظاهر لا قسوة فيه ولا عنف. قلت: جميل أن يظهر الوالد عواطفه، وجميل أن يأخذ ولده باللين. . . ولكن إذا شب الولد عن الطوق ووالده لا يزال يأخذه بالرحمة، لا يهديه إذا ضل، ولا يعاقبه إذا زل، وأمه لا تنفك تعامله بالحنان؛ فهل يمكن أن يكون هذا الابن تكأة لوالديه عند الكبر، أو مفخرة لهما يوم الفخر؟. . .

أثبتت الأيام، وما تزال تثبت، أن هذا لا يكون وأن هذا الابن ذا المعلقة الذهبية يتمرد على أبيه إذا قدم له الطعام في ملعقة من فضة. . . فهو يستوطئ الدعة ولا يعرف من حياته غير مائدة شهية، وفراش وثير، وغيد ملاح، وكؤوس دهاق. . . فالأبوة على هذا اللين قسوة. . . إنما تتمثل الرحمة في عصا الوالد التي تقود الابن إلى السبيل الأقوم.

- لقد تحدثت فأسهبت، ولكنك أطلقت قولك كمن يلقي محاضرة لا يعرف موضوعها، فأنا حين أقول إن النفوس أرسلت على طبيعتها لم أقصد بذلك أن يضع الوالد ولده على كرسي ثم يسمعه عبارات المديح والحب. . . إن الحبيب لا يطيق هذا من حبيبه، فكيف والأمر

ص: 26

بين أبن وأب؟ إن الابن لا يقبل هذا الثناء فهو يعرف عن حب أبيه إياه ما لا يحتاج معه إلى هذا التبيان؛ بل لعل القول يغض من قيمة هذه العاطفة في نظر الابن. . . إنما أقصد إلى الرحمة الصادقة. . . أما ما كان في غابر العصور من قسوة فهو يخالف الطبيعة ويرهق الوالد والابن جميعاً.

- نسيت يا صديقي أننا نتكلم عن قصيدة من شاعر إلى أبنه.

أنساني طول المناقشة سبب النقاش فأرتج على حين جبهني مناقشي به، وكان بالمجلس شيخ وقور أخذ يستمع إلى الحوار في إنصات ولذة دون أن يتكلم، ولكنه لما سمع الإجابة الأخيرة ورأى حيرتي شارك الحديث:

- أمنكما والد؟

قلت - إنما نحن أبناء.

قال - إن كليكما قد أصاب في قوله. . . وكأني بكما وأنتما تتناقشان تمثلان الصراع الذي كان قائماً في صدر الوالد قبل أن تتغلب الرحمة، ولكن الأب الحق وسط بين قوليكما؛ فالرحمة الدائمة والقسوة الدائمة كلتا الخلتين فيها مضيعة لقوام الابن. . . فالوالد محتاج إلى كثير من الحزم يعرف به كيف يضع الأمور في أوضاعها الصحيحة، فلا يجعل الشدة في موضع اللين، ولا الرحمة في مواطن القسوة، ولكن نسى كلاكما إنه إنما يتحدث عن الشاعر، وهو وحده الذي يستثنيه المجتمع من كل هذه القيود. فإننا لا نحتمل شاباً يحدثنا عن مغامراته الغرامية، ولكن إذا كان شاعراً وصاغ لك مغامرته في قصيدة فإنك لا شك تطرب لها وتعجب بها. وإذا كنت محباً فإنك واجد في قصيدة الشاعر متنفساً عما يجيش بصدرك وتشفق من إخراجه نثراً حرصاً على كرامتك إذا كنت أخا كرامة، وكذلك الوالد الشاعر يقول قصيدته معبرة عن مشاعره نحو أبنه فيقرؤها القارئ ويعجب بها لأنها تعبير صادق عن شعور صادق، ويقرؤها الوالد غير الشاعر فيرتاح لها ويجد بين أبياتها المتنفس الذي أعياه البحث عنه ليفرج فيه عن أحاسيس طال عليها الكظم.

وهكذا الشعراء في كل أمة وفي كل عصر يحملون من قومهم ما لا يطيقه القوم، ويذيعون ما لا يذيعه غيرهم فتجري على أسنة أقلامهم إرسال العواطف. فهلا سمحتم بأن يقولوا ما دام في قولهم راحة لغير الشعراء!

ص: 27

قال صاحبي وقد بدت عليه علائم الاقتناع:

- إذن فالثناء لا نقبله من والد لابنه ما دام الوالد غير شاعر؛ أما الوالدون والمحبون الشاعرون فنقبل منهم.

قال الشيخ:

- هو ما قلت، نقبل منهم.

ثروت أباظة

ص: 28

‌قصائد تكريم خليل مطران في الميزان

للأستاذ علي متولي صلاح

- 2 -

وكانت ثانية القصائد التي ألقيت في تكريم مطران قصيدة الأستاذ عبد الرزاق محي الدين المفتش بوزارة المعارف العراقية وكانت قصيدته - في الحق - غاية في الإشراق والبهاء والنصاعة، وكانت الموسيقى، وكان الجرس العذب الشجي شائعين في جميع أجزائها. . .

وكانت (الحضارة) واضحة جلية فيها، ولعل أصدق وصف يوصف به هذا الشاعر أنه الشاعر (المتحضر)! واعتقادي أن لحياته الخاصة، ولماضي أيامه، ونظام عيشه، دخلاً كبيراً في ارتقاء شعره وأخذه هذا السمت الرفيع وإن لم أنل شرف التعرف إليه.

وقصيدته في جملتها قطعة موسيقية متناسقة متسقة لا ترى بها نشوزاً ولا تحس فيها انحرافاً عن النهج الموسيقي القويم، وهي تغريك بقراءتها إغراءً قوياً ملحاً، وتأخذ بك إلى غايتها دون توقف أو تمهل أو تراخ، فليس لك عن تمامها معدي أو منصرف. . .

ولقد استطاع أن يضفي عليها جواً شعرياً صافياً نقياً متعطراً وكان له فيها - إلى ذلك - معان رائقة طريفة ما أحسب الكثير من شعرائنا المعاصرين يأتون بمثلها وتتفتح لهم مغاليقها إلا من عصم الله!

وقد وصف فيها (الشاعر) الشاعر لذاته مطلقاً أروع وأجمل وصف، فبين خصائصه التي يجب أن تكون، وميزاته التي يجب أن تتوافر، وأوضح طريقه الذي يجب أن ينهج، وفلكه الذي ينبغي أن يدور فيه أنظره يقول عن الشاعر إنه:

آلة مسحورة تحيا متى

فنيت بالشيء روحاً وخلالا

ضلت الألباب عن إدراكه

ومضت تحطب رشداً وضلالا

وأنظر قوله هـ ممثلاً في شخص مطران:

الغواني البيض ما زالت لها

فاتناً. . . تُوليك حباً ووصالا

والمعاني العصم ما زلت بها

أكثر الناس اقتناصاً واعتقالا

تتحدى السرب في شاهقة

وتعاف السهل للناس مجالا. . .

وأنظره يقول عنه هذا البيت الطريف الرائع البديع:

ص: 29

مصلح في غير دعوى مصل

ونبي لم يكلفنا امتثالا. . .!

ولعل من كمال الجو الموسيقي الذي أحاط بالقصيدة من كافة جوانبها أن أختارها الشاعر من هذا البحر الغنائي المرقص (الرمل). . .

وهو وإن يكن قد اضطر في القليل جداً من أبياته إلى ضرورات كنا نود لو تنزه عنها مثل قوله:

جئت والنهضة فينا طفلة

بعدُ. . . لم تبلغ فطاماً أو فصالا

والفطام والفصال بمعنى، ومثل قوله يصف الشاعر (وبماذا تتحامى شره؟). فإن هذه العبارة فوق مجافاتها للغة الشعر وللغة هذه القصيدة خاصة، فإن الشاعر ملاك رحيم، وليس بالشيطان الرجيم! وليس وراء الشعراء هذا الشر المستطير، وهذا الويل الكبير الذي يتهيبه الناس ويتقونه ويلتمسون الوسائل للنجاة منه! وصدق الذي قاله:(أنتم الناس أيها الشعراء). إلا أن هذه هنات هينات جداً لا تضيره في شيء. ولا تنقص قليلاً من قصيدته الرائعة التي نباركها عليه، ونشد على يديه مهنئين طالبين ألا يسكت - ما وسعه الجهد وواتته الظروف - عن الإنشاد، وألا يسلم إلى الصمت القياد، وسبحان من له الكمال وحده. . .

وكانت ثالثة القصائد لشاعرنا الأستاذ محمد الأسمر، وقد وجدت شيئاً بنفسي يرجع بي وأنا أقرأها إلى الوراء لم أتبينه للوهلة الأولى، غير أنه أخذ يدفعني دفعاً قوياً شديداً إلى الوراء كلما أمعنت في قراءتها حتى وجدتني أردد معلقة عنترة العبسي:

هل غادر الشعراء من متردّم

أم هل عرفت الدار بعدتوهم؟؟

ولكنني ما كدت أهتدي إلى هذه المعلقة حتى أوغلت في قراءاتها وتركت قصيدة الأسمر؛ ومن وجد البحر استقل السواقيا!

