المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 722 - بتاريخ: 05 - 05 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٢٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 722

- بتاريخ: 05 - 05 - 1947

ص: -1

‌من مذكراتي اليومية

يوم الأحد 23 فبراير سنة 1947:

اختلف أطبائي الخمسة في شرح ما بي، ولكنهم اتفقوا على أن أذهب إلى حلوان فأنقع في هدوئها ودفئها أعصابي وأوصابي. ففي صباح هذا اليوم العابس القر انتقلت إلى هذه المدينة ونزلت فندقاً من فنادقها الكبرى، ثم قطعت ما بيني وبين دنيا الناس فلا أشغل ذهني بفكر ولأيدي بعمل - هذا الفندق الغريق في الضوء والسكون أشبه الأشياء بالدير الجبلي في روعته الأخاذة ووحشته القابضة: وهؤلاء النازلون به المستشفون فيه أشبه الأحياء بالرهبان المنقطعين في معيشتهم الرتيبة وعزلتهم الرهيبة. إنه كالدير في غير بساطة ولا زهادة؛ وإنهم كالرهبان في غير ورع ولا عبادة. هم أزواج ومزاج من جاليات الأمم الذين انتجعوا مصر انتجاع البدء ومساقط الغيث، ففيهم اليوناني والطلياني واليهودي، وفيهم كذلك خلق عجيب من جيراننا الأدنين يلبسون القبعة حتى لا يقال إنهم مصريون، ويتكلمون الفرنسية حتى لا يتهموا بأنهم شرقيون. وأكثر هؤلاء الأخلاط كهول وكهلات يشكون ذات الصدر أو وهن الأعصاب أو وجع المفاصل أو داء الملوك؛ فمنهاجهم اليومي أن يغدوا إلى العين الكبريتية فيستحموا، أو إلى العين المعدنية فيشربوا، فإذا متع الضحى رجعوا فرادى وثناء حتى يتجمعوا حلقاً حول الموائد تحت مضلات الحديقة وفوق شرفات الفندق. فهنا جماعات العجائز السمان والعجاف جلسن يثرثرن وفي أيديهن إبرة الحياكة تدخل وتخرج، وفي أفواههن آلة الغيبة تتحرك وتهرج، فلا يزلن معظم النهار بين أيد تحوك، وألسنة تلوك، وأهدافهن أعراض أولئك الحسان القليلات اللائى جلسن متفرقات يهدهدن أجسامهن وأحلامهن على الكراسي الوثيرة الهزازة.

وهناك جماعات الكهول الثقال والخفاف يتراطنون بفضول الكلام وغث الحديث ولؤم الوقيعة، وكل منهم يتفغل عجوزه المراقبة من بعيد ليخالس النظر إحدى أولئك الجميلات المنفردات فلا يرى منها بالاً يعي ولا طرفاً يجيب!

كان مرضي يمنعني القرار في مكان واحد، فكنت أسترق السمع حيناً إلى جماعات النساء، فلا أجد حديثهن يخرج عن أن هذه الفتاة الداخلة عشيقة الغنى فلان تاجر القطن وقد أخفاها عن زوجه في هذا الفندق، وهو يزورها من الإسكندرية كل أسبوع فيقضي معها الليلة أو

ص: 1

الليلتين؛ وإن هذه المرأة الخارجة أرملة لعوب وصلت أسبابها بالمرابي الأرمل فلان؛ فهو يلقاها كل عصر في (دار الينبوع) أو في (الحديقة الصينية)؛ وإن هذه المستلقية على الكرسي الطويل يهودية بذلت سريرها لصديق زوجها فانتحر الزوج وأفلس الصديق؛ وهي الآن في حضن صاحب سينما. . .

ثم أسترق السمع حيناً إلى جماعة الرجال فلا أجدهم يخوضون إلا في الهجر والنكر، ففلان أثرى بالسرقة، وفلان يتجر بالفحش، وفلان قضى بهذا الفندق شهرين ثم لم يعط الخدم يوم سافر إلا قرشاً صاغاً كان من نصيب الخادم الذي نقل له الحقائب. فإذا أفضى بهم الحديث إلى قضية المصريين والإنجليز مطوا الشفاه، وعوجوا الأفواه، وقاموا على أنفسهم خلطاً أسود من الغمز بنا والطعن فينا، وأخونا الشرقي المقبع الذي يناقلهم الحديث لم يرد أن يقول لهم ولنفسه:(حسبكم! فإن لحم أشداقكم التي تلوونها بالبذاء، وشحم أعناقكم التي تثنونها بالكبرياء، هما من ضيافة هذه البلاد!) ولكن المجتمع الأجنبي هنا كأكثر المجتمعات الأجنبية في كل مكان: نسيج من عمل الشيطان، لحمته الجناية على الأخلاق، وسداه الزراية على مصر.

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌الحكم العدل

للأستاذ محمود محمد شاكر

يسمع كل عربي ويقرأ أن بلاده في حاجة إلى (الدعاية) لها في بلاد الأجانب، وبخاصةً في أمريكا التي صارت اليوم ملتقى الأمم التي يسمونها الأمم المتحدة. وصارت هذه الكلمة حلوة على ألسنة رجال الصحافة العربية وعلى ألسنة رجال السياسة العربية، فكلهم يقول لك أو يكتب لك إننا تعوزنا (الدعاية) لبلادنا في الخارج. ولا بأس في أن يستحلى رجال الصحافة ورجال السياسة كلمة يديرونها على ألسنتهم، ويجدون في طمعها وفي نبرتها وفي جرمها لذة تحملهم على ترديدها واللجاج بها، ولكن البأس كل البأس أن يفضي استحلاء هذه الكلمة إلى استحلاء صب الملامة والتأنيب على أنفسنا، ونحت أثلاتنا بالتعنيف على ما نرتكب من تقصير في حق أوطاننا. ولو كان ذلك التقصير حقاً محضاً لا يعتروه رأي ينقضه، لكن كثرة اللجاج فيه عملاً لا خير فيه البتة. ومع ذلك فلنفرض إنه حق محض، فما وراء ذلك؟

نعم إنه لحسن أن نظهر الناس على وجه الحق في مطالبنا، وعلى بشاعة الظلم المضروب علينا؛ وحسن أن ندعو الناس إلى سماع حجتنا؛ وحسن أن نزيل من أوهام ألئك الخلق ما علق بعقولهم عنا؛ وحسن أن نبدي لهم حقيقة أنكروها أو أنكرتها علينا السياسات فصدقوا السياسات وكذبوا أعينهم وأسماعهم. كل ذلك حسن، ولكن ليس بالحسن أن نأخذ الأمور من أقفائها لا من وجوهها، وأن ندع الرأي البين إلى الرأي الخفي، وأن نغفل الحقيقة الواقعة ونبصر الرجاء الذي لا يدري المرء أيتحقق له أم لا يتحقق.

فمسألة (الدعاية) تكاد اليوم تكون منصبة كلها على الدعاية في (أمريكا) إذ لا سبيل إلى الدعاية في روسيا بحال من الأحوال، وبريطانيا هي طرف النزاع في مسألة مصر والسودان ومسألة فلسطين وفي سائر المسائل الشائكة التي يعاني العرب منها ما يعانون؛ وكذلك شأن فرنسا في مسألة بلاد تونس ومراكش والجزائر، فلم يبق إلا أمريكا، وهي التي يدور حديث رجال الصحافة ورجال السياسة في وجوب الدعاية لقضايانا في أرجائها.

فلننظر إذن إلى جدوى هذه الدعاية علينا هناك، وفي أماكنها قبل جدواها، وفي حقيقتها قبل جدواها وإمكانها.

ص: 3

فأمريكا لم تزل تزعم منذ الحرب الماضية إنها نصير العدل والحق، وإنها عدو البغي والعدوان، وإنها صديق الأمم المستضعفة، وإنها تبغض أشد البغض كل الاستعمار، أي إنها الحكم العدل الذي لا يرى بغياً ولا عدواناً ولا مظلمة إلا نبض قبله إشفاقاً، وتحركت دماؤه اشمئزازاً وأنفة، وأبى إلا أن يكون كما أراده الله أن يكون حكماً عدلاً لا يرده عن إقرار الحق والعدل جهد يبذله، ولا دم يريقه، ولا مال ينفقه في سبيل الحل والعدل والحرية.

وهي لا تزال تحقق ذلك - فيما ترى بكل ما آتاها الله من قوة وحيلة ومعرفة، فهي تتدسس إلى قلب روسيا لتكشف الغطاء عن هذا الوحش الباغي المستقر بين جنبيها، والذي يخشى أن يكون أشد بغياً وعدواناً من الفريق الأول الهالك (ألمانيا)، وهي تتسلل إلى خفايا السياسات في أرجاء أوربة لتظهر العالم على أساليب روسيا في العمل لإدخال كل أوربة في حوزتها وتحت سلطانها، وهي ترسل جيوشاً لا تحصى من الخبراء والمخبرين ليستطيعوا طلع الحقائق التي تسترها روسيا في كل حنية من حنايا هذه الأرض، وهي تؤوي إليها كل شريد أو طريد ناله من عسف الروس وبطشهم له صدرها، وتفسح له الصحف أيضاً حتى يقول للناس ماذا تحاول روسيا أن تخبأ عن الناس، وكيف تفعل روسيا بالناس، إلى آخر هذا كله.

بل أعظم من ذلك أنها لم تتردد لحظة واحدة في أن تبذل كل البذل لتركيا واليونان حتى يتاح لهما أن يصدا عن نفسهما بلاء الروس وبطشهم واضطهادهم، وأن تكونا جبهة مزودة بالقوة التي تعينها على الجرأة فلا يروعهما تهديد الروس ولا تخويفهم. ولم تتوان صحف أمريكا عامة عن أن تجعل مسألة تركيا ومسألة اليونان من أعظم المسائل التي تشغل الرأي العام حتى يتهيأ للكونجرس أو يؤازر حكومته في سياستها التي أرادتها لدرء خطر الروس عن هذين البلدين.

كان هذا كله ليس يشك فيه أحد، ورأت أمريكا إنها إما تؤدي بذلك حق الإنسانية علها، وتؤدي حق المكانة التي تبوأتها عند الناس، وتؤدي ما يجب على الحكم العدل الذي لا ينبغي إلا إقرار الحق والعدل، وإزهاق الظلم والجور.

ولكن ما الذي فعله هذا الحكم العدل في شأننا نحن العرب؟

كان أول ما فعله أنه طلب باسم الحق والعدل أن تبيح فلسطين أرضها لصعاليك الأمم

ص: 4

فتؤويهم وتمهد لهم أن يقيموا في قلب بلاد العرب دولة يهودية تفعل بهذه العرب ما تشاء، وسكتت باسم الحق والعدل عن المحرضين من يهود بلادها على انتزاع الأرض عامرها وخرابها من يد العرب لتكون في يد صعاليك اليهود، وغلفت باسم الحق والعدل عن شعب يسكن هذه الأرض منذ آلاف السنين تريد اليهودية أن تفقره وتذله وتنزع منه أرض آبائه وأجداده بالجور والعدوان والنذالة الحديثة التي تسمى قوة المال. ثم أرسل الحكم العدل رسلاً من عنده ليدرسوا القضية مع طائفة أخرى من البريطانيين، فخرجت رسل الحكم العدل وهي ترى إن العرب أمة متأخرة، وإنه لابد لليهود من أن يستعمروا هذه الأرض ليرفعوا عن هذه الأمة المتأخرة أساطير الجهل وغشاوة البؤس - ولو أفضى ذلك إلى أن يخوضوا في الباطل خوضاً حتى يبلغوا الحق!

ثم جاءت مسألة مصر والسودان، فإذا نحن نموج ونضطرب ونفزع من هول الغدر البريطاني وهذه المظالم الاستعمارية، وإذا الحكم العدل يصم آذانه ويستغشى ثيابه باسم الحق والعدل حتى لا تروعه صرخات المظلومين والبائسين، وإذا صحافته تضن بكلمة واحدة أن تقولها في إنصاف هذا الشعب من الظالمين والباغين عليه، بل لعل أكثرها ذهب إلى خلاف هذا وألح فيه.

وليس يقول أحد وهو يجد إن هذا الحكم العدل يجهل قضية فلسطين؛ ولو هو كان يجهلها حقاً لكان أول ما تفرضه عليه هذه الحكومة التي تبوأها في العالم أن يرسل إلى فلسطين رجالاً من أهل سياسته، ورجالاً من أهل صحافته ليدرسوا وينبشوا وينقبوا ويكشفوا خفايا الدسائس اليهودية والبريطانية كما يفعلون في روسيا وفي أوربة وفي سواهما من بلاد الله. وليس يقول أحد وهو يجد إن هذا الحكم العدل يجهل قضية مصر والسودان، فلو كان حقاً يجهلها لفعل مثل ذلك حتى يتاح له أن يقف على أسرار هذا القضايا ليحكم بين الناس بالعدل والقسطاس ما دام مصراً على أنه حكم عدل لا ينبغي من وراء عدله إلا إقرار الحق وإزهاق الباطل. ولو فعل لرأينا الصحف في بلاده تملأ الدنيا عجيجاً وضجيجاً وبحثاً وتنقيباً وكشفاً عن خفايا السياسات كما تفعل في مسائل روسيا وأوربة.

لا، بل أكثر من ذلك إن لهذا الحكم العدل رجالا طالت إقامتهم في مصر والسودان، وفي فلسطين والشام، منهم رجال الصحافة ومنهم رجال الجامعتين الأمريكيتين ورجال المدارس

ص: 5

الأمريكية، ومنهم رجال الشركات ومنهم غير هؤلاء ممن يذكرون بأسمائهم ومن لا يذكرون. فماذا يفعل هؤلاء جميعاً؟ أي معروف يسدونه إلى البلاد التي طالت أقامتهم بين أهلها فعرفوهم وخبروهم؟ أليس فيهم إنسان واحد فيه قدرة على أن يعرف خفايا الدسائس اليهودية والبريطانية في بلاد مصر وبلاد الشام وفلسطين؟ أليس لأحد منهم لسان ينطق بالحق دفاعاً عن أمم يكتم الاستعمار حقها ويبطش بها بطشاً وحشياً لا رحمة فيه؟ كلا بل فيه، ولكنهم حرب علينا ولا يريدون أن يقولوا لبلادهم، وكأن بلادهم لا تريدهم أن يقولوا - وإلا ففيم صمتهم، وفيم ممالأتهم لبريطانيا ويهودها وأفاقيها جميعاً من حثالات الأمم؟ أم ترانا لا نستحق عدل الحكم العدل؟ أم نحن لسنا بأهل لأن تقال في حقوقنا كلمة تجعل الحكم العدل يتنبه إلى إن في الدنيا شعباً تبلغ عدته أكثر من مائة مليون وعشرين مليوناً من الأنفس البشرية قد ضربه الاستعمار اليهودي والبريطاني والفرنسي ضربات مبيرة مبيدة بغير شرف ولا ورع ولا إنسانية.

أيقال إن رجال الجامعات والمدارس، وهم أهل العلم والثقافة والأدب، ليسوا سوى جماعة يعيشون في سراديب العلم والفلسفة لا يعرفون ما يجري على أديم هذه الأرض؟ وإنهم لا يخالطون أحداً ولا يخالطهم أحد؟ وإنهم رجال مقنعون بالأثواب الجامعية من فرع الرأس إلى أخمص القدم، فهم عمى لا يبصرون إلا نور العلم، وصمم لا يسمعون إلا نداء الحقائق الخالدة في الفلسفة؟

كلا كلا! إنهم يسمعون ويبصرون ولكنهم لا يريدون أن يبينوا عما يسمعون وعما يبصرون، فإذا أبانوا فلن يبينوا عن الحق، بل يبينون عن خلافه مما سمعوه من أعوان بريطانيا وأشياع يهود، ويطعنون فينا كل طعن، ولا يرون بأساً من تعظيم أخطائنا وإخفاء صوابنا أو حقنا. بل يمنون علينا أن فعلوا لنا وفعلوا وهم يعلمون علم اليقين إننا لو قد كنا أحراراً في بلادنا لفعلنا لأنفسنا ما لا يستطيعون هم ولا سواهم أن يفعلوه بنا.

ثم فليخبرونا: أنحن الذين يجب علينا أن نتولى الدعاية لبلادنا في بلادهم؟ أيجب علينا أن نذهب إلى الحكم العدل الذي يرسل إلى بلاد الله سوانا من يعرف خبايا أسرارها، فنقول له بألسنتنا إن حجتنا حقنا ومظالم عدونا، فإذا به يسمع لنا ويقنع بما نقول نحن، وينسى كل ما تقول بريطانيا واليهود، وإذا الرأي العام الأمريكي قد أصبح معنا!!

ص: 6

كلا ليس بهذا بمنطق ولا حق، بل الحق هو إن الحكم العدل هو الذي يجب عليه أن يتتبع حقائق القضايا ويرسل رجاله ورجال صحافته ليعرفوا ويسألوا، ويجب عليه أن يطالب المقيمين من أهله في بلادنا أن يقولوا الحق غير متجانفين ولا باغين ولا تابعين للأهواء والعصبيات، وأن يتولى هو وصحافته بيان الحق في ذلك كله حتى يستطيع أن يحكم بالعدل، وإلا كان حكما لا يصلح للحكم.

