الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 720
- بتاريخ: 21 - 04 - 1947
نحن العرب.
. .
للأستاذ محمود محمد شاكر
إني لأسألُ نفسي، كما يسألُ كل عربي نفسه:(إلى أين يسار بنا تحت لواء هذه الحضارة البربرية الحديثة؟) وجواب هذا السؤال يقتضي العربي منا أن يلمح لمحاً في طوايا النفوس وخبايا السياسات، ويقدمَ الحذر بين يديه، ليكون على بينة من رأيه ومن مصيره أيضاً. ولعل القارئ قد فوجئ لإقحام هذا الوصف للحضارة الحديثة بأنها حضارة بربرية، ولكن لا يعجل بالعجب مما لا عجب فيه فإنه حق بيّن لا تخطئه العين البصيرة.
نعم! إنها حضارة لم يوجد لها مثيل بعدُ في التاريخ كله منذ كان آدم إلى يومنا هذا. حضارة قد نفذت إلى أسرار المادة فكشفت عنها كشفاً يسر للبشرية أن تقبض على زمام الحياة وتصرفها في حيث شاءت وإلى حيث تريد، وجعلت الإنسان يشعر شعوراً لا خفاء فيه بأنه قادر على أن ينشئ التاريخ إنشاءً، وبنى الوجود بناء جديداً، ويملأ ظلام الليل وضياء النهار حياة وقوة وجلالا، وينفث في الأشباح روحاً ويكسوها لحماً ويعطيها من مقدرته ما يجعلها كائناً متصرفاً بشيء أشبه بالعقل والإرادة. ونعم! إنها حضارة قد قامت أركانها على جم يعجز المتأمل عن إدراكه وبلوغ آفاقه، علم تدسس إلى ضمير الأرض والسماوات فاسترق السمع إلى نجواه وإلى خواطره فقبس منها قبساً مضيئاً أنار ظلمات هذا الوجود الذي لا يعلم ما انطوى عليه إلا الله الذي يعلم الخبء في السماوات والأرض. ونعم! إنها حضارة أزرت بالحضارة كلها وجعلتنا نشعر بالقوة التي طواها الله في هذا (العالم الأصغر) حتى مكن له أن يكون سيد (العالم الأكبر) غير منازع.
نعم إنها حضارة مجيدة عاتية أحيت الإنسانية ورفعت شأنها، ولكنها على ذلك كله حضارة بربرية طاغية قد امتلأت فساداً وجوراً وحماقة وفجوراً، حضارة بربرية رفعت الإنسانية من ناحية العقل، ولكنها قتلت ضميرها ومزقت شرفها، وجعلتها تشعر بقوة غير شريفة ولا صالحة ولا أمينة في أداء حق الإنسانية عليها.
والعربي منا إذا نظر اليوم فينبغي أن ينظر أولا إلى هذه (البربرية) من الناحية التي لها مساس به وبحياته وبتاريخه على هذه الأرض، ليعلم إلى أين تريد هذه الحضارة أن تسوقه؟ وأي بلاء تريد أن تبتليه به؟
إن تلك الدول التي صارت دولا في تاريخ هذه الحضارة البربرية وبمعونتها تريدنا على أشياء وتريد بنا أشياء لابد لكل عربي أن يراها بعين لا تغفل. هذه الدول التي ادعت ولا تزال تدعي أنها خاضت غمار الحرب المبيدة الثانية دفاعاً عن حرية البشر في الحياة، وعن رفع مستوى المعيشة في هذه الأرض، ترتكب كل يوم من ضروب الخيانات والغدر والنذالة ما لم يشهد التاريخ مثله، كما لم يشهد مثل حضارتها هذه البربرية. .
هذه أمريكا وبريطانيا وروسيا وفرنسا جميعاً ولا نستثني تزعم كل يوم أنها تغضب للحق، حق الناس في الحرية، وتثور استنكاراً للمظالم التي تفرض على الشعوب العاجزة عن دفع الظلم، وأنها تحوط لإنسانية من أن يدنسها باغ أو طاغ بجبروته وبطشه، وهي جميعاً لا تزال تملأ جنبات الأرض عجيباً وضجيجاً إذا رأت ضيما أصاب شعباً من الشعوب، وتتنبل كل منها بالدفاع عنه وبالذياد عن حقه المهتضم، ونرى أمريكا خاصة ومن دونها جميعاً تذيع بين الناس وتشيع أنها حامية الحضارة، وأنها حامية الناس من البغي، وإنها لم تخض غمار الحرب إلا لهذا وحده: أن تحمي الحضارة من الدمار، وأن تحمي الناس على اختلافهم من البغي. وكذلك تفعل بريطانيا أيضاً، وهكذا تزعم روسيا، وهكذا تتبجح فرنسا.
ولكن - هذه فلسطين فلذة أكباد العرب قد شهدت أنذال الأمم يطئون ديارها منذ سكنت الحرب العالمية الأولى، ثم أخذوا يسيلون عليها سيلا منذ ذلك اليوم يريدون أن يجلوا العرب عن بلادها ليحتلوها وينشئوا في ربوعها دولية يهودية، فإذا بنا نرى أمريكا تعينها بالمال واللسان والقلب، ونرى بريطانيا تغريهم بما يريدون وتصبر على إذلالهم لها صبراً لم يعرفه قط تاريخ بريطانيا التي كانت تسمى رجال العرب المجاهدين (رجال العصابات)، ونرى روسيا وفرنسا تلوذان بالصمت المطبق لا تقول ولا تنبس ولا تتحرك دفاعاً عن الهضيمة التي تراد بالإنسانية، كما تحركت من قبل.
وهذه تونس والجزائر ومراكش تجري فيها المذابح الوحشية التي لم يعرف التاريخ مثلها. فتسيل دماء أربعين ألف عربي ما بين عشية وضحاها، بين سمع سفراء الدول وبصرها، فلا نرى أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا تثور أو تغضب أو تقول، وتمضي فرنسا الباغية تنفذ سياستها في تدمير شعوب برمتها. تدمر حضارتها وماضيها وقواها وتستل الأرواح من أبدانها بالسلاح غدراً وغيلة، وتمتهن الرجال وتسب الأديان وتفتك بالأحرار، ويرى ذلك
ويسمعه سفراء أمريكا وبريطانيا وروسيا المدافعات عن الحرية وعن الحضارة وعن الإنسانية.
نعم، وهذه فرنسا أيضاً تقيم الولائم للسباع والوحوش في جزيرة مدغشقر، فتفتك بأهل الجزيرة فتكا لا رحمة فيه ولا هوادة والعالم كله يسمع، والإشاعات تتناقل خبر المجازر وتسميها (إخماد ثورة) وتقف بريطانيا صامته عليها الوقار، وتدير أمريكا ظهرها قد شغلتها هيئة الأمم المتحدة التي تنظمها للدفاع عن حريات البشر ورد البغي عنهم! وتنكب روسيا على إصلاح معايش خلق الله ورفع الضيم عنهم بالمساواة بينهم في حقوق الحياة!
وهذه بريطانيا ترتكب شر الأفاعيل في السودان وفي إفريقية، وتقول لأمريكا وفرنسا وروسيا إني أريد أن أكفل لهؤلاء الناس استقلالهم، وأريد أن أرد عنهم اعتداء بني جلدتهم الطامعين في استعمارهم، وأريد أن أترفق بهم حتى أرفعهم من حضيض الجهالات لكي يصبحوا شيئاً في تاريخ هذه الإنسانية، فهي تقتل منهم كما تقتل السائمة، وتدعهم عراة بل تجبرهم على أن يظلوا عراة ليخرجوا لها من ثمرات الأرض ما يرفع مستوى معيشتهم. وتعرف ذلك أمريكا وفرنسا وروسيا فيقولون لها أن نعم، ولك الشكر، ونعم ما تفعلين!
وهذه أمريكا تنطلق من معزلها مرة واحدة لتقول للعالم إني أحمي الضعفاء وأجبر كسر المحتاجين، وأعين على نوائب الحق، وأدفع الظلم عن الناس، وأرفع الضيم عن الضيم، وترى كل هذه ويراه سفراؤها ورجال جامعاتها في الشرق، فلا تكون نصرتها لنا إلا بأن تذهب إلى جزيرة العرب وإلى إيران وإلى بلاد كثيرة من بلادنا لتأخذ البترول، وتقول لنا سأعطيكم من المال مبلغاً ضخماً ترفعون به مستوى معيشتكم، فلا تحملوا المصالح الأجنبية في بلادكم على محمل سيئ أيها الرجال العقلاء. أما مسألة مصر والسودان، وأما مسالة مراكش وتونس والجزائر وهذه المذابح والمجازر، وأما مسألة فلسطين وما فيها من الجور والبغي والعدوان والنذلة، وأما مسألة العراق وسائر البلاد العربية، فذلك كله أمور تتم على وجه آخر إذا جاء حينها، وأنا لا أستطيع أن أتدخل في شئون الدول، بل الأمر كله متروك لهيئة الأمم المتحدة إن شاء الله، فاطمئنوا.
هكذا يرى العربي فعل هذه الدول القائمة على الحضارة والمدافعة عن تاريخ الإنسانية وعن شرفها وعن حريتها: فإذا رأتنا نقول لها الحق غضبت وزعمت إننا نتعصب على الأجانب
بجهلنا وغباوتنا وحماقاتنا الموروثة، وصدقوا، فنحن جهلاء أغبياء، لأننا صدقنا يوما أن روسيا هبت لتدفع الظلم عن الطبقات المهضومة الحقوق، وأن بريطانيا ثارت لتدفع الشر عن الإنسانية المهددة بالجبروت والطغيان، وصدقنا فرنسا أنها هي الداعية إلى العدل والمساواة والإخاء، وصدقنا أمريكا أنها البريئة المدافعة عن حقوق البشر وتساويهم في هذه الحياة لا فرق بين صغير الأمم وكبيرها، أو ضعيفها وقويها، إننا جهلاء وأغبياء، لأننا أبحنا بلادنا للأجانب ليرفعوا لنا مستوى العلم والثقافة، ومستوى العيش والحياة، فأكرمنهم وآويناهم وخُدعنا بهم، وحرصنا على أن نجعلهم لا يشعرون بأننا نريد أن نكون حرباً عليهم، فأنشئوا ما أنشئوا من مدارس ومتاجر وأوغلوا في بيوتنا وأراضينا فسرقوا منا قلوب أبنائنا وأموال أغنيائنا وفقرائنا، واستبدوا بالأمر دوننا، وتركونا لا نستطيع أن ننفذ في بلادنا ما تنفذه كل دولة من القوانين والأحكام فإذا أردنا نحن أن نفعل شيئا قليلا مما تفعله الدول لحماية أرضها وأموالها، ثاروا علينا من الشرق والغرب ومن يمين وشمال يرموننا بالتعصب، ويمنون علينا أنهم هم الذين رفعوا مستوى معيشتنا، وهم الذين علمونا كيف نلبس وكيف نأكل وكيف نشرب.
فهل يحل منذ اليوم لعربي أن يصدق أكاذيب هذه الأمم الباغية في دعواها ومزاعمها؟ هل يحل لعربي أن يثق بأن أهل هذه الحضارة التي اشتملت على روائع الفن والعلم والفلسفة، قد صاروا حقاً أهل حضارة تستحق أن تسمى حضارة لأنها قربت المسافات بالطائرة التي تخطف في جو السماء خطفاً، ومست موات الأرض فاهتزت وربت وأنبتت من كب زوج بهيج، وألقت السحر في بنان الإنسان فإذا هو طبيب يدفع عوادي الموت عن رجل في النزع ليس بينه وبين الموت حجاب؟ هل يحل لعربي أن يصدق شيئاً من هذا كله وهم يكذبون على خلق الله العرب ويغررون بهم ويخدعونهم ويقتلونهم ويذبحونهم بلا رحمة ولا شفقة ولا ضمير يفزع من كل هذه الجراثيم البشعة في تاريخ الإنسانية!
تعس العلم وتعس الفن وتعست الفلسفة، وتعست هذه الحضارة البربرية، إذا كان هذا خلقها وهذا ضميرها! وما نفع العلم والفن والفلسفة إذا هي خلطت لنا نحن العرب بالكذب والوحشية حتى في الأعمال التي يصفونها بأنها علمية خالصة. أننا على ضعفنا وجهلنا وفقرنا أكرم نفوساً وأعلى أخلاقاً، وأنبل قلوباً من أهل هذه الحضارة البربرية التي لا يثور
أهلها إلا لحاجة في نفوسهم، والذين لا يفزعون مما ترتكب أيديهم من الوحشية في بلادهم وفي بلاد غيرهم من البشر.
ليعلم أهل هذه الحضارة في أوربة وأمريكا، وينبغي أن نعلمهم نحن في بلادهم وبين ظهرانينا أننا لن نهاب بعد اليوم أن نكاشفهم بعداوة عربية، لا كعداوتهم هم تلك العداوة الممزوجة بالرقة والخداع والكذب والتغرير، إنها عداوة طالب الحق الذي ينتصف لعدوه من نفسه، وينتصف لنفسه من عدوه، والذي لا يغمط حقاً وال ينكر معروفاً، ولكنه لا ينسى أن عدوه هو عدوه!
ولقد سمع أحد رجالنا، هو ابن شبرمة، يوماً عروة بن المغيرة وهو ينشد هذه الأبيات:
لا أتقي حسَك الضغائن بالرَقى
…
فعل الذليل، ولو بقيت وحيدا
لكن أعد لها ضغائن مثلها
…
حتى أداوي بالحقود حقودا
كالخمر خير دوائها منها بها
…
تشفي السقيم وتبرئ المنجودا
فقال: لله در عروة! هذه أنفس العرب.
فهذه نفوسنا، لن تهادن من يعادينا عداوة طويت على الضغائن الصغيرة المحتقرة، فإذا أنابوا وانتصفوا لنا من أنفسهم، وعرفوا قبح ما أتوا وشناعة ما ارتكبوا، فيومئذ نصافحهم مصافحة العربي الذي لا يضمر الغدر ولا الغيلة ولا الفتك، ولا يعرف الكذب ولا المخاتلة.
محمود محمد شاكر
على هامش معركة عين جالوت:
بين مصر ولبنان
للأستاذ أحمد رمزي بك
أمراء الغرب البُختُريون من تنوخ أهل المجد وأصحاب الرياسة في لبنان كانوا طوال الأعصر الماضية حلفاء مصر ويدها اليمنى في كثير من الملمات والحوادث. كانت (إعبية) معقلا لهم وفيها آثار قلاعهم وقصورهم، ما مررت بها إلا وغلبتني دمعة حاولت إخفاءها، فقد دالت منذ زمن بعيد دولة أمراء الغرب وذهبت ريحهم أو قل مع الريح أخبارهم، كما دالت وذهبت مع الريح دولة مصر الإسلامية التي كامن تهزّ الدنيا ويخشاها أهل الشرق وأهل الغرب.
وبقيت ذكريات ذلك العهد وآثاره وأعمال مصر الإسلامية العربية وجهادها وهي جميعاً تحرك النفس وتدعوا إلى العجب من هذا النسيان الذي لا أجد له تفسيراً لدى أحد من الناس، نعم عجبي من هذا النسيان الشامل الذي نعيش في غمراته.
لقد ذهبت أخبار أمراء الغرب ودفعوا ثمن ما عُرف عنهم من ولائهم لمصر وعرشها غالباً بعد معركة مرج دابق وزوال الدولة المصرية من الوجود، ثم فنيت جموعهم واندكت صروح مجدهم ولم يعد يسمع لهم خبر بعد أن ورث المعنيون وهم أتباعهم ثم أصهارهم الملك والإمارة من بعدهم، وجاء الشهابيون وهم من أتباع آل معن فورثوا الإمارة والرياسة من هؤلاء، فاندثرت الرياسة الكبرى لأمراء الغرب من تنوخ إذ هم الأصل والكل فروع، مثلهم في لبنان كمثل آل سلجوق في الدنيا، الكل لهم فروع من أتابكة وأيوبيين وأمراء من البحرية والبرجية وملوك من آل عثمان وسلاجقة الروم لأنهم كانوا الأصل والموئل والمرجع ومن سواهم فهم فروع لهم.
بنو هاشم في كل شرق ومغرب
…
كرام بني الدنيا وأنت كريمها
وسآتيك بنبأ من أخبارهم يحلو لي ترديده وذكره، وهذا حديث يصح فيه قول البحتري:
وهو ينبيك عن عجائب قوم
…
لا يشاب البيان فيهم بلبس
فقد ذكر صالح بن يحيى خبر المرسوم الذي بعث به المعز أيبك صاحب مصر إلى سعد الدين خضر أحد مقدمي أمراء الغرب وقال إن أهل الشام نسبوا أمراء الغرب إلى
المصريين فجمعوا لهم جموعاً من العشائر النازلة في بعلبك والبقاع وساروا بهم نحو جبال لبنان، والتقوا معهم في بلدة عيتات في 2 ذي القعدة سنة 653 هجرية، فاقتتلوا وكتب النصر لألوية أمراء الغرب، وكان فارس المعركة وصاحب الشهرة واليد الطولي أمير منهم اسمه زين الدين صالح بن علي بن بحتر بن علي، سطع نجمه من ذلك اليوم وسيأتي ذكره في معركة عين جالوت وغيرها من حوادث الزمن.
