المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 723 - بتاريخ: 12 - 05 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٢٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 723

- بتاريخ: 12 - 05 - 1947

ص: -1

‌لوازم الحديث

للأستاذ عباس محمود العقاد

كان الحديث عن آفاك الأرمني الذي قيل إنه طبيب روحاني يشفي الأمراض المستعصية ويلمس المريض مرة أو مرتين فينهض سليما معافى.

وكان المتحدث رجلا يصدق من الغرائب والمفارقات بمقدار ما فيها من مفاجأة الناس ومصادمتهم بالمستبعد المستغرب من الأمور. . . له في الحديث لازمة هي كلمة (لا) النافية. يقولها عشرين أو ثلاثين مرة في الجلسة الواحدة، ويقولها لمن يوافقه ومن يعارضه، ولمن يقبل كلامه على علاته ومن يرفضه (على طول الخط) كما يقولون. ويخيل إليك وأنت تستمع إلى حديثه إنه يفضل إنكارك كلامه على موافقتك وتأمينك. لأن الإنكار يفتح له باب الجدل والاستمتاع بتلك الكلمة المحبوبة لديه، البغيضة إلى الناس اجمعن، وهي كلمة (لا) النافية ومرادفاتها في اللغة العربية.

قال: إن أفاك شفى مشلولا كسيحا لا ينهض على قدميه.

قالها والتفت إلى متوقعا أن أنكر منه هذا الخبر، واجزم باستحالته أو استبعاده.

فخيبت ظنه وقلت: يحصل. نعم يحصل في الزمن القديم وفي هذا الزمن. وقد حصل على أيدي الأطباء الذين لا ينتحلون لأنفسهم قدرة روحانية ولا كرامة من كرامات الأولياء. وحصل في عهد العباسيين قبل هذا العهد الحاضر الذي عرف الناس فيه علم العلاج النفساني وسلكوه في عداد العلوم الطبيعية. وذكرت قصة الجارية التي كان الرشيد يحبها فرفعت يدها ذات يوم فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها، وعولجت بالتمريغ والدهن فلم ترجع يدها إلى حركتها. فلما استدعى ابن بختيشوع لعلاجها قال الرشيد: إن لم يسخط على أمير المؤمنين فلها عندي حيلة: تخرج الجارية إلى هاهنا بحضرة الجميع حتى أعمل ما أريده فأمر الرشيد بالجارية فأحضرت، أسرع إليها الطبيب وأوثق يدها الطليقة وأمسك ذيلها وكأنه يريد أن يكشفها. فانزعجت الجارية وبسطت يدها المعتقلة إلى أسفل. وكان ذلك شفاءها.

هذا وأشباهه جائز في الطب مشاهد في الواقع، والمعمول فيه على استفزاز القوى الحيوانية من طريق المؤثرات النفسانية. فإذا كان آفاك يملك القدرة على استفزاز هذه

ص: 1

القوى في نفوس معتقديه فلا مانع فعلا أن يشفي بعض الأمراض بهذا النحو من العلاج.

وليس المهم في مقالنا هذا هو حديث آفاك الأرمني وان كان حديثه ليجري الآن على كل لسان. وإنما المهم (لا النافية) على لسان صاحبنا الذي آمن بآفاك ليقولها ويسمعها من سامعيه!. . فقد ظننت أنني أخذت عليه الطريق وانتزعت هذه الكلمة من بين شدقيه. فإذا هي والله أول كلمة علق بها على هذه القصة، وإذا به يفتح فاه ليقول: لا. ليس هذا قصدي. . .

قلت لا. بل ينبغي إن يكون هذا قصدك. ماذا تعني أيها الرجل (بلا) هذه التي تفاجأ بها الناس موافقين أو مخالفين؟ قلت إن آفات يشفي المرضى فقلنا لك: يحصل. فأين موضع (لا) هنا لا حرمك الله سماعها من كل لسان؟

فانقبض واستخزى. وكانت عنده بقية أدب في الخطاب فقال معتذرا: والله إنها لازمة. ولازمة ذميمة والحق يقال. ولكن ما العمل في العادة وسيئاتها قبحها الله!

وخطرت لي لوازم الكلام عند اكثر المتحدثين؛ فسألت نفسي: أيها يا ترى خير وأفضل. (لا) هذه التي تقال في كل جواب؟ أو (نعم) ومرادفاتها التي تعود بعض الناس أن يعقبوا بها على النقيضين في مجلس واحد؟

- حبذا لو خلت مصر من الأحزاب.

- صحيح.

- ولكن الأحزاب ضرورية في الأمم الديمقراطية.

- صحيح والله!

- إلا إن الديمقراطية قد تستغني عنها في بعض أوقات التطور والانتقال.

- معك حق. فهذا صحيح.

فكم من المتحدثين يستمع إلى أمثال هذا التعقيب في كل يوم وبين كل طائفة من الناس؟ وكم تسوءهم هذه الموافقات وهم ينتظرون الشجاعة الأدبية من ذوي الرأي فلا يرون بينهم وبين الجهلاء الإمعات من خلاف؟

إن كانت هناك (نعم) شر من (لا) فهذه النعم شر من جميع اللاءات وجميع أدوات النفي على الإطلاق.

ص: 2

ومن اللوازم ما هو أعجب من الموافقة والإنكار على هذا المنوال؛ لأنها لازمة تلقى على المستمع تهمة لا ذنب له فيها ولا مناص له من دفعها.

تلك هي لازمة (على رأيك) عند بعض الناس.

يحدثك عن رجل لا تعرفه ولعلك لم تذكره قط في حياتك، فإذا به يقول:(على رأيك إنه رجل لئيم). . . ويمضي في تحميل رأيك المظلوم تبعات هجائه وأنحائه وأنت لم تر شيئا مما اتهمك برؤيته، ولم يفكر هو بعقله في إسناد التهمة إليك وإنما جرت التهمة (البريئة) على لسانه من حيث لا يريد.

وحضرت مجلسا فيه واحدا من أصحاب هذه اللازمة وهم غير قليلين. فصرح أحد السامعين الذين اتجه إليهم الحديث مستغيثا:

يا شيخ حرام عليك! متى وصفت الرجل بهذه الصفات؟ وهل هو رأيك أو رأيي الذي تحكيه وترويه؟

وضحك صاحبنا وكان ظريفا حسن التخلص. فراح يقول: هو التواضع يا فلان. هو التواضع. وهل يليق بأدب الحديث إن أقول: هذا رأيي! هذا رأيي في كل ما أرويه واحكيه؟

ومن اللوازم ما يبعث الضحك ولا يبعث الفزع كهذه اللازمة التي يلازمها الاتهام، لا قد يضحك الحزين إذا غلبت عنده روح الفكاهة على روح الجد والصرامة.

من هذه اللوازم لازمة كانت لأحد القضاة المشهورين يرددها وهو ذاهل عما يسمع وذاهل عما يعنينه. وهي لازمة (برافو برافو) التي يتخلص بها من التفكير فيما يقول.

ولقي شابا كان يعرف أباه فسأله: أين أنت الآن؟ قال: موظف في هذا الديوان. . .

قال: برافو برافو. وأين أبوك؟

قال: تعيش. . مات منذ شهور.

فلم يلبث إن حيا أباه تحية الاستحسان المعهودة. لأنه مات!

لكن اللازمة البغيضة حقا تلك اللازمة التي تضطرك إلى الجواب على كل فقرة من فقرات الحديث كأنك في محضر تحقيق

- أخذت بالك؟ (فاهمني)؟

ص: 3

ولابد من الجواب، ولابد من انتظاره جوابا ملفوظا لا يغنى عنه الإيماء ولا السكوت.

ومن هؤلاء من يبدي لك الرأي ثم يسألك:

هل أنا غلطان؟

فتقول مثلا: معاذ الله. بل أنت على صواب.

فلا يكتفي بذلك ويعود سائلا: إن كنت غلطان قل لي. هل أنا غلطان بالله؟

لا لست بغلطان.

لا لا. إن كنت غلطان فقل لي ولا تخف الحقيقة عنى. إنني رجل صريح. أليس هذا الواجب؟

ويكررها: أليس هذا الواجب؟ أليس هذا الواجب؟ حتى تفض المشكلة بقسم غليظ. . . فيصدق انك قد آمنت بأنه ليس (بغلطان).

وقد تكون اللازمة التي من هذا قبيل عقلية تأتى من نقص الوعي والإدراك ولا يقف بها الأمر عند حب التكرار والإعادة مع فهم الحديث المعاد.

تسأل أحدهم: هل لقيت فلانا؟

فإذا هو قد أعد كلمة الاستفهام في منتصف السؤال وبادرك مستفهما: نعم؟

- هل لقيت فلانا؟

- فلانا؟

- أي نعم فلان!

ما له؟ أو ما باله؟ أو علام تسال عنه.

ولا يعي إنك تسأله عن لقائه إلا بعد السؤال الثالث أو الرابع على هذا المنوال. وهي عادة غالبة على الطبقة الجاهلة في بلاد الريف على الخصوص مرجعها بطئ الحركة الذهنية وإهمال الكلام واعتباره لغوا لا يرتبط بالتفكير ولا يحمل معناه إلا مع التوكيد والترديد.

وبعض هذه اللوازم لازم في الحديث المفيد، لأنه يعينك على تتبع الحديث والوقوف على مراحله وغاياته. كلازمة (نهايته) في موضوعها الصحيح، أو لازمة (على كل حال) أو (لا تؤاخذني) إذا كانت تهيئ الذهن حقا لسماع شيء يحتاج إلى الاستئذان أو طلب السماح. فهذه اللوازم في المحادثات أشبه بعناوين الفصول والأبواب في الكتب والمخطوطات.

ص: 4

ولكنها قد تتواتر وتتكرر حتى تفقد معناها ولا تتعدى أن تكون حشوا بغير دلالة. . .

ومن قبيل ذلك فنان قدير في فنه تلازمه كلمة (ثانيا) حين يقيم الأدلة على صحة فكرة أو مذهب من المذاهب الفنية. فإذا (بثانيا) هي أولا وثانيا وثالثا ورابعا إلى آخر العشرة، أو تزيد!

وكفى بمراقبة هذه اللوازم إنك تستمد منها سببا للإصغاء إلى الأحاديث سواء منها ما استحق الإصغاء وما استحق الأعراض. . . لأنك تسمع على الأقل (لوازم) تصلح للتفكه وتصلح للدلالة على الفوارق بين (الشخصيات) والفوارق بين أساليب الألسنة وحركات العقول.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌من معجزات القران

تفسير الآيات الأولى من سورة الروم

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

لم ينزل القران للأخبار بانتصار الروم فقط، بل للأخبار بأن المر كله لله وإنه سينصر المسلمين على ضعفهم وقلتهم في بضع سنين كما ينصر الروم. فتبشير المؤمنين بنصر الله لم يأت في الآية تبعا كما يوحي كلام المفسرين بل كان الأخبار بانتصار الروم تمهيدا للتبشير بنصر الله المؤمنين. والأخبار بغلبة الروم وحده فيه معجزة واضحة، وبيان لصدق النبوة ولكنه مع هذا لم يكن القصد الأول من نزول الآية الكريمة.

وينبغي إن نذكر هنا إنه حينما تمت الغلبة للروم وذهب هرقل إلى بيت المقدس في أعقاب ظفر توالى من القسطنطينية إلى بيت المقدس في ذلك الحين ذهب جيش إسلامي صغير إلى البلقاء - التي تسمى اليوم شرق الأردن - فحارب جيشا من الروم والعرب، وتلكم الوقعة المعروفة في التاريخ الإسلامي باسم غزوة مؤته. وقعت في السنة الثامنة من الهجرة، وهذه الغزوة التي يبال بها هرقل ولعله لم يسمع بها كانت فاتحة الغزوات الإسلامية التي نزعت الشام من سلطان هرقل وجعلته يقول وقد يئس من الشام: سلام يا سورية سلاما لا لقاء بعده. ولم يكن بين تمام الظفر لهرقل وبين تمام الهزيمة عليه في الشام وتسلط المسلمين عليها إلا بضع سنين، فبين غزوة مؤته وبين واقعة اليرموك ست سنوات من السنة الثامنة من الهجرة إلى السنة الرابعة العشرة.

لله الأمر من قبل غلبة الفرس على الروم ومن بعدها بل له الأمر قبل كل شيء وبعده لا شريك له في سلطانه. وبأمر غلب، الفرس على الروم عشرين عاما ولاء، ثم أديل للروم في بضع سنين ثم أديل للمسلمين على الروم في بضع سنين أخرى.

عل إن الله الذي له الأمر قد وضع للبشر سننا للنصر والهزيمة من سار على سنن النصر انتصر ومن أخذ بسنن الهزيمة هزم. ليس الأمر متروكا للفوضى أو الاتفاق.

ص: 6

ويومئذ يفرح المؤمنون - إلى - لا يعلمون.

في هذه الآية أخبار بأن المؤمنين سيفرحون بنصر الله حينما يغلب الروم الفرس. فهل نصر الله الذي يفرح به المؤمنون هو انتصار الروم. هذا بعيد، وما للمؤمنين يفرحون بانتصار الروم وهم عدو لهم كسائر أمم الأرض التي كرهت هذا النور الجديد حفاظا على تراثها من أديان وأباطيل، ثم في الآية: وعد الله لا يخلف الله وعده. فهل هو وعد الله المسلمين أن ينتصر الروم. لا. بعيد كل البعد أن يقال إن المسلمين يفرحون بانتصار الروم وقد الله المسلمين، انتصار الروم، إنما الوعد لمن يعود إليه الخير من الواعد، ولم يكن للمسلمين في انتصار الروم خير.

بين جدا أن الآية تبشر المؤمنين بنصر قد وعدوه، وأنهم سيفرحون بهذا النصر في السنة أو السنين التي يغلب فيها الروم فما هذا النصر؟

رجحت من قبل أن هزيمة الروم التي اهتم بها العرب فنزلت هذه الآيات وقعت حوالي سنة 615، فالنصر الذي يفرح به المسلمون حين يغلب الروم في بضع سنين من هذه الهزيمة، هو انتصارهم يوم بدر، وكانت وقعة بدر في السنة الثانية في الهجرة أي سنة 624 من الميلاد وبين 615، 624 بضع سنين.

وقد روى أن خبر انتصار الروم بلغ المسلمين وهم في غزوة الحديبية، وكانت الغزوة سنة ست من الهجرة، وهذه الرواية مردودة بدليلين:

الأول أن بين الحديبية وبين هزيمة الروم في الشام أكثر من اثني عشر عاما ولا يقال لهذه المدة بضع سنين.

والثاني أن الحديبية لم تكن نصرا فرح به المسلمون بل كانت صلحا رأى فيه الرسول الله صلوات الله عليه وسلامه خيرا للإسلام وكانت عاقبته خيرا، ولكن المسلمين حزنوا له حيثما وقع ورأوا فيه ذلا لهم إذ رجعوا عن مكة وقد خرجوا لدخولها والاعتمار بها.

على أن انتصار المسلمين، وظهور الإسلام قد بدأ بالهجرة وتوالى انتشار الإسلام، وانتصار المسلمين في الوقائع من بعد. فجائز ألا نخص النصر الذي يفرح به المسلمون بوقعة واحدة أو حادثة معينة، بل نقول قد وافق انتصار الروم أول عهد ظفر فيه المسلمون وعز دينهم وأول انتصار للروم وقع سنة الهجرة سنة 622 م كما أسلفت.

