الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 721
- بتاريخ: 28 - 04 - 1947
روح اليابان.
. .
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني الخطاب الآتي من الأستاذ (محمود محمد الحبيب) المعلم بمدرسة المربد بعشار البصرة قال فيه بعد ثناء نشكره عليه: (. . . نقرأ الشيء الكثير من الأدب الإنكليزي، وأكثر منه من الأدب الفرنسي، ونطالع الأدب الأمريكي والألماني واليوناني؛ ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فكشفت لنا القناع عن الأدب الواقعي الروسي خاصة في الأقاصيص. كذلك لنا نظرات في الأدب الصيني والهندي طالعناه في كثير من الكتب المعربة؛ ولكن شيئاً واحداً هو الذي لم يحظ من أدبائنا بالعناية. ذلكم هو الأدب الياباني. وهذا ما أردت من سيدي أن يلقى عليه شيئاً من أنواره ليكشف لنا مجاهله ومراميه. . . وقد عرفنا بعض فلاسفة الصين، فمن يقود الحركة الفلسفية في اليابان؟) إلى أسئلة من هذا القبيل تتلخص في السؤال عن (روح اليابان) كما تتمثل في عالم التفكير والإبداع الأدبي والفنون.
ومما هو غني عن الشرح أن أمة كبيرة عريقة التاريخ كالأمة اليابانية لا تخلو من أدب وفن وفلسفة على نمط من الأنماط
ولكن الأستاذ الحبيب على صواب حين يقول إن الآداب اليابانية لم تظفر من الغربيين ولا من العرب بالعناية التي ظفرت بها آداب الصين أو الهند القديمة. ويبدو لنا أن السر في هذا يرجع إلى المنافسة السياسية أو الحربية بين اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا على الخصوص. فإن الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين لم ينظروا إلى الصين والهند نظراتهم إلى منافسين يهددونهم في ميادين التجارة والاستعمار، ولكنهم نظروا هذه النظرة إلى اليابانيين، فكان لهذه المنافسة شأن في الجفاء الذي قوبلت به آداب اليابان بين الناطقين باللغتين الإنجليزية والفرنسية ومن يعتمدون على هاتين اللغتين في الاطلاع على الآداب العالمية.
وقد ظفرت الصين والهند بالعناية الكبرى من مترجمي الآداب الشرقية لسبب آخر غير هذه المنافسة الاستعمارية، وهو أصالة الآداب الصينية والهندية وغلبة الاقتباس على الآداب اليابانية. فإن الهند أولا والصين ثانياً هما مرجع الثقافة الأولى التي عول عليها اليابانيون
قبل نهضتهم الأخيرة منذ أواخر القرن الماضي، فلما نهضوا نهضتهم تلك في العصر الحديث كانت ثقافتهم نسخة مصحفة من الثقافة الأوربية أو الأمريكية؛ فلم يحفل بها الأوربيون والأمريكيون لأنهم يطلبون الغرائب ولا يحفلون كثيراً بنقل الآثار الفنية التي تشبه ما تعودوه وألفوه.
وقد حال بين الأمة اليابانية وبين تسجيل مأثوراتها الشعرية والنثرية أنها لم تعرف الكتابة قبل القرن الرابع للميلاد، ولم يكن شعراؤها وأدباؤها من جمهرة الشعب ولا من أوساط الناس في أكثر الأحوال، بل كانوا من الأمراء والكهان والأساتذة الذين يقرضون الشعر كما يقرضه المترفون في أوقات الفراغ.
على أن هذا كله لم يمنع العبقرية اليابانية أن تسلك طريقها إلى اللغات الأوربية، فتجلت تلك العبقرية في نمطين من الشعر تعلو فيهما الصبغة القومية على كل صبغة، وهما مقطوعات (الهاكو) ومنظومات الوقائع الحماسية التي وضعوها قديما في أسلوب الروايات التمثيلية.
أما مقطوعات (الهاكو) فهي أشبه الشعر بما طبع عليه اليابانيون من الدقة والأناقة، وهي مقطوعات لا تتجاوز الواحدة منها بيتين أو شطرين. ومن أمثلتها التي نشرناها في بعض مقالاتنا بيت يقول فيه الشاعر وقد نظر إلى شجرة:(ها قد سقطت هنالك زهرة كلا إنها فراشة!) وبيتان يقول فيهما الشاعر في حقائق الحياة وأوهامها: (ما دمت أعلم أن الوقائع التي نشهدها ليست هي كل اليقين، فمن أين لي أن أحلام المنام ليست سوى أحلام؟).
وكل هذا الشعر على هذا النحو من الدقة التي تتلألأ في ألفاظها الوجيزة كما يتلألأ الفص النفيس في الخاتم الفريد. وأكثر ما ينظمونه في الوصف والحكمة على هذا المثال.
أما شعر الحماسة في الروايات التمثيلية أو القصائد المطولة فهو من سليقة اليابان التي استقلوا بها عن المقتبسات الصينية، لأن أهل الصين لا يقدسون المجد العسكري كما يقدسه جيرانهم الشرقيون
وأشهر شعرائهم فيه (شكامتسو) الذي يلقب بشكسبير اليابان. وقد ترجمه إلى الإنجليزية أديب ياباني معاصر هو الأستاذ اساتارو مياموري أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة طوكيو، وقد له تقديماً حسناً يغني بعض الغناء عن المطولات في التعريف بهذا الفن
الخاص من فنون بلاده.
ومهما يقل القائلون عن غلبة الاقتباس على الفنون اليابانية فمما لا شك فيه أن هذه الأمة مطبوعة على ذوق الجمال الأنيق والإعجاب بمحاسن الطبيعة. وقد شاءت لهم هذه الطبيعة أن يتفرغوا للأناقة وحدها بين أفانين الحسن والملاحة. فكانت الأناقة أيضاً هي السمة الغالبة على فن العمارة في جزائرهم البركانية، لأنهم قد استغنوا عن فخامة البناء بالأكواخ الصغيرة والجواسق المنقمة، فاتفقت لهم أسباب الأناقة في جميع الفنون.
ولا يخفي أن الأناقة تكون مع الاقتباس كما تكون مع الاختراع فتأنق اليابانيون فيما اقتبسوه كما تأنقوا فيما ابتدعوه.
إلا أنهم محافظون تقليديون في عاداتهم ومشاربهم قبل كل شيء
وآية هذه المحافظة التي تغني عن إطالة البحث فيما عداها أنهم لا يزالون يعبدون الملوك، ولا تزال أسرة المالكين المعبودين فيهم هي الأسرة التي ملكتهم وحلت بينهم محل الأرباب منذ عشرات القرون.
أما الفلسفة فهي كما يعلم القراء على اقتران دائم بالعقائد الدينية، ولا سيما فلسفة البحث فيما وراء الطبيعة.
وقد أخذ اليابانيون عقائدهم من البوذية الصينية، وأخذوا عن أهل الصين كل تصرف في هذه العقائد، سواء منها عقائد العبادات وعقائد السلوك.
ونشأ بينهم قديما حكماء على نهج الحكماء الصينيين، محور حكمتهم الوصايا السياسية وقواعد العرف المرعي في المعيشة اليومية. وقل بين حكمائهم من توسع فيما بعد الطبيعة وتابع النساك البوذيين في التوجه إلى الحقائق المجردة والإعراض عن الأوهام الدنيوية؛ لأن اليابانيين دنيويون بالسليقة لا يسيغون فلسفة التجرد وإنكار الحياة.
لا جرم لم تكن لليابانيين إذن فلسفة مستقلة فيما وراء الطبيعة، ولم ينبغ بينهم الفلاسفة كما نبغ الشعراء الغنائيون والحماسيون ومهندسو البناء ومنسقوا الحدائق ومنازه الجبال.
وقد ظلوا كذلك إلى القرن الماضي الذي ترجموا فيه المذاهب الفلسفية عن الغربيين، فاستبدلوا تقليداً بتقليد، ولم ينجبوا بعد فيلسوفا يبدع لليابان مذهباً لا يدين في جوهره ولبابه لأحد من فلاسفة الأوربيين والأمريكيين. وربما كان أروج الفلاسفة بينهم سبنسر ووليام
جيمس وكارل ماركس ونيتشه، أو أقربهم إلى مذهب العمل والكفاح.
فالروح الياباني كما يتراءى في ثقافته وفنونه يتلخص في المحافظة والاقتباس وإثبات السليقة اليابانية بعد ذلك بالأناقة والحركة والنزعة العملية، أو يتلخص في كلمة واحدة هي (الدقة) التي تبدو في الطبيعة والصناعة، وتبدو في الأبدان كما تبدو في الأذواق والأذهان.
وليس هذا التعريف على كل حال بالتعريف الذي يحيط بموضوعه، ولكنه موضوع لا يحاط به في مقال، وربما كان بهذا القدر مفيداً على الأسلوب الياباني الذي أشرنا إليه.
عباس محمود العقاد
وكم في مصر من بنات أمبان!
للأستاذ علي الطنطاوي
إجلاء هذه البنت عما تسمّيه ملك أبيها، أعظم عندي من إجلاء الإنكليز عن مدن مصر.
لأنها تحتل بحق (التملك. . .) وأولئك يحتلون بسيف الغصب.
ولأنها توشك أن تصير (كما صار غيرها) مصرية. . . في سجلات الإحصاء، على حين أنها لا تزال أجنبية الدم والهوى واللسان، وأولئك يبقون إنكليز غرباء، غاصبين أعداء، ويبقون قذى في عين كل مصري، وغصّة في حلقه، وثقلا على قلبه، حتى يخرجوا، وما من خروجهم بدّ، لأن الباطل إلى اضمحلال وإن كانت له جولة، والحق إلى ظفر وإن كانت له كبوة، وقد طالما بغى باغون، وظلم ظالمون، ولكن لم يدم باغٍ ولا خلد ظالم!
هذه البنت وأمثالها شر من الإنكليز، وسند التملك في يدها أقطع في رقابنا من السيوف في أيديهم، وفندقها في مصر الجديدة أخطر على استقلال مصر من ثكنات قصر النيل، لأن المصيبة في هؤلاء أنهم يعدون (في جنسيتهم الرسمية) منا، وهم في حقيقتهم من غيرنا، فيدخلون في الأمة دخول السم في الجسم، وصندوق الديناميت بين أحجار البناء، ويكونون منا كالشيطان من الإنسان يجري منه مجرى الدم، فلا يستطيع الخلاص من شره، ولا النجاة من أذاه. ثم إن أصحاب كل بلدٍ هم ملاّك أرضه، وأصحاب عماراته، هم سادته، وهم الحاكمون فيه، فإن شاءوا عطلوا هذه الأراضي وتركوها مواتاً فجعلوا البلد مقفراً، وردّوه فقيراً، وإن شاءوا أخلوا عماراتهم للبوم والعناكب أو هدموها، وإن شاءوا أدخلوا الناس إليها وأسكنوهم فيها، وإن شاءوا أخرجوهم منها وأغلقوا دونهم أبوابها، فمن هو الذي مكّن لهذه البنت وأمثالها أن يكونوا هم ملاك هذا البلد، وترك الكثير من أهله حفاة عراة جائعين، يدورون يسألون هذه (الخواجاية) صدقة وإحساناً، فتزورّ عنهم وتنأى بجنبها، وتصعِّر خدها، وترميهم بكل قبيحة من فمها الجميل. . .
من الذي أجرم هذه الجريمة الكبيرة، أو غفل هذه الغفلة العجيبة، حتى أصبحنا اليوم والمتاجر الكبرى للخواجات، والفنادق للخواجات، والقهوات للخواجات، وأكبر العمارات يملكه الخواجات، وأفخم السيارات يركبه الخواجات، حتى إن شارعاً عظيما هو شارع قصر النيل، لا يملك فيه المصريون، كما أخبرني الثقة، إلا ثلاث عمارات فقط، بقيت
مصرية لأنها موقوفة. . . وسائره للخواجات. فماذا ينفعك أنك مصري مستقل، وأن الوادي وادي أبيك وجدك وواديك، إذا كان الخواجة يستطيع أن يطردك من مأواك، فلا تلقي إلا بإذنه سقفاً يكنُّك، وأن يعريك فلا تجد إلا بإذنه ثوباً يسترك، وأن يسيّرك فلا تصل إلا بإذنه إلى ترام يحملك؟
ما الاستقلال وأنت محتاج إليه في كل شيئ؟ ما العزة؟ وأنت تأكل الخبز الأسود وهو يأكل لباب البر من أرض مصر؟ وأنت تسكن الكوخ المهدم وهو يملك الصرح الضخم على أرض مصر؟ وأنت تشرب الماء العكر وهو يشرب الرحيق المصفي من خير مصر؟ وأنت تمشي حافياً وهو يختال بسيارته على ثرى مصر؟ وأنت تلبس الجلباب الخلق وهو يتخذ الثياب الرقاق من قطن مصر؟ أيصير الغريب صاحب البلد، وابن مصر يصير غريباً في مصر؟ هذا فظيع! هذا (عهد المماليك) يعود بثوب جديد!
لما كنت في العراق كنت أرى بعض العراقيين يظهرون الكراهية للمدرسين السوريين، وينفسون عليهم رواتبهم التي يأخذونها، ويقولون لهم، أنتم آتون (لتقشمرونا)، ويبغضون السوري الذي يزاحمهم على مورد الكسب في التجارة، ومنبع الربح في العمل، فكنت أتألم من ذلك وأقول، ليتهم تعلموا اللطف ومحبة الغريب. فلما جئت مصر، ورأيت هذا اللطف وما جر إليه من الضعف، وحب الغريب وما أوصل إليه من الخراب عرفت أن الخير فيما يفعل العراق.
وأنا لا أدعو العرب ليكره بعضهم بعضاً، ولكن أدعو إلى شيء معقول: هو أن العرب اليوم في أقطار العربية كلها، كجيش في مصافّه، على كل فرقة أن تدفع العدو عن حماها، ولا تدع الجيش يؤتي من قبلها، ونحن نحارب (فيما نحارب) الفقر والإفلاس، فعلى كل قطر عربي ألا يدع في أبنائه فقيراً، وألاّ يترك فيه رجلا بلا عمل، وأن يمنع الغرباء عنه من مزاحمة أهله في زراعته وتجارته وصناعته، حتى إذا اشتغلوا جميعاً، وبذلوا قواهم كلها، وبقي فيه بعد ذلك فراغ لأيد غير أيديهم، وأموال غير أموالهم، استعانوا بأبناء الأقطار العربية الأخرى، ولم يفتحوا لهم الباب إلا بمقدار الحاجة، أما أن يجيء السوري ليعمل في مصر، ويجيء المصري ليشتغل في الشام، ويترك أهل البلد بلا مال ولا عمل، فتفسد البطالة أخلاقهم، ويذلّ الفقر نفوسهم، ويعلّمهم هذا وذاك كره أخيهم العربي، فليس من
مصلحة العرب أن يكون. هذا رأيي أعلنه بلا جمجمة ولا مداراة.
وهذا للعرب. أما (الخواجات) فأجلوهم عن بلادكم إجلاءً تاماً فلا يأتوها إلا سياحاً أو زوَّار آثار. وارفعوا أيديهم عن مرافقها فلا يملكوا منها إلا ما يملك مثله الأجنبي في بلادهم. وكل بلاد الدنيا، تمنع الأجنبي أن يملك فيها أرضاً أو عقاراً إلا بمرسوم فما بال مصر مائدة ممدودة لكل طاعم، وكنزاً مفتوحاً لكل آخذ؟ وما بال الخواجة يجيء مصر فقيراً مفلساً، لا يبتغي إلا القوت يمسك رمقه أن يموت، ولا يتمنى إلا قرشين يعود بهما إلى بلاده، فلا تمر السنون حتى يصير الفقير غنياً، والواغل على البلد مالكا له، ويغدو الشحاد صاحب المنزل؟ ويجيء معه بالغانية راقصة أو بغياً، فيقدمها للمصري بيد ويأخذ منه الإسناد على موسم القطن بيد، ثم تتجمع الإسناد فتأكل الموسم، ثم تعجز المواسم عن سداد الدين، فيملك الأرض، ثم تتبدل الدنيا غير الدنيا، وينقلب الفلك، فيصير السيد عبداً، والعبد سيداً. . .
هذا احتلال شر من احتلال الجيوش الإنكليزية، لأنه احتلال المومسات: راقصات وارتيستات، واللصوص: أصحاب متاجر وأعضاء شركات. والخلاص منه أصعب وأشق، لأنه لا يكون بالرصاص والبارود، ولا يكون بالمظاهرات والثورات، بل يكون بإعلان (النفير العام) في الكتاب أولا، وتجنيد القوى الأدبية كلها، للعمل على إعلاء همة هذا الشعب، وأن نعيد إليه ثقته بنفسه، وان نردّ عليه عزّته وكبرياءه، حتى ترتفع هامته، وتشتد عضلاته، ويشمخ أنفه، ويعلم انه لا يكون حقيقاً بملك مصر، ولا أهلا للاستقلال، ولا سليل من ملكوا الدنيا، إن لم يكن عزيزاً في نفسه، سيّداً في بلده.
