الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 72
- بتاريخ: 19 - 11 - 1934
عهد زاهر!
نشرت الصحف أخيراً بعض إحصاءات عن التعليم في مصر؛ ومنها يستفاد أن التقدم مضطرد في عدد المدارس وعدد الطلبة، ولكن ذلك يلفت النظر بنوع خاص ما ورد فيها عن حالة التعليم الأولى؛ وذلك أن المكاتب والمدارس المخصصة لهذا النوع من التعليم لا يتجاوز عددها في مختلف أنحاء القطر ألفين ومائة، فيما نحو 850 ألف تلميذ وتلميذة. ومعنى ذلك أن الذين يتلقون التعليم الأولي في هذه البلاد لا تزيد نسبتهم على خمسة في المائة من مجموع السكان؛ فإذا علمنا أن باقي المتعلمين على اختلاف طبقاتهم لا يتجاوز عددهم أيضاً نحو أربعة أو خمسة في المائة، استطعنا أن نقدر إلى أي مدى ما زالت الأمية تفتك بعقول الشعب المصري.
لقد اعتدنا في العهد الأخير أن نسمع نغمة ما تزال تتردد في كل
فرصة، لمناسبة وغير مناسبة، هي أن مصر تجتاز في ميدان التعليم
والثقافة والآداب عهداً زاهراً لم تبلغه من قبل في أي مرحلة من
مراحل تاريخها، وأنها تظفر لأول مرة في تاريخها بجامعة مدنية
كبرى وجامعة دينية، ومجمع علمي، وطائفة كبيرة من المعاهد
والمدارس الفنية، والجماعات العلمية المختلفة. ولقد بولغ في ترديد هذه
النغمة، وإذاعة هذه الدعوة، حتى كادت تطمس الحقائق، وحتى كدنا
نؤمن بهذا التمويه، وننسى ما يعتور سير التربية والتعليم في هذه البلاد
من ضروب النقص والضعف والفساد.
نعم، لقد زاد عدد المدارس والطلبة زيادة كبيرة، والتعليم يتقدم من حيث العدد بلا ريب، ولكن هل يتقدم التعليم من حيث النوع؛ وهل ارتفع لدينا مقياس التربية والثقافة عما كان عليه منذ جيل؟ لقد كان التعليم قبل الحرب آلياً يخرج لحكومة تسيطر عليها إرادة المستعمر عمالاً خاضعين لا رأي عندهم ولا شخصية لهم؛ وما يزال التعليم يصطبغ في عصرنا بهذه الصبغة الخطرة، صبغة العقم وفقدان الشخصية؛ وشأن المتعلمين شأنهم بالأمس في التطلع
إلى الوظائف حتى بلغ تهافتهم عليه حداً يدعو إلى الرثاء؛ وهم في الحياة حيارى لا عزم لهم، لأنهم لم يتلقوا من صنوف التعليم ما يسلحهم بمثل هذا العزم، أو يمدهم بتلك الشخصية التي تصمد لمصاعب الحياة العملية ومتاعبها، وتستغل معارفها ومواهبها استغلالاً صالحاً منظماً.
وفي مصر جامعة مدنية كبرى، وجامعة دينية كبرى لها ماض مجيد؛ ولكن هل نتمتع حقاً بالتعليم الجامعي؟ وهل استطعنا أن نخلق فيهما تلك البيئة العلمية الرفيعة، وتلك الحرية الفكرية، وذلك الاستقلال في البحث، وهي أسمى المزايا الجامعية؟ إن الجامعة عندنا اسم على غير مسمى؛ وليست في الواقع أكثر من مدرسة عادية، تخضع لكل ما تمليه أهواء الذين يرون في الاستعباد الفكري وسيلة ناجعة لتدعيم الاستعباد السياسي.
ولدينا حقاً مجمع علمي للغة العربية، ولكن هل يثير ذكر هذا المجمع وظروف تكوينه غير الابتسام؟ وهل نذكر قصة إنشائه إلا على أنها لون من ألوان ذلك الطلاء الخلاب الذي يعتمد على الأسماء دون المسميات.
ولدينا جماعات علمية ذات أسماء ضخمة، ولكنها أجنبية في روحها وغايتها، وهي قلما تعني بأعمال علمية خطيرة، ولا تعني إلا بإذاعة ما يوحي إليها به من الدعايات.
وفي كل عام ننفق عشرات الألوف على بعثات الطلبة خارج القطر؛ ولدينا الآن من خريجي هذه البعثات ألوف من خيرة الشباب المثقف المتخصص قي مختلف العلوم والفنون؛ ولكن هل استطعنا أن نستغني بهم عن أولئك الأجانب الذين ينبثون في كل فروع الحكومة، ويستأثرون بأرفع المناصب بحجة أنهم خبراء وفنيون؟
الواقع أن هذه النهضة العلمية تقوم على كثير من العوامل المصطنعة والمظاهر الخلابة، وينقصها كثير من المزايا الحقيقية؛ فهي أشد ما تكون ضعفاً من الناحية الوطنية، وما زالت خاضعة لكثير من المؤثرات الأجنبية التي لا تتفق في كثير من الأحيان مع الغايات القومية؛ وهي مازالت من الناحية العملية قاصرة عن أن تجعل من الشباب المتعلم عمالاً نافعين لأنفسهم وللوطن. ومن الأسف أن المظاهر هي في كثير من الأحيان كل ما يعنى به، وأن الأسماء الرنانة هي كل ما يهم ذكره وتعداده. وقد ذهبنا بعيداً عن التشبث بهذه المظاهر والتهويل من شأنها، وغفلنا عن معالجة أوجه النقص الحقيقية. ويكفي لأدراك هذه
الحقيقة أن نذكر أن البلاد بعد هذه الجهود كلها ما زالت تتخبط في ظلام الأمية، وأن مصر بعد عشرة أعوام من تنفيذ مشروع التعليم الإلزامي لم تستطع أن تنقذ من الأمية المطبقة أكثر من أربعة أو خمسة في المائة من بينها.
لقد آن الوقت الذي يجب أن نستعرض فيه مظاهر حياتنا على حقيقتها، وأن نقدر أوجه الخير والنفع فيها قدرها الصحيح؛ فليس من العار أن نعترف بأننا في منتصف الطريق أو مستهله؛ ولكن الخطر أن نزعم أننا حققنا ما لم نحقق، ومن الخطر على بنائنا القومي أن نؤمن بما ليس منطبقاً على حقيقتنا ولا هو حتى من مظاهر نهضتنا.
(ع)
قصيدة مترجمة
احذري!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ترجمنا عن الشيطان قصيدة (لحوم البحر). وهذه ترجمة عن أحد الملائكة؛ رآني جالساً تحت الليل وقد أجمعت أن أضع كلمةً الشرقية فيما تحاذره أو تتوجس منه الشر؛ فتخايل الملك بأضوائه من الضوء، وسنح لي بوحه، وبث في من سره الإلهي؛ فجعلت أنظر في قلبي إلى فجرٍ عن هذا الشعر ينبع كلمةً كلمة، ويشرق معنىً معنىً، ويستطير جملةً جملة، حتى اجتمعت القصيدة وكأنما سافرت في حلم من الأحلام فجئت بها.
وأنطلق ذلك الملك وتركها في يدي لغةً من طهارته للمرأة الشرقية في ملائكيتها.
احذري!
احذري أيتها الشرقية وبالغي في الحذر، واجعلي أخص طباعك الحذر وحده.
احذري تمدن أوربا أن يجعل فضيلتك ثوباً يوسع ويضيق؛ فلبس الفضيلة على ذلك هو لبسها وخلعها. . . .
احذري فنهم الاجتماعي الخبيث الذي يفرض على النساء في مجالس الرجال أن تؤدي أجسامهن ضريبة الفن. . . .
احذري تلك الأنوثة الاجتماعية الظريفة. إنها انتهاء المرأة بغاية الظرف والرقة إلى. . . . إلى الفضيحة.
احذري تلك النسائية الغزلية. إنها في جملتها ترخيص اجتماعي للحرة أن. . . . أن تشارك البغي في نصف عملها.
أيتها الشرقية احذري احذري!
احذري التمدن الذي اخترع لقتل لقب الزوجة المقدس، لقب (المرأة الثانية). . . .
واخترع لقتل لقب العذراء المقدس، لقب (نصف عذراء). . . .
واخترع لقتل دينية معاني المرأة، كلمة (الأدب المكشوف). . . .
وانتهى إلى اختراع السرعة في الحب. . . . فاكتفى الرجل بزوجة ساعة. . . .
وإلى اختراع استقلال المرأة، فجاء بالذي اسمه (الأب) من الشارع، لتلقي بالذي اسمه
(الابن) إلى الشارع. . . .
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري وأنت النجم الذي أضاء منذ النبوة، أن تقلدي الشمعة التي أضاءت منذ قليل.
أن المرأة الشرقية هي استمرار متصل لآداب دينها الإنساني العظيم.
هي دائماً شديدة الحفاظ حارسة لحوزتها؛ فان قانون حياتها دائماً هو قانون الأمومة المقدس.
هي الطهر والعفة، هي الوفاء والأنفة، هي الصبر والعزيمة، هي كل فضائل الأم.
فما هو طريقها الجديد في الحياة الفاضلة، إلا طريقها القديم بعينه؟
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري ويحك تقليد الأوربية التي تعيش في دنيا أعصابها محكومة بقانون أحلامها. . . .
لم تعد أنوثتها حالة طبيعية نفسية فقط بل حالةً عقليةً أيضاً تشك وتجادل. . . .
أنوثة تفلسفت فرأت الزواج نصف الكلمة فقط. . . . والأم نصف المرأة فقط. . . .
ويا ويل المرأة حين تنفجر أنوثتها بالمبالغة العقلية فتنفجر بالدواهي على الفضيلة. . . .
إنها بذلك حرة مساوية للرجل، ولكنها بذلك ليست الأنثى المحدودة بفضيلتها. . . .
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري خجل الأوربية المترجلة من الإقرار بأنوثتها. أن خجل الأنثى من أنها أنثى يجعل فضيلتها تخجل منها. . . . إنه يسقط حياءها ويكسو معانيها رجولةً غير طبيعية. إن هذه الأنثى المترجلة تنظر إلى الرجل نظرة رجل إلى أنثى. . . . والمرأة تعلو بالزواج درجة إنسانية، ولكن هذه المكذوبة تنحط درجةً إنسانيةً بالزواج.
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري تهوس الأوربية في طلب المساواة بالرجل. لقد ساوته بالذهاب إلى الحلاق، ولكن الحلاق لم يجد في وجهها اللحية. . . .
إنها خلقت لتحبيب الدنيا إلى الرجل، فكانت بمساواتها مادة تبغيض.
العجيب أن سر الحياة يأبى أبداً أن تتساوى المرأة بالرجل إلا إذا خسرته.
والأعجب أنها حين تخضع، يرفعها هذا السر ذاته عن المساواة بالرجل إلى السيادة عليه.
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري أن تخسري الطباع التي هي الأليق بأم أنجبت الأنبياء في الشرق.
أم عليها طابع النفس الجميلة، تنشر في كل موضع جو نفسها العالية.
فلو صارت الحياة غيماً ورعداً وبرقاً، لكانت هي فيها الشمس الطالعة.
ولو صارت الحياة قيظاً وحروراً واختناقاً، لكانت هي فيها النسيم يتخطر.
أم لا تبالي إلا أخلاق البطولة وعزائمها، لأن جداتها ولدن الأبطال.
أيتها الشرقية؛ احذري احذري.
احذري هؤلاء الشبان المتمدنين بأكثر من التمدن. . . .
يبالغ الخبيث في زينته، وما يدري أن زينته معلنة أنه إنسان من الظاهر. . . .
ويبالغ في عرض رجولته على الفتيات، يحاول إيقاظ المرأة الراقدة في العذراء المسكينة.
ليس لامرأة فاضلة إلا رجلها الواحد؛ فالرجال جميعاً هم مصائبها إلا واحداً.
وإذا هي خالطت الرجال، فالطبيعي أنها تخالط شهوات، ويجب أن تحذر وتبالغ.
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري فان في كل امرأة طبائع شريفة متهورة؛ وفي الرجال طبائع خسيسة متهورة.
وحقيقة الحجاب أنه الفصل بين الشرف فيه الميل إلى النزول وبين الخسة فيها الميل إلى الصعود.
فيك طبائع الحب والحنان، والإيثار، والإخلاص كلما كبرت.
طبائع خطرة، إن عملت في غير موضعها. . . . جاءت بعكس ما تعمله في موضعها.
فيها كل الشرف ما لم تنخدع، فإذا انخدعت فليس فيها إلا كل العار. أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري كلمةً شيطانيةً تسمعينها في قيمة الجمال أو قيمة الأنوثة.
وافهميها أنت هكذا: واجبات الأنوثة وواجبات الجمال.
بكلمةٍ الإحساس فاسداً، وبكلمة يكون شريفاً.
ولا يتسقط الرجل امرأةً إلا في كلماتٍ مزينةٍ مثلها. . . . .
يجب أن تتسلح المرأة مع نظراتها، بنظرة غضب ونظرة احتقار.
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري أن تخدعي عن نفسك. إن المرأة أشد افتقاراً إلى الشرف منها إلى الحياة.
إن الكلمة الخادعة إذ تقال لك، هي أخت الكلمة التي تقال ساعة إنفاذ الحكم للمحكوم عليه بالشنق. . . .
يغترونك بكلمات الحب والزواج والمال، كما يقال للصاعد إلى الشناقة: ماذا تشتهي؟ ماذا تريد؟ الحب؟ الزواج؟ المال؟ هذه صلاة الثعلب حين يتظاهر بالتقوى أمام الدجاجة.
الحب؟ الزواج؟ المال؟ يا لحم الدجاجة! بعض كلمات الثعلب هي أنياب الثعلب. . . . .
أيتها الشرقية! احذري احذري!
احذري السقوط. إن سقوط المرأة لهوله وشدته ثلاث مصائب في مصيبة:
سقوطها هي، وسقوط من أوجدوها، وسقوط من توجدهم.
نوائب الأسرة كلها قد يسترها البيت إلا عار المرأة. فَيَدُ العار تقلب الحيطان كما تقلب اليد الثوب فتجعل ما لا يرى هو ما يرى.
والعار حكم ينفذه المجتمع كله، فهو نفي من الاحترام الإنساني.
أيتها الشرقية! احذري احذري!
لو كان العار في بئر عميقة لقلبها الشيطان مئذنةً ووقف يؤذن عليها.
يفرح اللعين بفضيحة المرأة خاصة كما يفرح أب غني بمولود جديد في بيته. . . .
واللص، والقاتل، والسكير، والفاسق، كل هؤلاء على ظاهر الإنسانية كالحر والبرد.
أما المرأة حين تسقط، فهذه من تحت الإنسانية هي الزلزلة.
ليس أفظع من الزلزلة المرتجة تشق الأرض إلا عار المرأة حين يشق الأسرة.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
محمد بك المويلحي
للأستاذ عبد العزيز البشري
قبل أن أتحدث عن هذا الرجل الذي يجب أن يتحدث عنه مدونو تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث - قبل هذا أحب أن أقول في هذا الباب شيئاً عاماً. ذلك بأننا اعتدنا أن نغفل الكلام في سيرة من عاصرناهم، ورأيناهم ولابسناهم، إلا يكون القول من جنس هذه المراثي التي تضفي فيها حلل الثناء، ويكال فيها المديح في العادة، بغير حساب. ولقد يكون هذا الثناء حقاً أو قريباً من الحق، بحيث لا يؤذي التاريخ في كثير ولا قليل، ولكنه لا يمكن أن يجلو على الأجيال المستقبلة شيئاً من حقيقة الرجل، لأن الكاتبين في هذه الحالة لا يعنون ببسط حياة الرجل، وظواهر خلاله، والعوامل البارزة في تكوينه، ومطبوع عادته، ولو ما يتصل منها بالأسباب العامة. وذلك من أيسر الأمور لأنهم عرفوه بالمشاهدة، واستيقنوه بالملابسة وطول الاختيار. وهذا ولا شك مما يهيئ للقادمين دراسته وتحليله دراسة إن لم تنته إلى أصدق النتائج، فهي أدنى إلى الصدق من غيرها على كل حال.
وليس يذهب عن القارئ إن إهمال المعاصرين، على هذا النحو، لابد مفضٍ إلى إحدى الحالين: إما إلى إدراج كثيرين من رجال الآداب والفنون في مطاوي النسيان، أو التحيف من أقدارهم بقدر كثير أو قليل؛ وإما إلى تجليتهم، إذا تراخى الزمان في غير صورهم، ونحلهم صفاتٍ وخلالاً لم تكن لهم، بحكم العنعنة في رواية الأخبار، والاتكاء في تحليل نفس الرجل على ما صدر عنه من آثار. وكثيراً ما يضل الباحث المستنتج في هذا أبعد الضلال. هذا إلى ما في معاناة مثل تلك البحوث من إضاعة للوقت، ونفقة من الجهد، وتجشم للعناء.
وأغلب الظن في هذه الإغفال من المعاصرين لمن عاصروهم من رجال الفنون والآداب يرجع إلى أن الرجل العظيم قل أن يراه معاصروه بالعين التي يراه بها الخالفون، فهو في الغالب إذا استحق منهم ترديد ذكره والهتاف باسمه، وتدوين سيرته، فقل أن يعني أحد يتقصى عادته، والتسلل إلى مداخله، وعرض ما يلابس الأسباب العامة من سائر أموره، أو لأنهم لا يعنون بهذا لأنه حاضر لمعاصريه قريب منهم. فهو في حكم المبذول الذي ينال منه من شاء أن ينال. ولا شك أن في هذا ضرباً من الغفلة عن أن الحاضر سيغيب على
الزمن، وأن المبذول سينقبض، وأن ما في متناول اليد اليوم ستتقطع من دونه غداً علائق الآمال!
ولقد يسكت النقدة عن تقصي ذلك عمداً، والتلبث بتحليل الرجل، ورد العوامل في تكوينه إلى مناجمها حتى ينطوي الزمن عليه وعلى أهله، وعلى أشياعه وخصومه من معاصريه، حتى يتهيأ الجو للبحث والتحقيق، لا رغبة ولا رهبة فيه، فيكون البحث أنور وأصفى، ونخرج النتائج أدق وأوفى.
وهذا مذهب في الرأي له أثره وله خطره، بالرغم من أنه يفوت على المؤرخ المدقق من عناصر الحكم ما قد يسيء في بعض الأحيان إلى حكمه، فإذا هو طلبها تصحيحاً لبحثه، فلن ينالها إذا نالها صادقة إلا بعد أن يتجشم في سبيلها عرق القربة كما يقولون!
على أنني في هذا لا أذهب إلى القول بنشر المعايب، واستضهار المكاره، حتى لا يثير المدون ثائرة الأهل والصحاب والأنصار، إنما أريد أن يجلو المعاصر، من غير ذلك، كل ماله خطر في تكوين الرجل، فإذا هناك مغامز لا ينبغي إغفالها في تجليته وتحليله، فليسجلها على أن يكتمها حتى يجليها لوقتها، أو يجليها من بعده من الأعقاب.
وعلى أي حال فان إغفال هذه الأمور التي نحسبها في غالب الأحيان من التوافه، كثيراً ما يخلو بحق التاريخ، ويفضي إلى الجهل بالجم من حقائق الأشياء. ولست أجد في هذا الباب مثلاً أيسر ولا أدنى إلى الحس من أننا، لولا مهبط البعثة العلمية التي صحبت الحملة الفرنسية في سنة 1798، ما اهتدينا بسهولة أو ما اهتدينا أبداً إلى أزياء جدودنا وسمتهم من قرن وثلث قرن من الزمان، فكيف بمن هم أعلى من هذا وأبعد في مذهب التاريخ؟
ولو قد عني أهل كل عصر بأن يحفظوا لخلفهم نماذج من ثيابهم، وآلاتهم في سائر حوائجهم، وفعل هؤلاء مثل فعلهم لظلت سلسلة الأزياء واضحةً على وجه الزمان.
ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى أن محاولة كشف الرجل من آثاره المحفوظة لا تجدي كثيراً في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه، حتى مظاهرها. بل إنها لكثيراً ما تكون من وسائل الضلة في إثبات التاريخ. ولست أسوق لهذا أكثر من مثلين اثنين: ذلك بأنك لو اتكأت في طلب خلال الجاحظ على مجرد آثاره لخرج لك منها أنه كان أزهد الناس في المال، وأنه لو سقط ليده لكان أجود به من الريح المرسلة. فإن أحداً لم ينع الشح ولم يذم
الأشحاء كما نعى الجاحظ وكما ذم: وإن أحداً لم يؤلف كتاباً في (البخلاء) أبلغ فيهم إيجاعاً، وأشد لهذه الخلة وأصحابها إقذاعاً، كما صنع الجاحظ. ومع هذا لقد كان هو نفسه من أشد المبخلين الذين أوفوا على الغاية من الجشع، والحمل على المروءة أحياناً في طلب المال. وإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج لخرج لك من آثاره أنه كان أجمل الناس سمتاً، وأنظفهم بدناً وثوباً، وأشدهم أخذاً للنفس بأدق آداب السلوك في طعامه وشرابه، وغير ذلك من أسبابه. ولكن الواقع أنه كان من أشد الناس شرهاً، وأقبحهم مؤاكلة، وأقذرهم خلقاً وثوباً، حتى ليصح في بعض خلته قول الشاعر:
وسخ الثوب والعمامة والبِرْ
…
ذَونِ والوجهِ والقفا والغلام!
ولولا أن معاصري هذا وهذا أثبتوا لكل منهما ما أثبتوا لزلت فيهما الأقلام، وضلت الأوهام!
بعد هذا آخذ في حديث أستاذي ورئيسي وصديقي العالم الفيلسوف، الأديب، والكاتب، الناقد، السيد محمد بك المويلحي رحمة الله عليه.
من أكثر من ثلاثين سنة خلت، ولما أزل بعد في أيام الفتوة، وفي صدر طلب العلم في الأزهر، صدرت في مصر جريدة أسبوعية سياسية أدبية باسم (مصباح الشرق) في أربع صفحات دون صفحات الجرائد التي تصدر الآن مساحة، ولون ورقها يضرب إلى الحمرة. ويقوم بتحريرها إبراهيم بك المويلحي وابنه السيد محمد المويلحي. وكانت عامة الصحف الأسبوعية قد وصلت في ذلك العهد من المهانة والفسولة والإسفاف وتفاهة الموضوعات إلى أبعد الحدود.