ص: 7

تضمنت الآيات خبرين عن المستقبل صادقين، انتصار الروم وانتصار المسلمين، وتضمنت كذلك أنهما يقعان في وقت واحد.

(ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) ولكن مشيئته جرت على أن ينصر من يأخذ بوسائل النصر، وفي القران الكريم:(ولينصرن الله من ينصره). (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)، (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللهينصركم ويثبت أقدامكم).

فنصر الله لا يؤتاه من أساء عملا، أو قعد عن التوسل إلى النصر بوسائله، أو أخذ بأسباب الهزيمة، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلا.

(وعد الله لا يخلف الله وعده).

هذا هو الوعد الذي في قوله: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وهو مطابق لوعد الله العام وسنته الدائمة أن ينصر المؤمنين ويؤيد المجاهدين، ويمكن الصالحين، (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات - إلى - فأولئك هم الفاسقون). (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). (الذين إن مكناهم في الأرض - إلى عاقبة الأمور).

فلا يقعد أحد ويرجو ثواب الساعين، ولا يفرط وينظر جزاء المجدين ولا يقصر ويبغ أجر المجاهدين، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى - إلى - الأوفى.

(ولكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى - غافلون).

أكثر الناس لا يعلمون سنن الله في خلقه، ونصره المؤمنين وتمكنيه الصالحين وهم غافلون عن القوانين الإلهية، والسنن التي يسير الخالق عليها عباده. وما قدره لأهل الخير وأهل الشر، وأنصار الحق، وأنصار الباطل. غافلون عن أن لله وعداً وأن وعده لا يخلف وسنته لا تبدل. عليها سارت الأمم، وتعاقبت الدول، وتقلبت الأمم، وتغيرت الجماعات، ولم تتبدل أو تتحول. أكثر الناس في غفلة عن هذا. (لم يتفكروا فيها ولم ينعموا النظر وأخذوا الأمور بالظن، وقاسوها بالوهم)، (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).

(إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون).

أكثر الناس لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، أمور من المحسات عرفوها بالممارسة، والتعود، أدركوها بالتقلب في المعاش، والتجربة. وهم في غفلة عن الحقائق الكبرى، التي

ص: 8

تتصل بالمبدأ والمنتهى والقوانين التي تسير الناس في الحياة، والتي تقضي بين الحق والباطل والخير والشر، وتفصل بين أمة مصلحة وأخرى مفسدة، وجماعة يغلب فيها الحق، وأخرى يسود فيها الباطل. وهم في غفلة عن الآخرة وما فيها من جزاء عادل، وقصاص حق.

عبد الوهاب عزام

ص: 9

‌من أحاديث الإذاعة

السعادة. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

كنت أقرأ في ترجمة (كانت) الفيلسوف الألماني الأشهر، أنه كان لجاره ديك، قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عمد إلى شغله صاح الديك، فأزعجه عن عمله، وقطع عليه فكره. فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ويذبحه ويطعمه من لحمه، ودعا إلى ذلك صديقا له، وقعدا ينتظران الغداء، ويحدثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجد بعده من لذة وراحة، ففكر في آمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه. . . .

. . . . ودخل الخادم بالطعام وقال معتذرا، إن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح!

فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح، وسعد به وهو لا يزال يصيح، ما تبدل الواقع ما تبدل إلا نفسه، فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته، وقلت: ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي إليها من غير طريقها ونلجها من غير بابها؟ إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك، لأن الأرض مملوءة بالديكة، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسد إذ أننا عنها إذا لم نقدر أن نسد أفواهها عنا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهواءنا؟

أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل الأرض بسيرها على الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تسمع الموتى، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة، وخطوة ثراها خفيفة. فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي. فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي، ولا صوت القطار وهو يهتز بي. فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك؟ وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟

ص: 10

ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره، وأن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد أقوى وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخفت، لأنك وجهت إلى هذا حسك، وأدخلته نفسك فسمعته على خفوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء، وأغفلت ذاك وأخرجته من نفسك فلم تسمعه على شدته، وخفي عنك كما تختفي في الظلام عظائم الموجودات فلماذا لا تصرف حسك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك. ولكن ما أدخلته أنت برضاك، وقبلته باختيارك، كما يدخل الملك العدو قلعته بثغرة يتركها في سورها. فلماذا لا نقوي نفوسنا حتى نتخذ منها سورا دون الآلام؟

أيها السادة المستمعون:

إني أسمعتكم تتهامسون. تقولون: (فلسفة وأوهام). نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذيانا. وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص، ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام:

يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغني فكأنه ما حمل شيئا، ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد فيتشاءم هذا ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة، فتسرع إليه ويسرع إليها. ويحكم على الرجلين بالموت، فيجزع هذا فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكم فكره، فإذا لم تنجه من الموت حيلته، لم يقتله قبل الموت وهمه. . .

وهذا بسمارك رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسلم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خل فكره، وساء تدبيره. وكان يوما في حرب فنظر فلم يجد معه إلا دخينه واحدة ولم يصل إلى غيرها، فاخرها إلى اللحظة التي يشتد عليها فيها الضيق ويعظم الهم، وبقى أسبوعا كاملا من غير دخان، صابرا عنه أملا بهذه الدخينة فلما رأى ذاك ترك التدخين، وانصرف عنه، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة. . .

وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري، أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعبانا،

ص: 11

فراجع الأطباء، وسأل الحكماء فكانوا يدارون الضحك حياء منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين. فلا يصدق.

حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير النفسيات، قد سمع بقصته، فسقاه مسهلا وادخله المستراح وكان قد وضع له ثعبانا فلما رآه اشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس العافية ونزل يقفز قفزا، وكان قد صعد متحاملا على نفسه يلهث أعياء، ويئن ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبدا.

ما شفي الشيخ لأن ثعبانا كان في بطنه ونزل، بل لأن ثعبانا كان في رأسه وطار، لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وان في النفس الإنسانية لقوى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.

تنام هذه القوى فيوقظها الخوف ويوقظها الفرح؛ ألم يتفق لواحد منهم أن يصبح مريضا، خامل الجسد، واهي العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حية تقبل عليه، ولم يجد من يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبا، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هده الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كرسيا يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له انه قادم الساعة من سفره، أو كتابا مستعجلا من الوزير يدعوه إليه ليرقي درجته، فأحس الخفة والشبع، وعدا عدوا إلى المحطة أو مقر الوزير؟

هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيا عذبا، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة.

أيها السادة والسيدات: إنكم أغنياء ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها زهدا فيها، واحتقارا لها.

يصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع الضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة، فلماذا لم يرها لما كان صحيحا بيضاء مشرقة؟ ويحمى عن الطعام ويمنع منه، فيشته لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها، فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟

لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها؟

لماذا يبكي الشيخ على شبابه ولا يضحك الشاب لصباه؟ لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت

ص: 12

عنا ولا نبصرها إلا غارقة في ظلام الماضي أو متشحة بضباب المستقبل؟

كل يبكي ماضيه، ويحن إليه، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيا؟

أيها السادة والسيدات:

إنا نحسب الغنى بالمال وحده، والمال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يؤتى بأطايب الطعام فلا يستطيع أن يأكل منها شيئا، لما نظر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيا؟

فلماذا لا تقدرون ثمن الصحة؟ أما للصحة ثمن؟

من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من انفه بأموال عبود باشا؟

أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء، وكاد يهلك جوعا وعطشا، لما رأى غدير ماء والى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس بأمل أن يجد فيه تمرا أو خبزا يابسا، فلما رأى ما فيه، ارتد يائسا، وسقط إعياء. لقد رآه مملوءا بالذهب!

وذاك الذي رأى مثل ليلة القدر، فزعموا إنه سال ربه أن كل ما مسته يده ذهبا، واستجبت دعوته، فلمس الحصى فصار ذهبا، ولمس الخشب فصار ذهبا، فكاد يجن من فرحته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه ليأكل فمس الطعام فصار ذهبا، وبقى جائعا، وأقبلت بنته تواسيه فعانقها فصارت ذهبا. . . فقعد يبكى يسال ربه أن يعيد إليه ابنته وسفرته وان يبعد عنه الذهب.

وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة فأنصفق عليه بابها فمات غريقا في بحر من الذهب.

يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وانتم تملكون ذهبا كثيرا؟ أليس البصر من ذهب والصحة من ذهب والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟

كلفتني المحطة بهذه الأحاديث الأربعة من شهر، فما زلت أماطل بها، والوقت يمر، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها ولا انتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبقى إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت انتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يوما، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرا وتبرا، واستفدت من كل لحظة حتى

ص: 13

إني لأكتب هذا الحديث والله، في محطة (باب اللوق) وإذا انتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك علي من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها، فلو إني فكرت كلما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا اقف كل يوم أكثر من ساعة متفرقة أجزاؤها، لربحت شيئا كثيرا، ولقد كان صديقنا الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب (قواعد التحديث) للأمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب، والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائما، حتى انه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئا من العلم فألف (الحاشية). والسرخسي أملى وهو محبوس في الجب، كتابه المبسوط، أجل كتب الفقه في الدنيا، وأنا اعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يضيق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؟ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا إنه لو قرأ مثله لا أقول كل ليلة، بل كل أسبوع مرة لكان علامة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي والجاحظ، بل خذوا كتابا واحدا كنهاية الأرب، أو لسان العرب، وانظروا، هل يستطيع واحدمنكم أن يصبر على قراءته كله ونسخة مرة واحدة بخطة فضلا عن تأليف مثله من عنده؟

والذهن البشري، أليس ثروة؟ آماله ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكن للذهن أن يعمل لو عمل لجاء بالمدهشات؟ لا اذكر الفلاسفة والمخترعين. ولكن أذكركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم، هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لما امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطها وصوابها. والشافعي لما كتب مجلس مالك بريقه على كفه، وأعاده من حفظه. والمعري لما سمع أرمنيين يتحاسبان بلغتهما، فلما استشهداه أعاد كلاهما وهو لا يفهمه. والأصمعي الذي وحماد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار. وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار. والمئات من أمثال هؤلاء. . . فتعجبون، ولو فكرتكم في أنفسكم لرأيتم إنكم قادرون على مثل هذا ولكنكم لا تفعلون.

انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس والبلدان، والصحف والمجلات، والأغاني والنكات، والمطاعم والمشارب، وكم قصة يروى من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل

ص: 14

من ذهنه ما يمر به كل يوم من مقروءات والمرئيات والمسموعات فلو وضع مكان هذا الباطل علما خالصا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.

أعرف نادلا كان في (قهوة فاروق) في الشام اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة أو شايا أو كازوزة أو ليمونا، والقهوة حلوة ومرة، والشاي احمر واخضر والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة ويرد هذه الطلبات جهرا في نفس واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحد حرفا!

فيا سادة، إن الصحة والوقت والعقل، كل ذلك مال، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن يشاء إن يسعد.

وملاك الأمر كله ورأسه الأيمان، الأيمان يشبع الجائع، ويدفئ المقرور، ويغني الفقير، ويسلي المحزون، ويقوي الضعيف، ويسخي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنسا، ومن خيبته نجحا.

وأن تنظر إلى من هو دونك، فانك مهما قل مرتبك، وساءت حالك، احسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهما وعلما، وحسبا ونسبا، وأنت احسن عيشة من عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا ملكي الأرض. فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيبا يحشوها ويلبسها الذهب، وأنت لا تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب. وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة. وكانا يرحلا من دمشق إلى مكة في شهر وأنت ترحل في أيام أو ساعات.

فيا أيها السادة السيدات.

إنكم سعداء ولكنكم لا تدرون. سعداء أن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك ولم تطلبوا المستحيل فتحاولوا سد فمه عنكم، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم.

أكمل الله عليكم سعادتكم، وأسعد الله مساءكم، والسلام عليكم.

(القاهرة)

علي الطنطاوي

ص: 15

‌الذكرى العاشرة للرافعي

للأستاذ محمود أبو ريه

مما يجب علينا لعظمائنا وعلمائنا الذين ينتزعهم الموت من بيننا، أن ننتهز كل مناسبة تمر بنا لنستعن بفضلهم، ونبعث التحية الطيبة إلى أرواحهم، في ذلك وفاء لهم وإحياء لذكرهم حتى لا نرمي بعدهم الوفاء، ولا نزن بنكران الجميل

ولمناسبة انقضاء عشرة أعوام على وفاة أديب العربية وكاتبها السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله نرى من الحق علينا أن نبعث إلى روحه الطاهرة بتحية مباركة طيبة ونرجو أن تفي هذه التحية ببعض ماله من فضل وما يستحق من تقدير

نبت الأرفعي في اكرم منبت وأزكى مغرس؛ فبيت (الرافعي) مشهور في الأقطار الإسلامية بأنه بيت علم أدب وتقوى، ولئن كان رحمه الله قد ورث من آبائه الدين والتقوى، فإنه قد نشا على حب الأدب العربي، فأقبل على دراسته دراسة استيعاب واستقصاء وتحقيق، حتى تضلع من فنونه، وتملأ من أصوله، ووقف على أساليب بلغاء العربية وأحاط بطرائقهم ومناحيهم حتى أصبح صدره خزانة أدب. وقد أتاه الله ملكة قوية في البلاغة، وحاسة دقيقة في البيان، وبهذه الدراسة المحيطة للأدب العربي، والملكة القوية في البلاغة، والذوق الدقيق في البيان، استطاع أن يبتدع لنفسه أسلوبا خاصا في الكتابة العربية يباين أساليب الكتاب جميعا إذ يجمع هذا الأسلوب بين البلاغة والحكمة والخيال، هذا مع النكتة اللاذعة والكناية المستلمحة. حتى انك لو نصبت جملة من إنشاء غيره من كتاب العربية لبانت جملته منها جميعا، ولنادت على نفسها بأنها للرافعي ومن أسلوبه رحمه الله

وقد شبهوه بالجاحظ، وكأنهم لما رأوا أسلوبه محكم النسج متخير اللفظ مصقول العبارة أنيق الديباجة، قد خلعت عليه البلاغة زخرفتها، وكسته الفصاحة بجميل وشيها؛ قالوا إنه جاحظ هذا العصر. ولكن الجاحظ على إمامته في البلاغة وبراعته في الترسل، وطول نفسه في العبارة، وافتنانه في تلوينها وإبداع تصويرها، كان يستطرد إلى غير الغرض الذي ساق كلامه إليه، ويذهب في شعاب القول هاهنا وهاهنا يؤدي به هذا الاستطراد إلي الخروج عن بلاغته العالية.

ومع إن الجاحظ حجة من حجج العربية وأمام كتابها على مد العصور فانك لا تجد في

ص: 17

مطاوي كلامه قبسا من الحكمة. والحكمة من أقوى أداة الكاتب والشاعر

ولقد كان برافعي خيال بعيد ينفذ به إلي أقطار المباني الدقيقة فيستوحي منها الدرر، ويحلق في أجواء التصورات البعيدة فيستنزل منها الغرر

ولا نقول هذا مجاملة له رحمه الله، ولا يدفعنا إليه تشييع لما كان بيني وبينه من أواصر الصداقة والمودة، وإنما هو الحق والأنصاف.