أما دعاتنا الذين يحرضوننا على (الدعاية) لأنفسنا في بلاد الحكم العدل، فليعرفوا إن الصحافة هنا لن تقبل منا أن ننشر ما نشاء إلى أن ندفع عليه مالاً كثيراً، وهم ينشرون لنا على أنه (إعلان) لا أكثر ولا أقل، وإن القارئ سوف يقرؤه على إنه إعلان لا أكثر ولا أقل. فإذا كان لنا أن نرجو خيراً من الحكم العدل، فهو يوم يلين قلبه ويرق ويشعر إننا أهل لأن ترفع عنا المظالم، ويومئذ يرسل إلينا من يسألنا ويستخبرنا ويعود لقومه قضاة الحق أن أنصفوا مظلوماً طال ظلمه، وأما قبل ذلك فلا. وإن كان هذا لا يمنع أن نبذل الجهد ما نرجو أن يوقظ الحكم العدل من سباته الذي طال كما طال ظلمنا. وقبل ذلك فلنحذر أن نلوم أنفسنا على تقصير لم يكن، لأنه ليس تقصيراً بل هو معرفة للحقيقة الظاهرة وهي أن الحكم العدل لا يريد أن يكون معنا نحن العرب دون الناس جميعاً - حكماً عدلاً.

محمود محمد شاكر

ص: 7

‌من معجزات القرآن

تفسير الآيات الأولى من سورة الروم

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

لابد لتفسير الآيات الكريمة التي افتتحت بها سورة الروم من مقدمة تاريخية تبين الحوادث التي أشارت إليها هذه الآيات.

- 1 -

كان غربي آسيا، في جملته، متنازعاً بين الدول الفارسية المختلفة التي قامت في إيران وبين الدول الأوربية التي مدت سلطانها إلى آسيا. وقد استمر النزاع في هذه البقاع قروناً كثيرة أكثر من ألف عام.

فدولة الأكمينيين، الدولة الفارسية الأولى التي أقامها كورش في منتصف القرن السادس قبل الميلاد وأزالها الإسكندر المقدوني حوالي سنة 330 ق. م، هذه الدولة نازعت دولة اليونان حقباً، وحروب دارا وخلفائه في آسيا الصغرى وبلاد اليونان معروفة مشهورة.

والدولة الأشكانية التي نشأت في إيران بعد الإسكندر حاربت الرومان في هذه البقاع عصوراً طويلة.

والدولة الساسانية التي قامت في إيران سنة 226م وبقيت حتى أزالها الفتح الإسلامي نازعت الرومان ودولة الروم الشرقية التي تسمى الدولة البيزنطية ودام بينهما النزاع إلا فترات قصيرة حتى زالت الدولتان كلتاهما عن آسيا بالفتوح الإسلامية.

- 2 -

والحادثات التي تشير إليها فاتحة سورة الروم هي خاتمة الجلاد الطويل والحروب المتمادية بين الدولتين.

وخلاصة هذه الحادثات على طولها واضطرابها فيما يأتي:

كسرى برويز حفيد كسرى أنو شروان، من أعظم ملوك الفرس وهو آخر ملوكهم العظام، ولي الملك سنة 590م بعد قتل أبيه هرمزد أثناء ثورة قائد فارسي عظيم اسمه بدام جوبين.

ص: 8

ولما تولى برويز العرش حاول إصلاح هذا القائد فاستعصى عليه وحاربه حتى اضطره إلى دخول مملكة الروم، وقد استنجد الإمبراطور موريس فأمده بجند رده إلى عرشه فاستحكمت المودة بين الملكين. فلما قتل موريس سنة 602م شن كسرى الحرب على فوكاس خليفة موريس. وتوالت وقائع زلزلت دولة الروم الشرقية زلزالاً شديداً.

توالت هزائم الروم في آسيا الصغرى والجزيرة وشمالي الشام حتى فزع الروم، واستغاثوا هرقل (هركليوس) أبن وإلى أفريقية فأقبل إلى القسطنطينية فاختير إمبراطوراً مكان فوكاس.

وحاول هرقل جهده أن يصد الفرس، ولم يدخر وسعاً في حربهم فلم يستطع لهم رداً. وامتدت فتوح الفرس إلى الجنوب حتى استولوا على دمشق سنة 614 واتخذوها مركزاً سيروا منه الجيوش إلى أرجاء مختلفة حتى فتحوا بيت المقدس بيجوش جرارة فيها ستة وعشرون ألفاً من اليهود وبلغت كبرياء كسرى غايتها فأخذ الصليب الذي يزعم النصارى إن المسيح صلب عليه، وكتب إلى هرقل كتاباً خلاصته:

(من كسرى بروبز رب الأرباب إلى عبدة الحقير هرقل. تزعم إنك تعتمد على المسيح فلماذا لا يخلص المسيح بيت المقدس من يدي. ولماذا لم ينقذ نفسه من أيدي اليهود حينما صلبوه).

ثم امتد الفتح إلى مصر فظفر بها الفرس بعد تسعة قرون من خروجهم منها أيام الإسكندر المقدوني.

وفي العام التالي صمم الفرس على فتح القسطنطينية ولم يكن بينهم وبينها إلا المضيق، وحالفوا الأوار على أن يغزوها من تراقيا.

وزاد أمر الروم إضطراباً، وبلغ يأسهم أن عزم هرقل على الفرار إلى قرطاجة لولا أن عرف الروم أمره فثار الناس واستحلفه البطريق في كنيسة آياصوفيا ألا يبرح المدينة على أية حال.

في أثناء هذه الهزائم المتوالية الماحقة التي توالت على الروم عشرين عاماً، وحوالي سنة 615 حينما غلب الروم في أدنى الأرض إلى بلاد العرب، في أرض الشام وهي الهزائم التي أهمت العرب نزلت الآية الكريمة:

ص: 9

ألم. غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين الخ. وكان خبراً عجيباً، أنكره مشركو العرب حتى راهنوا على كذبه.

روى الطبري وغيره إن أبا بكر رضي الله عنه راهن أبي بن خلف على خمس إبل إلى خمس سنين فأمره الرسول صلوات الله عليه أن يزيد في الرهان ويمد الأجل فراهنه على مائة ناقة إلى تسع سنين.

- 3 -

في سنة 622 أعد هرقل العدد لحرب الفرس، وتحمس النصارى لمجاهدة العدو الذي استولى على بيت المقدس وأخذ الصليب الحقيقي. . . وحقر النصرانية وسفه عليها هذا السفه، وبذل القساوسة الجهد حتى صهروا آنية الكنائس من الذهب والفضة يتخذونها عدة للحرب.

ولم يكن لهرقل بقية من أمل إلا في أسطول بقى لهم، فأبحر في جيش والفرس مشرفون على الخليج ينظرون إليه حتى نزل في أسوس على ساحل الأناضول.

وكان هذا أول انتصار للروم بعد موت موريس أي منذ عشرين عاماً.

ثم توالى النصر في آسيا الصغرى وأرمينية إلى أن عبر هرقل الفرات شطر الغرب والجنوب سنة 625.

وحاول كسرى برويز أن يوقع بالروم في حاضرة ملكهم، فحالف الأوار وسير جيشاً لمحاربة هرقل وآخر لحصار القسطنطينية سنة 626 مع الأوار. فلقي الجيشان كلاهما الخيبة والهزيمة.

وأغرى هرقل الظفر المتتابع فعزم على أن يغزو كسرى في مدينته دستكبرد وهي على تسعين ميلاً إلى الشمال من المدائن عاصمة الدولة. وكانت وقعة الزاب في 12 ديسمبر سنة 627 ثم فر كسرى، وقابلته العاصمة بالثورة عليه وخلعه. ثم حبس في بيت الظلام ولا زاد إلا الخبز والماء. وبالغ ساجنوه في إهانته. وقتل كثير من أولاده أمامه ثم قتل هو قتلة فظيعة. وذلكم كسرى برويز الذي أرسل إليه رسول الله كتاباً فمزقه (فقال اللهم مزق ملكه كل ممزق).

وخلفه على العرش أبنه شيرويه (قباذ الثاني) فصالح الروم على أن يرد إليهم كل ما فتح

ص: 10

الفرس من البلاد التي في سلطان الروم، وعلى أن يرد الصليب. وقد سار هرقل بالصليب إلى بيت المقدس فوضعه مكانه في شهر سبتمبر سنة 629. وكان يوماً عند النصارى مشهوداً، وتمت الغلبة للروم.

كان انتصار الفرس في الشام حوالي سنة 615 وبعد بضع سنين شرع الروم يهزمونهم سنة 622 وتوالت عليهم الهزائم حتى قتل برويز وصالح أبنه مصالحة المغلوب على أمره.

وذلك تأويل الآية الكريمة: (وهم من غلبهم سيغلبون في بضع سنين).

ونرجع إلى رهان أبي بكر وأبي بن خلف.

روى أن أبا بكر حين هاجر أخذ عليه كفيل وإنه حين انتصر الروم أخذ الرهن من أولاد أبي بن خلف.

وهنا نقول: لماذا اهتم العرب بحوادث الروم والفرس ولماذا أنزل فيها قرآن؟ يقول المفسرون إن مشركي العرب فرحوا بانتصار الفرس وهم أصحاب أوثان كالعرب المشركين وبانهزام الروم وهم أهل كتاب كالمسلمين، وقالوا للمسلمين سنغلبكم كما غلب الفرس الروم. فاهتم المسلمون وأخبروا رسول الله فنزلت الآية الخ.

ولا أحسب إن اهتمام العرب بالأمر كان لهذا بل أحسب، والله أعلم، إن العرب قلقوا لغلبة الفرس على الشام وهي منقلبهم للتجارة، وقد ألفوا الروم فيها، واتصلوا بهم بالتجارة وغيرها واتخذوا من عامتهم وخاصتهم أصدقاء وأعواناً، وتجاراً يعاملونهم ويبايعونهم، فكان الروم أقرب إلى عرب الحجاز ومن يتصل بهم من قبائل الشام وفلسطين، وكان العرب بهم أعرف، وبينهم وبين الروم من الأسباب، ولهم فيهم من المنافع ما جعلهم يشفقون من غلبة الفرس على الشام، وزوال سلطان الروم عنها، ثم كان انهزام الروم انهزام حلفائهم وأنصارهم من عرب الشام ولهم بعرب الحجاز صلات.

(يتبع)

عبد الوهاب عزام

ص: 11

‌تعليق على كتاب:

إلى علماء الشيعة

للأستاذ علي الطنطاوي

كان أهل القسطنطينية يتجادلون في مسائل تافهة لا تقدم ولا تؤخر والعدو على الأبواب فضرب بهم المثل حتى قيل لكل جدال سخيف في وقت عصيب: (جدال بيزنطي). ونحن المسلمين اليوم، يحيط بنا الأعداء من كل جانب، وتنصب علينا المصائب من كل مكان، ثم تختلف في أبي بكر وعلى أيهما كان أحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نتائج بنيناها على هذه المقدمة، وفروع فرعناها من هذا الأصل، أطلنا الكلام فيها، والجدال عليها، حتى لم يبق فيها شيء يقال إلا قلناه ولا حجة إلا احتججنا بها، وحتى صارت من الحديث المعاد، والقول المملول، وصرنا (معشر أهل السنة) نتمنى أن تطوى صحيفتها، وينسخ حديثها ويتناسى حتى ينسى، لذلك رحبنا في مصر بالعالم الإيراني محمد تقي قمي، كما رحبنا من قبل في الشام ومصر بسلفيه أبي عبد الله وعبد الكريم الزنجانيين، ومكناه من افتتاح (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية)، وسررنا حقيقة بتقرب إخواننا الشيعة منا ورجوعهم إلينا بعد إعراضهم عنا.

وجمهور أهل السنة لا يعلمون عن الشيعة إلا إنهم حزب سياسي ألف في وقت من الأوقات لتأييد أحد المرشحين للخلافة، اعتقاداً منهم بفضله، وإيماناً بصلاحه، ويرون هذا شيئاً طبيعياً ومفهوماً، لا يخلو من مثله بلد فيه انتخابات عامة، والحكومة فيه برأي الأمة لا بنص سماوي، ولا بحق إلهي، فمن انتخبته الأمة ورضيت به فهو الحاكم الشرعي. . . أما الشيء الذي لا يرونه طبيعياً ولا مفهوماً، فهو أن يبقى في أمريكا مثلاً حزب لا يزال يسب لنكولن، ويعادي الأمة الأمريكية كلها لأنها انتخبته، وقدمته على خصمه الذي يراه هذا الحزب أصلح منه، ويستمر ذلك إلى الآن، وقد مات لنكولن، ومات خصمه، وولى بعده رؤساء كثيرون وماتوا. أو أن يبقى في المسلمين حزب يعادي الكثرة الكاثرة من سلف هذه الأمة وخلفها، وينتقص جمهرة الأحياء والأموات منها، لأن الخليفة الذي بايعته هذه الأمة سنة خمس وثلاثين للهجرة، كما من حقه أن يبايع بها سنة عشر، ويرى أن تأخير بيعته خمساً وعشرين سنة وتقديم ثلاثة رجال عليه، أمر يستحق أن نتنازع (نحن) الآن عليه،

ص: 12

بعد ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، وبعد ما تبدلت الأرض، وتغير وجه الدنيا، مع إن هذا الخليفة نفسه قبل بتقديم الثلاثة عليه، وبايعهم بالخلافة بيده، وأعطاهم طاعته، وأولاهم مودته. . .

إن الأحزاب تتنازع وتختلف وقد يسب بعضها بعضاً، ويبغي بعضها على بعض، ويسلك كل منها إلى تقوية مرشحه أوعر الطرق، فيمدحه بالباطل، ويفتري على خصمه، ويصمه بكل ما يشين، ولكن تنقضي المعركة الإنتخابية، ويعود السلام، ويرجع الجميع إخواناً متصافين، يجمعهم العمل للوطن، والسعي لإعلاء شأنه، فما بالنا نشتغل اليوم بمسألة انتهت من. . . ثلاثة عشر قرناً؟!

شيء عجيب جداً!

على إن أهل السنة لا يطيلون النزاع في (أفضلية) أبي بكر أو علي، ولا يرون لذلك خطراً في الدين، لأنه إن كان الفضل عند الله، فالله أعلم به، وهو لا يسأل عما يفعل، ونحن لا دخل لنا في القضية، وإن كان في الإدارة والسياسة؛ فقد ولى الرجلان والحكم الآن للتاريخ وأهله. ولا طريق للاتفاق بيننا وبين الشيعة، إلا:

1 -

بأن ندع الكلام في تفضيل بعض الصحابة على بعض لأن ذلك ليس من أركان الإيمان، ولا من أسس الدين، وليس له في حياتنا نتيجة عملية.

2 -

وأن نجل الصحابة جميعاً، ونكبرهم كلهم، ولا نخوض فيما كان بينهم من حروب فتلك دماء طهر الله سيوفنا منها (كما قال الإمام مالك) فلنطهر ألسنتنا عن الخوض فيها.

3 -

وأن نرجع جميعاً إلى أصول الدين: إلى الكتاب معتمدين في تفسيره على المأثور كالذي نقله الطبري في تفسيره أولاً ثم على المعقول الموافق للعربية ولأسباب النزول وإلى السنة الصحيحة وما بنى عليها من فقه، وفرع من فروع، وأن نترك كتب الخلاف التي تؤرث الأحقاد، وتثير السخائم.

هذا هو الطريق الذي نراه، ولعل (دار التقريب) ترى طريقاً أقصر منه، وأسلم، فنسلكه معها إلى هذه الغاية التي صار السعي إليها اليوم واجباً، وأن يتعاون الشيعة والسنة على منع كل ما يصدع الشمل، ويفرق الجمع، ويلقى الخلف بين جماعة المسلمين كهذا الكتاب الذي كتبت هذه الكلمة تعليقاً عليه. . .