أراد الأسمر أن يقلد القدامى، فنظر وأطال النظر في هذه المعلقة، ووقف وأطال الوقوف عندها، عله يقول كلاماً فيه منها مشابه وملامح، ولكنه عاد من النظر والوقوف يظل باهت، وصدى خافت.

على أن ألفاظه كنت بعيدة عن جرس الشعر وما ينبغي له من تخيرو انتقاء واصطفاء، وهل من الشعر قوله:

قدمتهم نحو العلا فتقدموا

والفضل فضل مقدم المقدم!

ص: 30

وهل من الشعر كذلك قوله.

هذا. . . وكم لك من شمائل حرة

هي (في الحقيقة) روضة المتوسم

أو قوله:

من شاعر يثني عليك وناثر

هو شاعر أيضاً وإن لم ينظم

أو قوله:

صورت جنة ظالم وجحيمه

حتى الغناء وآهة المتألم

ولا أدري ولا المنجم يدري كيف يكون التصوير إن خلا من آهة المتألم وغناء النشوان وهما أدنى ما ينبغي أن يقال!

وفي مقالنا القادم إن شاء الله سنتناول القصائد الباقية وهي لشبلي ملاط وعبد الغني حسن وللمحتفل به.

(المنصورة)

علي متولي صلاح

(الرسالة) للأستاذ الكاتب رأيه في شعر الأستاذ الأسمر،

والرسالة لا توافقه في جمله ما يرى.

ص: 31

‌في الخضم

للأستاذ العوضي الوكيل

طال ليلي، وغام أفق صباحي

هل لديكم من بلسم لجراحي

يا مدير الأقداح ما بالك اليو

م تدير الهموم في الأقداحِ

أنا في سطورة الخُمَار، وما أح

سبُ أني منها مَدى الدهر صاحِ

وكأن السنين أشباحُ لَيْلٍ

ملأته قوافلُ الأشباحِ

وكأن المنون غفوة غافٍ

وكأن الحياة صحوةُ صاحِ

طرقت راحةُ الزمان على قل

بي كطرق المستعجل الملحاحِ

يا صديقي لا تلحني حين أبكي

فبكائي رأيته كصداحي

رب لاح من الصحاب حيكم

خبر الأمر فاغتدى غير لاحِ

رب دمعٍ أبيحه في قوافيَّ

ودمع في القلب غير مُباحِ

وأنا اليوم أعزل يدفع الدهر

وبكف والدهر شاكي السلاحِ

ص: 32

‌رحمة!.

. .

للآنسة الفاضلة دنانير

يا أيها الروح الغريب الحاني

يا مؤنسي في وحشة المكان

ومنقذي من قسوة الزمان

ألهب شعوري وأسر في جنان

عاطفة قدسية النيران

نجيتني من جهل سحيق

سد على ثلجه طريقي

ذر الهوى يبعث بالحريق

ويشعل الدماء في عروقي

فرعدة المقرور في كياني

ما زلت تحت وطأة الأعوام

أخبط في تيه وفي ظلام

حتى تنزلت على أيامي

روحاً من الضياء والسلام

يهدي إلى شواطئ الأمان

يا رحمة من رحمات ربي

هل نار سيناء أضاءت دربي

أم قبس ألقيته في قلبي

فأشرق الكون بنور الحب

وفاض بالعطف وبالحنان

لما تسمعت حنون شدوي

يقطر دمعاً من أسى وشجوِ

حننت، وانطلقت تهفو نحوي

تهتف: يا أختاه، أنت صنوي

نحن بخد الدهر دمعتان!.

نحن بخد الدهر دمعتان

من أدمع الأشواق والأشجان

إن يكن المزار غير دان

فقد تلاقي في الهوى القلبان

وائتلفت على النوى الروحان

وانساب إشعاعك من بعيد

على بقايا هيكلي المجهود

فاخضر من بعد الذبول عودي

واهتز للحياة من جديد

قدست يا محي الرميم الفاني

ص: 33

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

914 -

أتق شر من أحسنت إليه

كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني:

(اتق شهر من أحسنت إليه) وفي لفظ من تحسن إليه. قال في الأصل: لا أعرفه، ويشبه أن يكون من كلام بعض السلف، قال: وليس على إطلاقه بل هو محمول على اللئام دون الكرام، ويشهد له ما في المجالسة للدينوري عن علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لطف. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجدت لئيماً قط إلا قليل المروءة. وفي التنزيل:(وما نقموا منهم إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله).

وقال أبو عمرو بن العلاء يخاطب بعض أصحابه: كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا رحمته، ومن المفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك. . . وعن البيهقي في الشعب عن محمد بن حاتم المظفري قال: أتق شر من يصحبك لنائله، فإنه إذا انقطعت عنه لا يعذر، ولم يبال بما قال وقيل فيه.

915 -

خلت الديار قسدت غير مسود!

قال أبن خلكان: كان أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي المعروف بالمستظهري الملقب فخر الإسلام - فقيه وقته،. . . وانتهت إليه رياسة الطائفة الشافعية، وصنف تصانيف حسنة. . . وتولى التدريب بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد سنة (504) إلى حين وفاته، وكان قد وليها قبله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر أبن الصباغ صاحب (الشامل) وأبو سعيد المتولي صاحب (تتمة الإبانة) وأبو حامد الغزالي، فلما انقرضوا تولاها هو. وحكى لي بعض المشايخ من علماء المذهب إنه يوم ذكر الدرس وضع منديله على عينيه، وبكى كثيراً وهو على السدة التي جرت عادة المدرسين بالجلوس عليها، وأنشد:

ص: 34

خلت الديار فسدت غير مسود

ومن العناء تفردي بالسؤدد

وجعل يردد هذا البي، وهو يبكي، وهذا إنصاف منه، واعتراف لمن تقدمه بالفضل والرجحان عليه.

916 -

فوزر بلائهم أبداً عليه

تاريخ الطبري: لما قسم هارون الرشيد الأرض بين أولاده الثلاثة (محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم المؤتمن بعد مبايعتهم) قال بعض العامة قد أحكم أمر الملك، وقال بعضهم: بل قد ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع في ذلك مخوفة على الرعية، وقالت الشعراء في ذلك فقال بعضهم.

أقول لغمة في النفس مني

ودمع العين يطرد اطرادا

خذي للهول عدته بحزم

ستلقي ما سيمنعك الرقادا

فإنك إن بقيت رأيت أمراً

يطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذب شر رأي

بقسمته الخلافة والبلادا

رأى به ليقطع عن بنيه

خلافهم ويبتذلوا الودادا

فقد غرس العداوة غير آل

وأورث شمل الفتهم بدادا

وألقح بينهم حرباً عواناً

وسلس لاجتنابهم القيادا

فويل للرعية عن قليل

لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألبسها بلاء غير فإن

وألزمها التضعضع والفسادا

ستجري من دمائهم بحور

زواخر لا يرون لها نفادا

فوزر بلائهم أبداً عليه

أغياً كان ذلك أم رشادا

917 -

مهما

الكشاف: (مهما) هي ما المضمنة معنى الجزاء، ضمنت إليها ما المزيدة المؤكدة للجزاء في قولك: متى ما يخرج أخرج، أينما تكونوا يدرككم الموت، فإما نذهبن بك، إلا أن الألف قلبت هاء استثقالا لتكرير المتجانسين، وهو المذهب السديد البصري. فإن قلت: ما محل مهما؟ قلت: الرفع بمعنى أيما شي تأتنا به، أو النصب بمعنى أيما شيء تحضرنا تأتنا به،

ص: 35

و (من آية) تبيين لهما، والضميران في (به وبها) يرجعان إلى مهما؛ إلا أن أحدهما ذكر على اللفظ الثاني أنت على المعنى، لأنه في معنى الآية، ونحوه قول زهير:

ومهما يكن عند أمرئ من خليفة

وإن خالها تخفي على الناس تعلم

وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها غير موضعها ويحسب مهما بمعنى متى ما، ويقول: مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية في شيء، ثم يذهب فيفسر مهما تأتنا به من آية بمعنى الوقت، فليحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه.

918 -

. . . ولكن أين من يصبر على أحكام العقل؟

رسالة الغفران للمعري: قد تجل الرجل حاذقاً في الصناعة بليغاً في النظر والحجة، فإذا رجع إلى الديانة ألفي كأنه غير مقتاد، وإنما يتبع ما يعتاد. . . ويلقن الطفل الناشئ ما سمعه من الأكابر، فيلبث معه في الدهر الغابر. والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المختبر، لا يميزن في الصدق من الكذب لدى المعبر. فلو أن بعضهم ألقى الأسرة من المجوس لخرج مجوسياً، ومن الصابئة لأصبح لهم قريباً سياً. وإذا المجتهد نكب عن التقليد، فما يظفر بغير التبليد. وإذا المعقول جعل هادياً، نفع بريه صادياً، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل، وبصقل فهمه أبلغ صقل؟ هيهات عدم ذلك في من تطلع عليه الشمس، ومن ضمنه من الرمم رمس، إلا أن يشذ رجل في الأمم، يخص من فضل يعمم. . .