وقد كان الرافعي أستاذ مدرسة خاصة في الأدب والكتابة، وكان في الأخلاق الكريمة والتمسك بآداب الإسلام ومجد العرب أمة واحدة، لا يعنيه شيء في الحياة إلا أن يحرس لغة القران ويحافظ على أساليبها، ويبعث من تراثها، ثم كان لا يفتأ يعمل على أحياء الآداب الإسلامية والأخلاق الدينية، حتى ينشأ هذا الجيل محبته لغته ودرس فنونها والتمرس بآدابها ثم يأخذ بأخلاق دينه وصالح عاداته. إذ كان يستيقن رحمه الله وهو على حق - إن الأمة لا تنهض إلا باستمساكها بأصول لغتها وكريم أخلاقها، ثم لها بعد ذلك أن تأخذ من العلوم والفنون النافعة في الحياة ما شاءت وشاء لها نظام العمران

ولما انبعثت فتنة (التجديد والمجددين) منذ اكثر من ثلث قرن وكان أهلها يحاولون أن تكون الكتابة (باللغة العامية) وان نهجر أدبنا القديم وتراثنا التليد كان هو أول من نازل دعاتها وظل وحده يناضل ويصول حتى كتب له النصر وخرجت الأساليب العربية الصحيحة ظافرة تشرق على أسلات الأقلام

وما كانت هذه الفتنة لإصلاح يراد ولا كانت لتطور معتدل وإنما كانت ترمي إلي غرض بعيد؛ ذلك إن القضاء على البلاغة العربية يؤدي لا جرم القران وعدم فهمه وبذلك يصبح هذا الكتاب المقدس للغة العربية كاللاتينية للغات الأوربية؛ ومتى صار القران كذلك فقل على الإسلام العفاء.

وظل رحمه الله رابضا متحفزا يحمي ذمار العربية ويذود عن حوضها إلى إن انقلب إلى ربه

وإني لأشهد انه كان يتحرق على ما وصلنا إليه من ضعف في الأدب، وانحلال في الخلق، ويود لو تتاح له الفرصة ليطلع على الناس في كل أسبوع بمقال في إحدى الصحف يؤدي فيه شيئا من رسالته حتى سنحت له فرصة الكتابة بمجلة الرسالة الغراء وارتقى منبرها

ص: 18

فامتلأ قلبه فرحا وقد بدا سروره في خطاب أرسله إلى فقال

(أما الرسالة فهم كتبوا إلي بعد أن تركت طه حسين. . . وقد رأيت إني مخطئ في الاقتصار على وضع الكتب، وكان في نيتي من زمن الكتابة أسبوعيا في مجلة كبيرة كما أخبرتك فلما عرضت هذه الفرصة انتهزتها لأجرب هذه الطريقة. . ولعلي أوفق إن شاء الله بعونه تعالى في المضي في الكتابة والقوة بالله وسأنوع المواضيع كما رأيت ويدخل فيها فصول الكتاب النبوي بين الوقت والوقت إلى أن يتم وان أقاسي في كتابه الآن عسرا شديدا من الحر والتعب وحاله المعيشة الحكومية لعنة الله عليها

(وهذا الموضوع صعب جدا يا أبا ريه ليس في العربية مقال واحد منه. ومن يومين أطلعني العريان على الجزء الأول للنظرات فإذا فيه مقال عن الهجرة لا يساوي نصف مليم! فأدع الله لنا بالعون في اقتحام هذه العقبة. . .)

والكتاب النبوي الذي يشير إليه الرافعي في هذا الخطاب هو كتاب كان يريد أن يضعه في رسالة الرسول صلوات الله عليه ويجعل عنوانه (محمد).

ولقد كان له غير ذلك آمال يريد تحقيقها وأعمال يود استكمالها، ومن هذه الأعمال كتاب (تاريخ آداب العرب) الذي كان يقول عنه إنه دين في عنقه حتى يتمه. وقد انعقد الإجماع عندما ظهر الجزء الأول منه انه لم يؤلف في موضوعه مثله

وممن أشادوا به الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا فقد عقد له صفحات كثيرة في الجريدة ولولا أننا نؤثر الإيجاز لأتينا على ما كتبه هنا

وعقد له الأمير شكيب أرسلان رحمه الله صفحة طويلة في صدر جريدة المؤيد جاءت فيها هذه العبارة (لو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه منه لاستحق إن نحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نوا شيء الأسحار لكان جديرا أن يعكف عليه)

ومن الكتب التي أتمها كتاب (أسرار الأعجاز) وكان رحمه الله يفاخر به وقد وضع أكثره. وكان يريد أن يضع (رسالة في معارضة الدرة اليتمة لابن المقفع بنفس الأسلوب وعلى الطريقة الأولى في الكتابة العربية طريقة المتقدمين)

وكتب إلي في خطاب

(وأنت قرأت الأم فرز وهذا الكتاب مشهور في لغات أوروبا وآدابها فأنا أريد معارضته وقد

ص: 19

قام بذهني إنه لا راحة إلى إلا إذا أخرجت مثله)

وقال في خطاب آخر:

(ولا يزال في فكري أن أتضع كتابا صغيرا يكون أشبه بقصيدة واحدة في معارضة سفر من أسفار التوراة كأناشيد سليمان مثلا)

وقال في خطاب

(وأنا بحسرة من كليلة ودمنه فلو وقفني الله إلى إتمامه كتابا برأسه لكان حادثا في تاريخ العربية كلها)

ولا استوفي هنا كل ما كان يريد عمله

ولقد كان له في البحث والاستقصاء شان عجيب فيوم إن غمره بالجمال وأخذ يؤلف كتاب أوراق الورد بعد رسائل الأحزان أراد أن يعرف هل كتب (إخوان الصفا) في الجمال فكتب لي في خطاب مؤرخ 19 يوليو سنة 1930

(. . . أبحث في إخوان الصفا هل كتبوا عن الجمال فإني لم أقرا هذا الكتاب إلا قليلا ولا وقت عندي لتصفحه. .)

كتب إلي في خطاب آخر مؤرخ 21 نوفمبر 1931 يقول

(أحب أن تراجع قسم المنطق من رسائل إخوان الصفا لمعرفة هل استعمل واضعو هذه الرسائل كلمة (استنتاج) أم لا فإن من مقالات المجموعة مقالة عن هذه الكلمة وحل استعمالها. أما الكلمة نفسها فعثرت عليها في كتابة ابن سينا وهذا يدل على إنه أخذها عمن قبله، فلا بد أن تكون قد وردت في رسائل إخوان الصفا). وإن القول في الرافعي وأدبه لطويل؛ وإنما هي سطور كتبناها لمناسبة انقضاء عشرة أعوام على وفاته رحمه الله

وإذا كان أقصى ما يقال في العظماء بعد وفاتهم أن يتحدث عن صفاتهم وأعمالهم، وعما أصاب الناس بفقدهم، وهل لهم خلف يعزى عنهم أو انهم قد خلا مكانهم فإني أقولها كلمة ولا أخشى فيها أحدا.

ذلك إن مكان الرافعي قد خلا وإنه لم يخلفه في أداء رسالته أحد. رحمه الله رحمة واسعة.

المنصورة

محمود أبو ريه

ص: 20

‌هل الموت نتيجة لازمة للحياة؟

الحيوانات والنباتات الخالدة - الشيخوخة وأسبابها

للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

(إلى ذكرى العالم البيولوجي المصري الكبير الدكتور عثمان

غائب باشا اقدم هذه الثمرة البسيطة من حديقة تعاليمه الفيحاء)

يعتقد جمهور الناس أن الموت نتيجة طبيعية لازمة الحياة، وأن كل كائن حي لابد من ان يموت. فإذا صحت هذه العقيدة فلا محل للبحث عن أسباب الشيخوخة ولا محاولة الكشف عن علاج لها لاتقاء حدوثها لأنها تكون حينئذ قضاء محتما لا مفر منه. ولكن من ينعم النظر ويدقق البحث على ضوء الاكتشافات والحقائق العلمية الحديثة يتضح له أن تلك العقيدة لا تستند إلى أي سند علمي وأن سبب قيامها في أذهان الناس هو ما يشاهدونه عادة في الإنسان وفي باقي الحيوانات والنباتات المتعددة الخلايا نتيجة عوامل الشيخوخة التي سيأتي الكلام عنها.

وقبل أن نتكلم عن هذه العوامل ونبين أن الشيخوخة مرض كسائر الأمراض ينشأ عن تسمم تدريجي ناتج من نظام التغذية وجهاز التصريف الناقصين في النباتات والحيوانات (بما فيها الإنسان) - قدم من الآن الأدلة القاطعة التي تهدم تلك العقيدة من أساسها - عقيدة ضرورة الموت - ونعني بذلك الحيوانات والنباتات الخالدة.

الحيوانات والنباتات الخالدة:

كل من يفحص بالميكروسكوب قطعة من جسم إنسان أو من جسم أي حيوان أو أي نبات يتضح له إنها مؤلفة من خلايا صغيرة متلاصقة لا ترى بالعين المجردة وهي أشبه بخلايا النحل ولكنها غير منتظمة مثلها، والخلية تتركب من مواد زلالية مخلوطة أو ممزوجة بمواد دهنية ومواد سكرية أو نشوية، وفي وسطها نواة من مواد زلالية أخرى، ولمعظمها غشاء أو غلاف يحيط بها من مادة زلالية وغيرها في الحيوانات، ومن مادة السليلوز في النباتات وهي من فصيلة السكر والنشا ومادة الخشب.

وأصل كل فرد من النباتات والحيوانات (ومنها الإنسان) خلية واحدة تسمى في علمي

ص: 22

الحيوان والنبات (بالبيضة) وهي خلية ميكروسكوبية تنتج من تلقيح بويضة الأنثى بخلية خاصة مشتقة من أعضاء التذكير في الحيوانات والنباتات. وتأخذ البيضة بعد التلقيح في النمو بطريق الانقسام نتيجة التغذي فتنقسم إلى قسمين يبقيان متلاصقين، وينقسم كل منهما إلى قسمين آخرين وهلم جرا، وعلى هذا النحو الخلايا المشتقة من البيضة وتنشأ منها مختلف الأنسجة والأعضاء فيتكون الجنين ثم الفرد الكامل.

غير انه توجد كائنات حية مكونة من خلية واحدة واعني بها النباتات الأولية كالبكتريا والمكروبات، والحيوانات الأولية الميكروسكوبية كالأميبيا التي يسبب نوع منها مرض (الدوسنطاريا) وكجرثومة الملاريا وجرثومة مرض النوم وغيرها. وكيفية توالد وتكاثر هذه الأحياء ذات الخلية الواحدة هي أن تنقسم كل منها إلى قسمين (وأحيانا في بعض الأنواع إلى أقسام عديدة) كما يحدث لخلايا الحيوانات والنباتات الأخرى المتعددة الخلايا وخاصة أثناء تكوين أجننها (جمع جنين) على الوجه المتقدم بيانه. غير أم كل قسم جديد من أقسام الخلية الأصلية ينفصل هنا عن غيره ويصبح فردا جديدا يحيا حياة مستقلة ويتغذى فينمو وينقسم بدوره إلى أقسام أخرى تصبح أفرادا جديدة، وهكذا، بحيث لا يموت ولا يغني شيء من هذه الأفراد إلا بحادث مهلك كان يجف الماء الذي تعيش فيه أو يفسد أو كان تبتلعها حيوانات أخرى مع الماء وتهضمها.

ولكن يحدث إنه بعد عدة انقسامات تصبح الأفراد الأخيرة غير قابلة للانقسام كأنها شاخت أو هرمت، وهذه أول صور الشيخوخة وابسطها في عالم الأحياء. ولاشك في أن هذا العجز ناتج مما يتراكم داخل أجسامها من بقايا المواد الإفرازية السامة المتوالدة من احتراق المواد الغذائية بعد هضمها وعدم تصريفها (أي الإفرازات السامة) إلى الخارج بأكملها، ذلك الاحتراق اللازم لتوليد الطاقة (القوة والحرارة) الضرورية لعمليات الحياة، ولهذا يعرف الفسيولوجيون الغذاء بأنه وقود الماكينات الحية الحيوانية والنباتية. ولو أستمر هكذا حال تلك الأفراد العاجزة عن الانقسام لماتت لا محالة كما يموت أفراد الأحياء العليا بالشيخوخة. غير انه يكفي لاسترداد شبابها ونشاطها الانقسامي أن يلتصق كل فردين منها أحدهما بالآخر ويتبادلان نصف نواتيهما ثم ينفصلان بهما شباب ناهض قابل للانقسام من جديد. وهذه هي أول صورة من صور التلقيح في عالم الكائنات الحية. وليس التلقيح سرا من

ص: 23

وراء الطبيعة فقد استعاض عنه البيولوجيون (علماء الحياة) وفي مقدمتهم جاك لوب ببعض مؤثرات طبيعية أو كيميائية على الأرفاد العاجزة عن الانقسام فيفصلون فردا واحدا منها في قليل من الماء ويضيفون إليه قليلا من بعض الأحماض أو القلويات الخفيفة أو يسلطون عليه تيارا كهربائيا ضعيفا أو يرجونه داخل أنبوبة صغيرة فيأخذ هذا الفرد الهرم في الانقسام من تلقاء نفسه كما يحدث عقب اتصاله بفرد آخر مماثل له وتلقيح الواحد مهما الآخر على الوجه المتقدم بيانه.

ويظهر إن فعل التلقيح الطبيعي وفعل هذه المؤثرات الاصطناعية إنما هو تنشيط تصريف تلك الإفرازات السامة المتراكمة داخل أجسام الأفراد التي شاخت وصارت عاجزة عن الانقسام أو أحداث تفاعلات كيميائية من شانها إزالة تلك السموم الإفرازية ومحو أثرها.

وخلاصة القول أن الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة هي كائنات حية لا تموت ولا ينعدم منها شيء، فمتى وصل الفرد منها إلى تمام نموه ينقسم إلى قسمين مستقلين يصبح كل منهما فردا جديدا ينمو ثم ينقسم بدوره إلى أفراد جديدة، وهكذا إلى ما لا نهاية له دون أن يموت أو يتلاشى شيء منها إلا بحادث مهلك كما تقدم في ذلك القول. فهي أحياء خالدة بالمعنى الحقيقي ويمكن القول أن أفرادها التي تعيش الآن هي هي التي نشأت منذ نحو مائة مليون سنة عند ظهور الحياة على الأرض وما زالت حية تنقسم منذ ذلك الماضي البعيد المتغلغل في القدم إلى اليوم وإن كان قد طرأ عليها أثناء ذلك بعض التغير في أشكالها بفعل العوامل الطبيعية جربا على نواميس التطور والتحول. وإذا لوحظ إن هذه الكائنات الأولية ذات الخلية الواحدة هي أول ما ظهر على الأرض وانه مضت مئات الألوف أو الملايين من السنين قبل أن يتحول فريق منها إلى الحيوانات والنباتات المتعددة الخلايا - إذا لوحظ هذا يمكن القول أن الموت ليس نتيجة لازمة للحياة وأنه مرت على الأرض فترة طويلة من الزمن تنعم فيها الأحياء بالخلود، وإنما طرأ الموت على الكائنات الحية في طور من تطوراتها في الوقت الذي أخذت فيه الأحياء ذات الخلية الواحدة تعيش جماعة متلاصقة لأسباب طبيعية محلية دعت إليها الظروف المستجدة، ذلك لأن خلايا هذه الأحياء المتعددة - المتعددة الخلايا - ثابتة في مكانها في الأنسجة المختلفة، ولا تستطيع (أي الخلايا) أن تنتقل لتلتقي بالخلايا الأخرى حتى تتلاقح وتتقى الشيخوخة على ما تفعل

ص: 24

الأحياء الوحيدة الخلايا، خصوصا وان كل فريق من تلك الخلايا المجتمعة في الحيوانات والنباتات العليا تخصص في وظائف معينة من أعمال الحياة وتنوع في شكله ليلائم وظيفته كخلايا الأعصاب وخلايا العضلات وخلايا الغدد وخلايا الجلد وغيرها في الحيوانات، وكخلايا الأنسجة المختلفة في النباتات فصار غير صالح لأن يتلاقح مع غيره (وقد تخصصت فيها خلايا أعضاء التناسل للتلقيح لمصلحة مجموع الحيوان أو النبات وهي التي تضمن بقاء النوع وعدم تلاشيه - النوع فقط دون الأفراد).