ص: 13

وهو كتاب أهدى إلى الرسالة للإطلاع والنقد، أسمه (تحت راية الحق في الرد على الجزء الأول من فجر الإسلام) مكتوب على غلافه (لمؤلفه البحاثة المحقق الشيخ عبد الله السبيتي) مطبوع في طهران طبعاً سقيماً، أسلوبه ضعيف كثير الأغلاط، له مقدمة (بقلم صاحب السماحة الكبير حجة الإسلام الشيح مرتضى آل ياسين الكاظمي) ولست أريد تتبع كل ما فيه ولكني أمثل عليه بهذا الذي أنقله منه بحروفه، ولم أتعمد اختيار أشده وإنما أخذت ما وقع تحت نظري منه:

قال في صفحة (15): إن تاريخ سقيفة بين ساعدة يملي علينا درساً كاملاً يوضح لنا به نفسية المهاجرين والأنصار وإنه لم تصف نفوسهم إلى حد وصل الدين (كذا) إلى أعماق قلوبهم. وقال فيها: والصحاح تحدثنا عن قول عمر (إن النبي يهجر) ذلك حينما قال النبي (ص) إيتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فكل ذلك يشرف بالباحث على القطع بأن الدين لم يصل إلى أعماق قلوبهم، ولم يفهموا الإسلام كما يريد الإسلام. وقال (154): وحسبه أن يرى كعب الأحبار اليهودي الدساس إلى جانب عثمان وهو مستشاره. وقال (50): معاوية رأس النفاق - معاوية المستهتر. وقال (85) معاوية رأس القاسطين. وقال (79): ورب رجال أقعدهم بغض أمير المؤمنين عن القيام بواجب الشهادة فأصابتهم دعوته كأنس بن مالك. وقال (98): أبو هريرة يحدث بالترهات، ويختلف الخرافات. وقال (130): حديث المنافقين كابن هند (أي معاوية) وأبن النابغة (أي عمر بن العاص) وأبن الحكم وأبن شعبة وأمثالهم ولا بحديث الكذابين الدجالين المخرفين كأبي هريرة. . . وقال (40): الشيخان (أي البخاري ومسلم) عينا بأمور لا وزن لها ولا قيمة - ولسنا نعلم لو كان النجاح في هذه الحرب (الخندق) لغير علي أكان يهمله الشيخان فاتضح لك أن تلك الأقلام (الكلام كله على البخاري ومسلم) التي تسود تلك الصفحات كانت تمشى وراء الميول والأهواء والتبصيص (كذا) حول التيجان. وقال (93): على أن مسلماً في صحيحه زاد في اختصارها (خطبة للنبي صلى الله وعليه وسلم) جرباً على مقتضيات السياسة التي تخرس الناطق وتصم السميع فحذف شطرها المختص بعلي عليه كما لا يخفى، ومما يدلك على أن السياسة لا دين لها، وأنها تعمى البصر والبصيرة. وقال (96): كرر البخاري هذه السخافة في مواضع عديدة من كتابه. وقال فيها: وقد أخرج البخاري من الغرائب والعجائب

ص: 14

والمناكير ما يليق بعقول مخرفي البربر، وعجائز السودان. وقال (100): تراه (أي البخاري) يخرج من الأحاديث الموضوعة ما قد تقرب الواضع به إلى الظالمين الغاشمين تصحيحاً لما كانوا يرتكبونه من القتل والمثلة وسائر الأعمال البربرية. وقال (146): إن الشيعة لا تعول على تلك الأسانيد (أي أسانيد أهل السنة) بل لا تعتبرها ولا تعرج في مقام الاستدلال عليها فلا تبالي بها وافقت مذهبها أو خالفته. وقال فيها: إن لدى الشيعة أحاديث أخرجوها من طرقهم المعتبرة عندهم، ودونوها في كتب لهم مخصوصة وهي كافية وافية لفروع الدين وأصوله عليها مدار علمهم وعملهم وهي لا سواها الحجة عندهم، فما أغناهم بها عن حديث غيرهم صح حديث الغير أو لم يصح. وقال (162): والتجسيم معروف عن الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه - ولقد رأينا من قبل أن أبن تيمية الخ. . . وأبن القيم رأيه ذلك أيضاً -. وقال (163): والتجسيم رأي محمد بن عبد الوهاب وعليه اليوم الوهابية جميعاً لا يتحاشون في ذلك وقد نقله الشهرستاني عن أحمد بن حنبل وداود بن على الأصفهاني (أي الظاهري) ومالك بن أنس ومقاتل بن سليمان وجماعة من أئمة أهل السنة. وقال (161): والأشاعرة جميعاً على هذا الرأي - أفليس هذا هو القول بالتجسيم؟! وقال (64): ومتى كانت الشيعة تعتبر تفسير الطبري وتعتمد عليه؟! وقال (86): ومتى كان أبن خلدون وغيره من علماء السنة، اللهم إلا القليل، لا يحمل حقداً ولا يتحامل عند يقف مؤرخاً للشيعة ومتى كان المؤرخ منهم لا يرتكب زوراً وبهتاناً عند سفوح كل فرصة؟! وقال فيها: الاعتماد على أبن خلدون مثل من يريد أن يبحث عن الشريعة الإسلامية وصحة نبوة النبي فيعتمد على كتب النصارى قبل سبعة قرون الخ الخ.

ومؤلف الكتاب (البحاثة المحقق) لا يسوق هذا على أنه رأى له، بل على أنه معتقد الشيعة، وأنه المعتمد عندهم، وأنا أصدقه في ذلك ما لم أر علماء الشيعة يكذبونه فيه، وينكرونه عليه، وأقول:

إذا كان إخواننا الشيعة يعتقدون أن المهاجرين والأنصار لم تصف نفوسهم لفهم الدين، ولم يصل إلى أعماق قلوبهم، ونحن نراهم أئمة الهدى، وورثة الرسول. . . وإذا كانوا يسبون أكثر الصحابة ونحن نجدهم خلاصة الإنسانية ولباب البشر. . . وإذا كانوا لا يقبلون إسنادنا ولا يحتجون بحديثنا، ونحن نبني على هذه الإسناد ديننا، ونقيم على هذه الأحاديث

ص: 15

شرعنا. . . وإذا كانوا يرون الصحيحين مملوءين بالموضوعات والسخافات، لا يليقان إلا بمخرفي البربر وعجائز السودان، ونحن نراهما أصح الكتب عندنا بعد كتاب ربنا. . . ولا يعتبرون تفسير الطبري وهو عمدة تفاسيرنا. . . وكانوا يطعنون على أئمتنا، ويصمونهم بالتجسيم وفساد المعتقد. . . وإذا كان المؤلف قد صرح في الصفحة (15) و (64) و (132) إن لم يقل كل ما عنده، ولم يجهر بكل ما يعتقده (لئلا يقوده البحث إلى نتائج غير صالحة قد لا تلتئم مع العصر الذي يطلب فيه الوفاق)، وإذا كان عنده، أي عند الشيعة، أكثر من هذا الذي قاله. . . فكيف يا علماء الشيعة، وكيف يا أعضاء دار التقريب، وكيف يا محمد تقي قمي، يكون الوفاق، ويتم التقارب؟

أو ليس من التناقض أن يأتي من إيران محمد تقي قمي، ليعمل على التقريب بين المذاهب، فينزل في أفخم فندق في القاهرة ويفتح داراً ينفق عليها وعلى موظفيها وزوارها أضخم النفقات، في الوقت الذي يطبع فيه في طهران هذا الكتاب؟ وهل وجدتم في مصر أو الشام أو العراق كتاباً لسني يسب فيه أهل البيت الأطهار، أو يتعرض فيه لسيدنا علي وذريته الطيبة؟ فلماذا إذن افتتحتم دار التقريب في مصر التي تحب عترة النبي صلى الله عليه وسلم وتتبرك بقبور الحسين وزينب ونفيسة، ولم تفتحوها في (طهران) حيث طبع هذا الكتاب الذي لم يترك مؤلفه أحداً من سلف هذه الأمة وخلفها حتى أصابه برشاش من أدبه السامي؟

ألم يكفينا هذا الاختلاف أربعة عشر قرناً؟ أما آن لنا أن نصطلح ونتفق، ونجرد المسألة من ثوبها الديني لتعود مسألة سياسية، وقضية حزبية إنتخابية، لا أكثر ولا أقل، ويرجع إخواننا الشيعة إلى حظيرة الجماعة، فيترضوا عن الصحابة كلهم كما نترضى نحن عن آل البيت جميعاً؟ ويجلوا أبا بكر وعمر كما نجل نحن علياً؟

ما قول علماء الشيعة الأفاضل؟ وما قول أعضاء (دار التقريب)؟

القاهرة

علي الطنطاوي

ص: 16

‌5 - تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فينا

للأستاذ محمد جمال الدين حسن

الرقابة في الأحلام:

استطعنا من خلال دراستنا لأحلام الأطفال أن نصل إلى معرفة شيء عن حقيقة الحلم وكيفية حدوثه وما هي خواصه الرئيسية ووظيفته فرأينا أن الحلم يعمل كوسيلة لإزالة المؤثرات العقلية التي تقلق النوم. ونحن وإن كنا لم نتمكن بعد من الوصول إلى معرفة شيء عن أحلام البالغين، اللهم إلا النوع الذي هو من نوع أحلام الطفولة، إلا إن النتيجة التي وصلنا إليها ليست مما يستهان به؛ فقد اتفق أننا في كل مرة نتوصل فيها إلى تفسير الحلم تفسيراً واضحاً نجد أنه عبارة عن إشباع لرغبة. وهذا الاتفاق لا يعقل أن يكون عرضياً أو عديم الأهمية. أما الأحلام التي من نوع آخر فقد فرضنا، اعتماداً على الشبه الذي بينها وبينا زلات اللسان، إنها عبارة عن بديل محرف لمحتوى مجهول لدينا. الخطوة التالية إذن هي أن نجتهد في معرفة شيء عن ماهية هذا التحريف الذي ينشأ في الأحلام.

هذا التحريف هو الذي يخلع على الأحلام هالة من الغرابة تجعلها بعيدة عن مدارك الفهم. وهناك أشياء كثيرة نريد أن نعلمها عنه؛ أولاً: كيف ينشأ هذا التحريف؛ وثانياً: ما هي وظيفته، وثالثاً: كيف يؤدي هذه الوظيفة.

دعوني أرو لكم حلماً قصته علينا سيدة معروفة في دوائر التحليل النفساني وهي الدكتور فون هج - هلموت - وهذا الحلم كما تقول الدكتورة رأته امرأة عجوز ولكنها مثقفة ثقافة عالية ولها مكانة محترمة بين الناس وهي لم تقم بتحليله لأنه على حد قولها لا يحتاج إلى أي تحليل بالنسبة إلى المحلل النفساني، كما إن الحالة نفسها لم تقم بتفسيره ولكن طريقتها في نقده وذمه تدل على أنها قد فهمت مرماه، فقد قالت:(تصوروا امرأة في الخمسين من عمرها لا هم لها بالليل والنهار إلا رعاية أولادها، تحلم مثل هذا الحلم الفظيع الذي لا معنى له!).

ص: 17

والآن دعوني أرو لكم هذا الحلم الذي يدور حول (الخدمة - الغرامية في الحرب).

قالت الرواية: رأت السيدة فيما يرى النائم أنها توجهت إلى المستشفى العسكري الأول وأبدت للحارس الذي يقف بالباب رغبتها في مقابل كبير الأطباء (وقد أعطته اسماً لا تعرفه) لأنها ترغب في عرض خدماتها على المستشفى. وقد ضغطت السيدة على كلمة (خدمات) بطريقة فهم منها الحارس إنها تقصد بها (الخدمة الغرامية) ولما كانت المرأة متقدمة في السن فقد أفسح لها الحارس الطريق بعد قليل من التردد، ولكنها بدلاً من العثور على كبير الأطباء وجدت نفسها في حجرة مظلمة تحتوي على عدد من الضباط وأطباء الجيش جلس بعضهم حول مائدة طويلة بينما ظل البعض الآخر واقفاً. وقد توجهت المرأة إلى أحد الأطباء وأفضت إليه باقتراحها، ففهم الطبيب تواً ما تقصد إليه. وقد كانت الكلمات التي استخدمتها في الحلم هي:(إنني وكثيرات غيري من نساء وفتيات فينا لعلى استعداد في سبيل الجنود والضباط أو الرجال أن. . .) وهنا انتهت الجملة بدمدمة غير واضحة. وقد ارتسمت على وجوه الموجودين علامات تجميع بين الخبث والارتباك رأت المرأة منها إنهم فهموا ما ترمي إليه فتابعت حديثها قائلة: (إني أعلم إن هذا التصميم من جانبنا يبدو لكم شاذاً غريباً ولكني جادة كل الجد فيما أقول، فالجندي لا يسأل في المعركة إن كان يرغب في الموت أو الحياة. ثم أعقب ذلك فترة رهيبة من السكون المطبق قطعه أحد الأطباء بقوله لها، وقد تأبط خصرها بذراعه (لنفرض يا سيدتي إننا حقاً قبلنا أن. . . (دمدمة) وهنا تخلصت المرأة من ذراعه وهي تتمتم (إنهم كلهم سواء) ثم أجابت: (يا للعجب! أنني امرأة عجوز وقد لا يحدث لي هذا أبداً؛ على إن هناك شرطاً يجب أن يراعي وهو مسألة السن، بحيث لا يسمح لامرأة عجوز وشاب يافع أن. . . (دمدمة) إن هذا يصبح في غاية الفظاعة). فهز الطبيب رأسه قائلاً: (إني فاهم تماماً ما تقصدين). غير إن بعض الضباط ضجوا بالضحك فطلبت السيدة أن تؤخذ فوراً إلى كبير الأطباء الذي تعرفه حق المعرفة، حتى يوضح كل شيء في نصابه. ولكن الدهشة عقدت لسانها عندما اكتشفت أنها لا تعرف أسمه. غير إن الطبيب مع ذلك أرشدها إلى الطريق الذي يؤدي إلى الطابق العلوي في أدب جم واحترام متناه وبينا هي تصعد درجات السلم إذ وصل إلى سمعها صوت أحد الضباط يقول: هذا تصميم عظيم بلا شك. وسواء أكانت عجوزاً شمطاء أم

ص: 18

صبية حسناء فلها الشرف العظيم على أية حال). وهنا ملأها شعور بأنها لا تقوم إلا بتأدية أبسط ما يتطلبه منها الواجب، فأخذت تصعد درجاً لا نهاية لها.

وقد تكرر هذا الحلم مرتين في خلال بضعة أسابيع مع تغييرات طفيفة هنا وهناك قالت عنها الحالة إنها عديمة الأهمية ولا معنى لها إطلاقاً:

وهذا الحلم يشبه في تسلسله أحلام اليقظة، غير إنه هناك مقاطعة في بعض المواضع. كما إن هناك كثيراً من النقط الغامضة كان من الممكن توضحيها إذا استفهمنا من الحالة عنها، ولكن هذه الخطوة لم تتخذ كما تعلمون. وإنما الغريب الذي يلفت النظر في هذا الحلم هو وقوع كثير من الفجوات لا في السرد بل في المحتوى نفسه: فهناك آثار للمحو تبدو في ثلاثة مواضع من المحتوى، وحيثما توجد هذه الفجوات فالحادثة تقاطع (بدمدمة): وبما إننا لم نقم بتحليل هذا الحلم، فليس لنا في الحقيقة إذا توخينا الدقة أن نتكهن بشيء عن معناه. غير أن نستخلص منها بعض النتائج. كما إن الحديث الذي يقطع قبل الدمدمة مباشرةً لا يحتاج لإتمامه إلا إلى نوع واحد من التركيب. فإذا قمنا بإتمام هذا الأحاديث فإننا نحصل على رؤيا خيالية مؤداها إن الحالة، تلبية لنداء الواجب، مستعدة لأن تهب نفسها لإشباع الرغبات الجنسية للجند على اختلاف درجاتهم. وهذا شيء فظيع حقاً فهو نموذج للرؤيا الجنسية المكشوفة. ولكن الحلم لا يخبرنا بشيء من هذا، فحيثما احتاج الأمر إلى هذا الاعتراف وجدنا في المحتوى الظاهر دمدمة غير واضحة، كأنما هناك شيء قد فقد أو قمع.

أظن من الواضح جداً إن السبب في قمع هذه العبارات يرجع إلى طبيعتها البشعة. والآن أين نستطيع أن نجد شبيهاً لما يحدث هنا؟ أظنكم في غير حاجة إلى البحث بعيداً في هذه الأيام، فأنتم إذا تصفحتم اليوم أي صحيفة سياسية وجدتم أن ههنا وهنا بعض الفقرات قد حذفت من الأصل وظل البياض الناصع للصحيفة يطالعكم بدلاً منها. وهذا كما تعلمون من فعل الرقيب على الصحافة، فحيثما وجدت هذه الفواصل البيضاء فمعنى ذلك إن شيئاً ما وقع رفع من هذا الموضع لعدم موافقة الرقابة على نشره. وقد تأسفون على هذا العمل لأنه مما لاشك فيه أن هذا الموضع كان يحتوي على أهم ما في الجريدة أو على (زبدة) الأخبار كما يقولون

ولكن في أحيان أخرى قد يتنبه الكاتب مقدماً إلى العبارات التي من المحتمل أن تتعرض

ص: 19

لقلم الرقيب، فيقطع عليه خط الرجعة بأن يحور في العبارة تحويراً يجعلها لا غبار عليها، أو قد يكتفي بأن يلمح من بعيد إلى ما يريد أن يكتبه فعلاً. وفي هذه الحالات لا توجد مواضع بيضاء خالية من الكتابة وإنما في إمكاننا أن نستنتج من طريقة اللف والدوران التي يستخدمها الكاتب أو من تعبيراته الغامضة أنه كان يكتب وهو يخشى قلم الرقيب.

والآن نستطيع أن نقول بالمثل إن الأحاديث التي حذفت من الحلم والتي جاءت متنكرة على شكل دمدمة كانت هي الأخرى ضحية لنوع من الرقابة: ونحن في الواقع نستخدم الاصطلاح (رقابة الأحلام) ونرجع جزءاً من التحريف إلى فعلها به فحيثما توجد فجوات في المحتوى الظاهر فإننا نعرف على الفور إن الرقابة هي المسؤولة عن ذلك. بل إننا نذهب إلى أكثر من هذا؛ فإن رأينا وسط العناصر الواضحة الجلية من الحلم عنصراً غامضاً غير واضح المعالم أو لم تستوعبه الذاكرة جيداً قلنا إن هذا دليل على عمل الرقابة. على أن الرقابة قلما تتخذ هذه الطريقة الواضحة المكشوفة كما هو الحال في الحالم الذي يدور حول (الخدمة الغرامية) وإنما تستخدم في أغلب الأحيان الطريقة الثانية التي ذكرتها لكم وهي التحوير في العبارات أو الاكتفاء بالإشارة والتلميح بدلاً من الإفاضة والتصريح.