مصباح الشرق
لقد كان هذا (مصباح الشرق) شيئاً طريفاً حقاً، لقد كان أبلغ من طريف، فإنه لأعجوبة حقاً، لقد كان هذا (مصباح الشرق) أبلغ من أعجوبة، إنه لشيء يكاد يتصل بحكم الخوارق في تلك الأيام! بلاغة بليغة، ولفظ جزل متخير، وديباجة مشرقة، وصيغ مونقة، ونسج متلاحم، وأسلوب ليس وراءه في هذا الذي يدعونه السهل الممتنع.
أدب بارع، علم وفلسفة، وبحوث رائعة في سياسة الأمم وفي أخلاق وعلوم الاجتماع، منها المبتكر المنشأ، ومنها المترجم من مختلف الُّلغى في عبارة عربية بليغة سلسة ناصحة
واضحة لا تستروح منها أي ريح للاستعجام. وهل رأيت قط ترجمات السابقين في عصر بني العباس؟
مذهب طريف في النقد، نقد الأشخاص، لا عهد للأدب العربي به من قديم الزمان؛ بل لعله لا عهد له به من أول الزمان! لم تكد تطالع الناس هذه الصحيفة الدقيقة الجرم مرتين أو ثلاثاً حتى أصبحت من بعض شغل الخاصة في هذه البلاد!
لا يدخل الأصيل في يوم الخميس من كل أسبوع إلا وقد زاغت أبصار، وتكرشت جباه، وتقلصت شفاه، وتداركت أنفاس، ووجفت قلوب. هل رأيت انفلات الطائر بعد طول الاحتباس؟ كذلك كان يترقب الخاصة مشرق (المصباح) وسرعان ما تخطفه اليد الراجفة فتشقه، وسرعان ما يشيع البصر كله في مساحة النقد كلها، لا يستقر على موضوع خاص، ولا يتحيز في حديث معين. بل أنه لينساح على الصفحة كلها انسياحاً ليدرك قبل رد الطرف أشك المويلحي اسم صاحبه فيمن شك أم أرسله في جملة الطلقاء؟ حتى إذا اطمأن الرجل إلى أنه قد كتبت له السلامة لجمعته، ألقى الصحيفة بين يديه، وجعل يطامن من نفسه، ويبسط في خلفه ما تقبض، ويفرخ من روعه ما تحبس.
وإذا كان هذا شأن من لم تصب منهم أقلام المويلحيين، فاحكم أنت، عصمنا الله وإياك، كيف كانت حال من تنال منهم هذه الأقلام؟
على أنه مما ينبغي أن يذكر هنا، أن (المصباح) لم يكن يعرض قط لأعراض من يتولاهم بالنقد، ولا يتدسس إلى مكارههم، أو يتتبع عوراتهم، بل لا يتناول من أمورهم إلا ما كان يعرضونه هم من ذات أنفسهم، أو ما يدلون هم عليه بآثارهم وظاهر أعمالهم، فلقد كان (المصباح) أجل من ذاك موضعاً وآنف كرامة. .
وأنه ليستحدث لوناً طريفاً من النقد لا عهد لأدب مصر به، بل لا عهد به للأمم العربية جمعاء. وهذا النوع من النقد يقوم، في الجملة، على التماس الجانب الضعيف في أثر الرجل، فيعرضه بالقلم في صورة (كاريكاتورية) يزيد في تشويهها ما يتوافى لذهنه الدقيق من ألوان التشبيه، وما يحضره من فنون الاستشهاد والتمثيل، ولا يبرح يمط الموضوع في هذه الناحية بالتوليد وطلب المناسبات القريبة، والملابسات الدانية، تسندها النكتة البارعة، ويسعفها التندر البديع، حتى ينتهي إلى ما لا ينتهي إليه أحد من الناقدين!
ولقد كان هذا من (مصباح الشرق) الأصل الثابت لهذا اللون من النقد، أعني النقد (الكاريكاتوري) في مصر. كما كانت صحيفة المويليحيين (أبو زيد) أول ما عرف، فيما أعرف أنا، من التصوير (الكاريكاتوري) في هذه البلاد. ولعلي ألمع إلى هذه الصحيفة في بعض هذا الكلام.
لم ينته خطب (مصباح الشرق) إلى هذا الموضع فحسب؛ بل لقد كان، على أنه صحيفة لا تظهر في جميع الأسبوع إلا مرة واحدة، يروي من جلائل الأخبار في الأسباب العامة ما لا تبلغه الصحف اليومية، على شدة ارتصادها لمثل ذلك، وإذكاء عيونها الكثيرة في طلبه وتقصيه، فكانت أمهات الصحف اليومية لا تتحرج في كثير من الأحيان من نشر مهام الأخبار نقلاً عن (مصباح الشرق) الأسبوعية مضافة إليها معزوة لها. وفضل (المصباح) في هذا السبق العجيب إنما كان لجلالة محل إبراهيم بك المويلحي عند أولى الأمر كلهم، وخفة روحه، ولطف مدخله، وسعة حياته، حتى ليستخرج منهم بهذا ما لا يخرجون عنه لغيره من رواة الأخبار.
ولا أحب أن أجوز هذا الموضع من الكلام قبل أن أقول إن (المصباح) أول من جلا للناس براعة الجاحظ وعبقرية ابن الرومي بما كان يختاره لهما من بدائع المنثور وروائع المنظوم قبل أن تقع العيون من آثارهما على كتاب أو ديوان، وأول من عالج النقد الأدبي لما تنتضح به قرائح الشعراء، وأعني به ذلك النقد الرفيع الغالي، الذي جمع بين أساليب النقد في أزكى عصور العربية، وبين طرائقه التي اختطها نقدة الغربيين في هذا الزمان.
وعلى الجملة، فلقد فتح (المصباح) في الأدب العربي فتحاً جديداً، وأمسى (مصباحا) حقاً يهتدي المتأدبون بسناه إذا أرسلوا القول أو اجتمعوا لنظم الكلام. وبهذا وهذا أصبح (مصباح الشرق) أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في هذه البلاد. ومما ينبغي أن يذكر في هذا المقام أن جماعة الشعراء لقد تعاظمتهم سطوة (المصباح) في باب النقد فحسبوا له كل حساب، ويا ويل من لا يتحرى من الشعراء البارزين ما لا يبلغه الجهد كله من التدقيق والتجويد والإحسان.
وإني لا أكتفي اليوم من حديث السيد محمد المويلحي بهذا القدر على نية العودة إليه في القريب إن شاء الله.
عبد العزيز البشري
صحف مطوية من التاريخ الإسلامي
العرب في غاليس وسويسره
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ عامين كشفت المباحث الأثرية في وادي اللوار بفرنسا على مقربة من مدينة تور، عن عظام بشرية، وسيوف ودروع قيل إنها عربية؛ ورأى فريق من الباحثين الأثريين أن هذه الآثار هي على الأرجح من مخلفات الموقعة العظيمة التي نشبت بين العرب والفرنج في سهول نهر اللوار منذ ألف ومائتي عام (732م)، وارتد فيها العرب أمام جيوش كارل مارتل زعيم الفرنج بعد أن قتل قائدهم عبد الرحمن الغافقي، وأن اكتشافها يلقي ضياء جديداً على حقيقة المكان الذي نشبت فيه الموقعة، والذي مازال مثار خلاف بين المؤرخين.
وتلك الموقعة الشهيرة هي التي تسميها الرواية الإسلامية بموقعة بلاط الشهداء أو موقعة البلاط، لكثرة من استشهد فيها من عظماء المسلمين وقادتهم، وتعرف في الرواية الفرنجية بموقعة تور أوبواتييه لأنها وقعت في السهول التي تمتدد بينهما؛ وتضع الرواية الإسلامية تاريخها في رمضان سنة 114 من الهجرة، متفقة بذلك مع الرواية النصرانية التي تضع تاريخها في أكتوبر سنة 732م. وقد كانت هاتيك السهول التي تمتد بين تور وبواتييه وتشرف على ضفاف اللوار هي أقصى ما بلغه العرب في فتوحاتهم في قلب فرنسا؛ وقد عبر العرب جبال البرنيه لأول مرة عقب افتتاحهم لأسبانيا، وغزوا سبتمانيا (أو لانجدوك) سنة 94هـ (713م) واستولوا على مدينة قرقشونة وثغر أربونة؛ ثم توالى عبورهم بعد ذلك لجبال البرنيه وتوالت غزواتهم في غالة أو غاليس (جنوب فرنسا)، في سبتمانيا وفي أكوتين، ثم في وادي الرون شمالاً حتى بورجونيه؛ وأنشأوا من فتوحاتهم في غاليس ولاية سميت بالثغر أو الرباط وعاصمتها أربونة؛ ولما ارتدوا أمام الفرنج في بلاط الشهداء، احتفظوا مدى حين بفتوحاتهم في غاليس؛ واستمر لظى الحرب يضطرم بينهم وبين الفرنج في تلك الأنحاء مدى ربع قرن، والفرنج يستردون مدنهم وأراضيهم تباعاً من أيدي الغزاة، حتى انتهوا أخيراً بالاستيلاء على أربونة آخر معقل إسلامي في غاليس سنة 759م.
وكان ذلك خاتمة الفتوحات الإسلامية المستقرة في فرنسا، ولكنه لم يكن خاتمة الغزوات الإسلامية أو خاتمة النفوذ الإسلامي في تلك الأنحاء. ذلك أن المسلمين عادوا فنفذوا إلى
الجنوب فرنسا، ثم إلى بييمون وسويسره، وغلبوا على كثير من المواقع والأراضي في تلك الأنحاء أحقاباً طويلة، ولكنهم كانوا في تلك المرحلة جماعات مستقلة مغامرة تعمل لحساب نفسها أكثر مما تعمل لحساب الحكومات التي تنتمي إليها، وكانوا مستعمرين أكثر منهم غزاة؛ وتلك صفحة من تاريخ النضال بين الشرق والغرب والإسلام والنصرانية قلما تعنى بذكرها الرواية الإسلامية، وإن كانت الرواية النصرانية تشير إلى الكثير من وقائعها وتفاصيلها. وسنعنى في هذا الفصل بسرد حوادث هذه الصفحة الغريبة المجهولة، وبما كان للاستعمار الإسلامي في تلك الأنحاء من الخواص والآثار. كانت أول غزوة إسلامية لفرنسا بعد قيام الدولة الأموية في الأندلس، في عصر أمير الأندلس هشام بن عبد الرحمن الأموي، ففي سنة 793م دعا هشام إلى الجهاد، وأرسل إلى فرنسا جيشاً بقيادة وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث، فعبر البرنيه، وزحف على أربونة، فلما لم يستطع افتتاحها، ارتد إلى قرقشونه؛ وكان شارلمان (أو كارل الأكبر) ملك الفرنج يشتغل يومئذ بمحاربة خصومه على ضفاف الدانوب بعيداً عن فرنسا؛ فتأهب أمير أكوتين لرد العرب، وأوفد لمحاربتهم جيشاً بقيادة الكونت دي تولوز، فالتقى الفريقان في مكان يسمى (فيل دني) بين أربونة وقرقشونه، ونشبت بينهما موقعة غير حاسمة ارتد على أثرها العرب إلى الجنوب مثقلين بالغنائم. وتشير الرواية العربية إلى تلك الغزوة وتقول أن المسلمين استولوا خلالها على أربونه، ولكن الروايات الفرنجية المعاصرة لا تذكر شيئاً عن هذا الفتح.
وفي سنة 806م هاجمت شرذمة قوية من البحارة العرب جزيرة كورسيكا؛ فبعث ببين بن شارلمان ملك إيطاليا أسطولاً لقتالهم، ولكنهم هزموه وقتلوا قائده، وحصلوا كثيراً من الغنائم، ولم يمض عامان حتى عاد البحارة العرب إلى غزو شواطئ كورسكيا وسردانية. ثم توالت غزواتهم إليها بعد ذلك؛ وكانت شواطئ فرنسا الجنوبية عرضة أيضاً لمثل هذه الغزوات البحرية الناهبة، وكان قوام هذه الغزوات عصابات قوية مغامرة من مسلمي الأندلس وأفريقية تجوس خلال هذه المياه في سفن خاصة وتثخن في هذه الشواطئ، وتعود مثقلة بالغنائم؛ وكان البحارة المسلمون كالبحارة النورمانيين، رعب هذه الشواطئ، وكانت أخبار غزواتهم تدوي في جنوب فرنسا، وتعنى الروايات الفرنسية المعاصرة، ولاسيما الروايات الكنسية بتدوين أخبار هذه الغزوات، وتبالغ في تصوير عصفها ووقعها، وتقول
لنا إن البحارة العرب ذهبوا في جرأتهم إلى حد التجول في مياه الاطلنطيق ومهاجمة شواطئ فرنسا الغربية، وإن سفينة عربية كبيرة اجتازت في ذلك الحين مياه الاطلنطيق حتى مصب نهراللوار.
وفي سنة 838م خرج أسطول عربي من ثغر طراكونه (تراجونا) ومياه البليار، ورسى في مياه بروفانس، وهاجم ثغر مرسيليا وما حوله من المواقع والأراضي، وأثخن فيها، وحمل كثيراً من الغنائم والسبى. وكان على عرش فرنسا يومئذ لويس (لي ديبونير) بن شارلمان، وكان ملكاً عاجزاً ضعيفاً، فلما توفي في سنة 840م، اضطربت أحوال المملكة، وضعفت الثغور، فانتهز البحارة العرب تلك الفرصة، وغزوا بروفانس عند مصب نهر الرون، وهاجموا مدينة آرل، وخربوا معاهدها. ثم توالت غزواتهم بعد ذلك في تلك المياه، وهاجموا مراراً مرسيليا وآرل. وفي سنة 850، في عهد عبد الرحمن بن الحكم أمير الأندلس، عبر المسلمون جبال البرنيه مرة أخرى بقيادة موسى حاكم سرقسطة وغزوا سبتمانيا، وأثخنوا في نواحيها، واضطر شارل (الأصلع) ملك فرنسا أن يعقد الصلح معهم؛ ومن المرجح أن هذه الغزوة كانت ذات صفة رسمية، وأن حكومة قرطبة هي التي نظمتها أو أوحت بتنظيمها. وفي سنة869، هاجمت شراذم من البحارة العرب بروفانس مرة أخرى، واستولت على جزيرة كامارج الواقعة في مصب الرون، وأسرت أسقف آرل الذي كان يقيم فيها، وعادت مثقلة بالغنائم والأسرى.
- 2 -
ولقد أذكى نجاح هذه الغزوات المتوالية في نفوس المغامرين والمجاهدين من مسلمي الأندلس وأفريقية حب التوغل في هاتيك الأنحاء ورغبة استعمارها والاستقرار فيها. وكانت أحوال غاليس (جنوب فرنسا) قد اضطربت يومئذ، وغاب سيد من سادة تلك الأنحاء يدعى بوسون على ولايتي دوفينه وبروفانس وتلقب بملك آرل، وقام يناوئه بعض منافسيه، ونشبت بينه وبينهم حروب أهلية (نحو سنة 890). ففي تلك الآونة رست سفينة عربية صغيرة عليها عشرون بحاراً من المسلمين في خليج جريمو أو خليج سان تروبيه، ونزلوا إلى الشاطئ، ولجأوا إلى غابة كثيفة تظللها الجبال، ثم هاجموا بعض الضياع القريبة وفتكوا بسكانها. ولما رأوا منعة معقلهم سواء من جهة البر أم البحر، عولوا على الاستقرار
فيه، ودعوا إخوانهم من الثغور الإسلامية القريبة إلى القدوم؛ وأرسلوا في طلب العون والتأييد من حكومتي الأندلس وأفريقية؛ فوفد عليهم كثير من المغامرين البواسل، ولم تمض أعوام قلائل حتى استقروا في ذلك المكان وأنشأوا له سلسلة من المعاقل والحصون أمنعها وأشهرها حصن تطلق عليه الرواية الفرنجية المعاصرة اسم (فراكسنتم) والمظنون أنه هو المكان الذي تقوم عليه اليوم قرية (جارد فرينيه) - الواقعة في سفح جبال الألب، وما زالت ثمة آثار تدل على قيام معاقل قديمة في ذلك المكان. ولما كثر جمعهم واشتد ساعدهم، أخذوا في الإغارة على الأنحاء المجاورة، وأصبحوا قوة يخشى بأسها؛ وسعى إليهم بعض الأمراء والسادة المتنافسين يستظهرون بهم بعضهم على بعض، فلبوا الدعوة، وانتزعوا من بعض السادة أراضيهم، وأعلنوا أنفسهم سادة في الأنحاء المغلوبة؛ وبثوا الذعر والروع في جنوب بروفانس حتى وصفهم كاتب معاصر (بأن واحداً منهم يهزم ألفاً واثنين يهزمان ألفين).
وكانت هذه أول خطوة في استعمار العرب لجنوب فرنسا. وفي خاتمة القرن التاسع اتخذ المستعمرون خطوة أخرى. فتقدموا نحو جبال الألب غرباً وشمالاً. وكانت مملكة آرل قد ضعفت واضمحلت، وخلف بوسون ولده لويس، ولكنه ذهب إلى إيطاليا ليحارب إلى جانب حلفائه، فهزم هنالك وأسر، وتركت مملكته بلا دفاع؛ وساد الانحلال والفوضى في غاليس كلها. فانتهز المسلمون تلك الفرصة، واخترقوا مفاوز دوفينه، وعبروا (مون سنى) أهم ممرات الألب الفرنسية، واستولوا على دير نوفاليس الشهير الواقع في وادي (سيس) على حدود بييمون، وفر الأحبار في مختلف الأنحاء (سنة 906م) وأغار المسلمون على القرى والضياع المجاورة ونهبوها وفتكوا بأهلها، وأسر بعضهم وأخذوا إلى (تورينو)(بإيطاليا) وسجنوا في ديرها، ولكنهم استطاعوا أن يحطموا أغلالهم، وأضرموا النار في الدير وفي المدينة، وفروا عائدين إلى زملائهم؛ واشتد بأس العرب في تلك الأنحاء، واحتلوا معظم ممرات الألب، فسيطروا بذلك على طرق المواصلة بين فرنسا وإيطاليا؛ ثم انحدروا من آكام الألب إلى سهول بييمون، وأغاروا على بعض مناطقها.
وفي سنة 908 نزلت سرية قوية من البحارة العرب في شاطئ بروفانس على مقربة من (إيج مورت) ونهبت دير بسالمودي. وكانت الأديار والكنائس يومئذ مطمح أنظار الغزاة لما
كانت تغص به من الذخائر والأموال. وانتشر العرب بعد ذلك في جميع الأنحاء المجاورة، واجتاحوا كل ما في طريقهم من البسائط؛ وهاجموا مرسيليا وهدموا كنيستها، وغزوا ايكس، وسبوا النساء وتزوجوا بهن ليكثر نسلهم ويقووا به، وانضم إليهم كثير من النصارى المغامرين من أهل هذه الأنحاء؛ وهجر السادة والأغنياء حصونهم وقصورهم والتجئوا إلى الداخل خشية القتل أو الأسر، وأغلق العرب طريق الألب إلى إيطاليا. وكان يمر بها كل عام ألوف من الحاج الذين يقصدون إلى رومة، واقتضوا منهم الضرائب الفادحة ليسمحوا لهم بالمرور.
- 3 -
ثم أتخذ العرب خطوة جديدة في سبيل التقدم إلى أواسط أوربا، فدفعوا غزواتهم إلى بيمون ومونفراتوا. وتقول لنا الرواية الكنسية المعاصرة إنهم وصلوا في أوائل القرن العاشر إلى حدود ليجوريا على شواطئ خليج جنوه؛ ويروي ليوتبراند وهو كاتب معاصر أن العرب غزوا سنة 906 مدينة (آكي) من أعمال مونفراتو الشهيرة بحماماتها (وهي على مقربة من تورينو)، ثم غزوها ثانية سنة 935 بقيادة زعيم يدعى (ساجيتوس) ولكنهم هزموا ومزقوا؛ وفي هذا الوقت أيضاً، نزلت شرذمة قوية من البحارة الأفريقيين بساحل جنوه، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها، وأسرت جموعاً كثيرة من النساء والأطفال. وفي سنة 939 غزا العرب منطقة (فاليه) في جنوب سويسرا، ونهبوا دير (أجون) الشهير، وغزوا في الوقت نفسه منطقة (تارانتيز) من أعمال سافوا الوسطى، ثم اتخذوا منطقة (فاليه) قاعدة للأغارة على الأراضي المجاورة في سويسرا وإيطاليا ونفذوا منها إلى أواسط سويسرا ثم إلى (جريزون) في شرق سويسرا، ونهبوا دير ديزنتي أشهر وأغنى الأديار السويسرية، ونهبوا طائفة أخرى من الأديار والكنائس الغنية. وفي بعض الروايات أيضاً أن العرب وصلوا في غزواتهم إلى بحيرة جنيف، وجازوا إلى مفاوز جورا الواقعة في شمالها. وكانت سويسره يومئذ من أقاليم مملكة بورجونيه، وملكتها يومئذ (الملكة برت) الوصية على ولدها الطفل كونراد، فارتدت حين اقتراب العرب إلى حصن ناء في جهة نيوشاتل.
وفي سنة 940 غزا العرب فريجوس، وكانت يومئذ من أكبر وأمنع ثغور فرنسا الجنوبية؛ وغزوا أيضاً ثغر الطولون، ففر السكان إلى الجبال، وعاث العرب في تلك الأنحاء،
وخربوا المدن والحصون، وأحرقوا الأديار والكنائس.