فالموت يبدو لنا إنه نتيجة تطور الكائنات الحية من فالأحياء الأولية ذات الخلية الواحدة إلى الأحياء الأرقى مرتبة وهي المتعددة الخلايا فهو الفدية التي تدفعها ثمنها لذلك الارتقاء، ثمنا غاليا حقا.

وهذا ما يقوله أستاذي المأسوف عليه العالم الكبير داستر الذي كان أستاذ علم الفسيولوجيا في كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون) وعضوا في المجمع العلمي (أكاديمي العلوم) وعضوا في أكاديمي الطب في كتابه الحياة والموت صحيفة 227 وما بعدها.

. . . ومن هذا يتبين أن الخلود هو من خواص الكائنات ذات الخلية الواحدة التي تتناسل بطريق الانقسام النصفي، وإنما لوحظ إن هذه الكائنات هي أول ما طهر من الأحياء على الأرض وإنها سبقت بزمن طويل الحيوانات والنباتات الأخرى المتعددة الخلايا فتكون النتيجة المنطقية البديهة إن الحياة ظلت مدة طويلة على الأرض دون الموت، وان الموت طرأ بعد ذلك نتيجة تطور الأحياء وتحولها من ذات الخلية الواحدة إلى المتعددات الخلايا.

ومما يؤكد هذا - أي عدم ضرورة الموت - التجارب القديمة المعروفة التي قام بها بعض من البيولوجيين على كثير من أنواع الديدان والحيوانات الجوفاء كأخطبوط الماء العذب بل وعلى حيوانات أعلى مرتبة، بتقطيعها قطعا تنو كل قطعة منها وتصبح فردا جديدا كاملا يحيا حياة مستقلة، وهكذا يصنعون من الحيوان الواحد عدة حيوانات، ويكررون ذلك في الأفراد الجديدة وهلم جرا. ويمكن مواصلة هذا العمل إلى ما لا نهاية له دون أن يتطرق الموت إلى تلك الأفراد ما داموا يقطعونها وهي فتية، وهذه العملية معروفة ومألوفة في النباتات.

ويؤيد هذه أيضاً التجارب والأبحاث العظيمة الشان التي يقوم بها منذ سنين عديدة الدكتور

ص: 25

كاريل فانه يحفظ أجزاء حية صغيرة مفصولة حديثا من أجسام الإنسان والحيوانات في سوائل مغذية مطهرة تجدد وتهوى باستمرار، فتستمر حية يستعين بها الجراحون في عمليات الترقيع وغيرها حتى انهم وصفوا الدكتور كاريل (بأنه تاجر أنسجة حية)، والأغرب من هذا إن تلك الأجزاء المحفوظة كثيرا ما تنوا وتتكاثر خلاياها بطريق الانقسام كما يظهر من فحصها تحت الميكروسكوب من حين إلى آخر بعد أن تكون قد فقدت تنوعها وعادت إلى شكل الخلايا الجنينية الأولى (الشكل البسيط الذي تكون عليه خلايا الجنين في أول أطوار تكوينه).

ويتصل بهذا الموضوع بحث على جانب كبير من الأهمية وهو إن تقسيم الكائنات الحية إلى حيوانات ونباتات، والى فروع وصفوف ومراتب وفصائل أو أفراد إنما هو تقسيم اصطناعي من وضع الإنسان، وانه ليس للفوارق التي تفصل في الظاهر بينها وجود مطلق حقيقي ثابت في المكان والزمان، فلا توجد في الحقيقة والواقع إلا المادة أو مجموعة المواد الزلالية المعقدة التركيب المسماة (بالحية) وهي صورة من صور المواد الكيميائية الأخرى ومشتقة منها - تشتق على الدوام تحت أعيننا وعلى مرأى منا من الجمادات، من الهواء والأرض بفعل طاقة إشعاع الشمس بواسطة الكلورفيل (المادة الخضراء النباتية). وقد ظهرت المواد المذكورة الموصوفة بالحية على الأرض منذ أن أصبحت هذه صالحة للحياة وستظل هكذا إلى أن تمسى غير صالحة لها، كل هذا بفعل العوامل الطبيعية. وكل ما في الأمر إن هذه المواد الحية الدائمة تبدو لنا في صور مختلفة اختلافا ظاهريا وقتيا كما تبدو الجمادات والمعادن في أشكال متنوعة يتحول بعضها إلى البعض وهي في مجموعها لا تفنى. على أن هذا موضوع عويص يضيق بنا المقام دون بسطه الآن.

(البقية في العدد القادم)

نصيف المنقبادي

المحامي

ص: 26

‌إلى طلبة التوجيهية:

2 -

شاعران في المنفى

للأستاذ أحمد محمد الحوفي

تمهيد - موضوعات القصيدتين - الصور والخيال - الأسلوب

- كلمة عامة. . . . . .

وفي كلتا القصيدتين فخر، ولكنه أيضاً صورة من نزوع الشاعر وميله، فالبارودي رجل الجيش والحرب يفتخر بشجاعته وبلائه في الحرب، ولم تزايله حماسته في منفاه، فسيفه هنالك صاحبه الوحيد، يحمله جسمه القوى الشديد، وهو سيف متعطش إلى الدم، حتى ليشرئب من الغمد إذا لمسه البارودي متلهفا إلى أن يضرب به. ويفخر بوفائه وأقدامه، وصواب رأيه إذا استبهم الصواب، وربما كان غرضه هنا تعزيز رأيه الذي أبداه قبل الثورة العرابية متخوفا من سوء عقباها، ويكرر الفخر بشجاعته وتقدير الأبطال له حتى ليفدونه بأنفسهم، وببلاغته وسحر شعره، ولكنه غالي في قيمة هذا الشعر إذ زعم إنه يضارع ابلغ شعر سابق، ويكبر أن يشبهه شعر لاحق، وجرته محاكاتة كأنه للقدماء إلى تقدير لذاذة شعره بأنها ألذ من الحداء، وختم الفخر بأنه قوال وفعال وغيره يقول ولا يفعل.

وفخره بنفسه وبشعره في مجال الشكوى تسرية عن نفسه من ناحية، ومحاكاة لآبي فراس الحمداني وهو أسير من ناحية. قال:

ولأصاحب غير الحسام منوطة

حمائله منى على عاتق صلد

إذا حركته راحتى لملمة

تطلع نحوي يشرئب من الغمد

سجية نفس لا تخون خليلها

ولا تركب الأهوال إلا على عمد

وإني لمقدم على الهوى والردى

بنفسي، وفي الأقدام بالنفس ما يرى

وأنى لقوال إذا التبس الهدى

وجارت حلوم القوم عن سنن القصد

فان صلت فدانى الكمى بنفسه

وإن قلت لباني الوليد من المهد

ولى كل ملساء المتون غريبة

إذا أنشدت أفضت لذكر بنى سعد

أخف على الأسماع من نغم الحدا

وألطف عند النفس من زمن الورد

ص: 27

مخدرة تمحو بأذيال حسنها

أساطير من قبلي، وتعجز من بعدى

كذلك إني قائل ثم فاعل

فعالي، وغيري قد ينير ولا يسدى

أما شوقي شاعر مصر المنوه بأمجادها، المعتز بماضيها، العليم بتاريخها فقد أفتخر بسالف عهدها، فالدهر منذ طفولته لم يحتفل بغير الفراعنة، ولم يعرف أقوى منهم، وهم صبر على النوائب وفيون بالعهد لا يتلونون كالحرابى، وهو هنا يشير إلى وفائه للخديوي عباس ويعرض بمن تلون من أصدقائه أو يعرض بالإنجليز أصحاب السيادة المتقلبة، والشمس لم تشرق على ملك عظيم كمصر، وقد عبدت على ضفاف النيل، ورأت ملوكاً له أبناءها الفراعين، وانه لواد جميل خصيب تشرق الشمس عليه فتكسوه أشجارا ووروداً وحريراً، ونحن الفراعنة حكمنا الأرض قبل الرومان، وكنا رواد العالم، ولم يفت شوقي أن يعرج على الأهرام الخالدة، فوصفها هذا الوصف البارع: بناها الدهر لا الإنسان الفاني، وعمرت مقاصيرها أربعة الآلف عام تقوضت فيها عروش الملوك وهي باقية، وكأنها وبحر الرمل حولها سفن واراها اليم إلا قلوعها، وكأنها والضحا يتلألأ فوقها كنوز فرعون يزنها على موازين كبار فغطتها وتكومت فوقها. قال:

لم يجر للدهر اعذار ولا عرس

إلا بأيامنا أو في ليالينا

ولا حوى السعد أطغى في أعنته

منا جياداً ولا أرخى ميادينا

نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا

ولم يهن بيد التشتيت غالينا

ولا يحول لنا صبغ ولا خلق

إذا تلون كالحرباء شانينا

لم تنزل الشمس ميزاناً ولا صعدت

في ملكها الضخم عرشاً مثل وادينا

ألم تؤله على حافاته، ورأت

عليه أبناءها الغر الميامينا؟

إن غازلت شاطئيه في الضحا لبسا

خمائل السندس الموشية الغينا

وبات كل مجاج الواد من شجر

لوافظ القز بالخيطان ترمينا

وهذه الأرض من سهل ومن جبل

قبل القياصر دناها فراعينا

ولم يضع حجر بأن على حجر

في الأرض إلا على آثار بانينا

كأن أهرام مصر حائط نهضت

به يد الدهر لا بنيان فأنينا

إيوانه الفخم من عليا مقاصره

يفنى الملوك ولا يبقى إلا واوينا

ص: 28

كأنها ورمالاً حولها التطمت

سفينة غرقت إلا أسا طينا

كأنها تحت لألاء الضحا ذهباً

كنوز فرعون غطين ألموا زينا

وهذا الفخر بماضي الوطن من مشاعر مبعد حزين لما ألم به من أحداث وكوارث قوى الصلة بمحور القصيدة، وبنفسية الشاعر المكروب من الحاضر المتجهم، فيرجع إلى الماضي المشرق لأنه يجد فيه عزته وراحته وسلوانه.

وأخيرا يتحدان في الغزل المصطنع من كليهما في هاتين القصيدتين، فالبارودي ينعت حبيبته بالوفاء، ويصفها بالجمال وجهاً وخصراً، ويعرض حالة ماضيه إذ أسرته بنظرها الساحر فعلق بها وتبعها، فتظاهرت بالهشة من حماقته كأنها لا تعلم إنها الجانية، ويرجوها ألا تصد عنه حتى لا تعذبه وتقعده عن طلب المجد، وألا تظن إن في قلبه قدرة على تحمل مزيد من الحب، ويصور مقدار خضوعه لها بأنها لو أمرته أن يهلك نفسه لفعل. قال:

فلست بناس ليلة سلفت لنا

بواديه، والدنيا تغر بما تسدى

إذ العيش ريان إلا ما أريد، والهوى=جديد وإذا لمياء صافية الود

منعمة، للبدر ما في قناعها

وللغصن ما دامت به عقدة البند

سبتني بعينيها، وقالت لتربها

ألا ما لهذا الغر يتبعني قصدي

ولم تدر ذات الخال - والحب فاضح -

بأن الذي أخفيه غير الذي أبدى

حنانيك إن الرأي حار دليله

فضل، وعاد الهزل فيك إلى الجد

فلا تسألي مني الزيادة في الهوى

رويداً، فهذا الوجد آخر ما عندي

وها أنا منقاد كما حكم الهوى

لأمرك فأخشى حرمة الله والمجد

فلو قلت: قم فأصعد إلى رأس شاهق

والق إذا أشرفت نفسك للوهد

لألقيتها طوعاً لعلك بعدها

تقولين: حيا الله عهدك من عهد

وشوقي تغزل في عجل بحبيبته التي يعف في حبها، فهو يحن إليها حنيناً لا يشوبه تدلل، وهو غير مستطيع صبراً على فراقها، وهو جلد ولكن الحزن غلبه لأنه ابعد عنها بالنفي من وطنه وحصنه، وليله طويل لا نهاية له تتناوبه فيه الذكريات الحلوة والمرة فتميته وتحييه، وتكاد الآلام الفراق ترديه، ولا يفتأ يبكى ويئن، ويراقب النجوم حتى ترثى له أو تمل مراقبته وتتعب من السير، ولكنه في النهاية يتكلف الصبر أمام الأعداء حتى لا

ص: 29

يشمتوا. قال:

يا من نغار عليهم من ضمائرنا

ومن نصون هواهم في تناجينا

ناب الحنين إليكم في خواطرنا

من الدلال عليكم في أمانينا

جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا

في النائبات فلم يأخذ بأيدينا

وما خلنا على دمع ولا جلد

حتى أتتنا نواكم من صياصينا

ونابغي كأن الحشر آخره

تميتنا فيه ذكراكم وتحيينا

نطوي دجاه بجرح من فراقكم

يكاد في غلس الأسحار يطوينا

إذا رسا النجم لم ترقأ محاجرنا

حتى يزول ولم تهدأ تراقينا

بتنا نقاسي الدواهي من كواكبه

حتى قعدنا بها حسرى تقاسينا

يبدو النهار فيخفيه تجلدنا

للشامتين ويأسوه تأسينا

ويتفرد شوقي بتمجيده عرب الأندلس والبكاء على ملكهم المضيع، ولم يعرج البارودي في قصيدته ولا في غيرها على مجد المسلمين بالهند أثرهم في تحرير عشرات الملايين من أبنائها من الوثنية، وجوبهم البحار قبل كولمبس وماجلان، وهي ينابيع ثرة بالذكريات يترع بها خيال الشاعر لو انه مثقف وبصير بالتاريخ.

ثم يتميز بأن شكر لمصر برها به، وإرسالها الهدايا والأموال إليه، وأجاد تصوير حالها حين اضطرت إلى نفيه محبة له حريصة على سلامته.

ثم يفترق من البارودي بالتمهيد لموضوع قصيدته بمناجاة الحمام النائح ويختلف عنه أيضاً في تخيله نسمة عبقة قد سرت من مصر إليه فأنعشته، ثم ينفرد بوصفه الرائع لجمال الطبيعة في مصر، ووصفه أهرامها.