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن

ص: 20

‌إلى طلبة التوجيهية:

شاعران في المنفى

للأستاذ أحمد محمد الحوفي

تمهيد - موضوعات القصيدتين - الصور والخيال - الأسلوب

- كلمة عامة. . . . . .

- 1 -

شاعران مصريان معاصران تغنيا بمصر وأخلصا لها الحب، فكان جزاؤهما النفي، أما أحدهما فمحمود سامي البارودي، وأما الآخر فأحمد شوقي.

نفي البارودي إلى جزيرة سرنديب في أعقاب الثورة العرابية؛ لأنه أحد زعمائها وقادتها، ونفي شوقي إلى الأندلس في أول الحرب العالمية الأولى؟ لأنه يناهض الاحتلال البغيض، ولأنه شاعر الخديوي عباس وترجمانه، وهوى مولاه وهواه مع تركيا، وهي يومئذ في صف ألمانيا ضد إنجلترا، وقد حيل بين الخديوي ومصر فليبعد شاعره شوقي من مصر.

قضى البارودي في منفاه سبعة عشر عاماً يتسلى فيها بالشعر، وينفس به عن نفسه، وقضى شوقي في منفاه خمسة أعوام يردد النظر في شعر الأقدمين، ويصور ما يعتلج بنفسه من ألم وحنين.

وتجلت في شعر كل منهما نزعته وطبيعته، فالبارودي يتحسر على أيامه السعيدة بمصر، ويكثر من ذكر الروضة والمقياس والحسان المائسات على الجسر، ويود أن تكتحل عيناه بمرأى مصر، ويفتخر بشجاعته في الحرب، لأنه من رجال الجيش.

وشوقي يأسى على عهده النضير بمصر، ويتغنى بطبيعتها المزدانة الفاتنة، ويتوق إلى الرجوع إليها، وبمجد ماضيها العظيم ويفخر بجلاله، ويتحدث بآثارها الخالدة، ولا ينسى مجد العرب والإسلام في الشرق والغرب فينوه به، منساقاً في ذلك مع ثقافته التاريخية الواسعة.

وإذا كانت النعم أحياناً تجنى من لهب الشدائد فإن نفى الشاعرين بلية أجنت الأدب حلو الجنى، إذ أثرته بكثير من القصائد الجياد قد بعثها عاطفة جياشة بالألم والحرمان والشوق

ص: 21

واللهفة إلى الوطن والخلان.

ونحن الآن نوازن بين القصيدتين المقررتين على طلاب التوجيهية في هذا العام موازنة تكشف عن نواحي الاتفاق ومناحي الاختلاف.

- 2 -

ليس في القصيدتين وحدة، فكلتاهما ذات أغراض عدة، ولكنها مما يتداعى في خاطر الشاعر إذ يذكر وطنه ويحن إليه.

فالبارودي بدأ قصيدته بالشكوى، الشكوى من الفراق المؤلم المسقم الذي لا يخففه عطف المواسيات، حتى ليحسبن إنه مجنون لا يفيق، لأنهن يجهلن داءه، وما داؤه إلا تباريح الحب المهلك، ثم يتألم لأنه يكلف بحب من لا يهتمون بأمره، وكرر الشكوى من الأرق والوحدة حيث لا يجد صاحباً يبثه همه. قال:

ترحل من وادي الأراكة بالوجد

فبات سقيما لا يعيد ولا يبدي

سقيماً تظل العائدات حوانيا

عليه بإشفاق وإن كان لا يجدي

يخلن به مساً أصاب فؤاده

وليس من مس سوى حرق الوجد

به علة - إن لم تصبها سلامة

من الله - كادت نفس حاملها تردي

ومن عجب الأيام أني مولع

بمن ليس يعنيه بكائي ولا سهدي

أبيت عليلاً في (سرنديب) ساهراً

أعالج ما ألقاه من لوعتي وحدي

أدور بعيني لا أرى وجه صاحب

يربع لصوتي، أو يرق لما أبدي

ولكن شوقي بدأ بدءاً آخر، فيتخيل حماماً ينوح بوادي الطلح، وناجاه بأن بلواهما متشابهة، لأن اليد العاتية التي طيرت الحمام من واديه هي اليد الغاشمة التي حرمت الشاعر من وطنه وأهله، وكلاهما في وادي الطلح غريب ضائق الصدر يحز الألم في نفسه، ولا ينفك يشتاق إلى وطنه ولكنه لا يستطيع الوصول إليه، وهذا الطائر صديق شوقي لأن الألم يربطهما، وهو دائم الحنين والذكرى لواديه والحزن على فراقه، قلق يتنقل من غصن إلى غصن في فتور واسترخاء باحثاً عن مواس ولكنه لا يجد، لأن لأمراض الجسوم أطباء ولكن إسقام الأرواح لا أساة لها، وشوقي يرمز إلى نفسه بهذا التصوير، وهذا بدء يلائم الحال النفسية للشاعر المبعد من وطنه، لأن الحمام من طبعه الحنين إلى وطنه وألفه،

ص: 22

والشعراء إذا ما سمعوا حنينه هاجت ذكرياتهم فحنوا وأنوا. قال شوقي:

يا نائح الطلح أشباه عوادينا

نشجي لواديك أم نأسى لوادينا؟

ماذا تقص علينا غير أن يداً

قصت جناحك جالت في حواشينا

رمى بنا البين أبكا غير سامرنا

أخا الغريب وظلا غير نادينا

كل رمته النوى: ريش الفراق لنا

سهماً، وسل عليك البين سكينا

إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع

من الجناحين عي لا يلبينا

فإن يك الجنس يا أبن الطلح فرقنا

إن المصائب يجمعن المصابينا

لم تأل ماءك تحنانا ولا ظمأ

ولا ادكاراً ولا شجواً أفانينا

تجر من فنن ساقاً إلى فنن

وتسحب الذي ترتاد المؤاسينا

أساة جسمك شتى حين تطلبهم

فمن لروحك بالنطس المداوينا؟

ثم يتفق الشاعران في أن رأى كل منهما برقاً يتلألأ حقيقة أو تخيلاً، فاهتاجه إلى مصر، فالبارودي رأى برقاً يلمع فيضيء الجبال والسهول، فبات ليلته أرقان يرقب النجوم الذي أجهدها طول السرى كأنه ملدوغ أو فريسة في مخالب الأسد، وصور لآلاء النجوم بالياقوت اللامع في درع. قال:

ومما شجاني بارق طار موهناً

كما طار منبث الشرار من الزند

يمزق أستار الدجنة ضوؤه

فينسلها ما بين غور إلى نجد

أرقت له، والشهب حيري كليلة

من السير، والآفاق حالكة البرد

فبت كأني بين أنياب حية

من الرقط، أو في برثني أسدورد

أقلب طرفي، والنجوم كأنها

قتير من الياقوت يلمع في سرد

ولكن شوقي صور البرق بأن ناره تلمع مقتبسة من النار التي تشتعل في أضلعه، وصور المطر الذي يعقب البرق بأنه مستمد من غزير مدامعه، فهو مؤرق طوال الليالي يراقب النجوم، ويرعى عهد الحب لمصر، حتى لقد ذوى ونحل، فصار كزفرة حيري في الليل. وحمل هذا البرق وهذا المطر تحية إلى الوطن، وصور المطر بأنه يجوب ظلمات البحر يحرسه جبريل من الأذى والعدوان حتى يصل إلى سماء مصر الأبية التي لا تقبل عطاء الغير وإن كان مطراً مباركاً، وحتى رويت بقطراته حدائق الوادي ومروجه وحقوله وريفه

ص: 23

الجميل، وطالبه أن ينزل على خمائل الوادي في إيقاع رقيق كأنه تغريد وتطريب، وأن ينزل سلاماً على النبات كما يتساقط الندى على أكمام الزهر، وأن يواسي منازل الشاعر وأحبابه. قال شوقي:

يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا

بعد الهدوء ويهمي عن مآقينا

لما ترقرق في دمع السماء دماً

هاج البكا فخصبنا الأرض باكينا

الليل يشهد: لم تهتك دياجيه

على نيام ولم تهتف بسالينا

والنجم لم يرنا إلى على قدم

قيام ليل الهوى للعهد راعينا

كزفرة في سماء الليل حائرة

مما نردد فيه حين يضوينا

بالله أن جبت ظلماء العباب على

نجائب النور محدواً بجبرينا

ترد عنك يداه كل عادية

إنسا يعثن فساداً أو شياطينا

حتى حوتك سماء النيل عالية

على الغيوث وإن كانت ميامينا

وأحرزتك شفوف اللازود على

وشى الزبر جد من أفواف وأدينا

وحازك الريف أرجاء مؤرجة

ربت خمائل واهتزت بساتينا

فقف إلى النيل واهتف في خمائله

وأنزل كما نزل الطل الرياحينا

وآس ما بات يذوي من منازلنا

بالحادثات ويضوي من مغانينا

ثم يتفقان في الحنين إلى ملاعب الصبا ومراتع الشباب، ويصور كل منهما حنينه تصويراً يوائم شاعريته، فالبارودي يذكر جزيرة الروضة حيث داره ومنبت غرامه ومرتع لذاته وحياته الهانئة، ويوازن بين حاله البائسة في حاضره وحاله الناعمة في ماضيه فتكاد تفارقه روحه، ويدعو لهذا المنزل بأن ينزل عليه المطر غزيراً كما كان يدعو العرب، محاكياً لهم في دعائه، على أن الروضة التي يحتضنها النيل من جهاتها الأربع في غنى عن هذا المطر، ويذكر بعض ما لقي من سعادة في هذا المنزل والدنيا مواتية والحياة ناعمة، وحبيبته وافية. قال:

خليلي هذا الشوق لاشك قاتلي

فيملا إلى (المقياس) إن خفتما فقدي

ففي ذلك الوادي الذي أنبت الهوى

شفائي من سقمي، وبرئي من وجدي

ملاعب لهو، طالما سرت بينها

على أثر اللذات في عيشة رغد

ص: 24

إذا ذكرتها النفس سالت من الأسى

مع الدعم حتى لا تنهنه بالرد

فيا منزلاً رقرقت ماء شبيبتي

بأفنائه بين الأراكة والرند

سرت سحراً فاستقبلتك يداً لصبا

بأنفاسها وانشق فجرك بالحمد

وزر عليك الأفق طوق غمامة

خضيبة كف البرق حنانة الرعد

وشوقي يحن إلى مصر، ويراها صورة من الجنة وإن تهاونت في تخليصه؛ وهو يحبها لأنها مدرج طفولته وملعب صباه، ومهبط آماله، ومجال عظمته، ومولد أبنائه وأحبائه ومثوى أجداده وآبائه، ويدعو بالخير لأيامه الماضية وحياته المسعدة المواتية حيث كان هو وأحبابه جمال الحياة، صلتهم حب ووفاء، وزمانهم حافل بالسعادة والصفاء. قال:

لكن مصر - وإن أغضت على مقة -

عين من الخلد بالكافور تسقينا

على جوانبها رفت تمائمنا

وحول حافتها قامت رواقينا

ملاعب مرحت فيها مآربنا

وأربع أنست فيها أمانينا

ومطلع لسعود من أواخرنا

ومغرب لجدود من أوالينا

سقياً لعهد كأكناف الربا رفة

أنى ذهبنا وأعطاف الصبا لينا

إذ الزمان بنا غيناء زاهية

ترف أوقاتنا فيها رياحينا

الوصل صافية، والعيش ناغية

والسعد حاشية، والدهر ماشينا

(البقية في العدد القادم)

أحمد محمد الحوفي

ص: 25

‌إليكا الهراس

للأستاذ برهان الدين محمد الداغستاني

450 -

504 هـ

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

مناظراته:

كانت مجالس المناظرة تعقد صدر الإسلام وعهد الأئمة المجتهدين للبحث في العقائد ومسائل علم الكلام أو للمناقشة بين مجتهدين في مسألة اجتهادية ثم تطورت المناظرات في القرن الرابع الهجري وما بعده - بعد أن ترك العلماء الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية وألزموا أنفسهم بمذاهب المجتهدين الذين كانوا قبلهم أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأقرانهم - وتغيرت مواضيعها فأصبحت مسائل فقهية خلافية بين الأئمة المجتهدين وكانت أكثر المناظرات تدور عليها بين أتباع المذاهب.

فمع أنه تخرج من علماء الإسلام وفقهائهم في القرن الرابع وما بعده من لا يقل عمن تقدمهم من المجتهدين علماً بأصول التشريع والاستنباط لكن لم تكن لهم الجرأة الكافية للظهور بمظهر الاستقلال ولم تكن لهم الجرأة الكافية للظهور بمظهر الاستقلال ولم تكن لهم الحرية الواسعة التي تمتع بها أسلافهم فقيدوا أنفسهم بنصوص المتقدمين لا يتعدونها وقصروا همهم على تعليل الأحكام التي وصلتهم من أئمتهم وترجيح بعض الروايات على البعض الآخر واعتنى كل فريق منهم بتأييد مذهب أمامه على مذاهب الآخرين وكثرت المناظرات المذهبية بين الحنفية والشافعية لأن أغلبها كانت بالعراق وعلماء المذهبين فيها متوافرون والمنافسة بينهم شديدة.

ومن هذا القبيل ما يرويه أبن خلكان من أنه كان بين إليكا الهراس والشيخ الإمام أبي طالب الزينبي وقاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني - وهما من أكابر الحنفية يومئذ ببغداد - من المنافسة والتنافر بسبب الخلافات المذهبية وما يرويه السبكي في الطبقات إذ يقول: وكانت في إليكا لطافة عند مناظراته. ربما ناظر بعض علماء العراق فأنشد:

أرفق بعبدك إن فيه يبوسة

جبلية ولك العراق وماؤه

ص: 26

قيل أنشد هذا البيت في مناظراته مع أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي.

فتاويه:

قلنا إن العلماء في القرن الرابع وما بعده لم يجدوا في أنفسهم الشجاعة الكافية لإعلان استقلالهم عن الأئمة المتقدمين في الاستدلال من الكتاب والسنة بل قصروا أنفسهم على نصوص أئمتهم، ولكن هذا لم يحل بينهم وبين استنباط العلل للأحكام التي نص عليها المتقدمون فتسنى لهم بذلك قياس ما جد بعد ذلك من الأحكام على ما نص عليه من سبقهم وبذلك استطاعوا أن يفتوا في المسائل التي كانت تعرض لهم في مختلف الشؤون وربما اختلفت أنظارهم في علة الحكم الواحد فتختلف آراؤهم في المسائل المستجدة تبعاً لذلك، وكانت مسألة يزيد بن معاوية وقتله الحسين رضى الله عنه مسألة مثارة في كل مجلس وناد مدة الحكم العباسي فكان لابد أن يسأل كل عالم عن لعن يزيد وهل هو جائر شرعاً أو لا، وقد سئل إلكيا نفسه عن لعن يزيد فقال: إنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما قول السلف في لعنه ففيه لأحمد قولان تلويح وتصريح، ولمالك قولان تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان تلويح وتصريح ولنا قول واحد التصريح دون التلويح. وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد والمتصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معروف ومنه قوله:

أقول لصحب ضمت الكأس شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنم

خذوا بنصيب من نعيم ولذة

فكل وإن طال المدى يتصرم

ولا تتركوا يوم السرور إلى غد

فرب غد يأتي بما ليس يعلم

وأفتى الغزالي وأبن الصلاح بخلاف رأي إلكيا لأنه وإن غلب الظن بقرائن الأحوال أن يزيد رضي قتل الحسين أو أمر به فلا يجوز لعنه ويجعل كمن فعل كبيرة. وجواب الغزالي بكامله في الجزء الأول ص 466 من وفيات الأعيان وهو في غاية الإبداع والرصانة.

ويقول الحافظ أبو طاهر السلفي: استفتيت شيخنا إلكيا الهراس ببغداد في سنة خمس وتسعين وأربعمائة لكلام جرى بيني وبين الفقهاء بالمدرسة النظامية. وصورة الاستفتاء ما يقول الإمام وفقه الله تعالى في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل تدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية؟ فكتب الشيخ تحت السؤال نعم، وكيف لا وقد قال النبي صلى

ص: 27

الله عليه وسلم: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً.

ونقل النووي عن إلكيا في موضع واحد من الروضة أوائل كتاب القضاء إن العامي يلزمه أن يقلد مذهباً معيناً ثم نقل عن أبن برهان عكسه ورجحه.

مؤلفاته:

لا يذكر المؤرخون شيئاً عن مؤلفات إلكيا إلا السبكي فقد ذكر إن من مؤلفاته شفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين وقال إنه من أجود كتب الخلافيات ونقد مفردات الإمام أحمد، وكتاباً في أصول الفقه لم يذكر أسمه.

وذكر أبن الملقن الأندلسي في العقد المذهب الرد على الإمام أحمد ومباحث المجتهدين وأحكام القرآن. ولسنا نعلم عن كتب إلكيا أكثر من ذلك ما عدا أحكام القرآن الذي ذكره أبن الملقن فإن منه نسختين في دار الكتب المصرية نسخة بخط قديم أكثره غير منقوط تحت رقم (144) تفسير وأخرى منقولة عن النسخة السابقة مكتوبة بخط جميل ثم نسخها يوم السبت 27 جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة تحت رقم (710) تفسير، ولكتاب أحكام القرآن هذا أهمية علمية كبرى هي التي حدث بي إلى كتابة هذا الفصل في التعريف بالكيا الهراس والتنويه بكتابه أحكام القرآن.