ثم نعمل على أن نصب فيه روح المغامرة، وندفعه إلى اقتحام المخاطر، وركوب الأسفار، ونعلمه حب المال، فما يفلح شعب لا يريد فراق وطنه، ولا النأي عن عشه.
ثم نعلمه بغض الأجنبي، حتى يكون له ديناً، ويغدو له طبعاً، نعم البغض. . . لماذا تنفرون من سماع هذه الكلمة؟ إلا أنها منافية للّطف والمجاملة والكرم؟ يا ناس. لقد قتلنا اللطف، لقد ضيعتنا المجاملة، لقد أودى بنا الكرم. الكرم صيّرنا شحادين، والتواضع جعلنا عبيداً، فلنتعلم الاقتصاد، والعزة، أو فلنعلمهما أولادنا إذا لم يمكن أن نأخذ بهما نفوسنا.
ثم لنفهم هذا الشعب أن الأوربي يضحك علينا بالأرتستات والخمور والأزياء، كما يضحك على زنوج أفريقية بالخرز والأجراس، فلنره أننا عقلنا وشببنا عن الطوق، وأننا لم نعد
نرضي أن يضحك أحد علينا، وما لنا ولارتستات وعندنا نساؤنا أزكى واطهر واجمل وأكمل؟ وما لنا ولأزيائه ولنا أزياؤنا؟ وما لنا ولخموره ولنا. . . شرائعنا التي تحرم علينا الخمرة، وأخلاقنا؟
فإذا استكملنا عدة الهجوم، شرعنا الرماح وهجمنا، وخضنا المعركة نحاربه بمثل سلاحه، بالعلم والجد والدأب والتعاون حتى نلقي عنا هذه القيود التي كبلنا بها، حلقة بعد حلقة، كما شدها من حولنا حلقة بعد حلقة، على أن المعركة قد بدأت من زمان، وما معامل المحلة الكبرى، ومصانع الطرايش والزجاج إلا أعلام النصر في معركة الوطن، فلنمض فيها، ولنؤلف لكل ميدان فرقة: شركة اقتصادية، فيكون لكل مرفق من المرافق شركة، حتى إدارة الفنادق والمقاهي، وتسيير الترام وبناء المنازل.
لقد أعلن فاروق مصر المعركة المقدسة، بإجلائه هذه البنت عن أرض مصر، وعقد لكم اللواء، ورفع العلم فامشوا تحته أدباء واقتصاديين وعلماء، فإن الميدان يتسع لكم جميعاً، ويحتاج إليكم جميعاً، واعلموا أن الاستقلال الحقيقي لا يكون إلا عندما يلتفت المصري فلا يرى حوله شركة أجنبية، ولا مدرسة أجنبية، ولا متجراً لأجنبي، ولا عقاراً يملكه أجنبي، وتكون كل خيرات مصر لأبناء مصر!
هذا هو الاستقلال، فعلى كل مصري أأأألأ [بشضضيبشسبشسبشن يعمل له ما يستطيع!
علي الطنطاوي
تلفون الأرواح
للأستاذ نقولا الحداد
ذكر مراسل المصري الخاص أن المستر جون وليمسن العالم بما وراء الطبيعة قال (إن استعمال آلات تحطيم الذرة في مضمار الاتصال بعالم الأرواح، يؤدي أخيراً إلى اختراع تليفون يصل بين عالمنا المادي وعالم الأرواح بحيث يتيسر لأي شخص أن يقتني آلة تليفونية روحية لا تكلفه أكثر من خمسة جنيهات ويخاطب بها الأرواح).
إذن فليبشر العلامة الروحاني الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير. لأن أول آلة تصدر من مصنع التليفونات الروحانية ستقدم له هدية بحكم رسالته وجزاء لاجتهاده فيها. وحينئذ سينقم من الساعة التي بدأ يدرس فيها عالم الروحانيات لأن ألوفاً من طلاب أرواح أهليهم وأصحابهم سيهجمون عليه لكي يتصلوا بأرواح ذويهم ويزعجونه أي إزعاج ويقبضون على خناقه ريثما تنتشر آلا هذه التليفون في الأسواق وتتيسر لكل إنسان.
إن نظرية المستر جون وليمسن هذه مسندة إلى نظرية (أن الأفكار تتولد من الطاقة. ولذلك فإن أفكار الأرواح التي تتحدث بطريقتها الخاصة تخلق نوعاً من الذبذبات تصبح إشارات يمكن أن تلتقطها آلة التليفون الروحاني وتقويها وتنقلها).
هذه نظرية معقولة على فرض واحد لا محيص من تحقيقه بعملية هذا التليفون وهي أن الروح لابد أن تكون هيولانية أي مادية من طبيعة مادة الجسد، لأن الطاقة (التي تتولد منها الأفكار كما يقول المستر وليمسن) وذبذباتها أي موجاتها هي خاصة رئيسية للمادة. فالمادة لا تتحرك إلا بما لها من طاقة، والطاقة لا تحرك إلا المادة.
وإذا كانت الروح شيئاً مادياً كسائر عناصر المادة تسنى لنا أن نظفر بها في المعمل الكيماوي كما نظفر بالراديوم أو الأورانيوم وفي المصانع الميكانيكية أو في المطياف أو تحت الميكروسكوب الذري الجديد الذي يعظم مائة ألف مرة. وحينئذ يمكننا أن نشرح الروح ما نشرح الجسد وكما شرحنا الذرة، وأن نعرف أسرارها كما عرفنا أسرار النور وسائر الموجات الكهربائية. ولعلنا نهتدي حينئذ إلى صلتها بهذه الكهربائية أو نراها حالة من حالاتها. وثم يتيسر لنا أن نتصل بالأرواح عن يد الموجات الكهرتيسية، وإذن فلا يستحيل علينا إذ ذاك اصطناع التليفون الروحاني.
وإذا أمكننا حينئذ مخاطبة أرواح الموتى بهذا التليفون فبالأحرى يمكننا أن نخاطب أرواح الأحياء به مهما كانوا بعيدين عنا. وثمة لا يبقى لزوم للوسطاء بين الأساتذة الروحانيين وأرواح الموتى والأحياء.
وما أدرانا حينئذ أن يطلع بعضنا عن أفكار بعض بناء على نظرية وليمسن (أي أن الأفكار هي ضرب من الطاقة المذبذبة كما قال). وإذا صح هذا الحلم الجميل فكيف يمكن أن يعيش الناس بعضهم مع بعض وهم يضمرون خلاف ما يظهرون؟ هل يتورعون حينئذ عن الكذب والدس والكيد والغش والزور. وهل يسلكون سلوك الملائكة الأطهار والقديسين الأبرار ويستغنون عن البوليس والقضاء والحكومة والحكام.
ولكن إن صح هذا يستلزم أن يتلاشى الطمع والاستئثار واستغلال القوي للضعيف من الناس. وكيف يمكن هذا إذا كان الناس متفاوتين في الكفاءات والأهليات والمؤهلات والذكاء؟. . .
وإذا استرسلنا في هذه الافتراضات وجدنا العالم منقلباً رأساً على عقب بل مختلطا بعضه مع بعض وقد انصهر في بوتقة الروحانيات وأنسبك عالماً آخر جديداً. ولعله يكون أفضل من عالمنا هذا. ويكون الله تعالى قد رضى عن خليقته وصاغها خليقة جديدة صالحة
ولكن هل يسلم الروحانيون بأن الروح شيء مادي من صنف مادة الجسد لها طاقة مذبذبة الموجات؟ أم هي شيء غير مادي. فإذا كانت شيئا غير مادي فنظرية المستر جون وليمسن تنهار لأنها لا تكون ذبذبات طاقة كما زعم. وإن كانت شيئاً مادياً فالأرواح تنحل بانحلال الجسد ولا يبقى ثمت عالم أرواح.
نقولا الحداد
4 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
أحلام الطفولة:
أظنكم تشعرون أننا قد تقدمنا في سرعة زائدة عن اللازم، وعلى هذا فلنقصر من خطوتنا قليلا. تذكرون أننا عندما قمنا بتجربتنا الأخيرة في محاولة التغلب على الصعوبة التي تنشأ عن التحريف في الأحلام، قلنا إنه من المستحسن أن نحتال على ذلك بأن نركز كل جهودنا في اختبار الأحلام التي تكون خالية أو شبه خالية من التحريف إذا كان هناك أحلام من هذا القبيل. ولكننا بهذا القول نكون قد عدنا إلى البعد عن جادة الصواب، لأن الطريق الذي سلكناه في البحث لم يهدنا في الواقع إلى معرفة شيء عن هذه الأحلام الخالية من التحريف إلا بعد أن طبقنا طريقنا في التفسير مراراً وتكراراً على أحلام من النوع المحرف، وحللناها تحليلا مضنياً استنفد منا مجهوداً كبيراً.
وهذا النوع الذي نبحث عنه من الأحلام موجودة في الأطفال، فأحلام الطفولة أحلام واضحة، سهلة الفهم، متماسكة خالية من التعقيد. وليس معنى هذا أن كل الأحلام في الأطفال من هذا النوع، فالتحريف يبدأ عادة في الظهور من بواكير الطفولة، وتوجد تحت يدنا أحلام لأطفال بين الخامسة والثامنة تظهر فيها كل الخواص التي تظهر في أحلام البالغين. ولكن إذا اقتصرنا على النظر في الأحلام التي تحدث في المدة الواقعة بين بدء النشاط العقلي للطفل والسنة الرابعة أو الخامسة من حياته، وجدنا أنها تحتوي على سلسلة من الأحلام يمكن أن نطلق عليها حقاً (أحلام الطفولة). وهذه الأحلام قد توجد بصفة فردية في أواخر الطفولة. كما أن كثيراً من البالغين يرون في ظروف معينة أحلاماً لا تختلف عنها اختلافاً يذكر.
وهذه الأحلام في إمكانها أن تمدنا بمعلومات وافية عن الطبيعة الأساسية للحلم نأمل في أن تكون عامة تنطبق على جميع الأحلام على اختلاف أنواعها:
1 -
هذه الأحلام لا تحتاج في تفهم معناها إلى أي تحليل أو تطبيق لطريقتنا في التفسير. فليس من الضروري أن نستجوب الطفل الذي رأى الحلم بل يكفي أن نعرف شيئاً عن حياته. وهذه المعرفة لابد منها لأننا نجد في كل حالة أن حادثة من الحوادث التي وقعت للطفل في اليوم السابق هي التي تفسر لنا الحلم، وما الحلم في الحقيقة إلا رد الفعل الذي ينتج عن هذه الحوادث أثناء اليوم.
دعوني أضرب لكم بعض الأمثلة حتى نستطيع أن نبني استنتاجاتنا القادمة عليها:
(أ) كان على طفل يبلغ من العمر سنة وعشرة شهور أن يقدم صندوقاً من الحلوى هدية إلى أحد أقرانه بمناسبة عيد ميلاده. ومن الواضح أن الطفل قام بهذا العمل على غير رغبة منه، على الرغم من أنه قد وعد بأن ينال شيئاً منها لنفسه. وفي الصباح روى الطفل الحلم الآتي:(لقد أكل هرمان كل الحلوى).
(ب) قامت طفلة تبلغ من العمر ثلاث سنوات برحلة بحرية لأول مرة في حياتها، فلما وصل الركب إلى الشاطئ أخذت الطفلة تصيح راغبة عن النزول من المركب فقد مر الوقت بالنسبة لها مراً سريعاً من غير شك. وفي صبيحة اليوم التالي قالت الطفلة:(لقد رأيت نفسي في النوم على ظهر مركب يمخر عباب الماء). وقد يكون في إمكاننا أن نستنتج أن هذه الرحلة طالت عن الرحلة الحقيقية حتى تشبع رغبة الطفلة.
2 -
نرى من هذا أن أحلام الطفولة ليست عديمة المعنى بل هي عمليات عقلية واضحة المرمى مفهومة المعنى، وقد سبق أن بينت لكم أن النظرية الطبية تفسر الحلم على أنه ظاهرة جسمية تنشأ عن اضطراب في المعدة أو ما شابه ذلك. وقد شبهه بعضهم بالأصوات التي تصدر عن آلة موسيقية من يد غير بارعة. ولكنكم بلا شك لن تغفلوا عن التناقض الواضح بين هذا التشبيه وبين أحلام الأطفال التي رويتها لكم. فإذا كان في استطاعة الطفل أن يقوم بعمليات عقلية كاملة أثناء النوم فليس من المعقول إذاً أن يقنع الرجل البالغ بأن تجيء أحلامه رد فعل لعوارض جسمية ليس إلا! هذا مع العلم بأن الطفل عادة يكون أعمق نوماً من الرجل البالغ.
3 -
هذه الأحلام خالية من التحريف، وعلى هذا فهي لا تحتاج إلى تفسير، فالمحتوى الظاهر والمحتوى الباطن متماثلان. ومن هذا يمكننا أن نستدل على أن التحريف ليس من
الأشياء الضرورية في تكوين الحلم. أظن هذه النتيجة سترفع عنكم عبئاً ثقيلا، ومع هذا فإننا إذا دققنا النظر وجدنا أن التحريف موجود حتى في هذه الأحلام وإن كانت على درجة طفيفة جداً، وأن هناك اختلافاً ولو بسيطاً جداً بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن للحلم.
4 -
الحلم الذي يراه الطفل عبارة عن رد فعل لحادثة وقعت له في اليوم السابق وخلفت بعدها آثاراً من الندم أو الطموح أو رغبة لم تحقق. وهذه الرغبة تتحقق في الحلم في صورة واضحة مكشوفة. ومن الواضح أننا لا نجد في أحلام الطفولة هذه أي أثر للمؤثرات العضوية التي يركن إليها بعض العلماء في تفسير الأحلام ولكن ليس معنى هذا أننا ننكر أثر هذه المؤثرات في تكوين الأحلام، وإنما كل ما أود قوله هو أن أسألكم لم تغفلون من مبدأ الأمر أن هناك مؤثرات عقلية كما أن هناك مؤثرات عضوية تقلق نومنا؟ فنحن نعلم بلا شك أن هذه المؤثرات هي التي تمنع الرجل البالغ من النوم لأنها تجعل من العسير عليه أن يتهيأ للحالة العقلية اللازمة للنوم أي قطع كل صلة تربطه بالعالم الخارجي، فهو لا يرغب في أي شيء يقطع عليه حبل أفكاره ويود لو ظل يعمل فيما هو مشغول به وهذا هو السبب الذي يمنعه من النوم. وعلى هذا فالمؤثر العقلي الذي يقلق نوم الطفل هو الرغبة التي لم تحقق والحلم هو رد الفعل الذي ينشأ عن ذلك.
5 -
نرى من هذا أن قيمة الحلم كرد فعل للمؤثرات العقلية تتوقف على قدرته على تصريف الرغبات المكبوتة حتى يزول المؤثر ويظل النوم متصلا. ونحن لا نستطيع أن نعرف بعد كيف يحدث هذا التصريف من الوجهة الديناميكية، ولكنا قد لاحظنا بلا شك أن الأحلام ليست مقلقة للنوم (وهي التهمة التي تلصق بها دائماً) وإنما هي حارسة عليه تخلصه من عوامل القلق والإزعاج. وقد يميل البعض إلى الظن بأننا لو لم نحلم لنمنا نوماً أحسن ولكنه بذلك يكون مخطئاً لأن الحقيقة أن الفضل في القدر الذي نمناه يرجع إلى الحلم وأننا لولاه لما نمنا على الإطلاق. وإذا كان الحلم لا يجد بدا من إزعاجنا قليلا فمثله في ذلك كمثل الشرطي الذي لا يستطيع أن يتجنب إحداث جلبة أثناء طرده من قد يعكر علينا هدوءنا أو يوقظنا من النوم.
6 -
من الصفات الرئيسية للأحلام أنها تنشأ عن رغبة وأن محتوى الحلم يمثل هذه
الرغبة. هذه واحدة والثانية أن الحلم لا يعبر عن فكرة وحسب، وإنما يمثل الرغبة كأنها تحققت. فمثلا في الحلم الذي رأته الطفلة كانت الرغبة:(إني أود أن أظل على ظهر المركب) أما محتوى الحلم فكان: (لقد رأيت نفسي على ظهر مركب يمخر عباب الماء). ومن هذا ترون أنه حتى في أحلام الطفولة هذه يوجد فرق بين المحتوى الظاهر والباطن للحلم. وأن هناك تحريفاً بسيطا إذ تحولت الفكرة في المحتوى الباطن إلى تجربة حسية في المحتوى الظاهر. وعلى هذا يجب علينا عند التفسير أن نعمل أولا على إعادة كل شيء إلى ما كان عليه.
7 -
تعتبر الأحلام توفيقاً بين قوتين: إحداهما تعمل على استغراقنا في النوم والثانية تعمل على إيقاظنا منه لإشباع الرغبة المكبوتة. فتكون النتيجة أننا ننام وفي نفس الوقت نشبع هذه الرغبة عن طريق الحلم.