919 -

. . . فأبى وحمى أنفا وقائل متى قتل

أنساب الأشراف للبلاذري: قال عبد الملك يوماً لجلسائه: من أشد الناس؟ قالوا: أمير المؤمنين. قال: اسلكوا غير هذه الطريق. قالوا: عمير بن الحباب. قال: قبح الله عميراً، لص، ثوب ينازع عليه أعز عنده من نفسه ودينه. قالوا: فشبيب. قال إن للحرورية طريقاً. قالوا: فمن؟ قال: مصعب، كانت عنده عقيلتا قريش: سكينة بنت الحسين، وعائشة بيت طلحة، ثم هو أكثر الناس مالاً، جعلت له الأمان، وضمنت أن أولية العراق، وعلم أني

ص: 36

سأفي له لصداقة كانت بيني وبينه، فأبى، وحمى أنفاً، وقاتل حتى قُتل. فقال رجل: كان يشرب الشراب، قال: ذاك قبل أن يطلب المروءة، فأما مذ طلبها فلو ظن أن الماء ينقص من مروءته ما ذاقه.

ص: 37

‌الآداب والفن في أسبوع

جوائز المجمع للبحث والشعر والقصة:

أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية في الأسبوع الماضي حفلاً أدبياً بدار الجمعية الجغرافية الملكية لتوزيع الجوائز المالية التي رصدها هذا العام للفائزين في مسابقات البحث الأدبي والشعر والقصة، وقد افتتح الحفل الدكتور طه حسين بك بحديث ممتع مستفيض عن نشأة البحث الأدبي في الأدب العربي وتطوره بتطور العصور والثقافة، ثم تأثره بما اقتبسناه في ذلك من ألوان الأدب الغربي واتجاهاته، ثم انتهى إلى الحديث عن البحوث الأدبية التي قدمها أصحابها لنيل جائزة المجمع فقال:(وقد استحق ثناء المجمع وتقديره السيدة سهير القلماوي عن بحثها (ألف ليلة وليلة) والأستاذ سليم حسن بك عن كتابه (الأدب المصري القديم)، والأستاذ جما الدين الشيال عن (الترجمة في القرن التاسع عشر) والدكتور سيد نوفل عن كتابه (الطبيعة في الشعر العربي) والأستاذ أحمد خاكي عن كتابه (قاسم أمين).

ثم تحديث من بعده الأستاذ عباس محمود العقاد عن الشعر ومذاهب الشعراء في النهضة الأدبية الحديثة فقسمهم في ذلك إلى مذهبين، أو كما يقولون إلى مدرستين. مدرسة التجديد والابتداع ومدرسة التقليد والإتباع. وقد أنحى الأستاذ باللائمة على الآخرين بمذهب المدرسة الثانية، ثم قال: وقد رأى المجمع أن يوزع جائزة الشعر هذا العام بين شعراء المدرستين؛ فنالها الأستاذ محمد عماد عن (ديوان عماد)، والأستاذ محمد مفيد الشوباشي عن (ديوان الشوباشي) وهما من المدرسة الإبتداعية، كما نالها الأستاذ محمود غينم عن ديوانه (صرخة في واد) والأستاذ محمد الأسمر عن ديوانه (تغريدات الصباح) وهما من المدرسة الاتباعية أو التقليدية.

ثم تلكم الأستاذ محمد فريد أبو حديد عن القصة في نشأتها من عهد اليونان والرومان وما تم فيها من التطورات والاتجاهات ثم ما صار لها من المقام في الآداب العالمية قاطبة وما أصبح لها من الشأن في الأدب العربي الحديث، وبعد أن نوه بكثير من القصصيين النابغين قال: وقد استحق جائزة المجمع للقصة هذا العام الأستاذ محمد تيمور بك عن مجموع إنتاجه القصصي الغزير.

وعلى أثر انتهاء الأساتذة الثلاثة من إلقاء بحوثهم وقف الدكتور منصور فهمي باشا

ص: 38

السكرتير العام للمجمع وأعلن أسماء الفائزين وقيمة الجائزة التي استحقها كل منهم.

هذا وستجتمع لجنة الأدب بالمجمع في هذا الأسبوع للنظر في إجراء المسابقات للعام القادم، وقد أرصد المجمع لهذا الغرض مبلغ ثمانمائة جنيه توزع على نواحي الإنتاج الأدبي حسب ما تقدره تلك اللجنة.

ونحن من جانبنا نرجو أن يعمد المجمع في إجراء هذه المسابقات إلى تقدير أوضاع أدبية للفائزين إلى جانب تلك الجوائز المالية التافهة، لأن الجوائز المالية يذهب أثرها وتفقد قيمتها بعد قليل، وإذا راعى المجمع أن أكثر الفائزين ممن يعملون في الحكومة فمن الواجب أن يبذل سعيه ليكون هؤلاء في العمل الذي يلائم اتجاههم ويساعدهم على الإنتاج الأدبي، ومن من القراء يذكر أن الشاعر محمود عماد مثلاً يعتبر من الشعراء المبرزين منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكان اسمه يتردد مع الشعراء النابغين النابهين، ولكنه قضى حياته على مكتب ضئيل في ركن مظلم من أركان وزارة الأوقاف، فلم تمكنه هذه الحياة من أن يظهر للناس فنسيه الناس، ولما أعلن فوزه بالجائزة قال القائلون: ومن هو محمود عماد. بل لقد رأيت الصحف ذكرت اسمه بين الفائزين محرفاً، فقلت يا لله، أيكون اسم ذلك الشاعر الكبير مجهولاً إلى هذا الحد؟

وبعد، فإنه تقليد طيب على أي حال، وتقدير للأدب يدعو إلى التشجيع ويحض على الإجادة في الإنتاج الأدبي، ولعل صديقنا الأسمر بعد هذا لا يعود فيزدد قوله القديم:

نصحتك لا تكن صداح أيك

وكن في مصر ناعبة القبور

تيسير الكتابة العربية:

وكان المجمع قد فتح باب مسابقة لإبداء الاقتراحات والآراء فيما يقصد إليه من تيسير الكتابة العربية، وقدر لذلك جائزة مالية ضخمة مقدارها ألف جنيه. وقد تلقى المجمع في هذا الموضوع عشرات الاقتراحات والمشروعات من الباحثين في مصر وشتى الأقطار العربية، فأخذ في بحثها وتقديرها ووضع تقرير شامل عن مختلف الآراء التي قدمت إليه وإعلان الرأي في مدى صلاحيتها وفائدتها وما يمكن أن تؤدي إليه في خدمة هذا المشروع.

ومن المعلوم أن هذه المشروع يتناول وضعاً أساسياً من أوضاع العربية، وأن الشأن فيه يهم سائر أقطار العروبة، فليس القصد فيه بمنح الجائزة للتشجيع كما هو الشأن في المسابقات

ص: 39

الأدبية، وإنما القصد هو الوصول إلى طريقة مثلى في الإصلاح، ولهذا يجب على رجال المجمع أن لا يمنحوا هذه الجائزة وأن لا يجزموا باختيار أي اقتراح في هذا الموضوع إلا بعد عرضه وطرحه تحت الأنظار حتى يتناوله العلماء والباحثون في الخارج بالمناقشة والدرس والتعليق، وإلا فالجمع مهما بلغ من المكانة والاعتبار لا يستطيع أن يفرض مشروعاً في هذا السبيل لا تقبله الأفهام ولا تقره الأقلام. . .

محنة الأدب المصري:

قرأت مقالاً في إحدى المجلات الأسبوعية قال فيه كتابه: (إن المجتمع المصري يضطرم اليوم بالحركة وبالحياة، وهو في يقظة متوثبة، ومع ذلك فأدبنا عقيم راكد، وأدباؤنا أيقاظ في أذهان أنفسهم، أيقاظ بأسمائهم وبشرتهم المولية في أذهان قرائهم، ولكنهم رقود عما يجري حولهم حتى لينطبع سباتهم العميق على ما ينتجون من أدب راكد. . . وإذا كان الأدب المصري اليوم يعاني أزمة في جميع فنونه من شعر أو قصة أو مسرحية لا تقل في شدتها عن الأزمة السياسية القائمة، فمرد ذلك إلى أنه أدب سطحي لا ينفذ إلى أعماق الحياة المصرية، ولأنه أدب مفتعل لا يخدم غاية حتى ولو كانت هذه الغاية مجد منتجيه وشهرتهم. . .).