تفسير آيات الأحكام نوع من أنواع التفسير نشأ مع نشوء المذاهب الفقهية في الإسلام، لجأ أصحاب المذاهب من الفقهاء إلى هذا النوع من التفسير لتأييد مذاهبهم التي ذهبوا إليها واقتصروا على تفسير الآيات التي تعرض للأحكام الفقهية من قرب أو بعد وفسروها على قواعدهم في الفهم والاستنباط.

وفي كشف الظنون إن أول من صنف في هذا النوع من التفسير الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 ثم الشيخ أبو الحسن علي بن حجر السعدي المتوفى سنة 244 ثم الإمام القاضي أبو أسحق إسماعيل بن أسحق الأزدي البصري المتوفى سنة 283 ثم الشيخ أبو الحسن بن موسى بن يزداد القمي الحنفي المتوفى سنة 305 ثم الشيخ الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي المتوفى سنة 321 ثم الشيخ أبو محمد القاسم بن أصبغ القرطبي النحوي المتوفى سنة 340 ثم الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد

ص: 28

المعروف بالجصاص الرازي الحنفي المتوفى سنة 370 ثم الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن محمد المعروف بالكيا الهراس الشافعي البغدادي المتوفى سنة 504.

وأهمية كتاب الإحكام لإلكيا تأتي بنوع خاص من ناحية إنه ألفه على طريقة الإمام الشافعي وعلى أصوله في استنباط أحكام الفقه من آيات الكتاب العزيز كما يقول في مقدمته.

ولأنا لا نعلم عن كتاب الأحكام الذي ألفه الشافعي - كما يقول صاحب الكشف الظنون - شيئاً ولأنه من ناحية أخرى ليس لدينا إلى اليوم كتاب مطبوع في تفسير آيات الأحكام على طريقة الشافعي مع كثرة هذا النوع من التفاسير في المذاهب الأخرى، ولأن إلكيا الهراس كتب كتابه الأحكام بعد الإطلاع على كتب من تقدمه من الحنفية والمالكية في الأكثر الغالب - نرى إن أحكام القرآن للهراس ذخيرة علمية يجب الانتفاع بها وحبذا لو قام بطبعه ونشره من يهمهم نشر البحث العلمي في هذا البلد فإنهم يؤدون بعملهم هذا خدمة جليلة للفقه الإسلامي ويحيون أثراً قيماً من آثار أسلافنا الأمجاد.

وفاته ورثاؤه

توفي إلكيا الهراس وقت العصر من يوم الخميس مستهل المحرم سنة أربع وخمسمائة في بغداد ودفن بباب أبرز في تربة الشيخ أبي أسحق الشيرازي وكان مولده - كما تقدم - في خامس ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة فيكون قد عاش ثلاثاً وخمسين سنة وقريباً من شهرين وحضر دفنه الشيخ أبو طالب الزيني وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني - وكانا مقدمي الحنفية في بغداد وكان بينه وبينهما في حال الحياة منافسة وتنافر مما يكون بين الأقران فوق أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أبن الدامغاني متمثلاً:

وما تغني النوادب والبواكي

وقد أصبحت مثل حديث أمس

وأنشد الزيني متمثلاً:

عقم النساء فلا يلدن شبيهه

إن النساء بمثله عقم

ونقل أبن خلكان عن أبن عساكر في تاريخه الكبير إن تلميذ إلكيا أبا أسحق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور رثاه ارتجالاً فقال:

هي الحوادث لا تبقى ولا تذر

ما للبرية من محتومها وزر

لو كان ينجي علو من بواثقها

لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر

ص: 29

قل للجبان الذي أمسى على حذر

من الحمام متى رد الردى الحذر؟

بكى على شمسه الإسلام إذ أفلت

بأدمع قل في تشبيهها المطر

حبر عهدناه طلق الوجه مبتسما

والبشر أحسن ما يلقي به البشر

لئن طوته المنايا تحت أخمصها

فعلمه الجم في الآفاق منتشر

سقى ثراك عماد الدين كل ضحى

صوب الغمام ملث الودق منهمر

عند الوري من أسى أبقيته خبر

فهل أتاك من استيحاشهم خبر

أحيا أبن إدريس درس كنت تورده

تحار في نظمه الأذهان والفكر

من فاز منه بتعليق فقد علقت

يمينه بشهاب ليس ينكدر

كأنما مشكلات الفقه (يوضحها)

جباه دهم لها من لفظه غرر

ولو عرفت له مثلاً دعوت له

وقلت ديني إلى شرواه مفتقر

هذا فصل وجيز قصدت به التعريف بإلكيا الهراس والتنويه بأهمية كتابه (أحكام القرآن) إلا إنه ضاق فلم يتسع لتناول أحاكم القرآن إلا بقدر يسير. وأرجو أن تتاح لي فرصة التحدث عنه في فصل آخر خاص به في القريب العاجل إن شاء الله.

برهان الدين محمد الداغستاني

ص: 30

‌الأدب في سير أعلامه:

13 -

تولستوي

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمد الخفيف

في القوقاز

قرأ ليو كثيراً في القوقاز وهو منذ حداثته لا يسلو الكتب مهما صرفته عنها أهواء شبابه؛ فإذا عاد إليها أقبل يقرؤها في جد وعناية وقراءة تدبر واستمتاع، ولم يتفه كتاب مما كان يصدر يوم ذاك في روسيا أو في أوربا، كذلك لم تفته صحيفة أدبية تعنى بألوان الأدب المعاصر وتهتم بنقده، وكان في مقدمة تلك الصحف مجلة (المعاصر) التي نشرت له أول آثاره. . .

وكان لترجنيف جانب كبير من اهتمامه، وكان ترجنيف الذي يكبره كما أسلفنا بعشرة أعوام قد نشر سنة 1947 أول كتاب له وهو (مذكرات رجل صيد) الذي سبق أن أشرنا إليه، فكان ليو يعيد قراءته بين الحين والحين؛ ولعل ما استمتع به ترجنيف من ذهاب الصيت بكتابه الأول هذا قد ألقى في نفس ليو تولستوي أحلام المجد الأدبي وبخاصةً بعد أن صادف كتابه (عهد الطفولة) ما أشرنا إليه من نجاح.

وكان لجوجول كذلك منزلة عظيمة في نفس تولستوي، فكان يطيل التأمل في قصة (الأنفس الميتة) في قصته الفكهة (في). . .

ولم يسه تولستوي عن الأدب الأوربي فكان يقرأ آثار أعلامه جميعاً، وكان يتتبع ما ينشر دكنز في شغف كبير ويقدمه على كل قصصي سواء؛ وكذلك كان عظيم الإعجاب بالكاتب الإنجليزي ستيرن الذي ذكرنا اسمه قبل فيمن ذكرنا ممن قرأ الفتى آثارهم؛ كان ستيرن من رجال الدين ولد سنة 1713 وتوفي سنة 1768 فهو من أعلام القرن الخامس عشر وقد اشتغل بالأدب، وامتازت مؤلفاته بروح الفكاهة والعاطفة، وبلغ في قوة خلق الأشخاص وتصويرهم مالا يبلغه إلا الأفذاذ القلائل، فكان لآثاره ميزة الأصالة والنبوغ، وقد نشر قبيل وفاته أشهر كتبه وهو (الرحلة العاطفية)، وقد كان تولستوي شديد التأثر عظيم الانجذاب

ص: 31

نحو هذا الكتاب؛ يضعه في مستوى آثار روسو من حيث قيمته في ذاته ومن حيث أثره في نفسه. . .

وكثيراً ما كان الفتى يطيل التأمل في ساعات فراغه، أو عقب قرائه كتاباً من كتبه، وكثيراً ما كان يثبت تأملاته في كراسته فكان لهذه الكراسة بذلك خطرها كمصدر من مصادر تاريخ حياته.

وكان أول ما تأمل الفتى في الدين ولما يمض عليه في القوقاز غير أيام، ولم تكن هذه أول مرة يتجه فيها تأمله هذا الاتجاه، فقد سبقتها مرات ومرات؛ وقد أشرنا قبل إلى ما ذكره في مستهل كتابه (اعترافاتي) عن ذلك الصبي الذي تحدث إليه ذات مرة وهو في نحو العاشرة عن الله ووجوده، وكيف تلقى ذلك الحديث في اهتمام وأفضى به إلى أخوته. . . ومما ذكره كذلك في مستهل ذلك الكتاب قوله (لقد عمدت ونشأت على العقيدة المسيحية الأورثوذكسية؛ وقد عملت هذه العقيدة في طفولتي وطول أيام يفاعتي وشبابي؛ ولكني عندما تركت الجامعة وأنا يومئذ في الثامنة عشرة لم أعد أصدق شيئاً مما علمته. . . وقد ذهبت المعتقدات الدينية التي علمتها في صغري؛ ونظراً لأني منذ سن الخامسة عشرة بدأت أقرأ الآثار الفلسفية، فإن رفضي هذه المعتقدات كان أمراً شعورياً في سن مبكرة جداً؛ فمنذ سن السادسة عشر انقطع ذهابي إلى الكنيسة وانقطع صومي؛ ولم أصدق ما لقنت في طفولتي ولكني كنت أصدق شيئاً ما؛ أما ما هو ذلك الشيء فما كنت أستطيع وقتها أن أقول، لقد صدقت بالله أو على الأصح إني لم أنكر الله، ولكني لم أستطع أن أقول أي إله هذا، وكذلك لم أنكر المسيح ولا تعاليمه، ولكم مم كانت تتألف تلك التعاليم؛ ذلك أيضاً ما لم أكن أستطيع أن أقوله. . .

وإذا رجعت إلى تلك الحقبة من عمري أرى الآن في وضوح إن إيماني، إيماني الحقيقي الذي لم يكن لي غيره، ذلك الذي كان يحفز حياتي بصرف النظر عن غرائزي الحيوانية هو عقيدتي في بلوغ الكمال النفسي، ولكن مم يتألف هذا الكمال وما غرضه؟ ذلك ما لم أستطع أن أبينه، لقد حاولت أن أكمل نفسي عقلياً، فدرست كل ما استطعت أن أدرس، كل شيء ألقته الحياة في طريقي، وحاولت أن أكمل إرادتي فوضعت قواعد أخذت نفسي بإتباعها، وكملت نفسي من ناحية البدن قد دربت قوتي ونشاطي بكافة أنواع التمرينات، وعودت نفسي التحمل والصبر بكافة ضروب التقشف؛ واعتبرت كل أولئك وسائلي نحو

ص: 32

الكمال؛ وكان أول ما اتجهت إليه الكمال الأدبي ثم أعقب ذلك وحل محله الكمال من جميع الوجوه، أو الرغبة في أن أكون أحسن حالاً، لا في نظري فحسب ولا عند الله وحده، ولكن في نظر غيري من الناس. . . وسرعان ما اتجهت محاولاتي بعد ذلك إلى رغبة أخرى هي أن أكون أقوى من غيري وأبعد منهم صوتاً، وأعظم خطراً وأكثر ثراء. . .

هذا هو مبلغ اهتمام الفتى بالدين وكل ما هو من الدين بسبب منذ حداثته، أما اهتمامه به في القوقاز فنجد شاهداً عليه فيما أثبته هناك من تأملاته ومنها قوله بعد أن ذكر إنه لم ينل ليلته بسبب صلاته ونسكه لله (إذا أريد بالصلاة إنها استغفار أو شكران فإني إذاً لم أكن أصلي؛ بل إن رغبة كانت تتملكني نحو شيء طيب سام. أما عن كنه ذلك الشيء فذلك ما لا أستطيع تفسيره، ولو إنني أشعر شعوراً تاماً ماذا يكون ذلك الذي رغبت فيه؛ إن الذي رغبت فيه هو أن أذوب فأمتزج بذلك الجهور المحيط بكل شيء وأن أستغفره عن آثامي. . . لا، ليس هذا ما رغبت فيه لأني شعرت إذ منحني هذه اللحظة المباركة إنه بهذا منحني كذلك المغفرة).

والذي يستخلص مما كتبه تولستوي حتى هذه السن إنه لم يفقد الإيمان لحظة بقوة مطلقة في هذا الوجود، وكان مرد إيمانه إلى عاطفته وإن كان يشعر إنه لا يستطيع أن يصالح عليها عقله ومنطقه، فلقد كان شديد الشك في صورة العقيدة كما تضعها الكنيسة الأورثوذكسية الروسية، ولذلك عظم الصراع بين عاطفته وعقله. . . وتراه يتساءل ذات مرة في دفتره معتمداً على العقل والقياس قائلاً: حتى ولو إن الجسم والروح شيئان، وإن الجسم يلحقه الفناء، فماذا في ذلك من البرهان على فناء الروح؟ لقد رأيت الجسم يموت، وعلى ذلك أستخلص إن جسمي أنا سوف يموت، ولكن ليس في ما يريني إن روحي سوف تموت، وعلى ذلك فبناء على ما يقوم في فكري أقرر إنها خالدة).

وقال عن الصلاة في موضع آخر (هل الصلاة لازمة؟ وهل هي ذات فائدة؟ إن التجربة وحدها هي التي ترينا مدى ما يكون في ذلك من اقتناع. إني أصلي هكذا. رب نجني من السوء ومن الغواية أن أفعل السوء، وهب لي الخير أو هب لي القدرة على أن أعمل صالحاً؛ وسواء أكان خيراً أم كان شراً ما أعمل فإن مشيئتك هي النافذة).

وعاد يبحث عن الله في قوله (هل لي أن أنجح نجاحاً لأمرية فيه فأكون عن الله واضحة

ص: 33

وضوح فكرتي عن الخير؟ لقد باتت هذه الرغبة أقوى رغابي!

إن فكرة الإنسان عن الله هي وليدة تغطية إلى ضعفه هو. . . ولم يقنعني بوجوده بصلتنا به شيء أقوى من هذه الفكرة: ألا وهي أن كل مخلوق قد وهب من المسكنة ما يتفق مع ما يرغب فيه من مطالب، لا شيء أكثر من ذلك ولا شيء أقل؛ ولأي غرض وهب الإنسان قوة إدراك مثل هذه المسائل وهي العلة الأولى والأبد واللانهاية والقوة المطلقة؟ إن المقدمة فيما أتحدث عنه هي فروض تؤيدها علامات، وإن الإيمان حسب تقدم المرء يتمم صحة هذه الفروض).

وتشتد حيرته بعد ذلك فيقول: إني عاجز عن أن أثبت لنفسي وجود الله، أو حتى عن إيجاد قرينة مقنعة به؛ كما أني لست أرى ثمة ضرورة حتمية لهذا الإدراك، إنه لأيسر وأبسط أن نتخيل الوجود الأبدي للكون بنظامه العجيب الذي لا يمكن تصور مداه، من أن نتخيل وجود خالق له. . . إن تطلع الجسم والروح إلى السعادة هو السبيل الوحيدة إلى تفهم أسرار الحياة، وإذا تصادمت نوازع الجسم ونوازع الروح فيجب أن تهيمن نوازع الروح لأن الروح خالدة كالسعادة التي تنتجها. . . وإن تحقيق السعادة هو السبيل لتقدم الروح ورقيها. . . إني لست أفهم ضرورة وجود الله، ولكني أومن به وأصلي له كي يعنيني على أن أدركه).

وتنطوي سنوات كثيرة قبل أن يغير تولستوي ما أثبته في كراسته في نوفمبر سنة 1852 وهو قوله (إني أومن بإله واحد لا تدركه الأبصار وأومن بخلود الروح وأومن بالجزاء على أعمالنا؛ وما يضيرني أني لست أفهم خفايا الثالوث ومولد أبن الله؟ إني أجل عقيدة آبائي ولست أجحدها).

ويتأمل الفتى غير الدين في أمر يتصل بالأخلاق فيقول (إن الضمير خير رائد لنا وخير ما نعول عليه من هاد، ولكني ما هي الشواهد التي بها نميز صوت الضمير من بين الأصوات الكثيرة التي تنبعث في أنفسنا، على إنه الصوت الوحيد الحق؟ ذلك لأن الغرور يتكلم بنفس القوة. . . إن الرجل الذي يكون غرضه في الحياة سعادة نفسه هو رجل سوء؛ وإن الذي يكون غرضه حسن رأى الناس فيه رجل ضعيف؛ وذلك الذي يجعل غرضه إسعاد الآخرين رجل خير؛ ولكن الذي يجعل غرضه وجه الله هو رجل عظيم. . . إن

ص: 34

الشر في رأي يتكون من إتباع السوء تجاه الآخرين والخير كامن في محبة الخير لهم؛ بهذا يتحدث الضمير أبداً؛ وإن غرض الحياة لهو الخير وهو عاطفة موروثة في النفس، ورأى أن الوسيلة لنعيش عيشة طيبة هي معرفة الخير والشر. . . وأنا لن نكون أخياراً إلا عندما توجه جميع قوانا دائماً نحو هذا الغرض).

(يتبع)

الخفيف

ص: 35

‌مهرجان الربيع.

. .