وصالح بن يحيى هذا مؤرخ القوم قال (وجدت باسم سعد الدين منشوراً من الملك المعز أيبك التركماني أول سلاطين الترك بالديار المصرية والعلامة (حسبي الله) وأبدي لنا تعجبه لأن بيروت كانت تتبع الشام والمنشور مصري وهو يعلم أن الملك الناصر الأيوبي صاحب ديار الشام كان يروم أخذ مصر وإعادة ملك الأيوبيين كسابق عهده قبل أن يستقل بها أمراء الأتراك، وكان المعز أيبك يدافع عن ملك مصر ويروم قهر الناصر، وكانت حوادث وخطوب ومعارك، وانتصر فيها المعز وزينت القاهرة ومصر وقلعة الجبل وقلعة الروضة عدة أيام حينما دخل العاصمة والأسرى بين يديه والسناجق منكسة والطبول مشققة، ولعبت الفرسان بالرماح على الخيول في ساحة بين القصرين، حتى إذا وصلوا إلى تربة الملك الصالح نجم الدين أيوب، صاح البحرية:(أبن عينك اليوم يا مولانا لترى أعداءك بين أيدينا).
واستمر الأمر بين مصر والشام على المنازعة والمخاصمة حتى تدخل بين الملكين من أصلح الأمر على أن تكون بلاد الشام إلى العريش للناصر وأن تكون مصر للمعز.
وكان الفرنج على الساحل وبيدهم الحصون والمعاقل يغزون ويقاتلون المسلمين كافة من أهل الشام وأهل مصر، وفي تلك الأثناء سقطت بغداد بيد التتار وساقوا خيولهم إلى أراضي الفرات والشام، فأرسل الملك الناصر صاحب الشام ابنه الملك العزيز إلى هولاكو ومعه تقادم وعدة من الأمراء فوعده بنجدة لإنقاذ مصر من حكامها.
في تلك اللحظة انتهى أمر الأيوبيين أو قضوا على أنفسهم بالفناء بعد أن خالفوا تقاليد صلاح الدين وارتموا في أحضان الغاصب، فضاعت منهم بلاد الشام ولم تقم لهم قائمة، وألقت الأقدار على جند مصر كتابة الملحمة الكبرى في عين جالوت التي تناقل حديثها الأجيال.
في هذه المعركة انضم إلى التتار أمراء وملوك من آل أيوب وغيرهم من مقاتلة المسلمين، وجاء من أمراء الغرب من وقف في صفوف التتار يحارب بإرادته أو رغم أنفه، وكان منهم زين الدين الذي أشرنا إليه فنقل عنه أنه حضر المصاف بين عسكر مصر والتتار على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 658 فلما انهزم التتار وتفرقت جموعهم لجأ فريق منهم إلى المرتفعات واختار بعضهم قمة جبل يشرف على المعركة وتحصنوا هناك فأحاطت بهم المماليك السلطانية وسدت عليهم منافذ الخلاص فلحق بهم الأمير زين الدين وانضم باختياره إلى جند مصر وحارب التتار وأعجب مماليك السلطان بقتاله وقوة بأسه حتى صاروا يقدمون له النشاب من تراكيشهم (التركش هي جعبة السهام). ولما انتهت المعركة وجلس المظفر قطز ملك مصر، وجيء بين يديه بالأسرى وفيهم ملوك المسلمين وأمراؤهم الذين أعانوا الخصم وحاربوا في صفوفه، وقدموا إليه الملك المسعود صاحب قلعة الصبية من ملوك بني أيوب وكان شديد الوطأة في حربه على المسلمين فأمر السلطان في الحال بضرب عنقه. وجيء إليه بالأمير زين الدين المذكور وهو من أمراء الغرب فتقدم مماليك السلطان جماعة وشهدوا في حقه وحسن بلائه وقتاله للتتار على ذروة الجبل فنظر المظفر إليه وعفا عنه.
ونقل عن زين الدين المذكور وصف شائق للمعركة يوم عين جالوت قال فيه (والله ما خفت في يوم أكثر منه) وذكر أنه رأى مع العسكر الطبول محملة على ثلاثمائة جمل حتى أخفى أصواتها وقع الضرب بالسلاح على القراقل (الدروع) والخوذ وما كان يتخلل ذلك من صراخ الرجال، وذكر أن بين ما وقع بين يديه فرس هائل المنظر من خيول التتار كان يسابق عليها طويلا.
ذلك خبر أمير من أمراء الغرب على هامش معركة عين جالوت. أما مواقفهم بعد ذلك مع ملوك مصر أيام الظاهر وقلاوون وابنيه الأشرف خليل والناصر محمد فكثيرة، تبرهن على ود وصداقة وتآلف مع مصر، ومنها رسالة من ديوان مصر تقول:(قد بلغنا أن جموعكم قد تفرقت، وأنتم تعلمون أن هذا الوقت الذي يظهر فيه مناصحة الدين والدولة القاهرة فليتقدم الأمراء أيدهم الله برد الرجال إلى جهة صيداء، وليجتهدوا في المساعدة على حفظ هذا النفر مؤيدين إن شاء الله). . .
أحمد رمزي
3 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
والآن فلنستخدم تعرفين جديدين كان يحق لنا أن نستخدمهما من قبل. لنطلق كلمة (المحتوى الظاهر للحلم) على الحلم كما يرويه صاحبه. ولنطلق كلمة (المحتوى الباطن للحلم) على المعنى الخفي الذي نصل إليه عن طريق الأفكار المترابطة. ولننظر بعد ذلك في العلاقة التي بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن في الأمثلة السابقة. نرى في المثال (1) أن المحتوى الظاهر للعنصر الذي اختبرناه من الحلم عبارة عن جزء صغير من المحتوى الباطن، ولكنه جزء قائم بذاته أي أن قطعة صغيرة من بناء عقلي ضخم في منطقة اللا شعور قد استطاعت أن تتخذ طريقها إلى المحتوى الظاهر. وقد تبدو هذه القطعة في أحيان أخرى على هيئة إشارة أو تلميح إلى شيء مجهول. ومهمة التفسير هي العمل على إتمام هذا البناء العقلي الذي تنتمي إليه تلك القطعة أو ترمز إليه تلك الإشارة. أما في المثال (ب) فإننا نعثر على علاقة من نوع جديد. فالمحتوى الظاهر ليس تحريفاً للمحتوى الباطن بالقدر الذي هو تمثيل له، ولكنه تمثيل بصري، أي أن الأفكار والكلمات في المحتوى الباطن يستعاض عنها بصورة بصرية في المحتوى الظاهر
والآن هل في استطاعتكم أن تقدموا في شجاعة على تفسير حلم تام بأكمله؟ دعوني أقص عليكم حلماً غير غامض تماماً ولكنه على أية حال يعطينا فكرة واضحة عن خواص الأحلام، ولنر إن كنا أصبحنا معدين لهذا العمل أم لا؟
رأت سيدة متزوجة منذ بضع سنوات الحلم الآتي: (رأت نفسها كأنما في أحد المسارح مع زوجها بينما كان نصف القاعة تقريباً خالياً من النظارة. وقد أخبرها زوجها أن صديقتها (أليس) وخطيبها قد أرادا الحضور، ولكنهما لم يجدا غير أماكن رديئة، ثلاثة مقاعد بفلورن ونصف، ولذا رفضا بالطبع شراءها. وقد أجابت السيدة إنهما في رأيها لم يخسرا كثيراً بعدم الحضور).
كان أول شيء روته السيدة التي رأت هذا الحلم أن هناك إشارة في المحتوى الظاهر إلى السبب الحقيقي الذي أدى إلى هذا الحلم؛ فقد أخبرها زوجها فعلا في اليوم السابق أن جارتها (أليس) التي تقاربها في العمر قد تمت خطوبتها وقد جاء الحلم كرد فعل لهذه الأخبار. والآن كيف تفسر خلو نصف القاعة من النظارة؟ تقول الحالمة إن هذا العنصر يشير إلى حادثة حقيقية وقعت لها في الأسبوع الماضي. فقد أرادت السيدة أن تشاهد إحدى المسرحيات فحجزت المقاعد مقدماً مما اضطرها إلى دفع مبلغ إضافي في نظير الحجز. ولكنها عندما ذهبت إلى المسرح رأت أن تسرعها بالحجز كان من غير محله، لأن ناحية بأكملها من القاعة كانت خالية تقريباً. فلم يكن هناك داع إذاً للعجلة، وكان في استطاعتها لو تمهلت أن تشتري التذاكر ليلة التمثيل، وقد اتخذ زوجها هذه الحادثة مدعاة للتسلية والتفكه على حسابها مما أحنقها. والآن كيف نفسر الفلورن والنصف؟ يشير هذا العنصر إلى مادة غير المادة السابقة ولكنه كذلك يرجع إلى أخبار تلقتها الحالمة في اليوم السابق. فقد تلقت أخت زوجها مبلغاً وقدره 150 فلورن من زوجها على سبيل الهدية فأسرعت كالطائشة بالذهاب إلى محل لبيع الحلي حيث أنفقت المبلغ كله في شراء قطعة من الحلي. أما عن العدد ثلاثة (ثلاثة مقاعد) فلم تستطع الحالمة أن تعطينا فكرة عنه اللهم إلا أن الفتاة المخطوبة (أليس) كانت تصغرها بثلاثة شهور فقط بينما هي متزوجة منذ عشر سنوات. أما عن الجزء الغير معقول في الحلم وهو أنها اشترت ثلاث تذاكر لشخصين فقط، فلم تستطيع الحالمة أن تفسره لنا أو تعطينا أية معلومات أو أفكار أخرى بعد ذلك.
ومع هذا فقد استطعنا أن نحصل من هذه الأفكار القليلة التي أعطتنا إياها على المادة اللازمة للكشف عن المحتوى الباطن للحلم. فمما يلفت النظر أن هناك دائماً إشارة إلى الوقت في مواضع مختلفة من رواية السيدة فهي تشتري تذاكر المسرح (مبكرا) وتشتريها على (عجل) مما يضطرها إلى دفع مبلغ إضافي. وكذلك أخت زوجها قد عجلت بالذهاب إلى بائع الحلي لتشتري حلية بالمبلغ الذي معها كأنما هي تخشى أن (تفقد شيئاً) فإذا ربطنا بين هذه النقاط وبين الأسباب التي أدت إلى هذا الحلم (أي الأخبار التي تقلها السيدة من أن صديقتها التي تصغرها في العمر بثلاثة شهور فقط قد استطاعت مع هذا أن تحصل الآن على زوج صالح) وبين النقد الذي يتمثل في الخشونة التي استخدمتها في اتهام أخت
زوجها بالحماقة والطيش لتهورها؛ فأننا نستطيع أن نحصل على التركيب الآتي للمحتوى الباطن الذي جاء المحتوى الظاهر بديلا محرفاً له: -
لقد كان من (الحماقة) أني تسرعت هكذا بالزواج فها هي أليس تضرب لي المثل على أنه كان من استطاعتي أنا أيضاً أن أجد لي زوجا فيما بعد. (التسرع ممثل بتصرفها في شراء التذاكر وبتصرف أختها في شراء الحلي. أما الزواج فممثل بالذهاب إلى المسرح). هذه هي الفكرة الرئيسية. وقد نستطيع أن نتابع التحليل، ولكن في ثقة أقل لأن التحليل في مثل هذه الحالات يحتاج إلى أن يدعم برواية السيدة الحالمة نفسها، فنقول (ولقد كان في استطاعتي أن أعثر بنفس المبلغ على زوج أفضل مائة مرة)(150 فلورن تساوي مائة مرة الفلورن والنصف). فإن استعضنا عن المال الرديئة والحلي تمثل الزوج. ولقد كنا نود لو كان في استطاعتنا أن نرى صلة بين الثلاث تذاكر والزوج، ولكن معلوماتنا للآن لا تؤهلنا لمثل هذه المعرفة. والذي استطعنا أن نعرفه فقط هو أن الحلم يمثل إنقاصاً لقدر زوجها وأسفاً على زواجها المبكر.
أظن أننا سنكون أقرب إلى العجب والارتباك منا إلى الاقتناع بهذه النتيجة التي وصلنا إليها في محاولتنا الأولى لتفسير الأحلام. فهناك أفكار كثيرة تفرض نفسها علينا بالقوة قبل أن نكون على استعداد بعد لتلقيها. وعلى هذا أرى أن نشرع على الفور في البحث عن النقط التي قد نجد فيها مادة جديدة من المعرفة: -
أولا: نلاحظ أن أهم ما في المحتوى الباطن هو عنصر التسرع والعجلة، ولكن المحتوى الظاهر على العكس لا أثر فيه لهذه الصفة بالمرة، ولولا التحليل لما داخلنا الشك مطلقاً في أن هذه الصفة تلعب أي دور. وعلى هذا يبدو لنا أنه من الجائز أن النقطة الرئيسية التي تدور حولها الأفكار اللاشعورية قد لا يوجد لها أثر إطلاقاً في المحتوى الظاهر.
ثانياً: لاحظنا أن هناك ارتباطاً لا معنى له بين الأفكار في المحتوى الظاهر (ثلاثة تذاكر لشخصين) كما أننا لاحظنا أن المحتوى الباطن يحتوي على الفكرة (لقد كان من الحماقة أن أتزوج مبكراً) ألا نستطيع أن نستنتج من ذلك أن الفكرة (لقد كان من الحماقة) قد استعيض عنها في المحتوى الظاهر بإدخال عنصر تافه لا معنى له في الحلم؟
ثالثاً: نلاحظ أن العلاقة بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن ليست من النوع البسيط
الذي يحل فيه المحتوى الظاهر محل المحتوى الباطن دائماً. وإنما هي من النوع المركب الذي يجوز فيه أن يمثل المحتوى الظاهر عدداً من المحتويات الباطنية أو بالعكس يستعاض عن المحتوى الباطن بعدد من المحتويات الظاهرة.
أما بالنسبة إلى المعنى الإجمالي للحلم فقد اعترفت السيدة فعلا بالتفسير ولكنها عجبت له؛ فهي لم تكن على علم بأنها تحمل لزوجها مثل هذا الشعور بالاحتقار، بل لم تدر ما الداعي بالمرة للحط من قدره بهذا الشكل. ومعنى ذلك أنه مازال أمامنا كثير من المعميات لا نعلم عنها شيئاً، وعلى هذا أظن أننا لسنا معدين بعد الإعداد الكافي لتفسير حلم كامل وأننا مازلنا في حاجة أولا إلى كثير من الاستعداد والمعرفة.
محمد جمال الدين حسن
الامتيازات الطائفية القضائية
وجوب إلغائها كالامتيازات الأجنبية
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
تخلصت البلاد من الامتيازات الأجنبية أو كادت، وتنفس الناس الصعداء، وعما قريب سيصبح جميع السكان خاضعين مدنياً وجنائياً لقضاء واحد هو القضاء الوطني أو السلطة القضائية المصرية، ولتشريع واحد مستمد من السلطة التشريعية المصرية. سلطتان هما، مع السلطة التنفيذية، مظهر السيادة القومية للدولة.
ولكن لم يفكر أحد إلى الآن - لا الحكومة والأفراد - في وجوب إلغاء الامتيازات الداخلية القضائية التي اختصت بها جميع الطوائف في مصر حتى المصرية المحض منها، بل إن تلك الهيئات أخذت تطالب الآن - لمناسبة مشروع القانون المعروض على مجلس الشيوخ - بالمزيد من امتيازاتها والتوسع فيها وهي ترفض بشدة إشراف القضاء الوطني العالي على أحكامها كما ترفض تنظيم الحكومة لأقلام كتابها، وذلك بدلا من أن تشكرها على هذه العناية وترحب بهذا الإصلاح المشكور الذي أرادته لها الحكومة.
ولا يخفى أن من أول واجبات الحكومات تولي القضاء وإقامة العدل بين الأفراد، وهذه هي وظيفة السلطة القضائية، إحدى السلطات الثلاث التي تكون منها سيادة الدولة، وعليها يقوم كل نظام، بل إنها الأساس العام للمجتمع الإنساني في عصرنا الحالي ولولاها لكان العالم على الحالة البدائية للشعوب المتوحشة والقبائل البدوية غير المتحضرة.