ومقال الكاتب يدور كله حول هذا المعنى، فهو يرمي شيوخ الأدب في مصر بالجمود والركود، وينبغي على الشبان أن أحداً منهم لم يتقدم في هذا المعترك ولم يتوجه بأدبه وفنه نحو الحياة المصرية القائمة، وإنما عنيت بتقييد هذا الكلام لأنه يصور عقيدة قائمة في أذهان بعض الشبان الذين أذهلتهم الحرب بأهوالها وبأحدثها عن القيم الروحية في الحياة، فأصبحوا يطالبون بتوجيه التفكير إلى النواحي المادية والحياة المعيشية التي يحياها الشعب وتواجهها الجماعات في مصر، ويعلل الشيوخ الأدباء هذه الظاهرة بأنها أثر من آثار التعلق بالشيوعية، وعندي أنها أثر لتوتر الأعصاب التي ينتاب أبناء الشرق العربي عامة في هذه الآونة، ومن الطبيعي أن تكون هذه الحال بعد تلك الحرب الضروس التي أرهقت العالم سبع سنوات كاملة، وقد بدت مثل هذه الحال عقب الحرب العالمية الأولى إذ طغت على جميع الآداب الأوروبية عامة موجة واسعة النطاق من الشك والحيرة، حتى لقد دعا بعض الأدباء إلى التخلص من جميع الأوضاع القديمة دفعة واحدة ومواجهة الحياة على وضع

ص: 40

سافر، ولقد ظلت النفوس عامرة بهذا الشك حتى جاءت الحرب الثانية بأهوالها فأنضجته وأثارته عند أبناء الشرق العربي المخمورين بالنغم الروحي.

ومهما يكن من شيء فإننا الآن بازاء مذهبين في تقدير مهمة الأدب والأدباء، رأي يقول: الأدب للأدب، أو الأدب لتغذية الروح والعواطف والعقل والفكر، ورأي يقول الأدب لإسعاد الشعب وإطعامه والدفاع عن حقه في العيش والحياة الرغيدة، ولن نلبث قليلاً حتى نشاهد معركة حامية بين الرأيين، والتقديرين!

الموت الأحمر:

على أن هذا التمرد ليس خاصة في مصر وحدها، فقد تلقيت العدد الأخير من مجلة (المواهب) التي يصدرها أبناء العروبة في المهجر الأمريكي فطالعت فيها مقالاً افتتاحياً مطولاً قصره محرر المجلة على الحديث عن (نهضتنا الأدبية الحديثة)، وبعد أن أطرى الكاتب ما في هذه النهضة من ظواهر القوة والتوثب قال:(إن أدبنا الحاضر في الأعم الأغلب أدب نقل وصنع لا أدب سجية وطبع، أدب فروع لا أدب أصول، أدب لهوجة وسمعة لا أدب إتقان ورفعة. وعلاوةً على ذلك فهو الآن يطغي عليه - كما تعاون على تكوينه من قبل - فقران جائران: فقر القلوب وفقر الجيوب والفقر في عرف جميع الناس هو الموت الأحمر. وقد نشأ أدبنا وشب على هذه الحال الضعيفة السقيمة، وفي كنف هذه البيئة الخاملة القانعة بأيسر الأمور. وتفاقمت العلة وانتشر الداء. . . حتى أسلم الأدب أمره إلى التزلف والاستجداء. ونعوذ بالله من التزلف والاستجداء فإنهما الخزي بعينه، وإنهما ليقتلان الضمير قتلا، حتى لا يدعا في قرارة النفس ذرة من العزة والشهامة ولا قلامة من المتعة والكرامة).

وأعود فأقول إنها نزعة طارئة، كانت أثراً من أثر تلك الحرب الجهنمية في النفوس، وكان من المتوقع أن تكون، ولن يضير الأدب أن تكون. . .

إنشاء كرسي باسم شوقي بك:

تقدمت وزارة المعارف إلى مجلس الوزراء بمذكرة تطلب فيها إنشاء كرسي بقسم اللغة العربية باسم المغفور له أمير الشعراء أحمد شوقي بك لتدريس الأدب العربي الحديث في

ص: 41

مصر وسائر الأقطار العربية على أن يعني في ذلك بدراسة أدب شوقي وشاعريته دراسة مستفيضة من شتى نواحيها واتجاهاتها.

وقد ضمنت الوزارة مذكرتها المبررات التي تدعو إلى إنشاء هذا الكرسي وتحتم وجوده فقالت: إن دراسة الأدب العربي كانت منذ نشأة كلية الآداب في مقدمة الدراسات التي عنيت بها الجامعة، وإذا كان الأدب العربي خليقاً بعناية خاصة فقد أنشئ بعد ذلك للعناية بدراسة الأدب المصري الإسلامي في أطواره المختلفة إلى عصر النهضة الحديثة، ولكن مصر الحديثة امتازت في الأدب العربي فحملت له لواء نهضة حديثة في بلاد الشرق العربي وظهر في مصر من العلماء والأدباء والشعراء المعاصرين من توسطوا هذه النهضة في مصر وبلاد الشرق العربي، ومن هؤلاء الشاعر الكبير المرحوم أحمد شوقي بك الذي امتاز من بين زملائه بالسبق في تصوير الصلات السياسية لمصر ومسايرة النهضة الأخيرة فيها وبخدمة المسرح العربي بما كتب من روايات ووضع من أغان وبتقدمه الفني على شعراء العربية الحديثين حتى بايعوه بأمارة الشعراء حياً وأبقوا على ذكراه ميتاً). . .

وهذه فكرة رشيدة جليلة لا يسعنا إلا تحبيذها وتشجيعها ونرجو أن يتم لها التوفيق على أكمل وجه وعلى ما يحقق تلك الأهداف التي تناولنها الوزارة في مذكرتها وأن لا يكون إنشاء ذلك الكرسي مجرد وضع من الأوضاع الرسمية، فإن مما يؤسف له أن الكرسي الذي أنشئ في كلية الآداب منذ سنوات لم يثمر ولم يجد شيئاً في تحقيق الآمال الكبيرة التي كانت منوطة به، فما زال الأدب المصري على عهده مجهولاً مطموراً لم يكشف فيه ذلك الكرسي جديداً، ولا أحدث في دراسته تجديداً، ولكنها جملة من المعلومات تتداولها الأقلام من قديم، وتدرج عليها الأفهام كأنها الصراط المستقيم، فلعل الله يجعل لكرسي شوقي حظاً أوفي ويوفر له جهداً أوفر. . .

(الجاحظ)

نشر ما انطوى

يقولون أسراب الغواني سوانح

فهلا بعثت الطرف فيهن رائدا

نراك اعتزلت الغانيات فكلما

سنحن صرفت القلب عنهن ذائدا

ص: 42

وما ذاك شأن الشاعرين وإنما

أخو الشعر من تلفيه بالغيد واجدا

لقد ملت عن طيب الحياة وصفوها

بميلك عن حب الحسان نواهدا

رأيت غرام الفاتنات مضلة

يكدر من هذى الحياة المواردا

يقود زمام النفس للشر عنوة

وذو اللب من قد كان للنفس قائدا

إذا ما أطعت النفس في اللهو الهوى

ضللت وخير الناس من كان راشدا

(دمشق)

أحمد عبيد

ص: 43

‌البريد الأدبي

نسبة عرب الشمال إلى إسماعيل:

إلى الأستاذ أحمد محمد شاكر:

تذكر التوراة في الإصحاحين: الرابع والعشرين، والخامس والعشرين من سفر التكوين إن (هاجر) حينما فرت بابنها إسماعيل من (سارة) زوجة إبراهيم لجأت إلى بادية بئر السبع، وإن الماء الذي سقت منه ابنها إسماعيل كان في مكان بلدة بئر السبع التي سميت بذلك الاسم منذ زمن بعيد، وإنها زوجت ابنها من فتاة مصرية.

والذي نؤمن به، نحن المسلمين، إنها قد هربت به إلى الحجاز وإن الله قد فجر له ينبوعاً، هو ماء زمزم في مكة إلى آخر ما ورد من تفصيل في سيرة أبن هشام وجه 122 إلى 130 من الطبعة المصرية التي نقحها الأستاذ العلامة محمد محي الدين عبد الحميد، وفسر غامضها، وأنه قد أصهر لقبيلة جرهم العظيمة.

والشيء المعقول، في صلة غريب عن طريق النسب، لقبيلة عظيمة أن يذوب نسب هذا الغريب الطارئ في أنساب القبيلة وأن يمحى اسمه من الوجود.

والشيء الذي لا يعقل، أن يقبل العرب وهم الحريصون على أنسابهم أن ينتسبوا إلى الرجل الذي لجأ إليهم وبسطوا عليه جناح الحماية والرعاية، فيقال عنهم إنهم من نسل إسماعيل. ولم تذكر السيرة أنا طاعوناً جارفاً قد فتك بالقبائل العربية التي كانت تملأ الجزيرة وأماتها عن بكرة أبيها وترك للحياة الذين قد انحدروا من صلب إسماعيل فقط، وإنما نذكر قبائل جرهم وبكر وخزاعة وغيرهم وغيرهم مما لا يقع تحت العد.

والذي يتراءى، أن المؤرخين الذين كتبوا في التاريخ العربي قد استلهموا ذلك من آي الذكر الحكيم التي أشارت إلى هذا الحادث، ولم يكن لديهم دليل مادي على صحة هذه النسبة.

وعلى ضوء هذه الحقيقة لا يمت اليهود للعرب بصلة من الصلات وليسوا أبناء عمومة، وكل ما في الأمر أن لغتهم مجاورة للغة العربية في محيط متماثل تأثرنا به في فترة من الزمان.