للأستاذ خليل شيبوب

مهرجان الربيع في الأيام

فرحة الكون تجتلى كل عام

وشباب الدنيا يجدده الده

ر بفيض من الحياة سجام

ألهميني عروس شعري شعوراً

صافي البث صادق الإلهام

أتمل الربيع نوراً به ينفس

ح العمر والزمان أمامي

يا ابنة الفجر أيقظيني فإني

أذهلتني طوائف الأحلام

وأنظر فالحياة نظرة حب

وابسمي فالمنى ضياء ابتسام

وأفيضي عي وصف محيا

ك أطوع له عصى الكلام

قد تولى الشباب وأكتهل القل

ب ومالت به عوادي المقام

وربيعي في وجنتيك وعيني

ك وفي الجيد واللمى والقوام

طالعي الأرض والسماء بنفع

منك يسري مساري الأنسام

وابعثي في الفؤاد ضوء رجاء

منك يحيا به حياة سلام

واستمدي له من الشعر فناً

صادراً عن حقائق الأوهام

عادت الطير من مهاجرها حا

ملة ذكر أفقها الترامي

فروت للرياض عنها حديثاً

لحنته لها بغير نظام

وسرت في النسيم ثرثرة تف

صح عما به من الإبهام

وجرى الجدول الصغير ضياء

سائلاً منه يرتوي كل ظام

وزهت حوله الخمائل غناً

فتراها من عنبر لا رغام

ظللتها الأشجار فهي عروش

ظللتها خوافق الأعلام

موجتها أشعة الشمس إذ تم

زج فيها الصفاء بالاضطرام

وتغطي زمرد النبت بالتب

ر وتسرى كالروح في الأجسام

قد أفاقت هذى الطبيعة تزهي

بقواها من بعد ذلك المنام

وتناجت آفاقها مائجات

بالشذى والنسيم والأنغام

في الصحارى والروض والبحر والشا

طي وبين الأكام والآجام

ص: 36

تتناغى أصواتها في خرير

وحفيف ورنة وبغام

ليست أبهج البرود وحطت

عن وجوه الجمال كل لثام

وتحلت بالزهر سيان ما فت

ح منه أو كان في الأكمام

باللآلئ والدر شيء نثير

ونظيم ورونق وانسجام

فتراها روانياً كعيون

فترت بالدلال والاحتشام

وتراها بواسماً كثغور

سحرها مبعث الهوى والهيام

وتراها حيية كخدود

هاج فيها الهوى ندى الضرام

وكأن الرياض منسج ألوا

ن ومسرى شذى ومسقى مدام

وتهاويل ساحر عبقري

وتصاوير ملهم رسام

كل لون وكل معنى وفن

وجمال وصبوة وغرام

فتن تشرح الصدور وتشفى

من جمود القلوب والإفهام

هي في اليوم باعثات الأماني

وهي في الليل ناعشات الظلام

وهي عوذ المعربد المتغنى

ولياذ المرفرف النسام

تلك حور الجنان في سبحات ال

نور قد أرضعت ثدي الغمام

والغصون الولدان طاقت من الز

هر بجام على الطيور فجام

إنما هذه مقدمة الجن

ة في الأرض فأدخلوا بسلام

كيف هذا الورى عن الحق يسهو

وهو لاه عن الهوى متعام

وهو يحيا على خلاف ويبقى

أبداً في تنازع وخصام

ينقضي الدهر بين حرب وسلم

مثل حرب في شدة وعزام

طمع جر القوى فظن ال

حق مستمسكاً يحد الحسام

وضعيف أبى المهانة يرجو

مثلهم أن يعيش عيش الكرام

عالم تستحل فيه الخطايا

وتراق الدماء حول الحطام

قلق ساور الحياة وحق

ضاع بين السيوف والأقلام

ليتهم في الربيع يستلهمون الرو

ض حتى يحيوا حياة الوئام

في نعيم القلوب مؤتلفات

بين رعي الرضى ورعي الذمام

ص: 37

يا أبنة الشعر رفرفي في مجا

لي النور حيث الصفاء بحر طام

لا يفتني ربيع حسنك في قل

بي إذا فاتني ربيع الأنام

خليل شيبوب

ص: 38

‌الأدب والفن في أسبوع

يوم من أيام العلم:

شهدت جامعة فؤاد الأول في الأسبوع الماضي يوماً رائعاً من أيام العلم في تقدير النبوغ وإكباره، ولقد زاد في روعة هذا اليوم وبهائه أن باركه الفاروق العظيم برعايته السامية وعطفه السابغ، إذا وقف المليك العظيم في لباسه الجامعي بين أبناء الجامعة، أساتذة وطلاباً، ورجال العلم والأدب: شيوخاً وشباباً، يوزع جوائز فؤاد الأول على الذين استحقوها من العلماء المبرزين، ويسلم الدرجات العلمية للذين نالوها من المتخرجين المتفوقين، وما الجامعة العظيمة إلا غرس فؤاد العظيم ومأثرته على العلم، فلا غرو أن يكون الغرس موضع الرعاية من شبله، وإنما الابن سر أبيه. . .

جوائز فؤاد العلمية:

ولقد افتتح الاحتفال معالي وزير المعارف عبد الرزاق السنهوري باشا بخطبة ضافية ألقاها بين يدي المليك العظيم نصير العلم والعلماء واستهلها بقوله: (مولاي إن لوالدكم الراحل العظيم من الأيادي البيضاء على العلم، ما جعل رجال العلم في هذا البلد تختار يوم ذكرى وفاته ليكون موسماً للعلم، فاختارت لجنة الجوائز هذا اليوم لتوزيع الجوائز العلمية التي تفضلتم بتخصيصها كل عام للفائزين من كبار العلماء والأدباء، وهي الجوائز التي أطلقتم عليها اسم والدكم العظيم. كما اختارت جامعة فؤاد الأول هذا اليوم أيضاً لتوزيع درجاتها العلمية على النابهين من أبنائها الخريجين. . وسيتشرف بالمثول بين يديك يا مولاي لأخذ الجوائز العلمية ولتسلم الدرجات الجامعة كهول وشباب، أما الشباب: فأولئك هم المتفوقون من الناشئين في العلم، وأما الكهول فأولئك هم النابغون فيمن نضج من العلماء).

العقل المصري:

قال معالي الوزير: (لقد أثبت علماؤنا اليوم يا مولاي إن العلم ليس وقفاً على الغرب، وإن العقل المصري إذا أطلق من عقاله وأفسح له المجال، يثب ويرتفع، حتى يصل إلى المستوى الذي وصل إليه علماء الغرب، وهذه الحقيقة تدل عليها مؤلفات علمائنا الذي فازوا بجوائز هذا العام، وهي ليست إلا مثلاً لمؤلفات كثيرة أخرى، فالعالم المصري بحق

ص: 39

له اليوم أن يطالب بمكانه بين علماء الغرب، وهو في ذلك لا يستحدث جديداً، بل يواصل تقاليد قد سلفت، يوم كانت مصر هي منار العلم ومنبع المدينة ومقر الحضارة). . .

النهضة العلمية في مصر:

ثم قال: (والنهضة العلمية في مصر هي عز الماضي، وأمال المستقبل، بنينا مجدنا بالعلم، وسنعيد بناءه بالعلم، وهانحن نمد النظر إلى آفاق بعيدة، آفاق يشع منها النور قوياً وهاجاً، ونرى النور يقترب منا رويداً رويداً، ولكما اقترب زاد إشعاعاً وقوة، فهل يغمر مصر وهي تمشي إلى مستقبلها هذا النور المتألق؟ لقد أخذت غياهب الجهل تنقشع عن سمائنا، يبددها هذا النور الذي يقترب، فليكن سيرنا نحن النور، ولنمش إليه بخطوات ثابتة، فإن هذا النور الذي نراه هو مرآة الماضي، وعنوان الحاضر ورجاء المستقبل). . .

الفائزون بالجوائز:

وتكلم بعد ذلك الأستاذ الكبير معالي أحمد لطفي السيد باشا رئيس لجنة الفحص لجوائز الآداب فأعلن إن اللجنة لن تفرغ من عملها بعد ولهذا قررت إعلان تأجيلها إلى العام القادم، ثم تكلم معالي بهي الدين بركات باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة القانون ثم سعادة الدكتور حسن صادق باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة العلوم ثم قدوم معالي وزير المعارف الفائزين بجائزة القانون إلى جلالة الملك وهما الدكتور محمد مصطفى القللي بك عميد كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول والدكتور محمد زهير جرانه المحامي فتسلما البراءة بالجائزة وقدرها ألف جنيه، ثم قدم معالي الوزير الفائزين بجائزة العلوم وهم مصطفى نظيف بك والدكتور محمود الشيشيني الأستاذان بكلية الهندسة والدكتور محمد عبدة السعيد الأستاذ بكلية الهندسة وعضو بعثتها إلى إنجلتراً.

درجات المتفوقين:

وبعد ذلك تفضل جلالته بتسليم المتفوقين من الخريجين درجاتهم العلمية، وقد قدمهم إلى جلالته الدكتور عبد الوهاب عزام بك نيابة عن مدير الجامعة بكلمة الجامعة رائعة ختمها بقوله: (إن مصر والأمة العربية جمعاء تبني اليوم تاريخاً وتنشئ أجيالاً وتعد مستقبلاً يكافئ مكانتها بين الأمم ومآثرها على الزمان. والله أسأل أن يرعاها ويسدد خطاها وأن

ص: 40

يجعل عرشكم الزاهر مناراً لنا في تاريخ مصر وتاريخ العرب كلهم، وتاريخ الحضارة الإنسانية).

وكان هذا الدعاء الصادق مسك الختام.

البراءة الملكية بالجائزة

ويهمنا أن نسجل فيما يلي نص البراءة الملكية بالجائزة التي منحت للدكتور مصطفى نظيف بك وهي نموذج للبراءات التي منحت لجميع الفائزين.

وهذا هو النص:

من فاروق ملك مصر بعناية الله تعالى

إلى صاحب العزة مصطفى نظيف بك الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة فؤاد الأول.

بناء على ما أقرته اللجنة الدائمة لجوائز فؤاد الأول وفاروق الأول من استحقاقكم جائزة فؤاد الأول للعلوم عن سنة 1947 لما امتاز به مؤلفكم (الحسن بن الهيثم - بحوثه وكشوفه البصرية) من دقة البحث.

قد أمرنا بإصدار براءتنا الملكية هذه من ديواننا بمنحكم تلك الجائزة وفقكم الله لخدمة العلم والوطن.

تحريراً بقصر القبة الملكي بالقاهرة في اليوم السابع من شهر جمادى الآخرة لسنة ألف وثلاثمائة وستة وستين من هجرة خليفة المسلمين وفي السنة الحادية عشرة من حكمنا.

صدر بأمر مولاي الملك المعظم

رئيس ديوان جلالة الملك

مولانا أبو الكلام:

اختارت حكومة الهند مولانا أبو الكلام آزاد ليكون سفيراً لها في مصر، وهو أول سفير تختاره لتمثيلها في البلاد العربية، وثاني سفير يمثلها في العالم، إذ اختارت أول سفير لها ليمثلها لدى الولايات المتحدة.

ومولانا أبو الكلام أحد الزعماء المسلمين البارزين في الهند الذين قضوا حياتهم في مجاهدة الاستعمار مقاومة الطغيان والنضال في سبيل الحرية نضالاً أبياً شريفاً لم ينل منه سجن

ص: 41

ولا تشريد، ولم يفل من حدته وعد ولا وعيد، ونحن إذا تجاوزنا عن الناحية السياسية في حياة هذا الزعيم العظيم وهي موضع خلاف بينه وبين الزعماء الآخرين فإننا نجده زعيماً من زعماء الإصلاح الديني الذين جاهدوا لنصرة الإسلام وعملوا على تقوية الروابط الإسلامية وانتصروا لها في صدق وإخلاص وأبدوا في ميدان الثقافة الإسلامية جهوداً مشكورة كان لها أعمق الأثر عند بني قومه وأطيب الذكر في العالم الإسلامي أجمع.

فمنذ عام 1912 وقف مولانا أبو الكلام وهو لما يزل في مطلع شبابه، يهيب بالمسلمين في الهند أن يتحرروا من ربقة الجمود والتقليد، وإن يكون طريقهم في الدين التمسك بالكتاب والسنة ونبذ البدع والخرافات، وتطهير الأعمال والعقائد من المحدثات، ويصيح فيهم تلك الصيحة المأثورة:(إن الدين ما كان عليه الرسول وأصحابه والسلف الصالح من أمته، لا ما قاله فلان وفلان وإن القرآن مهيمن على الكتب السماوية والعلوم البشرية فلا تشوهوا وجهه باليونانيات ولا بتخريفات المتفرنجين).

وكان الرجل في كل ما يكتب ويدعو إليه ينطق بتلك الروح القوية التي غرسها المصلح الكبير السيد جمال الدين الأفغاني في النفوس؛ فهو الذي يقول لأبناء وطنه (إن الإسلام من أوله إلى آخره دعوة عامة إلى البسالة والجرأة والتضحية والاستهانة بالموت في سبيل الحق والقرآن، وإن التوحيد يعلم المسلمين أن الخوف والخشوع لا يكون إلا لله الواحد القهار، وأن المسلم الذي أمره ربه أن يرحب بالموت الأحمر ويتغلغل في لجج الدواهي لا يقبل السكوت عن الحق ولا يغضي على المكروه).

ولما قامت الحرب العالمية الأولى واشتبكت إنجلترا في ميدانها مع تركيا وهي أمة الخلافة يوم ذاك، وقف مولانا أبو الكلام يدعو المسلمين في الهند وفي الأقطار الإسلامية عامة أن يمتنعوا عن معونة إنجلترا في تلك الحرب التي تقوم بها ضد الدولة الإسلامية الكبرى، وطاف بالهند يلقي الخطب ويذيع البيانات في هذا، فلما أعيت إنجلترا الحيل في جذبه أو ردعه سجنته أربع سنوات، وبعد عقد الهدنة أطلقت سراحه فخرج يدعو إلى وحدة إسلامية عامة بين المسلمين، ويهيب بالدول الإسلامية أن تلتف حول دولة الخلافة لتعينها من كبوتها وتساعدها في محنها حتى ضجر به الإنجليز فأعادوه مرة ثانية إلى السجن.

فسر الزعيم أبو الكلام قدراً من القرآن الكريم تفسيراً علمياً عصرياً، وترجم القرآن كله إلى

ص: 42

اللغة الإنجليزية، وله مقالات إسلامية وبحوث ثقافية ضافية كان ينشرها في مجلتي (الهلال) و (البلاغ) اللتين أنشأهما للدعوة إلى التحرر الديني والتحرر السياسي ثم عطلتهما الحكومة لشدة أسلوبهما، وعلى الرغم من هذه الغيرة الإسلامية الصادقة التي تفيض بها نفس ذلك الزعيم فإنه من أنصار الدعوة إلى توحيد الصفوف وجمع الشمل بين طوائف الهند، فلا شكل أنه سيكون خير سفير للهند في أقطار العروبة.

وزارة للفكر:

كتب مستر برناردشو الكاتب الأيرلندي الذائع الصيت إلى جريدة (التيمس) يقترح إنشاء وزارة للفكرة في إنجلترا ويقول في رسالته: (إن التقدم الذي أحرزته آسيا الصحراوية التي تسكنها القبائل حتى توصلت إلى قلب المدينة إنما يرجع إلى الاشتراكية الزراعية والصناعية. . . وإننا إذا ما وضعنا أسس الاشتراكية فلن يقف شيء في سبيلنا غير الكسل الفكري والسياسي، وخوفنا وكراهيتنا للتفكير. لدينا وزارات لكل شيء ما عدا وزارة للفكر على إنها العامل الوحيد الذي يستطيع مسايرة المدينة الحديثة).

وإني لأعجب لذلك الكاتب الكبير أن يقصد إلى حصر التفكير في حدود الرسميات وأن ينزعه من جو الصراحة والطلاقة حيث يعيش ليجعله في رعاية الحكومة تصرفه وتمشى به كما تريد، فإن ذلك في الواقع قتل للتفكير، وحجر على العقول الطليقة أن تثمر وتنتج.

وهل يعتقد برناردشو إنه لو كانت هناك وزارات للتفكير في العالم من قديم الزمان كان في الإمكان أن يصل تطور الفكر إلى تلك الحال التي بلغها وكان العالم قد رأى ما نراه اليوم من ألوان الفكر المختلفة في مناحي الحياة الاجتماعية والعلمية والأدبية والاقتصادية؟! كلا! ونحسب أن برنادرشو نفسه يعلم حق العلم إن تاريخ التطور في التفكير ليس إلا نزاعات ووثبات وصفت بالتمرد والتهور وقوبلت في أول الأمر من الحكومات والوزارات بالمقاومة والصرامة، وفي هذا السبيل كثيراً ما ذهب أصحاب الأفكار ضحية أفكارهم وتفكيرهم.

وشيء آخر نراه واضحاً ملموساً وهو يدحض ذلك الرأي الذي يراه برناردشو، ونعني به تلك الهيئات الرسمية والمجامع الحكومية التي تتولى الإشراف على ناحية من نواحي التفكير، فإننا نراها جامدة خامدة لا تسير إلا في بطء ولا تنتج إلا في ضوء المتابعة للتفكير الحر الخارج في دائرة الرسميات، ولهذا كثيراً ما كانت تلك الهيئات والمجامع في دائرة

ص: 43

الرسميات، ولهذا كثيراً ما كانت تلك الهيئات والمجامع هدفاً لسخرية الساخرين وضحك الضاحكين!