ولما اشتدت وطأة العرب في جنوب فرنسا وبلغ السخط من غزواتهم وعيثهم ذروته، اعتزم سادة الجنوب وعلى رأسهم هوج ملك بروفانس أن يبذلوا كل ما في وسعهم لسحق ذلك العدة المزعج؛ ورأى هوج أن يبدأبافتتاح حصن فراكسنيه (فراكسنتم) الذي يمنع به العرب ويتخذونه قاعدة تأمين مواصلاتهم مع أسبانيا وأفريقية، وقاعدة للإغارة على الداخل، وكتب إلى صهره إمبراطور قسطنطينية يطلب منها أسطولاً من قاذفات النار اليونانية حتى يستطيع مهاجمة العرب من البر والبحر معاً. فلبي نداءه، وفي سنة 943 رسا أسطول بيزنطي في مياه نروبيه، وزحف هوج في نفس الوقت بجيشه على فراكسنيه؛ وهوجم العرب من البر والبحر بمنتهى الشدة وأحرقت سفنهم؛ ونفذ هوج إلى الحصن بعد قتال رائع، وفر العرب إلى الآكام والربى، وكاد يسحق سلطانهم في تلك الأنحاء. ولكن حدث عندئذ أن علم هوج أن خصمه ومنافسه بيرانجيه قد عاد إلى إيطاليا لينازعه في انتزاع عرشها، فصرف هوج الأسطول، واضطر أن يعقد الصلح مع العرب بشرط أن يبقوا في رؤوس الألب وممراته وأن يغلقوا الطريق إلى إيطاليا في وجه خصمه؛ وبذلك استعاد العرب قلاعهم وسيادتهم في جنوب بروفانس.
واحتل العرب آكام الألب وممراتها، وفرضوا الضرائب الفادحة على المسافرين، واستطاعوا بسيطرتهم على ممر سان برنار الكبير الموصل بين سويسره وإيطاليا وغيره من الممرات والمعاقل الجبلية، أن يجتاحوا الأنحاء المجاورة، وأن يبثوا فيها الذعر والروع واستقرت منهم جموع كبيرة في السهول والضباع القريبة من معاقلهم، وتزوجوا النساء الأسيرات، وزرعوا الأرض، واكتفى أمراء هذه النواحي بأن يحصلوا منهم بعض الضرائب.
ونفذ العرب أيضاً إلى منطقة نيس أجدى ولايات مملكة آرل
الجنوبية، واجتحاوا شاطئ ليجوريا كله (جنوه)؛ بل يظهر أن
سرية منهم استقرت في نيس ذاتها، وما زال في نيس إلى
اليوم حي يعرف بحي العرب وأخيراً نفذ العرب إلى قلب
ولاية دوفينه وغزوا مدينة جرينوبل واحتلوها مدى حين،
واحتلوا واديها الخصيب، (جريزيفودان) الذي يجري فيه نهر
الازير فرع الرون، وفر أسقف جرينوبل وزملاؤه إلى الشمال
حاملين لرفات قديسهم. للبحث بقية
محمد عبد الله عنان المحامي
8 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الابراشي
المفتش في وزارة المعارف
(3)
الشعور بالواجب:
من الوسائل التي تساعد على التنفيذ، وعلى تقوية الشخصية العملية، تلك الصفة الحية وهي الشعور بالواجب، وإجابة نداء الضمير؛ فالإنسان حينما يشعر بوازع نفسي بأنه يجب عليه أن يفعل كذا، أو بأنه يجب عليه ألا يفعل كذا، فان هذا الشعور وحده يرمي إلى مغزى خلقي، ويستدعي نشاطاً عقلياً لفعل الشيء أو محاربته، فهو بمثابة مؤثر داخلي يؤثر فيه تأثيراً قوياً. وإن إجابة هذا المؤثر أو الباعث النفسي خير كفيل لاستنهاض الهمة، ومضاعفة العزيمة. قال (إمرسون) إن الإنسان إذا استحثه الواجب لأن يقوم بعملٍ ما، قام به) وليس الشعور بالواجب أو تلبية نداء الضمير، أو الصوت الداخلي، مقصوراً على طبقة دون الأخرى، ولا على جيل من الأجيال، ولا سن من الأسنان.
وإذا تذكرنا أن الشعور بالواجب يتضمن حكم النفس وضبطها، أمكننا أن ندرك العلاقة بين شخصية وبين الشعور بالواجب وإجابة الداعي النفسي؛ ففي كل أمر من أمور الحياة نجد أن هدوء البال، وراحة الضمير، والاطمئنان، والجمال - ثمرة من ثمرات الطاعة، ومراعاة القوانين العلمية والفنية.
وإننا إذا بحثنا في تاريخ العظماء والأدباء والفنانين، وجدنا أن ذوي الشخصيات الخالدة (في التاريخ) كانوا من ذوي الضمائر الحية الحساسة، الذين يجيبون نداء الضمير، ويصغون إلى صوت الله فيهتدون بهديه، وكانوا يحسون بالواجب فيقومون به، ويعملون على تنفيذه. وكثيراً ما يكون الضمير الحي والشعور بالواجب سبباً في إنقاذ الإنسان من صروف الحياة، ومن السقوط إلى الهاوية فلا يكون فريسة للنفس الشريرة. فكل إنسان تفتح أمامه السبل المختلفة، ولكن الروح الطاهرة لا تفكر إلا في الطرق الشريفة السامية، أما الروح الدنيئة فلا تنظر إلا إلى الطرق الدنيئة، ومعظم الناس يسلكون طريقاً وسطاً. وإن الشعور بالواجب، وحب الفضيلة، والتمسك بالخير تكسب الشخص قوة وروعة ووقاراً،
وتبعث في نفسه الحياة، وتقوده إلى الطريق السوي، وتعوده الصبر والمثابرة، وتقوي الإرادة، وهي التربة الصالحة التي فيها تنمو وتثمر الشخصية القوية الغنية.
(4)
قوة الوازع الديني:
إننا في البحث في الشخصية الإنسانية لا يمكننا أن ننسى الدين وأثره، والوازع الديني وقوة تأثيره في حياة الإنسان، فكثيراً ما يواجه الإنسان بأزمات وشدائد لا قبل له بها، ولولا الثقة بالله والإيمان به لجزع، وتملكه اليأس، واستولت عليه الهموم من كل جانب. ولكن الوازع الديني هو الذي ينتشله من وهدة القنوط، ويبعث في نفسه، ويحييه من يأسه، وينير الطريق أمامه بعد أن كان مظلماً، ويهديه بعد الضلال، ويسليه عند الشدة. فالعنصر الوجداني قوي في العقيدة الدينية، وهو يستحث الشخص في أداء الواجب، وإرضاء الضمير، والصبر، والمثابرة، ويوحي إليه بفعل الخير واجتناب الشر، ويدعوه إلى الحركة والعمل في الحياة، ويرشده، فيعمل الإنسان العمل وكله أمل وثقة بالله، يؤدي واجبه ويترك النتيجة لله، لا يفكر في الماضي؛ لأنه قد فات. وينظر في الحاضر، ويترك المستقبل لله يفعل ما يشاء. وبهذه الوسيلة يهدأ باله، ويطمئن خاطره، وتقوى شخصيته، ويكون سعيداً في الحياة. والإنسان عادة يطمئن إلى رجال الدين والمتدينين الذين يثقون بالله تمام الثقة، ويفعلون ما يفعلون ابتغاء مرضاة الله. أما الرجل الذي لا دين له فلا ضمير له، ولا يمكنك أن تطمئن إليه.
ومعظم المصلحين في العالم كان الوازع لهم في الإصلاح دينياً، أمثال الأنبياء والخلفاء والأئمة من المسلمين، وهليل والرباني (عقيبة) من الإسرائيليين، ومارتن لوثر، وكارليل، ورسكن من المسيحيين. فالوازع الديني هو الذي أمدهم بثروة في العقل، وقوة في الروح، وعظمة في الخلق، فأثروا في جيلهم، وفي الأجيال التي أتت من بعدهم. ولسنا اليوم في حاجة إلى رجال يقومون بالواجب فحسب، ولكننا في حاجة إلى رجال يمكنهم أن يحثوا غيرهم على القيام به.
الخلاصة:
وصفوة القول أننا في الشخصية العملية نحتاج إلى ما يأتي:
1 -
أن يكون لنا غرض معين في الحياة، نعمل للوصول إليه بحيث نعتمد على أنفسنا ولا
نكون صدى الأصوات غيرنا فنكرر ما يقولون ونفعل ما يفعلون، ولا نتأثر بهؤلاء المترددين الذين لا يعرفون لهم غرضاً في الحياة، ولا يثبتون على حال، ولا نشغل أنفسنا بكثير من المشروعات التي لا يمكن تنفيذها، بل بمشروع واحد في وقت واحد، ثم نعمل على إجادته وتنفيذه، ثم الابتداء بغيره وهكذا.
2 -
أن يكون لدينا حب شديد لأعمالنا، ورغبة كبيرة في تكملتها، ونعمل على أن لا نفقد تلك الرغبة في تهذيبها ومضاعفتها.
3 -
الشعور بالواجب والقيام به في الحال على أكمل وجه، فلا نؤخر عمل اليوم إلى الغد، ولا نفكر فيما سنحصل عليه من الجزاء عند القيام بالعمل، بل نجعل الجزاء أمراً ثانوياً، ونؤدي العمل لا لشيء إلا لأنه يجب أن يؤدى، ونثق بغيرنا كما نثق بأنفسنا، ولا نهزأ بالمثل العليا التي يتخذها سوانا.
4 -
قوة الوازع الديني مع التمسك بالدين، بحيث لا نفكر في الماضي، ونعمل على انتفاع بالحاضر، ونقوم بواجبنا كما ينبغي، ونترك المستقبل لله. وبهذه الوسيلة نستريح وتستريح نفوسنا.
(تم البحث)
محمد عطية الابراشي
كيف ولماذا سافرت إلى أوربا؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ بضع سنوات - أربع أو مائة، لا أدري! - استقر عزمي على القضاء الصيف في لبنان، فجمعت ما عندي من الثياب القديمة، وحشوت بها حقيبة، وقلت أقضي أياماً في الإسكندرية ثم أبحرت منها إلى بيروت. وهناك - في الإسكندرية، لا بيروت - لم أدع شركة ملاحة إلا دخلت مكتبها واستفسرت من رجالها عن البواخر، حتى الذاهبة إلى الهند، ومواعيد وصولها ورحيلها. وكنت أخرج من كل مكتب بحزمة من الأوراق، فيها صور مغرية وأسعار منفرة. فاتفق يوماً أن لج وكيل (شركة سيتمار) في تزين السفر على الباخرة (اسبيريا) إلى إيطاليا، وكان الوقت ظهراً، وأنا جوعان، فدار رأسي، ووهن عزمي، وكدت أنقذه ثمن التذكرة، ولكني تذكرت أن (الجواز) يحتاج إلى (تأشيرات) فاعتذرت به وانصرفت. وعدت إلى فندق (بوريفاج) في أقصى (الرمل) وكنت مقيماً به، وأسرعت إلى مائدتي فجلست إليها، وكنت مهموماً مكروباً موزع النفس، بين لبنان والباخرة (اسبيريا) - أي والله! كأنما كنت سأقضي الصيف كله على ظهرها! - فناديت الخادم وطلبت من النبيذ عسى أن يذهب عني الفتور،
وملأت الكأس، وتناولتها، ورفعتها إلى فمي، فسمعت من ورائي صوتاً رخيماً يقول:(المازني - هذا - حشرة!).
فارتدت يدي عن فمي، وهي ترعش، وسالت عليها قطرات من النبيذ، ومضى الصوت الحلو يفري أديمي:(حشرة حقيرة - يجب سحقها بالأقدام.)
فتلفت مذعوراً وقد خيل إلي أن العيون كلها صارت علي، وتمنيت لو أن إدارة الفندق تحرم الكلام على الطعام، أو تجيء بموسيقى تغرق في أنغامها العالية القوية هذه الأصوات الحلوة! ولكن الكلام لم يكن محظوراً، ولا موسيقى هناك، فسمعت مكرها:(سكير لا يفيق، ومعربد لا يرعوي).
فقلت في سري (يا خبر اسود؟! أنا سكير لا أفيق؟؟ أنا عربيد؟؟) ودهشت، ولو أن رجلاً كان يزعمني كذلك لما حفلت نفسي ماذا يقول عني، ولكنها فتاة - فتاة على التحقيق. . صوتها وحده دليل على ذلك - تذكرني بلهجة المحنق، كأنما كنت قد قتلت أباها، - قاتله
الله على أي حال! - وكان الخادم قد وضع أمامي شبوطةً مغرية، ولكن نفسي انصرفت عنها وزهدت فيها، فاضطجعت وأنا أعجب للذين يؤاكلون هذه الفتاة لماذا لا يتكلمون؟؟ وما لهم لا يغيرون هذا الموضوع.
(رجل مستهتر، لا يبالي ماذا يقول عن نفسه، ويظن لسخافته أن هذا من الظرف) فلم أعد أطيق هذا الطعن، واشتهيت أن أكتم أنفاسها بالفوطة، ولكني طويتها - أعني الفوطة - ووضعتها على المائدة وهممت بالقيام، فسمعتها تقول:
(على كل حال ماذا ننتظر؟ إن (اسبيريا) تسافر بعد غد، وإذا لماذا لم نشتر التذاكر غدا تأخرنا وفاتتنا. . .). وتسللت، كاللص، ولكن بعد أن خالستها النظر ورأيت وجهها، من غير أن تراني، وكانت مع الأسف جميلة. فزاد عجبي، فان الحسن ري ولين، وهذه الفتاة تحمل لي في جوفها بركاناً فائراً بالسخط والنقمة وكل ما ينافي معاني الجمال. فقرضت أضراسي وأقسمت لأسفارن على هذه الأسبيريا لأرى آخر هذه الحكاية.
وأقبل الليل، وكنت أتمشى في حديقة الفندق، وحدي، كما لا أحتاج أن أقول، وكنت لا أزال أحدث نفسي بما سمعت من أوصاف، وكان صدري كالخضم المضطرب، وكان الخدم يروحون ويجيئون في أرجاء الحديقة تلبية لنداء المنادين أو تصفيق المصفقين، وكان الأطفال يجرون هنا وههنا، وأنا ذاهل عن هؤلاء وأولئك جميعاً بالحجارة التي صكت سمعي على الطعام، فكنت أخطو خطوات، وأقف وأقول لنفسي:(حشرة. . .!).
فقال صوت (أفندم؟). قلت - غير عابئ به أو جاعل بالي إليه - (حشرة حقيرة. . تستحق السحق بالأقدام) واستأنفت السير، أو الخطو، وتركت الخادم - فقد كان أحد الخدم - يسخط ويلعن، أو لا يدري هل يضحك أو يغضب.
وإني لفي ذهولي هذا، وإذا بصرخة خافتة، فالتفت مسرعاً إلى مصدرها، فبصرت بفتاة حانية على غصن مريجٍ علق به ثوبها، فوثبت إليها وعنتها على تخليص الثوب، ولكن بعد أن تخرق.
وقلت وأنا أنفض التراب عن كفي وأشير إلى الثقوب الظاهرة في ثوبها:
(ليس هذا ذنبي. . إنه ذنب البستاني المهمل الذي يربي هذه الألفاف ليزين بها الطريق ولا يعني بتقليمها. . . .).
فقالت: (على العكس. . . إني شاكرة لك نجدتك، ولولاك لصار الثوب في يدي هلاهيل. . . فأنا مدينة لك. . .)
فرفعت عيني إليها فإذا بها هي التي سلقتني على المائدة بلسانها وحرمتني لذة الطعام وأنا جائع أتضور، فارتددت عنها مقدار خطوة وندت عن صدري آهه مخنوقة:
فقالت وهي تدنو مني: (ماذا بك؟) ورأتني أتكلف الابتسام فقالت: (بالدور. . . أنت مرة وأنا مرة)
فقلت: (لا شيء. . . لا شيء. . .)
فألحت (ولكن ماذا بك؟)
قلت: (أوه. . . لاشيء، لم أكن أحسب أنك أنت. . .)
فقالت مستغربة (ولكن بالطبع أنا أنا. . .)
قلت: (طبعاً. طبعاً. إني سخيف)
قالت: (هل تعرفني؟)
قلت: (أعرفك؟ الجواب نعم ولا)
قالت: (كيف يمكن هذا؟ ماذا تعرف عني؟)
قلت: (أقل مما تعرفين عني)
قالت: (لا مؤاخذة، ولكني لا أعرف عنك شيئاً)
قلت: (صحيح!؟)
قالت: (بالطبع صحيح! إني لم أرك إلا الساعة)
فتشهدت وأنحط عن صدري حجر، وقلت:(الحمد لله!، يا ما أكرمك يا رب!)
فقالت: (ولكن لماذا تتكلم هكذا؟ لست أفهم شيئاً. . .)
قلت: (أحسن)
قالت: (هل معنى هذا أنك تخشى أن أعرفك؟)
قلت: (جداً جداً جداً!)
فضحكت وقالت: (هل أنت مجرم هارب؟)
قلت: (شر من مجرم، بودي لو أستطيع الهرب ولكن إلى أين؟ كلا. لست مجرماً ولكني
حشرة!)
فصاحت: (إيه؟ حشرة!)
قلت: (أي نعم. حشرة حقيرة. . .)
فوضعت راحتها البضة على كتفي وقالت: (لا تتكلم هكذا! هل أنت مريض؟)
قلت: (نعم. نعم. نعم.)
قالت: (مسكين! ماذا بك؟)
قلت: (أذني. . . أذني. . . آه من أذني) والمصيبة أني كنت أبتسم، فقد راقني هذا الموقف على الرغم مما أجن من الحقد على الفتاة، فأقبلت علي، وجعلت تهون من أمر أذني وتشير علي بأن أضع فيها قطرة أو قطرتين من (الجليسيرين) وأن أبلع قرصاً من (الأسبيرين) فشكرتها افترقنا.
وفي صباح اليوم التالي مررت (بقلم الجوازات) وبدار (القنصلية الإيطالية)، ثم استخرت الله وذهبت إلى مكتب (شركة سيتمار)، وطلبت تذكرة على الباخرة (اسبيريا) وإذا بالفتاة تقول لي:
(وأنت أيضاً مسافر عليها؟)
قلت: (نعم. هل هناك بأس؟)
فضحكت وقالت: (كيف أذنك اليوم؟)
قلت: (أذني؟ آه! صحيح! تطن)
قالت: (يظهر إنها شفيت. . .)
فهممت بأن أقول شيئاً ولكن الرجل سألني عن أسمي، ولم أكن أتوقع هذا، فهبط قلبي إلى حذائي، ونظرت من الفتاة إلى الرجل، ومن الرجل إلى الفتاة وقلت:
(إسمي؟ ولكن هل هذا ضروري؟)
فقال: (لا. . . ولكن يحسن. . . إن أسماء الركاب تكتب وتوزع على الباخرة)
وكنت قد أنقدته قبل ذلك ثمن التذكرة فلولا هذا لعدلت فقلت:
(إسمي؟ إسمي؟ أظنه إبراهيم. . نعم. . . إبراهيم عبده)
وقالت الفتاة ونحن خارجان:
(هل هذا أسمك الحقيقي؟)
قلت: (هل تعرفين إسمي الحقيقي؟)
قالت: (لا. . . إذن هذا اسم مستعار؟ معذرة إذا كنت أتطفل. . .)
قلت: (لا. لا. . . ليس اسماً مستعاراً. . . أنه اسمي من الآن فصاعداً)
فهزت رأسها وقالت وهي تبتسم: (ليس لي حق، هذا فضول لا يغتفر. . . سامحني)
فقلت: بلهجة الجد الصارم (أسامحك؟ كلا! أبداً. . . أبداً. . .)
فتعجبت، ولها العذر وقالت:(هل أسأت إليك بشيء؟ إني آسفة!)
قلت: (أسأت؟ أسأت فقط؟ لقد قتلتني يا فتاتي!)
قالت: وهي تدير وجهها لترى وجهي
(أتمزح أم تتكلم جاداً؟)
فواجهتها وقلت: (هل تعرفين أني أمزح؟؟ كلا! أعني نعم. قتلتني. . . طعنتي هنا)(وأشرت إلى موضع القلب)
فضحكت وقالت: (بهذه السرعة؟! إنك حساس جداً)
قلت: (نعم. جداً. فاتقي أن تدوسيني بقدميك. . .)
قالت: (ولكن لماذا أدوسك بقدمي؟ لست أفهم كلامك. . .)
قلت: (لأني حشرة. . .)
قالت: (أوه! لا تقل هذا. . لماذا تشتم نفسك هكذا؟)
قلت: (نعم حشرة، وحشرة حقيرة أيضاً. . .)
قالت: (أوه! إنك تضجري بهذا ار. . .)
قلت: (وسكير عربيد. . . .)
فوقفت في الطريق وصاحت
(أهو أنت؟)
فقلت - مقلداً -: (بالطبع أنا. أنا.!)
قالت: (وسمعتني؟)
قلت: (كل كلمة. . . خرقت أذني كالمسار المحمي)
قالت: (إني آسفة. . . جداً. . . وأعتذر)
قلت: (آسفة؟ هممم. وأنا أنفلق! لا يأس. هيا بنا. . .)
قالت: (لقد تعمدت ذلك. . .)
فصحت بها: (إيه؟ كان هذا كله إلى الآن تمثيلاً؟)
قالت: (نعم قلت ما قلت عمداً. . . عرفتك من وجهك ومن. . . لا مؤاخذة. . . من رجلك. . ولكنك تؤثر الوحدة ولا تبالي الناس وتتقي أن تكلمهم، بل تهرب منهم، فماذا أصنع غير ذلك؟)
قلت: (كنت تستطيعين أن تمدحيني مثلاً فأسر. . . أم هذا حرام؟)
قالت: (والآن ألا تعفو عني؟)
قلت: عفونا يا ستي! بعد أن غرمنا ثمن تذكرة إلى أوربا بلا داع!
قالت: (إيه؟)
قلت: (نعم. كنت مسافراً إلى لبنان، فلما سمعت منك بعض الحقائق. . .)
فاحتجت: (لا تقل الحقائق. . .)
(أردت أن أعرف البقية. . . فقد أوصانا سقراط أن نعرف أنفسنا)
فوضعت كفها على فمي.
فلم أقبلها - أعني كفها - ولكني عضضتها عضة مغيظ، ولم أبال صراخها في الطريق.
إبراهيم عبد القادر المازني
من تراثنا العلمي
2 -
فضائل مصر لابن زولاق
وصف وتلخيص لنسخة مخطوطة
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
باب: إن المأمون قارن مصر بالعراق
1 -
صفة مصر وخبرها:
قال: كان سعيد بن عفير بحضرة المأمون وهو بمصر فسمعه يقول لعن الله فرعون حين يقول: أليس لي ملك مصر. فلولا رأى العراق! فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا فان الله عز وجل يقول: ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون. فما ظن أمير المؤمنين بشيء دمره الله هذه بقيته (ثم وصف مصر وأنهارها وقناطرها وأرزاقها وخلجانها السبعة وما كان من خبرها، وخبر الخليج الإسلامي الذي حفر في زمان عمر).