(البقية في العدد القادم)

أحمد محمد الحوفي

ص: 30

‌هذا العالم المتغير:

دمك يؤثر على تفكير عقلك

للأستاذ فوزي الشتوي

مخك يتأثر بغذائك:

إلى أي مدى يظل عقلك أداة مفكرة تسيطر على عضلات جسمك، إذا تعرض للحرارة أو البرودة أو نقص غذاؤه من الأوكسجين أو السكر أو الكالسيوم أو غيرها من المواد؟

موضوع جديد، واسع الآفاق، عسير الفهم. ولكن العلماء يد ركون أهميته البالغة، ويعرفون إن المخ البشري مثل جهاز اختبار محكم لا يكل لحظة عن الحركة. فهو يتلقى المؤثرات الخارجية أو الداخلية المختلفة، ويحللها واحدة واحدة ثم يعطى أوامره للاستجابة المناسبة لكل منها أيضاً. ودراسة هذه الحركة الدائمة تتبع علماً حديثاً نسميه بكيمياء العقل. فكلما تغيرت نسب المواد الكيميائية في المخ تغيرت أيضاً استجابات الإنسان، وآراؤه، وشخصيته وأخلاقه، وقدرته العقلية من ذكاء أو غباوة فهل تعرف مثلاً إن مخ الوليد أفقر في المواد الحديدية من مخ البالغ؟ وإن أقصر العقل عن أداء وظائفه إنما ينطوي على نقص في عناصره المعدنية؟

أكتشف ابراهام ميرسون وليو الكسندر الأخصائيان في الأمراض العقلية هاتين الحقيقتين بتعريض أنسجة المخ إلى أشعة المرقب الطيفي الكاشفة: وقاس آخرون مواد العقل الكيميائية في حالات اضطرابه فوجدوها ناقصة في بعض أنواع الكبريت والحديد.

الماء في المخ

وكميات الماء في المخ عامل جوهري في أداء وظائفه وتقرير ملكانه. فإن زاد أو قل عن النسب المعقولة أدى إلى كوارث لا يقتصر أمرها على نقص القدرة العقلية بل يسفر عن هذيان وذهول وإغماء. فإن الماء في المخ يحتفظ بالمواد الكيميائية في محاليل ذات نسبة معينة من التركيز، وأي زيادة أو نقص في كمية الماء تزيد تركيز المحاليل الكيميائية أو تنقصها مما يؤدي إلى اضطراب التفكير.

وزيادة الحوامض أو القلويات في المخ ذات تأثير وقتي في الغالب، ولكن المخ القلوي

ص: 31

يعرض صاحبه للصرع، ويقلبه بين حالات التشنج واضطراب الأفكار. أما المخ الحامضي فيعرض صاحبه لمرض السكر، فعندما تتركز الجسيمات الحامضية يضعف المخ ويسفر عن الذهول ثم الإغماء أو يتوقف تماماً عن كل نشاط.

الأوكسجين والذكاء

والأوكسجين بالنسبة للذكاء من أهم العناصر في المخ. وقد برزت هذه الحقيقة عام 1862 حين قام العالم الطبيعي جليشر يصحبه كوكسول الأخصائي في المناطيد برحلتهما المشهورة في طبقات الجو العليا. ففي 48 دقيقة صعد بهما المنطاد إلى ارتفاع 28. 000 قدم. وعندئذ أدرك جليشر انه لا يستطيع قراءة أرقام مقياس الحرارة أو ساعته. ولاحظ كوكسول حالة زميله فهبط بمنطاده وعندئذ استعاد جليشر قدرته العقلية.

وتمادى هالدان وكالاس في دراسة هذه الظاهرة فدخلا غرفة محكمة من الصلب، وتولى آخرون إفراغها من هوائها حتى هبط الضغط داخلها إلى 320 ملليمتراً من الزئبق أي ما يوازي ارتفاع 24. 500 قدم. وعندئذ تعذر على هالدان أن يقرا أو يبدي أية ملاحظة وكانت إجابته على أي سؤال يوجه إليه (دعه على 320) وبعد ساعة وربع استولى القلق على زملائهما خارج الغرفة فكتبوا رسالة وضعوها أمام نافذة الغرفة ولكن أجابتهما لم تكن سوى إجابة أناس تعطل تفكيرهم بسبب الحاجة إلى الأوكسجين.

وخفف الصحب الضغط لأي 350 ملليمتراً أي ما يوازي ارتفاع 21. 000 قدم. ومعنى هذا زيادة كمية الأوكسجين في الغرفة وان القوة العقلية تسترد جزءاً من قدرتها لا كلها، والدليل على ذلك أن هالدان أراد أن يرى شفتيه في مرآة تناولها ولكنه بدل أن ينظر إلى سطح المرآة العاكس حدق في ظهرها.

وخفف الضغط مرة أخرى إلى 450ملليمتراً (14. 500 قدم) فأنجلى ذهن هالدان تماماً. ولكنه لم يحس بمرور الوقت كما إن ذاكرته لم تع شيئاً مما مر به في تلك الفترة الطويلة.

ينام في ثلاجة:

وأجرى السير جوزيف باركروفت عدداً من التجارب ليعرف تأثير التبريد على المخ. وهو كما تعرف أحد العمليات الهامة في الكيمياء. فخلع ملابسه ودخل ثلاجة رقد على أرضها

ص: 32

ليرى النتيجة. وكان يعرف إنه يعرض نفسه باختياره للتجمد ليدرك استجابات العقل في مثل هذه الحالة وكان يرقبه خارج الثلاجة أحد اتباعه، فلما رآه يفقد وعيه لفه في أغطية صوفية وأسقاه مشروبات ساخنة ليفيق. وقد كرر السير باركروفت تجربته.

ووصفها يقوله إن ما ذكره عن محاولتي خفض درجة حرارة جسمي قليل. ففي كل من التجربتين اللتين قمت بهما أحسست بلحظة تغير خلالها كل مظهري العقلي. فعندما كنت راقداً عاريا في الثلاجة كنت ارتعش، وكانت مفاصلي تنتفض رغماً عني في محاولاتها القيام كما أحسست تماماً بالبرد الشديد.

(وجاءت فترة مددت فيها ساقي، وغادرني الإحساس بالبرد وأعقبه شعور لطيف بالدف. ولعل كلمة (تشميس) أو (اصطلاء) هي انسب تعبير لحالتي فقد كنت أتشمس بالصقيع. وفي اللحظة التي توقف فيها ارتعاش جسمي بدأت الطبيعة البشرية في قتال عنيف لتقاوم استمرار التجربة. استيقظت كل غريزتي وكان من الضروري بذل جهد جبار حتى استمر. ومضت هذه اللحظة فرضيت عن نفسي في غبطة لأن تأثير الغريزة زال.

وشعرت بأنني وصلت إلى ذروة الحالة التي يصل إليها المسافرون حينما يكرهون على النوم في الصقيع في أقسى برودته وهم واثقون انهم لن يستيقظوا أبدا)

(وأدركت تغييراً أخرا في حالتي العقلية العامة، فإن الخجل الطبيعي من إن شخصاً يشترك في التجربة سيدخل الغرفة ليجدني عارياً قد اختفى تماماً. لقد تغير الحياء الطبيعي لأي شي لا أدري ما هو. ونم الجلي إن الإنسان يجب أن يكون شديد الحذر من انطلاق العقل. وهذه هي النقطة التي عرفتها فإن أرقى أجزاء الجهاز العصبي المركزي كانت أول ما تعرض للإرهاق حتى زالت موازينها.

تأثير الحرارة

أما ما يحل بالمخ إذا حدث العكس ورفعت درجة الحرارة، فكان موضوع التجربة التي قام بها هارفي ستون، وأسفرت عن استرخاء العضلات والنعاس واسترسال العقل في سبات عميق وما تحولت عنه إلى نوبات اضطراب وقلق.

وقد وصف التجربة بقوله (إن قراءة كتاب أو الجلوس في وضع واحد كانت من الأشياء المرهقة، وكان البقاء في وضع مريح يحتاج إلى قوة إرادة ملموسة. كما أن تلمس الراحة

ص: 33

استلزم الحركة البطيئة الدائمة لكي يغير الإنسان وضعه)

وتؤثر كمية ثاني أو كسيد الكربون التي في الدم أيضاً على المخ. وقد جرب هالدان وعالمان آخران البقاء لمدة عشرين دقيقة في جو نسبة ثاني أوكسيد الكربون فيه 7. 2 في المائة، وهي تعد نسبة كبيرة، فأحسوا بعوارض الإجهاد العقلي. فلم يكن في وسع هالدان مثلاً أن يركز تفكيره أو ينتبه إلى ما يدور حوله من حديث بغير عناء كبير. ولم يستطيع قراءة جريدة ويدلرك معنى عباراتها. كان تعباً كأنسان اقبل على الفراش بعد إن أمضى أسبوعا بغير نوم. وكان يحس ذهنه كصفحة بيضاء لا تعي شيئاً مما يدور حوله.

يرى كل شي مزدوجاً:

ويحدث أيضاً تفاعل كيميائي معروف بتأثيره السيء على المخ عندما تتمزق إحدى الأوعية الدموية. وقد وصف الدكتور لوسيان كلارك ما حدث له في إحدى هذه الحالات بأنه كان يقاسى من ارتفاع ضغط الدم الذي بلغ 230 وهي نسبة كبيرة الارتفاع. وكان يتوقع أن ينفجر أحد الأوعية الدموية في أي وقت.

وصدقت نبوءته فكتب يقول (في 2 نوفمبر سنة 1934 كنت عائداً بسيارتي من زيارة أحد مرضاي حتى وقفني ضوء إشارة المرور، فلما أردت متابعة السير ومدت يدي إلى مفاتيح السيارة رأيت يدين وبدل المفاتيح مفتاحين. وتولاني الاضطراب لمدة ثانية واحدة استعدت بعدها وعيي، ولكني أدركت ما حدث، فأسرعت إلى البيت قبل أن يستفحل الأمر. وكانت عيناي طول الفترة تريان مختلف ألوان الأضواء.)

(كنت أرى كل شي مزدوجاً ولم أستطيع القراءة لأن ارتباط الحروف أو الأرقام ببعضها لم يرسل أي معنى إلى ذهني. حتى أدواتي الجراحية التي استخدمها سنوات طوالاً بدت غريبة أمام ناظري. ومع إني كنت اعرف طريقها فإني لم أدرك طريقة استخدامها. وكانت الكتابة نوعاً من المستحيلات.

كان من العسير أن اكتب سطراً واحداً فلما وفقت إلى كتابة حرف لم أجد له أي معنى. وفي هذه المرحلة بلغ الاضطراب والارتباك العقلي اشده. ولا ريب إني فقدت توازني الجسماني، فعندما حاولت اجتياز الغرفة تعثرت بعدة أشياء واتجهت رغبتي إلى النوم طول الوقت.

ص: 34

الذكاء ودم المخ:

والتركيب الكيميائي للدم من العوامل الحيوية في تغذية المخ ونشاطه أو ركوده، وقد لجأ العلماء في السنوات الأخيرة إلى عدة وسائل علمية لدراسة كيمياء الدم الذي يغذي المخ بأجراء عملية بذل يحصل بها على الدم من أوعيته قبل المخ وبعده مباشرة.

وقد وصل العالمان ارهام ميرسون وهالوران إلى نتائج باهرة كشفت كثيراً من أسرار تغذية العقل. فوجدا مثلاً إن السكر في الدم يختفي بعد مروره بالمخ، أي إنه يتغذى بالسكر ويمتصه، فإذا زادت كميته أو قلت في الدم فإن نشاط المخ يختلف أيضا.

وقد لوحظ إن مخ الأصحاء يستهلك مقداراً كبيراً من السكر، فإذا قلت كميته في الدم انخفض نشاط العقل أيضا.

واثبت التركيب المعدني لدم المخ أهميته البالغة في تقديره ذكاء الفرد، فأعطانا مفتاحاً نتلمس به أسرار العقلية البشرية، فالكالسيوم والفسفور ضروريان لحفظ النشاط العادي لجميع أنسجة المخ فإذا قلت كميتها ظهرت عوارض البلادة الذهنية والخمول العقلي، فإذا زادا عن المعقول تجاوز النشاط الذهني حده العادي وربما بلغ حد الاضطراب مما دفع أطباء الأمراض العقلية إلى استخدامها في علاج مرضاهم.

وقد لا تمر فترة صغيرة حتى يحتل علم الكيمياء العقلية مكانه إلى جوار علم النفس ويساعد أخصائييه على فهم الطريقة الغامضة التي يعمل بها العقل البشري الكثير الغموض.

فوزي الشتوي

ص: 35

‌من نشيد الحرية

للأستاذ محمود الخفيف

بالشرق غنيت وكم هزني

وألهم الأسجاع قيثاريه

تعضنى الأغلال لكننى

لاتعرف الأغلالَ أوتار يه

الحاضر المغلوب لم ينسنى

روحاً به خالدة أيقظت،

بعد سبات حالك، دهره،

منىً بها رقرقت أشعاريه

والغرب كم في أفقه كوكب

في ظلمات أطبقت، أومضا

يرقبه المدلج إذ يطلب

هدى له في الدهر ممن مضى

لولاهم استوحش إذ يضرب

في فلوات شد ما أوحشت

والعيش داج حوله عابس

والدهر كم من أمل قوضا

كم من أبيٍ عاف طعم الحياة

ذليلة مذعنة ضارعه

غبية دانت بشرع الطغاة

راسفة في جهلها راكعة

صماء ما إن أسمعتها شكاه

خرساء ما أنت ولا استصرخت

عمياء ترعى الوهم منقادة

بلهاء في بأسائها رائعة

سقراط كأس الموت في كفه

عن خمرها الشنعاء هل أحجما؟

أعجله اليأس إلى حتفه

فأسلم الروح وما استسلما

مبتسم والموت في جوفه

الظلمة الخرساء في حفرة،

أحلى له من باطل غاشم

في الأرض كم جرعه العلقما

وسيف روما الفاتح القاهر

فتى الوغى فارسها قيصر

أرداه من شيعته جازر

من دمه جنجره يقطر

يقول هذا غاضب جائر

أضله الطغيان عن نهجه

ص: 36

من حوله الحرية استصرخت

ألا فَتىً ذو نخوة ينصر؟

ما عدمت في دهرها نٌصْرَةً

وما خبت شعلتها الساطعة

تمثلت ثائرة مرة

في الحقل كانت زهرة وادعه

فانقلبت في حقلها ثورة

عذراء في درع على ضامر

من حولها تحت غبار الوغى

أسنة ملء الفضا لامعه!

عن جانبيها جحفل واثب

تلهبه الحرية الباسله

ساحرة كل لها خاطب

ودونها نارٌ وغى آكله

النار ما إن هابها هائب

كيف وهم في غمرات الردى،

يرونها إنسية بينهم

في درع (جندرك) لهم ماثلة!

تنقلت في ظلمات العصور

الشعلة الوهاجة العاليه

كم ذائدٍ في كل عصر جسور

فدى لها مهجته الغالية

هيهات لا يطفئ ما في الصدور

قيد ولا خوف ولا غيلة

وكيف تخشى الموت نفس أبت

عيشتها في ذلة جاثيه؟

من الردى (لوثر) لم يفزع

والغيظ نار حوله تضرم

ينزو به الخافق في الأضلع

لو لم يبح أرداه ما يكتم

بِكرٌّ كَرَّ البطل الأروع

بالرأي صوال على خصمه

وخصمه في الرأي ذاك الذي

يجود بالغفران أو يحرم!

والمارد الجبار في عصره

الساحر المبتسم الناقم

يرتعد الطغيان من ذكره

وما له من حربه عاصم

في نثره الويل وفي شعره

(فلتير) والدهر له منصت

ص: 37

ينقل للأجيال آياته

والظلم مستخذ له راغم

كأن في أضلاعه جمرة

بنارها كم مهجة أشعلا

في كل قلب نافث ثورة

مل كلَّ أو أبطأ أو بدلا

هاجر عن أوطانه هجرة

نجت من (البستيل) آراءه

وا عجباً بالقلم المنتضى

بنيان هذا الحصن كم زلزلا!