8 -
جرى الناس على أن يطلقوا كلمة (أحلام اليقظة) على الخيالات التي يسبح فيها الإنسان وهو يقظان ليحقق بها آماله في الطموح أو رغباته الجنسية. ولكن أحلام اليقظة هذه تظل دائماً أفكاراً وخيالات فقط ولا تتحول أبداً إلى تجارب حسية كما هو الحال في الأحلام أي أنها تحتفظ بإحدى الصفات الرئيسية للأحلام التي ذكرناها في البند السادس ولا تحتفظ بالصفة الأخرى.
وهناك أيضاً أقوال مأثورة في اللغة تشير إلى أن الحلم عبارة عن إشباع لرغبة. فكلنا يعلم المثل القائل: (يحلم الخنزير بثمرة البلوط والإوزة بالذرة). أو (بماذا يحلم الفروج؟ بالحَب). وهناك أيضاً جمل كثيرة تستخدم أثناء الحديث تشير إلى نفس المعنى كقولنا (جميل كالحلم) أو (ما كنت لأحلم بمثل هذا أبداً).
والآن تأملوا أي محصول غزير جمعناه في غير صعوبة تذكر أثناء دراستنا لأحلام الطفولة! فقد رأينا أن وظيفة الحلم هي المحافظة على النوم، وأنه ينشأ عن قوتين متعارضتين تظل إحداهما، وهي الرغبة في النوم، ثابتة؛ بينما تعلم الأخرى على إشباع رغبة ملحة، كما ثبت أيضاً أن الأحلام عبارة عن عمليات عقلية غنية بالمعاني، وأن لها صفتين رئيسيتين هما إشباع الرغبات وتحويل الأفكار إلى تجارب حسية؛ وهذا كله في الوقت الذي كدنا أن ننسى فيه أننا ندرس التحليل النفساني.
نرى من هذا أن الأحلام لو كانت كلها من نوع أحلام الطفولة لانحلت المشكلة ووصلنا إلى غايتنا في غير ما حاجة إلى استجواب الحالم أو الرجوع إلى عقله الباطن أو استخدام طريقة الترابط المطلق. وعلى هذا فالمسألة التي علينا أن نبت فيها الآن هي معرفة ما إذا كانت الصفات التي تنطبق على أحلام الطفولة تنطبق كذلك على بقية الأحلام وبالأخص تلك الأحلام التي تبدو غير واضحة المعنى والتي لا نستطيع أن نرى في محتواها الظاهر أية إشارة أو تلميح إلى رغبة ظلت بغير إشباع من اليوم السابق. هذه الأحلام في رأيي قد تعرضت إلى درجة عالية من التحريف وعلى هذا أرى أن لا نتسرع بالحكم عليها، فأغلب الظن أننا سنحتاج في التغلب على هذا التحريف إلى معونة التحليل النفساني الذي استطعنا أن نستغني عنه أثناء دراستنا لأحلام الطفولة.
ومع هذا فهناك على الأقل نوع آخر من الأحلام خال من التحريف كأحلام الطفولة ويعبر مثلها عن إشباع رغبته. وهذا النوع ينشأ عن الحاجات الطبيعية الملحة كالجوع والعطش وإشباع الرغبة الجنسية. فتحت يدي مثلا حلم لطفلة لها من العمر سنة وسبعة شهور يحتوي على قائمة بأصناف المأكولات وفي أعلاها اسم الطفلة. وقد جاء الحلم كرد فعل ليوم اضطرت فيه الطفلة إلى الصيام عن الطعام نظراً لسوء الهضم الذي ألم بمعدتها نتيجة لكثرة الأكل من نوع من الفاكهة ظهر مرتين في الحلم. وقد أثبتت المشاهدات أن السجين الذي يترك بغير طعام، أو المسافر الذي يعاني الجوع والحرمان يحلم دائماً بإشباع رغباته. وقد جاء في كتاب لأوتو نوردنسكولد عن العصبة التي أمضى معها فصل الشتاء ما يلي:
(كانت أحلامنا في هذا الوقت تشير بوضوح إلى الاتجاه الذي كانت تتخذه أفكارنا، فلم يسبق لنا قبل ذلك أن رأينا أحلاماً بهذه الكثرة والوضوح، حتى إن الرفاق الذين كانوا لا يحلمون إلا نادراً أصبحت لديهم قصص طويلة يقصونها علينا في الصباح عندما كنا نتبادل رواية ما قمنا به من تجارب في هذه الدنيا الواسعة من الأطياف. وقد كانت الأحلام كلها عن هذا العالم الخارجي الذي أصبح بعيداً عنا، ولكنها كانت غالباً ما تحوي تلميحات إلى الحالة التي كنا عليها؛ فالأكل والشرب والسفر كانت في أغلب الأحيان المحور الذي تدور حوله أحلامنا. . . فكان بعضنا يحلم بالموائد الحافلة، والبعض الآخر يحلم بالسفن رائحة وغادية وهكذا. .)
وإذا كان أحدكم قد أكل يوماً أكلة أظمأته أثناء الليل فمما لاشك فيه أن سيحلم بشرب الماء. ولكن هذا الحلم بالطبع لن يخفف عنه حدة الظمأ، وما يحدث في هذه الحالة هو أنه يصحو من النوم ظمآن ويضطر إلى أن يشرب ماء حقيقياً. والخدمة التي يؤديها الحلم في هذه الحالة ليست بذات قيمة من الوجهة العلمية، ولكنها مع ذلك ترينا أن الغرض من الحلم كان حماية النوم من المؤثرات التي تدفعنا إلى اليقظة والعمل، وقد تستطيع هذه الأحلام أن تؤدي الغرض منها إذا كانت الرغبة على درجة أقل من الحدة
وليس معنى هذا أن أحلام (إشباع الرغبة) التي هي من نوع أحلام الطفولة لا تنشأ عند البالغين إلا كرد فعل للحاجات الطبيعية الملحة التي ذكرتها سابقاً، وإنما هناك أنواع أخرى كذلك من الأحلام، قصيرة واضحة تنشأ عن حالة عقلية خاصة تكون مستولية على تفكير الشخص. فمثلا هناك (أحلام الملل)، وهي تنشأ عندما يكون الشخص آخذاً في الاستعداد للقيام بعمل هام كرحلة طويلة، أو مشاهدة مسرحية ذات موضوع يستهويه، أو زيارة صديق، أو سماع محاضرة شيقة. . . الخ. فمثل هذا الشخص ما تكاد عينه تغفو حتى تلم به الأحلام فتحقق له مقدماً ما كان يستعد لتحقيقه، فإذا به يرى نفسه على ظهر الباخرة، أو في قاعة التمثيل، أو يتحدث إلى صديقه الذي كان يأمل في زيارته وهكذا.
وهناك أيضاً أحلام من نوع آخر يطلق عليها (أحلام الراحة)، وهي تنشأ عندما يكون الشخص مستغرقاً في النوم لا يريد أن يصحو منه أبداً، وفيها يرى الشخص نفسه كأنما هو يغسل وجهه، أو يرتدي ملابسه، أو في طريقه إلى المدرسة، ومعنى ذلك أنه يفضل أن يحلم أنه استيقظ من النوم على أن يستيقظ منه فعلا. وفي هذه الأحلام نرى أن الرغبة في النوم (وهي التي قلنا عنها إنها تدخل في تكوين الأحلام)، تتمثل بوضوح وتبدو كأنها السبب الحقيقي في تكوين الحلم. وهي في هذا الاعتبار تدخل ضمن الحاجات الطبيعية الملحة التي ذكرناها سابقاً.
تذكرون أنني سبق أن قلت لكم إننا نجد في جميع الأحلام فيما عدا أحلام الطفولة وما يشبهها، عائقاً يعوقنا عن التفسير وهو التحريف. ونحن لا نستطيع أن نقرر من الآن إن كانت هذه الأحلام أيضاً إشباعاً لرغبات، كما أننا لا نستطيع أن نخمن أي مؤثر عقلي دفعها إلى التكوين، ولا أن نثبت إن كانت هي أيضاً تعمل كأحلام الطفولة على تصريف
الرغبات. فالحقيقة أن هذه الأحلام يجب أن تفسر أولا، أي تترجم؟ ولذا يجب علينا أن نعكس عملية التحريف، وأن نستبدل المحتوى الظاهر بالمحتوى الباطن، وذلك قبل أن نقرر إن كانت الصفات التي اكتشفناها في أحلام الطفولة تنطبق أيضاً على بقية الأحلام على اختلاف أنواعها
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن
طائفة المستعمرين في شمال أفريقيا
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
ما من شك في أن فكرة الاستغلال الاقتصادي هي الأصل في الاستعمار، فقد نشأت نتيجة لتطور الاختراعات ووجود أزمة المواد الأولية في دول قادرة على الصناعة الضخمة السريعة، بينما توجد بلاد عاجزة عن الاستغلال وتتوفر لديها المواد الأولية بكثرة في نفس الوقت. ثم استتبع ذلك حاجة الدولة المستغلة إلى إرسال أفراد إلى هذه البلاد، لكي يشرفوا على العمل في أرض عجز أهلها عن التنظيم والعمل، طبقاً للنظريات الحديثة. وهكذا نشأت فكرة الاستيطان في البلاد المستعمرة، أي أنها كانت تستند إلى عامل زيادة الإنتاج وتغذية المصانع بأكبر كمية مستطاعة من تلك المواد الأولية.
وإذا نحن انتقلنا إلى الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقية وجدنا أنه تعدى هذه الحدود تعديا مخيفاً، إذ اتخذ شكل هجرة كان للسياسة فيها دخل كبير، وكان الأساس الظاهري الذي تستند إليه هو أن المنتج الفرنسي أقدر من المنتج المحلي، ولذلك برزت فكرة انتزاع الأراضي وتوزيعها على المستعمرين الفرنسيين لتحقيق هذه المصلحة العامة. . . المصلحة العامة التي لا تدخل في حسابها مصلحة الأهلين.
أما في الحقيقة فإن فرنسا كانت تستند في إرسال المستعمرين إلى شمال أفريقيا إلى بواعث سياسية منذ احتلت جيوشها الجزائر سنة 1830، وقد كان شعار الكونت ديسلي المحارب (الفتح بالسيف والمحراث). وقد ظلت هذه العبارة شعارا للاستعمار الفرنسي في أفريقية الشمالية إلى اليوم.
وليست مشكلة الجنسية التي أثارتها فرنسا في الجزائر ببعيدة عن سياسة نزع ملكية الأراضي، لأنها كانت تعمل على تفتيت القومية الجزائرية بإدخال عنصر جديد إلى البلاد عامل ونشيط، وإذا لم يكن من المستطاع أن تكون فيها أغلبية عددية فإنها كانت تفكر في إنشاء أقلية أكثر أهمية من الأغلبية العددية، وذلك بما يتوفر لديها من نشاط وقدرة وتفوق. ولذلك نجد أن فرنسا كانت تمنح جنسيتها للمواطنين بشروط معينة، ثم نجدها بعد ذلك قد منحت هذه الجنسية لليهود الجزائريين جملة واحدة بمقتضى قانون 14 أكتوبر سنة 1870.
ولا محيد لنا عن الإشارة إلى نشأة الاستعمار الفرنسي في الجزائر إذا نحن أردنا نفهم هذا
الموضوع، لأنه امتد منها إلى تونس ثم إلى مراكش. وجدت فرنسا الأراضي الجزائرية من أملاك الدولية طبقاً للنظام العثماني، فأبقت على ذلك النظام لكي تستعين به على منح ما تشاء منها لمن تشاء. واستولت في الحال على أراضي الأتراك وأراضي المحاربين، وكانت تمنح هذه الأراضي إلى الفرنسيين وتعترف لهم بملكيتها، بينما ظلت الأرض التي يقيم فيها المواطنون غير معترف بملكيتهم لها. وقد امتد هذا الأمر إلى سنة1863، حينما اعترف لهم نابليون الثالث بهذه الملكية.
وخرجت فكرة المحراث من حيز التفكير إلى حيز الوجود وبدأ الفرنسيون يدفعون بالجزائريين إلى الجنوب ليستولوا على الأراضي الخصبة في الشمال. لكنهم وجدوا أنفسهم أمام مشكلة جديدة هي: من أين لهم أن يوجدوا طائفة المستعمرين وبلادهم عاجزة عن المستعمرين من أبنائها؟
حصل بعد الثورة الفرنسية في سنة 1848 - وهي السنة التي صدر فيها قرار باعتبار أراضي الجزائر أراضي فرنسية - أن عمت البطالة بين الطبقة العاملة في باريس، إلى درجة فادحة، فقرر المجلس الوطني الفرنسي إرسال العمال إلى الجزائر لاستعمار الأراضي، ليخفف بذلك من حدة البطالة، ويحقق الهدف الاستعماري في تلك البلاد. وكانت الحكومة تنقل العمال مجاناً إليها فإذا وصل العامل إلى هناك منحته عشرة هكتارات من أجود الأراضي الزراعية.
بيد أنه لم يكن من اليسير أن يصبح عامل المصنع فلاحا. لقد توافد هؤلاء المستعمرون إلى أرض الجزائر أفواجا أفواجا. ولكن بدلا من أن يبرهنوا على تفوقهم في الإنتاج أفسدوا الأرض وعجزوا عن استغلالها، وما هي إلا بضع سنوات حتى بدءوا يرجعون إلى فرنسا من جديد وكان عدد الذين رجعوا أكثر من النصف.
وهكذا عجزت فرنسا عن أن تمد الجزائر بالفلاحين من أبنائها، ولكنها لم تستطع بالرغم من ذلك أن تتنازل عن فكرة إيجاد أقلية تفتت القومية التي قد تحدث لها مشاكل في المستقبل تعجز عن مقاومتها، ولذلك عمدت إلى اتخاذ أجراء خطير، هو تشجيع الأجانب من أسبانيا وإيطاليا وكورسيكا على الهجرة إلى تلك البلاد والقيام بالدور الذي عجز أبناؤها عن القيام به. وفعلا توافد عليها خليط غريب من أجناس مختلفة، منحتهم فرنسا جنسيتها
مقرونة بامتيازات عديدة، ووزعت عليهم الأرض، ومن هؤلاء تناسلت الكثرة الغالبة من طائفة المستعمرين، الذين يدعون أنفسهم بالفرنسيين الجزائريين، وازداد خطرهم استفحالا مع مرور السنين.
ولقد كانت الإدارة المحلية دائما أشد تطرفاً من حكومة باريس في تشجيع طائفة المستعمرين هذه منذ نشأتها، حتى إن التشريعات التي أصدرها نابليون الثالث لإنصاف عرب الجزائر قبرت في الإدارة المحلية بتأثيرهم، وقد ظلت الإدارة تراوغ في تنفيذها إلى أن قامت الجمهورية الثالثة وتنوسي أمر تلك التشريعات نهائيا.
ثم بعد ذلك مدت فرنسا حمايتها على تونس سنة 1881 ثم تقدم الزمن واستطاعت أن تمدها على مراكش أيضاً سنة 1912 فكان شعار الفرنسيين فيهما أيضاً هو (الفتح بالمحراث والسيف) وجاء المستعمرون الفرنسيون في إثر الجيش وبدأت نفس الإجراءات القديمة تتخذ في أفريقية الشمالية كلها، على الرغم من التباين الموجود في علاقة شعوبها بفرنسا، ولم تمر إلا مدة قصيرة حتى كان خطر هذه الطائفة يهدد مراكش نفسها التي لم يمر اليوم على تبعيتها لفرنسا سوى خمسة وثلاثين عاما.
وتعمل تلك الطائفة اليوم في تونس ومراكش على أن تنال كراسي في البرلمان الفرنسي لكي يزيد تأثيرها في السياسة الفرنسية وتمهد لاعتبار أراضيهما أراضي فرنسية، ولكنها اصطدمت بالقومية فيهما، وقد كاد يتم تأسيس دائرة انتخابية للفرنسيين فيهما لولا احتجاج جلالة ملك مراكش وسمو باي تونس على ذلك، ولولا أن الوضعية السياسية في البلدين تمنع من تأسيس مثل هذه الدائرة، ولكن هذا لم يفت في عضد المستعمرين، إذ ما يزالون يسعون في نشاط للوصول إلى غايتهم متحينين الفرص وعاملين على خلقها.
وهم يتخذون مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة للتأثير على العسكريين والموظفين، سواء في هذه البلاد أو في فرنسا. وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نقول إن وجود هذه الطائفة خطر شديد على الحياة الاقتصادية، إذ يستطيع أفرادها بما لهم من نشاط وقدرة وأساليب خاصة، أن يهدموا القواعد التي تسير عليها الدولة حتى إن كبار الموظفين الفرنسيين يصطدمون بهم، وقد حدث كثيراً أن اصطدم بهم ممثل فرنسا نفسه.