ذكر كور مصر، وما في كل كورةمن أصناف البر والأواني والفواكه والسلاح والطعام والشراب وجميع ما ينتفع به الناس. (وذكرها كورة كورة، وذكر ما فيها في فصل طويل، وأحال في مواضع منه على تاريخه. وقال وهو يتكلم عن إسكندرية) وقد شرحت ذلك مستفيضاً في كتابي التاريخ الكبير في أخبار الإسكندرية.
(إلى أن قال): وذكرت الحكماء أن عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة منها عشرون بمصر والعشرة في سائر الدنيا: مسجد دمشق، وكنيسة الرها، وقنطرة سخا، وقصر غمدان، وكنيسة رومية، وصنم الزيتون بصقلية، وحجر العواري، وإيوان كسرى، وبيت الريح ب. . .؟ وكنيسة بعلبك.
وبمصر من العجائب ما يغني عن هذا ويربو عليه (؟) فمن عجائبها: مدينة منف وقد ذكرناها، ومن ذلك عين شمس وهي هيكل الشمس، وبها قدت زليخا علي يوسف القميص، وبها العمودان اللذان لم ير أعجب مهما ولا من أبنائها وهما محمولان على وجه الأرض بغير أساس طولهما في السماء خمسون ذراعاً إلى الخ. . ومن عجائب مصر البرايق بأخيم
وسمنود وفيها الصور أمثال الفرسان والرجاله الخ. . (وذكر لها خبراً طويلاً) ومن عجائب مصر أمر الهرمين الكبيرين الخ.
3 -
ذكر النيل وأموره.
4 -
وصف مصر وتمثيلها:
(ذكر وصف عمرو بن العاص ووصف غيره من ولاة مصر. وتكلم عن خراج مصر وكيف كان يصرف كلاماً طويلاً ذكر فيه مقدار الخرج في زمن الفراعنة الأولين وفي أيام يوسف ومصارفه، وذكر أن عمر بن العاص جباها عام الفتح عشرة آلاف ألف دينار، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر بن الخطاب يعجزه ويقول جباها الروم عشرين ألف ألف دينار، فلما كان العام المقبل جباها عمر أثنى عشر ألف ألف دينار، فلما وليها عبد الله بن سعيد بن أبي سريح لعثمان جباها أربعة وعشرين ألف ألف. فقال عثمان لعمرو وكان عنده في المدينة: درت بعدك اللقحة يا أبا عبد الله. فقال: أضررتم بالفصيل.
ثم أنحط الخراج إلى ما دون ثلاثة آلاف ألف. إلا في أيام هشام، ثم قصر إلى سنة 254، فلما وليها أحمد بن طولون استقصى العمارة وبالغ فيها فجباها أربعة وعشرين ألف ألف الخ).
5 -
ذكر مقبرة مصر وفضائلها وذكر مقطمها.
6 -
ذكر ما تختص به مصر دون غيرها من الملبوس والمركوب والمأكول والمشروب (في فصل طويل).
7 -
في أسماء الشهور القبطية (وما كانوا يصنعون في كل واحد منها).
هذه أبواب الكتاب وفصوله، وفي كتاب أشياء رواها المؤلف على علاتها ولم يسلك فيها سبيل التحقيق، كالذي جاء به عند الكلام على المواضع المشرفة في مصر، وعجائب مصر، وخبر الأهرام. وفيه أشياء نافعة وجليلة. ولكي نزيد القارئ بياناً نقدم إليه هذه النبذة مما ورد في الكتاب نموذجاً لأسلوبه:
قال: (ذكر ما في مصر من ثغور الرباط والمساجد الشريفة وما فيها من شركة شرف الحرمين وسائر الدنيا. فأما مشاركتها للحرمين وأعمالها - (؟) ولما أمكن الواردين إليها من كل فج عميق المقام بها يوماً لنفاد أزوادهم وأنهم يمتارون من ميرة مصر. وقال بعض
المتكلمين: لو أن رجلاً عابداً ترك التصوف وأقبل على العبادة وأن آخر قام له بكفايته وسائر مئونته من كسوة وطعام وشراب لكان شريكه فيما يعمله وأن له أوفر أجرة، وكذلك مصر منزلتها من الحرمين. ومن فضايلها أن الذي بنى الكعبة رجل من قبط يكنى أبا قدم. ومصر فرضة الدنيا ويحمل من حيزها إلى سواحلها وكذلك ساحلها بالقلزم ينقل إلى الحرمين وإلى جدة وإلى عمان وإلى الهند وإلى الصين وصنعاء وعدن والشحر والسند وجزاير البحر، ومن جهة تبنيس ودمياط والغرما فرضة بلدة الروم وأقاصى الفرنحة وقبرص وسائر سواحل الشام والثغور إلى حدود العراق، ومن جهة الإسكندرية فرضة اقريطش وصقلية وبلد الروم والمغرب كله إلى طنجة والسوس ومغرب الشمس، ومن جهة الصعيد فرضة بلد المغرب وبلد البربرو - (؟) والحبشة والحجاز واليمن. وأما ما فيها من ثغور الرباط فمن ذلك: رباط البرلس، ورباط رشيد، ورباط الإسكندرية، ورباط ذات الحمام، ورباط البحيرة، ورباط أخنا، ورباط دمياط، ورباط شطا، ورباط ننفس (؟) ورباط الاستوم، ورباط الفرما، ورباط النفار، ورباط الفرادة، ورباط العريش، ورباط الشحربين وما ينضاف إلى هذه الثغور وجهاتها، ورباط الحيرس من جهة الحبشة والحة (؟) وما يقرب منهم (كذا) ورباط أسوان على النوبة، ورباط الواحات على البربر والسودان ورباط قوص. وقد روينا في أول هذا الكتاب قول الرسول عليه السلام: إن مصر خير أجناد الأرض. فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال لأنهم وأزواجهم وأبناؤهم في رباط إلى يوم القيامة وكانت برقة وطرابلس من ثغور مصر إلى أن خرجت في سنة ثلاثمائة فأضيفت إلى رباط المغرب. وأما المساجد الشريفة والمشاهد العظيمة فان بمصر مساجد هي مشاهد والعمل فيها منه في غيرها سوى الحرمين، فمن ذلك مسجد سليمان عليه السلام في الإسكندرية، ومسجد يوسف عليه السلام بمنف، ومسجده بطرا، ومسجده بوادي المقطم. وللخضر مسجدان منها مسجده بالإسكندرية، ومسجده بلبوهة في أسفل الأرض، ومسجد ذي القرنين بالإسكندرية عند النحات. ومنها مسجد الأقدام وهم قوم من أهل المقام قتلوا على موالاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومسجد عقبة ابن عامر الجهني بسوق وردان، ومسجد مسلمة بن مخلد بسوق وردان، ومسجد الزمام بني على رأس محمد بن أي بكر بناة علامة زمام وجعله مشهداً ورأسه في موضع المنارة، ومسجد - (؟) بني
على رأس زيد بن علي بن الحسين بن (- علي) أبي طالب أنفذه هشام بن عبد الملك إلى مصر نصب على هذا المنبر ووقف عنده - (؟) فسرقه أهل مصر. ودفنوه في هذا الموضع، ومسجد درب الكند الذي الزقاق فيه قبر الحسين بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب أرسله أبو جعفر المنصور بن العباس إلى الأمصار فأخذه أهل مصر فدفنوه في هذا الموضع واتخذوه مسجداً. وبمصر مساجد الصحابة سوى ما ذكرنا الخ).
هذا وليس على الكتاب تعليقات للقراء إلا تعليقة واحدة على أسماء الشهور القبطية قال كاتبها: (قوله أشهر الأعجمية القبطية المراد هذه الشهر على الأبراج الفلكية الاثني عشر برج، لأن كل برج من هذه الأبراج سموه باسمه في لغتهم فأول الأبراج وهو الحمل سموه توت، وثانيه الثور سموه بابه، وثالثه جوزا سموه هتور، ورابعه سرطان سموه كيهك، الخامس أسد سموه طوبا، والسادس السنبلة سموه امشير، 7 ميزان سموه برمهات، 8 الثامن عقرب سموه برمودة، 9 قوس سموه بينس، العاشر الجدي سموه بؤنه، الحادي عشر دلو سموه آبيب 12 حوت سموه مسري).
وكأن هذا الفصل الأخير (مطلب في أسماء الشهور القبطية) ملحق بالكتاب وإن جاء قبله بجملة فيها معنى الختام قال: وقالوا في مصر كلاما محفوظاً: طينها عجب، ونيلها ذهب، ورجالها قصب، ونسائها رطب، وهي لمن غلب. وقالوا في الكوفة: اقرأ الناس للقرآن لا يجاوز تراقيهم. وقالوا في أهل البصرة نعم وردن معاً وصدرن شتاً. وقالوا في أهل الشام أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق وأجرئهم على أمر لا يدرون ما هو. وقالوا في أهل الحجاز: أجرأهم على فتنة وأعجزهم عنها. وقالوا في أهل الموصل كناسة بين قريتين. وقالوا في أهل واسط منزل بين كنيفين. وذكروا الحديث المسند: (إن مصر يساق إليها أوائل الناس أعماراً). والبلدان فيها الطوال الأعمار وفيها القصار. إن طول الأعمار في سر وحمير، وجو اليمامة ووادي فرغانه. وقد جعل لمصر نصيب من ذلك في طوال الأعمار بمربوط وقرا بالحفار. وقد ذكرنا لمصر من الفضائل ما أغنى وكفى، ووصفنا الحكماء الذين كانوا بها وأنها معدن الحكمة التي انتشرت في أيدي الناس، يوجد في الدنيا بلد زينه أهله زينة مصر في أبنيتها ونهرها وإتقان أمرها وبالله التوفيق.
وإن في الكتاب كثيراً من العبارات المضطربة. وفيه كلمات ليست بالواضحة وإن فيه
كثيراً من الأخبار التي لم تصح، ترد غالباً عندما يتكلم عن تاريخ مصر القديم. كقوله:
(ذكر من كان بمصر من عيون الفرسان والشدة: عوج ابن عنق قتله موسى عليه السلام وجره الناس على النيل فمروا عليه شهراً، قال: وكان طول سرير عوج بن عنق ثمانمائة ذراع وعرضه أربعمائة ذراع، وكانت عصاة (هكذا) موسى عشرة أذرع، وضربه موسى فأصاب كعبه فخر على نيل مصر فحسره الناس فمشوا على صلبه وأضلاعه سنة وقيل شهراً الخ).
وقوله:
(ومن الفراعنة الذين جربوا الدنيا وغلبوا على مصر بختنصر وهو من قرية من قرى بابل يقال لها نفد، ودخل مصر في ستمائة ألف فارس وراجل، راكباً على أسد ورد، متقلداً سيفاً طوله عشرة أشبار وعرضه شبر، أخضر النصل كالسلق، يتحدر منه شبه ماء السدر، وغمد من ذهب مرصع بالجواهر والياقوت الأحمر مكتوب عليه:
وأنت إن لم ترجُ أو تتقي
…
كالميت محمولاً على نعشه
لا تنحس السر فتصلى به
…
فقلَّ من يسلم من نحسه
وأَخْمَد السر فان هجمته
…
وأحذرلأعدائك من حبسه
للبحر أقراش لها صولة
…
فأحذر لأعدائك من قرشه
إذا طغى بالكلى شحم الكلى
…
أدخل رأس الكبش في كرشه
وناطح الكبش له ساعة
…
يأخذهالناطحمن كبشه
وكم نجىّ من يدي أعدائه (كذا)
…
وميت مات على فرشه
من يفتح القفل بمفتاحه
…
نجا من التهمة في فشه
ونابش الموتىله ساعة
…
يأخذهإبليس من نبشه
لله في قدرته خاتم
…
تجري المقادير على نقشه
وهذا ختام المخطوط:
(وهذا جملة ما أودعناه هذا الكتاب باختصار بغير إسناد ولم أثبت فيه شيئاً إلا وقد رويته واختصرته ليقرب على من أراد وبالله التوفيق، ولو لم يكن لمصر فضل إلا أن العزيز عليه السلام إمامها. والوزير أيده الله ملكها وعاملها ومدبرها لكان فضلاً عظيماً وبالله
أستعين. تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه).
دمشق
علي الطنطاوي
بين فن التاريخ وفن الحرب
8 -
خالد بن الوليد
في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي (رئيس أركان الجيش العراقي)
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه
ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير!
فلا نامت أعين الجبناء) خالد بن الوليد
والغريب في ذلك أن الفرق كانت تعيش مستقلاً بعضها عن بعض، وكانت تتقاتل بخلاف فرق القبائل الأخرى. ولعل الداعي إلى ذلك أنها كانت حسيمة لا يمكن لرئيس واحد السيطرة عليها، وأنها في بلاد جعلتها بمأمن من غزوات القبائل الأخرى فلم تر الفرق والبطون حاجة إلى الوحدة.
ويظهر أن مالك بن نويرة استطاع أن يستميل سجاحاً إلى جابنه لقرابته منه، وأراد أن يستغلها لمصلحته فيضرب بها الفرق المخالفة له ويرأس بني تميم بالقوة، أما هي فكانت تريد أن تستفيد منه للهجوم على المدينة. ومال وكيع بن مالك رئيس بني حنظلة إلى جانبه. وهكذا مالت شعب بني مالك إلى جانب سجاح.
وكانت الشحناء قبل ذلك شديدة بين رؤساء بني تميم كما نعلم. ولما ورد خبر وفاة الرسول عليهم أرسل بعضهم الصدقات إلى المدينة، وانتظر بعضهم ما يصنع البعض الآخر. ويروى أن قيس بن عاصم رئيس مقاعس والبطون قال (وا ويلنا من ابن العكللية - يريد به الزبرقان - والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع، لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فيسودني فيهم، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين بها أبا بكر فيسودني عنده) فعزم قيس على توزيع الصدقات على مقاعس والبطون ففعل، وعزم الزبرقان على الوفاء بإرسال الصدقات إلى المدينة. وكانت النتيجة أن نشب القتال بين عوف والأبناء من جهة والبطون من جهة أخرى، وبين الرباب من جهةً ومقاعس من جهة أخرى. وبين
خضم وحنظلة وبين بهدي ويربوع.
ولما وصلت سجاح إلى الحزن أرض بني يربوع واتفقت مع مالك بن نويرة والتحق بها وكيع بن مالك شرع مالك ينفذ خطته ليرأس بني تميم، فبدأ بقتال الرباب وعوف والأبناء، فلم يظفر بهم بل دارت الدائرة عليه وعلى سجاح، فوقع وكيع أسيراً بيد الرباب. وأرادت سجاح أن تجرب حظها مع بهدي وخضم من شعب بني عمر فكان نصيبها الخيبة أيضاً. فلما لم تظفر بطائل تركت مالكاً وانسحبت برجالها من بلاد بني تميم وسارت إلى اليمامة.
هذا هو الموقف حين كان خالد يجول ويصول في بلاد بني أسد ولم يكن يجهله، لذلك لم يكد ينتهي من أمر بني أسد حتى تراه قد انتهز الفرصة وأمر جيشه بالمسير إلى أرض بني تميم دون أن ينتظر أمراً من الخليفة، وهكذا نراه يستعمل إبداعه ويسير جيشه نحو البطاح برغم مخالفة الأنصار له مدعين أن عهد الخليفة إليهم أن يقيموا بعد فراعهم من بزاخة إلى أن يكتب إليهم. إلا إن خالداً تقدم نحو البطاح قائلاً لهم إنه هو الأمير وإليه تنتهي الأخبار وإن لم يأته أمر الخليفة، فانه لا يريد أن يضيع الفرصة ما دام مالك بن نويرة بحياله. وشعب بني تميم نافرة منه. لذلك لم يتردد خالد في الذهاب إليه من دون الأنصار.
والواقع أن مالك بن نويرة بقى وحيداً بين بني تميم، لأن صفوان بن صفوان كان قد أرسل الصدقات إلى المدينة وكذلك الزبرقان، أما قيس بن عاصم فكان عليه، وكذلك وكيع بن مالك لما سمع بانتصارات خالد أرسل صدقات بني حنظلة إليه. فبقى مالك حائراً ماذا يعمل، وكان بالبطاح مع رجاله من بني يربوع، والبطاح أرض دون الحزن، وهي ذات مراتع خصبة وفيها مياه كثيرة، فالقصيبة والبريدة من مواقعها.
وندم الأنصار على تخلفهم لأنهم خشوا أن تصيب المسلمين مصيبة فيلاموا عليها، فأوفدوا رسولاً إلى خالد يطلبون منه الإقامة إلى أن يلحقوا به، فأقام خالد حتى لحقوا به فسار إلى البطاح. والروايات غير متفقة في أمر مالك بن نويرة. ومن الروايات ما تزعم أن مالكاً قاتل المسلمين برجاله من بني يربوع فقتل في القتال. ومنها ما يزعم أنه لما تأكد من الخيبة فرق رجاله وأمرهم بألا يقاتلوا المسلمين ورجع إلى منزله، ولما قدم خالد البطاح بث أربع سرايا إلى جهات مختلفة، فرجعت السرية التي كان يقودها أبو قتادة الأنصاري بمالك والبعض من رجاله.
ومن الروايات ما تزعم أن مالكاً حارب السرايا التي أوفدها خالد فقتل، ومنها ما تزعم أنه وقع أسيراً في القتال فأمر خالد بضرب رقبته مع الأسرى الآخرين، والبعض الآخر من الروايات تذكر أن خالداً أراد قتل الأسرى بما فيهم مالك، إلا أن أبا قتادة شهد أنهم أذنوا وقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد أن يحبسوا، وكانت الليلة شديدة البرد، فأمر خالد منادياً فنادى أن أدفئوا أسراكم، وكانت كلمة الدفء في لغة كنانة تعني القتل، فقتلهم الخفراء وقتل ضرار بن الأزور مالكاً.
وكان قتل مالك على هذه الصورة، وتزوج خالد بامرأته ليلى بعد قتله بمدة قصيرة. وهذا مما جعل عمر ينقم على خالد فطلب من أبي بكر أن يعاقبه على فعلته هذه، فاضطر الخليفة إلى استقدام خالد إلى المدينة وطلب الإيضاحات منه، فلما اقتنع أن خالداً لم يقصد قتل مالك أعاده إلى جيش المسلمين وكلفه بالمسير إلى اليمامة ليقاتل مسيلمة الكذاب.
الحركات في اليمامة
من الصعب التثبت من المدة التي قضاها خالد بن الوليد في البطاح حتى نعلم الوقت الذي تقدم بجيشه نحو اليمامة لمقاتلة بني حنيفة. فيكاد أكثر المؤرخين من العرب يتفق على أن القتال في اليمامة وقع في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية. أما أبو بشر الدولابي واليعقوبي فيزعمان أن القتال وقع في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
فمبدأ السنة الثانية عشرة الهجرية يوافق شهر آذار (أبريل) سنة 633 ميلادية. والذي نعلمه إن خالداً توجهه من ذي القصة نحو بزاخة في منتصف شهر أيلوم (سبتمبر) أو شهر تشرين الأول (أكتوبر)
وقضى خالد في حركته نحو بزاخة أكثر من عشرين يوماً يترقب أخبار طيء. وبعد انتصاره على جيش طليحة بن خويلد مكث في بني أسد مدة غير قصيرة ليقبل إسلام المرتدين ويجمع منهم السلاح. أضف إلى ذلك قتاله في ظفر، وانتظاره مجيء رؤساء بني عامر.
ويدعي مؤرخون أن مالكاً بن نويرة قتل خطأ في ليلة شديدة البرودة. وعلى ما في كتاب الطبري رواية عن سيف ابن عمر أن الأسرى من بني يربوع حبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء. والليالي الشديدة البرد في البادية تقع في أشد شهري الشتاء برداً وهما كانون
الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير). إذن وقع القتل بين أواخر كانون الأول وأوائل كانون الثاني فتكون حادثة البعوضة وقعت بين شهري شوال وذي القعدة في السنة الحادية عشرة الهجرية.
يقيناً أن خالداً قضى مدة غير قصيرة في البطاح، وقضى وقتاً في ذهابه إلى المدينة ملبياً دعوة الخليفة. ولما عاد منها لم يحرك جيشه نحو اليمامة بمجرد وصوله إلى المعسكر، بل أنتظر مدة لورود النجدة التي أمد بها الخليفة جيش المسلمين. فيظهر من كل ذلك أن الحركة من البطاح نحو اليمامة وقعت في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية - أي في ربيع سنة 633 ميلادية، في شهر آذار أو شهر نيسان (مايو).
ومن رواية رواها أبو هريرة نستدل على أن سلمة بنت عمير الحنفي كان يشجع بني حنيفة على المقاومة بعد معركة عقرباء فينادي قائلاً: (يا بني حنيفة قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء، فأن الحصن حصين وقد حضر الشتاء). ومعنى ذلك أن الحركات في اليمامة جرت في صيف الثالثة عشرة الهجرية - أي بدأت حوالي شهر مايو لسنة 633ميلادية.
منطقة الحركات
اليمامة مؤلفة من مقاطعتي العارض والخرج الحاليتين، ومقاطعة الخرج من أخصب مقاطعات نجد، فالماء مبذول فيها وهو على عمق بضعة مترات تحت الأرض. ولما كانت أرضاً منخفضة تنصرف إليها مياه الأمطار من الجبال والهضاب التي تحيط بها، ومدينة اليمامة - العاصمة القديمة - واقعة فيها.
ويدعي كثير من الجغرافيين بأن أرض اليمامة القديمة هي مقاطعة الخرج الحالية. وهذه المقاطعة واقعة في جنوب شرقي العارض، ويحدها من الشرق وادي حنيفة، وعلى أحدها شعبه اليمنى بنيت مدينة اليمامة. ولا تزال مقاطعة الخرج من أكثر المقاطعات النجدية نفوساً وفيها مراعي خصبة وبساتين نخل كثيرة،
ويحد المنطقة التي جرت فيها الحركات من الشرق هضبة العرمة، وهي الهضبة المرتفعة المشرفة على الدهناء، ومن الغرب الأنفدة الموازية لسلسلة طويق، ومن الشمال مقاطعة القصين. والمنطقة جبلية تعد من أوعر مناطق نجد من حيث الوديان والمضايق والروابى
والآكام.