وجاءت الرجفة من بعده

وجن بركان بها يفهق

وأذهل الطغيان عن عهده

فحوله الهول الذي يصعق

والدم موج جد في مده

يخوضه الفادون في موكب

عروسه الحرية، أدركت

من حولها ألوية تخفق

زلزلة في الغرب قد جاوبت

أختا لها في الأفق النازح

أختاً لها نازفة غالبت

منذرها بالعاصف الجائح

بالموت إذ أنذرها حاربت

فالعيش في الأغلال موت وما

يخشى الردى إلا الذي يرتضى

قيوده في عيشه الرازح

وهاجة شعلتها لاتنى

تضئ لا يحبسها حابسٌ

من موطن سارت إلى موطن

خانقها من موتها يائس

نار سناها ليس في الأعين

ملء أبيات النفوس السنا

أعْظَم ما ضوَّأ لأ لاؤها

والليل مرهوب الدجى عابس

قيثارتي كم بطل خالد

غير الذي غنيت ضاحى الكفاح

وكم شهيد نازف جاهد

غاب اسمه وهو وضئ الجراح

وخامل تحت الثرى هامد

كان طليق الروح ذا عزة

ص: 38

لو كشف الدهر مدى عزمه

شدا به العزم وغنى الطماح!

في الأفق النازح لاتغفلي

عن كوكب قيثارتي ابلج

عن نور (إبراهام) لا تذهلي

في كل دهر قبلة المدلج

الناشئ البادئ بالمعول

محطم الأغلال في قومه

هدية الغابة مبعوثها

أندادَه الأمصار لم تخرج

غنى بابراهام واستلهمى

رسالة في عرسها استشهدا

رسالة ابن الفطرة الملهم

الصارم العزم الوثيق الفدا

الحامل الأعباء لم يسأم

والفتنة السوداء من حوله

حتى محا الرقَّ بياض الضحى

وألف الأبيض والأسودا

من بعده الشعلة حارت فما

تلوح حتى يحتويها السحاب

ثم توارت بعد حين كما

يموت في الظلمة ومض الشهاب

الأفق الغربي قد أظلما

لولا مصابيح به نورهم،

باق على الدهر وأسماؤهم

حاضرة ما إن لها من ذهاب

في الغرب عهد الموقنين انقضى

كما انقضى في الشرق وحي السماء

احتجب النور الذي أومضا

وأعتم الليل ومات الرجاء

وا أسفا! كم أمل قوضا

وكم تراءى شفق كاذب

مخضبُ مٌنكَدِرُ أفقه

البغي فيه والخنا والدماء

استدبر النور فما استقبلا

فجراً ولا بارقة أبصرا

يخبط في أوهامه معجلا

يخطو وما يمشي سوى القهقري

يعيش عيش الغيلة الأولا

الناب والظفر تغطيهما،

ص: 39

أغطية ما إن يرى مبصرُ

أشقى له منها ولا أخسرا

في شغل أٌفٍ مل يفيق

معبوده ذو وهج يبرق

النور ما يلقيه هذا البريق

فليس ومض غيره يعشق

وهو شواظ من عذاب الحريق

يهوى إلى لألائه دائباً

هذا الفراش المستهام الذي

يجذبه اللمح الذي يحرق!

وألقيت في السجن مكبولة

حيري به الحرية الراغمة

معصوبة في القيد مغلولة

في أسرها جاثية قائمة

موصولة الثورة مذهولة

تعجب، من البسها غلها

وفيم هذا السجن تلقى به

بعد ضحى رفت به هائمة؟

تصيح بالسجان إني هنا

فانظر غداً إذ ترجف الراجفة

ما كان هذا السجن لي موطنا

قد أزفت يا آسري الآزفة

هذا ندائي الخافت استعلنا

أصغ له. . . للريح مجنونة

صافرة من كل صوب، أتت

تنبئ عما تحشد العاصفة

إني هنا لكنما تجتلى

روحي في كل عَتىٍ طليق

في البحر. . في البيداء روحي فلا

توثق أو تخشى ظلاما يحيق

في هزمة الرعد إذا جلجلا

في السحب السابحة استرسلت

في رعدة الأرض إذا زلزلت

في زفرة البركان عاتي الحريق!

روحي في رفرفة الطائر

وفي تغنيه إذا حلقا

وجذوتي في مهجة الشاعر

بنارها ضوء أو أحرقا

ويحك! طال الأسر يا آسري

يا موثق الطين بأغلاله

ص: 40

الروح نور الله. . . من غَلّها

هيهات يا آسر إن توثقا

ص: 41

‌الأدب والفن في الأسبوع

قبر الكاظمي:

كان المغفور له الشاعر العربي الكبير السيد عبد المحسن الكاظمي قد أوصى قبل وفاته أن يدفن بأرض مصر وأن لا ينقل رفاته إلى العراق. وتنفيذا لهذه الوصية قامت الحكومة العراقية من جانبها بتشييد مدفن له في مقبرة الأمام الشافعي، وقد تم بناء هذا المدفن في الأسبوع الماضي على وضع يليق بمكانة الشاعر الكبير وإكرام الحكومة العراقية لذاكرة ونقل رفات الشاعر إليه في حفل حضره كثيرون من رجال الأدب وأبناء العروبة.

ولعل من المعروف إن الكاظمي رحمه الله قد نشأ في العراق من أسره عريقة شريفة، ولكنه غادرها في صدر شبابه هرباً من العسف والطغيان وجاء إلى مصر فوجد من أريحية بنيها عامة ومن رعاية المغفور له الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبده ما جعله يؤثر الإقامة بها ويتخذ من أهلها أهلا وسكنا. وكانت له رحمة الله عليه صلة وثيقة بالمغفور له الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول، ولما قامت الثورة المصرية وقف الكاظمي ينصرها بشعره، ويرسل القصائد العامرة في تمجيد سعد والإشادة بزعامته، وله في ذلك جملة قصائد مطولة سماها بالمعلقات. . .

كان الكاظمي مثال الشاعر العربي القديم في صفاء الفطرة وغزارة المادة وحضور البديهة، وكان يرتجل القصيدة تزيد على المائة بيت دفعة واحدة فتاتي خالية من الحشو والفضول. وكان يترنم في الشعر بنغم يدوي حلو فيهز النفوس هزا، وقد أخذ حافظ إبراهيم عنه هذه الطريقة فكانت قوام الروعة في إلقائه المعروف، وعلى الرغم من بداوة الكاظمي في مضهره وفي طريقته فإن أسلوبه كان حلواً سائغا خالياً من المعاظلة والتعقيد. . .

حقاً إن الحكومة العراقية قد أكرمت ذكرى هذا الشاعر الكبير بتشييد هذا الضريح، وبما أغدقته من رعاية لابنته الوحيدة رباب وقد كانت (رباب) كل أمل للكاظمي في حياته، فلعل حكومتنا تقوم من جانبها بإكرام ذكرى شاعر منح مصر قلبه وخصها بشعره، فتجمع كل آثار الكاظمي وأشعاره وتطبعها في ديوان فإن الكاظمي يخلد بشعره أكثر مما يخلد بقبره.

برناردشو والجاحظ:

يشتغل الأستاذ أحمد حقي نائب مدير مكتب البعثات المصرية في لندن بتلخيص مؤلفات

ص: 42

الكاتب الأيرلندي المعروف برناردشو وإخراجها في كتاب جامع، وقد أراد بهذه المناسبة أن يقابل الكاتب الكبير ليباحثه في بعض الآراء، فكتب إليه برناردشو يعتذر عن المقابلة ويقول له: إن المقابلات أمر خارج عن الموضوع، فإني رجل هرم، وليس في مقدوري استقبال الزائرين، ولا البحث معهم في مؤلفاتي، وما كتبته قد كتبته، وأود الآن أن يقراني الناس لا أن يروني. . .

وقد اذكرني هذا بحادثة مماثلة من كاتب العربية الكبير أبى عثمان الجاحظ، فقد روى عن أبس طاهر انه قال: صرت إلى الجاحظ ومعي جماعة وقد أسن واعتل في آخر عمره، وكان يجلس في منظرة له وعنده ابن خاقان جاره، فقرعنا الباب فلم يفتح لنا، واشرف من المنظرة فقال: إلا إني قد حوقلت وحملت رميح أبى سعد فما تصنعون؟ سلموا سلام الوداع، فسلمنا وانصرفنا فما أشبه صنيع برناردشو اليوم بصنيع الجاحظ بالأمس، والناس هم الناس في جميع الأزمان والأجيال. . .

نشاطنا الثقافي:

يعنى معالي وزير المعارف عبد الرزاق السهوري باشا برسم الخطة لإصدار سجل ثقافي تتولى إخراجه كل عام إدارة مختصة في وزارة المعارف وتضمنه مظاهر النشاط الثقافي في مصر ليكون تاريخا لحياتنا الثقافية وما يجد فيها من تطورات واتجاهات، وما يبدو في مجاليها من جهد وإنتاج.

وإنها لفكرة طيبة وخطوة موفقة، لأن إصدار مثل هذا السجل فضلاً عما له من الفائدة التاريخية سيكون حافزاً لشحذ العزائم، فسيقف الناس فيه على مدى النشاط الفكري، أي إنه سيكون بمثابة صحيفة حساب عن الجهد الثقافي في عام. . .

وحبذا لو أخذت جميع الهيئات والجماعات الثقافية والعلمية بهذه الفكرة، فتقصد كل منها إلى وضع سجل سنوي يؤرخ مظاهر إنتاجها ومناحي نشاطها حتى تبرر وجودها أمام الناس، على ان تتولى الوزارة تنسيق هذه السجلات الخاصة في سجلها العام.

الروابط الثقافية بين الأقطار العربية:

تبدي الجامعة العربية نشاطاً ملحوظاً مشكوراً في توثيق عرى الروابط الثقافية بين الأقطار

ص: 43

العربية، وقد أشرنا إلى مظاهر هذا النشاط ومقاصده الطيبة في أعداد الرسالة السابقة، ويسرنا أن نشير اليوم إلى خطوة سديدة خطتها الجامعة في هذا السبيل، ذلك إنها قررت أخيرا أيفاد أساتذة محاضرين من مصر إلى عواصم الأقطار العربية الأخرى، واستقدام أساتذة محاضرين من تلك الأقطار إلى مصر والى غيرها من الدول العربية لإلقاء محاضرات عامة تقوية للروابط الثقافية بين أقطار العروبة.

وأنها كما قلنا خطوة موفقة تدعو إلى الغبطة والاطمئنان على مستقبل العالم العربي ومستقبل الوحدة العربية، فإن الوحدة الثقافية في الواقع أساس الوحدة السياسية ولن تجتمع كلمة العرب في القصد إلى هدف سياسي واجتماعي موحد إلا إذا تقارب اتجاههم في التفكير وتوحدت وجهتهم في الإدراك العقلي والثقافي، غير إننا نعود إلى ما سبق أن حذرنا الأمانة العامة للجامعة العربية من الوقوع فيه، وهو الاقتصار في النهوض بهذه المهمات على الرجال الرسميين والأساتذة الموظفين، بل يجب أن تجعل ذلك ميدانا مفتوحا يجرى فيه رجال الفكر والثقافة المتحررين من ربقة الرسميات وتقاليد الوظائف لأن التفكير الرسمي أجدب ما يكون في خدمة تلك الاتجاهات والنهوض - كما يجب - بمثل هذه المهمات. . .

شاعر. . . وطباخ:

قرأت في إحدى الصحف العربية التي تصدر في المهجر الأمريكي نبأ طريفا تقول فيه: علمنا أن حضرة المواطن الفاضل الشيخ حسين أبو حمزة شاعر الجيل الفذ المشهور نزيل مدينة جكسنفيل قد افتتح مطعما جميلا في تلك المدينة، فنرجو الله أن يوفقه في تجارته وان يدعمه بلبلا غريدا في حقل الشعر. . .

وضحك صاحبي الذي كان يستمع لما قرا وقال: أظن أن شعر صاحبنا هذا تفوح منه روائح البهار والتوابل، وأعتقد إنه مما تشتهيه البطون. . . ثم اندفع يعلق على هذا الكلام فقال: لقد كان المرحوم الأستاذ محمد السباعي يقول: لا تقل يانسيم الصبا وياريح الغرام، بل خير لك أن تقول: يا نسيم المطبخ ويا ريح الشواء، وكان يقول أيضا: لأجل أن تعيش لا تكن أديبا فحسب، بل كن ادبيا وصانع أحذية أو أديبا وبائع لعب أو أديبا وشيئا من ذلك. . . وتصور أنت إن أديبا من أدبائنا الكبار افتتح مطعما أو احترف حرفة من هذا القبيل،

ص: 44

أن الناس لا شك كانوا ينظرون إلى هذا على انه شيء غريب مضحك. . .

قلت: اجل. إن هذا قد يبدو لنا أمرا غريبا عجيبا لأننا تعودنا أن ننظر إلى الأدب على انه حرفة متميزة، لا يصح أن تقرن بحرفة أخرى، أصبحنا ننظر إلى الأديب على انه إنسان يعيش في عزلة عن دنيا الناس، فلا يصح منه ولا يليق به أن يسلك سبيلا في الحياة من سبل الناس، وهذا إسراف لا مبرر له، وإجحاف لا أنصاف فيه.

إن الأدب يا صاحبي ليس حرفة في ذاته، وان الأديب إذ يبتذل فنه في سبيل العيش يكون قد تدلى إلى اسفل، ونزل به إلى سوق التجارة، وإنما الأدب الهام وتضحية كما يقول تولستوي. وقد كان الجاحظ وهو أديب العربية يشتغل في أول حياته يبيع الخبز والسمك على نهر سيحان، وكان أبو هلال العسكري يبيع البز في الأسواق، وكان الخبز أر زي يصنع خبز الأرز، والحسين الجزار يشتغل جزاراً، وهناك عشرات أمثالهم من الأدباء والشعراء كانوا يعيشون من البيع والشراء في عروض التجارة وينتجون في الأدب ويقولون الشعر، فليكن يا صاحبي فينا الشاعر الطباخ والأديب الخباز والفنان النجار، فإن هذا لن يضير الأدباء ولن يغض من قيمة أدبهم، وإنما الانحطاط الأدبي إن يجعل الأديب من أدبه مادة تجارة لكسب الرغيف.

جائزة فؤاد للآداب

عرف قراء الرسالة مما نشرناه في العدد السابق أن الأستاذ الكبير معالي أحمد لطفي السيد باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للآداب قد أعلن في حفلة توزيع الجوائز بالجامعة إن اللجنة لم تستطع إنجاز مهمتها لضيق الوقت ولهذا رأت تأجيل منح الجائزة إلى العام القادم، ولكن بعض الصحف علقت بكلام كثير في هذا الشان وزعمت أن الأدباء الذين تقدموا لنيل الجائزة لم يستحق أحد منهم الفوز بها.

ولما كان صاحب (الرسالة) عضوا في لجنة الفحص، فقد سألناه كما سألنا غيره من الأعضاء عن الحقيقة فأكدوا لنا جميعا أن الحقيقة هي أن وقت اللجنة كان أضيق من أن يتسع للمفاضلة بين ما أرسلته إليها وزارة المعارف وقد بلغ حوالي مائة كتاب في أغراض مختلفة. وقد رأت اللجنة إن الأفضل أن تمنح الجائزة وقدرها ألف جنيه لتتويج مجموع إنتاج كاتب من الكتاب لا مكافأة كتاب من الكتب فتكون جائزة فؤاد على غرار جائزة نوبل

ص: 45

التي يكافأ بها كاتب أو عالم أو سياسي على مجموع عمله. أما مكافأة الكتاب الواحد فتكفيها الجوائز التي يمنحها سنويا مجمع فؤاد للغة العربية وهي جوائز تتراوح قيمة كل منها بين المائة جنيه والمائتين واللجنة تسعى لدى وزارة المعارف لتحقيق ذلك.