وما القول إذا عهدت حكومة من الحكومات إلى فرد من الأفراد أو جمعية أو شركة أمر الحكم في بعض القضايا المدنية أو محاكمة طائفة من الذين يرتكبون الجرائم كذلك النظام الشاذ الذي كان يتمتع به الأجانب، مع أن الذي كان يتولى محاكمتهم إنما هي محاكم نظامية قضائية تابعة لحكومات حقيقية شرعية ولكنها حكومات أجنبية، وكانت المحاكم القنصلية تحكم بمقتضى قوانين وضعية مدونة معروفة للجميع سنتها سلطات تشريعية عامة في حدود سلطانها. وحتى المحاكم المختلطة فأننا كنا نشكو بحق من وجودها لأنها تحدُّ من السلطة القضائية الوطنية وبالتالي من سيادة الدولة مع أنها محاكم شبه مصرية تحكم بمقتضى قوانين كانت تشترك الحكومة في وضعها مع الحكومات ذات الشأن، وتتوج أحكامها باسم
جلالة الملك.
ولكن المدهش حقاً أن برى الحكومة المصرية تتولى القضاء في أمور الأفراد المالية فقط وتغفل ما هو أهم من المال بكثير، وأعني به مسائل الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والبنوة والولاية على النفس ونفقة الأقارب وغيرها مما هو أساس الأسرة، وعليه يقوم النظام الاجتماعي بأكمله، لأن الأسرة هي نواة المجتمع، وتترك الحكومة هذه الأمور الهامة الحيوية لبعض الهيئات الطائفية تتصرف فيها كما تشاء من غير رقيب عليها ولا قانون وضعي ثابت لها يقيدها إلى حد ما في أحكامها، قانون صادر من السلطة التشريعية المصرية صاحبة الولاية على التشريع في البلاد.
وكم كتب المفكرون والمصلحون عن فوضى محاكم الأحوال الشخصية في مصر، والفساد المنتشر بين جدرانها، والتحيز والتلاعب بل الظلم البين الذي طالما وقع في أحكامها. وإني أحيل القارئ إلى المقالات الضافية التي ينشرها عنها بحق الأستاذ عزيز خانكي بك وغيره ممن طوقوا هذا الباب وبينوا عيوب تلك الهيئات وفساد نظامها وخلوها من كل تشريع وضعي لأحوالها الشخصية صادر من السلطة التشريعية. ولا أنكر أنه توجد بعض مجالس منظمة قليلا إلى حد ما مثل المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس بالقاهرة، ولكن هذا استثناء لا يبنى عليه حكم، وهو يرجع إلى بعض الأفراد الأفاضل الذي يجلسون الآن في هذه الهيئة وليس ما يضمن بقاء الحال فيها هكذا. ويكفي أن نقول إن كثيراً ما تؤجل القضايا إدارياً لعدم حضور الأعضاء كلهم أو بعضهم في أكثر من نصف جلسات الستة وأن هذه المجالس تعطل مدة أربعة شهور الصيف.
فواجب الحكومة الآن أن تمحو هذا النظام العتيق البالي من أساسه وأن تلغي الامتيازات الداخلية القضائية التي كانت قد اختصت بها الطوائف في الأزمنة الغابرة لعدم ثقتها بالحكومات القائمة في تلك العهود إذ كانت فكرة حماية الأسرة والنظم الاجتماعية معدومة من أذهان الناس، وكانت وظيفة الحكومات في تولي القضاة غير راسخة - نقول إن واجب الحكومة الآن أن تلغي هذه الامتيازات الداخلية الطائفية أسوة بالامتيازات الأجنبية، وذلك بأن تلحق اختصاص محاكم الأحوال الشخصية جميعها الشرعية والمالية بالمحاكم الوطنية كما هو حاصل في جميع البلاد الغربية وفي تركيا نفسها، وأن تسن تشريعاً عاماً للأحوال
الشخصية لجميع السكان يضم إلى القانون المدني تطبقه على الجميع محاكمنا الوطنية. وأعتقد أن قضاتنا أوفر علما وأكفأ من أعضاء تلك المجالس وأبعد عن الهوى والتحيز وسوء التصرف. وها هو القانون المدني في تركيا وفي جميع البلاد الغربية والأمريكية وفي اليابان يشتمل من جهة على الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والبنوة والولاية على عديمي الأهلية الخ كما يشتمل من جهة أخرى - في الجزء الثاني منه - على الأحوال الخاصة بالمال كالملكية والالتزامات والعقود وغيرها.
ولا مانع من إنشاء نظام انتقال يقوم في فترة من الزمن ثم يلغي، تشكل فيه مثلا دوائر أحوال شخصية بالمحاكم الوطنية، دائرة لكل ملة، يجلس فيها مع القاضي الوطني الرئيس (عضو ملة) من أبناء الطائفة كما هو حاصل الآن في المجالس الحسبية ويسن لهذه الفترة تشريع وقتي للمسلمين، وآخر لجميع الطوائف غير المسلمة تقرب فيه أوجه الخلاف بين التشريعين، فيقيد مثلا حق الطلاق وحق تعدد الزوجات في التشريع الأول وتوسع هذه المسائل قليلا في التشريع الثاني إلى أن يلتقيا مستقبلا في التشريع الموحد الأمثل المنشود.
ولنذكر الخطوة الجريئة التي خطتها الحكومة المصرية الوطنية قبل الاحتلال المشؤوم حين سنت القانون المدني وقانون العقوبات العصريين العظيمين، واستعاضت بهما عن الأحكام القديمة، فلم يرتفع في ذلك الحين إلا احتجاجات خافتة من بعض العناصر الرجعية الجاهلة، لم تلبث أن سكتت لأن أولي الأمر يومئذ لم يعيروها أدنى اهتمام وذهبوا في طريق الإصلاح الاجتماعي العظيم الذي بدءوا فيه حتى رفعوا مصر إلى مصاف الدول المتمدنة الراقية، واستطاع المصلح العصري الكبير الخديو إسماعيل أن يقول كلمته المشهورة وهي (إن بلادي ليست من أفريقيا ولكنها جزء من أوربا). وكان هذا بفضل النهضة العلمية التي ألقى بذورها العلماء الفرنسيون الذين حضروا إلى مصر في عهد بونابرت (نابليون) ثم أخرجها إلى حيز الفعل ونشرها المصلح الأول في مصر الحديثة وهو محمد علي الكبير وخلفاؤه من بعده حتى عمت جميع النواحي من التعليم - العصري الصحيح - إلى الصناعة والتجارة، إلى الفنون العسكرية والصناعات الحربية. واستمر ذلك العهد السعيد يرتقي ويزدهر إلى أن جاء الاحتلال اللعين فقضى على كل شيء صالح في هذا البلد المسكين، حارب التعليم وقتل الروح العلمية العصرية وجنى على العقول وأفسد الأخلاق
ورجع بنا إلى الوراء بنحو المائتي عام على الأقل.
ومن الغريب أن يزعم بعض رجال الطوائف في مصر أن الزواج عندهم عقد ديني محض يجب أن لا يمسه أحد. وإني لا أدري إلى أي نصوص في كتبهم الدينية يستندون وهي خالية من وضع أحكام لمسائل الزواج وغيره من الأحوال الشخصية، ولم يكن الدين المسيحي دين عقائد وتشريع كبعض الأديان الأخرى وإنما هو دين عقائد فقط. ولو رجع هؤلاء المعترضون على الإصلاحات العصرية المرجوة إلى تاريخ منشأ الأنظمة الاجتماعية وتطورها لا تضح لهم أن الزواج ليس له أي مصدر ديني إطلاقاً بل إنه كان - على العكس - في بادئ الأمر في كثير من الجمعيات الإنسانية نظاماً مكروها. فكان في عدد كبير من الشعوب القديمة قاصراً على الأرقاء من النساء يستحوذ عليهن الرجال ويملكوهن ولهم عليهن حق الحياة والموت، ولكن كانت المعاشرة تؤدي في كثير من الأحوال إلى شيء من الألفة والعواطف الطيبة خصوصاً إذا كانت المرأة على جانب من الإخلاص ووداعة الأخلاق، وعلى الأخص إذا أبحت نسلاً فيحسن سيدها معاملتها وقد يدوم ارتباطهما طيلة الحياة. ولما تراءى ذلك للأحرار من النساء الفقيرات قبلت الكثيرات منهن أن يستسلمن للرجال على ذلك الوجه لتضمن القوت والمأوى ثم أخذت هذه الحالة تتدرج إلى أن عمت معظم النساء، وعندئذ تدخل المشرعون ونظموا هذه العلاقة بين الرجل والمرأة - علاقة المعاشرة المستمرة التي سُميت بالزواج، وهي قائمة إلى حد ما في بعض أنواع الطيور وبعض أنواع ذوات الثدي العليا وعلى الأخص القرود الشبيهة بالإنسان (الغورلا، والشامبنزه، والأورنجوتان والجيوبون) وتقتصر ذكر بعض هذه الأنواع على زوجة واحدة. ونذكر مثلا أن من بين طرق الزواج في القانون الروماني القديم (التقادم) فمن عاشر امرأة مدة عام كامل دون أن ينقطع عنها ليلة واحدة تصبح زوجته من تلقاء نفسهما بحكم القانون بلا حاجة إلى أي إجراء آخر، كما هو الحال في الملكية وباقي الحقوق العينية تُكسب بالتقادم أي بوضع اليد المدة الطويلة المقررة في القانون.
ومن هذا كله يتضح أن الأديان ليست مصدر الزواج وإنما هو نظام اجتماعي محض نشأ في النوع الإنساني وفي بعض أنواع الطيور والحيوانات العليا بفعل العوامل الطبيعية البحت.
وما لنا وهذا كله، تركيا وباقي بلاد أوربا وأمريكا واليابان قد نظمت قوانينها المدنية أمور الزواج وأحكامه وكيفية انعقاده وفسخه عند الاقتضاء وما يتبعه من أحوال الطلاق والنبوة والولاية على النفس وعلى المال الخ. . . دون أي دخل للأديان. وقد فرضت أغلب الشرائع البلاد المتمدنة عقوبات صارمة على رجال الدين الذين يعقدون الزواج قبل أن يعقده موثق الزواج الحكومي الرسمي فضلاً عن أن هذا الزواج يُعد باطلاً قانوناً وكأنه لم يكن لأن الحكومات هناك ترى بحق أن الزواج نظام اجتماعي هام هو أساس الأسرة والمجتمع بأسره فلا يمكن أن يترك أمره للأفراد مهما كان مركزهم. وكل ما هناك أنه يجوز لمن يشاء من الأزواج أن يذهب، بعد إتمام العقد بالطريق النظامي الرسمي، إلى رجال الدين ليجروا طقوسهم الدينية عليه.
وإني لا أدري لماذا تفضل الحكومة الأقليات الطائفية التي تريد أن تستأثر بأحوالها الشخصية بدعوى أنها من أصل الدين - لماذا تفضلها على الأغلبية من المصريين وقد أبطلت استعمال تشريعهم الديني الخاص بالمعاملات والعقوبات واستعاضت عنه بالقوانين المدنية والتجارية والجنائية العصرية.
ومعروض الآن على مجلس الشيوخ مشروع قانون لتأييد تلك الامتيازات الطائفية مع تنظيمها. فكل محب لخير بلاده يرجو من حضرات شيوخنا أن ينظروا إلى الموضوع من ناحية مصلحة الوطن العليا غير متأثرين بفكرة مجاملة زملائهم من أبناء الطوائف الأخرى فيرفضون المشروع برمته ويرسمون للحكومة في رفضهم الخطة المثلى التي يجب أن تتبعها وهي ألا تترك أمر الأحوال الشخصية في أيدي الأفراد فإن من أول واجباتها أن تقوم هي بتنظيمها وسن قوانين عصرية صالحة لها وتتولى القضاة فيها على ما تقدم بيانه.
وليضع رجال التشريع وأولو الأمر فينا نصب أعينهم أن أول صفة يجب أن يتحلى بها من يتزعم الحكم هي الشجاعة والأقدام في تنفيذ الإصلاحات النافعة دون أن يبالي بمقاومة العناصر الرجعية الجاهلة.
نصيف المنقباوي
المحامي
الوقائع الحربية في الشعر العربي
للرئيس نعمان ماهر الكنعاني
من بين أبواب الشعر العربي العديدة باب هام جدير بالحديث أيما جدارة ذلك هو باب شعر الوقائع الحربية. وإني لا أزعم أن هذا اللون من الشعر لم تصبه عناية الباحثين فقد بحثه كثير من رجال الدراسات الأدبية وتاريخ الأدب، وأشاروا إلى مواطن الإجادة والإبداع فيه ودلوا على قيمته الأدبية والفنية، إلا أني لم أقع على من خصه بهذا الوصف أو بحثه بحثاً عسكريا أدبيا في آن فإن جل باحثي هذا الشعر كانوا يضعونه تارة في باب الحماسة وأخرى في باب الفخر وأحيانا يزجون به في موضوع المديح وقليل منهم يضمه إلى الوصف، وقد مررت أثناء مطالعاتي لدواوين القدامى بقصائد احتوت على الكثير من أقسام المعارك التي نظمت تلك القصائد بها، أي أنها احتوت على أكثر صفات المعركة كالتحشد والاستطلاع والتقدم والتصادم واستثمار الفوز إلى غير هذه المصطلحات الحديثة. وكانت تصور تلك المعارك تصويرا بارعا يخيل لمن يقرؤها أنه يشاهد عرضاً مصورا لهاتيك الوقائع على تفاوت في السرد والتصوير فمن الشعراء من جعل منظومته لوصف المعركة فقط، ومنهم من مزجها بالمديح أو ذكرها على سبيل الفخر أو أشار إليها في معرض الحماسة.
من هؤلاء الشعراء أبو فراس الحمداني وأبو الطيب المتنبي وأبو تمام وابن هانيء الأندلسي وآخرون غيرهم سجلوا في شعرهم كثيراً من المعارك التي اشتركوا فيها أو شهدوها أو سمعوا بأنبائها. ولكن الذي أجاد وبرع إجادة ظاهرة هو الحارث بن سعيد أبو فراس الحمداني لأن هذا الشاعر اجتمعت له إمارة السيف والقلم اجتماعاً ندر أن يتم لغيره.
فاستمع إليه يحدثك عن حرب له مع الروم واقرأ صفحات هذا المعركة في هذه الرائية صفحة صفحة تعلم صحة ما ذهبنا إليه.
قال يصف تقدم جيشه في بلاد العدو:
وجبن بلاد الروم ستين ليلة
…
تغادر ملك الروم فيمن تغادر
ولكن ماذا كان موقف سكان البلاد التي سارت فيها خيول الحمداني ستين ليلة:
تخر لنا ملك القبائل عنوة
…
وترمي لنا بالأهل تلك المصادر
ثم استمر على قراءة القصيدة لتعلم اقتراب جيشه من جيش العدو أعني لتعلم التقدم نحو الهدف:
ولما وردنا (لدرب) والروم فوقه
…
وقدر (قسطنطين) أن ليس صادر
ضربنا بها عرض (الفرات) كأنما
…
تسيرنا تحت السروج الحرائر
إلى أن وردنا (الرقتين) نسوقها
…
وقد نكلت أعقابها والمقاصر
فهنا اصطدم جيش الحمداني بجيش قسطنطين وهرب الأخير واستمر الأول على الزحف:
ومال بها ذات اليمين (بمرعش)
…
مجاهيد يتلو الصادر المتصادر
فلما رآى جيش (الدمستق) زاحمت
…
عزائمها واستنهضتها البصائر
لقد اصطدم هذا الجيش بقوات جديدة للعدو هي جيش الدمستق فاستمع إليه يصف هذا الصدام الجديد:
وما زلن يحملن النفوس على الوجى
…
إلى أن خضبن بالدماء الأشاعر
وولى على الرسم (الدمستق) هاربا
…
وفي وجهه عذر من السيف عاذر
فدى نفسه بابن عليه كنفسه
…
وفي الشدة الصماء تفنى الذخائر
لقد تحملت خيول الحمداني عبء المعركة ثقيلا إلى أن خضبت أشاعرها بالدماء حيث تم له النصر واندحر جيش الروم وفر قائده الدمستق بعد أن ترك ابنه أسيراً لدى أبي فراس.
هذه أبيات صورت معركة من معارك العرب تصويراً يكاد لا يختلف كثيراً ووصف المعارك الحديثة بالكتابة.