وتمتاز طائفة المستعمرين بالجشع الذي لا نهاية له، والأنانية التي تستهين بكل شيء في
سبيل تحقيق المآرب الشخصية، كما يمتاز أفرادها بالتعصب والتطرف وسرعة التأثر، وبالعمل الدائب المستمر على الوقوف في وجه الأهالي حتى لا يكسبوا أي حق من الحقوق لأنهم يعتقدون أن في ذلك ما يمس مصالحهم، وهم لا يضمرون عطفاً للأرض التي يعيشون بفضلها ولا للدولة الفرنسية التي تحميهم، كما أنهم على استعداد لمناصرة أي نظام يستطيعون في ظله أن يشبعوا نهمهم، ولو قام ذلك النظام على أنقاض النظام الفرنسي الحالي. وربما بلغ بهم الأمر حد التآمر على الممثل الفرنسي لأنه لم يحقق لهم مأربا، بل يبلغ بهم الأمر أن يحتجوا في جرأة ووقاحة إذا ما نال المواطنون حقاً من الحقوق البسيطة. إنهم ليسوا من صميم الفرنسيين، ولكن فرنسا هي التي تتحمل مسؤولية ما يقومون به من أعمال لاستعباد الأهلين الفلاحين في هذه البلاد، واستغلال جهودهم وامتصاص دمائهم وكل المساوئ التي تتمثل فيهم. فرنسا مسؤولة عن أعمالهم لأنها هي التي عملت على أن تكون حياتها في أفريقية الشمالية معتمدة على هذه الطائفة الخطيرة وهي التي أنشأتها وساعدت على تمكينها من أجود الأراضي الزراعية ومن مقاليد الحياة الاقتصادية عموما.
وسوف تستمر الفوضى في أفريقية الشمالية ما دامت هذه الطائفة موجودة فيها على هذا النحو الخطير، لسبب بسيط هو أنها تستمد حياتها من هذه الفوضى، فهي لا تصطاد إلا في الماء العكر، ومن مصلحتها أن لا يصل الوطنيون إلى أي اتفاق مع الحكومة الفرنسية، ولذلك فإن أول خطوة كان يجب أن تتخذها فرنسا هي أن تحد من نشاطها وتضرب على يدها وتكافح هؤلاء الناس الذين لا يستوحون في حياتهم سوى ملء الجيوب والبطون. أما تفتيت القومية في تلك البلاد فلعل هذه السنين الطويلة الحافلة بالمآسي كافية لكي تفهم الفرنسيين أنهم يحاولون المستحيل، فقد برهن العربي في أفريقية الشمالية على أنه غير قابل لأن يفنى مهما كانت القوة التي تحاول أن تقضي عليه، وربما عجز الخيال عن تصوير النتائج الخطيرة التي يمكن أن تنجم عن استمرار هذه الطائفة في التقوى والاستعلاء.
عبد المجيد بن جلون
الأدب في سير أعلامه:
12 -
تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
في القوقاز
كان أكثر ما يجد من الأنس في صحبة صديقه سادو وفي صحبة رجل آخر هو إبيشكا القوزاقي صاحب الكوخ الذي كان يقيم به، وذلك الذي برع في الصيد براعة عظيمة أو الذي برع في الحديث عن مقدرته ومهارته فيه، وعن أيام شبابه الأولى وكيف كان الغواني يأخذن عليه كل سبيل ويفتتن به كل الافتتان، ولقد جعل منه ليو صورة إروشكا في قصته (القوزاق) فبلغ في ذلك غاية الإبداع.
وكان الصيد من أحب ما يلهو به في ساعات فراغه، وقد كانت الأرض غنية بطلبته من الأرانب البرية والثعالب، وكان يصحبه إبيشكا إلى قرى وأماكن بعيدة في الجبال حيث كانت تحيط بهما المخاطر في كثير من الحالات. . .
وليته جعل للصيد كل فراغه، فلقد عاد إلى الميسر منذ سنة على الرغم من مغالبته نفسه ابتغاء الإقلاع عنه، وما استطاع أن يكف عنه إلا ستة أشهر بعد أن وقع في الشرك ولم يمض عليه في القوقاز أسبوعان؛ وما إن عاد إلى التفرج على إخوانه الضباط وهم يلعبون حتى غلبه حب اللعب فأقبل عليه إقبال النهم الذي حيل بينه زمناً وبين الطعام، ففي كتاب منه إلى عمته تاتيانا في شهر يناير سنة 1852 أخذ يقص عليها كيف عاد إلى الميسر وكيف لحقته الخسائر من كل فج! وظل هذا شأنه طول تلك السنة والتي تلتها حتى عاوده ندمه وضيقه.
أما عن جانب الجد من حياته في القوقاز، فإنه في الجيش قد أبدى من البسالة في مواطن كثيرة ما استحق به صليب سان جورج للبطولة، ولكنه لم يحزه فعلا نظراً لعجزه عن تقديم شهادات وأوراق خاصة كان لابد أن يقدمها من يحظى بهذا الإنعام. . .
وكان كما سلفت الإشارة إليه قد أخذ يكتب منذ سنة 1851 وفي شهر يوليو سنة 1852 أتم
كتابه (عهد الطفولة) باكورة فنه وخطوته الأولى صوب المجد وذهاب الصيت وأرسلها بإمضاء ل. ن. إلى مجلة شهيرة كانت تسمى (المعاصر) وكان يصدرها رجلان من أعلام الأدب وقتئذ وهما نكراسوف وبانييف. . .
وظل ليو شهرين ينتظر رداً من المجلة وهو يسلم نفسه إلى الأمل الحلو تارة وإلى اليأس المرير تارة حتى جاءه كتاب من نكراسوف ينبئه فيه بقبول القصة للنشر، ولكن على ألا يدفع لصاحبها أجراً حسب ما تعارف عليه أصحاب المجلات الأدبية يومئذ إذ كانوا لا يدفعون أجراً لكاتب غير معروف على أول شيء يقبل منه للنشر. . .
وفرح تولستوي فرحا عظيما بالنشر في ذاته فهذه أمنيته، أما الأجر فما خطر بباله قط؛ وازداد فرحا إذ جاءه كتاب ثان من نكراسوف يقول فيه إنه ازداد رضاء عن القصة وهو يصححها للطبع وأنه يعتقد أن مؤلفها ممن وهبوا المقدرة، وإنه لأمر ذو أهمية أن يعمل المؤلف ذلك في بداية عهده بالكتابة. . .
ونشرت القصة في عدد أكتوبر فسرعان ما حظيت بثناء أهل الفن جميعا وفي مقدمتهم تُرجنيف ذلك الذي كان اسمه من أشهر الأسماء يومئذ في فن القصة، ومنهم دستويفيسكي وكان في منفاه بسيبيريا فكتب إلى أحد أصدقائه يسأله من يكون ل. ن. هذا صاحب تلك القصة. . .
ولم يكن بالأمر الهين أن يلتفت ترجنيف ودستويفسكي إلى هذا الكتاب فقد خلف هذان الكاتبان جوجول في زعامة القصة واغتدى اسماهما أرفع الأسماء في الجيل الذي أعقب جيل جوجول. . .
وطابت نفس الفتى ليو نيقولا تولستوي وابتهج فؤاده بهذا النجاح، وإن كان ضايقه من الناشر أنه غير عنوان الكتاب فجعله (تاريخ عهد طفولتي) بدلا من عنوانه الأصلي (عهد الطفولة) وذلك أن الكاتب كما ذكر في أكثر من موضع لم يقصد بكتابه أن يكون ترجمة منه لنفسه. . . وكذلك ضايقه أن الرقيب تناول بالحذف أو التغيير بعض عبارات الكتاب.
أخذت تتفتح الأكمام في هذا الكتاب عن عبقرية الكاتب الناشئ الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وبدأت تنجلي خصائص فنه وتتضح مواهبه وفي مقدمة تلك المواهب إحساسه المرهف وقلبه الشاعر وذكاؤه الحاد وبصيرته النافذة إلى أعماق الأشياء المحيطة
بتفاصيلها ودقائقها وروحه الدائبة المتوثبة التي لا تعرف سأماً وحيويته الكفرية التي لا تقل عن حيويته البدنية.
أما فنه فكان قوامه الأصالة والصدق والسمو وتجنب ما لا عائدة منه في التعبير والتصوير، وكان يجمع فيه بين عاطفة الفنان ومهارة الصانع وتفطنه إلى كنه ما في يده؛ وكان يقبل على الكتابة في تحمس شديد وإخلاص بالغ، ثم يطيل النظر فيما يكتب فيمحو ويثبت ويحذف ويضيف حتى يستقر على وضع ترتاح نفسه إليه ويقرأ ما يكتبه على من يدخل عليه يتبين أثره في نفسه، كما كان ينفعل انفعالا شديداً إذ يتلو لنفسه ما كتب فتدمع عيناه ويهتز بدنه وترتعش يداه، ثم يشيع السرور في كيانه وتستقر الطمأنينة في وجدانه.
كتب في مذكراته في هذه السن المبكرة يقول في أوائل سنة 1851 (إن الخيال هو مرآة الطبيعة، مرآة نحملها في أنفسنا وفي هذه المرآة تصور الطبيعة، وأجمل الخيال هو أصفي المرايا وأصدقها وتلك هي التي نسميها العبقرية. . . إن العبقرية لا تخلق وإنما هي تعكس ما ترى) وقال في موضع آخر (إن الكتابة الأدبية ينبغي أن تكون أغنية منبعثة من صميم نفس الكاتب).
لم يكن كتابه (عهد الطفولة) ترجمة لحياته، ولم يكن كذلك عملا خيالياً بحتاً، وإنما كان وسطاً بين هذا وذاك، ولعله كان إلى وصف حياته وبيئته الأولى أقرب. قالت زوجته فيما بعد (كانت كل الصور فيه مشتقة من أعضاء أسرته، وكان الإسكندر إسلنيف هو صورة جدي لأمي).
ولم يعن تولستوي في كتابه هذا بالحوادث في ذاتها فليس فيه إلا الحياة العادية التي يحياها الناس كل يوم، وإنما عنى بإبراز المشاعر والأحاسيس التي تثيرها الحوادث فيما صور من الأشخاص فكان عمله أقرب إلى التحليل النفسي الذي سوف تمتاز به القصة الروسية عما قريب بوجه عام وفي فن دستويفسكي بوجه خاص.
ولقد وفق تولستوي توفيقاً كبيراً في تصوير الخلجات النفسية في كتابه هذا حتى ما يظن قارئه (إن لم يكن يعرف) أنه عمل مبتدئ، هذا إلى دقة اللمسة الفنية والبراعة في عرض الصور مع وضوحها وخلق المناسبات، واختيار ما يحتاج إليه السياق في غير استطراد ممل أو على حد تعبيره (استبعاد كل ما لا ضرورة له وكل ما هو سطحي أو ضعيف).
وللكتاب أهمية من ناحية أخرى إذ هو يرينا تأثره إلى حد ما بروسو وستندال ودكنز وبخاصة في قصة دافيد كوبر فيلد التي هي في الواقع حياة دكنز في بيئته الأولى مقنعة كما شاء القصصي العظيم، وكانت هذه القصة كما ذكرنا تنشر تباعاً يومئذ مترجمة إلى الروسية في مجلة المعاصر. . .
وحفزه نجاحه في كتابه الأول إلى أن يكتب (عهد اليفاعة) فأقبل على ذلك في نشاط وأمل وغبطة؛ وكان أثناء كتابته (عهد الطفولة) قد كتب بعض الأقاصيص عن حياته في الجندية ومنها (قطع الغابة) و (الغارة)، وقد أرسل هذه الأخيرة إلى مجلة (المعاصر) فنشرتها وقد اطمأنت إلى القصصي الشاب؛ ولكن الرقيب شوه بعض أجزاء هذه الأقصوصة حتى لقد اشتكى مؤلفها قائلا (لقد قضى عليها الرقيب، فقد محا كل ما كان حسناً فيها أو بدله).
وأقبل القصصي الشاب على مذكرته يثبت فيها ما يعتزم كتابته من قصص؛ وكلما طرأ على خاطره موضوع يصلح لقصة عجل بإثباته ودون ما يعن له من ملاحظات ليعود إليها في حينها، وكلما أعجبته حادثة أو شخصية ممن يحيطون به كتبها مخافة أن ينساها ليجدها فيما بعد حين يأخذ في بناء قصصه وهكذا بث نجاحه الأول في نفسه كثيراً من الأمل والنشوة. . .
أخذ يزداد سأم الفتى من القوقاز ومن حياة الجندية يوماً بعد يوم، منذ أن ذهبت عن تلك الحياة جدتها؛ واشتد ضيقه في شهر أكتوبر سنة 1852 حتى إنه ليكتب في يومياته إنه يعد سني نفيه من ذلك التاريخ، ويقول فيما يُشعر بالأسى إنه لن يستطيع أن يعتزل خدمة الجيش إلا سنة 1855 (وعندئذ أكون في السابعة والعشرين من عمري، وما أكثر ما أكون من الكبر في هذا السن!. . . ثلاث سنوات أخرى في خدمة الجيش منذ اليوم؟ إن عليّ أن أقضيها فيما يجدي).
وفي مستهل سنة 1853 يقول (يا للناس من أغبياء! إنهم جميعاً وبخاصة أخي لا يدعون الخمر، وهذا شيء أراه كريها. . . إن الحرب أمر باطل. . . هي شر لا ريب حتى إن الذين يخوضون غمارها ليحاولون تلقاءها أن يخنقوا ضمائرهم. أحق ما أنا فاعل؟ أرشدني يا إلهي واغفر لي إن كنت أعمل باطلا). . .
والحق إنه لولا ما كان يصادفه في القوقاز مما يكون مادة طريفة لفنه من الناس والحوادث
والمناظر، ما استطاع صبراً على العيش هناك، ولا أطاق حياة الجندية وما فيها من خشونة وما كانت تبعثه في نفس كنفسه من سأم وضيق بأيامها المتكررة المتشابهة. . .
وبدأ يشكو أسقاماً في معدته وأمعائه وكان مرد ذلك إلى ما اعتاده من إسراف في الطعام، فقد كان من مرذول عاداته نهمه في تناول أنواع من الأطعمة كان يحبها كالفطائر والمثلجات وأصناف الحلوى، وكان لا يستطيع أن يصد نفسه عنها إذا تهيأت له، أو يفطمها إذا غابت عنه، وإنما كان يسعى إليها سعياً حتى يظفر منها بأوفر نصيب وإن مسه الضر؛ وكان لا يكترث لنصح أو يشفق من أذى اتكالا على ما يحس من قوة بنيته وشدة حيوانيته، ورغبة منه في تعويض ما يبذله من طاقة في تلبية نداء جسده. . .؛ ولكن ذلك النهم قد أضر بمعدته ضرراً أخذ يزداد منذ كان في القوقاز وسوف يتمكن منها حتى ليستعصي على العلاج حين يتقدم به العمر. . .
وكذلك أخذ يشكو من الروماتزم والحمى والرعاف والتهاب الحلق في كثير من الأحيان، ونجده يكتب إلى عمته تاتيانا ذات مرة يقول لها (لا تظني أنني أخفي عنك شيئا. . . إني وإن كنت متين البنية أعاني دائما ضعف الصحة).
وفي شهر مارس سنة 1853 يكتب في يومياته قائلا (إن الخدمة في القوقاز لم تجر عليَّ إلا المصاعب والكسل ومعرفة غير الأخيار. . . إنه ينبغي أن أخلص منها أسرع ما أستطيع. . . لقد فقدت ما كان معي من المال جميعاً، ولا زلت مديناً بثمانين من الروبلات لأوجولين وستة ليانوفتش وخمسين لسكوفنين وثمان وسبعين لقنسطنطينوف؛ وتبلغ جميعاً أربع عشرة ومائتين، وقد أنفقت فضلا عنها ثلاثين ومائتين كانت كل ما أملك. . . إن ذلك لسيئ).
(يتبع)
الخفيف
إِلْكِيا الهرَّاس
للأستاذ برهان الدين محمد الداغستاني
450 -
504هـ
اسمه ونسبته:
هو عماد الدين شمس الإسلام أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراس، وإلْكِيا بهمزة مكسورة بعدها لام ساكنة ثم كاف مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت كلمة أعجمية معناها: الكبير القدر المقدم بين الناس. والهراس بتشديد الراء لا تعلم نسبته لأي شيء.
مولده ونشأته الأولى في طبرستان:
ولد إلكيا في طبرستان خامس ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة من الهجرة ونشأ فيها نشأته الأولى حتى بلغ الثامنة عشرة. ويقول مترجموه إنه تفقه في بلده قبل الخروج إلى نيسابور. وليس فيما لدينا من المراجع ما يكشف عن حاله في بلدته مدة ثماني عشرة سنة التي قضاها فيها سوى هذه النبذة القصيرة ولا تذكر شيئاً بعد ذلك عن أبيه وعائلته وبيئته كما أنها لا تذكر شيئاً عن شيخه أو شيوخه الذين تفقه عليهم، وعلى كل حال فدراسته الفقهية التي تلقاها في بلدته قد أعدته وهيأته لتلقي دروس شيخ الشافعية في عصره إمام الحرمين الجويني في نيسابور والاستفادة منها بل جعلته في مقدمة تلامذته ومعيدي درسه. ونستطيع أن نفهم من هذا أن دراسته الأولى كانت في مستوى علمي متوسط - على الأقل - إن لم نقل في مستوى عال وإلا لما تهيأ له أن يستفيد من دروس إمام الحرمين من يوم وصوله إلى نيسابور.