وتمدد جبال طويق في وسط المنطقة من الشمال إلى الجنوب وهي حجرية كلسية جرداء متموجة، تتألف من سلسلتين متوازيتين، وسفوحها الغربية منحدرة، أما سفوحها الشرقية فقليلة الانحدار. ويبلغ ارتفاعها زهاء ستمائة قدم على الهضبة الغربية. وتمتد الجبال من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وتنكسر في الوسط وتغير اتجاهها إلى الجنوب فالجنوب الغربي فتنتهي إلى وادي الدواسر. وفي المحل الذي تنكسر فيه تجري الوديان من الشرق إلى الغرب وتصب في وادي حنيفة. وهذه الوديان ضيقة وعرة في محل الانكسار حيث ترتفع سفوحها الشمالية والجنوبية بانحدار شديد.
وتنصرف مياه الأمطار التي تهطل على الجبال إلى الشرق والغرب في الوديان والشعب؛ فمنها ما يصب في وادي حنيفة، ومنها ما يكون وادي الخفس وشعيب العتشى حيث تنصرف مياهها إلى الدهناء. ومنها ما يصب في مقاطعة الوشم ويسقي منخفضاتها ويكون واحتها الخصبة. والشعيب الذي يكون وادي الخفس ينبع من جنوب ثادق ويجري نحو الجنوب إلى الحريملة ومنها يتوجه شرقاً. وهذا الشعيب ووادي حنيفة يقسمان الجبال إلى سلسلتين: الغربية منهما مرتفعة ووعرة وهي طويق، أما الشرقية فمنخفضة ولطيفة الانحدار وهي روابي العارض في الشمال وجبل صلبوخ في الوسط والجبيل في الجنوب. وأما وادي حنيفة (وهو أعظم وادي في هذه المنطقة) فقد سميت القبائل الساكنة على جانبيه باسمه. وصدره في الأرض الفاصلة بين العارض من جهة، والمحمل السدير من جهة أخرى ويبدأ الوادي في ثنية اليمامة في شرقي خشم الحيسية، ويتكون من عدة شعب تجري من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال. فيستمد الوادي ماءه منها فيجري من الغرب إلى الشرق. وفي جوار عقرباء، حيث نشبت المعركة الفاصلة بين جيش خالد وبين جيش مسيلمة، يغير الوادي اتجاهه فيجري من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي في وادٍ يضيق في بعض المحلات ويعرض في البعض الأخر، وهو شديد الوعورة في الشمال وسهل المجرى في الجنوب. وعلى حافتي الوادي شيدت القرى والمدائن، حيث استقيت المياه المنصرفة إليه، وزرعت البساتين حولها. والوادي في هذا القسم يتغذى بعدة شعاب ينصب أكثرها فيه من السفوح الغربية.
وفي محل انكسار سلسلة طويق تصب فيه عدة وديان بحيث إنها تغير اتجاهه في جوار السليمية واليمامة فيتوجه نحو الشرق فالجنوب الشرقي إلى أن ينتهي في رمال الربع الخالي.
وكان من وصايا أبي بكر إلى خالد بن الوليد أن يأخذ الحيطة عند الهجوم على أهل اليمامة. وكان الخليفة محقاً في هذه الوصية، لأن أهل اليمامة سكان القرى المبنية في الوديان الضيقة، وعلى سفوح الجبال الوعرة، بنو دورهم بالحجارة، وسوروا قراهم بالجدران وأنشأوا الحدائق بالقرب من قراهم، وزرعوا فيها النخيل والأشجار وأحاطوها بالحجارة ليمنعوا المارة من دخولها أو ليعتصموا بها عند الحاجة.
فأهل اليمامة إذن لا يشبهون أهل البادية في القتال، فهم معتصمون في جبالهم المنيعة، ومعتزون بقراهم المتينة، وحدائقهم المستحكمة ولا تزال آثار هذه القرى ظاهرة في تلك الأنحاء. وهذه القرى كثيرة ومنتشرة على طوار وادي حنيفة، وفي مقاطعة الخرج، وفي الوديان والمنخفضات والواحات.
يتبع
طه الهاشمي
في الأدب الدرامي
14 -
الرواية المسرحية
في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
تحليل موجز لرواية هرناني
هرناني
درامة شعرية في خمسة فصول نظمها هوجو سنة 1830 ومثلت أول مرة في (الكوميدي فرنسيز) يوم 25 فبراير سنة 1830 فكان تمثيلها معركة شعواء بين الاتباعيين والابتداعيين تبودلت فيها اللعنات واللكمات بين الفريقين. وكان أنصار المذهب الجديد قد وزعوا قبل يوم التمثيل (تذاكر) مجانية على طلاب المدارس وتلاميذ المصانع، فملأوا مشهد المسرح قبل بدء التمثيل بثماني ساعات. ثم أبتدأ التمثيل على المسرح، والعراك الصاخب في المشهد حتى أستدل الستار الأخير على فوز الابتداعيين وفشل الاتباعيين.
أهم أشخاص هذه الرواية: هرناني، وهو نبيل إسباني أتخذ اللصوصية وقطع الطريق وسيلة لأخذ ثأر أبيه المشنوق في جريمة سياسية؛ ودون كرلوس ملك إسبانيا، وهو الذي قتل أبا هرناني؛ ودون روي جوميز دوق سلفا؛ ودونا سول بنت أخيه التي يريد أن يتزوج منها. وقد وقعت حوادثها في سرقوسة، ثم في قصر سلفا ثم في أكس لاشابل، ثم في سراقوسة ثانية.
ففي الفصل الأول:
يعيش هرناني في الجبال مع ذؤبان الأنس، يقطع الطريق ويغير على البلاد؛ وهو يحب (دونا سول) وتحبه، ويغالبه على هذا الحب (دون كرلوس) ملك إسبانيا والشيخ روى جوميز عم الفتاة، ويقع هرناني في خطر داهم فينجو منه بفضل الملك.
وفي الفصل الثاني:
يقابل هرناني الملك في بيت دونا سول، وقد أقبل في حرسه يخطفها، فيملك حياته وموته.
ولكنه يبقى عليه ويخرج، فيجد البيت محصوراً بالجند الملكي فينجو بنفسه بعد لأي.
وفي الفصل الثالث:
يحكم الملك بالقتل على هناني ويجعل لمن يأتي برأسه جعالة مالية، فتذعن دونا سول لأحكام القدر وتستسلم لإرادة عمها فترضها أن تتزوج منه. وفي الساعة التي يتأهبون فيها للذهاب إلى الهيكل لعقد الزواج يدخل هرناني القصر في زي حاج يطلب الحماية والجوار من ربه. فإذا ما رأى حبيبته في زينة العروس يظن إنها نكثت عهده، ونسيت وعده، فتهون عليه الحياة ويعلن عن نفسه طالباً القبض عليه. ولكن واجب الضيافة لصاحب القصر يقوم دون ذلك. وليس جوميز ممن ينقض الذمام ويخيس بالذمة. على أنه يفجأ الحبيبين وهما يتساقيان الهوى ويتصارحان بالحب، فسيقتله الغضب وترعده الغيرة، ويدخل الحاجب عليه في تلك الحال ويعلن إليه قدوم الملك، فقد جاءه يطلب منه تسليم المجرم المحكوم عليه إذ علم إنه لائذ بقصره. فتتنازع الدوق عوامل الشرف والغضب والانتقام، وتتراءى له صور آبائه المعلقة على حوائط القصر تتحرك أمام عينيه تذكرة له وتبصرة، فيغلب الشرف ويخبئ هرناني في مخبأ سري أمين. ويدخل الملك فيعاتب الدوق على أن يجير عليه، ويطلب منه المجرم. فيجيبه جوميز في إباء وشمم أنه يؤثر الموت على أن يسلم جاره. فيغتصب الملك دونا سول ويخرج انتقاماً من عمها وثأراً لنفسه. ويخلو الدوق بهرناني فيرد إليه حياته وحريته بشرط أن يساعده على غسل هذه الإهانة عنه بدم الملك، فيجيبه هرناني إلى ذلك ويضع حياته في يده ضماناً بوعده، فيقسم أن يقتل نفسه متى نفخ الدوق في هذا البوق الذي يعطيه إياه.
وفي الفصل الرابع:
يسافر الملك في أثناء ذلك إلى أكس لاشابل يروض لنفسه الأمور ويهيئ الأسباب لفوزه في الترشيح لإمبراطورية ألمانيا، ويأتمر الدوق وهرناني بالملك، ويتوافى المؤتمرون في حندس الليل إلى إبقاء الكاتدرائية على مقربة من ضريح شارلمان. ويقف دون كرلوس على سر المؤامرة فيجيء إلى مكانها يريد أن يفجأ المجرمون وهم جلوس على الجريمة ويظل مختبئاً ينظر وتهب عليه في تلك الساعة نفحة من قبر شارلمان وهو الذي يريد أن
يخلفه على مجده وسلطانه، فتوحي إليه بتلك النجوى المشهورة التي تبلغ ستين ومائة بيت من عيون الشعر وغرره، ويدخل الملك ضريح العاهل فيتسنى له أن يسمع ما يقرره المؤتمرون فيعرف أن هرناني قد أنتخب بالقرعة ليقتله. ويدوي في تلك اللحظة صوت المدفع فجأةً فيعلن انتخاب دون كرلوس عاهلاً لألمانيا، فيخرج حين إذن من مكمنه ويدهم المتآمرين فيملأ قلوبهم رعباً ودهشة، ويريدون الفرار فيجدون المكان محصوراً بالجند، ويتقدم هرناني فيكشف للملك عن نفسه ويذكره بجنايته على أبيه. ويكون لهرناني ودونا سول والملك موقفاً رائع تتجلى فيه عواطف الحب والتضحية والشهامة، وينتهي بأن يعفو الملك عن جميع المتآمرين ويتخلى عن دونا سول لهرناني فيستعبد قلبه بهذه الأريحية. ويصبح اللص الشريف صادق الولاء مخلص القلب لشرلكان وهو الاسم الجديد للعاهل الجديد.
وفي الفصل الخامس:
لم تحل هذه النهاية في صدر الدوق جوميز. فلا هو رحض أهانته ولا هو نال حبيبته، فيأبى عليه طبعه أن يسعد غيره بشقوته، فيدع الزواج يتم والعرس يقام والعاشقين ينعمان معاً بنعمة الحب ولذة القرب، ولكنهما يسمعان نفخة بوق على بعد! ثم يدنو الصوت فإذا هو الشيخ جوميز يستنجز هرناني وعده بأن يقتل نفسه عند نفخة البوق، فيتوسل العروسان إليه بالرجاء والدعاء والدموع فلا يزداد إلا إصراراً وعناداً. ويظلم اليأس في عيني الزوجين البائسين فيخرج هرناني من منطقته قارورة من السم، فتأخذها منه دونا سول وتجرع نصفها وتقدم إلى زوجها الباقي فيشربه، فيخر الحبيبان صريعين تحت قدمي الدوق، ويهجم عليه هو أيضاً الندم ووخز الضمير فينتحر على جثتيهما الهامدتين.
ويؤخذ على هذه الدرامة أن العمل الروائي فيها خيالي محض، ينقصه الصدق والطبيعة، وأن تحليل أخلاقها سطحي غير عميق، وأن كثيراً من مواقفها غريب غير ممكن. وتجد هذا العيب أوضح ما يكون في الحل، فإن الدوق جوميز الذي ظل طوال الرواية شهماً كريماً لا يسوغ في العقل أن يكون في أخرها جامد الشعور زمن المروءة كما ظهر.
تتمة
في الملهاة العامية
الملهاة العامية وهي ملهاة عرضها الإضحاك والإلهاء بتصوير العيوب المضحكة تصويراً يتعدى حدود الأدب والحشمة والذوق والإمكانية. فهي تقوم على الإحالة والبذاءة، كما تقوم الملهاة على السخر والأضاحيك.
والرأي بين الناس مختلف في بقاء هذا النوع في أمة راقية وحكومة منظمة ومسرح مهذب. فالذين يدافعون عن الملهاة العامية يقولون أن الناس يرفهون في صدورهم بشهودها، وأن الأذواق ليست واحدة في تقدير اللهو الرفيع، وأن العكوف على الجد الخالص واللهو الجدي يتعب الذهن ويكد القريحة، وأن الجمهور يجب أن تطلق له الحرية في اختيار ما يلهيه ويسليه.
ونحن لا نكر مطلقاً على الملهاة العامية أنها تلهي الجمهور وتسر الناس، بل نعترف بأن الرومان كانوا يهجرون مسرح (تيرانس) ويحتشدون عن المصارعين والمهرجين، ولا ننكر كذلك أن القليل من الناس هم الذين يدركون معنى الحق والجمال والخير، فيلذهم إدراكهم ويمتعهم فهمه، وأن دهاء الشعب وسواده لا يلهيهم إلا المحال الفاحش والبذيء المقذع، وأن من الأذهان ما يعتريه الكلال من الجد فلا يشحذ إلا بالمزاح الخالي من الذوق والفكر، ولكنك سلطان هذا النوع على الشعب هو مصدر الخطر فيه ومنشأ الضرر منه. فإن من يحبه ويميل إليه يكره غيره ويصد عنه. وانصراف الشعب عما يغذي عقله بالحكمة وذوقه بالجمال ووجدانه بالفضيلة، إلى ما يملأ عينه بالفحش وقلبه بالرجس ولسانه بالبذاء، مؤد إلى الوهن والانحلال والعدم. ذلك إلى أن اللهو الفارغ تستسهله النفس وتفضله. وإذا أسترسل المرء فيه خمدت نفسه بترك الفكر، كما يخمد جسمه بترك العمل. أما قولهم أن الملهاة العامية لا تضر ما دامت تسر، فذلك مثل قولهم: أن نوع الغذاء لا يهمك ما دام يلذك.
أن هذه الملهاة خلقت لرعاع الشعب وغوغائه فلتبق لهم والتحى بينهم، بشرط أن تظل على شكلها العامي الخشن في أدب وحشمة، فتقوم في الأسواق والأعياد والموالد تحت الخيام والمضارب، حتى لا تجذب إليها إلا خشاش الناس ممن تعود أنفه النتن فلا يشمه، ومرن لسانه على الهجر فلا يهمه. أما رفعها يفحشها ورجسها إلى المسارح الراقية وتمويهها
بالرقص والموسيقى، وتزيينها بالزخرف المناظر والأزياء، فذلك تذهيب لحافة الكأس المسمومة يشربها الشعب فتقتل فيه عناصر الخير وعواطف الفضيلة!
المأساة العامية
المأساة العامية درامة تتألف من الحوادث الفاجعة، والمواقف المروعة، والهزل الجريء، وتستعين بالرقص والموسيقى. وقد علق بها اسم (الميلودرام) في منصف القرن الثامن عشر، وأشتهر بتأليفها من الكتاب الفرنسيين (جيلبير دبكسير يكور) و (دوكانج) و (دينيري). ولكن ما كتبوه عافه النقد لتبذله وتسفله. يمتاز هذا النوع بأثره القوي وعمله العنيف. فموضوعه إما أن يكون طاغية غشوماً يرتطم في مراغة العيب والفحش، أو رئيس طغمة من قطاع الطرق يطارد فتاة طاهرة عفيفة فاضلة، أو خائناً يخب في ظلال ويوضع في الغي، أو حبيباً باسلاً يقع حبيبه في قفص الأشرار فيغالب الأخطار ويصارع الفجار حتى يرد مكرهم ويدفع شرهم، أو غبياً يعقد العمل بغباوته ويحرج الموقف بساخفته. ثم تتدخل العناية الإلهية بعد هذه التقلبات الشديدة، والمشاكل العديدة، فتأخذ للبريء من المجرم وتقتص للفضيلة من الرذيلة. وعملها شديد العنف قوي الأثر، يضحي بالإمكانية في سبيل الضربات المسرحية والمفاجآت القوية، وتعتمد على الخناجر والسموم والحرائق في الأخذ بكظم النفوس وإثارة الرعب في القلوب. أما موسيقاها فتعبير عن المواقف والعواطف، وتتقدم دخول الأشخاص، ورقصها قد يكون تعبيراً عن معنى وتمثيلاً لفكرة وقد يكون إمتاعاً وتسلية يتخلل حوادث الرواية. وأما أسلوبها فمزيج من البهرج الخالد والعامية المبتذلة، مما يلائم هذه الأفكار التي تشرحها، والعواطف التي تصفها. وماذا تجدي الأساليب الفخمة، والتراكيب المونقة، في جمهور لا يريد أن يتأثر إلا بالزياط والعياط، ولا يتسلى إلا بالصراع والقراع، ولا يعرف إلا أن يقول في نهاية الفصل الخامس وهو مجذوب بالحادث مكروب للبطل: آه! رباه لقد نجا!! على أن مال هذا النوع إلى الفناء، فأن الشعب كلما رقت عواطفه وتهذب حسه، ودق شعوره، آثر الصدق والإمكان، وقدر الفن والبيان، وعاف الصخب والهذر والعنف، ولذلك تجد الدرامة تحتل في كل مكان محل الميلودرام.
(يتبع)
الزيات
الممهدون للاكتشاف والاختراع
بقلم الأستاذ قدوري حافظ طوقان
نشوء العلم وارتقاؤه
يأخذ الإنسان ما عمله غيره وسلفه ويزيد عليه، يبدأ من حيث انتهى سلفه ويدخل تحسيناً عليه، ثم يسعى للزيادة على ذلك. بينما يأخذ الحيوان ما عمله سلفه ويبدأ حيث أبتدأ (سلفه) وينتهي به دون زيادة. هذا فرق مهم بين الإنسان والحيوان، وهذه ميزة اختصه الله بها، ولولاها لما كان هناك تقدم أو حضارة. وعلى هذا ليست المدنية وما نراه من مظاهر العمران إلا مجموع مجهودات قام بها الأفراد في سبيل ترقية المجتمع من نواحيه المتعددة. وإذا قيل أن جاوس، وفير، اخترعا التليفون، فليس معنى ذلك أن لهما كل الفضل في إيجاده، وأنهما توصلا إليه بدون الاستعانة بما عمله غيرهما، بل إن لبحوث الذين سبقوهما فضلاً كبيراً عليهما، فلولا ليساج العالم السويسري الذي ظهر في القرن الثامن عشر للميلاد، ولولا سومرنج الألماني الذي قام بعمل التلغراف بواسطة التيارات الكهربائية من بطارية وبواسطة الماء لإعطاء الإشرات، ولولا أمبير الذي نقل في سنة 1820 الأشرات بواسطة التيارات الكهربائية في عدة إبر مغناطيسية، أقول لولا كل هؤلاء وغيرهم لما استطاع جاوس وفير أن يفكرا في التلفون وأن يتوصلا إلى استعمال المغناطيس الكهربائي، حتى أصبح للتلغراف قيمة عملية يمكن الاستفادة منها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن للتحسينات الجمة التي أدخلها العلماء ستهيل وكوك ومورس وستون، الفضل الأكبر في تعميم استعماله وجعله سهل التناول، وها نحن أولاً نرى العلماء يدخلون عليه تحسينات أخرى ويتفننون في صنعه.
وليست نظرية النسبية بأكملها من نتاج طريحة العالم الشهير البرت انشتين، وقليلون جداً الذين يعرفون أن لمجهودات وبحوث لورانتز العالم الهولاندي وغيره من علماء الرياضة والطبيعة فضلاً عليها، فلولاهم ولولا كتاباتهم وبحوثهم وتمهيداتهم لما استطاع انشتين أن يخرج النسبية بشكلها الذي نعرفه الآن.
فليست الاختراعات والاكتشافات إذن إلا نتيجة مجهودات جبارة قام بها أفراد مختلفون اشتغلوا في ميادين العلوم والفنون، وهي لم تظهر بشكلها العملي المفيد إلا بعد تمهيدات
عديدة وإدخال تحسينات جمة قام بها العلماء في عصور مختلفة، ولا يزال القراء يذكرون المقال الشيق الذي نشر في العدد 62 من مجلة الرسالة بقلم الأستاذ محمود مختار في موضوع (التلفزة في عهدها الأول) وقد جاء فيه أن العالم الإنكليزي (جون بيرد) طلع في سنة 1926 بجهازه الأول في عالم التلفزة وقد عرضه على المجمع الملكي في لندن ونقل صوراً بأجسام بسيطة موضوعة في غرفة مجاورة، وكانت الصور كثيرة الاهتزاز عديمة الوضوح. وقد شغل هذا الجهاز الأدمغة الكبيرة، فقام غير واحد وأخذ فكرة العالم المذكور وعمل على تحسينها وإنماءها حتى وصل الاختراع إلى ما وصل إليه من الإتقان. ولا يزال العلماء يدخلون عليه في كل يوم تحسيناً، ولا يزالون يفكرون في الوسائل التي تجعله سهل التناول في استطاعة الكثيرين اقتناءه والاستفادة منه.
قد يظن القارئ أن ميزة الأخذ عن الغير والزيادة عليه تتجلى في الفرد دون الأمم. هذا الظن في غير محله، إذ ظهر وثبت أن الحضارات المختلفة تجري أيضاً على هذه النظرية: نظرية الأخذ عن السلف والغير والزيادة على ذلك. فالحضارة الرومانية استعانت بحضارات الأمم التي سبقتها واستفادت منها فوائد عديدة عادت على الرومان بالتقدم، كذلك استعان العرب والمسلمون بغيرهم من الأمم فأخذوا عن اليونان والرومان والهنود والفرس، وبعد أن ادخلوا على ما أخذوه الإصلاح والتغير، زادوا عليه زيادات جعلت الكثيرين من منصفي الغرب يعترفون بعبقرية العقل العربي وبقوته على الإنتاج، وبخدماته الجليّفي رفع مستوى المدنية والإنسانية. وحينما انتبهت أوربا من غفلتها وبدأ فيها عصر النهضة العلمية استعانت بنتاج العقل العربي وإسلامي في ميادين العلوم المختلفة والفنون المتنوعة. فالحضارة الأوربية في صميمها ترتكز على الحضارة العربية والإسلامية وهي لم تستطع أن تتقدم تقدمها العجيب إلا بفضل العرب. قال سارطون أن العرب كانوا أعظم معلمين في العالم في القرون الوسطى. واعترف غير واحد بأن العرب قدموا خدمات جليلة في كثير من فروع المعرفة. وقال ويدمان: إن علماء العرب أخذوا بعض النظريات عن اليونان وطبقوها، وقد بذلوا الجهد في تحسينها وإنمائها حتى سلموها للعصور الحديثة واعترف سيديو بأن العرب أساتذة أوربا في جميع الأشياء. . .