وهذا ابن هاني الأندلسي له باع طويل في تسجيل المعارك في شعره، فأقرأ قصيدته الدالية التي يصف فيها نصراً شهده لجيش جعفر بن علي بن غلبون واستيلاءه على قلعة كتامة قال:
أقمنا فمن فرساننا خطباؤنا
…
ومنبرنا من بيض ما تطبع الهند
ولو لم يقم فيها لحمدك خاطب
…
علينا وفينا قام يخطبنا الحمد
على حين لم يرفع بها لخليفة
…
منار ولم يشدد بها عروة عقد
وكانت شجاً للملك ستين حجة
…
وما طيب وصل لم يكن قبله صد
بها النار نار الكفر شب ضرامها
…
ولو حجبت في الزند لاحترق الزند
وعادت بها حرب الأزراق لاقحا
…
وإن لم يكن فيها المهلب والأزد
ولما اكفهر الأمر أعجلت أمرها
…
فألقت وليد الكفر وهي له مهد
أخذت على الأرواح كل ثنية
…
وأعقبت جنداً واطئا ذيله جند
لقد تحشد جيش ابن غلبون لغزو هذا الحصن الممتنع العاصي الذي لم يطع الخلافة الأندلسية ستين عاما حتى كان شجا في حلق الدولة وتقدم إليه ورماه بالنار فصمدت واكفهر الأمر على الفاتح فأعجل الضربة حتى سقط بين يديه وأحاطه بعسكره بعد أن سد على المدافعين الطرق والمسالك ودهمهم بجنده فتساقطوا جثثا وأشلاء.
ثم هذا أبو الطيب المتنبي يسجل وقعة للأمير الخالد سيف الدولة الحمداني بقصيدة رائعة شهيرة هي تلك التي يقول في مطلعها على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
وكان سيف الدولة قد غزا قلعة الحدث وصحب معه الشاعر:
خميس مشرق الأرض والغرب زحفه
…
وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة
…
فما تفهم الحداث إلا التراجم
فلله وقت ذوب الغش ناره
…
فلم يبق إلا صارم أو ضبارم
أما وقد علمت هذا الجيش ومقداره وتحشده فاعلم حاله قبل الصدام: -
تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا
…
وفر من الأبطال من لا يصادم
وهنا تخلص الجيش الحمداني من الضعفاء وسيدخل المعركة قريبا وبعد فاستمع إلى الشاعر يصور لك تعبئة القائد وأسلوب دخوله المعركة:
ضممت جناحيهم على القلب ضمة
…
تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب
…
وصار إلى اللبات والنصر قادم
وينخذل العدو بعد هذه الضربة ويستثمر الفوز ابن حمدان فيقول الشاعر:
نثرتهمُ فوق (الأحيدب) كله
…
كما نثرت فوق العروس الدراهم
تدوس بك الخيل الوكور على الذرى
…
وقد كثرت حول الوكور المطاعم
ثم يعلن لك المتنبي خسائر العدو في هذه المعركة ويذكر هرب قائدهم ومقتل ابنه وصهره وابن صهره حيث يقول:
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم
…
قفاه على الإقدام للوجه لائم
وقد فجعته بابنه وابن صهره
…
وبالصهر حملات الأمير الغواشم
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبى
…
بما شغلتها هامهم والمعاصم
ففيما تقدم من رائعة المتنبي هذه قرأنا صفحات المعركة كما اصطلح عليها الفن العسكري الحديث من تحشد إلى دخول المعركة إلى استثمار الفوز.
هذه أمثلة من أمثلة شعر الملاحم العربية تدل على غنى الأدب العربي عامة والشعر منه خاصة في هذه الناحية من نواحي تدوين الوقائع بالمنظوم، وعسى أن تكون لنا عودة إلى هذا الموضوع فنأتي بأمثلة أخرى لنقرأ فيها أخبار وقائع أخرى.
نعمان ماهر الكنعاني
الرئيس في الجيش العراقي
الأدب في سير أعلامه:
11 -
تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
خيوط من النور
وبطل هذه القصة التي هي في الواقع مجموعة فصول أقوى مثال للصعلوك الذي لا يكترث لشيء والذي لا يتأثم من شيء، والذي يرضى كل الرضاء عن أعماله جميعاً لا يشعر بأي أثر في نفسه مما يسميه الناس وازع الضمير؛ وفكرة القصة الرئيسية التي تدور حولها حوادثها هي أن هذا الصعلوك المسمى شيشكوف قد اعتزم أن يشتري من ملاك الضياع من يموت من رقيق الأرض قبل أن يسجل في سجل الموتى اسمه، لكي يرهن هؤلاء للمصرف على أنهم أحياء ويربح من وراء ذلك ربحاً كبيراً؛ وينتقل من مالك إلى مالك يتواطأ معهم على الإقرار بوجود هؤلاء الرقيق، وفي أثناء ذلك يصف المؤلف حال هؤلاء التعساء الذين يقول عنهم إنهم لا يحيون كما يحيا الخلق وإنما يوجدون فحسب! وكان هؤلاء الرقيق يسمون في روسيا وقتذاك الأنفس وكان الواحد يسمى نفساً، فإذا سأل أحد الملاك صاحبه عن عدد رقيقه قال له كم نفساً تمتلك، ومن هنا جاء اسم القصة (الأنفس الميتة)؛ والقصة مليئة بتلك السخرية القاسية وذلك الضحك الشيطاني الذي يتميز به فن جوجول. . .
ونشر جوجول في نفس الوقت الذي نشر فيه (الأنفس الميتة) قصة كان لها أثرها في النفوس؛ وهي ثالثة ما أشرنا إليه من قصصه، ألا وهي قصة (العباءة) أو (المعطف) أو يؤدي معنى الرداء الخارجي الذي يلبس فوق الملابس جميعاً اتقاء للبرد، وخلاصة هذه القصة أن أحد الكتبة الفقراء وهو شيخ ضعيف كانت أعظم أمنية له أن يشتري معطفاً، فما زال على خصاصته يقتصد من ماله القليل حتى اشترى المعطف المنشود، ولكنه مُنى في أول يوم فرح فيه بمعطفه بفتية من صعاليك الشوارع سرقوا منه المعطف فقضى نحبه من فرط غمه ويأسه، والقصة على بساطة موضوعها تصف البؤس والشقاء وسوء الحظ أقوى
تصوير وأصدقه. . .
ولجوجول كما أسلفت القول غير هذا الذي ذكرت كثير من القصص الطويلة والقصيرة والمسرحيات والنبذ الوصفية وما إليها وإنما اخترت هذه القصص الثلاث لأنها أكثر صلة بما نريد بيانه وأعني به كيف عبر أدباء الروس بالفن عن ثورة نفوسهم المكبوتة
وهكذا كان بوشكين وجوجول ومن دار حولهما من النوابغ يلقون على الأفق الحالك في حكم نيقولا الأول خيوطاً من النور كانت لأنفس الأحرار أنساً وشفاء وعزاء. . .
بقيت بعد ذلك كلمة عن تيارين فكريين قوى ظهورهما في عهد نيقولا وأعني بهما المدرسة الشرقية والمدرسة الغربية، أو بعبارة أخرى الاتجاه نحو أوربا والإبقاء على سلافية روسيا. . .
وكانت المدرسة الشرقية أو السلافية تؤمن بان مدنية روسيا غير مدنية أوروبا، وأن على الروس أن يحذروا مادية الغرب الوضيعة وأن يعودوا إلى تلك الجماعات التعاونية التي أقامها السلاف الأقدمون في قرى روسيا؛ وكانت قادة هذه المدرسة يعتقدون أن بطرس الأكبر لم يخدم روسيا بقدر ما أساء إليها بمحاولته صبغها بالصبغة الأوروبية، وكذلك كان أنصار السلافية يعدون الغرب في طور انحلاله لأنه بعد عن الجانب الروحي من الحياة، ذلك الجانب الذي اتصفت به روسيا السلافية والذي يجب أن يعيده الروس اليوم سيرته الأولى فينعموا بالإيمان والمحبة والتعاون فيما بينهم، ثم يذيعوا هذه المبادئ حتى تشمل الإنسانية جميعاً فيكون ذلك رسالة روسيا إلى العالم.
أما أنصار المدرسة الغربية، فكانوا يعزون ما في روسيا من شقاء العيش وطغيان الحكام إلى عزلتها عن أوربا وفلسفة أوربا وعلم أوربا. فإذا أرادت روسيا أن تخرج مما هي فيه فعليها أن تأخذ بمدينة أوربا في كل شيء فهذا سبيلها الذي لا سبيل لها غيره.
ومهما يكن من خلاف بين المدرستين فقد أفادت روسيا من دفاع كل منها عن وجهتها، وكانت لها من خلافهما يقظة، وبخاصة لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على أمر جوهري وذلك أنه في أي الوضعين لا يرجى لروسيا خير إذا أسلم أمرها إلى رجل واحد يستبد فيها بالأمر، ويصرف شؤونها كما لو كانت ضيعة من ضياعه.
هذه لمحة في الحال الأدبية في روسيا حتى أواخر حكم نيقولا الأول أي حوالي سنة 1851
عندما بدا الفتى ليو تولستوي يتجه في جد إلى الأدب ليغدو بعد أمد غير بعيد أعظم كتاب القصة في القرن التاسع لا في روسيا وحدها بل في أوروبا جميعاً.
هجرته إلى القوقاز
كان لابد للفتى من هجرة إلى بلد ما، فقد ضاقت نفسه بيسنايا وبموسكو وببطرسبرج جميعاً، ومل حياته بين العبث والإسراف فيه والندم والركون إليه حتى لم يعد يطيق شيئا من هذا، بل إنه لم يعد يصبر حتى على التفكير فيه. . .
واتفق أن جاء من القوقاز أخوه الضابط نيقولا إلى يا سنايا في إجازة عيد الميلاد فنصح لأخيه نصحه في كثير مما كان يشغل باله، ومن ذلك أن يدع الزواج حتى يطمئن إلى ارتباطه برباط الحب ثم حبب إليه أن يصحبه إلى القوقاز فما أسرع ما أخذ ليو برأي أخيه وتأهب للرحيل. . . واتفقت الأسرة أن يصرف زوج أخته أمور ضياعه في غيابه وأن يدفع عنه ديونه وذلك على أن يقنع ليو بخمسين ومائة جنيه كل عام حتى يؤدي الدين كله، وقبل ليو هذا الشرط وسافر في صحبة أخيه. . .
ووقفت بهما العربة عند أول محطة على بعد أربعة عشر ميلا فما راعه إلا كلبه الأسود المحبوب قد أقبل يلهث من شدة الحر ومن سرعة العدو حتى لحق به، وعلم بعد ذلك أنه كسر لوحا من زجاج إحدى نوافذ الغرفة التي كان محبوسا بها وانطلق يعدو ليدركه لأنه لا يطيق أن يرحل عنه.
ويذكرنا هذا الرحيل برحيل (تشايلر هارولد) أو اللورد بيرون حين اضطر إلى مغادرة انجلترة إذ ضاق بها وضاقت به بعد أن أسرف على نفسه فيما أنكره المجتمع منه، وقد وجه بيرون الخطاب إلى كلبه في أول قصيدته التي وصف فيها رحلته يقول إنه لا يجد من يأسف على رحيله حتى كلبه هذا فلسوف ينساه وينكره حتى ليثب عليه ويعضه إن قدر له أوبة من غربته. .
كانت رحلة بهيجة سارة، فقد قطعا جانباً منها إلى استراخان في زورق على صفحة الفلجا، وقد عرجا على موسكو وقازان وقضيا بضعة أيام في كل من المدينتين، وكتب ليو من موسكو إلى عمته تاتيانا يخبرها في لهجة الفخر أنه استطاع أن يقهر نفسه حين زار ناحية الغجريات، ويصف لها مقدار ما بذل من مغالبة منه لنوازع نفسه حتى أمكنه أن ينتصر بعد
جهد بالغ. . .
وفي قازان قابل تلك الفتاة التي عرفها منذ نحو خمسة أعوام صديقة لأخته ماري وأحس يومها بميل شديد نحوها وهي زنايدا مولستفوف، ولقد أحس أنه على الرغم من تلك الأعوام الخمسة لم يزل بها متعلقا. قال في يومياته بعد ذلك بشهرين (لم أفه بكلمة من كلمات الحب، ومع ذلك فقد كنت واثقا أنها كانت تدرك مشاعري، ولئن كانت بادلتني إياها فذلك لأنها كانت تفهمني. . كانت صلاتي بزنايدا يوم ذاك لا تعدو تلك المرحلة البريئة، مرحلة انجذاب روحين كل منهما نحو الأخرى؛ أيداخلك الشك في أني أحبك يا زنايدا، إن كان ذلك فإني أسألك الصفح فإن الخطأ خطأي إذ كان على أن أؤكد لك ذلك بكلمة. . أتذكرين حديقة كبير القساوسة يا زنايدا وممرها الجانبي؟ كان على أثلة لساني ما أفصح به عما في نفس كما كان على لسانك، ولكن كان عليَّ أن أكون أنا الباديء؛ أتدرين لماذا فكرت ثم لم أقل شيئا؟ ذلك لأنني كنت من السعادة بحيث لم يبق ما أرغب فيه، وخشيت أن أفسد لا هناءتي وحدي بل هناءتنا. . وسيبقى هذا اللقاء أعز ذكرى إلى نفسي حتى نهاية حياتي).
غادر ليو قازان إلى القوقاز مستمتعاً بصحبة أخيه، مبتهج النفس بما تركه فيها لقاء زنايدا، مرتاحا إلى ما يهجس في خاطره من أنه انطلق من حياة العبث انطلاقا لا رجعة فيه؛ ويجد القارئ وصفا لهذه الحال النفسية في شخصية أولينين بطل قصة (القوزاق) التي كتبها بعد ذلك بقليل، وكان أولينين كذلك مسافراً قال (في مثل هذه الحال العقلية السعيدة التي يحدث فيها نفسه فجأة شاب يستشعر أخطاءه الماضية قائلا إن ذلك لم يكن حقيقياً، فكل ما حدث في الماضي كان عرضا عديم الأهمية، وإنه حتى ذلك الوقت لم يكن حاول محاولة جدية أن يعيش، ولكن حياة جديدة بدأت تتهيأ له أسبابها، حياة لا شيء فيها من خطأ ولا من ندم، فليس إلا السعادة. وكان من الأمور البينة أن تلك الأخطاء لن تعود بين الجبال ومساقط المياه والأخطار والشركسيات الحسان)
وجد المسير بهما جده حتى بلغا ستارى يورت في القوقاز وأقاما في خيمة أول الأمر، وأعجب ليو بمنظر الرواسي الشامخة من الجبال، وكان لا يفتأ يقلب عينيه فيها ويتأمل فيما يبعثه منظرها من رهبة في نفسه، وكتب إلى عمته تاتيانا يصف لها تلك الأطواد في نشوة وحماسة، ويشرح لها البيئة التي سوف يقضي في قراها قرابة ثلاثة أعوام؛ وإن المرء إذ
يقرأ ما جاء في قصة (الفوازاق) من وصف للجبال ليتملكه العجب من روعة وصفه، ومرد ذلك الوصف البليغ الساحر إلى معيشته سنين في سفوح هاتيك الجبال الشاهقة. . .
ولم يكد يمضي أسبوعان عليه في ستارى يورت حتى عاد إلى إحدى عاداته السيئة التي كم اعتزم أن يطلقها ألا وهي الميسر، فجلس يلعب ذات ليلة فخسر في هذه الجلسة خمسين وثمانمائة روبيل أو ما يساوي سبعة وعشرين ومائة من الجنيهات، وكدرت نفسه هذه الخسارة لا ريب، وكدرها كذلك عودته إلى هذا الذي طلب الهجرة ليتخلص منه وهو من أرذل نزعات نفسه؛ ولكن الندم عقب ذلك أخذ يتغلغل في أعماق نفسه. وآية ذلك أنه استطاع ألا يقرب الميسر بعد هذه الليلة ستة أشهر كاملة، كان يقضي فيها أوقات فراغه في الصيد والكتابة والقراءة (وتعقب حسان القوزاق).
ولفت إليه ببسالته القائد العام في تلك الجهة للجيش الروسي وذلك أثناء تطوعه ذات مرة في حملة على بعض القبائل، كانت مهمة ذلك الجيش هناك مطاردتها؛ وقد اقترح القائد أن يحلقه بالفرقة ليكون أحد رجالها؛ ووقع ذلك من نفسه موقعاً حسنا، ولعله تخيل لنفسه ما تخيله أولينين بطل قصته من البسالة والقوة، وحلم كما حلم أولينين بأن يكون قاهر القوازاق وبأن يعزى إليه وحده الفضل في تسكين القبائل الثائرة هناك.
وأرسل إلى تفليس ليمتحن هناك نوعا من الامتحان يهيئه النجاح فيه للالتحاق بالجيش، ورأى في تفليس ما يشبه الحياة في قازان فحن إلى حياة المدن بعد تلك الأشهر التي قضاها في القرى والأماكن البرية وأوشك أن يعقد النية على أن يعود أدرجه إلى موسكو، وصار يحس أنه يحيا في تلك القرى حياة أشبه ما تكون بالمنفى. . .