في نيسابور:
لابد أن الكيا - وهو يطلب العلم في بلده - بلغته شهرة إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني رئيس الشافعية في عصره وتطلعت نفسه المتعطشة إلى العلم إلى لقيا هذا الإمام الجليل والأخذ عنه فارتحل وهو في الثامنة عشرة إلى نيسابور.
يقول ابن عساكر في تبيين كذب المفترى: (ورد نيسابور في شبابه وكان قد تفقه فحصل
طريقة إمام الحرمين وتخرج به فيها وصار من وجوه الأصحاب ورؤوس المعيدين في الدرس، وكان يعيد الدرس على جماعة حتى تخرجوا به، وكان مواظباً على الإفادة والاستفادة. ونقل السبكي في طبقات الشافعية الكبرى عن الكيا نفسه قوله: كانت في مدرسة سرهنك بنيسابور قناة لها سبعون درجة وكنت إذا حفظت الدرس أنزل القناة وأعيد الدرس في كل درجة في الصعود والنزول وقال: وكذا كنت أفعل في كل درس حفظته ثم يقول السبكي: وفي بعض الكتب أنه كان يكرر الدرس على كل مرقاة من مراقي درجة المدرسة النظامية بنيسابور سبع مرات وأن المراقي كانت سبعين مرقاة.
وهذا الذي نقلناه يدلنا على أن الكيا في نيسابور كان طالباً مجداً بكل ما تحتمله كلمة من مجد من معنى، وأنه ظل على جده واجتهاده في طلب العلم حتى أصبح من كبار تلامذة إمام الحرمين وحتى إنه كان يقوم بإعادة دروس شيخه على كثير من زملائه الطلبة حتى تخرجوا عليه، وعلى هذا النحو بقى في نيسابور إلى أن توفي شيخه الجويني سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فارتحل عنها إلى بيهق.
في بيهق:
خرج إلكيا من نيسابور إلى بيهق وقد استكمل علماً فقد علمنا أنه كان من كبار تلامذة إمام الحرمين وانه حصل طريقته في إلقائه الدروس والبحث العلمي؛ ونرى أن الوقت كان ملائماً كل الملاءمة لهذا الطارق على بيهق ليظهر علمه ونبوغه. ولا شك أنه فعل ذلك حتى عظم قدره عند ولاة الأمور هناك. ولكن المصادر التي بأيدينا لا تتكلم عن هذه الفترة من حياته من سنة 478 التي مات فيها إمام الحرمين إلى 492 التي دخل فيها بغداد إلا قليلا، فابن خلكان يقول: ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة ثم خرج إلى العراق. وأكثرها يهمل هذه المدة الطويلة من حياته فلا يذكرها بخير أو بشر. إلا أن ابن خلكان كشف عن هذا الغموض قليلا حين نقل عن عبد الغافر الفارسي صاحب تاريخ نيسابور قوله: (ثم اتصل بخدمة مجد الملك بر كيارق ابن ملكشاه السلجوقي وحظى عنده بالمال والجاه وارتفع شأنه وتولى القضاء بتلك الدولة).
وفي حوادث سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من الكامل لابن الأثير ما يأتي: في هذه السنة في شعبان وصل إلكيا أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالهراس الفقيه الشافعي
ولقبه عماد الدين شمس الإسلام، برسالة من السلطان بر كيارق إلى الخليفة الخ.
ومن هذا نرى أن الكيا قد عظم شأنه وأنه بعد أن درس مدة في بيهق اختير قاضياً في سلطنة بركيارق السلجوقي وعظمت صلته بالسلطان وثقة السلطان به حتى اختاره للسفارة بينه وبين الخليفة في بغداد.
في بغداد:
قلنا إن الكيا وصل بغداد في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة يحمل رسالة إلى الخليفة. ويقول ابن الأثير: واعتني بأمره مجد الملك البلاساني وقام له الوزير عميد الدولة ابن جهير لما دخل عليه ثم لا نعلم شيئاً عن حياته في بغداد إلى ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة لما ولي التدريس بالمدرسة النظامية في بغداد يقول ابن شهبة في طبقات الشافعية: وتولى النظامية في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة واستمر بها عظيم الجاه رفيع المحل يتخرج عليه الطلبة إلى أن توفي في المحرم سنة أربع وخمسمائة.
شيوخه وتلامذته:
لا نعلم شيئاً عن شيوخ الكيا الهراس إلا أنه تفقه في نيسابور على إمام الحرمين وأخذ عنه طريقته في الفقه والأصول والخلاف وأنه لازمه حتى مات، ويذكر السبكي في الطبقات أن الكيا حدث عن إمام الحرمين وأبي علي الحسن بن محمد الصفار وغيرهما ولكنه لم يذكر غيرهما من شيوخه كما أن كل من رجعت إليهم من المؤرخين لم يذكروا من شيوخه إلا إمام الحرمين وأبا علي الحسن بن محمد الصفار، وعلى الرغم من أنه تولى التدريس زمناً طويلا في بيهق وإنما تقتصر على بعض من تلقى عنه في نظامية بغداد مثل الحافظ الكبير السلفي، والمحدث الرحالة سعد الخير بن محمد الأنصاري الأندلسي البلنسي، وأبي إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور.
ومهما يكن من شيء فإن الكيا الهراس - وقد قضى أكثر عمره في الاستفادة والإفادة - لا شك أنه خدم العلوم الإسلامية وخاصة الفقه والأصول خدمة جليلة حتى دعي شيخ الشافعية في بغداد وتطلعت إليه العيون من كل صوب ولا شك أن الكثير من فقهاء الشافعية في أواخر القرن الخامس وأوائل السادس تخرج عليه واستفاد منه وخصوصاً أيام توليه
التدريس في نظامية بغداد من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة إلى وفاته سنة أربع وخمسمائة من الهجرة.
الثناء عليه:
يقول الشيخ محمد الأنصاري البهنسي في الكافي: أنه تفقه ببلده وقصد إمام الحرمين بنيسابور فلازمه حتى برع في الفقه والأصول وكان هو والغزالي والخوافي أكبر تلامذته ومعيدي درسه. وكان إماماً نظاراً، قوي البحث، دقيق الفكر ذكياً فصيحاً جهوري الصوت. وقال أبو طاره السلفي: سمعت الفقهاء ببغداد يقولون: كان أبو المعالي الجويني يقول في تلامذته إذا ناظروا: التحقيق للخوافي، والجريان للغزالي، والبيان لإلكيا.
وصفه السبكي في الطبقات: بأنه أحد فحول العلماء ورؤوس الأئمة فقهاً وأصولا وجدلا وحفظاً لمتون أحاديث الأحكام. وكان ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت، وأبين في العبارة والتقرير منه؛ وإن كان الغزالي أحد وأصوب خاطراً وأسرع بياناً وعبارة منه. وكان يحفظ الحديث ويناظر فيه وهو القائل: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح.
وقال فيه ابن شهبة في طبقات الشافعية: إنه كان إماماً نظاراً قوي البحث دقيق الفكر ذكياً فصيحاً جهوري الصوت حسن الوجه جداً، قدم بغداد وتولى النظامية في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة واستمر مدرساً بها عظيم الجاه رفيع المحل يتخرج عليه الطلبة إلى أن توفى. وقال ابن خلكان: وكان حسن الوجه جهوري الصوت فصيح العبارة حلو الكلام. ويقول ابن عساكر في تبيين كذب المفترى: كتب إلى الشيخ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل قال: إنه ورد نيسابور في شبابه وقد تفقه وكان حسن الوجه مطابق الصوت للنظر، مليح الكلام، فحصل طريقة إمام الحرمين وتخرج به فيها وصار من وجوه الأصحاب ورؤوس المعيدين في الدرس، وكان ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت وأبين في العبارة والتقرير منه، وهذا كان يعيد الدرس على جماعة حتى تخرجوا به وكان مواظباً على الإفادة والاستفادة.
(له بقية)
برهان الدين محمد الداغستاني
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
927 -
حشو اللوزينج
ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي:
حشو اللوزينج يضرب مثلا للشيء يكون حشوه أجود من قشره وأفضل، وذلك أن حشو اللوزينج خير منه فيشبه به الحشو في الكلام يستغني عنه وهو أحسن منه. ومن أشهر ذلك قول عوف بن محلم:
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله (بلغتها) حشو مستغنى عنه، ومعنى الكلام يتم بدونه ولكنه أحسن من جملته. . . قال أبو سعد رجاء: دخلت يوماً على أبي الفضل بن العميد فقال لي: امض إلى أبي الحسين بن سعد فقل له: هل تعرف أن لقول عوف (إن الثمانين وبلغتها) ثانياً في كون الحشو أحسن من المحشو. فسرت إليه وبلغته الرسالة فقال: سألني عنه محمد بن علي بن الفرات فسألت عنه أبا عمرو غلام ثعلب فقال: سألت عنه ثعلباً فلم يأت بشيء، ثم بلغني أن عبيد الله ابن عبد الله سأل المبرد فأنشده قول عدي بن زيد لابنه زيد بن عدي في حبس النعمان:
فلو كنت الأسير ولا تكنه
…
إذن علمت معد ما أقول
قوله (ولا تكنه) حشو مستغنى عنه ولكنه في الحسن نظير (وبلغتها) قال مؤلف الكتاب (الثعالبي): قد افتتحنا كتاباً صغير الجرم لطيف الحجم في نظائر هذين الحشوين وترجمته بـ (حشو اللوزينج) فمما أودعته إياه أن المأمون قال يوماً ليحيى ابن أكثم: هل تغديت؟ فقال: لا وأيد الله أمير المؤمنين! فقال المأمون ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعها. . . ومما عثر عليه من حشو اللوزينج في شعر البحتري قوله للمتوكل:
وجزيت أعلى رتبة مأمولة
…
في جنة الفردوس غير معجل
فقد تم الكلام عند قوله في (جنة الفردوس) وقال (غير معجل) أي بعد عمر طويل لأن الجنة إنما يوصل إليها بالموت.
وفي شعر لأبي الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب
…
يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
فقوله (وحاشاك) حشو فيه ما فيه من الحلاوة، وعليه ما عليه من الطلاوة.
928 -
الشريعة تأبى التضييق والحرج
الاعتصام للشاطبي:. . . إن عدّوا كل محدث العادات بدعة فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المأكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعاً، وهذا شنيع، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، هذا من المستنكر جداً. . . وأيضاً فقد يكون الزي الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعباً ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه، ولم يكن ثم معارض.
929 -
يعدل حيا وميتا
كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: قال (ابن الأثير) ومن عدله أيضاً (من عدل نور الدين) هو من أعجب ما يحكى أن إنساناً كان بدمشق غريباً استوطنها وأقام بها لمِا رأى من عدل نور الدين رحمه الله فلما توفي تعدى بعض الأجناد على هذا فشكاه فلم ينصف، فنزل من القلعة وهو يستغيث ويبكي وقد شق ثوبه وهو يقول: يا نور الدين، لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم لرحمتنا، أين عدلك؟ وقصد تربة نور الدين ومعه من الخلق ما لا يحصى، وكلهم يبكي ويصيح، فوصل الخبر إلى صلاح الدين فقيل له: احفظ البلد والرعية وإلا خرج عن يدك، فأرسل إلى ذلك الرجل وهو عند تربة نور الدين يبكي والناس معه، وطيب قلبه، ووهبه شيئاً، وأنصفه، فبكى أشد من الأول، فقال له صلاح الدين: لم تبكي؟
قال: أبكي على سلطان عدل فينا بعد موته.
فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما ترى فينا من عدل فمنه تعلمناه.
930 -
كان يحلق لحيته وشواربه
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السخاوي:
عبد الملك بن عبد الحق بن هاشم الحربي المغربي كان صالحاً معتقداً، يذكر أن أصله من الينبوع. . . وقد ولى بمكة مشيخة رباط السيد حسن بن عجلان، ومات بها في ليلة السبت
ثامن شعبان سنة خمس وأربعين، وبنى على رأس قبره نصب بل حوط نعشه، وهو مما يزار ويتبرك. وكان يحلق لحيته وشواربه. . .
931 -
في شعر البحتري
قال الصفدي في شرح اللامية: أنشدت يوماً بعض الأفاضل قول البحتري من قصيدته المشهورة:
وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه
…
وأول الغيث قطر ثم ينسكب
فقال بدل ينسكب: (ينهمر) فقلت: كيف تصنع في الأول وهو قوله:
هذي مخايل برق خلفه مطر
…
جَود وورى زناد خلفه لهب
فقال بدل لهب: (شرر) فقلت هذه القصيدة بائية، فلم يحر جواباً لكنني اعترفت له بالإحسان لسرعة الجواب في الثاني.
قلت. في القصيدة هذان البيتان:
قلب يطل على أقطاره ويد
…
تمضي الأمور ونفس لهوها التعب
وما صحبتك من خوف ولا طمع
…
بل الشمائل والأخلاق تصطحب
و (على أقطاره) هي رواية الديوان، وروى ابن الأثير البيت وفيه (يطل على أفكاره) ثم قال: فقوله (قلب يطل على أفكاره) من الكلمات الجوامع، ومراده بذلك أن قلبه لا تملؤه الأفكار ولا تحيط به، وإنما هو عال عليها، يصف بذلك عدم احتفاله بالفوادح وقلة مبالاته بالخطوب التي تحدث أفكاراً تستغرق القلوب، وهذه عبارة عجيبة لا يؤتي بمثلها مما يسد مسدها.
932 -
أيها الصدر قد اجتمع عندك رءوس أهل النار
النجوم الزاهرة لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردى: وفيها (سنة 488) توفي عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بُندار القزويني شيخ المعتزلة، كان إماماً في فنون، فسر القرآن في سبع مائة مجلد - وقيل في أربع مائة وقيل في ثلاث مائة - وكان الكتاب وقفاً في مشهد أبي حنيفة (ض) وكان رحل إلى مصر وأقام بها أربعين سنة، وكان محترماً في الدول، ظريفا حسن العشرة، صاحب نادرة. قيل: إنه دخل على نظام الملك الوزير وكان عنده أبو
محمد التميمي ورجل آخر أشعري، فقال له القزويني: أيها الصدر، قد اجتمع عندك رءوس أهل النار. قال نظام الملك: وكيف ذلك؟ قال: أنا معتزلي، وهذا مشبّه (يعني التميمي) وذلك أشعري، وبعضنا يكفر بعضاً. فضحك النظام. وقيل: إنه اجتمع مع ابن البراج متكلم الشيعة، فقال فقال له ابن البراج: ما تقول في الشيخين؟ فقال سفلتين ساقطين. قال: من تعني؟ قال: أنا وأنت. . . وكانت وفاة القزويني هذا في ذي القعدة وقد بلغ ستاً وتسعين سنة، ودفن بمقابر الخيزران عند أبي حنيفة (ض).
على مضجع الآمال.
.!!
للأستاذ محمد العلائي
(أستاذنا الجليل عميد الرسالة:
. . . وتلك قصيدة ثالثة أملتها ضجعة الأمل المحموم على سرير المحنة وأنا في هذه القرية المصرية التي نزلتها زائراً فأمسكتني عليها سجيناً. والتي نزلتها مودعاً فأدركني بها ما صنعت (وزارة المعارف) في عهدها السابق بقضيتي حين أوقفت بعثتي إلى (لندن) وحين استباح الهوى الغاشم حرمة الضعف النبيل وظل الشجى يبعث الشجى حتى انكمشت مشاعري وتراجعت عن هذا العالم الصاخب وتجمعت في هذا البلد الصغير الذي استقبلت عليه مأساتي ودرجت على ربوعه أحلامي. . . وظل الشجى يبعث الشجى حتى صدق الله وعده وأراد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة فزهق الباطل وجاء أستاذنا (السنهوري) إلى وزارة المعارف. . . واستفاقت قضيتي من جديد ما بين عدالة الوزير الكريم وحصافة المستشار الجليل. وأستاذنا (إسماعيل القباني) مستشار له كرامة ورجولة وله حقيقة أكبر من ظاهره وسأدخر شكري للوزير الخير والمستشار الحاسم ولأستاذنا (شفيق غربال) الوكيل الفاضل الذي ناصر قضيتي وهي في وهدة الظلم وأيدها بكلمته وهي في مطلع العدالة. . . سأدخر شكري لأولئك وهؤلاء حتى يعبر عنه ما سأبذل من واجب يشرف الاستعداد المصري في آفاق الغربة والمعرفة وما سوف أقدمه من جهد وتضحية في قضية أبناء الظلام بعد رجعتي إلى الوطن المصري الحبيب. والحبيب مهما نزفنا على أرضه من دماء ومهما تركنا عليها من شوق وأشلاء. . . وليتقبل عميد الرسالة وأسرتها تحيتي ووداعي).
(العلائي)
ما زال مرتجفَ الأحلام هيمانا
…
حتى تساقط آمالا وأحزانا
وقلّب الشوكَ في أغصانه يقظاً
…
ومدَّ أنفاسه للزهر وسنانا
وعانق الليل حتى اسود خاطره
…
ولم يجد لبياض الصبح وجدانا
وكم تمنّى ولما جاء مورده
…
ألقى الضمير بذات الماء غصانا
وكم تشكى ولما صد غايته
…
ألفى مذاهبها ظلا وريحانا
يا مهد أحلامه، ما كان مقدمه
…
إلا وداعاً، فألفي غير ما كانا!