ولنرجع الآن إلى مقالنا فنقول: لقد ظهر في العرب علماء عديدون ابتكروا واكتشفوا
واخترعوا في ميادين العلوم والفنون. وقد وجد فيهم من استطاع أن يمهد ببحوثه وتجاربه لبعض اكتشافات واختراعات هي من خطورة الشأن على جانب عظيم، ولولاها لم استطاع علماء الفرنجة أن يقطعوا شوطاً بعيداً في التقدم والرقي.
التكامل والتفاضل:
علم التكامل والتفاضل من العلوم الرياضية العالية التي لها اتصال وثيق في الاختراع والاكتشاف، والتي سهلت كثيراً من المسائل العويصة. هذا الفرع من الرياضيات حديث الوجود فقد اكتشفه واكتشف قوانينه الأولية نيوتن وليبنتز في أواخر القرن السابع عشر للميلاد، وهو لم يزدهر ازدهاره الحالي إلا بعد زيادات هامة قام بها العلماء فيما بعد. ويظن كثيرون، بل يعتقد بعض الرياضيين، أن العلماء الذين سبقوا نيوتن لم يمهدوا له ولم يضعوا فيه شيئاً جديراً بالاعتبار هذا خطأ إذ ثبت لدى البحث والتنقيب أن ثابت بن قرة من الذين مهدوا لهذا العلم، ومن الذين حلوا مسائل في إيجاد المساحات والحجوم بطرق تنم نوعاً ما على طريقة التكامل المتبعة الآن. ويعترف سمث بذلك وبأن ثابت بن قرة هو الذي أوجد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محوره، وأن العلماء الذين أتوا بعده اهتدوا بنور طرقه في إيجاد المساحات والحجوم.
دوران الأرض:
مما لا ريب فيه أن كوبرنيكس وغاليلو بلغا شأواً بعيداً في العلم وفتحا فيه أبواباً كانت مغلقة، وأماطا اللثام عن حقائق كانت غامضة، ودقائق كانت غير معروفة، ولهما الفضل الأكبر في تثبيت فكرة دوران الأرض، ولكن كل هذا لا يمنعنا من القول بأنهما سبقا إلى فكرة دوران الأرض، وأن السافلين لذلك بعض من علماء اليونان والعرب؛ فقد كان فيثاغورس يعلم تلاميذه على طريقة حركة الأرض، وكان هذا قبل المسيح بخمسمائة سنة، ثم أتى بعده بطليموس ورمى بهذه الفكرة عرض الحائط وقال بسكون الأرض ودوران الشمس حولها؛ واشتهرت هذه النظرية كثيراً وأخذها الكثيرون من علماء اليونان والعرب، وعجب بعض العلماء الفرنجة من قبول البيروني لهذه النظرية ومن أخذ الفارابي وابن سينا بها. ولقد وجد في العرب من لم يأخذ برأي بطليموس ومن قال بدوران الأرض حول
الشمس. جاء في (المواقف) للعلامة عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الذي ظهر في القرن الثامن للهجرة ما يلي (. . . الحركة اليومية (ويعني حركة الشمس) لا توجد، إنما تتخيل بسبب حركة الأرض، إذ يتبدل الوضع من الفلك دون أجزاء الأرض، فيظن أن الأرض ساكنة والمتحرك هو الفلك، بل ليس ثمة فلك أطلس، وذلك كراكب السفينة فانه يرى السفينة ساكنة مع حركتها حيث لا يتبدل وضع أجزائها منه، وكذلك يرى القمر سائراً إلى الغيم حيث يسير الغيم إليه. وهذا كله من غلط الحس. .)
من هنا يتبين أن عضد الدين سبق كوبرنيكس في القول بفكرة دوران الأرض ومهد السبل لكوبرنيكس وغاليلو للتوسع في هذه الفكرة ولاستعمال المعادلات والأرقام في ذلك.
الرقاص:
لقد ثبت لدى بعض علماء الفرنجة أن العرب سبقوا غاليلو في اختراع الرقاص وفي استعماله في الساعات الدقاقة. جاء في تاريخ العرب لسيديو ما يلي (وكذا ابن يونس المقتفي في سيره أبا الوفاء البوزجاني ألف في رصد خانته بجبل المقطم الزيج الحاكمي واختراع الربع ذا الثقب وبندول الساعة الدقاقة. . .)
واعترف سارطون وسدويك بأن العرب استعملوا الرقاص لقياس الزمن، وفوق ذلك عرف العرب شيئاً عن القوانين التي تسيطر عليه. قال سمث العالم الأمريكي الشهير (ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين بن يونس لاحظه وسبقه في معرفة شيء عنه. وكان الفلكيون يستعملون البندول لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد. .) فهم بذلك مهدوا السبيل لغاليلو لاستنباط كل القوانين التي تسود الرقاص، إذ استطاع أن يجد أن مدة الذبذبة تتوقف على طول البندول وقيمة عجلة التثاقل وأن يضع في ذلك في قالب رياضي بديع، ومن هذا الوضع توسعت دائرة استعماله وجنى الفوائد الجليلة منه.
اللوغارتمات:
ثابت لدينا أن نابيير هو الذي أخترع أساس اللوغارتمات وأنه أول من عمل الجداول لذلك، ولا يمكن أن تجد اثنين يختلفان فيه. وقد كنت اعتقد أن هذا البحث من الرياضيات لم يمهد له أحد، وأن الرياضيين الذين سبقوا نابيير لم يصلوا في بحوثهم إلى معرفة شيء عنه،
وأن هذا الفرع بقى مجهولاً إلى أن جاء نابيير وفكر في إيجاد طرق لتسهيل أعمال الضرب والقسمة فوفق إلى اختراع اللوغارتمات. هذا ما كنت أعتقده، وهذا ما لا يزال يعتقده الكثير من علماء الرياضة والتاريخ؛ ولكن لدى قراءتي لبعض الكتب القديمة التي تتعلق بالرياضيات، ولدى تصفحي لكتاب يبحث في تراجم بعض علماء الفلك والرياضيات وجدت أن ابن حمزة المغربي الذي ظهر في القرن الحادي عشر للميلاد استعمل في بعض بحوثه عن المتواليات الهندسية طرقاً تقرب من اللوغارتمات، إذ لو استعمل مع المتوالية الهندسية سلسلة عديدة تبدأ بالصفر واتخذ الحدود في هذه أساساً لنظائرها في جدول المتواليات الهندسية لكان اكتشف اللوغارتمات التي أوجدها نابيير بعده بأربع وعشرين سنة.
والحقيقة التي أود الإدلاء بها أنه ما دار بخلدي أني سأقرأ بحوثاًكهذه لعالم عربي كابن حمزة تمهد السبل لاختراع اللوغارتمات وتكون الخطوة الأولى في وضع أساسه.
الجاذبية:
تقرن كلمة الجاذبية باسم اسحق نيوتن العالم الإنكليزي الشهير، فهو الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية في قالب لم يسبق إليه، إذ استعمل فيها الأرقام والمعادلات. ولكن هذا لا يعني أن نيوتن لم يسبق إلى فكرة الجذب والجاذبية فقد قال في ذلك بعض علماء اليونان والعرب، فاعترف سارطون بأن للعرب بحوثاً في الجاذبية وأن الخازن وثابت بن قرة وموسى بن شاكر وغيرهم قالوا بالجاذبية ووضعوا بعض قوانينها. قال ثابت بن قرة (إن المدرة تعود إلى السفل لأن بينها وبين كلية الأرض مشابهة في كل الأعراض، أعني البرودة والكثافة، والشيء ينجذب إلى أعظم منه) وقد شرح محمد بن عمر الرازي هذه العبارة في أواخر القرن السادس للهجرة، فقال (إنا إذا رمينا المدرة إلى فوق فإنها ترجع إلى أسفل، فعلمنا أن فيها قوة تقتضي الحصول في السفل، حتى إنا لما رميناها إلى فوق أعادتها تلك القوة إلى أسفل. .)
أليس في هذا تمهيد لفكرة الجاذبية؟ أليست مباحث محمد بن موسى في حركة الأجرام السماوية وخواص الجذب سابقة لبحوث نيوتن، وهي الخطى الممهدة للتوسع في قانون الجاذبية؟ ألا ترى معي أن اكتشاف أبي الوفاء البوزجاني، الذي ظهر في القرن العاشر
للميلاد، في بعض أنواع الخلل في حركة القمر دليل على أنه كان يعرف شيئاً عن الجاذبية وخواص الجذب؟ من هنا يظهر أن علماء العرب (وقد يكون من قبلهم اليونان) سبقوا نيوتن في البحث عن الجاذبية. قد يعترض على هذا القول كثير ولكن لدى إنعام النظر يتبين أن الاعتراض في غير محله فنحن لا ندعي بأن العرب أو (غيرهم) وضعوا الجاذبية وقوانينها وما إليها في الشكل الرياضي الطبيعي الذي أتى به نيوتن، إنما جل ما في الأمر أن العرب أخذوا فكرة الجذب عن اليونان وزادوا عليها ووضعوا بعض القوانين لسقوط الأجسام. ثم أتى بعد ذلك نيوتن وأخذ ما عمله غيره في هذا المضمار وزاد عليه، وبفضل ما وهبه الله من العبقرية وما اتصف به من المثابرة والثبات واستطاع أن يضع الجاذبية بالشكل الذي نعرفه مما لم يسبق إليه، ولا شك أن له في ذلك فضلاً كبيراً جداً، ولكن هذا لا يعني تجريد العرب ومن قبلهم اليونان من الفضل، فلواضع الأساس في علم من الفضل ما للمكتشف أو للمخترع فيه.
مرض الانكلستوما:
إذا قلنا الدكتور محمد خليل عبد الخالق ومعنى ذلك أنه من الأطباء النادرين الذين يعنون بما جاء في الكتب الطبية القديمة ومن القليلين الذين يهمهم تطور الاكتشاف في الأمراض والعوارض التي تصيب الإنسان. وزيادة على ذلك فهو من المجددين في علم الطب، ومن الذين يعرفون كيف يقومون بواجبهم الإنساني على وجه كامل، ولسنا فيما نقوله مبالغين، بل قائلين الحقيقة ومقررين الواقع. لقد علق الدكتور حرسه الله على مقال لي نشرته في مجلة الرسالة عنابن سينا بما يلي:(. . . وأود أن ألفت النظر إلى أنابن سينا أول من اكتشف الطفيلية الموجودة في الإنسان المسماة الآن بالرهقان أو مرض الانكلستوما. وقد كان هذا الاكتشاف (القانون في الطب) في الفصل الخاص بالديدان المعوية، وهذه العدوى تصيب الآن نصف سكان العالم تقريباً.
وقد بلغ ما كتب عن هذا المرض من المقالات والكتب إلى سنة 1922، (50000) مرجع عنيت بجمعها مؤسسة ركفلر بأمريكا. وقد سمىابن سينا هذه الطفيلية باسم (الدودة المستديرة) وقد كان لي الشرف في سنة 1922 أن قمت بفحص ما جاء في كتاب القانون في الطب عن الديدان المعوية، وأمكنني أن أقوم بتشخيصها بدقة، وتبين من هذا أن الدودة
المستديرة التي ذكرهاابن سينا هي ما نسميه الآن بالانكلستوما، وقد أعاد اكتشافها ذوبيني في إيطاليا سنة 1838 أي بعد اكتشاف ابن يسنا عنها بتسع مائة سنة تقريباً. وقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، وكذلك مؤسسة ركفلر كما يرى من المراجع المذكورة بعد. وكذلك كتبت هذا ليطلع عليه الأدباء ويضيفون إلى اكتشافاتابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو من الأمراض الكثيرة الانتشار في العالم الآن).
فإذا كان الدكتور محمد خليل بك كتب هذه القطعة ليطلع عليها الأدباء فقط فأنا أعيد كتابة ما كتبه ليطلع عليه العلماء والأدباء والباحثون وتلاميذ المدارس العليا وغيرهم. ومن مقال الدكتور يتبين أن العرب لم يمهدوا فقط لمرض منتشر، بل قد سبقوا غيرهم في اكتشافه وفي معرفة الشيء الكثير عنه.
ولا يسعني قبل الختام إلا أن أشكر الدكتور على اهتمامه بالتراث العربي والإسلامي في كشفه ناحية كانت غامضة ومحاطة بسحب من الإبهام، وفي فتحه باباً ظل مغلقاً قروناً عديدة، جزاه الله خيراً وأبقاه ذخراً.
نابلس
قدوري حافظ طوقان
من ذكريات الصبى
أول حب
للأديب حسين شوقي
كان أول حب سنة 1918 أثناء المنفى في إسبانيا. . كنا نقضي صيف ذلك العام بغرناطة في الغابة الجميلة التي تحيط بقصر الحمراء الشاهق، حيث كانت ثريا حظية الملك أبن الأحمر المنعمة المد لله تمرح بين النرجس والياسنت. وكنا نقيم في فندق شيد في الغابة نفسها حيث يستطيع الزائر أن ينعم بالراحة والسكونمع بقاءه بالقرب من ذلك القصر العربي المجيد، وكانت هذه الغابة التي غرست فوق رابية، تطل على مدينة غرناطة بمنظرها الرائع وضواحيها الفاتنة. . وكنا في أوائل فصل الصيف، فلم يحضر إلا قليل من السياح، فلم يكن بالفندق غير أسرة أحد كبار الضباط الأسبان وأسرتنا؛ فما لبثت الأسرتان أن تعارفتا بعد زمن قليل. . كان أهلي يقضون أوقات طويلة مع الضابط وزوجته يتحدثون عن جمال الطبيعة في هذا المكان: سكون الغابة، صفاء المياه التي تترقرق في الجداول الآتية من جبل (الشيرا) الذي يشرف كذلك على الحمراء وقد جلل الثلج رأسه صيف شتاء. .
أما أبي فقد وجد في الضابط سميراً أنيساً، لأن الرجل كان برغم تربينه الحربية واسع الاطلاع على الأدب والتاريخ. . كما كان يشارك والدي في توجعه على تلك المدينة العربية الأندلسية العظيمة التي أضاءت العالم الغربي حقبة من الزمن، حين كانيتخبط في دياجير الجهل والهمجية، ثم ما لبثت أن اختفت فجأة في فوضى الوجود. .
وكان هذا الضابط أسمر البشرة إلى حد يلفت النظر، وقد قال له أبي مرة إنه لابد أن يكون من أصل عربي، فأمن الضابط على قوله ذاكراً في شيء من الزهو أنه عربي من بني أمية الأمجاد كما تثبت ذلك شجرة نسب أسرته، إذ كان من النبلاء. .
أما أنا، وكان عمري إذ ذاك ثلاثة عشر عاماً، فما كنت أحفل ببني أمية ولا بغيرهم، بل كنت أقضي الوقت في الغابة أبحث عن فراشة جميلة أضمها إلى مجموعتي.
كانت تعاوني في مهمتي هذه بنت الضابط الصغرى، إذ كان له بنتان: إحداهما في العاشرة وكانت مع الأسف دميمة، ومع ذلك كنت أصطحبها في جولاتي خلال الغابة لافتقاري إلى
رفيق. . أما أختها الكبرى فكانت في مقتبل العمر، وهي آية في الحسن، ببضاضتها ولونها الخمري، وعينيها السوداوين الصغيرتين الحادتين، ووجهها الذي يبسم دائماً كأنه أيام الربيع. . .
وكانت هذه الفتاة الرشيقة التي تسمى خوانا، وكان أهلها يدعونها خوانيتا (تصغير خوانا) - تدليلاً ومحبة - تتكرم أحياناً بمصاحبتنا في رحلاتنا. . عندئذ كنت أحس بسعادة عظيمة تغمر قلبي وجداني، لابد أني كنت أحب خوانيتا حباً جماً إذ ذاك، فقد فقدت يوماً شالها الحريري الصغير الذي كانت تلف به عنقها في إحدى هذه الرحلات، فأخذنا نبحث عنه - نحن الثلاثة - حتى عثرت عليه أنا معلقاً على جذع شجرة، ولكني بدلاً من أن أرده إليها ألفيت نفسي أقبله، ثم وضعته خلسة في جيبي لأحتفظ به. كم كان طيباً عبيق هذا الشال! وكيف لا يكون وقد أحاط بجيد محبوبتي خوانيتا، وتنسم عبيق غدائرها الساحرة؟ وكنت في الليل حينما أرجع إلى مخدعي وتتراءى لي صورة خوانيتا فتطرد عني النوم أضم إلى صدري هذا الشال فيهدئ وجوده أعصابي ويجلب لي النوم والراحة.
أردت مرة أن أقدم إليها هدية مدفوعاً في ذلك بحب الصبا الجنوني، ولكن ما الذي كنت أستطيع أن أقدمه إليها ونفقة جيبي ضئيلة لا تزيد في الشهر على ثلاثين فرنكاً إسبانياً؟ عندئذ قمت بهذه التضحية: أعطيتها مجموعة الفراش التي عانيت المشاق في جمعها!
أما خوانيتا فلم تكن مع الأسف تشاركني هذا الحب. . . كم كنت أحمق حين ظننت أن فتاة كخوانيتا في العشرين من عمرها تبادل صبياً في مثل سني الحب؟ على أن خوانيتا كانت تجد تسلية كبيرة في التظاهر بحبي، فتلعب معي أدواراً مؤلمة. . فمن ذلك أنها كانت تحتفظ بيدي في يدها - أثناء الرحلات - فكنت إذا ما عدت إلى الفندق لا أغسل تلك اليد طول النهار، حتى أحتفظ براحة خوانيتا فيها، كما كنت أشمها وأقبلها خلسة من وقت إلى آخر. . .
وكانت خوانيتا ترسل إلي أحياناً بعض تلك النظرات التي لا يقوى على مواجهتها قديسو إسبانيا جميعاً! وصار أهلها الذين علموا هذه الخدعية منها ينظرون إليّ بعين ملؤها العطف، بل كانوا يضطرونها أحياناً إلى مرافقتي في الغابة مع أختها. . وا أسفاه! لم أعرف الكوميديا التي كانت تلعبها خوانيتا إلا قبل رحيلنا من غرناطة بأيام قليلة! أيها القدر
القاسي لماذا لم تترك لصبي مثلي لذته الموهومة وسعادته المزعومة؟ لماذا لم نرحل قبل إطلاعي على هذه الحقيقة المرة؟ وإليك كيف عرفت الخدعية:
كان أحد باعت الحلوى المتجولين يمر أمام الفندق من حين إلى حين. . فنزلت ذات يوم أشتري منه شيئاً من الشكولاته لخوانيتا وأختها، كما كنت أفعل مراراً، فلما عدت إلى الفندق وصعدت إلى الحجرة التي كانت تجلس فيها الشقيقتان، وجدت بابها مفتوحاً وسمعت خوانيتا تضحك مع شاب غريب (هو ابن عمها كما علمت ذلك فيما بعد) وإذا بها تخبره بقصتي بصوت جهير ولهجة ساخرة، وتذكر له كيف كانت تلعب بعواطفي. . عندئذ سقطت الشكولاته من يدي المضطربة، وأحسست نفسي تذوب كما يذوب تمثال من الثلج تحت أشعة الشمس الحادة!
كرمة ابن هاني
حسين شوقي
من شعر الشباب
عيد الجهاد
للأستاذ محمود الخفيف
تزيد صباحه الذكرى جلالا
…
وقد لبست به الدنيا جمالا
ترى في أفقهشفقاً خضيباً
…
ترقرق في جوانبه وسالا
دم الأحرار ألبسه وشاحا
…
يتيه به على الزمناختيالا
تخذناه من الأيام عيدا
…
هو النيروز والأضحىمثالا
عقدنا حول مفرقه صليبا
…
وفرق مسيل غرته هلالا
صباح تسفر الآمال فيه
…
فتجتاح التردد والملالا
يزيدالسلمُ ساحته وقارا
…
ويبسط في جوانبها الظلالا
ترفرف فيه أرواح الضحايا
…
وتقرؤنا التحية والسؤالا
تطل من الغمائم سابحات
…
خوافق تسبق الريح انتقالا
تطوف بكعبة الوادي خفافا
…
ولا تبغي عن الركن ارتحالا
تقبل حائط الحق ابتهاجا
…
وتملأ ساحة البيت ابتهالا
وتمسح منبراً ولدت عليه
…
عقيدتنا وكان لها مجالا
ترى نور القضية في ذراه
…
وتسمع صوتها سحراً حلالا
وتلمح من جلال الغار ظلا
…
ومن طهر الحطيم له خِلالا
تطالع وجه حسَّان لديه
…
وتسمع في مشارفه بِلالا
سيطوي الدهرَ حائطه المفدى
…
ويُفنى رأسُه العالي الجبالا
رعى الموْلى على الأجيال يوما
…
بدأنا فيه للحق النظالا
سيوف الظافرين به نشاوى
…
ونار البطشتشتعل اشتعالا
دعا داعي الجهاد به فسرنا
…
ولم نخش الأسنة والنصالا
سل الحرية الحمراء عنا
…
ألم نوسع أعادينا قتالا؟
ألم نرخص به المهج الغوالي
…
ونملأ جانب الدنيا صيالا؟
ألم نبذل غداة الروع أمنا
…
وأبناء وأقواتاً ومالا؟
ولم نرهب من المحتل بطشا
…
وإعداماً ونفياً واعتقالا
تطوف الشائعات بنا فنمضي
…
إلى الميدان لا نألو نزالا
يقاسي شيخنا في الأسر ظلماً
…
ولكن لا يحس له كلالا
يريهم في صلابته مثالا
…
من الإيمان ظنوه محالا
وقد ألفوا من الشرق انقياداً
…
لسيفهمو وذلا وامتثالا
وكان أعز بالأعزال جندا
…
وأرهف من أسنتهم مقالا
لقد ترك الأماثل من بنيه
…
وحمل راية الحق الشبالا
فما وهنوا بمصر وما استكانوا
…
وخاضوا الموت أياماً طوالا
يُتوج هامهم شرف وفخر
…
وإن جال الردى فيهم وصالا
وأعظم ما تكون الحرب هولا
…
إذا الأحرار شنوها سجالا
سأذكر ما حييت صباح يومٍ
…
كسته شمس آذار جمالا
سلخت من السنين لديه تسعاً
…
نعمت حيالها باللهو بالا
ولكني صحوت على هتاف
…
وألحان وأسماء توالى
رأت عيني الغريرة مهرجاناً
…
قد انتظم الأوانس والرجالا
مشى الشبان إثرهم جموعا
…
خفافاً في مواكبهم عجالا
يجيبون النداء ولم يحسوا
…
لما هتفوا به إلا خيالا
وأعذب ما يكون الحق صوتا
…
إذا هتف الشباب به ارتجالا
ولن أنسى وجوهاً سافرات
…
وكانت قبل غضبتها وجالا
وصوتاً رن في الوادي جنونا
…
وقبل اليوم لم يعدُ الحجالا
يزيد حنانه الأبطال عزما
…
ويمسح وقعه دمع الثكالي
كسا الدم باطن الأيدي خضابا
…
وصاغ العزم في الوجنات خالا
فلا يدري العدو إذا التقينا
…
أيخشى الليث أم يخشى الغزالا
بني مصر تعالوا حدثوني
…
أنرضى اليوم ما نلقي منالا؟
وهل نلنا سوى الدستور مما
…
أردناه لنهضتنا مآلا
أخذناه جهاداً واجتهاداً
…
ولم نأخذه نوماً واتكالا
ولكنا فقدناه رضيعا
…
وكان الفقد غدراً واغتيالا
وما أدري غداة بدا سناه
…
أكان حقيقة أم كان آلا
أعيدوه إلى مصر غلاما
…
فقد لج الحنين بها وطالا
سيبلغ في حضناتها صباه
…
ويضمن في رعايتها الكمالا
تواصوا بالوفاء له وسيروا
…
كفانا في قضيته مطالا
رأيتم كيف عاقبة التلاحي
…
وكيف قضيتمو العهد اقتتالا
تنابذتم ودب الخلف فيكم
…
فنمتم عن عدوكُم اشتغالا
ولولا يقظة الأبطال منكم
…
جنينا من ترامينا الوبالا
ولم أر كالخلاف بمصر عيبا
…
ولم أر مثله داء عضالا
ترجي مصر فينا اليوم خيراً
…
وترتقب الصنيعة والفعالا
شهدتم أظلم الأحكام عهداً
…
وذقتم أسوء الأيام حالا
شربتم ماءه بالأمس صابا
…
خذوه اليوم معسولاً زلالا
المعجزة
أو السهم الأخير
للأستاذ سيد قطب
مَنَحْتني اليومَ ما الأقدارُ قد عجزتْ
…
عن منحِهِ، وَتَنَاهى دونَه أَملي!