وظل في تفليس أياما يستمتع بمثل ما كان يستمتع به في موسكو أو في قازان، ويترقب بقلب نزوع وصبر فارغ نبأ إلحاقه بالفرقة الرابعة متطوعا فإن ذلك كفيل أن يخرجه من تردده ويجعله يركن إلى البقاء في القوقاز.
وتم له ما أراد فعاد إلى ستارى يورت، وهناك توثقت عرى الصداقة بينه وبين فتى يدعى سادو، وكانا يتعاونان في السراء والضراء ويطعمان معاً كلما واتتهما فرصة لذلك ويقتسمان المال بينهما ويتبادلان الهدايا، وقد أعجب ليو بصاحبه وما رأى من بسالته وجميل مودته وإخلاصه له ذلك الإخلاص الذي أدى به أكثر من مرة إلى أن يعرض نفسه للأخطار
لينجي صاحبه؛ وطاب الفتى نفساً بهذه الصداقة وأحب من أجلها الحياة في القوقاز.
وكان سادو مقداماً لا يهاب شيئا، يهجم على قرى الأعداء فيأتي منها بما يبيعه وبذلك يحصل على المال فهو متلاف يبسط يده كل البسط وأبوه على ثرائه يضن عليه إلا بالقليل الذي لا ينقع غلته. . .
وكان على ليو أن يدافع عن سادو كما يدافع هذا عنه، ولذلك كان يتعرض لكثير من الخطر من أجله، حتى لقد أوشك ذات مرة أن يؤسر هو وصاحبه، ونجا مرة أخرى من الموت وهو على حافته إذا انفجرت قذيفة مدفع على مقربة منه.
ويعنينا من هذا ما نذكره عن حياته في القوقاز لصلته بفنه، فلسوف يصف هذه الحياة وصفاً يكسبه على حداثته ذيوع الصيت في دنيا القصة، ويضفي على عمله من الأصالة والروعة والدقة ما يسلكه وهو حدث في القلائل الأفذاذ.
(يتبع)
الخفيف
قصائد تكريم مطران في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
- 3 -
عندما كرموا شوقي منذ أكثر من عشرين عاماً أرسل لبنان شاعره المجلى بشاره الخوري فصدح بقصيدته الخالدة:
قف في ربى الخلد واهتف باسم شاعره
…
فسدرة المنتهى أدنى منابره
فطار ذكرها في الآفاق، وبقيت بقاء الزمان. . . وعندما كرموا خليل مطران في الشهر الماضي أرسل لبنان الأستاذ شبلي الملاط بك شاعر الأرز، وهو الذي نعرف له ماضيه البعيد، وآثاره الحسان، وبدائعه الجميلة، فصدح بقصيدة خانه التوفيق فيها كثيراً!!. . . نعم، كنا نود لو أن لبنان كرم الخليل وهو ابنه وشاعره، وقيثارته المغردة بذكره وحمده، المتغنية بأمجاده وآثاره، المترجمة عن مشاعره وهواه. كنا نود أن يكون تكريمه بالجليل العظيم من الشعر، والفخم الضخم من الكلام الذي يسير سير الشمس، ويمشي على أفواه الناس مشي النار في يابس الحطب وإنه بذلك لقمين.
ألقى الأستاذ شبلي الملاط بك قصيدة طويلة تزيد على الستين بيتاً لم يعرض لذكر الخليل إلا في عشرة منها، وانصرف في باقيها يسوق كلاماً يأخذ بعضه برقاب بعض، ويجر نفسه جراً، دون وقفة تأمل، أو هدأة تصور، ودون خلجة قلب، أو همسة نفس! ولقد كنت تحس وأنت تقرأ القصيدة أنك تعتسف في بيداء مجهل، لا ظل ولا ماء، وكنت تشعر بالفراغ يشتملك ويحيط بك من كل نواحيك، وتحس إقفار البيداء إقفاراً شديداً، فتنظر هنا وتنظر هناك علك تصيب حياة أو تجد أنساً فلا تلقى إلا صوراً باهتة لا تدل على شيء، ولا تسمع إلا أصداء بعيدة لا تؤدي بك إلى شيء!
ولقد أسرف الشاعر في نسج أبيات يشهد الله أنها كانت هواء خلاء لا تكاد تعرف لها معنى إلا أن يقال عنه طويل النفس فأي معنى في قوله:
تعاقبت القرون فيمن هبوط
…
تمر به القرون ومن صعود!
وأي معنى وأي شعر في قوله:
لها في كل ناحية حدود
…
وتأبى أن تنام عن الحدود!
ولقد كانت قصيدة شبلى الملاط جميعها كالحجارة المرصوصة المصفوفة بعضها وراء بعض لا ترى بينهما زهرة يانعة، أو وردة متفتحة. . . وقد خلت القصيدة من كل خيال ومن كل ظل ومن كل صورة من بدائع الصور التي لا يكون الشعر شعراً إلا بها وإلا فهو كلام لا طعم له ولا مذاق فيه! وأغلب ظني أن الشاعر عنى بأن يضفي على قصيدته ثوب القصة أو الملحمة القصيرة فخانه الحظ كثيراً فخرجت من أساطير الأقدمين أو بحكاية من حكايات كليلة ودمنة! وليتها كانت!
وكان الكثير من كلامه مبتذلا رخيصاً بعيداً عن جو الشعر وما ينبغي له من رونق وجمال وإشراق، وماذا من الشعر في قوله لمصر:
فإنا ما يشاء بنوك شئنا
…
من استقلال آفاق الصعيد!
وماذا منه في قوله:
بلبنان. . . الجلاء أصاب عيداً
…
وفي مصر سنشهد أي عيد!
وماذا منه في قوله إلى عذارى النيل:
وشاركن الشباب وكل حر
…
يموت ولا يعيش من العبيد
أين الموسيقى الشائعة في القصيدة؟ وأين العبارة الزنانة الآخذة بمجامع القلوب؟ قصارى ما بلغته هذه القصيدة - وهي لم تصور من نواحي الخليل إلا اليسير القليل - أنها خلت من الأخطار اللغوية والأخطاء النحوية إلا في كلمة واحدة، وذلك أضعف الإيمان!!. . .
وكانت القصيدة الأخيرة في حفلات تكريم الخليل التي قرأناها لصديقنا الشاعر محمد عبد الغني حسن، وأشهد أن هلا في جملتها إشراقا وموسيقى لم يتوفرا لقصيدة الملاط، غير أن الناظر فيها نظرة المتأمل المدقق، يجد فيها هنات كنا نربأ بصديقنا عنها فقد ابتدأها بقوله (جئت ألقي في بابك الأعذارا) والأعذار لا تلقى وإنما تلقى الأحجار، وقال فيها مخاطباً الخليل (أنت كالبدر في الوجود ائتلاقاً) وكلمة الوجود فوق أنها ليست من الشعر في شيء لا ضرورة لذكرها والأستاذ خير من يعلم ذلك، وقال عجزاً لأحد الأبيات (ثم أصلح في كفك المزمارا) وأصلح هذه لغة رجال (التخت) لا رجال الشعر، وقال البيت الآتي عن العود:
لا تقل حطمته مر الليالي
…
لم تحطم من عودك الأوتارا!
والبيت لا شعر فيه، وأين هو من قول خليل مطران في مثل هذا المعنى:
حطم العود إن كر الليالي
…
لم يغادر في العود إلا الأنينا!
والأوتار لا تحطم وإنما تقطع ولكنه رد العجز على الصدر وكفى. وقال يصف قلب خليل مطران:
أنت ذوّبته حناناً وعطفاً
…
أنت رقعته جوى واستعاراً
وما معنى أنه رقعه جوى واستعاراً؟؟، وقوله عن الدموع (زدتها في عيوننا إكبارا) أقرب إلى كلام العامة وقوله للخليل (يا وقور الأشعار) اضطرار في الكلام كريه، فالشعر رجع للانفعال والإحساس الثائر المرهف فلا أفهم وصفه بالوقار، وقوله عن جبل لبنان إنه (مثل الأهرام في الجو خلداً) فإن كلمة الجو هنا لا معنى لها! وقوله بعد ذلك إننا (انتظمنا عواطفاً وشعوراً) يريد العكس أي انتظمتنا عاطفة واحدة وشعور واحد وهذا هو الأولى. . .
على أن الأستاذ عبد الغني كان شاعراً حقا في قوله:
يا دليل الركبان في القفر إني
…
ما رأيت الحياة إلا نفارا
يا دليل السفين في البحر إني
…
لم أخض في الحياة إلا بحارا
وإذا ما المنى نفرن علينا
…
فمن الخير أن نزيد نفارا
فعلينا المسعى الجميل ولكن
…
ما علينا أن ندرك الأوطارا
ولعله كان في هذه الأبيات يتكلم عن شعور متدفق من نفسه، وذخيرة مكنونة في فؤاده.
وكنا نود أن نتكلم قليلا عن شعر خليل ولكننا وجدنا المحتفلين به قد أفاضوا القول فيه، وصار كل كلام يقال فيه بعدهم معاداً مكرراً. . . على أننا نقولها قولة حق لا التواء فيها إن الشعر لم يؤد ما يجب عليه لشيخه الجليل، وإن الشعر قصر كثيراً في تكريمه والاحتفال به، والوفاء له، وكان الرجل حرياً بأن يقال فيه أجزل الشعر، وأقوى القصيد وأكرمه، فذلك حق يتقاضاه ويدٌ لا تقوم بشكر أياديه، وله العمر المديد حتى يؤدي إليه دينه كله!
علي متولي صلاح
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
920 -
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
صيد الخاطر لابن الجوزي: بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام، فقال: لا آكل، فقيل له: لم؟ قال: لأن نفسي تشتهيه، وأنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي، فقلت: لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين، وسبب خفائها عدم العلم. أما الوجه الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على هذا ولا أصحابه، وقد كان (عليه الصلاة السلام) يأكل لحم الدجاج، ويجب الحلوى والعسل. ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد، ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله، ولا أحب من أكله. فقال الحسن: لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم؟ وجاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالجوذج. فقال: ولم؟ قال: يقول: لا أؤدي شكره. فقال: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد. وكان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج والحمل المشوي، ويقول: إن الدابة إذا أحسن إليها عملت. وما حدث في الزهاد أمور من الفن مسروقة من الرهبانية وأنا خائف من قوله تعالى (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) والوجه الثاني أنى أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي أن لا يتناول، وللنفس في هذا مكر خفي، ورياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل وإدلالها في الباطن به، مخاطرة وغلط.
شرح النهج لابن أبي الحديد: جاء فرقد السبخي إلى الحسن، وعلى الحسن مطرف خز، فجعل ينظر إليه، وعلى فرقد ثياب صوف، فقال الحسن: ما بالك تنظر إليّ، وعليَّ ثياب أهل الجنة وعليك ثياب أهل النار؟ إن أحدكم ليجعل الزهد في ثيابه والكبر في صدره فلهو أشد عجباً بصوفه من صاحب المطرف بمطرفه. وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: إن كان لباسكم هذا موافقاً لسرائركم فلقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفاً لها لقد هلكتم
في (الكتاب) الكريم العظيم:
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟).
(هو الذي سخر لكم ما في الأرض جميعاً).
(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه).
921 -
أبو نواس
الموشح للمرزباني: الجمار قال: كنت عند أبي نواس، قال: اسمع أبياتاً حضرت، قلت: هات، فأنشدني:
وملحمة باللوم تحسب أنني
…
بالجهل أوثر صحبة الشطار
بكرت عليّ تلومني فأجبتها
…
إني لأعرف مذهب الأبرار
فدعي الملام فقد أطعت غوايتي
…
وصرفت معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إتياني اللذاذة والهوى
…
وتعجلا من طيب هذي الدار
أحرى وأحزم من تنظر آجل
…
علمي به رجم من الأخبار
ما جاءنا أحد يخبر أنه
…
في جنة من مات أو في النار
فلما بلغ إلى هذه البيت قلت له: يا هذا، إن لك أعداء وهم ينتظرون مثل هذه السقطات، فاتق الله في نفسك، ودع الإفراط في المجون، وأكتمها. قال: والله لا أكتمها خوفاً، وإن قضى شيء كان، فنمى الخبر إلى الفضل بن الربيع ثم إلى الرشيد فما كان بعد هذا إلا أسبوع حتى حبس.
922 -
. . . لكان خليفة وقتنا أحق باللعن
منهاج السنة النبوية لابن تيمية:
كان (الشيخ عبد المغيث الحربي) ينهي عن ذلك (عن لعن يزيد) وقد قيل: إن الخليفة الناصر ما بلغه نهي الشيخ عبد المغيث قصده وسأله عن ذلك، وعرف عبد المغيث أنه الخليفة، ولم يظهر أنه يعلمه فقال: يا هذا، أنا قصدي كيف ألسنة الناس عن لعن خلفاء المسلمين وولاتهم، وإلا فلو فتحنا هذا الباب لكان خليفة وقتنا أحق باللعن، فإنه يفعل أموراً منكرة أعظم مما فعله يزيد؛ فإن هذا يفعل كذا ويفعل كذا، وجعل يعدد مظالم الخليفة حتى قال له: ادع لنا يا شيخ. وذهب. . .
923 -
الناس على دين ملوكهم
تاريخ الطبري: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد، مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع النار، وأعطى الناس، وأعطى المجذّمين وقال لا تسألوا الناس. . . وفُتح في ولايته فتوح عظام: فتح موسى بن نصير الأندلس، وفتح قتيبة كاشغر، وفتح محمد بن القاسم الهند. . . وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن التزويج والجواري، فلما ولى عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟
924 -
. . . فعاق اللقاء
نفح الطيب: قال أبو الحسن بن سعيد: ما سمعت ولا وقفت على شيء أبدع من قول الجزار وقد تردد إلى جمال الدين بن يغمور رئيس الديار المصرية فلم يقدر له الاجتماع به:
أسأل الله أن يديم لك الع
…
ز ويبقيك ما أردت البقاء
كل يوم أرجو النعيم بلقي
…
اك فألقى بالبعد عنك شقاء
علم الدهر أنني أشتكيه
…
لك إذ نلتقي فعاق اللقاء
فبعث له بما أصلح حاله من الإحسان، وكتب في حقه إلى ولاة الصعيد كتباً أغنته مدة عن شكوى الزمان. ولم أسمع في وضع الشيء موضعه أحسن من قول المتنبي:
وأصبح شعري منهما في مكانه
…
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
ولم أسمع في وضع الشيء غير موضعه أحسن من قول أبي الفرج:
مر مدحي ضائعاً في لؤمه=كضياع السيف في كف الجبان
925 -
أنسب العرب
أمالي المرتضى: ابن المزرع قال: قلت لأبي عثمان الجاحظ: من أنسب العرب؟ فقال الذي يقول:
عجلت إلى فضل الخمار فأثرت
…
عذبانه بمواضع التقبيل
وقال: هذا للبحتري في القصيدة التي أولها: (صب يخاطب مفحمات طلول).
وفي نسيب هذه القصيدة بيت ليس يقصر في الملاحة والرشاقة وأخذن بمجامع القلوب عن البيت الذي فضله به الجاحظ وهو:
أأخيب عندك والصبا لي شافع
…
وأرد دونك والشباب رسولي
وفي مديح هذه القصيدة بيت معروف بفرط الحسن وهو:
لا تطلبن له الشبيه فإنه
…
قمر التأمل مزنة التأميل
926 -
العمل على العادة. . .
العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ لصالح بن مهدي المقبلي اليمني:
كان بعض الأمراء المغفلين قال له أصحابه: إذا جاءك أحد لأمر فقل: العمل على العادة. فجاءه يوماً إنسان قد ضرب رأسه والدم يسيل منه، فشكا إليه ذلك، فقال: العمل على العادة.
فقال الرجل: لم يكن في رأسي عادة أن يضرب قبل. وكانوا أيضاً عينوا له يوماً من الأسبوع للشكاية هو أمس ذلك اليوم فقال للرجل: يوم الشكاية أمس، فهلا جئتنا أمس؟ فقال الرجل: إنما ضرب رأسي كما ترى اليوم. ونرى أرباب الدولة الظالمة وسائر أعوانهم. . . إذا قيل لهم في شيء مما يأخذون من الأموال وكثير مما يأتون ويذرون: ما وجه هذا؟ قالوا: عادة، فإن عاودتهم سخروا منك، وقالوا وفعلوا بحسبما يقضي الهوى في القضية. . . وكذلك أشياء جرى عليها الناس مما يتعلق بالدين ومما يتعلق بالدنيا إذا سألتهم عنه كان جوابهم الذي لا يراجع فيه إلا أحمق عندهم - قولهم: عادة. . .
وحي الساعة.
. .