وهناك ناحية أخرى يجب أن تكون موضع الاعتبار، وهي فتح الباب للفوز بهذه الجائزة أما أبناء الأقطار العربية الأخرى، إذ لا يخفى أن هذا مما يرتفع بقيمة الجائزة ويتمشى مع الرغبة في توثيق الصلات الثقافية بين الأقطار العربية.

(الجاحظ)

ص: 46

‌البريد الأدبي

تعليق على تعليق:

هذا كتاب أرسله إلينا الأستاذ محمد تقي القمي السكرتير العام لجماعة التقريب تعليقا على مقال الأستاذ الطنطاوي المنشور في العدد السابق.

. . . وبعده، فقد نشرت الرسالة في عددها 722 كلمة للأستاذ الفاضل علي الطنطاوي بعنوان تعليق على كتاب، إلى علماء الشيعة عرض فيها للخلافات الطائفية بين المسلمين، وذكر إنها خلافات سياسية كان من الواجب أن تنتهي بانتهاء معاركها السياسية. ويقرر حضرته إن أهل السنة يتمنون أن تطوى الخلافات وينسخ حديثها وتتناسى حتى تنسى، وعرج على كتاب تحت راية الحق في الرد على الجزء الأول من كتاب فجر الإسلام واقتبس منه فقرات تمس أهل السنة؛ وأظن إن عنوان الكتاب كاف للدلالة على إنه وضع منذ ست عشرة سنة رداً على مطاعن وجهها إلى الشيعة مؤلف فجر الإسلام نفضل ألا نشير إليها حتى لا نثير مسائل نعمل للقضاء عليها. وقد تبين للمؤلف عدم صحتها فحذفها من الطبعة الثانية - ومعنى هذا إن الشيعة لم يعتدوا وإنما دافعوا عن أنفسهم فقط. لو أن الأستاذ طنطاوي التفت إلى مقدمة الكتاب المذكور للعلامة آل يس الكاظمي وقد كتبه منذ ستة عشر عاما لوجد فيها ما يصرفه عن تناول هذا الموضوع، ولتأكد إن علماء الشيعة ينفرون مما ينفر منه، ويدعون لما يدعو إليه، ويرغبون في التقرب إلى إخوانهم السنيين. ولوجد أن الكاظمي نفسه أخذ على المؤلف إسرافه وان كان التمس له بعض المعاذير.

وبصفتي عضوا في جماعة التقريب وملما بأحوال النجف وإيران أؤكد إن أحدا من علماء الشيعة لا تسمح له نفسه أن يهاجم المذاهب الأخرى - اللهم إلا أن يكون كاتباً يؤجره المستعمرون - الذين يريدون القضاء على فكرة التقريب بأي ثمن - وليس في علماء الشيعة - والحمد لله - من يغريه المال. . .

ولا يفوتني أن أكر أن ما ينصح به كاتب المقال ويراه طريقاً للاتفاق بين الشيعة والسنة هو بعض ما تسعى إليه جماعة التقريب، وفي المادة الثانية من قانونها الأساسي ما يؤكد ذلك، واعتقد إن من السهل تحقيقه في زمن قصير لو أعاننا رجال الفكر والعلم والقلم أمثاله.

ص: 47

أما نفقات دار التقريب فإن مصدرها تبرعات حضرات أعضاء الجماعة سنيهم قبل شيعيهم وسجلات الدار مفتوحة لكل من يريد الاطلاع.

ومع إني أشكر لآخي الأستاذ طنطاوي حسن ظنه بجماعة التقريب واعتقاده إنها قادرة على رفع الخلافات الطائفية في ثلاثة اشهر - أي من وقت تأسيسها إلى الآن - إلا إني آخذ عليه ما ذكره من إني اقدم لأصدقائنا الكثيرين من فاخر المآكل والمشرب فإني أخاف أن يثوروا جميعا علينا، إذ لم يقدم إليهم سوى القهوة أو الشاي.

واحب أن أقول لحضرته لو عرف حياتي الخاصة في إيران ما حسب إن نزولي بفندق الكونتينتال فيه شيء من الترف أو الإسراف كما خيل إليه.

محمد تقي الفمي

السكرتير العام لجماعة التقريب

تحقيقات تاريخية

للدكتور علي إبراهيم حسن جولات في التاريخ الإسلامي كان آخرها دراسات في تاريخ المماليك البحرية وفي عصر الناصر محمد بوجه خاص، وهو كتاب قيم جدير بمؤلفه ولا تكفي هذه العجالة للإلمام به أو الإشارة إلى قيمته ولكن ورد فيه بالصفحة 29 بعض تعليقات منها ما جاء تحت رقم 5 (والمعروف أن والد السلطان برقوق كان من فلاحي الدانوب) ولما كان المعروف لدى المعاصرين والمجمع عليه كما جاء في ابن أياس وهو حجة لأنه جركسي الأصل إن السلطان برقوق مؤسس دولة الجراكسة كان من خلاصتهم. وفيه أيضا: حضر من بلاد الجراكسة والد الاتابكي برقوق فخرج الناس لملاقاته قاطبة فلاقوه في البكارشة في يوم الثلاثاء 8 ذي القعدة سنة 781.

وفي وفيات 783 وفيها انس بن عبد الله الشركسي والد برقوق الملك الظاهر كان كثير البر والشفقة لا يمر أسير مقيد إلا ويطلقه لا سيما إذا رأى الذين يعمرون بالمدرسة التي ابتدأ السلطان بعمارتها، توفى في شوال ودفن بتربة يونس ثم نقل إلى المدرسة (يقصد البرقوقية) فدفع ولده الظاهر إلى جلال الدين التباني ألف مثقال وستمائة ذهبا ليحج عنه ويقال انه جاوز التسعين (((شذرات الذهب).

ص: 48

فمن أين جاءت مدام ديفونشير بان هذا الوالد من فلاحي الدنوب؟ اسم برقوق من الأسماء التي يحملها الجراكسة إلى الآن ضابط من اصل جركسي وصل إلى رتبة جنرال في الجيش التركي والتقيت به مرارا مدة خدمتي بأنقرة بالسفارة المصرية، ولم أتمكن من تحقيق الناحية اللغوية لهذا الاسم ولكني قرأت في تعليقات الأمير شكيب أرسلان على ابن خلدون صفحة 102 ومن أصناف الترك (الشاروق) أو (الجاروق) وكانوا يسكنون في مدينة برقوق التي هي اليوم ماد الباشي.

وفي الضوء اللمع: برقوق ابن أنص الظاهر أبو سعيد الجركسي العثماني نسبة لجالبه كان شهما شجاعا ذكيا خبيرا بالأمور. وساق كلاما عن ترجمته حتى قال وترجم له الفاسي في مكة وله سيرة طويلة جمعها بعض أهل العصر في مجلد.

وفي كشف الظنون إن له سيرة جمعها ابن دقماق ثم العيني وذكره أي برقوق المقريزي في عقوده وجاء في خططه صفحة 341 جزء 3 انه اخذ من بلاد الجركس ويبيع في بلاد القرم.

وجاء عنه انه تعلم الفقه وسائر العلوم الإسلامية حتى أن أستاذه بليغا لقبه بالشيخ فمن أين أتى ذكر بلاد الدانوب؟ وهل لدى مدام ديفونشير نص تاريخي يمكن الاستشهاد به؟

لا يمكن إنكار حقيقة واقعة وهي أن بلاد الدانوب وبعض بلاد البلقان أتى عليها وقت ساد فيه الإسلام ربوعها وذلك قبل آل عثمان وقبل هجمات التتار أي في أوائل القرن السابع الهجري. وجاء في تعليقات الأمير شكيب إن جميع البلاد إلى النصف الأول من القرن السادس عشر للمسيح من شبه جزيرة البلقان وشطوط البحر الأسود إلى الصين ممالك إسلامية متصلة كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية.

وفي نص نقله الشيخ عز الدين عمر بن علي بن إبراهيم بن شداد عن الأمير بدر الدين يسرى المشمسي انه كان رفيق الملك الظاهر بيبرس في بلاد القفجاق وهي الجزء الشمالي من البحر الأسود فلما زحف التتار من القوقاز عليها كاتب قبائل القفجاق أنس خان ملك الاولاق أن يعبروا نحو صوراق إليه، والمفهوم أن بلاد الاولاق باللغة العثمانية، كما أن المفهوم أن صوادق تقع في شبه جزيرة القرم، وإن الأسماء الروسية والأجنبية مثل سباسيتول وغيرها أطلقت حديثا على بلاد إسلامية بعد ضمها إلى الروسيا.

ص: 49

فهل أخذت مدام ديفونشير إن اسم أنص هو لكل من يسكن أو يأتي من نهر الدانوب؟ ام كيف تنسب الظاهر برقوق إلى هذه الجهة وتاريخه العائلي معروف بالتفصيل بدليل مجيء والده واخوته وأخواته وبعض أولادهم واستيطانهم مصر بعد سلطنته؟ وجميع المصادر المعاصرة تقرر في كل مرة يحضر فيها واحد منهم أو بعضهم بان حضورهم من بلاد الجركس وانهم كانوا مسلمين وماتوا مسلمين.

أحمد رمزي

اقتراح

يخطب الخطيب فيصفق الناس أو يدعون فيعرف ما يحبون وما يكرهون، ويغني المغني فيهتف السامعون أو يسكتون فيدرك إن كانوا يطربون أو يكتئبون، وتصدر المجلات ويكتب الكاتبون. فلا يدرون أيرضى القارئون أم يسخطون.

فلماذا لا تسن الرسالة سنة جديدة يعلن بها القراء عما يرضيهم ليصلوا إليه. ويعلم به الكتاب فيكثروا منه؟ ثم أن الرسالة اليوم على أبواب تطور جديد في جوهرها ومظهرها. وإصلاح شامل تستكمل به قوتها. وتحتل مكانها فلماذا لا تشرك القراء معها، (وهي لهم وهم لها) في وضع منهاج هذا التطور، ورسم طريق هذا الإصلاح. فتسال كل قارئ (1) عما يعجبه من الرسالة لتزيده له (2) وما يكرهه لتخلصه منه (3) وما يؤمله لتحققه له. ويؤلف لجنة لفحص الأجوبة وترتيبها وإعلان نتيجتها ونشر الجيد المعلل المدلل منها؟ ما هو رأى الرسالة؟

علي الطنطاوي

ص: 50

‌الكتب

الله

تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد

بقلم الأستاذ محمود الخفيف

هذا الكتاب جليل القدر من ناحيتين: ناحية موضوعه وناحية كتابه. . .

ولست أجد في وصفه خيرا من أن أقول إنه كتاب عظيم، والحق إن هذا الكتاب لو صدر في أي لغة لكان بين كتبها من أعلام الكتب والآثار من اهتمام المفكرين والقراء ما هو خليق بأشباه من الكتب الفذة، وإنه ليسرني في هذا المجال الضيق أن أتحدث حديثا موجزا عن هذا الكتاب هو اقرب إلى التحية منه إلى النقد.

يحق لكتاب العربية من زمن طويل أن يستبشروا بكل ما يكتب العقاد، فقد اتفق له من الخواص ما يجعله بغير ريب من مفاخر جيلنا هذا، بل ومن مفاخر الفكر العربي في تاريخه كله، ومن هذه الخواص أصالة الرأي واتساع أفق الثقافة، وحدة الذكاء وقوة المنطق، هذا إلى لقانة عجيبة يستشف بها الحجب وينفذ بها إلى الأعماق، فإذا أضفت إلى هذا براعة أسلوبه وقدرته على التعبير القوى الموجز الذي لا يزيد ولا ينقص عن المعنى، وذوقه وضلاعته في اختيار اللفظ المطلوب، تمت لك صورة العقاد الكاتب، وانك لتجد هذه الخواص مجتمعة في اكمل صورها في هذا الكتاب الذي أتحدث عنه.

تبقى بعد ذلك صفة هامة من صفات الكتاب، وهي الإحاطة المدهشة بنواحي الموضوع على دقته وعلى الرغم من تشعب مذاهب القول فيه. والواقع إن كل فصل من فصول هذا الكتاب يصلح موضوعا لكتاب، وانك لتخرج مع هذا من كل فصل بما تخرج به من كتاب كامل. فالأستاذ المؤلف يعرض ما دار من الآراء حول ما يطرق من الموضوعات، ولا يكتفي بالعرض بل يأتي بكل ما يرد به على هانيك الآراء، وهنا تبرز قوة منطقه وسعة أفقه وتمكنه مما يقول، ولا يسعك إلا الإعجاب العظيم كما انك تستشعر اللذة التي يبعثها اتساق الفكر وحسن السياق. . .، وتجد ذلك جليا في فصول الكتاب جميعا وبخاصة أصل العقيدة وفي براهين وجود الله.

ص: 51

خصصت لقراءة هذا الكتاب زمنا ما، فما فرغت منه حتى عدت إلى قراءته، ثم عاودت النظر اكثر من مرة في بعض فصوله مثل ذلك الفصل الجميل الوعي الكوني الذي تتمثل فيه أصالة العقاد، ومثل البراهين القرآنية التي ترينا كيف يغوص العقاد فيخرج بما يطلب من المكنونات والخفايا. . .

ولقد قرأت في الإنجليزية كثيرا من الكتب التي تناولت مثل هذا البحث، واشهد في غير مجانية للحق إني ما ظفرت في أحدها بمثل ما ظفرت به في هذا الكتاب من الإلمام والاستيعاب، وإني لأعجب كيف يجتمع هذا كله بين دفتي كتاب لا تزيد صفحاته على ثلاثمائة، ولكنه فن العقاد. . .

وبعد فهذا كتاب ينبغي أن يقرأه المؤمن ليزداد إيمانا مع إيمانه، والحائر ليجد سبيل هدايته، والمتشكك ليطرح شكه، والجاحد ليعلم علم اليقين انه أسرف على نفسه بجحوده، هذا ما تركته في نفسي قراءة هذا السفر الجليل، ولعلي بعد ذلك لم أوف على الغاية مما أحببت أن أقول.

ولا يفوتني أن أشير إلى شيء آخر راقني في الكتاب كله، ذلك هو منطق ترتيب البحث وتأليف الكتاب، فأنت تخرج من فصل إلى فصل كما تنتقل من فكرة إلى فكرة لها أوثق الصلة بها، بحيث لا تستطيع أن تقدم منه فصلا على فصل، يضاف إلى ذلك انه ليس بين هذه الفصول المتساوقة ما يشعرك بأن في هذا الموضع أو ذاك فصلا ناقصا كان يجب أن يكون. . .

بحث الأستاذ في اصل العقيدة الإلهية وتطورها وتكلم عن الوعي الكوني كتمهيد للبحث في ذات الله، وفكرة الوعي الكوني هذه من اجمل وابرع ما صور للعقاد، واستعرض الكاتب بعد ذلك الأديان القديمة في مصر والهند والصين واليابان وفارس وبابل واليونان كلا منها في فصل، ثم عرض الأديان السماوية قبل الفلسفة وبعدها، وألمع إلى التصوف، وانتهى إلى براهين وجود الله العقلية منها والنقلية، وختم كتابه الجليل بكلمة في آراء الفلاسفة المعاصرين وفي العلوم الطبيعية وعلاقتها بالمباحث الإلهية. . .