منحتِني الحبَّ للدنيا التي جَهِدتْ
…
في أن تُميلَ لها قلبي فلمْ يَمِلِ!
وكلما قرَّبتني قلت: خادعةٌ!
…
وكلما طمأنْتني، قلتُ: وا وجلي!
ويغمُر الشكُّ نفسي كلما كَشَفتْ
…
عن فَاتِنٍ مِن حُلَاها، غير مبتذَلِ
حتى خسرتُ من الأيَّامِ ما غَبرت
…
به السنونُ، وحتَّى عقَّني أجلي
واستَلْهَمَتْ هذه الدنيا طبيعتَها
…
في مُعْجِزٍ من قواها، قاهر، حان
فأبدعتْكِ جمالاً كلُّه ثِقةٌ
…
يؤلف الحبَّ من وحيٍ وإيمان
وأودعتْكِ رحيقاً من خلاصتِها
…
ومنبعِ السحرِ فيها جدّ فتّان
وأرسلتْكِ يقيناً في طلائِعِها
…
منيرةً في دُجى عقلي ووجداني
فكنتِ آخرَ سهمٍٍ في كِنَانَتِهِا
…
وكُنتِ مُعجزةً من خَلْقِ فنانِ
والآن أخلصُ للدنيا وأمنحُهَا
…
حبِّي، وأدركُ ما فيها من الفتن
والآن أنظرُ للدنيا وأنتِ بها
…
كعاشقٍ، بهواها جدَّ مُفْتَتِنِ
والآن أعمل للدنيا على ثقةٍ
…
بأنني قلبها الخفَّاق في الزمن!
والآن أنصتُ للدنيا فيطربني
…
من صوتِها العذبِ لَحْنٌ ساحِرُ الَّلحنِ
لكِ الحياةُ إذنْ ما دمتِ مانحةً
…
لِيَ الحياةَ بلا أجرٍ ولا ثمن!
صرخة الألم
بقلم فريد عين شوكه
تعالَ نجددْ عهود الغرامِ
…
ونُحْي لياليَهُ الماضيه
لياليَه الطيباتِ العذابَ
…
وساعاته الحلوة الغاليه
وحيدَيْن فوق ضفاف الغدير
…
وتحت خمائله الضافيه
يرفُّ علينا مَلَاك الهوى
…
كما رفَّت الزهرة الناديه
ويسمِعُنا من سماء الخلود
…
أناشيده العذبة الحاليه
تُهدْهِدُ أشواقنا الصارخات
…
وتسكن أوجاعنا النازيه
وتسري مع الدم بين العروق
…
فتروي جوانحنا الصاديه
تعال فقد عصفت بي النوى
…
كما تعصف الريح بالجاريه
وراحت تمرِّغ في مهجتي
…
مخالبها الصلبة القاسيه
فخلَّت فؤاديَ جمَّ الجراح
…
وألقت به جثة داميه
تعال ودَع كل لاح مهين
…
يرى الحب أسطورة باليه
فلو عرف المرء معنى الهوى
…
وشاهد فيه النوى ماهيه
وذاق لديه نعيم الجِنَان
…
وكُبْكِبَ في ناره الحاميه
وهبت عليه رياح الظنون
…
وثارت به الغيرة الطاغيه
لما عاش يعبث بالمغرمين
…
ويزري بشكواهم الباكيه
هو الحب لولا يداه اللتان
…
تفيضان بالرحمة الهاميه
لما عرف الناس معنى السلام
…
ولا قدَّسُوا روحه الساميه
كتاب بعثت به للحبيب
…
قلائد من مهجتي الحانيه
فألقاه منتثراً في الطريق
…
كما تُنْثَر الزهرة الذاويه
كأني به تحت عِبءِ القُمامة (م)
…
يشكو إلى ربِّه راميَه. .!!
فريد عين شوكه
العلوم
خلق النظام الشمسي
نظرية جينز في أصل السدم والنجوم وتكون نظامنا الشمسي
بقلم فرح رفيدي
قبل 300 سنة، ولمدة ألفي سنة تقريباً، كانت الأرض تدعى سلطانة هذا الكون العجيب، وسيدة العالم كله، ومحور دوران شموسه الكثيرة. وقد جعلت ملكة الكون من أبنائها، لا لأنها كانت أهلاً لهذا اللقب، أو لأنها حقيقة كانت في ذلك المحل الرفيع من الكون، بل لأن أبناءها اغتروا بأنفسهم كثيراً، وحسبوا لوجودهم حساباً كبيراً، فاعتبروا مسكنهم مسكناً عظيماً يليق به أن يكون مركز الكون وأهم موضع فيه. والصواب أنهم لم يرعوا عن غيهم، ولم يضعوا أنفسهم في المقام الجدير بهم إلا منذ 30 أو 40 سنة فقط، لما عرفوا أن أرضهم هذه هي أقل من جزء من المليون من الذرة الصغيرة، بالنسبة إلى الكون كله، وأن الشمس هي بمقدار هذه الذرة فقط، وأن الإنسان نفسه هو أيضاً بمقدار يكاد لا يذكر.
لنفرض أولاً ثلاثة أشياء نسلم بصحتها، ودون أن نكلف أنفسنا مشقة الخوض في برهانها وإثبات حقيقتها.
أولاً: المادة مركبة من ذرات مكهربةتكهرباً إيجابياً وسلبياً، بروتونات وإلكترونات ، وفي حركة دائمة، وبما أن الكهربائية تيار من الإلكترونات وحالة من أحوال الطاقة كذلك المادة هي مظهر طاقة، يمكن تحويلها لحرارة أو ضوء، كتحويل الشهب لحرارة أثناء احتكاكها السريع بدقائق الهواء.
ثانياً: كل ذرة في الكون تجذب كل ذرة أخرى بقوة تختلف عكسياً بحسب مربع المسافة بينهما، وطردياً بحسب حاصل كتلتيهما فكل ذرة في الشمس تجذب كل ذرة في الأرض، وكل شيء على الأرض له تأثير على كل نجم في السماء، وهكذا لا يمكنني أن أضرب بيدي على المنضدة دون هز النجوم من مواضعها؛ ولكنه هزٌ ضعيف جداً، لا يدرك ولا بأدق الملاحظات، وهو ضعيف بمقدار صغر كتلة يدي بالنسبة إلى كتل الكواكب كلها.
ثالثاً: المواد المتركبة منها الكواكب والشمس كالمواد المتركبة منها الأرض، ولكنها في
الأولى تحت ظروف تختلف فيها تبعاً للحرارة والضغط.
في البدء قبل أن تكون شمس أو نجوم أو أي ضوء آخر، وكانت الظلمة تخيم على سكون عميق في كل أنحاء الكون، كانت دقائق المادة الصغيرة مبعثرة ومنتشرة انتشاراً متساوياً على أجزاء الفضاء كله، وكانت البروتونات والإلكترونات تجئ وتذهب هنا وهناك في كون لا نظام فيه ولا قانون يضبطه، وكل شيء كان في ظلام دامس من فوضى الطبيعة وفي حالة غير مستقرة وعلى وشك الانقلاب لأقل حركة تبدو فيه. كان الكون حينئذٍ عديم التوازن، كقلم أوقف على رأسه، أقل اهتزاز بغير وضعه إلى وضع ثابت أكثر اتزاناً أو كآلة تحتاج إلى من يحركها، أو كدولاب على وشك الانزلاق، يحتاج لدافع يدفعه لينطلق بدورانه انطلاقاً، كان بحاجة إلى يد الله تسري فيه تياراً من ذلك الغاز المنتشر، حتى يندفع بأجمعه لأن يخلق نفسه بنفسه، وتكون حاله إلى ما هي عليه الآن.
لا نعرف كيف أو أين ابتدأ التيار، ولكن أسباب ما جرى تشويش في نظام الطبيعة، حينئذٍ جعل ذلك الغاز يتجمع ويتضام ويكون من نفسه كتلاً ، كبيرة وصغيرة وفي أماكن مختلفة من الفضاء، والكتل الكبيرة بعظم ما تجمع لها من المادة صار لها قوة جذب كبيرة قدرت بها أن تجمع أكثر من الغاز الذي حولها، وتتغلب بها على سرعة الذرات من أن تهرب. وحجم الكتلة يتوقف على شيئين: ثخانة الغاز وسرعة ذراته. ففي الغاز الخفيف تكون سرعة التيار ومدى توسعه أكثر من سرعته ومداه في الغاز الثقيل ولذلك تكون كمية المادة المتجمعة أكبر. وإذا كانت سريعة فإنها لا تنقاد لكتلة صغيرة لضعف جاذبيتها، كخروج ذرات الهواء عن طاعة القمر لقلة جاذبيته بالنسبة لسرعة الذرات. ففي غاز معلوم الكثافة وسرعة ذراته يكون فقط كتلاً لا ينقص الوزن فيها عن حد معين. وإن كان بعض الكتل صغيراً إلى حدٍ أن يمنعها من ادخار جاذبية كافية تقاوم بها سرعة الذرات الهاربة، فإنها لا تلبث أن تتلاشى وتنتشر في الفضاء كما كانت. والكبيرة بعكس ذلك، فان كبرها يزيد في قوة جاذبيتها التي تزيد في مادتها وحجمها، فكلما كبرت الكتلة كان طبيعياً فيها أن تتجمع وتكبر وتزداد مادة وقوة، وكلما صغرت ساعدت الأحوال على عكس ذلك.
حسب هبل أحد الفلكيين أنه إذا انتشر كل غاز النجوم في
الفضاء انتشاراً متساوياً في جميع جهاته، فإن كثافة ذلك الغاز
حينئذ تكون قدر كثافة الماء بـ (10) 300 مرة ووجد أيضاً
أن سرعة الذرات في حالتها تلك تكون حول 500 ياردة في
الثانية، فوجد من ذلك أن وزن كل كتلة من الكتل المتكونة
بواسطة التيار أكبر من وزن الشمس بمقدار يتراوح من 21
62 مليوناً إلى 400 مليون مرة، وعندا اكتشاف الفلكيين اليوم
لوجود آلاف من الأجسام التي لها هذا الثقل تحقق جيداً: أن
هذه السدم التي نراها اليوم هي ذات كتل التي تكونت بتأثير
ذلك التيار الابتدائي الذي حدث بين دقائق الغاز الأول.
وكانت هذه السدم التي تكونت مختلفة الحجم والشكل، وكان شكل الواحدة مترتباً على متجه التيار الذي أحدثها. فان اتجه التيار إلى المركز كان الشكل كروياً وبدون حركة. وإن زاغ الاتجاه عن المركز، وهو الأكثر حدوثاً، بدأت الكتلة بحركة دوران حول محور في وسطها. وللجسم الدائر صفة حفظ قوة الاندفاع الدوري وهي إن تقلص حجم الجسم يقصر طول قطره، فتزيد سرعة دورانه. وهكذا كان في أمر الكتل المتكونة حديثاً: زاد انكماشها بسبب جاذبيتها في سرعة دورانها أكثر فأكثر. وكان أثر ذلك الدوران أن حور شكل الكتلة من الكروي إلى شكل عدسي. وكما أن دورة الأرض سببت انبعاجها عند خط الاستواء وتفرطحها عند القطرين، كذلك ازدياد سرعة دوران تلك الكتل كان يزيد في تنظيمها إلى حدٍ بعيد. وكانت إذا زادت سرعتها أكثر من ذلك لا تزيد في تسطحها فحسب، بل تبدأ بقذف غاز من مادتها ينتشر حولها في المسطح الاستوائي انتشاراً متساوياً.
وهكذا حول كل كتلة تكون غاز خفيف. وله كالغاز الذي كون السدم نفسها صفة التجمع والتجزء إلى كتل تختلف قليلاً عن بعضها في الحجم والشكل، ولكنها أصغر من الكتل الأولى. وكما قدر العلماء رياضياً يتقارب وزن الواحدة منها من وزن الشمس ومعظم
النجوم اللوامع. وإذا أدرنا بصرنا بالتلسكوب إلى السماء شاهدنا السدم اللولبية الشكل تبتدي بوسط غازي وتنتهي أطرافها بمجموعة من النجوم، وذلك يدل على أن أصل تكون النجوم والشمس هو من السدم.
هذه النجوم الجديدة المنفصلة عن السدم الدائرة، بقيت دائرة مثلها لتحفظ قوة الاندفاع الدوري. وقد كانت ولا تزال للآن تشع في الفضاء بلا انقطاع كميات كبيرة من الضوء والحرارة تنبعث منها نتيجة لاحتراق مادتها في داخلها. فالشمس التي نستضيء ونستدفئ بها تخسر من مادتها في كل دقيقة تمر حوالي 250 مليون طن وهذه كلها تحترق وتتحول نوراً وحرارة، فجزء قليل جداً نستمده، والباقي يذهب هباء في الفضاء. ذلك يدل على أن حجم الشمس والنجوم يقل تدريجياً، وقلة الحجم هذه تقابلها سرعة في الدوران، وتبقى السرعة في ازدياد مستمر ما دام الإشعاع في النجم مستمراً، وإذا ازدادت السرعة في بعض النجوم الكبيرة فقد نقسمها إلى قسمين متعادلين أو غير متعادلين تماماً. وبهذه الطريقة نشأت النجوم المزدوجة
وقد نظن هنا أن منشأ الكواكب في المجموعة الشمسية حصل من دوران شديد في الشمس جعلها تفصل عنها هذه الأجرام حولها. ولكن الأمر غير ذلك، إذ لو قابلنا أوزان بعض النجوم المزدوجة بأوزان الكواكب السيارة، لوجدنا الفرق بعيداً، فأوزان الأولى تقرب من وزن الشمس، ووزن أحد الكواكب كالأرض أقل من جزء من المليون من وزن الشمس. وعلى ذلك فمن غير المحتمل أن يكون منشأ نظامنا الشمسي على هذه الطريقة.
لتعليل منشأ نظامنا الشمسي يأتي السر جينز بطريقته المعروفة بنظرية المد وهي أن يقترب نجمان مختلفا الوزن من بعض ويكون تأثير جاذبية الكبير على الصغير شديداً بأن يرفع على سطحه مداً من مادته الغازية كرفع القمر مياه الأرض بقوة جاذبيته. ولكن اقتراب النجمين ليس بالأمر الهين أو بالشيء الذي يقع مرة ويتكرر مرات، إذ أن عظم المسافات الشاسعة التي تباعد بين نجم ونجم، تجعل أمر الاقتراب شيئاً صعباً وبعيد المدى، وقد لا يحدث لملايين من السنين تمضي، ولكنه محتمل الحدوث ولو مرة في هذا الزمن الطويل.
دعنا نفرض مرور الملايين من السنين على شمسنا وهي سابحة في الفضاء وحدها بدون
رفيق أو رقيب، ودعنا نفرض أن هذه المصادفة، مصادفة الاقتراب بين نجمين حدثت، وحصل هذا الشيء البعيد الوقوع والنادر الحدوث بين شمسنا ونجم أخر، ومر هذا النجم بالقرب من الشمس دون تصادم أو احتكاك، وكان كبيراً بحيث كان تأثيره قوياُ عليها، فتأثير ذلك النجم، على رأي جينز، كان أن عمل على سطح شمسنا مداً ارتفعت فيه كمية كبيرة من الغاز، وتمددت طويلاً متتبعة جهة أبعاد النجم عن الشمس، فانفصلت عنها وتكونت بشكل سيكار ثخين في الوسط ودقيق عند الطرفين، وصار هذا الغاز المنفصل وسطاً لتجمع كتل صغيرة وكبيرة ومتوسطة بقدر ما يستوعب وتستجمع من المادة التي حولها. ولصغر هذه الكتل ضعفت فيها قوة انبعاث النور والحرارة، وانطفأت شعلتها النارية، فبردت وانخفضت حرارتها تدريجياً، وتحولت الغازات أمطاراً من سوائل المعادن على سطوحها، وتقلص حجمها الغازي إلى حجم سائلي، وعند انخفاض الحرارة أكثر تجمدت السوائل. وتحول بعضها إلى مواد صلبة قاسية وانكمشت السطوح كثيراً، وتجمدت، وتكونت أجساماً معتمة، لا مصدر للحرارة أو النور فيها غير ما تستمده من الشمس أو من بعض المواد المشعة في داخلها. وجعلت حفظاً للاندفاع الدوري تدور حول الشمس دورات مختلفة في البعد والوقت. وهكذا كانت الكواكب السيارة، منها عطارد وبلوتو في طرفي السيكار، والمشتري وزحل في وسطه.
وفي بدء خلق هذه الكواكب، وقبل اعتدال دوائرها وثباتها حول الشمس كما هي الآن كانت تدور بغير انتظام يربطها، أو قانون يوحدها. فكانت تارة تقترب، وتارةً تبتعد عن الشمس؛ فحدث في أثناء ذلك أنه بينما كانت الأجسام غازات ملتهبة، اقترب بعضها من الشمس إلى حد مكن الشمس أن تسحب من غازاتها كتلاً أخرى انفصلت عنها وكونت أقمارها ومن جملتها قمرنا.
وهكذا من فوضى الطبيعة الأولى تكونت السدم، والسدم من جراء دورتها حول نفسها تشتت غازها وانقسمت إلى أنجم، كل نجم منها قائم بذاته، وسائر في الكون بقوة حركته واندفاعه. ومن سرعة سير هذه الكواكب ابتعدت عن بعضها أبعاد شاسعة. تكاد تعدمها حقيقة وجودها، بالنسبة لسعة الفضاء وعظمته، وصار مجرد اقتراب الواحد من الأخر من قبيل المصادفة فقط. ولكن حدث أن اقترب نجم من شمسنا، وسحب منها غازات توحدت
وتجمعت كتلاً صغيرة وكبيرة. وتصلبت أجسامها وتحولت إلى كواكبنا السيارة هذه، ومن جملتها الأرض، وبمجرد اقتراب الأرض من الشمس انفصل جزء منها وكون القمر.
رام الله
فرح رفيدي
البريد الأدبي
الأدب المجري الحديث:
خواصه ومميزاته
نشرت (مجلة المجر الجديدة) مقالاً عن دور الشباب في تطور الأدب المجري المعاصر، فوصفت الخواص التي يتميز بها أدب الشباب سواء في الشعر أوالنثر؛ وقالت إن الأدب المجري الحديث يرجع إلى أواخر القرن الماضي، ويمتاز قبل كل شيء بالخروج عن النزعة (الغربية) التي بلغت ذروتها بالشاعر الكبير (آدي) أعظم شعراء المجر في القرن الماضي؛ كما أنه يمتاز بالإغراق في المظاهر الشعبية، والتعلق بالأصول الشقية للروح المجرية، والتأثر بالحياة الريفية.
ومع ذلك فإن أساس التطور الحديث في الأدب المجري، هو شعر (آدي)؛ ومن محقق الأدب المجري المعاصر، إذا راعينا أكابر الشعراء مثل يوسف أرديلي، ويوليا الياس، وآتيلا يوزيف، ولوران زابو وأكابر القصصيين مثل آرون تمازي ويوسف نييرو، يجوز مرحلة عود على البدء. وإنها لظاهرة جديدة فقط أن تتجه الأفكار إلى استكمال الأساطير القوية الجديدة، وإلى اعتبارات الجنس والأرض والتاريخ في نوع من المظاهر الشعبية الجديدة؛ والجيل الحاضر ينظر إلى التطور القديم بهذه الروح بينما يعمل على إحياء النزعة التي أشرنا إليها، ومن ثم كانت أعظم مصادر وحيه، السياسة والمجتمع؛ وكثير من شعراء العصر يرددون قول الشاعر يوتوتوس:(إن الشاعر الذي لا تهزه عواطف عصره، يمزق أعصاب غنائه)
وفي مقدمة شعراء هذه الطبقة يوسف أرديلي ويوليا إلياس. ومن يقرأ أرديلي في قصيدته الشهيرة (بلا صلاح) أو قصيدته (النجم الفريد) يشعر بأثر الرسالة التي يقول الجيل الشاب إنه يقوم بها. وليوليا إلياس قصة شعرية ظهرت أخيراً عنوانها (شباب)، وهي تفيض بالجمال الابتداعي والنزعة الغنائية، ومن نظمه أيضاً (ثلاثة شيوخ). وهو أشد من يمثل نزعة الجيل الجديد من حيث النزعة الغنائية والفردية، والطموح إلى استكمال التقاليد والتعلق بالتراث الشعبي.