بين رياض المنصورة
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
بين يمن الزمان والإقبال
…
حدثينا عن خالدات الليالي
يا ربوع الأبطال قصي علينا
…
سيرة من مواقف الأبطال
نحن في فرحة الجلاء ظماءٌ
…
لمعين من نبعك السلسال
فأفيضي الحديث ذكرى نضال
…
يعربي أكرم به من نضال
يوم ذل الجبار في ساحة الأس
…
ر وباع الحياة بالآمال
جاء يُزَهي بصولجان وتاج
…
فانثنى بالقيود والأغلال
مثلما تطمع الحمامة في النس
…
ر ويمشي الغزال للرئبال
زلزل الأرض تحته لجب الخي
…
ل يُدوِّي بين القنا والنضال
واثبات عليه تصهل بالمو
…
ت وبأس الجياد في التصهال
إيه يا ساحة البطولة والنص
…
ر ومهد الهوى ومغنى الجمال
جنة الله أنت تزخر بالحو
…
ر تهادى بين السنا والظلال
والضفاف السواحر الخضر تجري
…
تحتها في وضاءة وجلال
تتغنى بها النسائم لحنا
…
في معاني قطيعة أو وصال
آه من همسة الغصون ونجوى الطير
…
بين البكور والآصال
ومن الموج حين يبعث في الشطآن
…
ذكرى ليلاتهن الخوالي
ومن النور في مرائيه يسري
…
حائراً حيرة الرؤى في الخيال
ومن الخافق الذي تستثير الشو
…
ق فيه تلك الربى والمجالي
يا لقلبي لما اطمأن به الرك
…
ب وألقى هنا عصا الترحال
شاركتني ضلالة الحب قلبي
…
فتبارى ضلاله وضلالي
وانتبذنا هنا مكانا قصيا
…
وشكوت الهوى له وشكا لي
كيف ننجو من المفاتن تبدو
…
هاتفات بسحرهن حيالي
لم تدعني أنضد الشعر فيها
…
في عقود تغار منها اللآلي
واستبدت بناظري فتملي
…
وتجلت لخاطري فصفا لي
فشغلنا بذاك عنها فعذراً
…
رب كُثْر يكون في الإقلال
هو الوجد.
. .
للأستاذ العوضي الوكيل
هوَ الوجدُ ما تخفى بنفسك أو تبدي
…
هو الوجد. . . فاذكر ما لقيت من الوجد!
ونهنه ترنيما بقلبك أوشكت
…
تفيض، كمنهلِّ الدموع على الخد
وقد خلق الله المدامع رحمةً
…
فتجدي، إذا ما الصبر أصبح لا يجدي!
عرفت هنا من منذ عشرين حجةً
…
معاهدَ ما زالت على حالها بعدي
وما كان لي فيها هوى فأعيده
…
ولا كان لي وجد بليلي ولا هند
رأيت هنا من لا أطيق ادِّكاره
…
يهدهدني، حتى كأنَي في المهد
ويا طالما سرنا على النيل صحبة
…
وهاأنذا أمشي على شطه وحدي
فهل أنا سال بالبساتين نضرة
…
تأزرن من آذار بُرداً على برد
وبالشفق المخضوب قد لاح فاتناً
…
وعطر الربى يسري في الآس والورد
وهل أنا سال بالنخيل وقد بدا
…
كرهبان دير في التبتل والزهد
له صور في الماء كالطيف روعة
…
تعيد من الأحلام والشعر ما تبدي
سرت في دمي نجوى خفيٌّ دبيبها
…
فأورت خفوقاً في ضلوعي كالزند
فيا جيرة الأيام ولت حميدة
…
أعندكم من لهفة الشوق ما عندي؟
وهل أنا سال بالأصيل وسحره
…
وما فيه من هول التصاوير والجد
يرف الهوى الريان في نسماته
…
ويخطر نشوان التنقل والوخد
وبالصحبة الغر الذين إذا شدوا
…
شدت لهم الأيام لحناً من الخلد
يقودهم للنصر أكر قائد
…
ويهديهم للمجد أرشد من يهدي
أبا الشعر لا يجديك شكر نسوقه
…
ولا خالص صاف من الحب والود
أقمت عكاظ الشعر والنثر ها هنا
…
بأرباض وادي النيل لا في ربى نجد
وأحييت من ذكرى البطولة وقعة
…
بها غزى الغازي وبوغت بالقيد
جعلت لأيام العروبة رونقا
…
يجمله الفاروق ذو العزم والأيد
الأدب والفن في أسبُوع
خطبة. . ودهشة!
نقلت الأنباء البرقية تفاصيل الزيارة التي قام بها سلطان مراكش لمنطقة طنجة، وقالت هذه الأنباء فيما نقلته:(وقد أدى السلطان صلاة الجمعة في مسجد طنجة الكبير، ودهش الناس إذ رأوه يرتقي منبر المسجد ويلقي خطبة الجمعة بدل الإمام. .)
دهش الناس!! هكذا قالت الأنباء في روايتها بالنص، وحق للناس والله أن يدهشوا وأن يعجبوا، لأنهم يعتقدون في هذه الأيام أن مرتبة الخطبة في الجمعة مرتبة نازلة يكفي أن يتقلدها فقيه كتّاب، أو شخص يحسن قراءة الفقرات المسجوعة من كتاب. .
كلا أيها الناس، لا موضع للدهشة لو علمتم، فقد شرعت خطبة الجمعة لتكون قوة موجهة للعقول والأفكار، ولتكون صلة بين الحاكم والرعية في التوجه إلى الدين والأخذ بمظاهر الدنيا، وقد كانت مرتبة النبوة من قبل، وكان منبر المسجد مرقى الخلفاء الراشدين وحكام المسلمين، وكانت في موضوعها يوم ذاك تعالج الحال القائمة في صفوف الجماعة، وفي أسلوبها نموذج من الأدب العالي تتجلى فيه الروعة والبراعة، فلما صار الأمر في قيادة العرب للأعاجم، وارتضخت الألسن العامية واللكنة، وتدلت الأقدار عن مراقيها، كان شأن الخطبة ما نراه اليوم، مادتها كلام ملق مضطرب، وأداتها سيف من الخشب، وهدفها تعداد الفضائل للأيام والمواسم. . . إنه تقليد حسن ذلك الذي أحياه سلطان مراكش العظيم، فهل يمكن أن نراه تقليداً سائداً في جميع الأقطار الإسلامية؟.
الغرب والسيادة الأدبية:
تنشر (الأهرام) تحقيقات صحفية عن الحالة في إيطاليا بعد الحرب للصحفي النابه الأستاذ أميل خوري، وهي تحقيقات تتميز بدقة الملاحظة وعمق التفكير وتبين العلل الكامنة وراء الظواهر الواضحة. .
وإنما يعنينا من هذه التحقيقات كلمة عرض بها الكاتب إلى الحالة الأدبية في إيطاليا خاصة وفي أوربا عامة إذ قال: (والأضرار الأدبية التي أنزلها الفاشية الغاشمة بالأمة الإيطالية يلمس الباحث بعضها في ضعف الإنتاج الفكري ذي القيمة الصحيحة، فقد تضاءل عدد الأدباء المنتجين من أبناء الجيل الذي تفتحت أكمام نفسه لشمس الحياة في مطلع عهد
موسوليني والذي هو اليوم جيل الشباب في إيطاليا. وأظنني أكون أكثر إنصافاً وأقرب إلى محجة الصواب والحقيقة إذا قلت إن هذا النضوب تشكو منه بلاد أخرى، أو البلاد الأوربية بأسرها التي لم يقم فيها طاغية ولم تأخذ النظم الغاشمة على شبابها سبل الأدب الحر والتفكير الطليق، ففرنسا مثلا التي ظهر فيها غداة الحرب العامة الأولى رهط من كبار الكتاب والمفكرين لا نجد فيها من الكتاب الجدد سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة)
(فالداء إذن أوربي عام، لا إيطالي خاص، وأظنه مظهراً من مظاهر إحدى الأزمات الحادة التي يشكو منها الغرب والتي لا تدل على أن هذه القارة آخذة بالأسباب التي تضمن لها الاحتفاظ بعد وقت قصير بالسيادة الأدبية والفكرية التي بسطتها على العالم غداة خروجها من ظلمات القرون الوسطى. .)
وهذا الذي يقوله الكاتب صحيح، وإن الباحث ليلمس آثاره وشواهده لأول نظرة يلقيها على الحالة الأدبية والفكرية في أوربا، ولكن ليس معنى هذا أن أوربا ستفقد سيادتها الأدبية والفكرية كما يتوقع الكاتب، لأنها حال عامة تتمثل في جميع قارات العالم، فنحن مثلا في مصر لم نجد الشبان الذين استطاعوا أن يشغلوا الأذهان عن أولئك الشيوخ الذين سيطروا على الحركة الفكرية منذ الحرب الأولى ولا تزال أسماؤهم إلى اليوم تتداولها الألسن وتشخص إليها الأبصار، وهذه أيضاً هي الحال في جميع الأقطار العربية وفي كل مناحي الشرق.
وهذه الحال في حقيقتها لا ترجع إلى إقفار الأذهان من النبوغ، بل إنها ترجع إلى ضآلة التقدير للقيم الأدبية، فالعالم الآن يعيش في نشوة علمية اقتصادية يغذى بها عواطفه ومشاعره، فالناس يعنيهم أن يلتفتوا إلى الصراع القائم بين المذاهب الاجتماعية والسياسية الآن أكثر مما يعينهم الأدب الخالص، وليس هذا مما يدعو إلى التشاؤم والخوف على مستقبل الأدب والقيم الروحية فإن العالم لابد أن يضيق بهذه الحال الطارئة، ويعود الناس في يوم قريب متلهفين يبحثون على صلاتهم الطبيعية بالحياة، ولن يكون ذلك إلا إذا هدأت الأعصاب المتوترة واطمأنت الأفكار القلقة وانتهى ذلك النضال العنيف القائم حول الرغيف.
المؤتمر الثقافي العربي الأول:
أذاعت الأمانة العامة للجامعة العربية أن اللجنة الثقافية بها تعمل على تهيئة الوسائل لعقد المؤتمر الثقافي العربي الأول في لبنان في شهر سبتمبر القادم، وأن اللجنة لا تزال تتلقى كثيراً من الأبحاث والتقارير من مختلف البلاد العربية عن المواد التي سيتناولها المؤتمر في جداول أعماله، وسيشترك في هذا المؤتمر مندوبو البلاد العربية وكثيرون من العلماء والباحثين في الثقافة العربية كما سيحضره بعض المستشرقين للاستماع أو المحاضرة، وسينتهي المؤتمر إلى اتخاذ قرارات حول مواد الثقافة العربية في اللغة والأدب والتاريخ والتربية الوطنية ويبدي ما يراه من المقترحات لتعديل برامج التعليم والثقافة بما يحقق الفكرة الموحدة. .
مؤتمر للآثار العربية:
كما أذاعت الأمانة أيضاً أن الإدارة الثقافية بالجامعة تتخذ العدة لإقامة مؤتمر آخر في الصيف القادم للبحث في شؤون الآثار الموجودة في البلاد العربية والعمل على صيانتها وتبادلها، وهذان المؤتمران هما أول المؤتمرات التي تعقدها الجامعة العربية مستهدفة فيها توثيق عرى الصداقة بين البلاد العربية وتنشيط الاتجاه القومي العربي فيها، ونحن إذ نحبذ هذه المؤتمرات وندعو إلى الإكثار منها حتى تكون طريقاً من الطرق لتوثيق الروابط بين أبناء العروبة وتوحيد الاتجاه الفكري في البلاد العربية، فإننا نرجو أن لا تجعل الجامعة العربية الشأن في هذه المؤتمرات قاصراً على الرجال الرسميين، وأن تتعدى بها دائرة المؤتمرات الحكومية التي تقف في إبداء الرأي عند التقاليد المرعية، بل يجب على الجامعة أن تفتح الباب الواسع للباحثين الطلقاء والمفكرين الأحرار حتى تثمر هذه المؤتمرات ثمرتها، وتؤدي مهمتها
آثار الهند:
أعلن الزعيم الهندي المسلم أبو الكلام آزاد عضو الحكومة الهندية المؤتمر أنه سيطلب إلى الحكومة البريطانية، إعادة بعض القطع الأثرية الهندية التي نقلت إلى المتاحف البريطانية، ومن القطع الغالية التي سيطالب الزعيم الهندي بإعادتها الجوهرة المعروفة باسم (جبل النور) وهي الجوهرة التي قدمتها شركة الهند الشرقية البريطانية عام 185 إلى الملكة
فيكتوريا والتي أضيفت إلى مجوهرات التاج البريطاني يوم ذاك ولا تزال تشع فيه حتى الآن. .
وليس من شك في أن إنجلترا قد انتهبت الآثار الهندية انتهاباً، وأنها نقلت إلى متاحفها من الهند كثيراً من القطع الغالية والآثار التاريخية التي لا تقدر بثمن، وهذه محنة لحقت بالآثار في جميع بلدان الشرق، فقد نهبت تلك الآثار في غفلة الزمن وظلمة الأحداث ونقلت إلى دور الغرب ومتاحفه، ولقد مضى عليها زمن طويل وهي تعيش غريبة عن أوطانها وبين أهل غير أهلها، وما نحسب أن دول الغرب تذعن لتصفية هذه المسألة في سهولة.
سيطلب مولانا أبو الكلام، ولكن هل تسمع الحكومة البريطانية لهذا الطلب؟! هيهات. .
تصوير المخطوطات العربية:
سافرت إلى سوريا ولبنان البعثة التي أوفدتها الجامعة العربية لتصوير المخطوطات العربية التي كانت قد اختيرت للتصوير في العام الماضي، وتجد الإدارة الثقافية بالجامعة في انتقاء المخطوطات العربية الأخرى التي ستقوم بتصويرها بعد أن تنتهي البعثة من عملها في سورية ولبنان.
والذي نحب أن نقوله لرجال الإدارة الثقافية بالجامعة العربية هو أن الشأن في المخطوطات العربية الموجودة بالأقطار العربية هين ميسور، ففي الإمكان تبادل هذه المخطوطات ونقلها وتصويرها بواسطة الهيئات العلمية والثقافية، ولكن الشأن كل الشأن هو تصوير المخطوطات القيمة المجهولة التي توجد في مكاتب تركيا والأسكوريال ومكاتب أوربا عامة، فلعل الجامعة تعني بأمر هذه المخطوطات قبل كل شيء، ولعلها تهتم بتصويرها حتى تكون في متناول أيدي العلماء والباحثين من أبناء العروبة.
وهناك مجال آخر يجب أن يكون مثار اهتمام الجامعة، ونعني بذلك المخطوطات التي هي في حيازة الأفراد. فهناك مخطوطات في المكاتب الخاصة غالية القيمة نادرة الوجود، وقد تكون النسخ التي يملكها الأفراد منها هي النسخ الوحيدة، فلعل الجامعة توجه اهتمامها إلى تصوير هذه المخطوطات والإسراع بجمع شملها قبل أن تبدد وتتغير وتضيع في قسمة التركات وفي مطاوي الإهمال، وعندي أن الاهتمام بهذه المخطوطات أولى، لأن المخطوطات التي في المكاتب العامة محفوظة ويمكن الحصول عليها في أي وقت.
(الجاحظ)
أدباء العروبة في المنصورة:
افتتحت جامعة أدباء العروبة شعبة ثالثة لها في المنصورة في اليوم العاشر من (إبريل)، واتخذت من دار الأستاذ سعد الشناوي رئيس الشعبة الجديدة مكاناً للمهرجان، وحرص صاحب المعالي دسوقي باشا أباظة رئيس الجامعة على اختيار هذا اليوم بالذات لأنه يتصل بذكريات حبيبة تجعل عوامل الإلهام، وبواعث الشاعرية، وينابيع البيان، دانية لمن يريد أن يقول. فهو يعيد إلى الذاكرة صفحة مشرقة من صفحات المجد القومي يعتز بها الشرق كله بشهادة دار ابن لقمان، وهو يوافق عيد مولد جامعة أدباء العروبة ومرور العام الأول على تأليفها، ثم هو يقبل مع الزهور في بواكير الربيع، ويأتي في أعقاب جلاء الإنجليز عن المدائن المصرية.
ومن هذه المعاني المؤتلفة، والذكريات المتفقة، يجد الأديب مداداً لكلماته، ويرى الشاعر أفقاً واسعاً لخياله، فإذا جمعنا إلى هذا كله ما تميزت به المنصورة من سحر وجمال وروح وريحان لم يبق لصاحب البيان الأصيل حجة في عدم الإمتاع، ولا لذي الباع الطويل في الشعر معذرة في القصور عن الإبداع.