وزارة التفكير؟! كلا أيها الكاتب الكبير، فإن هذا سيكون إيذاناً بوضع نهاية لإيجاد التفكير. . .

الشمس تغني:

اكتشفت مصلحة الرادار في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الماضية إن الشمس ترسل في الفضاء موجات (راديوفونية) كالموجات التي ترسلها محطات الإذاعة اللاسلكية في أنحاء العالم. . .

وقد وقع هذا الاكتشاف مصادفة إذ كان البريطانيون يراقبون اقتراب طائرة مغيرة للعدو على أجهزة الرادار في نطاق الأربعة أمتار والستة أمتار فأدهشهم أن استمعوا إلى أصوات موسيقية غريبة استمرت في عزفها يومين ونصف يوم وكانت اتجاهات الرادار تشير طول هذه المدة إلى الشمس، فلما انتهت الحرب قامت هذه المصلحة بعدة تجارب أثبتت إن الشمس ترسل في الفضاء موجات (راديوفونية) على أبعاد مختلفة.

وقد أثارت هذه الظواهر اهتمام العلماء والباحثين، فهم يجرون التجارب لكشف هذه الظاهرة العلمية واستغلالها ويقولون إنه ليس ببعيد أن نسمع صوت المذيع في يوم من الأيام يقول: هنا راديو الشمس، تسمعون الآن قطعة موسيقية تعزفها الشمس!

(الجاحظ)

ص: 44

‌البريد الأدبي

نهضة العراق الأدبية في منهاج الوزارة العراقية الجديدة

مما يلفت النظر في منهاج الوزارة العراقية الجديدة التي ألفها السيد صالح جبر احتواؤه على (14) مادة لتشجيع حركة نشر الفنون والآداب في العراق. وضعها دولة رئيس الوزراء كما قال لي في حديثه لما رآه من تأخر العراق عن بعض الدول العربية الشقيقة في الحركة الأدبية والثقافية في ميدان النهضة الأدبية في العصر الحديث في حين أن له من تاريخه الثقافي وقابليات أبنائه الفكرية وطبيعته الموحية ما يؤهله أن يكون عاملاً هاماً في الحركة الأدبية المعاصرة. وسبب تأخر العراق الأدبي ناشئ من انصراف المسئولين الذين تعاقبوا على الحكم في العراق إلى حصر جهدهم في السياسة، في حين إن العمل الثقافي يجب أن يسبق غيره من الأعمال ويحظى بعناية المسؤولين لكي ينير لهم طريق السياسة ويمهد لهم إنشاء مجتمع صالح سعيد.

لذلك راعى في منهاجه هذه الناحية الهامة في بناء العراق الحديث

وخصص لها المبالغ اللازمة في الميزانية لصرفها في هذه السبيل

وتجنيد المخلصين من الأدباء والعلماء والكتاب والمثقفين في العراق

والبلاد العربية للعمل معه في هذا الميدان، وللإشراف على وضع

دستور أدبي للعراق والعمل على نشر الثقافة العامة في الجمهور

واستغلال القوى الأدبية للترجمة والكتابة والنشر.

وسيعنى قبل كل شيء بإنشاء مئات المدارس القروية ورياض الأطفال والابتدائية والثانوية لكي تضم كل راغب في التعلم من أبناء العراق. كما إنه سيهتم بتوسيع المعاهد العالية ووضعها على أسس علمية رصينة والمباشرة بإنشاء الجامعة العراقي والإكثار من البعثات العلمية ورفع مستواها لتهيئ للبلاد ما تحتاجه من العلماء والأدباء والفنيين وتشجيع التعليم الحرفي والصناعي والزراعي والتجاري والفنون الجميلة وتوجيه معظم خريجي المدارس ولا سيما الابتدائية منها إلى هذا النوع من التعليم.

وسيتهم بتشجيع الثقافة العامة بين مجموع أفراد الشعب عن طريق المدارس المسائية

ص: 45

والإذاعة والسينما والمعارض وإنشاء كليات شعبية لرفع المستوى الثقافي والمهني العام في البلاد وتوجيه التربية والتعليم في العراق نحو تنمية المواهب والقابليات لدى أبناء الشعب كافة لما فيه خير البلاد وأعمارها والعناية بالمبادئ السليمة والأخلاق قبل كل شيء. وسيحرص على العناية بثقافة الطلاب بعد تخرجهم من المدارس وذلك بتأسيس نواد ثقافية لغرض الدرس والمطالعة والتفكير.

لقد حدثني دولة رئيس الوزراء بكل هذا وزاد عليه بأنه سيوعز بالمباشرة حالاً بإنشاء مجمع علمي عراقي لتعضيد حركة الترجمة والتأليف والنشر وجعله صلة ثقافية بين العراق والبلاد العربية، وتسهيل مهمة اللجنة الثقافية في الجامعة العربية بما تقترحه من أمور ثقافية تخدم الأغراض الأدبية في العراق وتساهم في نشر وإذاعة التفكير العربي.

وطلب مني دولته أن أذيع على صفحات (الرسالة) الغراء بأنه سيوعز بتصوير وجمع وشراء جميع المخطوطات العربية في المكاتب العامة والخاصة التي لها أهمية تذكر في أدبنا العربي للاستفادة من بعضها ونشرها، كما إنه سيستعين بكل أديب وكاتب عربي يخدم هذه الأغراض وبكون ذا فائدة في نهضة العراق الأدبية والثقافية وذلك باستخدامه بأجور تتناسب ومكانته الأدبية والعلمية ليساهم مع أدباء العراق وعلمائه في تدعيم حركة نشر الثقافة بين العراقيين:

وسيكون (المجمع العلمي العراقي) على غرار (لجنة التأليف والترجمة والنشر) في مصر ومن جملة مهامه طبع مؤلفات الأدباء والشعراء والكتاب وإذاعتها ونشرها في العراق والعالم العربي ليساعد بذلك المؤلفين العراقيين الذين تقف نفقات الطبع والورق حائلاً دون نشر أفكارهم وما يضعونه أو يترجمونه من كتب وأقاصيص:

لقد احتوى المنهاج الوزاري العراقي على الخطوط الرئيسية للمعلومات التي شرحها دولة رئيس الوزراء. ولا ريب أن حماسته في العمل والإنشاء ستعجل بتنفيذ هذا المناهج الثقافي الضخم الذي تقوم لأول مرة، وزارة عراقية بنشره وتتعهد بتطبيقه في العراق.

بغداد

مهدي القزاز

ص: 46

إلى الأستاذ الطنطاوي:

أخي الأستاذ علي

ذكرت في مقالك الممتع الذي تحدثت فيه عن دمشق (العدد 717 من الرسالة) إن حمام سامي منسوب إلى البطل المشهور أسامة بن منقذ. فاسمح لي أن أبين لك ما يلي:

إن هذا الحمام لا ينسب في الحقيقة إلى أسامة بن منقذ. ذل ينسب إلى أمير آخر اسمه أسامة الجبلي. قال ابن كثير (أسامة الجبلي. . . كان أحد أكابر الأمراء. وكان بيده قلعة عجلون وكوكب. . . اعتقله العادل بقلعة الكرك سنة تسع وستمائة. واستولى على حواصله وأملاكه وأمواله. وكان قيمة ما أخذه منه قريباً من ألف ألف دينار؛ من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية).

أما أسامة بن مرشد. . . بن منقذ، فلم يدرك القرن السابع، ولا أيام العادل. بل توفي أواخر القرن السادس، أيام صلاح الدين سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ولم يذكر أحد إنه بنى بدمشق حماماً.

أنظر تنبيه الطالب للنعيمي (مخطوط) المدرسة البادرائية - مختصر تنبيه الطالب للعلموي. ص35 (مطبوعات مديرية الآثار العامة) - البداية والنهاية لأبن كثير ج13، ص63 - النجوم الزاهرة ج6 ص107 -

، ، ، 22 - ، 1930.

ولأخي الأستاذ، خالص تحيتي.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

شعاب قلب:

أهدى الأستاذ حبيب الزحلاوي مجموعة قصصه (شعاب قلب) إلى الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك، فكتب إليه الكتاب الآتي:

تحية طيبة وبعد فقد تفضلتم فأهديتم إلى مجموعة قصصكم (شعاب قلب) وتوفرت على

ص: 47

التمتع بقراءتها ولم أقدم على كتابة هذا الشكر الواجب إلا بعد أن فرغت من قراءتها.

وقد كانت متعة كبرى في خلال هذا الأسبوع الذي قضيته في عمل متصل إذ حملتني صورها إلى آفاق شتى من المعاني تتصل كلها بصميم النفس الإنسانية. وقد راعني فيها أسلوب رصين متين فيه السلاسة وفيه الجزالة كما راعني من صوره كثير مما يهز النفس ويدفعا إلى القصة الأولى (غريب) وإلى السادسة (هواجس) فإنها تجمع إلى الأسلوب المتين وضوح الصورة وحبك الحوادث واطراد السباق في الأسلوب بغير ما يعوق مثول أهم الأشخاص دائماً في (بذرة) الاهتمام.

فأهنئك على هذا المجهود الكبير وأرجو لكم دائماً حسن التوفيق ولك شكر مكرراً وتحياتي خالصة.

محمد فريد أبو حديد

حول (انطلى عليه):

في بريد (الرسالة) الأدبي في العدد (713) كلمة تحت عنوان (في اللغة) بإمضاء (فلسطيني) يخطئ فيها استعمال الفعل (انطلى عليه. . .) بمعنى جاز عليه، ويقول إنها جاءت عن طريق الترجمة. . .

وعليه أقول: لو إننا تركنا المعاجم أو التعابير القديمة لوجدنا كلمة (الطلاء) وهو ما يطلي به الشيء أو يدهن، لتغيير لونه الأصيل الباهت أو تضييع معالمه، ومن الممكن الجائز اشتقاق الفعل (انطلى عليه الأمر) بمعنى اغتر بطلائه دون أصله، وظن خيراً ما يمكن تحته الشر كالنار في الزند. . . ومنه يقال (انطلت عليه الحيلة) أي جازت عليه بغير تفطن إلى الأصل الذي غيبه الطلاء

وإذاً، فالتعبير على هذا الأساس صحيح لا غبار عليه ولا التباس فيه. . . والسلام.

(الزيتون)

عدنان

تصويب:

ص: 48

جاء في كلمة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي المنشورة في العدد الماضي، تحت عنوان (حول أبي هريرة) إن حديث أبي هريرة: دخلت على رقية الخ جاء في كتاب التاريخ الصغير للبخاري (ص100) والصواب (ص10).

ص: 49

‌الكتب

يوم ميسلون

(تأليف الأستاذ ساطع الحصري بك)

بقلم الأستاذ حبيب الزحلاوي

الأستاذ ساطع الحصري مؤلف هذا الكتاب، علم من أبرز أعلام الرجال في البلاد العربية، وعالم محقق مدقق، صبور على التتبع، مفطور على التقصي والتحليل، ومرب فاضل له في المعارف رأى صائب سديد، وفي السياسة باع طويل، ودراية واسعة، ولباقة نادرة، ما وكل إليه شأن من شؤون الدولة إلا قام به خير قيام، ولا أسند إليه عمل من الأعمال إلا بلغ به الغاية من التمام.

من أحدث مؤلفاته كتاب (يوم ميسلون) وليوم ميسلون شأن أي شأن في تاريخ الأمة العربية، فإن أحداثه الكبرى برغم إنها دكت عرشاً، وأنزلت بالشعب السوري هواناً، وأقامت بدلاً من العرش وهو رمز الأمة، طوداً للاستعمار البغيض جثم على الصدور، وثلم الكرامة الواعية. فإن تلك الأحداث على عنفها لم تكن عاجزة فقط عن قتل روح الأمة ومحو قوتها المعنوية بل كانت باعثاً من أكبر البواعث على الاستفزاز وعلى النشاط للجهاد ومحو آثار ذلك اليوم المشئوم، ودرء أخطار مثله.

قرأت الكثير مما كتبه الفرنسيون في تبرير يوم ميسلون، وسمعت الكثير من أقوال رجال سورية العاملين، منهم الذين شاركوا في التمهيد ليوم ميسلون، ومنهم من عمل ليتفادى أو يستبدل أحداث ذلك اليوم المشئوم، فلم أقع على ما يروى غلة متعطش إلى معرفة الحقيقة، ولكن هذا الكتاب، لا يغير فقط طريق المؤرخ، بل يعطيه الوثائق والأسانيد الصحيحة ويطلعه على حقائق كان بعضها خافياً على الكثيرين من رجال الحكم، وبعضها الآخر كان يعمل على إخفائه رجال الحكم أنفسهم، أو تجار الوطنية من عباد الوظائف الكبرى، وعلى طمس معالمه حتى لا تثلم زعامتهم، ولا يفتضح أمرهم عند سواد الشعب، الذي كان حتى الأمس القريب، يؤخذ بالتقاليد العتيقة البالية فيحترم فلاناً الحاكم أو الزعيم لا لفات تؤهله للزعامة أو الحكم، بل لأنه من آل فلان الحاكمين أو الأثرياء. . ويمجد علاناً الموظف لأنه

ص: 50

يشغل معقد الوظيفة

يقول المؤلف الفاضل (إن حوادث يوم ميسلون لم تكن بنت ساعتها، بل كانت صفحة من صفحات القضية السورية، والقضية السورية نفسها لم تكن قضية قائمة بذاتها، بل كانت جزءاً من القضية العربية، كما إن القضية العربية كانت وثيقة الارتباط بالمسألة الشرقية) ولكي يقيم المؤلف الدليل على هذه الارتباطات المتسلسلة أنشأ فصلاً كان بمثابة تمهيد يبرز أطماع فرنسا في سورية جعل مردها إلى الحروب الصليبية، كما كان بمثابة توضيح لسياستها الاستعمارية التي سلكتها في الربع الأول من القرن الثامن عشر، وقد أخذت منذ ذلك الحين تبسط نفوذها على بلاد إسلامية واسعة الأرجاء، وتعلن إنها صاحبة إمبراطورية إسلامية وإرث عظيم يؤول إليها من تركة الدولة العثمانية، ويستعرض المؤلف الفاضل ببراعة وإيجاز فصل اصطدام فرنسا الاستعمارية بالعقبات الدولية وتناحرها من الإنجليز، أصحاب الإمبراطورية التي لا تغرب الشمس عنها لامتدادها في أصقاع الأرض، لينتهي إلى الاتفاق الذي تم بين الدولتين الحليفتين، فرنسا وإنجلترا على تنفيذ معاهدة سايكس - بيكو بنصوصها وحذافيرها، وكان ذلك الاتفاق بمثابة مقدمة لحلول القضاء المشئوم يوم ميسلون.

فصول الكتاب متعددة متنوعة بارعة، ولعل أبرعها الفصل الذي تم فيه اختيار أعضاء مجلس المديرين زميلهم السيد ساطع الحصري وقد حبذ الملك رأيهم للسفر إلى مقر قيادة الفرنسيين في لبنان قبيل زحف الجيش الفرنسي على سورية للتفاهم مع الجنرال غورو المندوب السامي، خصوصاً وقد قبل وزير الخارجية السورية كافة المطالب الفرنسية: ففي هذا الفصل يصف المؤلف البارع الموقف أبلغ وصف، ويكشف القناع الشفاف عن مطامع الفرنسيين المستعمرين، وكيفية توسلهم بكل وسيلة تحقق أمانيهم وتدرجهم في الطلب حتى يستوفوا أغراضهم تامة كاملة. ثم يفضح أذناب المستعمرين من أبناء سورية بسرد نتف من أعمالهم ولمحات من تصرفاتهم وسكوته المهذب عن ذكر أسمائهم، فتنطق الأعمال بلسان أوضح من تبيان الأسماء، فلا يتمالك القارئ من استنزال لعنة يصبحها على ذلك الزعيم الخسيس أو ذاك المتكالب على الوزارة أو الطامع في وظيفة، أو هذا المائع المتفلسف يلبس لكل حالة لبوسها.

ص: 51

في الكتاب فصول عدة لا محيد لكاتب تاريخ سورية من اقتباس بعضها بالنص، والاستئناس والاسترشاد ببعضها الآخر لأنها بمثابة متون تحتاج إلى شرح وتفصيل.

يرى المؤلف الفاضل أن واقعة ميسلون - وإن كانت بمثابة الفصل الأخير من رواية (المنافسة الدولية) التي حامت حول سورية - فإنها كانت في الوقت نفسه بمثابة الفصل الأول من منقبة (المنافسة الوطنية القومية) التي قامت في سورية ضد القوى الفرنسية. فهذا القول صحيح لا غبار عليه، وإننا نتمنى مخلصين أن تكون أعمال المتنافسين قد انتهت لتتجه الاتجاه الخاص في بناء الملك على أوطد دعائم العدل والأمن والقوة بشرط أن لا تأخذها نشوة الانتصار بإجلاء الفرنسيين وتنام عن تقلبات السياسة وألاعيب عباد كراسي الحكم.