ومعظم هؤلاء الشبان لا يعني بالشكل، وينكرون في نوع من التحدي أناقة اللفظ أو
ضخامته؛ وكثير منهم يجنح إلى القديم الساذج، وإلى الروى الشعبي، وشعرهم ينضح على العموم عن لون قومي قوي، وهم في الواقع (أبناء الشعب) ينشئون في مهاد (الفقر العذب)، وينزعون إلى بساطة اللفظ، وإلى التقاليد وإلى الأساطير وإلى كنوز الخيال الشعبي.
وأما النثر، فمن أقطابه يوسف نييرو القصصي الكبير؛ وهو كاتب ذو نزعة دينية إنسانية ترجع إلى تربيته الكنسية، فقد نشأ قساً، ثم حمله تيار الأدب. وهو ريفي النزعة من حيث المادة والوصف يصور لك الوطن المجري، ولا سيما وطنه (ترانسلفانيا) في صور قوية مؤثرة، ومن أشهر قصصه (تحت نير الله) وهي في الواقع قصة حياته الكهنوتية عرضت في قالب قصصي مؤثر؛ وله مجموعة أقاصيص شهيرة من أبدع ما أخرج الأدب المجري المعاصر.
ومن أقطابه آرون تمازي، وهو قصصي بارع ينزع إلى المأساة، ويلزم الطابع القومي العميق، وله مجموعة قصص تفيض سحراً وإنسانية عنوانها (كواكب ترسلفلنيا)، ومجموعة أخرى عنوانها (عصفور الصباح) يدعو فيها إلى المثل الأعلى. ومنهم جان كودولاني، وهو مصور بارع لمناظر القرية ومجتمعها. وكذلك زولتان ستنيا، فهو يصف في قصصه نجتمع الأعيان المنحل؛ وبول زابو، وهو كاتب ريفي محض وافر الطرافة والقوة.
والفرق قوي واضح بين ذلك الجيل وبين الجيل المنصرم الذي كانت تغلبه النزعة (الغربية). وليس الفرق متعلقاُ بالشكل فقط، بل هنالك ثمة صورتان مختلفتان، تمثل كل منهما ناحية من الروح المجرية؛ وإلى الأولى ينتمي أبناء الأعيان والموظفين الذين متى اضطروا إلى نبذ ترف هذه الحياة، لجئوا إلى عالم الكتب ليتخذوا منه سداً بينهم وبين حياتهم المسكينة، وينتمي إلى الثانية أبناء الفلاحين وطبقة الأعيان الريفية التي تقرب منهم والساخطون على هذا المجتمع، وهم الذين يزعمون أنهم رسل الإصلاح الاجتماعي، وعلى العموم فان البون شاسع بين الكتاب الجدد وبين الجيل القديم سواء من حيث النظر إلى العالم وإلى الحياة.
بسمات العدالة
عني كثير من المؤرخين والكتاب بالكتابة عن المآسي القضائية، والمحاكمات الجنائية الكبرى. ولكن أحداً منهم لم يعن بالكتابة عن (الكوميديات القضائية) والوقائع والمواقف
المضحكة التي تعرض أمام القضاء. وهذا ما فعله الكاتب الفرنسي (جيو لندن) الكاتب القضائي لجريدة الجورنال. وقد تخصص جيو لندن في كتابة الصور والأخبار القضائية منذ أعوام بعيدة، واشتهر بسحر أسلوبه ودقة ملاحظاته. وهو الذي يلخص أخبارالمحاكمات والقضايا الكبرى في جريدة (الجورنال). وفي كل عام يجمع أشهر المحاكمات والمآسي القضائية في مجلد خاص، ولكنه اختار هذا العام أن يترك المآسي والجنايات المثيرة، وأن بجمع المواقف القضائية الفكاهية في مجلد عنوانه (العدالة وبسماتها) وقد استقبل هذا السفر الظريف في دوائر النقد والأدب أحسن استقبال، ونوهت بما يضمه من الصور الساحرة والمواقف الشائقة، وبما يسود من قوة الملاحظة وخفة روح في العرض؛ فهناك أغرب القضايا المضحكة حقاً، وأغرب الشخصيات الساذجة التي تنسيك بسذاجاتها أحياناً خبث المجرم الخطر، وهنالك حيل النساء الماكرات تبدو واضحة أمام بساطة الرجل المتيم. وقد علق أحد النقدة على ظهور هذا الكتاب بقوله:(إنه يحمل على التفكير بأن التردد على جلسات القضاء يخلق منافسة قوية للمسرح الفكه؛ بل ربما كان ثمة عاملاً من عوامل الأزمة المسرحية؛ إن كانت ثمة أزمة).
جائزة نوبل الأدبية
ذكرنا في العدد الماضي أن جائزة نوبل للطب قد منحت لثلاثة من العلماء الأمريكيين. هم الأساتذة جورج نيوث، ووليم مورفي، وهوبل. ونذكر الآن أن جائزة نوبل الأدبية لسنة 1934 قد منحت إلى الكاتب والفنان الإيطالي السنيور لويجي بيراندللو وهو كاتب مسرحي تخصص في وضع القطع التمثيلية، وتنظيم المسرح؛ وأشهر رواياته قطعة عنوانها:(ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف)، اشتهرت في جميع المسارح الأوربية. والسنيور بيرادنللو في نحو السابعة والستين من عمره؛ وهذه هي المرة الثانية التي تمنح فيها جائزة نوبل للكتاب الإيطاليين.
أستاذ شرقي يعثر على مخطوطات عربية نادرة
نقل إلى الجامعة العربية من أمريكا أن الدكتور فيليب حتى من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت وأستاذ الآداب السامية في جامعة برنستن بأمريكا الآن عثر في أثناء بحثه
وتنقيبه في المخطوطات الموجودة في مكتبات أمريكا المشهورة على ترجمة عربية ضافية لبحوث كلوديوس جالينوس في التشريح والطب بين خمسة آلاف مجلد من المخطوطات العربية في مكتبة جامعة برنستن. ومما قاله الدكتور حتى في وصف هذه الترجمة (إنها من أندر وأنفس المخطوطات التي سجلت في الفهارس حتى الآن) والترجمة العربية مؤرخة في سنة 1174م وقد وضعها حنين بن أسحق المسيحي النسطوري وكان يعد إمام المترجمين من اللغة اليونانية في عصره.
وعثر الدكتور حتى كذلك على مخطوطة في علم التنجيم يستدل من الشارة المذهبة المرسومة على الصفحة الأولى منها أنها وضعت في الأصل للسلطان صلاح الدين الأيوبي وكانت في مكتبته، ويقول الدكتور حتى أن صلاح الدين نفسه كان يسترشد بهذه المخطوطة قبل إقدامه على منازلة الصليبيين في المعارك.
وعثر أيضاً على مخطوطة في الموسيقى قد تميط اللثام عن النغمات الموسيقية التي كان يستعملها العرب قديماً. وهذه المخطوطة مزينة برسوم، وقد وضعها الفارابي الموسيقي والفيلسوف المشهور في القرن العاشر.
وهناك مخطوطة عربية رابعة وجدها الدكتور حتى في جامعة برنستن وهي شرح ابن رشد فيلسوف الأندلس وأرجوزةابن سينا الطبية المشهورة لمؤلف طبي وصفه ابن جزله البغدادي في القرن الثاني عشر.
الكتب
الثورة العربية الكبرى
تاريخ مفصل جامع للقضية العربية في ربع قرن
تأليف الأستاذ أمين سعيد
هذا كتاب كبير يقع في ثلاثة مجلدات تبلغ في مجموعها ما يقرب من ألف وأربعمائة صفحة من القطع الكبير، وهو في وضعه الحالي يعتبر مرجعاً عظيماً للثورة العربية القومية منذ قيامها عقب الانقلاب العثماني 1908 إلى الوقت الحاضر. خشي المؤلف الفاضل الأستاذ أمين سعيد كما ذكر في مقدمة كتابه النفيس أن تنسى الثورة العربية وما تخللها من حركات وما أكتنفها من ملابسات (فتضيع معالمها وتطمس آثارها ويتعذر التأليف فيها فلا يجد الكاتبون العرب في المستقبل سوى رسائل مبعثرة أو مقالات منثورة أو كتب ألفت باللغات الأجنبية وقد وضعها واضعوها لخدمة غاية معينة).
لذلك تراه يضطلع بهذا العمل على ما فيه من صعوبات؛ فلابد له أن يدعم آراءه بالحجج والبراهين، وأن يسند براهينه بالوثائق والمستندات، وهذا كله مما لا يسهل جمعه وترتيبه. ولكن القارئ حين يتناول هذا السفر الجليل يحس بالدهشة لكثرة ما احتوى عليه من الوثائق والبيانات، هذا إلى ما حواه من الصور المتنوعة للأشخاص والحوادث.
ولقد قسم الأستاذ المؤلف كتابه تقسيماً جيداً فجعل المجلد الأول للنضال بين العرب والترك، يضم حوادث الفترة الممتدة من إعلان الدستور العثماني عام 1908 حتى قيام الحكومة الفيصلية في دمشق عام 1918، وجعل المجلد الثاني لتاريخ الحكومة الفيصلية من قيامها حتى سقوطها؛ ولقد أفرد به جزءاً كبيراً للثورة العراقية الكبرى وأدوارها مبيناً عوامل الثورة ومقدماتها وحروب الإنكليز في العراق والتصادم بينهم وبين الترك وما ترتب على هذا كله مع جلاء الحوادث والاهتمام بالتفاصيل كمن رآها رأي العين. أما المجلد الثالث فقد جعله لتاريخ القضية في الفترة الممتدة من عام 1921 إلى عام 1934، أورد فيه وصفاً وافياً لتاريخ إمارة شرق الأردن مع شرح القضية الفلسطينية والوطن القومي اليهودي وبيان أخبار الثورة السورية في اتصالها السياسي الداخلي بين السوريين والفرنسيين.
بذلك ترى هذا الكتاب الكبير قد اشتمل على عدة حركات قومية يتوق أبناء الشرق العربي إلى الوقوف عليها. ولعل من أعظم فوائد هذا الكتاب، أنه في طريقته المفصلة التي سار عليها، يعطي القارئ العربي فرصة نادرة ليقارن بين ما يسمعه من أحد أبناء الثورة وبين ما يشيعه عنها خصومها. هذا إلى أنه يكشف عن ناحية من نواحي نهوض الشرق عقب الحرب العظمى مبيناً إلى حد كبير وجهته وآماله.
ولقد راعى المؤلف الفاضل في كتابه التسلسل التاريخي للحوادث، وختم كل حلقة بملخص حلل فيه الحوادث تحليلاً مبيناً ما طرأ على القضية من تقدم أو تأخر.
وإني وإن كنت أرى اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة وسرده الحوادث الكثيرة المتنوعة أكثر من اهتمامه بالتعليق عليها وبيان مقدمتها ونتائجها، أقرر أن لطريقته هذه في موضوع كهذا متشعب النواحي محاسنها إلى جانب معايبها، فلقد هيأت للقارئ كما قدمت الفرصة ليكون لنفسه حكماً، وذلك خير مما لو اقتصر المؤلف على طائفة من الحوادث واهتم بإيراد رأيه والدفاع عنه، فان القارئ في هذه الحالة وخصوصاً من يجهل تفاصيل المسألة العربية يكون مقيداً برأيه أو على الأقل في شك منه.
وسيرى القارئ العربي في كتاب الأستاذ أمين سعيد كثيراً من مواقف التضحية والبطولة، وكثيراً من مواطن الهول والصراع العنيف مما يجعل للكتاب إلى جانب ناحيته التاريخية، ناحيته الجذابة القوية، فيقبل الأدباء على مطالعته في شغف واهتمام ولذة. وإني لأنتهز هذه الفرصة فأتقدم إلى الأستاذ أمين سعيد بأجمل الثناء على ما تجلى في مؤلفه الجليل من أريحية ووطنية وهو يمثل ذلك من شباب الأمة العربية الخليق.
الخفيف
الخط الديواني الملكي
للأستاذ مصطفى بك غزلان
رئيس التوقيع بديوان جلالة الملك
ازدهر الخط العربي في صدر القرن الماضي، وظهر في عالم الفن جمهرة من القادرين على إجادته وإتقانه، وكانت الأستانة يومئذ كعبة الآمال، ومرجع أفذاذ الرجال في الفنون
العربية الجميلة. بلغ من ولوعهم بهذه الصناعة أن تخذها الخلفاء والسلاطين مفخرة يفخرون بإجادتها وإحسانها، وزينة يدلون بها على أساتذتها وأساطينها، فكان السلطان (محمود) يجيد خط (الثلث)(وجلي الثلث) ولا تزال (لوحته) القيمة التي خطها بقلمه الجميل تحتل الصدر من (المسجد الحسيني). وصار على أثره السلطان عبد المجيد، فكان خطاطاً وسطاً لم يبلغ شأو أبيه. . . وله قطعة كبيرة تتصدر (القبلة) في ذلك المسجد.
تطاول الخط على سائر الفنون الجميلة منذ أحبه الخلفاء والسلاطين وعلت مكانته يوم أن فتحت قصور العواهل على رحباتها لكبار الخطاطين، يعلمون الخلفاء ذلك الفن الجميل.
ودام للخط العربي هذا الحظ الميمون، والآستانة تصدر إلى العالم العربي من سحره الفاتن وجماله الرائع، ما خلب اللب، واستولى على النفس، حتى وفد على القاهرة المرحوم عبد الله بك زهدي بدعوة من خديو مصر إسماعيل.
جاء ليكتب (الكسوة) بعد أن كتب الحرم النبوي الشريف، فلقي من لدن ولي الأمر التعضيد والتأييد.
وكان يومئذ في مصر نهضة مباركة، نشأت في شخص المرحوم محمد أفندي مؤنس، ولكنها كانت في حاجة إلى إذكائها وتنميتها، فطلع (زهدي) على الناس، بخط الكسوة وسبيل أم عباس، وتداولت الأيدي بعض نماذجه في الثلث والنسخ. فكانت بادرة سعيدة، صعدت بالمرحوم مؤنس إلى الذروة العليا من ذلك الفن البديع.
وكان الرجل خيراً بفطرته، فأخذ يذيع فنه على الناس ويعلمهم إياه، لا ينتظر أجراً ولا شكراً، فكانت داره يومئذ أشبه بمدرسة داخلية، يتعلم فيها الطلاب وينعمون بحديقتها الرحبة، بل يأكلون ويشرون.
ومن يومئذ بدأ الخط يتحول إلى القاهرة، وكانت العناية شديدة بإتقانه وأجادته، وكان له شأو رفيع وشأن جليل في المدارس الابتدائية والثانوية بله العالية.
تلك خلاصة موجزة بسطتها بين يدي القارئ، لأستطيع التحدث إليه عن فتح جديد في الخط العربي، طلع به علينا الفنان النابغة الأستاذ مصطفى بك غزلان رئيس التوقيع بديوان جلالة الملك.
فقد يعرف المتتبعون لتاريخ هذا الفن أن الخط الديواني نقل فيما نقل من الآستانة إلى
مصر، وكان خطاً خاصاً لا يعرفه عامة الشعب ولا يقرأه دهماء الناس، بل كان قاصراً على (الفرمانات الشاهانية)(والإرادات السنية)، التي تصدر عن السلاطين، إلى الولاة، ثم على براءات الرتب والنشانات.
ولما كانت مصر يومئذ تابعة للدولة العلية، وكانت تلك الدولة هي صاحبة الحق في منح هذه الرتب، وتلك النشانات فالبراءات إذن تأتي من دار الخلافة مكتوبة ممهورة بخاتم الدولة إلى أن رخص للولاة والخديوين بمنح الرتب المحدودة القيمة، يومئذ اختير لكتابتها بعض الأتراك الذين يعرفون هذا النوع، وهم قليل حتى في الآستانة؛ فقديماً كان كتاب آل عثمان يستأثرون بهذا النوع من الخط لأنه كان الخط الرسمي للباب العالي كما قدمنا؛ ومن ثم كانوا يعدونه من الأسرار الفنية التي لا تزاع لجمهور الخطاطين، ليكون مرجعها إليهم ومفتاحها بأيديهم، أما بقية الخطوط فلها نماذج مختلفة بأقلام أساطين الفن على اختلاف مراتبهم.
واليوم بفضل الرعاية الملكية، نستقبل نماذج الخط الديواني التي عكف على كتابتها وتنسيقها وتنميقها خطاط مصر الأكبر الأستاذ مصطفى غزلان بك، وأدخل عليها حسناً جديداً وذوقاً مصرياً خالصاً لا تلحظه فيما كتب بهذا الخط من الفرامانات القديمة.
وقد طبعها ديوان الأوقاف الملكية، على نفقة صاحب الجلالة الملك في مطبعة المساحة طبعاً دقيقاً أنيقاً جعل هذه النماذج في موضوعها وشكلها مظهراً رائعاً من مظاهر الفن الخالد الخالص.
في المصايف
بقلم إبراهيم عبده
للأديب إبراهيم عبده أسلوب رقيق وخواطر لطيفة يطالع بها القراء من حين إلى حين. وهذا الكتاب الذي أحدثك عنه قد انتظم الكثير من ملاحظاته وخواطره الطريفة في المصايف، وطبيعي أن تكون المصايف موضع حديث إبراهيم، فهي متلقى الناس من كل صنف ومن كل طبقة، وهي مجال واسع تقع فيه عين الأديب الناقد وخصوصاً من يهتم بالناحية الاجتماعية كالأديب المؤلف على كثير مما يثير خواطره ويرسل قلمه. افتتح
المؤلف كتابه في رأس البر ثم انتقل بنا إلى السويس فبور سعيد فالإسماعيلية فالإسكندرية، وختم الكتاب بفصل رقيق هو حديث العودة. أجمل ما يحسه القارئ في هذا الكتاب تلك الروح الهادئة التي تتجلى في سطوره أشبه بالنسمة الهادئة تهب عليك في ليالي الصيف وأنت في معزل على الشاطئ. وأنك لتحس من هذا الشاب بميل شديد إلى القصص. ولقد أحسن صنعاً بإيراده خواطره في المصايف على تلك الصورة التي تجدها في كتابه، فلقد كان يأتي بها مرة على طريقة الحوار بينه وبين فتاة كان قد عرفها في الخرطوم ودار على ذكرها كتابه الأول (الحياة الثانية)، ومرة كان يتبع طريقة المراسلة، مما أبعد كتابه عن الملال وأكسبه كثيراً من الجاذبية والظرف.
ولئن كان لي أن آخذ على إبراهيم شيئاً وهو في صدر حياته الأدبية فهو أنه يجتهد في تقليد أحد كبار الكتاب عندنا تقليداً يظهر في أسلوبه وفي طريقة الدخول على موضوعه وتوجيهه ويخشى منه على أصالته وشخصيته، وهو في غنى عن هذا فله كما ذكرت استعداد قوي. نعم لا جناح عليه أن يحذو حذو من تأثر به في تجويد فنه والعناية بآثاره، ولكن على أن يحتفظ مع ذلك بشخصيته وروحه.
الخفيف
تعليق على نقد
الألحان الضائعة
بقلم حسن كامل الصيرفي
تناول الأستاذ الخفيف في العدد الماضي من (الرسالة) ديواني (الألحان الضائعة) فبدأ كلمته بأن أخذ على تلك الكآبة التي لزمتني في عهد من حياتي، وراح يتلمس سرها فلم يهتدإلى شيء مع أن هذا السر واضح كل الوضوح في كثير من قصائد الديوان بل من أول قصيدة إلى أخر مقطوعة فيه. ففي قصيدة (الضحية) تفسير قوي لناحية من تلك الكآبة، يؤكده قولي في القصيدة التي تليها بعنوان (الواحة المنسية):
في ذمة الفن ما ردّدتُه أمداً
…
فضاع لحني سدَى في جوّ نكرانِ
طغى عليه ضجيج القوم فانطمست
…
أصداؤه، وفؤادي طيّ ألحاني
وفي قولي في قصيدة (اللحن الضائع):
يا أغاني الربيع ما أنا إلاّ
…
مقطعٌ من قصيدة ضاع لحنُهْ
لم تلد لي الأيامُ من يتولى
…
بعث لحني، وكيف يبزغ شأنه؟
أوَ بين الصخور يكتمل الصو
…
ت؟ محال هذا. . وكنت أظنه
وفي قصيدة اللغز تظهر نواح كثيرة من سر هذه الكآبة، وتظهر فيها قوة الشباب الغلاب لا اليأس المستسلم.
وأظن أن تصوير الشاعر لآلامه ليس من العيوب التي تؤخذ عليه وإلا فليس من الواجب أن تطالبه بالصدق في التعبير، وألا نؤاخذه على تزوير شعوره.
ولو أطلع الناقد الفاضل على (الصورة السريعة) التي كتبتها عن حياتي في الديوان لعرف شيئاً عن سر الكآبة التي لازمت شعري في الأربع السنوات الماضية، وزادها سواداً ذلك الجحود الذي لقيته في الأدب وعبرت عنه في معظم قصائدي.
ثم يرى الناقد الفاضل أن (الأديب الصيرفي قليل العناية بقوافيه وبلغته على وجه العموم). . هذا حكم يصدره ناقد فاضل لأنه عثر على بعض هنات يعثر عليها في كثير من أشعار المتقدمين والمعاصرين، ولأنه وجد محاولات عروضية مخالفة للسنة القديمة، وهي لم تضر الأدب في شيء، إن كان قد أصابه ضرر من محاولات شعراء الأندلس. . هذه الهنات التي
لم يذكرها والتي يمكن لكل ناقد أن يعدها على أصابعه تجعل من صاحب الديوان رجلاً لا يهتم بلغته وقوافيه (على العموم)!
إني لأهتم إذ أحاول التكلم عن أصول النقد وواجباته، ومن هذه الأصول عدم الحيدة عن الحقيقة والإنصاف، وأدعو الله أن يهدينا جميعاً أقوم السبيل. هذا وأختم تعليقي بالشكر للأستاذ الخفيف على تنويهه ببعض ما وجدني قد أحسنت فيه مما كان يرفعني - أو يرجى منه ذلك - لو أني سرت على نهجه في جميع قصائدي كما يقول. وأنا عند حسن ظنه بي يوم يتقدم بي العمر حتى يتكافأ وأدبي.
حسن كامل الصيرفي