أرجو أن يتفضل الأستاذ العلامة الجليل فيفيد قراء الرسالة من علمه وأدبه بما يجلو الحقيقة.

ص: 44

علي محمد سرطاوي

الموسيقى القديمة والحديثة:

لم يكد يطلع القراء على المقال البليغ الذي دبجته براعة الكاتب المفن الأستاذ عبد المنعم خلاف حول المفاضلة ما بين الموسيقى القديمة والحديثة. وما تركته في نفسه تلك القصيدة الفذة (سلوا قلبي غداة سلا وتابا) للآنسة أم كلثوم من الأثر البالغ حتى تناقلت المقال الأيدي وتعاورته، وكان له الوقع الحسن لدى المنصرفين إلى هذه الصناعة من أعضاء الأندية الموسيقية في الشام، إذا عرفوا أن في مصر نقمة على الموسيقى الحديثة الرخيصة المبتذلة تحكي النقمة عليها في سائر أقطار العروبة، وعرفوا أن في مصر حنيناً إلى الموسيقى القديمة لما فيها من روح الطرب الصادقة والفن العربي السامي الذي يلذ المسامع ويستهوي الأفئدة، ويأخذ بمجامع القلوب.

لقد كان الأستاذ محقاً في طلبه من وزارة الشئون الاجتماعية، الإشراف على هذه الأنغام الباكية الحزينة ذات المعاني التافهة والألحان المريضة التي تميت القلب وتحمل إلى النفوس السآمة والضجر. . . إنه لطلب يشاركه فيه كل عربي سليم الذوق، وإن في هذا الإشراف وقاية للنشء الجديد الذي شب على سماعها وكادت تألفها أذنه، وإذا كنا ننتحل الأعذار للملحنين المصريين المتكسبين في تسجيل هذه الألحان على الشاشة البيضاء سعياً وراء نيل بلغة العيش، فلن نجد لهم عذراً في إماتة الفن القديم، والتخلف عن وضع ألحان مبتكرة تحكي ألحانه القوية الممتعة التي يستسيغها كل ذوق، وتهنأ بها كل نفس وتطرب لها كل أذن سليمة. . . أين وهن الأنغام المستحدثة من قوة الألحان القديمة التي كنا نسمعها من شيخ الفن وعمدته الأستاذ المرحوم الشيخ درويش، ومن زملائه الحمولي والمنيلاوي والشيخ سلامة ومحمد عثمان وداود حسني وسالم الكبير والسفطي وغيرهم من كبار المنشدين والملحنين؟

تلك أنغام قوة عذبة تبعث في النفوس القوة والنشوة والعزة القومية، وهذه ألحان تميت النفوس وتقتل المشاعر وتحمل إلى القلب الخمول. كانت النفحات الأولى تنبعث من حناجر أصحابها حلوة عذبة شجية ساحرة كأنها أنغام مزامير داود، فتملأ قلوب مستمعيها طرباً

ص: 45

ونشوة، وتحمل إلى النفوس البائسة الراحة والسلوى والطمأنينة والهناء، ويقضون الليل كله في الإصغاء إليها والتملي من نشوتها، فغدت الأصوات اليوم تصدر من الحناجر الخشنة وتصيح بما يسمونه فناً ولو لم يحمل في ثناياه السحر والطرب.

إن البلاد العربية التي تصدر في موسيقاها عن الديار المصرية، ليعز عليها ويسوؤها أن يتردى الفن في مصر إلى هذا الدرك الذي يعلن عن نفسه بمظاهر التماوت والتخنث والضعف، وتود من صميم أفئدتها أن يلهم القائمون على هذا الفن في مصر، الرجوع به إلى القديم مع اقتباس النافع الجميل من الحديث، ذلك لأنا حديثنا اليوم قد غمر نفوسنا وكاد ينسينا قديمنا، فإذا لم توفق مصر، وهي زعيمة العروبة اليوم إلى هذا الذي نرجوه، فلن ترى في الجيل الجديد إلا مضيعاً للفن وأهله وإننا لنشاهد اليوم بوادر هذا التضييع منذ بدأنا نكلف آذاننا أن تستسيغ الأنغام الشعبية على ما بها من تبذل في المعاني وحطة في الفن هرباً بأنفسنا عن سماع المقطعات الحديثة الجافة. . .

ونحن لا نريد أن نشمل بحكمنا كل حديث، إذ لا نكران أن بعض الملحنين المعاصرين قد صدحت حناجرهم بألحان فيها فتنة القديم فأقبل الناس على تلقيها وتعلمها وذاعت على أفواههم وأجمع أفراد الشعب على استحسانها مثل أغنية (على بلدي المحبوب) وأغنية (ما أحلاها عيشة الفلاح) و (ليلة العيد) وغيرها من المقطعات ذات النغمة البياتية الساحرة وكان سرور الناس عظيماً بالألحان التي طلعت بها علينا حديثاً مطربة الشرق في فلم (سلامة) من تلحين الشيخ زكريا أحمد، وهذا يدل على أن بعض الملحنين العصريين بدأوا يعودون إلى القديم.

(دمشق)

حسني كنعان

مداعبة:

عندما أصف الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي بأنه من المحافظين أكون قد خففت كثيراً مما أسمعه من وصفه الذي يدل على (المغالاة في المحافظة).

هذا المسلم المحافظ لم يعجبه أن يبقى المسلمون بدون (وسكي) فسمى الشاي الأخضر

ص: 46

(وسكي المسلمين) ولما قرأت هذا في الرسالة الغراء (العدد 717) قلت فوراً: حتى أنت يا أستاذ!! أتقولها وأنت الفقيه الذي قرأ قول الفقهاء: لو شرب الماء على هيئة ما تشرب الخمر كان شربه حراماً؟

صدق رسول الله: لتتبعن سنن من قبلكم. لم يكن للمسلمين وسكي فجعلت لهم الشاي الأخضر وسكي.

فلسطيني

في اللغة والعروض

1 -

نبه الأستاذ (عدنان أسعد) في العدد 717 من الرسالة الغراء على خطأ (ترسى) في البيت:

وقلبي على نهر الحياة سفينة

تميد على صم الصخور ولا ترسى

من قصيدة الشاعر (محمد علي مخلوف) ظناً منه أن الفعل من الثلاثي والصواب ضم أوله على أنه رباعي - ففي القاموس (رسا الشيء رسواً ورسوا ثبت كأرسى) ولشوقي بك.

نفسي مرجل وقلبي شراع

بهما في الدموع سيري وأَرْسِى

فلا دخل للقافية ولا مخالفة لقواعد اللغة في بيت الشاعر (مخلوف).

2 -

ونبه الناقد في العدد 713 من الرسالة على أن في قول الشاعر محمود رمزي نظيم.

واخترعوا فحيروا ألبابنا

وملكوا بسعيهم زمامنا

كيف نقول لهم وما لنا

إذا استغل علمهم خمولنا

تغيير التأسيس في الأشطر الثلاثة إلى الردف في الشطر الرابع وذلك ما نص العروضيون على خطئه، وفي نقده مجانبة للصواب علا ردف في الشطر الرابع أصلاً فإن الردف لا يفصل بينه وبين الروى. وما فيه هو (سناد التأسيس) ولم يتواضع العروضيون على خطئه بل نصوا على جوازه للمحدثين مع القبح والكراهة.

رياض عباس

ص: 47

‌الكتب

السادهانا أو كنه الحياة!

(تأليف الأستاذ محمد محمد علي)

حفلت المكتبة العربية في أذيال الحرب الأخيرة بثروة عظيمة من ثمار الفكر والمعرفة، وأخذت تضم إليها من فنون الأدب والفن ما يبشر بنهضة فكرية عالية. ونحن مع اغتباطنا بهذه النهضة الحديثة نود أن تسير في طريقها الواضح السليم نحو تحقيق غايتها المنشودة. ولا يتيسر ذلك إلا بالنقد الصحيح.

فسفينة الأدب تسير في فجاج بعيدة الأغوار وتجتاز عوالم عديدة الألوان والناقد البصير يجلس على سكانها يريها الطريق الرشيد، ويجبنها الانحراف عن جادة الطريق المستقيم.

ومن الكتب التي تخرجها المطابع ما يمر عليه الناقد مر الكرام، ولا يسمح لقلمه بأن يعرض له بخير أو بشر، ولا لوم عليه في ذلك ولا تثريب؛ ولكن أمهات الكتب ومنها كتاب السادهانا الذي أتكلم عنه لها على الناقد حق يجب أن يقضيه. وإلا بطلت مهمة النقد.