وقد تبارى الشعراء والأدباء في القول فأسمعونا كلاماً ليس حسناً كله ولا قبيحاً كله، ولكنه يتصل بالحسن أحياناً فيثير العواطف ويهز المشاعر، ثم يهوي إلى درك القصور والتفاهة فينصرف عنه المستمعون ويتحدث بعضهم إلى بعض فيما لا يتصل مع هذا الكلام بسبب!
كان أول الخطباء هو الأستاذ حسين رأفت بك مدير الدقهلية، وكان الناس يعتقدون أن كلمته ستكون أدنى ما تكون من لغة الإدارة منها إلى لغة الأدب، فلما استمعوا إليه كأديب وكخطيب أدركوا أنه أديب بالفطرة لا بالكسب، وكاتب بالطبع لا بالتكلف!!
ولعله الخطيب الوحيد الذي تكلم عما للأدب من أثر في حياة الأمم، وما للشعر من فعل في تهذيب العاطفة وتربية الوجدان وتنشئة الذوق الأدبي، وطبعه على غرار يمكن أبناء الأمة من إدراك ما في الحياة من معاني السمو والجمال، ومن عباراته اللطيفة قوله (وهل هز شاعر الأمم في كل العصور وحدا بها إلى غايات المجد على مر الدهور، إلا تلك البروق
المنبعثة من آفاق البلاغة، كلما أضاء لهم سناها مشوا فيه، وهل تدين الحضارة في تقدمها، والإنسانية في تطورها، إلا لأولئك الرسل الكرام من حملة الأقلام؟)
أما معالي دسوقي باشا رئيس الجماعة فقد كان كلامه كالنبع الصافي يتدفق بالمعاني السامية والعبارات الأنيقة، ويتحدث عن رسالة جامعة الأدباء فيقول: إنها تعمل لجمع كلمة الغرب ورفع شأن الأدب، وتوثيق عرى الصداقة بين أدباء وطننا في سائر أرجائه، وبين أدباء العالم العربي في جميع أقطاره، وما العرب إلا:
أمة ينتهي البيان إليها
…
وتؤول العلوم والعلماء
وتعاقب بعد الرئيس والمدير شعراء وأدباء؛ منهم من أجاد فاستحق الثناء والتقدير وأثبت وجوده بإنتاجه وحسن بيانه، ومنهم من خانه التوفيق فأذاع خطأه على الناس واستوجب النقد من حيث كان يريد الشهرة والظهور.
ومن حقنا أن نأخذ على قلم المراجعة والتصحيح في جامعة الأدباء، عدم عنايته بحذف القصائد والكلمات التافهة المغسولة التي اعتبرها أهل الذكر موضع الضعف في المهرجان، وكان من الواجب ألا يقول إلا من يحسن القول، لا كل من يريد أن يقول! ولولا المجاملة في الحق لصار أدب الجماعة خالصاً كله، ولكن لكل شيء آفة، وآفة الأدب دخول الفضوليين فيه، واستباحتهم حماه، وانتسابهم إليه وهم من غير أهله!!
ولولا أننا نكرم صفحات (الرسالة) أن تسجل ما لا خير فيه ولا فائدة في الحديث عنه لعرضنا على الفقراء بعض ما قيل مما لا يستحق أن يقال، ولكنا نؤثر أن ندع الزبد يذهب من تلقاء نفسه ولن يبقى إلا ما يصلح للبقاء.
(المنصورة)
علي عبد الله
مِن هنا ومن هناك
الحكومات الأوربية:
(هذه فقرات من مقالة لم تكتب اليوم ولا عقب الحرب الثانية
ولا عقب الحرب الأولى. ولكن كتبت قبل ذلك كله، كتبها سنة
1912 الأستاذ العلامة محمد إسعاف النشاشيبي في حديث له
مع صديق شكا إليه ما كانت البلاد العربية عليه يومئذ، وبين
له أن لا أمل إلا بالدول الأوربية وحضارتها، اطلعنا عليها في
مجلة النفائس فأردنا تسجيلها في الرسالة سجل العرب، قائلين:
ما أشبه الليلة بالبارحة!).
(منقب)
. . . فإن هذه (الدول) لا تسعى سعيها ولا تبذل مجهودها في الاستيلاء على البلاد الشرقية لتنجيها من عذابها، وتنتاشها من ضلالتها، وتسعدها بعد بؤسها، وتهذبها وتثقفها وتعلمها ما لم تكن تعلم - ولو اتبعت ذلك لسلكت غير هذه السبيل، ولخالفت عن بُنيّات طريقتها الاستعمارية المشهورة ولكنها جدّت في تملك بلادك لتموت أنت وتحيا هي، ولتملق أنت وتثري هي، ولتذل أنت وتعز هي. وإن يوماً تراك فيه استيقظت من هجوعك وثبت إلى رشدك، وجرى في عروقك دم الوطنية ليوم عليها عظيم
ولقد لبثت فرنسا في الجزائر وتونس والتونكين وغيرها ما شاء شقاء أهلها أن تلبث، وأقام الإنكليز في الهند ومصر وأسترالية ما قدر القدر الجائر أن تقيم، ومكثت روسيا في القرم وبخارى وخيوه ما أراد القدر القاهر أن تمكث، وظلت هولاندة في جزيرة جاوا ما كتب لأهلها النحس أن تظل، ومكدت إيطالية في الصومال ما حكم الدهر الوغد أن تمكد، وتملكت غير هذه الدول من الأرجاء في المشرق والأقطار ما تملكته - فلم نرها جاءت من الخير للذين سلبتهم سلطانهم ما كان يجب عليها أن تجيء به، ولم نلفها بلغت هؤلاء
المساكين من الإصلاح العلمي والاجتماعي ما أمله المؤملون منها، ولم نجدها بدلت من خلائقهم شيئاً، بل وجدناها كادحة جاهدة في إرداء شعورهم وإحساسهم وإفساد كل صالح فيهم، ووجدناها ضاربة دونهم ودون الرقي الذي ينشدونه بالاسداد ابتغاء ألا ينتبهوا من نومهم ويرجعوا إلى أنفسهم فيردوا ما ألم بهم وما صبحتهم به الليالي (أقال الله عثرتنا من الليالي) فيكبروه وينكروه، وإن كل جريمة تحتقبها أوربة، وإثم تكتسبه حلال طلق في شريعة السياسة ودين الاستعمار.
وإني لأقرّع القوم بأعمالهم كثيراً ولا أعذرهم على حال، لأنهم موقنون جد الإيقان بفظاعة ما يأتون وشناعة ما يجترمون وعالمون كل العلم بأنهم يجرحون فؤاد الإنسانية بما يجترحون من الإثم بإذلال بنيها وإضراعهم؛ لكنهم متصلبون في عنادهم مصرون، ومقيمون على ضلالهم لا يتزحزحون، وكافرون بدين الرحمة جاحدون، ولو كان من عذر لما سمعت استيد وجوريس وإضرابهما من الإنسانيين يصيحون ويجلبون، ويندبون ويبكون، ويقولون في كل حين:(أوربة، إنك ظالمة، أوربة، إنك آثمة، أوربة إنك جارمة. . .).
محمد إسعاف النشاشيبي
الموسيقى الإيرانية وأثرها في العالم:
لقد علمت إيران العالم كيف يغني وكيف يترنم، ولإدراك هذه الحقيقة نقدم إليك النبذة التالية التي نشرتها جريدة (القبس) الدمشقية:
(تعتبر إيران بحق سيدة الموسيقى الكلاسيكية الشرقية، ذلك أنها عرفت قبل الإسلام بزمن طويل نهضة موسيقية وصلت إلى أوجها في القرن السابع على عهدي الملك كسرى أبرويز، فقد كان هذا الملك نفسه موسيقياً، لهذا لم يأل جهداً في إنهاض فنه المحبوب، فوضع بواسطة الموسيقى الإيراني الشهير الشيرازي ومساعده الأرمني سركيس هوروم أوزان ونظريات الموسيقى الإيرانية).
(وعندما احتل العرب بلاد الفرس، لم تكن الموسيقى عندهم فناً يستحق توجيه الجهد إليه، لأنهم انصرفوا إلى توسيع رقعة لغتهم وشعرهم، ومع هذا فقد استعاروا من الإيرانيين
طرقهم الموسيقية، وألحانهم، وآلاتهم، ونشروا هذا في بلادهم وفي البلاد التي احتلوها بآسيا الوسطى وبمصر وشمالي إفريقية، حتى في أسبانيا حيث وصل العرب بالموسيقى إلى نقطة تحول في تاريخ الفنون الجميلة في العالم، وكان للموسيقى الإيرانية تأثير كبير في هذا التحول. واليوم - وبعد قرون عديدة - ما زالت هنالك نواح في الأغاني الشعبية الأندلسية تنطبع فيها صور إيران وما زال في أسبانيا الحديثة مؤلفون موسيقيون ينحون في مقطوعاتهم وألحانهم منحى العرب).
(ولم يقتصر تأثير الموسيقى الإيرانية على العرب وحدهم، بل أثرت كذلك في الأتراك وفي الأرمن وفي الروس إذ يتجلى مدى هذا التأثير في ألحن بورودين وموسورغسكي وريمسكي كورسا كوف).
(هذه الخطوط الرئيسية للموسيقى الإيرانية، إلا أن كثرة الغزوات التي اجتاحت البلاد الإيرانية كان لها تأثير كبير في تدهور الفن الموسيقي الإيراني والزج به في مهواة الابتذال وتتابع الأنغام الرديئة). . .
طريقة جديدة في معالجة السعال الديكي
كانت معالجة السعال الديكي بالبقاء بضع ساعات على ارتفاع يتراوح بين 2500 و 3500 متر متبعة قبل الحرب. ولكن هذه الطريقة لم يكن يستطيع بها إلا بعض من أسعدهم الحظ من أصحاب الطائرات وأعضاء أندية الطيران والتابعين لسلاح الطيران الحربي.
وقد اكتشف هذه الطريقة سنة 1927 في (ستراسبورج) إثر انتشار السعال الديكي في شكل وباء، ففكر أحد الطيارين من السرب الثاني في قوة المطاردة بسلاح الطيران في أخذ ابنه الذي كان مصابا بهذا المرض بدرجة خطرة في طائرته لعلمه أن تتغير الهواء سيخفف عنه فقضى ساعة في التحليق على ارتفاع ثلاثة آلاف متر فلم يمض على ذلك ثلاثة أيام حتى شفى الطفل شفاء تاما.
واهتم السويسريون بهذه الطريقة اهتماما كبيرا وأطلقوا عليها سام (طريقة ستراسبورج)
غير أنه لو حظ في أثناء تجربته هذه أن بعض المصابين بالسعال الديكي يشفون بعد 24 ساعة. والبعض الآخر كان يحدث عنده تحس ملموس وخاصة في حدة السعال. وأخيراً
هناك فريق ثالث يقدر بنصف الذين يعالجون بهذه الطريقة لم يكن يحدث لهم أي تغيير في الحالة.
وشرع الأطباء بعد ذلك في دراسة هذه الطريقة على وجه أتم وتنظيم استعمالها. وكان من التجارب التي أجريت أن طياراً من (ميتز) اسمه (شوفان) نجح في شفاء حوالي مائة طفل في شتاء سنة 1938 - 1939 فكان من أوائل الذين استطاعوا الوصول إلى استنتاجات من ملاحظاتهم وتقرير طريقة عملية. فكان يصعد بالأطفال إلى ارتفاعات تتراوح بين 1500 و 3500 متر وفاقا لأعمارهم.
وكان يصعد وينزل ببطء منعاً لإصابة الأطفال بأمراض الأذن التي تفسد فعل هذه الطريقة في العلاج. ولما كان النوم يغلب على الأطفال عندما يصلون إلى أقصى حد من الارتفاع فإنه كان يغطيهم لدرجة التدفئة. وعدا هذا فإنه كان يأمرهم بالغناء ليكون تنفسهم من الفم.
وفي سنة 1945 أنشئ (مركز البيولوجيا) في مدينة الطيران. وعهد إليه بدراسة هذه الطريقة تحت إشراف الطبيين (روبير بالدي) و (ماكس ريشو). فأجريت عدة تجارب في الطائرات وانهالت الطلبات من عائلات الأطفال المصابين بالسعال الديكي. فخصصت وزارة الطيران إحدى طائراتها لهذا وهي الطائرة التي كان يستقلها (جورنج) وزير الطيران في الحكومة النازية وهي من طراز (يونكر 52). وقد اختارت الوزارة هذه الطائرة لأنها بطيئة في سيرها فسيحة في فراغها ومريحة جداً في ركوبها. ولكن العلاج بطريقة (ستراسبورج) كان يكلف نفقات باهظة بالنظر لقلة البنزين وارتفاع ثمنه واستخدام طيارين أخصائيين.
لذلك أنشأ هذا المركز في داره (صندوق التنفس الصناعي) فلوحظ أن هذه الآلة يمكن أن تحدث من التأثير على الأرض ما يحدث للمريض وهو مرتفع في الجو بالطائرة. ومن ذلك العهد أوجد الدكتور (ريشون) نطاقاً لمعالجة السعال الديكي.
وقد استمر العمل بهذه الطريقة في معالجة الأطفال المصابين بالسعال الديكي تحت إشراف الأطباء الأخصائيين وملاحظاتهم.
البريد الأدبي
تهجم لا داعي له:
نشرت مجلة الرسالة في عددها 719 نقداً للسادهانا التي قمت بترجمتها عن الشاعر الروحي تاجور، لمترجم آخر قام بذلك، هو الأستاذ طاهر الجبلاوي.
وأنا أوفق الأستاذ على أن السادهانا من أمهات الكتب العالمية، وأنها يجب أن توضع في ميزان النقد، ولكن الذي قام به الأستاذ لم يكن نقداً، بل تهجم محنق مغيظ. لقد عدد الأخطاء التي في ترجمتي فبلغت سبعة كاملة!! وذلك لا يبيح له أن يرفع عقيرته طالباً الضرب على أيدي العابثين كما يقول؛ فما بالك وهو مخطئ في تخطئته؟ إن موقفه هذا ليس موقف الناقد الممسك لسكان سفينة الأدب؛ بل موقف مدعي الاتهام الذي لا يملك شيئاً من الأدلة، فيضرب بكلامه ذات اليمين وذات اليسار.
1 -
ترجم الأستاذ كلمة بتحقيق الحياة، وفسرها بقوله جعل الحياة حقيقية، وليست الحياة باطلة حتى يجعلها الكتاب حقيقة، وليس من معاني التحقيق في اللغة العربية جعل الشيء حقيقة، بل إن تحقيق الأمر إثباته، والتحقيق في الأمر فحصه، وكلاهما غير مقصود هنا؛ ولكن المقصود هو إدراك حقيقة الحياة. واستتبع خطأه هذا خطأ آخر في ترجمة بتحقيق الحياة في العمل مع أن المعنى المراد هو إدراك كنه الحياة في العمل، أو الإدراك في العمل كما ترجمتها موجزة غير مخلة للمعنى، ولا هادمة للأسلوب العربي الصحيح
2 -
خطأ الأستاذ ترجمتي للجملة بمعرفة الروح، وترجمها بالوعي الروحي، وفي تخطئته خطأ مركب فالوعي في اللغة العربية الحفظ والانتباه وليس هذا هو المقصود؛ وقد جاء هذا التعبير في الفصل الأول عن العارف بالله، ولا أظن الأستاذ يستبدل بها (الواعي لله) إذن لكانت خطأ مضحكا، ونسبة الوعي للروح بدل على أنها التي تعي وتنتبه، وذلك خطأ؛ لأن المراد هنا من هذا الفصل أن يعرف الإنسان روحه، كما ورد في ص 30 (اعرف أنك واحد، أنك روح فذلك هو السبيل الذي يقودك إلى الموجود الأبدي) أما الكلمة في اللغة الإنجليزية فتستعمل للمعنيين؛ الانتباه الظاهري، والمعرفة الباطنية، كما ورد في دائرة المعارف البريطانية؛ ولكن ما بعدها هو الذي يحدد معناها، فترجمتي تنفي هذه الأخطاء المتراكبة.
3 -
خطأ الأستاذ ترجمتي لكلمة بعامل الكون، وصححها بكلمة بارئ الكون التي تقابلها في الإنجليزية وقد ورد قبل هذه الكلمة في الكتاب بأسطر قليلة:(من طبيعة المعرفة والقوة والعمل) وورد أيضاً (دعنا ننزع من أفكارنا الوهم الضعيف الذي يجعل من فرحك شيئاً منفصلا عن عملك) فلا معنى الكلمة الصحيح، ولا سياق الكلام يثبت صواب الأستاذ وخطئي ولكنه يثبت الضد.