وافاك يصنع من أشلائه أملا
…
قبل الرحيل فذاق اليأس ألوانا
وافاك يدفن في أرض الصبا شجناً
…
فواجهته بملء الأرض أشجانا
يا مهد أحلامه. وافاك منفردٌ
…
سقى الأجادب حتى عاد ظمآنا
ألقى الصلاة على الأقداس فاختنقت
…
بها المعابد أوثاناً ورهبانا!!
تذكر الشاعر الوسنان وارتجفت
…
ذات المشاعر ألواناً وأنغاما
يا مهد أحلامه، ولَّى وأتعبني
…
ليل الشباب. وضاع العمر أوهاما
يا ليت ليلك إذ خابت مشارقه
…
أمست عليه صروف الدهر أحلاما!
نزلت أرضك أوجاعاً مضمدة
…
فانساب أخطرها حساً وإلهاما!
رفَّت ببابك أفراح الصبا قطعاً
…
من الظلام ورف الشوق آلاما!
على ديارك ذكرى كلما ارتجفت
…
تساقط الأمس في واديك أياما!
والفجر مازال مسوداً يباكرني
…
كالهم ناصية والموت أنساما!
لا ألمح الشمس في واديه مشرقة
…
ولا الصباح على الآفاق بسَّاما
ولى الشباب ومازالت مصائبه
…
على ربوعك أشلاءً وأسقاما
مضى الزمان بما أشجى وما برحت
…
سود الليالي على ناديك أعلاما!!
يا مهد أحلامه. لا شيء في خلدي
…
إلا وذكرني في الأمس أشياَء
تلك الروائح والأشلاء من أمد
…
كانت بأرضك آلاماً وأهواَء!
نزلت أرضك بالآمال فانقلبت
…
على ربوعك يوم اليأس أرزاء!
نزلت أرضك بالآمال فانتثرت
…
على الضغائن والأفواه أشلاء!!
وساورتني على مغناك أخيلة
…
وبعثرتني على الآفاق أخطاء!!
وطالعتني من الأيام أوجعها
…
حتى شربت تراب اليأس صهباه!
وللنوائب كأسٌ بات شاربها
…
يقلب النفس تبريراً وإرجاء!
والهم ينسج أحداثاً لينقضها
…
ويفتن العقل تثبيطاً وإغراء!
ويجعل الصدق في أفواهه كذباً
…
واليمن مشأمة والعزم إعياء!!
والهم يجعل من ذات الرؤى حدثاً
…
ويملأ الصمت في الأسماع أنباء!
يا مهد أحلامه، ماذا تملكني؟
…
وخالط النفس أجواءً وأعماقا
أمست وأضحت كأن الأرض ما عرفت
…
يأساً ولا نظرت من قبل إخفاقا!
ماذا دهاها؟ فصبت أمسها كسفاً
…
وأزهقت يومها في الأمس إزهاقا!!
ليس الجديد قليلا في مداركها. .
…
حتى تجدد للأحزان آفاقا!
وليس حاضرها خِلواً فتملأه
…
ولا الضمير إلى ما كان مشتاقا!
هي الليالي وألوان الشجى رحم
…
والعرق يجمع في الآلام أعراقا
واليأس أوجعُه ما ناء حامله
…
وكان لولا جراح فيه سباقا!
والليل أفجعُه ما نام ساهره
…
وقام لا يرتجي للنور إشراقا!!
والنفس أبعد أشواطاً إذا عدمت
…
شوقاً فهاج على مثواه أشواقا!
والنفس أبلغ من أعماقها ألماً
…
إذا أطالت على المأساة إطراقا!
يا مهد أحلامه. طافت على خلدي
…
مواجع الأمس أرواحاً وأجساداً
كم جئت أرضك بالآمال هامدة
…
وبالوسائل أشباهاً وأضدادا
عجبت للدوحة السوداء ما برحت
…
كأن فيها على الأيام أحقادا!!
الأصل في أرضه ما زال منشعباً
…
والفرع في أصله مازال ميادا!
يا دوحة في ضمير الليل ما شهدت
…
شمساً ولا نظرت للدهر أعيادا!
بات الغناء على واديك حشرجة
…
والظل أصبح في ساقَيَّ أصفادا!
سرب المكاره مازالت عصائبه
…
على غصونك أزواجاً وأفرادا!
طوبى لروضك مازالت جمائمه
…
أشهى وأوجع مما كان إنشادا!
طوبى لنسمتك السوداء ما تركت
…
على المذاهب لا ماءً ولا زادا!!
أحفاد خطبك لا طابت منابتها
…
أمست على نسب الأحزان أجدادا
يا مهد أحلامه، فاحت على خَلدي
…
ريح الليالي تباريحاً وأوصابا!
أبى وفاؤك إلا أن تنسق لي
…
سود الأزاهر في لقياك ترحابا!
ما كاد يشرح آلام النوى جسدي
…
حتى صببت لذات النفس أكوابا!
هاج المساء وهاج الصبح ما شرقت
…
به ديارك أنفاساً وأعتابا!!
عطر النوائب في مغناك أبهجني
…
ومد للنسمة السوداء أسبابا!!
وخايلتني على مغناك أزمنةٌ
…
فيها مواجعها أهلا وأحبابا!!
والتفت بالنفس ماضيها وقلبني
…
على المضاجع محزوناً ومرتابا
ماذا بأرضك أعرى النفس فارتجفت
…
على منابتها دوحاً وأعشابا
ماذا بأرضك ناداها وذكرها؟
…
وفتح الواقع المشئوم أبوابا!
كأن بين خطوب الأرض قاطبة
…
وبين خطبك أرحاماً وأنسابا!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتعد
…
يغشى المعالم أجداثاً وأهوالا
وطاف بالأمس لا يلوي على طلل
…
إلا وكشف أطلالا وأطلالا!
وطاف بالأمس حتى جن رائده
…
وخاض ما فيه أشلاءً وأوحالا!
وخاض في لجة الأيام وانتفضت
…
موتى الأمانيّ في الأكفان أجيالا!
قامت تجر خطاياها، ومن أمد
…
كانت تجر وراء الضعف أثقالا!
كانت تجدد أوجاعي وتجعلني
…
أخشى المغايب أسحاراً وآصالا!
كانت على النفس أرواحاً مدللة
…
فأصبحت في مهاوي الأمس أغوالا!
موتى الأماني لا أنسى تعثرها
…
بين المخاوف إدباراً وإقبالا
حملتها اليوم آلاماً على كبدي
…
وكنت أحملها بالأمس آمالا!!
وكنت أجعلها للنفس أجنحة
…
فأصبحت في حنايا الصدر أغلالا
يا مهد أحلامه. وافاك مغترب
…
يشكو المذاهب أشواكا وأزهارا
رأى الأصائل فارتابت مشاعره
…
فيما يراه تباشيراً وأسحارا!
ألقى عصاه على يومين فانتكست
…
به الأماني في مغناك أشعارا!!
ما كاد يعزف بلواه على وتر
…
حتى أهاج أنين اللحن أوتارا!
ولا تعمق في شط المنى خبراً
…
إلا وذكَّره في اليم أخبارا!
ولا تأمل غصناً في بشائره
…
إلا تخوفه ظلا وأثمارا!!
ولا أزاح ستار الغيب عن ظلَم
…
إلا وأسدل خوف النور أستارا!
ظن الظنون وذاق الناس واختنقت
…
منه الخواطر أشراراً وأخيارا
ما كان أكبره نفساً وأطهره
…
لو أن في البر أو في البحر أطهارا!
رأى القلوب عبيداً فانطوى ألماً
…
وغاظه أن يرى الأفواه أحرارا!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل
…
صب الضمير على مغناك أسقاما!
ما بال دارك يا ابن الليل حافلة؟
…
لم ترع شوقا ولم تستبق آلاما!
ما بال روضك لا تصفو مشاربه؟
…
ولا يطيب على الآفا أنساما
نزلت أرضك والآمال في غدها
…
فانساب رائدها في الأمس أوهاما!
وارتد هامدها في الوهم أخيلة
…
والتف ذابلها بالنفس أنغاما!!
ومن توارى من الأيام مشأمة
…
خال التراجع بالأشلاء إقداما!
وبات ينزف أوهاماً ويسكبها
…
ويستمد من التصميم إحجاما!
وراح بالنفس لا يدري لها أفقاً
…
وعاد يملؤها ظناً وأحلاما!
وراح يطلب للتبرير مستمعاً
…
وعاد يمسخ ذات اليأس أحكاماً!
وراح يسخر بالآمال تعمية
…
وعاد ينظر للإخفاق بساما!
يا مهد أحلامه ما كان من ألم
…
ولى وأورثني في النفس أشياءً
والقلب أوسع للضراء تذكرة
…
إذا تنسم في الآفاق سراء!
والروح يذكر عند الظل حرقته
…
كما يهيج رحيل الداء أدواء!
والهم أثقل خطواً قبل مخرجه
…
والنفس أكثر بعد الشوط إعياء!
والليل يلمس ألباباً فيتركها
…
لا تستطيب لذات الفجر أنباء
واليأس إن لمس الأعماق فادحه
…
رد البشائر في الأسماع أرزاء!
واليأس يطمس في الميؤوس حكمته
…
حتى يظن طنين الهم آراء
واليأس ينسج أشلاء المنى عقداً
…
ويملأ الأرض للميؤوس أعداء
واليأس ينفخ أوهام الفتى ورماً
…
ويخلع القلب تخييلا وإيحاء
ويخنق النفس تبريراً وتغطية
…
ويقلب الكون في الأذهان أخطاء!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل
…
أفنى الوساوس أجواءً وأعماقا
مد الفؤاد إلى الآمال مختنقاً
…
وكان في سكرات اليأس خفاقا
وأغمض الشوق عن أقداسه ورعا
…
وكان في حمأة الأرجاس مشتاقا!
وأفرغ الكأس لما جاء واقعها
…
وكان يشربها في الوهم ترياقا!
من خالط الدهر لا يروي له خيراً. . .
…
ولا يصدق للآفاق إشراقا
ومن تعود شُحَّ الجدب آمله
…
رأى الهشيم بذات الخصب إغداقا
ومن تعود في الإخفاق خاطره
…
خال النجاح على الأهداف إخفاقا
ومن تمرض بالأشواق خافقه
…
ألفي الحفيظة في الأفواه أشواقا!
ومن تذوق للإغراق منقلباً
…
ظن التبسم للأيام إغراقا!
ومن تجرع صاب الوهم في أفق
…
خاف الحقيقة آفاقاً وآفاقا
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل
…
أبلى حوادثها فقداً وإيجادا!!
ولم يزل في شعاب الأمس يذكرها
…
إن مس نازلة أو مس أعيادا!
يا بؤس دارك ما زالت نوائبها
…
سوداً وأسودها مازال وقادا!
لم يعل محنتها شيب وقد نظرت
…
على الملاعب أبناءً وأحفادا!
يا بؤس دارك لا يصفو لها خبر
…
وإن صفا لم يجد للصفو أكبادا
تسد مسمعها إن كان عارضها
…
غيثاً وتفتحه إن كان إرعادا!
يا ويح دارك قد فاحت سريرتها
…
وأزبد الألم المكبوت إزبادا
وجسم الأمل المحموم سامرها
…
وماج منقلب الأيام أشهادا
واهتز في دوحة الأشواك فارعها
…
حتى اشرأب دفين الأصيل ميادا
وأخرج الأمس ألفاظاً وأحكمه
…
على المشاعر والأهواء أصفادا!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل
…
أفنى الخواطر إنكاراً وإعجابا!
طالت مذاهبه وارتاب رائدها
…
وأطنب الدهر في نجواه إطنابا
واشتف أعماقه حتى تشربها
…
فما أطاق لها شهداً ولا صابا!
واستل أنفاسه صبراً وتضحية
…
وامتص خاطره بعداً وإغرابا!
وضاع في صخب الأقدار هامسه
…
وانشق مرهفه عتباً وإعتابا
وراح في غسق الأهواء مقتنعاً
…
وعاد في وضح الأقداس مرتابا
جنى المصائب آمالا وأحرقها
…
على المذاهب توديعاً وترحابا!
وأذهل الشوق عن أبواب واقعه
…
وهام يطلب خلف الغيب أبوابا
ومال بالنفس عما لاح شاطئه
…
ومد للشاطئ المجهول أسبابا
وأزهق العمر تفكيراً وتجربة
…
وما تخير من دنياه محرابا!!
يا مهد أحلامه. وافي وطالعني
…
يوم الرحيل وهاج الشوق أهوالا
الحق أزهق أغراضاً ومزقها
…
على المذاهب والأفواه أمثالا!
والخير أخمد أهواءً وأركسها
…
تحت المذلة أرداناً وأوحالا!!
والحق كالدهر إن أملي لباطلة
…
وفي وأوغل في التشهير إيغالا
والخير أرزن مأساة فإن عصفت
…
رد الحبائل في الأشرار أغلالا
والنوم أبلغ للأقدار تذكرة
…
والصمت أبعد في الآفاق إرسالا
ومن ترامى على الأحداث مرتعدا
…
ذاق المنى فشلا واليأس آمالا!
ومن تفكر أفناه تفكره
…
وخال ميسرة الأيام إقلالا!
ومن تعمق لا ينمو له أمل. . .
…
إلا تقصف أوهاماً وأقوالا!
وأحصف الناس لا يدري تعثره
…
إن كان نازلة أو كان إقبالا!!
يا مهد أحلامه. نادي وخايلني
…
يوم الرحيل وماج الغيب أسرارا
ما بال أمسك ألقاه على خلدي
…
شوكا وأنثره للدهر أزهارا!!
ومن تسامى عن الأوضاع منزلة
…
ألفي سعادته بذلا وإيثاراً!
يا مهد أحلامه. ما كان أوجعها
…
ذكرى وأعمقها عطراً وأخباراً
والنفس خاشعة الأهواء يلمسها
…
نور فيملؤها شوقاً وأخطارا!
ومن تسامى عن الأوضاع معرفة
…
رد الظلام على الأيام أنوارا!!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل
…
مد المشاعر للأنسام تذكارا
أودعت أرضك أخطاءً ستجمعها
…
بعد اغترايي آلاءً وأثمارا!!
ومن تسامى عن الأوضاع تجربة
…
لاحت مآثره للناس أوزارا!!
وأقرب الناس للأقدار منفرد
…
يرعى الحياة كما لو كان مقدارا!
محمد العلائي
الأدب والفنّ في أسبُوع
المرصد والجامعة:
وافق مجلس الوزراء هذا الأسبوع على اقتراح لكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول بضم المرصد الملكي بحلوان إلى الجامعة على أن يكون وحدة مستقلة، وأن تتألف لجنة من القائمين بالمرصد الآن ومن رجال الجامعة لتقديم التفاصيل الخاصة بهذا المشروع وتقدير الاعتمادات اللازمة لتنفيذه.
وهذه في الواقع خطوة طيبة كان من الواجب أن تتم منذ سنين، وكانت المصلحة العلمية تقضي بتحقيقها من يوم أن قامت الجامعة وتهيأت المكانة اللازمة لكلية العلوم، فإن المرصد لا يصح أن يقوم على أنه آلة تسجل ظواهر الجو المعتادة وكفى، بل يجب أن يكون مركزاً علمياً للتجارب والإفادة في تلك الناحية التي استغلتها العقول الكبيرة حتى جعلت لها السيطرة على جميع ظواهر الحياة.
إن علم الظواهر الطبيعية أصبح دعامة من دعامات النهوض والقوة عند الأمم، وقد أدى هذا العلم في الحرب الماضية من الجهد ما غير مجرى الحوادث وحول دفة التاريخ، فلعل أن تكون هذه الخطوة مقدمة لاهتمام شامل بهذه الناحية حتى تؤدي فيها الجامعة رسالتها العلمية.
بعد المرحلة:
أشرنا في أعداد سابقة من الرسالة إلى تلك المرحلة الطويلة التي قام بها الأديب الفرنسي الكبير مسيو جورج ديهاميل في بلاد الشرق العربي حيث طاف بسوريا ولبنان ومصر وبلاد شمال أفريقيا، وقد جاء في نبأ من باريس أن ديهاميل تقدم إلى الأكاديمية الفرنسية بتقرير واف عن نتائج رحلته وما تبينه في بلاد الشرق من اتجاهات.
ولست أدري ماذا قال الأديب الفرنسي الكبير في بيانه أو في تقريره هذا. فإن الأنباء البرقية لم تشر إلى شيء من مضمونه، ولست أدري هل كتب ديهاميل ما كتب بروح الأديب الإنساني الذي عاش طول حياته ينشد الإنسانية المهذبة فأطرب أبناء الشرق والغرب، أم بضمير السياسي المسعور الذي لا يرجو لأمته إلا أن تستعمر البلاد وتستعبد العباد وتظل قائمة سيف الإرهاب والبطش تجره على رقاب الضعفاء.