وقد أطلعت على ترجمة لهذا الكتاب أخرجتها لجنة النشر للجامعيين تحت عنوان السادهانا أو كنه الحياة للأستاذ محمد محمد علي فراعني ما في عنوان الكتاب من التحريف الذي يدل على تقصير عجيب عن فهم معناه، فالكتاب عنوانه في الإنجليزية ومعناه تحقيق الحياة أي جعل الحياة حقيقة. وليس في الكتاب أي بحث في كنه الحياة، ولكن هذا الخطأ في عنوان الكتاب قد يكون شيئاً بسيطاً بالنسبة لترجمة الكلمات الآتية:

جاء في صفحة 109 من الكتاب: في الليلة الأخيرة، ترجمة لكلمة وصحتها البارحة. وفي صفحة 121 هناك قول ملاحظة ترجمة وصحتها قول مأثور، وفي صفحة 67 لعب الحياة والموت ترجمة لكلمة ' وصحتها رواية الحياة والموت، وفي صفحة 94 عن القارة الأوربية، إن جزئيتها في إنها مشغولة تماماً وجزئيتها هنا ترجمة لكلمة وصحتها ودورها، وفي صفحة 2 معرفة الروح ترجمة لكلمة وصحتها الوعي الروحي. وفي صفحة 88 الإدراك في العمل. ترجمة لكلمة وصحتها تحقيق الحياة بالعمل، ولا تخلو صفحة من صفحات من الكتاب كانت أمثال قوله: الذين ضعفت أفكارهم لا غيرهم الذين ينالون الفرح ص 30 أو قوله: يا عامل الكون بدلاً من يا باري الكون ص101 اقوله: إن

ص: 48

خلاص طبيعتنا العضوية في نيل الصحة.

وبعد فإذا كانت القوانين لا تعاقب من يرتكب مثل هذه الأخطاء، للأدب حكومة يجب أن لا تغضى عن حقها في الضرب على أيدي العابثين في مملكة الفن والجمال.

محمد طاهر الجيلاوي

القضايا الكبرى في الإسلام

(تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي)

ظهرت منذ أيام مكتبة الآداب بالجماميز بالقاهرة كتاب القضايا الكبرى في الإسلام للأستاذ عبد المتعال الصعيدي في 404 صفحات من القطع الكبير، وصاحب الكتاب معروف لقراء الرسالة، وقد نشر فيها نحو خمس عشر قضية. فأذاع بعضها عنها بعض محطات الإذاعة الشرقية، ونقل بعضها عنها عن بعض المجلات في الأقطار الشقيقة، وقد كانت اللغة العربية هذا النقص، وابتكر فيها هذه الدراسة الجديدة.

ولم يدون صاحب الكتاب هذه القضايا كما يدونها من لا يعنى بالنقل، ومن يعوزه الرأي المجتهد والفكر المجدد بل اظهر فيها من التجديد في تصويرها ونقد أحكامها ما اظهر، وأحيا فيها من الاجتهاد ما أماتته سبعة قرون أو أكثر وهي ما هي في اختلاف القدامى من القضاة والفقهاء في أمرها واضطرب رأيهم فيها فحل هذا الكتاب منها ما أشكل، واتى فيها بالفهم الصحيح والقول الفصل.

وقد اشتمل الكتاب على ستين قضية في مختلف العصور والدول والأقطار، ورتبها من اعصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الحديث، ليعطى القارئ فكرة عن خال القضاء في هذه العصور، ويعرف أمره في مختلف الدول والأقطار، فيظهر تاريخ القضاء الإسلامي أمامه واضحاً جلياً، ويعرف الأسباب التي أدت إلى نهوضه، والأسباب التي أدت إلى انحطاطه، ول تقف فائدته من الكتاب عند دراسته القضائية، بل تتناول معها الناحية التاريخية.

أثر الشرق في الغرب

(تأليف المستشرق الألماني جورج يعقوب)

ص: 49

أثر الشرق في الغرب، خاصةً في العصور الوسطى، هذا هو عنوان ذلك الكتاب القيم الذي ألفه الباحث المحقق الأستاذ جورج يعقوب المستشرق الألماني المعروف، وترجمه دكتور فؤاد حسنين علي المدرس بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وقامت بنشره لجنة البيان العربي.

أما المؤلف فعالم جليل، وباحث محقق مدقق، كان يؤمن بعظمة الشرق، وخاصة الشرق العربي، ويعترف بما أدى في سالف الزمن من خدمات جليلة مفيدة للثقافة الفكرية، والحضارة العالمية، وقد بذل كثيراً من الجهود لدعم هذه الحقيقة، ولاقى في سبيلها ما لاقى من المقاومة والرهق، وأما كتابه فوثيقة مدعمة بالأسانيد والأدلة العلمية الناطقة على أثر الشرق في الغرب وما أداه أبان مجده السالف نحو المعرفة والحضارة، وإذا كان الشرق يتلقى اليوم عن الغرب ما يتلقى من علم ومعرفة، فإن من حقه أن يقف وفي يده هذه الوثيقة ليقول: إنها بضاعتنا ردت إلينا. . .

أجل. لقد أنصف هذا المؤلف الغربي الشرق إنصافاً قوامه الحق والصدق، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن أحداً من أبناء الشرق الأصليين لم يبلغ في هذا شيئاً مما بلغه، فقد عرض في كتابه لكل ما أده الشرق نحو الغرب في العلم والرياضة والأدب والفن والعمارة والنقش والزخرفة وما إلى ذلك من مظاهر المعرفة والثقافة، وإنه ليورد في الدليل على رأيه ما يدل على الاستقصاء في البحث والأمانة في العلم وكثرة ما بذل من التنقيب والرحلة إلى الأقطار الشرقية في سبيل الحقيقة، فلا عجب إذا ما جاء كتابه هذا حجة للشرق على الغرب، وإن أبناء الشرق جميعاً لفي أشد الحاجة إلى هذه الحجة وخاصةً في هذه الآونة التي يناضلون فيها عن حقهم ومكانتهم، وإننا إذ نشيد بالعمل الجليل الذي أداه الباحث الفاضل الدكتور فؤاد حسنين بترجمة هذا الأثر النافع، فإننا نعتب عليه أن ترجمه بتصرف كما يقول، ولسنا نجري لماذا عمد إلى هذا التصرف، فإن من الأمانة العلمية أن تترجم مثل هذه المؤلفات العلمية التاريخية كما كتبها مؤلفوها، كما نعتب عليه أن أخرج الكتاب وكأنه بحث واحد فلم يعن بوضع عناوين لموضوعاته وبالتالي لم يضع فهرساً لهذه الموضوعات. ولعله أراد بهذا أن يحمل القارئ على تناول الكتاب دفعة واحدة.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 50

‌القصص

قصة مصرية:

ألوان. . .

للأستاذ نصري عطا الله سوس

كان قطار الليل يشق طريقه المظلم إلى الصعيد. . .

وكانت هذه المرة الأولى التي يستقل فيها الدكتور فؤاد هذا القطار في طريقه إلى مقر عمله الجديد.

لقد عاش طول حياته في العاصمة، وكان طبيباً بإحدى مستشفياتها. . . وأخيراً، وبعد نزاع مع رئيسه، نقل إلى إحدى المستشفيات الصغيرة بأعالي الصعيد، وكان يمكنه أن يستقيل ويكتفي بإيراد عيادته التي تدر عليه الكثير. . . وقد فكر في ذلك حتى أضناه الفكر، فليس من السهل على رجل ألف حياة العاصمة أن يجد نفسه فجأة في جو لم يألفه، وحياة خشنة جافة هزيلة لم يعتدها!

ولكن تياراً أقوى كان يدفعه في الاتجاه الآخر: لم يكن قد أفاق بعد من صدمة هائلة أذهلته عن كل شيء وأنسته كل الاعتبارات. . . كان يود أن يهرب من المكان الذي كان مسرحاً لمأساة قلبه، والذي كان يذكره بها وينكأ جراحه كلما قاربت الالتئام!

لقد فكر وفكر. . . وأخيراً فضل أن يهرب من أشباح الماضي التي كانت تلاحقه في عناد، وتعذب قلبه، وتغمره في ليل أبدى لا فجر له!

ولم يكن الدكتور فؤاد من أولئك الأطباء الذين تتركز كل حياتهم في مهنتهم، فيحشون أدمغتهم بالمعلومات الطبية التي يطبقونها تطبيقاً أعمى، بينما يشاركون في الوقت نفسه رجل الشارع في ثقافته وأخلاقه وكل غرائزه، بل كان شخصية ممتازة، رقيق العاطفة، مرهف الأعصاب، ولوعاً بالأدب والموسيقى، ظامئاً إلى الحياة الدسمة الغنية بمختلف العواطف والاحساسات، ولم يكن ينقص حياته إلا شيئاً وحداً لا معنى لأي شيء في الحياة بدونه: ذلك المخلوق الناعم الحلو الذي تمسح ابتسامته السحرية كل الهموم والمتاعب، وتخلق في النفوس الشجاعة والعزم والأمل، ذلك المخلوق الجميل الرقيق الذي نسميه

ص: 52

(المرأة)، وعندما رآها بعد سنوات طويلة من الحنين والانتظار، ظن أنه قد عثر على ضالته وحقق أمله، فاندفع وراء الخيال، وراح ينسج الأحلام، ويكيف حياته تكييفاً جديداً على هدى الكوكب الجديد الذي غمر حياته بالنور. . .