4 -
انساق الأستاذ مع التجني فحرف جملة موجودة في الكتاب؛ ثم خطأ التحريف الذي حرفه بنفسه، وهذه الجملة كما وردت في كتابي ص 30: أولئك الذين صفت أفكارهم - لا غير - هم الذين ينالون الفرح الدائم. وقد حرفها إلى قوله: الذين ضعفت أفكارهم لا غيرهم الذين ينالون الفرح؛ ولست أدري أهذا من ضعف البصر عند الأستاذ أم من ضعف البصيرة
وهناك كلمتان خطأهما وأثبت صوابهما، بينما تصح فيهما الترجمتان، ولكن سياق الكلام يحتم ترجمتي:
1 -
كلمة يصح فيها معنى دورها أو معنى جزئيتها التي انصرفت إليها؛ ولكن الأستاذ لو قرأ قبل ذلك بسطور: (إن الحقيقة الصادقة أننا لا نستطيع أن نحيا إذا قسمناه - الذي هو حق - إلى جزأين، يجب أن نثوي فيه ظاهراً كما نثوي فيه باطناً) لما أسرع بإثبات الخطأ لي، ولأثبته لنفسه.
2 -
كلمة يصح فيها معنى رواية الحياة والموت على أسلوب منحرف في اللغة الإنجليزية، كما يصح فيها معنى لعب الحياة والموت على أسلوب صحيح، وفي الصفحة التي قبلها ما يحتم الترجمة الثانية وينفى الأولى. إذ يقول: إن إرادته هي التي وضعت الحدود لذاته كلاعب الشطرنج يحد إرادته في لعبه بالقطع. . . والقانون الذي جعل الأرض والماء هوفان ينفصل به اللاعب عن لعبه ففي ذلك يوجد فرح اللاعب، فسياق الكلام، والأسلوب الصحيح يخطئ الأستاذ ويقف معي
بقيت لي نصيحة أنصح بها الأستاذ؛ ويه أن التهجم في النقد قبيح ولو كان على صواب، فما بالك إذا كان ممن يخطئ الصواب البين، ليأتي بدله بالخطأ الواضح، وما بالك إذا كان من رجل غير متثبت من كلامه، يهجم والأرض مزعزعة تحت أقدامه؟
(أسيوط)
محمد محمد علي
مضحكات مبكيات:
جاء في عدد الرسالة الغراء رقم 718 تحت عنوان مضحكات مبكيات بقلم السيد صلاح الدين المنجد ما نصه:
(لقد صادفت اليوم في طريقي طالباً في الجامعة (يعني الجامعة السورية) فحدثني حديثاً أهمني. حدثني أن أستاذه قرأ عليه نصاً فيه: (ليس ثوب الحِداد) فقرأها (الحدَّاد) فلما قال له الطالب: إنها الحِداد يا أستاذ! انتهزه وأصر على أنها الحدَّاد. ثم ساق الأستاذ على ذلك دليلا تمسك به فقال هكذا أخذناها عن المستشرق فلان. . . أتعلمون من هو هذا المستشرق؟ إنه أوسع أهل الاستشراق علماً، وأذكاهم فهماً، وأفصحهم لساناً، وقوله لا يرد لأنه ثقة، ضابط، محرر).
ومن المؤلم أن ينشر السيد المنجد هذا الخبر قبل أن بتحقق من صحته. وحقيقة الأمر أن الأستاذ الجليل عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق، ومفتش اللغة العربية في وزارة المعارف في الجمهورية السورية، وأستاذ النحو والصرف في فرع اللغة العربية من كلية الآداب في الجامعة السورية، أراد في أحد دروسه أن يرمي كعادته على طلابه نكتة ليخفف عنهم قليلا من عناء الدرس فقال ما معناه:
مهما تعمق المستشرقون في دراسة لغتنا العربية، ومهما توسعوا في الاطلاع عليها فلا يستطيعون أن يتفهموا معانيها كما يتفهمها أبناؤها. ومما يروي عن أحدهم وهو من كبارهم أنه بينما كان يقرأ نصاً عربياً على طلابه قرأ (لبس ثوب الحدَّاد) بدل لفظة (الحِدَاد) ولما راجعه أحد طلابه قائلا:(إنها الحِدَاد وليست الحدَّاد يا أستاذ) أصر الأستاذ المستشرق على لفظة الحدَّاد مفسراً ذلك بقوله بما أن ثوب الحدَّاد أسود مما يصببه من هباب الفحم الأسود فإنه يقال لمن يحزن أنه لبس ثوب الحدَّاد كناية عن الحزن!
هكذا روى أستاذنا الجليل التنوخي النكتة، وعلق عليها بما قدمت. فالقضية إذن لا تتصل بأستاذ جاء من أوروبا ولكنها تتصل بأستاذ لم يذهب للدراسة في أوربا أبداً.
أما الدكتور أمجد الطرابلسي الذي درس في أوربا ويدرس لطلاب فرع اللغة العربية تاريخ الأدب، والنصوص الأدبية، فلا يحتاج إلى تعريف.
وأما بقية ما جاء في كلمته فليس له اطلاع على حقيقته لأنه لا يمت إلينا بصلة ولكني أحب للسيد المنجد ألا يتسرع في نشر أخباره قبل أن يتحقق منها تماماً والسلام.
عمر توفيق سفر أغا
القَصصُ
من أساطير القدماء:
خصومة في الحب!
للأستاذ ماجد فرحان سعيد
(نقلت عن الإنجليزية من كتاب (أساطير بلفنتش) '. . . .
. . . . . . .)
في يوم من الأيام، رأت يونو - زوجة المشتري وحارسة النساء - سحابة مظلمة فوق رأسها، فساورها الشك بأن زوجها قد أقام تلك السحابة ليخفي عن عيون الناس بعض أعماله المستنكرة؛ ولذا أمرت السحابة بالانقشاع، فتلاشت في الحين؛ وإذا بزوجها جالس على ضفة نهر لجيني الصفاء، وبجانبه عجلة جميلة. فاشتبهت يونو بأن شكل العجلة يخفي حورية هيفاء فاتنة الجمال. وفي الحقيقة كان ظنها صادقاً، لأن زوجها - وهو إله السماء العظيم وملك الآلهة جميعها - كان يداعب إيو إبنة إله النهر إناخوس - وعندما أحس مقدم زوجته غير شكل الحورية.
ثم جلست يونو بجانب زوجها، وبدأت تثني على جمال العجلة وتسأل عنها وعن القطيع الذي تنتمي إليه. أما زوجها، فلكي يوقف هذا الفيض المستمر من الأسئلة، أجاب بأنها مخلوقة بريئة خرجت من الأرض قبل مدة وجيزة؛ فطلبتها يونو هدية منه، فحار فيما يصنع، إذ كان يحز في نفسه ويمضها أن يهب خليلته لزوجته، ولكن كيف يمكنه أن يضن عليها بهدية زهيدة كهذه العجلة، ألا يكون قد أثار في نفسها عاصفة هوجاء من الشك والارتياب؟! فوافق على ذلك؛ أما زوجته فظلت الشكوك تتطرق إليها، ولذا عهدت إلى أرجوس مراقبة العجلة والمحافظة عليها.
وكان لأرجوس مائة عين في رأسه، فلم يتعود النوم بأكثر من اثنتين منها، لتظل إيو تحت المراقبة المستمرة. وكانت إيو ترعي سحابة النهار؛ وعندما يزحف الليل بجحافله يربطها حارسها بحبل خشن حول عنقها. وكم كانت تود لو تستطيع مد يديها لتضرع إليه أن يطلق سراحها ويمنحها الحرية! غير أنها كانت تحجم عن ذلك لأن خوارها مرعب لدرجة
عظيمة. وكان أبوها وأخوتها يقتربون منها، ويربتون لها على ظهرها، ويعجبون بجمالها، ويغرقون في استحسان شكلها، ويقدمون لها حزماً من الحشيش الأخضر فتعلق أيديهم الممدودة. وأخيراً سولت لها نفسها أن تعترف عن اسمها لأبيها وتعرب له عن رغبتها، غير أنها لم تكن تقوي على التعبير عن شعورها؛ فعن لها أن تحفر لها اسمها على الرمل بظلفها. أما إناخوس فميزة؛ وعندما عرف أن ابنته التي كان ينشدها من غير جدوى متنكرة بتلك الهيئة، علا وجهه ضباب قاتم من الحزن، وعانق على الفور جيدها الناصع الجميل، وصرخ قائلا:(لهفي عليك أيتها العزيزة الغالية! فلأن أفقدك بالمرة أهون على من رؤيتك بهذه الحالة!) وعندما لاحظ الحارس ذلك، جاء وساقها أمامه وجلس في محل عال يتمكن فيه من رؤية ما حوله.
أما المشتري، فقد كان يزعجه كثيراً أن يرى خليلته تعاني أبرح الآلام والأهوال؛ فالتجأ إلى عطارد - رسول الآلهة - وطلب إليه أن يدبر حيلة تنتهي بالتخلص من الحارس. فأسرع عطارد واحتذى خفيه المجنحين، ولبس قبعته، وتأبط عصاه السحرية، وقفز من أبراج السماء إلى الأرض؛ وهنالك خلع أجنحته واحتفظ بعصاه وتظاهر بأنه راع يسوق قطيعه. وكان في طريقه يعزف على سرنكس مزماره الغريد، فأطرق أرجوس وأرهف مسمعه للنغمات العذاب التي أخذ يصدح المزمار بها، إذ لم يكن رأي مزماراً كهذا من قبل. فناداه قائلا:(تعال هنا أيها الشاب واجلس بجانبي على هذا الحجر؛ لتكن نفسك مطمئنة، إذ لا يوجد مكان يكثر فيه العشب كالمكان الذي ارتادته أغنامك؛ وههنا الظل الظليل الذي يتوخى الرعاة أن يصطفوا فيه مجالسهم) فجلس عطارد بجانبه، وأخذ يخوض معه في أحاديث متنوعة، ويقص عليه الأقاصيص الطريفة، ويعزف على مزماره صوادح الألحان التي تبعث النوم إلى الأجفان. . . كانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وخضبت وجنة الأفق بأشعتها السحرية التي تبهج النفوس. أما الحارس، فقد ظل يقظان ليقوم بالمراقبة، بالرغم من كل الجهود التي بذلها عطارد ليجعل النعاس يستحوذ عليه، والهجوع يستبد بجفونه. ومن بين تلك الأقاصيص قصة اختراع آلته الصداحة، قال: (كانت تعيش حورية حسناء تدعى سرنكس، وقد تيم حبها الجنيين وأخذ بمجامع قلوبهم، ولكنه لم يخطر ببالها قط أن تتزوج أحداً منهم لأنها كانت متعبدة مخلصة لديانا - إلهة الصيد. وكانت سرنكس مغرمة
بالصيد أيضاً، فلو رأيتها في زيه لما ونيت دقيقة بأن تحسبها ديانا نفسها. فالشيء الوحيد الذي يفرق بينهما هو أنها اتخذت قوساً قرنية، بينما اتخذت ديانا قوسها من الفضة الخالصة. وفي ذات يوم بينما هي راجعة من الصيد التقى بها بان - إله الرعاة والقطعان - وأخذ ينظم لها العقود المنضدة من عبارات الغرام. ولكنها جعلت ذلك دبر أذنيها وولت هاربة بيد أن بان حفز في أثرها، وأدركها عند ضفة النهر؛ وهنالك طلبت المعونة من صويحباتها - عرائس الماء - فوافقن على إجابة طلبها. أما بان فطوقها بذراعيه، ولكنه سرعان ما دهش عندما رأى أنه يطوق مجموعة من القصب! وعندما تنهد، سمع للهواء صوتاً داخل القصب، وكانت النغمة حزينة مطربة، وأعجبته حلاوة موسيقها، وكان لها وقع عظيم في نفسه؛ فقال مشدوهاً من شدة الفرح:(وهكذا ستكونين لي!). فأخذ بضع قصبات متفاوته في الطول والقصر، ووضع بعضها بجانب البعض الآخر، ووضع آلة موسيقية جديدة أسماها سرنكس، تذكاراً لتلك الحورية). وما كاد عطارد ينهي أقصوصته حتى مد النعاس إلى الحارس ذراعيه، وطوق بهما عنقه، فأعفى. ولما رأى عطارد أن الحارس قد اطمأن إلى النوم، فصل رأسه عن جسمه بضربة قاضية دحرجته عن الصخور، وأطفأت نور عيونه المائة إلى الأبد أما يونو فأخذت عيونه وزخرفت بها ذنب طاووسها ولا تزال عليه إلى اليوم.
ولكن يونو لم تكتف بالانتقام من إيو على هذه الصورة، بل سلطت عليها ذبابة خيل لتسومها سوء العذاب أينما تذهب وتحل. أما إيو فطافت العالم كله لتأمن شرها: سبحت في البحر الأيوني الذي اشتق اسمه من اسمها وقطعت سهول اليريا وصعدت في جبل هيموس واجتازت مضيق البوسفور وجالت في أراضي سيثيا حتى وصلت أخيراً إلى ضفاف النيل؛ فاستشفع المشتري لها زوجته بعد أن وعدها أن لا يولي خليلته أي اهتمام بعد ذلك الوقت؛ وعندئذ سمحت زوجته لإيو أن تسترجع شكلها الأصيل. وكم يبدو غريباً أن تشاهدها وهي تسترجع ذلك الشكل، فيسقط الشعر الخشن عن جسمها ويتقلص قرناها، وتضيق عيناها، ويقصر فمها، وتستبدل بأظلافها أنامل رخصة؛ غير أنها كانت تخشى الكلام ظناَ منها أنها ستخور؛ ولكن ثابت لها بالتدرج شجاعتها وثقتها بنفسها؛ فذهبت لتعيش مع أخواتها وأبيها.
وكالستو حسناء ثانية أضرمت سعير الحسد في صدر يونو، فمسختها الإلهة دبة قائلة لها:(لأسلبنك تلك الفتنة التي استهويت بها زوجي فعنا لها!). وعندها خرت كالستو إلى ركبها، وحاولت أن تتوسل إلى يونو، غير أن يديها بدأتا تتغطيان بشعر أسود، وتتسلحان بأظافر ملتوية. وأما ذلك الفم الذي طالما تغنى المشتري بجماله، فصار ينفرج عن فكين شنيعين؛ وأما صوتها الذي لو بقي على حاله لأثار كوامن الحب والشفقة في القلوب، فتحول زمجرة مرعبة. ولكن مزاجها الأصيل بقي على حاله، فلم يعتره أقل تغيير أو تبديد. وبتلك الزمجرة المستمرة، كانت تندب سوء حظها وتستعطف الرحمة من قلوب الراحمين؛ ولكنها صارت تشعر بأن المشتري عدم الشفقة، مع أنها لم تجهر بما تضمر. وفي مناسبات عديدة، كانت تخشى البقاء في الأحراج وحيدة طوال الليل وخصوصاً بين الكلاب التي تخيفها بهريرها، فتنطلق نافرة من الصيادين. ولقد بلغت بها شدة الخوف إلى أن صارت تهرب من الوحوش البرية حتى من الدببة، متناسية أنها أصبحت من معشرهن.
وفي ذات يوم وأت شابا يصطاد في الحرج، فأيقنت أنه ابنها، وثارت في نفسها آنئذ أمواج من العواطف الأبوية؛ فتوقفت وأرادت أن تعانقه. وعندما اقتربت منه وجف قلبه، فأشرع رمحه، وأوشك أن يطعنها به؛ غير أن المشتري حسما لوقوع الجريمة اختطف الاثنين إلى السماء واتخذ منهما الدب الأكبر والدب الأصغر.
فثارت ثائرة الغضب في صدر يونو عند ما رأت خصمها متسنمة عرش السماء؛ فأسرعت تيثيس وأوشيانوس - وهما إلها البحار - وخاطبتهما قائلة: - (أتسألان ملكية الآلهة لماذا انحدرت من السهول السماوية إلى هذه الأعماق؟ أجل! انظرا عند ما تخيم الظلمة تريا بجانب القطب الاثنين اللذين بولغ في إكرامهما وحلا محلى في السماء! أتظنان بأن أحداً بعد اليوم سيقيم لي وزنا أو سيني في احتقاري عند ما يعلم بأن الإساءة إليّ تقصي عني مثل هذه المكافأة؟! هذا ما استطعت أن أعمله وهذه سعة قدرتي!! حرمتها من شكاها البشري فحلت بين النجوم النيرات!! إنه لمن الأفضل أن تستعيد شكاها القديم كما فعلت إيو عند ما تجاوزت عنها؛ لهذا السبب جئت مستغيثاً بكما - إن كنتما ترأفان بي وتستنكران هذه المعاملة السيئة التي نكبت بها - أن تثأرا لحقي المسلوب، وتمنعاهما من المجيء إلى مياهكما).
فوافق الإلهان على ذلك، إذ منعا الدب الأكبر والدب الأصغر من أن يغيبا تحت البحار كما تفعل غيرهما من النجوم، وفرضا عليهما الدوران الدائم في السماء.
القدس - كلنة تراسانطا
ماجد فرحان سعيد