يطول بي المقام لو وقفت حيال كل موضوع من مواضيع هذا السفر القيم، ولكني أدعو قراء العربية إلى إقتنائه، ومن ثم أقف لأعترف بفضل مؤلفه الرجل الكريم الذي دون أحداث أمة ناهضة وعلم ناشئتها وما برح يعلمها كيف تزجر زعماؤها وكيف تهدي حكامها سبيل الحرية والاستقلال.

حبيب الزحلاوي

الشريد

(تأليف علي بك حلمي)

للأستاذ محمد خليفة التونسي

بين يدي بهذا العنوان مسرحية ذات ثلاثة فصول كتبها علي بك حلمي مدير جرجا.

1 -

فالمؤلف - مع إنه من رجال الإدارة والشرطة - يمتاز بإطلاع واسع وعميق، وهو - إلى ذلك - أديب يكتب المقالات ويدبج المسرحيات، وأقرب الأمثلة إلينا بحثه الممتع (محمد والأمن العام) الذي نشرته الرسالة في عددها (710، 711) وهذه المسرحية.

2 -

والمشكلة الكبرى التي تدور حولها هذه المسرحية هي مشكلة الطفولة المحرومة من عطف الآباء والأمهات وحمايتهم، والطابع المصري يبدو واضحاً راسخاً على كل ما في المسرحية سواء في ذلك موضوعها الأكبر، والحوادث التي تظهر دقائقه، والشخوص التي

ص: 52

تظهر فيه، وهذا امتياز كبير قل أن يتوفر اليوم في إنتاجنا القصصي عامة والمسرحي خاصة، فهو قصص عاطل من السمات والملامح المحلية حتى إن الناقد يبحث فيما يقرأ عن المؤلف والبيئة التي نشأ فيها قصصه والشخوص المفردة التي يعبر عن حياتها فلا يكاد يفوز - مهما جد - بطائل، فمن الممكن أن يقع بعد ألف عام أو قبل ألف، هنا أو في أي مكان من الأرض أو غيرها حيث يمكن أن يكون بشراً، فإذا ظفر الناقد بعد الكد بشيء من هذه السمات والملامح لم يجدها إلا حائلة حائرة مائعة، مع أن الخصائص أول شرط من شروط الإنتاج الأدبي عامة والقصصي خاصة، والخصائص في مسرحية الشريد بارزة لا في مشكلتها الكبرى وحوادثها وشخوصها الأساسية فحسب، بل في المشكلات الثانوية المنتثرة فيها دون قصد خاص إليها.

3 -

وقد جاءت هذه المسرحية في أبانها، فمشكلة الطفولة المشردة من مشكلاتنا القائمة بيننا الآن بكل متاعبها، وأعباؤها لا تزال تثقل كواهل كثير من أولي الأمر فينا في عدة وزارات، كما تشغل عقول كثير غيرهم من محبي الإصلاح ودعاته.

وعلى الرغم مما قرأته من بحوث متعددة لكثير ممن كتبوا في هذه المشكلة حكوميين وغير حكوميين - لم أستطع أن ألم بخفاياها وصعوباتها وطرق علاجها كما ألمت بها من هذه المسرحية فهي تصور أوضح تصوير حياة الأطفال المشردين بكل ما تزخر به من منغصات وأوجاع، وما يتعرضون له من استغلال الزعار والشطار لهم ليعيشوا فساداً في الأرض، والتخفي وراء براءتهم والشفقة عليهم للعبث بقوانين المجتمع ونظمه وحماته توقياً من العواقب الوخيمة، فهم يسخرونهم في السطو والاختلاس والتجارة المنكرة بالأغراض والسلع المحرمة؛ كي يضللوا حماة الأمن الذين لا يجدون في هؤلاء الأبالسة الصغار غير أطفال ملائكة أطهار جنى عليهم آباؤهم وحرمهم المجتمع عنايته دون ذنب، فهم لا يستحقون منهم إلا العطف والعون، مما يتيح لفساد محركيهم في الخفاء أن يستشري ويتسع دون أن يفطن إليه الموكلون بدرئه.

ولا شك إن صلة المؤلف بهذه المشكلة أهم عوامل نجاحه في تعرف حدودها وخفاياها وأساليب علاجها الميسورة.

ص: 53

‌القصص

الجاسوسة العاشقة

عن الإنجليزية

للأديب شفيق أسعد فريد

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

دخلت فانيا شرفة الفندق فانحنى لها الخادم بينما وقف إليوت لاستقبالها. . . وقبل الشاب أناملها في رفق. . . وحين جلسا بادرها قائلاً:

- أصغي إلي يا فانيا. . . يجب أن أرحل هذه الليلة. . . إنني متأسف كثيراً لذلك، بيد أن الأمر جد هام أعني أن لدى أعمالاً تستلزم رحيلي إلى الغرب. . . فقد وصلني اليوم خطابك. . . فقاطعته قائلة: أعمال. . . لم أكن أدري أنك قدمت إلى موسكو لأجل العمل. ولكن خبرني، ألا ترجع ثانيةً لموسكو. . .؟ وهل أنت ذاهب بعيداً. . .؟

فأجاب: إني ذاهب إلى باطوم. . . ولكنني سأعود ثانية فإن الأوامر التي عندي تقضي على بالبقاء في باطوم لمدة أسبوع. . . سوف أشعر بكثير من الوحشة لفراقك يا فانيا. . .

وشعرت الفتاة بشي من الاضطراب إذ لم يبلغ سمعها أي نبأ عن وصول مثل هذا الخطاب. . . وخطر لها أن تتحرى الحقيقة من أعوانها. . . فاستأذنت الشاب لبضع دقائق.

ودخلت فانيا الغرفة السرية التي يحتلها مندوب قلم المخابرات السرية في الفندق. . . ونظرت إلى الرجل الذي كان يجلس إلى المكتب وقد ارتدى معطفاً غليظاً. . . ثم قالت:

- يقول الشاب إنه ذاهب إلى باطوم الليلة وذلك بناء على التعليمات التي أرسلت إليه في خطاب وصله اليوم. . . وسيعود إلى موسكو ثانية بعد أسبوع.

فهتف الرجل قائلاً: ليس هناك خطاب أيتها المواطنة. . . إننا ندري كل شيء عن المحادثة التليفونية. . . على كل حال ستذهبين إلى باطوم الليلة. . . وسأنظر في أمر جواز سفرك. . . على إني أعتقد إنه لمصلحة المهمة التي تقومين بها ينبغي أن تسافري بالدرجة الثالثة. . .

كان قطار الغرب مزدحماً ازدحاماً شديداً في تلك الليلة. . . ولقد استطاعت فانيا أن تجد

ص: 54

مقعداً خالياً بصعوبة شديدة. . . وبعد أن وضعت السلة التي كانت تحملها فوق المقعد غادرت العربة. . . ووقف فوق الرصيف ترقب وصول إليوت. . . ولم يمض أكثر من بضع دقائق حتى رأته يشق لنفسه طريقاً وسط الزحام الشديد. . .

ووصل القطار أخير إلى باطوم بعد رحلة شاقة. . . فغادرت فانيا العربة وراحت تراقب إليوت عن بعد. . . واستمرت في رقابتها حتى انصرف من المحطة واستقل سيارة ثم انطلق إلى فندق باطوم. . .

وفي المساء تسلل شبح إلى ممر فندق باطوم ولم يلبث هذا الشبح أن دخل إحدى الغرف في هدوء. . . وتلفت فانيا حولها فوجدت أن رجال قلم المخابرات قد زودوها بكل ما يلزمها في عملها. . . ولم تمض لحظة حتى طرق رئيس قلم المخابرات السرية في باطوم الباب. . . وحين دخل بادر الفتاة قائلاً:

- لقد كانت حيلة مرض الأخ الأصغر حيلة تدل على الذكاء النادر، على إنني واثق إن بين اليوت ومحادثه طريقة سرية للكلام، وفي اعتقادي أن كلمة بورد وتعني باطوم وأن سان سباستيان مثلاً يقصد بها سبستابول. . . يا له من أمر مضحك. . .

فقالت فانيا: ماذا تعتقد إنه سيحدث. .؟

فقال الرئيس: أعتقد. . . إنني متأكد مما سيحدث لأن من واجبنا معرفة الحقائق. . . يوجد شخص معين في باطوم يعرف الكثير من المعلومات الهامة عن أحد المشروعات الهندسية الكبيرة التي ستنفذها الحكومة على نهر فولجا. . . إن هذا الرجل روسي لسوء الحظ. . . ولما كانت معلومات هذا الرجل تهم الكثيرين من المهندسين الأجانب وبخاصة الإنجليز منهم فقد جاء أليوت لمقابلة هذا الرجل للحصول منه على ما عنده من المعلومات. ومع ذلك فإن الرجل لن يستطيع أن يبوح بهذه المعلومات إلا مرةً واحدة. . . وسوف نمكنك من سماع ما سيدور بين الرجلين من حديث بواسطة تليفون سري أعد لك في الغرفة رقم 114. . . والآن أريد أن أوجه انتباهك إلى إننا نريد الرجلين معاً. . . سوف نكون في حاجة إلى شهادتك فيما بعد. . .

تلفتت فانيا حولها في اشمئزاز، فقد شعرت للمرة الأولى بالكراهية للعمل الآلي الذي تقوم به. . . والواقع إنها كانت تحس اضطراباً داخلياً لم تستطع مقاومته. . . كانت تريد أن

ص: 55

تطلق الجاسوسية ومؤامراتها وإيقاع الأبرياء في حبائلها لتسوقهم إلى الهلاك. . . أجل لقد شعرت بأنها امرأة شريرة. . .

واستولى الإعياء عليها، وشعرت برعب عظيم يتسرب إلى قلبها ولكنها استطاعت أن تقاوم هذا الذعر وبدأت تفكر في هدوء!

ودق جرس التليفون فجأة فأفاقت من تأملاتها. . . وسمعت صوت عامل التليفون يعلن أن رجلاً اسمه المستر راكوف قد اتصل بالمستر أليوت وطلب إليه أن يحدد له موعداً للمقابلة كي يطلعه على النماذج اللازمة. . . ولقد حدد المستر أليوت الساعة السادسة للمقابلة في الغرفة رقم 110. . .

وبدأ للفتاة أن وقت العمل قد حان، فقد أستقر رأيها على أمر معين وصممت على تنفيذه مهما كانت العقبات التي تعترض سبيل هذا التنفيذ. . .

وتسللت فانيا من غرفتها إلى الشرفة في هدوء. . . وتقدمت إلى الغرفة رقم. . . وطرقت النافذة في رفق، وحين فتح اليوت النافذة وضعت في يده مذكرة صغيرة كانت قد أعدتها في غرفتها ثم قفلت راجعة دون أن تلوى على شيء. . .

كان قلبها يدق في عنف ووحشية. . . وشعرت بنوع من الحمى يدب في جسدها، ولكنها - مع ذلك - شعرت بشيء من الطمأنينة إذ حذرت الشاب في الوقت الملائم.

وفي الساعة الثالثة سمعت فانيا وقع أقدام الشاب في الدهليز وصوت أقدامه وهو ينزل الدرج - وراحت تتساءل: ترى هل سيعمل بنصيحتها. . .؟ وهل ستنقذه هذه النصيحة من مصيره المحتوم؟!

لم تكن ترتاب في أنه إنما قدم إلى الروسيا ليبتاع معلومات لو إنها أذيعت لسببت متاعب جمة لحكومة السوفييت. . . إنه أحد أعداء بلادها ويجب القضاء عليه بكل الوسائل الممكنة. . . ولكن. . . يا لله. . . لقد أقدمت على خيانة وطنها خيانة عظمى دون أن تدري لذلك سبباً. . .

ودقت الساعة في بهو الفندق معلنة الرابعة والنصف ومع ذلك لم يعد أليوت. . .

وحين دقت الساعة الخامسة بدأت تتساءل: ترى هل هرب؟

ونظرت الفتاة إلى ساعتها فإذا بها السادسة إلا ربعاً. . . وما هي إلا لحظات حتى سمعت

ص: 56

وقع أقدام في الدهليز أعقبها طرق على بابها. . .

ودخل الخادم لينبئها أن شخصاً جاء لمقابلة المستر إليوت في غرفته وإن هذا الرجل موجود فعلاً في غرفة الانتظار في تلك اللحظة. . .

كان هذا الإعلان نذيراً ببدء العمل. . . فالتقطت فانيا سماعة التليفون ووضعتها فوق أذنها وراحت تصغي. . .

كان الصوت واضحاً حتى لقد استطاعت فانيا أن تسمع صوت تحرك اليوت في الغرفة. . . وخطر لها أن تصيح لتحذره ولكن أني لها ذلك. . .

وسمعت الفتاة وقع أقدام في الدهليز فعرفت أن المستر راكوف في طريقه إلى مقابلة أليوت في الغرفة رقم 110.

واستولى عليها الاضطراب حتى لقد سقطت منها حقيبتها اليدوية. . . وفجأة سمعت الحديث الذي دار بين الرجلين. . .

كان الصوت واضحاً عالياً. . .

وراحت تصغى وقد أدركت أنها لن تستطيع الفرار من مواجهة الأزمة. . .

كان أليوت يتكلم بصوت عالِ بكلام لا معنى له دون أن يجعل لرفيقه فرصة الكلام.

إذن فقد أدرك الشاب إن هناك من يسترق السمع. . .

وأسرعت الفتاة فوضعت السماعة مكانها وهرعت نحو الباب وأشارت إلى الخادم إشارة فهم المقصود منها. . .

وفجأة امتلأ الدهليز برجال قلم المخابرات السرية. . . وحين واجهها رئيسهم باسماً قال:

- هل سمعت ما فيه الكفاية أيتها المواطنة؟

وصاح أحد الرجال في تلك اللحظة:

- افتحوا الباب وإلا حطمناه. . .

وفتح الباب فجأة بينما اندفع الرجال داخل الغرفة.

كان أليوت باسماً على حين كان راكوف أبيض الوجه يرتجف من الخوف. . .

وفتش الجند الرجلين بسرعة وفي خشونة وعنف. . . بينما وقفت فانيا على مبعدة وقد أطرقت برأسها إلى الأرض.

ص: 57

وقال رئيس الجند: تعاليا معي لتوضحا مسلككما الحالي. . .

لقد استطاعت هذه المواطنة أن تسمع الحديث الخطير الذي دار بينكما منذ لحظة.

ولاح لفانيا إنها تشاهد إحدى المهازل. . . ولم يبق لديها شك في أنهما وقعا في الفخ

وأخيراً قالت في صوت مبحوح: لقد سمعتهما يتحادثان أيها الرئيس، ولقد استنتجت من حديثهما إنهما يتكلمان طبقاً لطريقة خاصة!. . لقد ذكرا أنهما يتوقعان محادثة تليفونية من بوردو بخصوص حالة أخي المستر أليوت الصحية.

ودق جرس التليفون في تلك اللحظة فانصرفت أنظار الجميع إلى الآلة الصغيرة الموضوعة على منضدة بجوار السرير. . . وكاد أليوت يتناول السماعة حين منعه رئيس الجند من ذلك وتناول هو السماعة ثم قال رداً على المتكلم:

- ماذا تقول. . .؟ مكالمة خارجية. . .! مستعجلة. .! تقول إنها للمستر بارنجتون. . حسن. . . ماذا؟ من بوردو. . .!

والتفت رئيس الجند حوله في غضب. . . وأخير قال لفانيا:

هل تتكلمين الفرنسية. . .؟ حسن! يمكنك أن تصغي للمتكلم. . . أخبريه أن المستر فارنجدون مريض أو بالخارج أو ما شابه ذلك. ووضعت فانيا السماعة على أذنها وبدأت تصغي. . . وقالت رداً على المتكلم:

- أجل. . سوف أخبر المسيو أليوت. . تقول إنه أحسن حالاً. . هذا بديع. . لقد كان المسيو أليوت قلقاً على أخيه. . .

- حسن! سأخبره بذلك يا سيدي. . . الوداع. . .

والتفت إلى رئيس الجند وهي تقول:

- إن المكالمة من بوردو كما ذكرت وهي مكالمة خاصة للمستر أليوت. . . إنها تقرير عن صحة أخيه. . . يلوح أننا أخطأنا يا سيدي. . . ربما أخطأت في إدراك مغزى حديثهما. . .

وبدأ الغضب واضحاً على رئيس شعبة قلم المخابرات السرية في باطوم وعض على شفتيه قهراً ثم ألقى نظرة غاضبة على أليوت والتفت إلى فانيا قائلاً:

- حقاً. . ربما أخطأت أيتها المواطنة. . . إن الإنسان معرض للخطأ. . . وعلى ذلك

ص: 58

فهاأنذا أتقدم للمستر فارنجدون باعتذاري وأنا جد واثق إنه يقدر المتاعب والأخطار التي تعترض سبيل عملنا الدقيق. . . إني أعتذر إليك للمرة الثانية يا مستر أليوت والتفت إلى راكوف قائلاً: أما أنت فاتبعني.

وحين غادر الجميع الغرفة التفت أليوت إلى فانيا وقال في صوت رقيق: خبريني لماذا أقدمت على هذه المخاطرة من أجلي؟

فقالت: الواقع أنني لا أدري يا أليوت. . . لقد شعرت بالملل فضحك. . .

وفجأة ضمها إلى صدره في حنان ثم قال: والآن سوف نذهب معاً إلى بوردو. . .

شفيق أسعد فريد

ص: 59