وبعد عامين كاملين عرف أنه مخدوع. . . وأن الشيطان كان يسرق القربان الذي يتقرب به إلى (كيوبيد) في معبد الحب ويستحله لنفسه. . . واستحالت حياته إلى بحر من الدموع، وكره العاصمة الكبيرة والحياة فيها، فلما فوجئ بخبر نقله لم يحزن كما يفعل الموظفون، بل تلقى الخبر بفتور، وحمل كتبه وموسيقاه ليهرب من الحياة البراقة الزائفة، وليخلوا إلى نفسه عله يستطيع أن يلهمها العزاء والسلوان! إنه سيحقق حلماً جميلاً طالما تمنى تحقيقه، حياة الطبيعة الساذجة الجميلة، والمساحات الشاسعة الخضراء التي قرأ عن سحرها وجمالها، وما توحيه إلى النفس من صفاء، والناس السذج البسطاء الذين لم يتعلموا شرور المدن الكبيرة وآثامها!

إن حياة المدن تفرض نفسها على الإنسان وتستعبده وتخنق فيه حياة العاطفة والروح. . . وحياة العاطفة والروح هي كل ما ينشده الطبيب الحزين، إنه يأمل أن يجد في صدر الطبيعة ما لم يعثر عليه في صدر المرأة!

وتمكن من أن يروض نفسه على حياة الريف ويستسيغها، ووجد في بساطة الحياة فيه الراحة التي يجدهاً الملاح بعد عاصفة هوجاء هددته بالفناء كان في الصباح يؤدي عمله في هدوء، وفي الأمسية يخرج للرياضة بين المزارع الخضراء، وعنده بعد ذلك كتبه وموسيقاه، ولكنه ظل شديد الانقباض عن الناس زاهداً في الحديث معهم حتى في رؤيتهم!

ووجد (فؤاد) شيئاً من العزاء الذي كان ينشده ولكنه كان عزاء يمازجه كثير من اليأس. . . والفلسفة. كان يقول لنفسه إن الذي يعيش مثله بين المرضى ويرى الإنسانية تتألم وتتعذب بهذا القدر، ويشاهد كل يوم شبح الموت يلهو بالأرواح، لا بد أن يتعلم كيف يزن مسرات الحياة وفواجعها، ويميز صحيحها من باطلها. . . إن أوجاع الحياة توحي إليه بتفاهتها، تلك الحياة التي نجهد أنفسنا في سبيلها حتى الجنون! نفني السنين تلو السنين في المتاعب والهموم، حتى يحل خريف العمر وتذبل أوراقه، عندئذ نبحث عن ثمار جهودنا وعنائنا فلا نجد شيئاً! وتهب علينا ريح باردة تهمس في آذاننا أن الكل باطل، حينئذ، وحينئذ فقط،

ص: 53

ندرك. . . ونشيح بوجوهنا عن الحياة.

. . . وبمثل هذه الأفكار كان يعزي نفسه عما فاته من مباهج الحياة ومفاتنها، ومرت شهور وهو منهك في عمله وبقايا همومه وأفكاره القاتمة التي كان يطاردها فتغيب عنه حيناً ثم تعاوده في قسوة وعنف. . .

وفي صباح أحد الأيام كان جالساً كعادته إلى مكتبه يطالع صحف الصباح. . . وفجأة دخلت فتاة. . . وكان من عادته أن يطلب من أولئك الذين يقتحمون عليه خلوته أن ينتظروا بفناء المستشفى حتى يحين موعد العمل، ولكنه نظر إليها، وسكت. . . وبعد برهة سألها في صوت واع عما تطلب بينما كانت عيناه تلتهمانها التهاماً. . .!

وأسبلت جفونها، واصطبغ وجهها بلون الدم، وتلعثمت وهي تجيب. ودعاها برفق أن تقترب. . . وتخبره عن مرضها.

واقتربت، وأخذت تقص عليه أعراض مرضها بصوت ناعم حالم. . . بينما كان هو يتأملها في نشوة سعيدة كأنه يتأمل أثراً فنياً خالداً: كانت ترتدي ملاءة حريرية تحتها جلبات باهت اللون وفي إحدى يديها قارورة فارغة، وفي الأخرى تذكرة أمراض باطنية، وكان في مشيتها فتور ثمل كأن رأس قد حمل أكثر ما يسع من الأحلام، وفي عينيها ذلك الحنين الذائب الذي تشعه عيون الفتيات عندما تطرق قلوبهن تلك الاحساسات الحلوة الآسرة التي لا يدركن كنهها، ونظراتها كطيور تائهة تبحث عن وكرها في عيون أليف حنون يقتنص الأحلام الهائمة في السماء وبريقها في أذنيها بصوته الحلو الرقيق. . .!

وتناول منها التذكر وقرأ البيانات المدونة عليها فعرف أن اسمها (عزيزة) وعمرها سبعة عشر عاماً.

كانت تشكو ورماً بسيطاً في أصابعها وساقيها، وتناول يدها في كفه وأخذ يتأملها، واهتزت يده اهتزازاً خفيفاً وهو يضغط على أصابعها ليعرف طبية الورم، ثم فحصها فحصاً دقيقاً، وطلب منها أن تمتنع عن تناول بعض المأكولات، وزودها بنصائحه ثم أعطاها ما يلزمها من دواء وانصرفت.

وجلس يفكر وقد ملكت عليه نشوته بحسنها وودعتها كل حواسه. . . أين كان هذا الكنز مخفياً؟ لم لم تحضر قبل الآن؟ لقد جاءت ثم ذهبت كأنها الحلم السعيد في هدأة الليل،

ص: 54

وكانت اللحظات التي قضاها وهو يتأمل هذا الوجه السماوي الجميل من أسعد لحظات عمره. . . إن هذا الجمال من نوع نبيل يوحي بالعبادة أكثر مما يوحي بالحب: عيناها عسليتان يشعان وداعة وطهراً، وبشرتها خمرية يعلوا تاج كثيف من الشعر الفاحم، وكانت نحيفة وهو يكره الجسم المكتنز الذي يوحي دائماً بالرغبات كما إنها أطول من رأى من فتيات القرية!!!

ثم ابتسم وهو يقول لنفس: (ألأنها جميلة تهتم بها أكثر من بقية المرضى؟؟ قد تكون الدميمة المشوهة الخلقة أكثر احتياجاً إلى العطف والرعاية)، ولكنه هرب من الإجابة عن سؤاله، وأشعل سيجاراً وأخذ يغني بصوت خافت، وود أو أمكنه أن يرقص أيضاً.

وعندما بارحته عزيزة لم يأمل أن يرها مرة ثانية، فقد مضى عليه في هذا المستشفى نصف عالم لم تحضر خلاله إلا هذه المرة، كما أن ملابسها وأناقتها - بالنسبة للقرويات - تدل على أنها تنتسب إلى الطبقة الموسرة التي لا تستسيغ التردد على أماكن العلاج العامة. . .

ولكنها عادت في الأسبوع التالي، وكانت هذه المرة أكثر اعتناء بهندامها وشعرها. وتردد كثيراً قبل أن تتقدم نحوه. أما هو فكان يرقب خجلها وترددها في سرور.

وأخيراً جمعت شجاعتها وذهبت إليه. . . ولا حظ وهو يحدثها أن أسنانها أكثر بياضاً مما كانت عندما رآها في الأسبوع الماضي وأخذ يلقي عليها عشرات الأسئلة حتى تطول وقفتها أمامه وأحس وهو يحدثها أن الثلوج التي ظلت تكتنف قلبه منذ كارثته الأولى بدأت تذوب وتفسح له مجال الحياة مرة أخرى.

كان يكلمها وفي عينيه وجرس صوته أطياف من الشوق والحنان ود لو تجسمت شخصاً حياً يطوقها ويغمرها القبل.

ولم تلمح هي في عينيه ذلك الظمأ الخشن الذي ألفت أن تراه في عيون الرجال، إن عيناه تشعان وداعة وسلاماً.

ثم فحصها مرةً أخرى، وأعطاها دواء جديداً وانصرفت.

واطمأنت إليه، وبدأت تألفه، واعتادت التردد على المستشفى مرة كل أسبوع على الأقل، وكانت تتلمس مختلف المعاذير للذهاب إلى المستشفى مرة كل أسبوع على الأقل، وكانت

ص: 55

تتلمس مختلف المعاذير للذهاب إلى المستشفى، وكان هو ينتظر حضورها في نوع من القلق، ورغب في أن يتعرف بأبيها فلم تعيه الحيل، ووثق صلاته به وغمره بكل عطفه، الأمر الذي أثار دهشة الرجل، وجعله يتساءل عما يرمي إليه الطبيب من وراء كل هذا الاحتفاء!

وأحس (فؤاد) أن جراحه القديمة تبرأ بسرعة. . إنه سعيد بهذه الطفلة البريئة الساذجة! إنه لا يطلب أكثر من أن يراها لترد إليه من جديد إيمانه بالحياة، وتزيح عن قلبه الظلام المتراكم، لقد غمرها بكل ما في قلبه الأبيض من حنان. . . ذلك الحنان الذي كان يعذبه لعدم عثوره على من يغدقه عليه! ولا شك أن هذه القروية الساذجة، الطاهرة القلب أجدر الناس به. . .