إننا أبناء الأدب نرجو دائماً أن نظل أوفياء لرسالتنا، محترمين لإنسانيتنا، فلعل الأديب الفرنسي قد حدث (الخالدين) من أبناء أمته بما رأى من شنائع الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقية، ولعله صور لهم ما رأى بعينيه من تلك المآسي الأليمة في تونس ومراكش وغيرهما من البلاد التي اغتصب الفرنسيون أقواتها وتركوها نهباً للجوع. . . وأن يكون في هذا كله قد اعتصم بضمير الأديب الإنساني لا بضمير الجلاد السياسي، وإلا فعفاء على أدبه، ولعنة الأدب على شخصه. . .
يقظة الشباب العربي:
عقدت رابطة الطلبة العرب بأكسفورد في الأسبوع الماضي مؤتمراً عاماً حضره طلاب يمثلون جميع الأقطار العربية، وقد عقد المؤتمرون عدة اجتماعات للبحث والتشاور ثم اتخذوا عدة قرارات بعضها في مجال العمل السياسي وبعضها يتصل بالنشاط الثقافي.
ففي مجال السياسة قرروا العمل على إدخال عرب شمال أفريقيا ممن يوصفون بالشعوب المنسية في حظيرة الجامعة العربية، والعمل على حصول فلسطين على استقلالها ووقف الهجرة اليهودية إليها، ثم العمل على تحقيق الاستقلال التام لمصر والسودان.
وفي مجال النشاط الثقافي قرروا الموافقة على إنشاء مراكز اجتماعية وثقافية في جميع عواصم البلاد العربية يطلق عليها اسم (البيت العربي) لتكون منازل للمسافرين من العرب وندوات علمية ثقافية لأبناء العروبة. . .
وإن هذه اليقظة من الشباب العربي المثقف لتدعو إلى الاطمئنان والتفاؤل، وتملأ النفوس بالغبطة والبهجة، وإننا إذ نبارك هذه الروح نرجو أن تظل في يقظتها متوثبة ملتهبة حتى لا يفسدها التراخي ولا يخدرها طول الوقت.
كانوا يقولون: (آه لو علم الشباب، وآه لو قدر المشيب)، ولكننا اليوم أصبحنا نجد في الشرق العربي الشباب العالم القادر الذي يتبصر الطريق، فلعل الله يحقق على يديه للعروبة ما تمنى الأدباء وتلهفوا عليه.
تكريم مطران مرة ثانية:
أما التكريم الأول فهو الذي قامت به لجنة تألفت لهذا الغرض وقد كان من أمره ما نشرناه
من قبل.
وأما هذه التكريم الثاني فقد قام به الاتحاد العربي في داره بالقاهرة هذا الأسبوع في حفل جامع حضره كثيرون من أعلام الأدب وأقطاب العرب، وقد افتتح الاحتفال صاحب السعادة محمد علي علوبة باشا رئيس الاتحاد بخطبة قيمة ضافية استهلها بقوله:(لنا الفخر أن نكون شرقيين منبع المدنية والآداب والعلوم التي اهتدي العالم بهديها، وسار في ضوئها. منا البابليون والآشوريون والفينيقيون والفراعنة، وفينا ظهر الأنبياء عيسى وموسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، ولنا لغات راقية ممتازة في مقدمتها اللغة العربية الشريفة التي نهضت بأعباء المدنية نحو العالم قروناً طويلة والتي يستطيع الإنسان أن يعبر بها عن كل احساساته ومطالبه بما لا يجده في لغة أخرى).
وفي هذا المنحى من الحديث أفاض علوبة باشا في الإشادة بمجد الشرق عامة والإسلام خاصة، ثم انتهى في الحديث إلى الضعف الذي انتاب الشرق في العصور المظلمة وما كان بعد ذلك من مصارعة بين الشرق والغرب في ميدان الحياة فقال:(ابتلينا بالغرب، فهدم مدنيتنا، وأضاع حريتنا، وقتل شخصيتنا، وفي هذا الظلام الخانق تأخرت اللغة العربية، وندر الشادون بها من فحول الأدباء والشعراء، ولكن بين الحين والحين كانت تظهر في تلك التربة الخصبة حبات صغيرة تحاول استرداد مجد اللغة، ومن هذه الحبات حبة نبتت في جبل لبنان الأشم ثم أراد الله لها أن تنمو وتفرع وتثمر في وادي النيل حتى صارت دوحة عظيمة، وليست هذه الدوحة إلا شاعر العروبة الكبير الأستاذ خليل مطران بك).
وتحدث علوبة باشا عن مطران الرجل، وشاعريته العبقرية الفياضة، وما له من آثار جليلة في خدمة العربية والتراث الأدبي، وأهاب بالشاعر الكبير أن يتوجه بشاعريته إلى إيقاظ المشاعر بالإشادة بمجد الشرق العريق وتذكير الأبناء بما كان للآباء من تراث عظيم.
وتعاقب الشعراء والخطباء بعد ذلك، فأنشد شبلي ملاط بك جملة من القصائد والمقطوعات القديمة والحديثة، وألقى الأستاذ حسين السيد زجلا رقيقاً والأستاذ موريس أرقش خطبة بليغة وأنشد بعض قصائد مطران الخالدة، ثم ألقى الأستاذ جميل الرافعي بعض الكلمات التي قيلت في تكريم مطران في عدة مناسبات، وكان هذا ختام الحفل لتكريم الشاعر الكبير.
وبعد، فليس هذا كله بكثير على خليل مطران بل إنه بعض الدين الذي في عنق أبناء
العربية نحو شاعر العربية الذي غنى فأطرب وأنشد فأعجب. . .
مجمع للشريعة الإسلامية:
وضعت لجنة خاصة من هيئة كبار العلماء تقريراً اقترحت فيه إنشاء مجمع لبحث المسائل الدينية والتشريعية يسمى (مجمع فاروق الأول للشريعة الإسلامية) على غرار (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) وقد استهلت اللجنة تقريرها بمقدمة أشارت فيها إلى الضرورة التي تدعو إلى قيام هذا المجمع فقالت: (إذا كان مجمع فؤاد الأول للغة العربية قد قضت به الضرورة ودعا إليه داعي الإصلاح واستلزمته مقتضيات العصر وما وجد فيه، فإن ذلك يوجب أيضاً أن يكون في مصر وتحت ظلال الأزهر مجمع ديني علمي ينسب إلى الفاروق العظيم. . . وإن مجال العمل في مثل هذا المجمع الديني العلمي لفسيح، وإن الأمة الإسلامية لفي حاجة ماسة إليه لا تقل عن حاجة اللغة العربية إلى مجمعها الراهن، بل تزيد أضعافاً، فقد حدثت صور من المعاملات لم تكن، وبانت حاجات للناس لم تبن، ووفدت علينا تيارات فكرية تارة، ونزعات اجتماعية ضارة، ليس من الخير ولا من الرأي أن نغض النظر عنها وأن نتركها حتى يستشري داؤها ويتفاقم خطبها). . .
ثم تحدثت اللجنة عن الأغراض التي سينهض بها هذا المجمع فأوجزتها فيما يلي:
1 -
دراسة ما يرد للأزهر من أسئلة تتعلق بالأحكام الشرعية الاعتقادية والعلمية دراسة تتجلى فيها روح الشريعة الإسلامية في وحدة العقيدة ورعاية المصالح.
2 -
بيان ما هو بدعة وما ليس ببدعة، ووضع كتاب في هذا الموضوع والإجابة عن الأسئلة التي تتعلق به ونشر المهم من البدع وإذاعته على الناس.
3 -
تفسير القرآن الكريم تفسيراً سهلا خالياً من الإسرائيليات وموافقاً لما تقضي به القواعد العربية والأصول الدينية والإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بتفسير الآيات الكريمة ونشر المهم من ذلك وإذاعته على الناس.
4 -
وضع كتات يحتوي على ما نسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مع بيان مراتبه وشرح وجيز لما يحتاج إلى شرح من المقبول، والإجابة عما يسأل عنه من تفسير الأحاديث أو تخريجها ونشر المهم من ذلك وإذاعته على الناس.
5 -
إحياء الكتب النافعة في الشريعة الإسلامية وما له صلة بها إحياء يسهل معه الانتفاع
بها.
6 -
إيداء الرأي في الكتب التي يرى شيخ الجامع أخذ رأي المجمع فيها لشرائها لتدريسها في مراحل التعليم بالأزهر والمعاهد الدينية وحل المشكلات العلمية العامة.
هذا هو الاقتراح الذي تقدمت به اللجنة لإنشاء مجمع للشريعة الإسلامية، وهو اقتراح نوافقها عليه كل الموافقة، ونرى معها أن الضرورة تقضي بإنشاء هذا المجمع في أقرب فرصة ممكنة، ولكنا نخالفها كل المخالفة في أن تكون الأغراض التي أبدتها هي أغراض ذلك المجمع ومهمته، لأنها كما يرى القارئ أغراض ثانوية ومن الواجب أن تضطلع بها هيئة كبار العلماء ودار الإفتاء بالأزهر وإلا فلا حاجة تدعو إلى بقائهما. . . وإنما يجب أن يكون المجمع المقترح مجمعاً للعالم الإسلامي عامة وأن يكون من أول أهدافه تحرير المسائل الخلافية التي فرقت الشمل وجعلت المسلمين جماعات، ثم تنقية هذا الدين من شوائب النزعات المذهبية والاتجاهات الطائفية والتلفيقات الخرافية ورده إلى أصوله السمحة؛ ونحسب أن الأذهان تهيأت في العالم الإسلامي للاستجابة إلى هذه الغاية الشريفة التي هي غاية الإسلام الصحيحة القويمة. . .
انحطاط الفن السينمائي في مصر:
وأخيراً انتبهت وزارة الشئون الاجتماعية إلى أن الفن السينمائي في مصر يمشي في سيل من الفوضى وأن الأفلام التي تعرض على الشعب ليست إلا ألواناً من التهريج الفارغ حتى أصبحت الجماهير الشعبية تشعر نحوها بالغضاضة وعدم التقدير.
نقول تنبهت وزارة الشئون الاجتماعية إلى هذا فقامت إدارة الإرشاد الاجتماعي وهي الجهة المختصة بالوزارة ببحث هذه الحالة وفحص العلة فيها ثم تقدمت إلى معالي الوزير بمذكرة ضمنتها ما ترى لعلاج هذه الحالة وملافاة ذلك النقص، وهي ترى في مذكرتها أن السبب في تدهور الفيلم المصري يرجع إلى ضعف القصة، ولذلك نقترح أن تمتنع الوزارة عن الترخيص بتصوير القصص الضعيفة التأليف أو التافهة الموضوع على أن تتألف هيئة بالوزارة من الفنيين يكون لها الرأي في تقدير القصص الصالحة للعرض بما يجتمع لها من براعة ونبالة الغرض وقوة الموضوع، أشارت المذكرة إلى ما يجب على الوزارة في منع الأفلام التي تسيء إلى سمعة مصر والبلاد العربية أو تسيء إلى صناعة السينما واقترحت
توافر شروط خاصة فيمن يزاولون الأعمال الفنية الأساسية في صناعة السينما، كما رأت أن يظل باب المنافسة بين الأفلام الأجنبية والأفلام المصرية مفتوحاً إذ أن المنافسة داعية الاجتهاد وتحري الإجادة. .
وكل ما نقوله في التعليق على هذا هو أن الوزارة قد لمست الداء وتبينت الدواء فلعلها تكون حازمة فتنقذ مصر من هذه الفوضى التي تدلت بالفن إلى مدى سحيق!!
(الجاحظ)
البَريدُ الأدَبي
بل أي الأقوال أصدق؟
قرأت ما كتبه الأستاذ محمود أبو رية في عدد الرسالة الغراء 718 عن حكم الدكتور طه حسين بك للعقاد منذ ثلاث عشرة سنة وعن حكمه لمطران اليوم، وأقول إن الدكتور قد حكم من قبل ذلك لشوقي وحافظ بما حكم به بعد ذلك للعقاد ومطران.
فالدكتور يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه (حافظ وشوقي): (. . . . . . وكلا الشاعرين قد رفع لمصر مجداً بعيداً في السماء، وكلا الشاعرين قد غنَّى قلب الشرق العربي نصف قرن أو ما يقرب من نصف قرن بأحسن الغذاء. . .
هما أشعر أهل الشرق العربي منذ مات المتنبي وأبو العلاء من غير شك، هما ختام هذه الحياة الأدبية الطويلة الباهرة التي بدأت في نجد وانتهت في القاهرة) ويستطرد الدكتور إلى أن يقول:(هما أشعر العرب في عصرهما. . .).
وإني إذ أضيف هذا الحكم القديم للدكتور إلى ما نقله الأستاذ أبو رية لا أود أن أعرض ذلك أمام الأدباء جميعاً ليروْا رأيهم فيه فحسب، بل أعرض ذلك للدكتور نفسه قبل هؤلاء جميعاً ليعلن رأيه الفصل، ويوفق بين ما أعلنه في صراحة ووضوح وله مني أطيب التحيات والسلام.
(السودان - بربر)
عز الدين الأمين
عود إلى ترجمة:
كتبت كلمتي السابقة في الرسالة عن ترجمة كتاب السادهانا للأستاذ الأديب محمد محمد علي وأبرزت بعض نواحي الخطأ في هذه الترجمة. وأنا أشعر بأنني أؤدي واجباً نحو الأدب والفن لا يحسن السكوت عنه وقد قرأت في عدد الرسالة الأخير رد الأستاذ على ما كتبت وكان بودي أن ينتهي الأمر عند هذا الحد ويترك إلى ذوق القارئ وتفكيره.
ولكن الكاتب الأديب قد عمد إلى تحريف الكلم. وقدم للقراء صوراً زائفة من القول يبرر بها أخطاءه التي أشرنا إلى بعضها في الرسالة الغراء.
كتب شاعر الهند تاجور فصلا عن السادهانا بعنوان وترجمها معرفة الروح. وصححنا هذه الترجمة فقلنا الوعي الروحي ولكن الأستاذ رد على نقدنا بقوله (خطأ الأستاذ ترجمتي للجملة بمعرفة الروح وترجمها بالوعي) ونحن نضع يدنا على يده ونقدمها للقراء متسائلين عن الذي دعاه إلى هذا التحريف في كلام تاجور وهو تحريف يخل بالمعنى الذي رمى إليه، ويخالفه كل المخالفة. فالوعي الروحي هنا هو الضمير الروحي ومنه قوله تعالى (والله أعلم بما يوعون) أي يضمرون في نفوسهم. والمقصود بهذا في لغة الفكر: أن يعي الإنسان كل شيء عن طريق الروح وشتان بين هذا وبين معرفة الروح.
وخطأ ترجمة كلمة بتحقيق الحياة التي ترجمها بكنه الحياة. ولم يجد سبيلا إلى هذه التخطئة غير قوله: (ليست الحياة باطلة حتى يجعلها الكتاب حقيقة) وهذا نقد كان يجدر به أن يوجهه إلى مؤلف الكتاب لا إلى. والذي يعرف اتهام الهند عند الغربيين بالتجرد والزهد في الحياة واعتبارها شيئاً باطلا، يفهم قصد شاعر الهند بهذا العنوان. وتدعيم الرأي في هذا بأقوال مصلحي الهند وأنبيائها في سياق الكتاب.
ولست أرى الرد على بعض المغالطات التي عمد إليها الكاتب في تأويل بعض الأخطاء التي وقع فيها وأشرت إليها في مقالي السابق فهذا ما لا يحتاج القول فيه إلى بيان.
وإذا كانت هذه الأخطاء قليلة في رأي حضرة الكاتب الأديب فإن هذا القليل الذي ذكرناه يدل على الكثير الذي أهملناه.
محمد طاهر الجيلاوي
إلى معالي عبد العزيز فهمي باشا:
سيدي معالي الباشا
تفضلت فأهديت إلى كتابك القيم متوجاً بإهدائك البليغ الذي صغته من تواضعك الرفيع وعطفك السامي، فهممت أن أجيب عن هذا التكريم العظيم بالمثول بين يديك أرجو على الشكر مقدرة، أو التمس عن العجز معذرة. . . ثم انثنيت عن هذا لأنه عمل لا ينسجم مع نبل لفتتك؛ وأخذت أجيل النظر والفكر في كتابك وإهدائك، فكان فضلهما ونبلهما يخجلان كل ما ينثال على ذهني من الصور والخواطر، فانتهيت يا سيدي إلى أن ألجأ من فضلك
إلى فضلك، محتمياً به منه؛ وتلك هي السبيل التي سلكها كل من طوقتهم بجميلك، وهديتهم إلى سبيلك، تسدي إليهم المعروف ثم تمن عليهم بالإغضاء عن شكره. مد الله في عمرك وظلك، وأبقاك لبني وطنك تلقي عليهم دروس الكرامة والوطنية والعزة.