وعندما يمنح الطبيب قلبه للمريض تلهم العناية الإلهية يده وتحدث المعجزات. . . وكانت عزيزة تبدو أكثر نضرة وشباباً في كل مرة تذهب فيها إلى المستشفى. وكان هو يتأمل احمرار خديها في فرح وهي تتقدم نحوه والخجل يكاد يقيد قدميها بالأرض آه. . . لو كان شاعراً لنظم أروع قصائده في هذه اللحظة التي يراها فيها وهي مقبلة عليه في خطواته الموسيقية الهادئة. . .

واستولت الريفية الفاتنة على لب الطبيب الذي نزح من المدينة ناشداً السلوى والعزاء. . . وأصبح خيالها يراوده في اليقظة والمنام. . . فعندما كان يقرأ، أو يفكر، أو يتأمل الطبيعة والدنيا والناس فينبض قلبه بمختلف العواطف، وتنتشي نفسه بأجمل الاحساسات، كان يفكر فيها ويتخيلها جالسة إلى جانبه تشاركه عواطفه واحساساته ويحدق في وجهها فيرى بريق الذكاء في عينيها والبسمة الحلوة تضيء قسماتها معبرة عن الفهم والفرح.

ولكن لا تلبث أن تظلل محباه سحابة من الأسى. إنه يسرف في الخيال: وهي لا تستطيع كل هذا: إنها الغريرة الساذجة التي تنطبق حدود الدنيا في ذهنها على حدود القرية. . .

ثم يعود يسأل نفسه لم يعكر صفو سعادته بمثل هذه الأفكار؟ إنه سعيد، فرح، يعيش في دنيا جديدة من خلق عينيها. إن الغيوم الداكنة المتراكمة في سماء روحه تتبدد تحت أشعة بسماتها الصافية، ونظراتها الحلوة وتطرد من رأسه كل الأفكار السوداء التي قضى أشهراً وهو يجهد في إقناع نفسه بها، وتعلمه من جديد نفاسة الحياة وجمالها، وعاد يأنس الناس

ص: 56

ويتبسط معهم ويجد في حديثهم الساذج التافه كثيراً من الغبطة والسرور.

وسارت الأيام في طريقها والعلاقة بينهما قوة وعمقاً، كان هو يتفانى في خدمتها ويبدي لها من دلائل الوداد والحنان ما يجعلها تحس بأنها أسعد أنثى في الوجود، لقد اعترفت له وعيناها تتألقان بشراً وحبوراً أن يوم حضورها إلى المستشفى هو (يوم العيد) عندها. . .، وتبادلا كثيراً من التذكارات، وطلب منها مرة أن تهديه صورتها فاعترفت له في كثير من الخجل أنها لم تقف مرة واحدة طول حياتها أمام آلة التصوير، فصورها بنفسه عدة صور. . . وكان يصله من العاصمة بين حين وآخر ما لا يتيسر وجوده في الريف من الحلوى والفاكهة؛ فلا يطيب له تناول شيء منها إلا إذا أهداها بعضها فينتهز فرصة وجود أبيها معه ويعطيه من كل ما كان يرد إليه.

وآمنت هي بطيبة قلبه وإخلاصه ولم تعد تخجل منه أو تتهيبه بل كانت تجد سعادتها في أن تعترف له بكل ما في قلبها. . .

وكان يلاحظ أحياناً على وجهها آثار الحزن والألم فيسألها عن سبب أشجانها، ويلمح الدموع تجول في عينيها وهي تعترف له بأنها كثيراً ما توصد على نفسها باب غرفتها، وتظل تبكي وتكبي دون أن تدرك لذلك سبباً.

وأدرك هو أن قلبها يعذبها، خاصة عندما سألته في صوت يقطر توسلاً وضراعة لماذا يعيش وحيداً؟ لماذا لا يحضر أمه أو إحدى أخواته لتؤنسه وتسهر على راحته؟؟ وابتسم، وعرف إنها لم تعد تقنع بهذه اللحظات العابرة التي تقضيها معه.

وابتدأ يحاسب نفسه ويسألها عن النتيجة!

لقد نبه في قلبها الشوق؛ وأشعل فيه الحرب، وها هو الحب يجلب معه الشجون والأفكار.

لقد فتنته جمالها وطيبة قلبها فهل يربط مصيرها بمصيره؟ ظل وقتاً طويلاً حائراً معذباً بين فكره وقلبه وقضى ليالي برمتها لا يذوق جفنه النوم وهو يفكر كيف تكون حياتها معه لو. . . تزوجها؟

ولكنه اقتنع أخيراً أن بينهما من الفروق ما يجعل الحياة الدائمة معها مستحيلة، إنها القروية الساذجة التي لم تتلق من العلم شيئاً وقد تهلك عندما ينزعها من تربتها ليزرعها في تربة أخرى!. . . إن نواحي كثيرة فيه ستبقى مجهولة منها. . . مستغلقة عليها وسيشقى كثيراً

ص: 57

في طريق الحياة المجهد وهي إلى جانبه لا تدري بشقائه وبواعثه، وسيسعد كثيراً في دنيا الفكر والفن والطبيعة وهي إلى جواره لا تستطيع أن ترد ذلك المنهل العذب وتتيح لنفسها تلك المتع الرفيعة التي لا تمتلك الحياة نفسها أن تمنح أسمى أو أجمل منها. . .

ولم يخفف قراره هذا من لوعته وألمه: إن سيحطم بيديه القلب الذي بدد وحشته، وأنساه آلامه وهز أوتار قلبه هزات رائعة وسيعود يوماً ما إلى برد الوحدة من جديد ولا يجد إنساناً وحداً يستطيع أن يفرح ويحزن معه. . .

وظل حائراً معذباً ولكن ماذا يفعل؟ لقد أحبها أكثر من أي أثنى رآها في حياته ولكنها ليست له، هذه الجوهرة النفيسة ما زالت (خاماً) وفي حاجة إلى كثير من الصقل والتهذيب، لقد غمرها بحنانه لأنها الزهرة الوحيدة في تربة لا تنبت إلى الحشائش وكان سعيداً بها لأنه يراها لحظات كل أسبوع ولكن الحياة الدائمة بينهما قد تكون مثال التعاسة والشقاء. . .

كانت كل هذه لأفكار تصطرع في رأسه وهي تزداد حباً له وتفانياً فيه، وهو لا يجرؤ على أن يبوح لها بمكنون ضميره، وأهل القرية يتهامسون بأن طبيبهم سيتزوج من عزيزة. . .

وظل هكذا موزع القلب بين حبه لها وإشفاقه عليها من عاقبة هذا الحب حتى صدر قرار بنقله إلى بلدة أخرى، وللمرة الثانية تلقى الخبر في فتور حزين مؤمناً أن للقدر أحكامه وسخرياته.

وسمعت هي نبأ نقله فجاءته والدموع تجول في عينيها وسألته في لهفة عن حقيقة الأمر، وعما إذا كان سيعود أم لا؟؟

وللمرة الأولى منذ حل هذه البلدة وجد الدموع تنحدر على خديه وقال لها: (الله يفعل ما يشاء يا عزيزة، من يدري ماذا سيحدث غداً؟).

وأحس من نظراتها القلقة الحادة أن إجابته لم تعد إليها طمأنينتها، ولكنه لم يجد ما يقوله. وبعد أن قضت معه فترة انصرفت وهي تتعثر في خطواتها. . .

شعر بقلبه يمتلئ سخطاً على نفسه وندماً! ليته ما عرفها، إن سيذهب ولا يخلف لها إلا الحسرة والألم والدموع. . . ولكن هل كان يستطيع أن يحول بين قلبه وبين الهيام بها والافتتان بجمالها الرقيق وروحها العذب؟ وهل في طبيعة الأشياء أن يقف المرء في طريق قلبه ويخنق عاطفته التي تفيض طهراً وسمواً، وتغدق على حياته، وحياتها هي، أنبل

ص: 58

المعاني وأجمل الاحساسات؟

وحل اليوم الموعود وغادر البلدة إلى مقر عمله الجديد.

وتوالت الشهور والأيام وذكراه تحتكر فكرها وقلبها، وظلت تمني نفسها أنه سيعود يوماً ويملأ حياتها فرحاً وسعادة. . . وطال انتظارها وعادت إلى وحشتها وكآبتها ودموعها. . . وكانت تجلس ساعات وحيدة ساهمة تحدق في الطريق البعيد المؤدي إلى المحطة. . . فقد يلوح شبحه فجأة قادماً من بعيد.

وتقدم أبن عمها لطلب يدها فرفضت.

أما هو فكثيراً ما كان يفكر فيها ويمتلئ قلبه شوقاً إليها، ولا تكاد تمر ليلة دون أن يضع صورها أمامه، ويطيل التأمل فيها، ويسأل نفسه:(ترى من سيتزوجها؟ ليس بين أهله قربتها من هو جدير بها!) ثم يرفع وجهه نحو السماء ويضرع إلى الله أن يمنحها الرجل الذي يستطيع أن يمنحها السعادة والهناء!.

نصري عطا الله سوس

ص: 59