ثروت أباظه
حول أبي هريرة:
كتبت كلمة نقد لكتاب أبي هريرة سلكت فيها جادة الإنصاف، ووضعت توجيهاً جديداً لدراسة أبي هريرة دراسة عادلة، ولكن هذا لم يعجب صاحب الكتاب، ولم يعجب بعض إخواننا من الشيعة، فحملوا عليّ في بعض جرائدهم حملة ظالمة، وقد رد علي صاحب الكتاب بكلمة في الرسالة لم يأت فيها بشيء نحو ذلك التوجيه الجديد في دراسة أبي هريرة، ولم يجد فيما يأخذه عليّ إلا إسناد حديث دخول أبي هريرة على رقية إلى محمد بن خالد بن عثمان، وقد كنت ذكرت معه بعض أسماء من كان يضع الأحاديث على أبي هريرة، فسقط في الطبع بعض هذه الأسماء، وترتب على هذا إسناد ذلك الحديث إلى محمد بن خالد. والحقيقة إنه من وضع غيره لا من وضعه، وقد ورد هذا الحديث بروايتين في مستدرك الحاكم، جاء في إحداهما محمد بن أحمد بن سعيد الرازي، وهو من الضعفاء، والمطلب بن عبد الله، وهو من الضعفاء أيضا، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وقد ضعفه النسائي والبخاري.
وجاء في الرواية الثانية عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه، وهو قصاص لا يعتمد عليه، وقد ذكر أحمد بن حنبل إنه كان يكذب على وهب بن منبه، وذكر البخاري أنه ذاهب الحديث
فلم يبق إلا تصحيح الحاكم لسند هذا الحديث، ولا شك أن تصحيحه له يشمل أبا هريرة أيضا، فلا يصح لصاحب كتاب أبي هريرة أن يعتمد عليه في رأيه فيه، وقد قال الحاكم عقب هذا الحديث: ولا أشك أن أبا هريرة رحمه الله تعالى روى هذا الحديث عن متقدم من الصحابة أنه دخل على رقية رضي الله عنها، لكني قد طلبته جهدي فلم أجده في الوقت، وهذا هو الإنصاف الذي يجب أن يدرس به أبو هريرة وغيره.
وقد جاءني من حضرة الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجمجموني إنه وجد هذا الحديث في كتاب التاريخ الصغير للبخاري (100) وأنه ذكر إسناده إلى المطلب بن عبد الله عن أبي هريرة، ثم قال: ولا يعرف للمطلب سماع من أبي هريرة، ولا تقوم به الحجة، فأعَّله بالانقطاع. وقد ذكر هذا الأستاذ الفاضل أن الحاكم يروي في كتبه ما لا يعقل، وقد طعن في بعض أحاديثه الإمام السيوطي في كتابه (اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) وكذلك طعن فيه صاحب كتاب (الصارم المنكى). وذكر الشيخ عبد العزيز الخولي في كتابه (مفتاح السنة) أن في المستدرك للحاكم كثيرا من الموضوعات، وطعن فيه صاحب المنار في المجلد السادس منها، والشيخ طاهر الجزائري في كتابه (توجيه النظر إلى أصول الأثر)
وما كان أحرى صاحب كتاب أبي هريرة أن يتناول دراسته بهذا التوسيع الذي يجده في دراسة هذا الحديث، ويثبت منه أنه موضوع على أبي هريرة، لا إن أبا هريرة هو الذي وضعه على النبي صلى الله عليه وسلم.
عبد المتعال الصعيدي
تصويب:
1 -
جاء في مقال الأستاذ أحمد رمزي بك: (بين مصر ولبنان) المنشور بالعدد الماضي في التعليق على كلمة تنوخ. وتنوخ اسم حبشي والصواب اسم جنسي، وورد في المقال غالباً وصوابها غالياً.
2 -
جاء في مقال الأستاذ علي متولي صلاح أن قصيدة الأستاذ بشارة الخوري ألقيت في تكريم شوقي والصواب أنها ألقيت في رثائه
القَصصٌ
الجاسوسة العاشقة
عن الإنجليزية
للأديب شفيق اسعد فريد
كان مقهى فندق كوزمو بوليتان يعج بالجالسين حتى لقد تعذر على (فانيا) المسير لضيق مسافة ما بين المناضد. وتوقفت الفتاة لحظة وقد بدا عليها التردد، على أنها استأنفت التقدم ثانية حتى وصلت إلى منضدة كان يجلس إليها رجل منفرد. ولاح كأنها كانت على وشك السقوط إذ مدت يدها مسرعة إلى المنضدة ولم تلبث أن سقطت منها حقيبتها اليدوية على الأرض.
وانحنى الرجل يلتقط الحقيبة ثم وقف وقال وهو يقدمها إلى فانيا:
- أرجو المعذرة. . . ولكن هل تتكرمين بالجلوس معي يا سيدتي. . . يلوح أنه لا توجد أماكن خالية الليلة في المقهى.
وابتسمت الفتاة دلالة على الشكران ثم جلست. . . وقبلت قدح القهوة الذي طلبه لها ثم بدأت تشكره على تلطفه معها.
ولم يخف على رئيس الخدم ورجاله المنتشرين في أرجاء المكان أن (فانيا) الجاسوسة في قلم المخابرات السرية بموسكو قد عادت لاستئناف نشاطها ثانيا.
ولكن أن أندريه ليرو لم يكن يدري ذلك برغم معلوماته الجمة عن الجاسوسية وعن حيل الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلام المخابرات السرية.
لقد كان هو نفسه جاسوساً فرنسيا طاف بكثير من الممالك منتحلا شخصيات عديدة ومستعملا في ذلك جوازت سفر تطابق الأسماء التي كان ينتحلها. . . ومع ذلك فإنه لم يكن يدري أن رفيقته (فانيا) من أخطر جواسيس موسكو.
لم يكن يدري أن فانيا هي التي أدارت الحديث ثالث يوم من صداقتهما ناحية بولندا وزيارته إلى تلك المملكة. . . لأنه كان يعتقد أنه هو نفسه الذي وجه الحديث إلى هذه الناحية الشيقة
لم يكن يدري أن مرض خادمه في الفندق في اليوم الرابع من وصوله ومجيء خادم جديد بدلا عنه كان من صنع (فانيا) وأنى له أن يعرف ذلك وقد خرج في اليوم ذاته في نزهة في السيارة استغرقت أكثر من أربع ساعات بعيداً عن المدينة، كان أحد مهرة صانعي الأقفال يعمل خلالها بنشاط عجيب ويفتح جميع أدراج مكتبه في الفندق على حين كان رجل آخر يلتقط صورا فوتوغرفية لجميع أوراقه ويعيدها إلى مكانها كأنما لم يحدث شيئا مطلقاً
حقاً لقد كانت (فانيا) ماهرة في عملها كل المهارة. . . ومع ذلك فإن أندريه ليرو لم يكن يأبه إلا للنظرة الساحرة التي كانت ترميه بها من وقت لآخر.
كانت فانيا تجلس في غرفة استقبال أندريه ليرو في فندق كوزمو بوليتان بعد مضي أسبوعين على لقائهما.
ونظرت الفتاة إلى ساعتها اليدوية. . . (لم يبق غير دقيقة واحدة).
قال أندريه: إنني ذاهب إلى أمريكا أولا، ثم أخترق القارة إلى سان فرنسيسكو. . . ألا تشعرين بأنه يجدر بنا - إذا أردنا السعادة - أن نتزوج في وارسو أو في باريس أو في أي مكان آخر ثم نرحل معاً. . . كم هي جميلة حياة الأسفار حيث يتجول الإنسان في ممالك غريبة عنه. . . إنني أملك مالا كثيراً. . . فهل تتزوجينني يا فانيا؟.
ولم تستطع الفتاة أن ترفع بصرها عن ساعتها اليدوية. . . وكانت تحاول أن تتجه بأفكارها اتجاها آخر بعيداً عن أندريه وعن حديثه. . . وابتسمت. . . وراحت تفكر في زميلها كرجل يغازلها ويعرض عليها الزواج ولكن كرجل له أهمية عظمى في مؤامرة أعظم. . .
ولم تجب، فاسترسل أندريه في حديثه قائلا:
- فانيا. . . أصغي إليَّ. . .
وتوقف فقد اهتز باب الغرفة في تلك اللحظة اهتزازاً عنيفاً تحت تأثير ضغط عظيم من الخارج. . .
وسمع الاثنان صوتا خشناً يقول:
افتحوا الباب وإلا فسنحطمه في أقل من خمس ثوان. . . افتحوا الباب. . .
ولم ينتظر الآمر إذ يبدو أنه كان في عجلة شديدة. . . وأسرعت فانيا تحتمي بجانب أحد جدران الغرفة. . . ثم دوت طلقة نارية لم يلبث بعدها أن تحطم قفل الباب وتناثر داخل
الغرفة في قطع صغيرة. . . واهتز الباب اهتزازاً عنيفاً ثم فتح الباب على مصراعيه. . .
ووقف ثلاثة من الجنود على عتبة الباب وقد رفعوا مسدساتهم في أيديهم.
وتقدم أحدهم وقام بتفتيش الجاسوس الفرنسي تفتيشا دقيقا ثم قبض على كتفه في شيء من العنف.
وفي تلك اللحظة دخل فورناشوف الغرفة.
كان فورناشوف هذا من كبار موظفي حكومة السوفييت على أن الجمهور لم يكن يدري من أمره شيئاً فقد كان نادر الظهور أمام أفراد الشعب، كما أن اسمه لم يكن يذكر في الإدارة السرية في الكرملين إلا في ظروف خاصة.
هز فورناشوف رأسه في إيماءة خفيفة إلى فانيا ولكنها كانت أبلغ من الكلام. . .
كانت هذه الإيماءة الخفيفة تحوي كل معاني التهنئة. . . حقاً لقد قامت الفتاة بدورها على ما يرام فسارت الأمور في نصابها دون أن تحدث أي ثغرة بسيطة في الخطة الموضوعة. . .
وصاح فورناشوف يأمر الجند: خذوه خارجاً. . .
كان أندريه ممتقع الوجه ولكنه لم يفه ببنت شفه. . . وحين كانوا يسوقونه إلى الخارج ألقى على الفتاة نظرة عاجلة ولكنها كانت خالية من كل المعاني. . . وسر الفتاة أنه لم يقل شيئاً وأدركت أن هذا الرجل العظيم لم يكن على شاكلة الآخرين الذين أوقعتهم في حبائلها. . . كانوا يثورون ويلعنون أما هذا الرجل الباسل فقد كان هادئاً برغم الخطر العظيم الذي كان يحدق به. . .
ولم يتكلم فورناشوف أيضاً بل أومأ إلى أحد أعوانه بأن يجمع حقائب أندريه كما أرسل أحد الجنود لإحضار نجار يصلح الباب. . . وغادر الغرفة في النهاية وانصرفت فانيا على الأثر إلى منزلها.
وفي الصباح التالي كانت فانيا قد نسيت كل شيء عن أندريه وحين زارت فورناشوف في مكتبه علمت أن قلم المخابرات قد أحرز نصراً عظيما بالقبض على أندريه.
قال فورناشوف: إننا نأمل أن تكشف لنا الأوراق التي عثرنا عليها مع أندريه عن معلومات ثمينة إذ يبدو أن فيها ما يشير إلى وجود رجل إنجليزي في المؤامرة. . . وفي اعتقادي أن وجود الإصبع الإنجليزي في المؤامرات ضد الروسيا قد أصبح من الأمور المألوفة. . .
وقهقه ضاحكا إذ كان يشعر بالغبطة والانشراح. . . والتقط قلماً من فوق مكتبه وراح يعبث به. وهتف: لقد نجحت نجاحا عظيما يا فانيا فقد استطعت أن تقومي بدورك في هدوء وسكينة دون أن تثيري حولك ضجة تجذب أنظار الجمهور. . . إن أحداً - غير موظفي قلم المخابرات السرية - لا يعلم أن شخصاً معلوماً قد اختفي من عالم الوجود كما حدث أمس وكما سيحدث قريباً جداً. . . فقد وصل إلى علمي أن إنجليزياً على وشك الوصول إلى موسكو ولما كان أمر ذلك الإنجليزي يهمني فسأعهد إليك بالمهمة الخاصة به في الوقت المناسب. . . ولكن تذكري أنني لا أريد ضجة لا مبرر لها لأنني رجل سلام. . . والآن يمكنك أن تنصرفي أيتها المواطنة على أن تعودي بعد أسبوع. . .
كانت محادثتهما خالية من كل ما يشير إلى أندريه. . . ولكن ماذا يهمهما من أمره. . . لقد لاقى جزاءه المحتوم مثل الكثيرين الذين سبقوه في هذا المضمار. . .
كانت الفتاة تدرك ما حدث للجاسوس المسكين فقد كانت تعرف في مثل هذه الأمور ما لا يعرفه إلا القليلون.
وتمثلت في ذهنها اللحظات السوداء التي تمر بالجاسوس بعد القبض عليه وقبل أن يساق إلى الموت. . . وتراءى لها أندريه وقد ساقوه إلى مكتب المخابرات حيث مثل بين يدي رئيس المكتب الذي طلب إليه أن يتكلم ويبوح بكل ما لديه من المعلومات واعدا إياه بالحرية المطلقة أو على الأقل بالحرية داخل حدود روسيا السوفيتية. . . وتمثلت منظر الجاسوس وقد رفض التكلم لعلمه بغدر العارض، وعندئذ يسوقونه إلى سجنه المعتم حيث يوضع تحت المراقبة الدقيقة. . . فإذا كان الفجر سيق الرجل في دهليز طويل ضيق. . . ويبرز من إحدى المنعطفات رجل يسير بحذر وخفة ثم يرفع هذا الرجل يده وقد حمل فيها مسدسا يطلقه في هدوء على الجاسوس المسكين فلا يلبث أن يخر صريعاً. . .
وهكذا سوف تتخلص روسيا من أندريه ليرو الجاسوس الفرنسي الكبير. . .
كانت فانيا في طريقها من محطة المترو إلى فندق كوزموبوليتان وقد تدثرت بملابس ثقيلة التماسا للدفء. . . كان متجهة بكل أفكارها إلى شخص معين يدعى اليوت فانجدون.
لقد زودوها بكل ما يلزمها من المعلومات عن هذا الرجل وأوصافه ولكنهم لم يخبروها أن هذا الشاب من الشبان القليلين الذي لا يفقدون رباط جأشهم إبان أشد الأزمات خطورة وأنه
أرسل من قبل الحكومة الإنجليزية في مهمة تتعلق بالتجسس على مشروع خطير قيل إن حكومة روسيا تقوم به في الأوساط الهندسية - لأنهم لم يكونوا يعرفون ذلك هم أنفسهم. . .
وتكرر حادث سقوط حقيبتها اليدوية للمرة الثانية كما تكرر وقوع الشاب الإنجليزي في حبالها أيضاً. . . ولعله كان من أعجب الأمور أن يقف الخادم بجوار فانيا حين سقطت الحقيبة ومع ذلك فإنه لم يكلف نفسه مؤونة التقاطها تاركا ذلك للشاب. . . ولم يمض على ذلك الحادث غير نصف ساعة حتى كان اليوت فارنجدون يعبر للفتاة عن سروره لأن عثر على فتاة روسية ظريفة تستطيع التحدث باللغة الإنجليزية.
كان الاثنان يجلسان في شرفة الفندق ثالث يوم على لقائهما. . . قال اليوت:
- كان يجب أن ترتدي قبعة من تلك القبعات التي تغطي العينين والتي تلبسها السيدات هذه الأيام ومعطفا من الفرو السميك حتى تبرزي محاسنك الفاتنة يا فانيا. . إنني لا أعني أنك لست جميلة ولكني أعتقد أنك تكونين أجمل لو أنك. . .
فقاطعته قائلة: إنني لا أدرك ما تعني. . . إن لدي معطفاً للشتاء كما لدي قبعة. . . وفي اعتقادي أن رجال الإنجليز يعشقون الملابس لا النساء اللائي يرتدينها. . .
فصاح اليوت: لا تكوني حمقاء. . . إنني أخبرك بما سأبتاعه لك لو أنك سمحت لي بذلك الشرف. . . تعالي نرقص معاً هذا المساء.
فهتفت فانيا: سوف نرقص هنا ثم نخرج في نزهة قصيرة في موسكو وعندئذ سوف تخبرني عن قصة حياتك. . . أليس هذا ما تفعله الفتيات الإنجليزيات. . .
فقال في هدوء: بلى.
والآن وقد مضت سبعة أيام على هذا الحديث فقد بدأت فانيا تشعر بشيء من القلق والاضطراب فقد تحاشى اليوت الكلام عن نفسه وعن المركز الخطير الذي يشغله في قلم المخابرات السرية الإنجليزي. . . أجل لقد تجنب الكلام عن نفسه بصفة خاصة حتى إنه لم يطلعها على أمر تلك المكالمة التليفونية التي تلقاها من بوخارست والتي استغرقت مدة ساعة بأكملها ما بين الساعة الواحدة صباحاً والساعة الثانية صباحاً. . . فهل يا ترى كانت تلك المحادثة الطويلة لسؤال اليوت عن جو موسكو. . .
لقد قرر جاسوس المخابرات الروسية الذي استرق السمع أبان المكالمة أنها كانت عبارة
عن تقرير بخصوص حالة أخي اليوت الصحية إذ مرض هذا الأخ فجأة في بوردو. . .
(البقية في العدد القادم)
شفيق أسعد فريد