ومن هذا يدرك القارئ كيف كان بناء الكتاب على هذه الصورة من براعة المنطق.

تحيتي للأستاذ الكبير مشفوعة برجائي أن يزيدنا من ذخائره الطيبة الفذة التي نحن أحوج

ص: 52

ما نكون إليها، والتي يحق أن تفخر بها المكتبة العربية.

الخفيف

في فلسطين العربية

(تأليف الأستاذ محمد يونس الحسيني)

تعتبر فلسطين في هذه الأيام مشغلة الأذهان في العالم العربي، لهذا تمتلئ النفوس للهفة إلى معرفة كل شيء عن تلك البقعة المقدسة التي هي مثار ذلك الخلاف العنيف، وليس هذا الكتاب في الواقع إلا تقريرا ضافيا وافيا عن طراز الحياة العربية القائمة في فلسطين، وقد قدم المؤلف الفاضل لشح هذه الحقيقة في كتابه بمقدمات تاريخية مفيدة عن بيت المقدس وعن فتح العرب لفلسطين وما كان لذلك القطر من شأن على عهود الدول الإسلامية المختلفة، ثم انتقل من هذا إلى الحديث المستفيض عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على نهج علمي يعني بالحقائق وإيراد الأرقام وعقد المقارنات، ثم شرح الصلة بين هذه النواحي وبين مستوى المعيشة والحياة التي يحياها أبناء فلسطين العرب في هذه الآونة.

فالمؤلف الفاضل قد سد بكتابه هذا حاجة عند أبناء العروبة وصور لهم ناحية كان من الواجب أن يقفوا عليها ويفهموها لأنها في الواقع الأساس لفهم المشكلة الفلسطينية والعمل على إنقاذ ذلك القطر العربي من براثن الاستعمار والطغيان وإنه لعمل يذكره له وطنه ويشكره له سائر أبناء العروبة.

الحكر في مصر

(تأليف عثمان بك فهمي)

والحكر في مصر ناحية من النواحي التي تشغل الأذهان في الدوائر القضائية والحكومية نظرا لكثرة ما يجد فيها من المشكلات ثم ما يكون في ذلك من اختلاف في الرأي والتقدير، وقد عرض المؤلف الفاضل في كتابه هذا إلى هذه الناحية فتناولها تناول الباحث المحقق والخبير المدقق، إذ عني بالحديث عن عقد الحكر وما يحدث من الخلاف في تطبيقه وأتى

ص: 53

في هذا على وجهات النظر الواردة في الفقه وفي القانون وفي العدل، وصحح ما هو شائع في التطبيق من الأخطاء الشائعة والاعتبارات التي تصطدم بالواقع وفارع وزارة الأوقاف ما تدعيه في عقد الحكر منذ خمسين عاما وختم بحثه بالمطالبة بإبعاد القضاء عن نظر مسائل الاحتكار. وإن هذا الكتاب بموضوعه هذا وبما اشتمل عليه من الدقة والعمق في البحث يهم رجال الفقه والقانون والمعنيين بمسائل الاحتكار بصفة عامة بل إنه يعتبر مرجعا وافيا ومصدرا نافعا في الاعتماد عليه.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 54

‌القصص

الاختيار الذي كسر قلبي

معربة عن الإنجليزية

بقلم الأستاذ عبد الحميد حمدي

(ماذا يجب أن تعلم المرأة إذا هي ووجهت بهذه المشكلة؟ بل ماذا تستطيع أن تعلم؟ وهل هناك قانون يحدد الصواب والخطأ تستطيع أن تسترشد به؟)

سألتني صاحبتي، بعد أن خرجنا من دار السينما على أثر مشاهدتنا الرواية القوبة (أنا كارنينا)

- كيف استطاعت ذلك؟ لقد كانت القصة رائعة حقا وقد مثلت تمثيلا مدهشا، ولكنني لا أتستطيع أن أصدق أن أية أم يمكن أن تتخلى عن طفلها جريا وراء رجل ما، بلغ حبها ذلك الرجل ما بلغ من عنف ومن يأس!

فلم أقل شيئا تعقيبا على كلمات صاحبتي، ولكن يدي المخبأتين في قفازيهما تشنجتا وانطبقت شفتاي انطباقا محكما، ومن أين لها أن تبين ذلك الألم الصامت الذي يمزق صدري ويلهب رأسي، فالنساء اللواتي يجتمعن في الشرق الأقصى ويتحدثن ويشربن يصطنعن الصداقة ولكن لأغلبنا أسرارا يحتفظن بها في أعماق قلوبهن لا تستطيع هذه الصداقة المزعومة أن تفض خاتمها.

لقد تزوجت من (روني كوبلرن) لأنني كنت أحب (تيد بورتر) حب جنون ويأس. وليس لهذا التصرف من معنى معقول، على أن أشد من هذا بعدا عن كل معنى معقول أن تيد كان يحبني وكان، بعد أن تنتهي السنوات الثلاث المفروض عليه أن يقضيها في الخدمة فيما وراء البحار، طليقا من كل قيد يحول دون زواجه مني. ولقد انتظرته سنتين من هذه السنوات الثلاث قضيتها في التلهي والتروض مع الشبان الآخرين، ولكنني احتفظت في أثنائهما بشفتي وجسمي وقلبي لتيد بعد عودته.

لقد كان ذلك آمرا شاقا علي، بعد أن نعمت سنتين بقرب (تيد) وجسمه وقبلاته وضمات ساعديه، ولكنني ظننت أنني أتستطيع تحمل هذه التجربة القاسية، لقد كان ذلك واجبا علي

ص: 55

حتى أكون أهلا (لتيد) فلقد كان يحارب الوحدة وحرارة جو الحمي، لا يجد حتى فتاة تواسيه أو شرابا ينعشه، لقد كان (تيد) قويا، وكان الرجل الذي لا يحب غير امرأة واحدة - وكنت أنا هي تلك المرأة!

كان الله في عوني! فلم أكن أرغب في إنسان غير (تيد) ولكن لم يكن لي مثل قوته. وكان (روني كولبرن)، الذي قابلته في أثناء السنة الأخيرة من افتراقنا - إذ لم يبق غير اثني عشر شهرا يعود (تيد) في نهايتها إلى الوطن - كان روني هذا شديد الإصرار والإلحاح. وكان طروبا جذابا في أسلوب شيطاني. وقد صمم على أن أكون له. ولعل جريان دمي كان يزداد سرعة كلما دنا موعد رجوع (تيد) لذلك أصبحت لا أملك شعوري كلما لمسني (روني)، وحدث في ذات ليلة قضيناها في رقص وبهجة رائعين أن رجاني في توسل أن أسمح له (بقبلة واحدة) وإذ مال رأسي إلى الوراء شعرت بشفتيه تضغطان شفتي فكأنما كانت هذه القبلة طعاما قدم لجائع تقتله المسغبة.

ووقفنا هناك متعانقين في الشرفة وهو لا يفتأ يقول:

- ليس يضرنا إننا لم يعرف أحدنا الآخر إلا منذ شهر واحد. فهذا هو الحب ياعزيزتي (بام) وستتزوجين مني. . . في الحال.

وحاربت رغبته الملحة ثلاثة أسابيع كنت في أثنائها أتقي الاجتماع به ما استطعت، وقلت في نفسي إنني مجنونة حمقاء. ولكن غبية (تيد) قد طالت حتى إنني، ولو حننت إليه وعلى الرغم منكل ما كان بيننا، لا أتستطيع أن أذكر حتى ولا شكل وجهه. أما (روني) فكان قريبا مني، وكان شخصا حقيقيا أراه وألمسه وأشعر بوجوده وهل كان شيئا غير الحب ذلك الذي سرى في كياني سريان الكهرباء عندما ابتسم لي وأمسك بي؟

وانتصر (روني) آخر الأمر، وقضينا إحدى (العطلات) الأسبوعية مختفيين عن أعين الناس وتحت تأثير شعور لذ مبهج مخيف، أقسمت إيمانا لم أقصد إلى الوفاء بها، وكل ما كنت أعزي به نفسي فكرة يائسة سخيفة هي إنني إن كنت قد أخطأت فإنني أتستطيع أن أسترد حريتي بالطلاق. فكان كل ما حدث حلما جنونيا مرعبا، تدرج من دهشة الذين علموا بأمر زواجي، إلى قضاء شهر العسل في المسكن الذي استأجرناه خصيصا له، ثم بخروجنا أمام الناس متأبطين - فكان حلما خاطفا غير مكتوب له الدوام.

ص: 56

ولو يكن بد من أن أستيقظ من ذلك الحلم فأدرك إنني قد تزوجت من رجل غريب عني في كل شيء. لقد كان لطيفا يسر الإنسان أن يكون معه ولكنه لم يكن (تيد). ولقد كنت كذلك المرأة الوحيدة (لروني) أيضا ولكن على غير الطريقة العمياء المطوية على الوله والعبادة التي كانت تظهرني في عين (تيد) مثالا لكل شيء جميل.

ولم يلبث (روني) أن نظر إلى النظرة العادية إلى الشيء المألوف، لا يقبلني إلا نادرا إن خطرت له فكرة التقبيل على بال، وكان من النادر أيضاً أن يقول لي إنه يحبني، ولم يقصد قط النظر إلى ملابسي أو شعري، ولم يكن ليبدي له من الإعجاب ما تشعر كل فتاة بأنه من حقها الواجب أداؤه لها.

وفي كثير من المرارة والألم ذكرت كيف لم أكن لأبدل ملبسا أو أضع دبوسا في شعري دون أن يهمس (تيد) في دقة (يا للسماء يا حبيبتي كيف تستطيعين أن تنوعي جمالك بهذه الوسائل العديدة؟). وذكرت كيف كان يندر أن يتركني أغيب عن نظره، وكيف كان دائما إذا ما اجتمعنا لمس يدي أو شعري أو شفتي. . . يالها من ذكرى. . . فأواه يا تيد أواه. . . .

وبعد أسبوع واحد يصل (تيد) إلى الوطن وسيتجول في الطرقات المألوفة لنا في غير صحبتي ولعله يذهب لزيارة أمي، رافع الرأس متألما ومتذكرا - كما أتذكر أنا هنا في هذه البلدة الصغيرة في مقاطعة نور ثمبرلاند التي أخذني روني إليها بعد زواجنا.

لقد كانت الأزمة شديدة لذلك حمد (روني) الله إذ وفق إلى مركز كاتب في أحد الجراحات، وهو عمل صغير يتقاضى أجرا عليه ثلاثة جنيهات في الأسبوع، فاستأجرنا لإقامتنا مسكنا رخيصا وعشنا عيشة رثة. فأين الآن ما كنت أتوقع من حياة ساحرة

لقد أردت أن أعود إلى بيتي إلى أبي وأمي و (تيد) ولكن على الرغم من غضبي مما دفعني إليه روني ومن إهماله إياي بعد ذلك كنت أشفق عليه، فلقد كان نصيبه من قسوة هذه الحياة مثل نصيبي منها: فمن شجار بيننا إلى حياة الفقر التي نحياها إلى اضطراره للعمل الشاق ساعات طويلة من اليوم. وكنت إذ ذاك كل شيء له في الوجود.

إن الحياة لغز عسير الحل، فقد كان ألا أتزوج منه، وكان يجب ألا أستلم أبدا للشفقة في بقائي معه حتى أصبح من العسير، على كل حال، أن أتركه، لقد كان (تيد) في حاجة إلي

ص: 57

وكان مستعدا لأن يرجعني إليه في الحال، وقد علمت ذلك من الخطاب العجيب الذي بعث به إلي متحدثا في موضوع زواجي وفيه يقول:(إن سعادتك هي كل ما أعيش له، ي (بام). ولن يحل أحد مكانك من نفسي، وسأنتظرك إلى الأبد، فإذا أردتني مرة أخرى أو احتجت إلى. . .)

إن أردته؟ أو احتجت إليه! إنني لم أكن أشد حاجة إليه مما أنا الآن، ولكنني لم أكن لأستطيع الذهاب إليه وأنا أحمل جنين (روني) في أحشائي.

لقد فرح (روني) بهذا الخبر، وقال:(إن هذا الوليد سيبقينا معا) فخيل إلي أن هذه الكلمات معناها الحكم بالسجن الأبدي، فشعرت بما يشبه الجنون. . . الأمومة. . . . الرباط الوثيق. . . . وحماسة روني الفرحة كل ذلك أثار عوامل غضبي. فقبلت:

- وكيف يمكننا حتى أن نكفل هذا الوليد؟

على أننا قد استطعنا ذلك على صورة ما. وقد أصاب روني في ذلك كما أصاب في قوله إن الوليد سيبقينا معا - في بيت واحد، فلقد بقينا معا بالفعل سنتين على الأقل، سنتين امتزجت في خلالهما الفاقة في حياتنا بنشوة السرور.

لقد أحببت أنا وروني ابنتنا الصغيرة (سو) حبا مفرطا، ففي اللحظة التي وضعت فيها هذه الوليدة التي لا يزيد حجمها على حجم القطيطة، بين ساعدي، تحللت جميع عوامل البغضاء والغضب التي تملكتني تسعة أشهر طوال إلى شعور فياض بالرقة والمحبة. لقد كان صغر حجمها! ومعجزة وجودها وجمالها! كان كل ذلك باعث حب لا يطاوله حب ولا تدانيه أية عاطفة إنسانية.

كذلك قبضت (سو) على قلب (روني) بقبضتها الصغيرة، في حين أصبحت، أنا التي كنت حبيبته من قبل، ولا صفة لي إلا إنني أم ابنته ولا مهمة لي إلا السهر عليها والعناية بأمرها، فقد انصرف حبه كله إلى أرجوحتها الصغيرة. فقد ينفق من المال ملا قبل لنا به على ابتياع اللعب والملابس الصغيرة، وكان في أغلب الأوقات يجلس في الظلام إلى جانبها بعد أن تستغرق في النوم، وكان يقضي الوقت الطويل في ملاعبتها معتقدا أنه وحده هو الذي علمها المشي والكلام، وكان شديد التفاخر بأنها تشبهه بأنفها الشامخ، وابتسامتها الساحرة؛ فكانت حسبه من الحياة كلها، وقد احتلت من نفسه مكمن العواطف والخيال ولم

ص: 58

أكن أقل حبا لابنتي من أبيها لها. ولكنه كان حبا من طراز آخر. فلم يبد لي صواب القول بأن ثمرة الحب تضع حدا للاحساسات، أيا كانت، التي حملت اثنين على الاقتران أحدهما من الآخر. فقد خيل إلى أنه قد قدر لي أنا وروني أن نعيش متلازمين إلى الأبد، ولكي أرفه من حياتنا ظننت أنه يجب علينا أن نأخذ بهذه الفكرة، وأقسم إنني قد حاولت ذلك، ولكن جمود روني وعد قابليته لأن يفهم ما أنا محتاجة إليه غير البيت والطفلة والعلم بأنه مخلص لي وفي، كل ذلك أشعرني احتقار لنفسي حرمني النوم.

فكنت أبكي وأناقش وأتوسل ولكن ذلك كله لم يكن إلا ليزيد العلاقة بيننا سوءا.

ثم إذا أدركت إن روني لا يستطيع أن يغير ما به اعتزمت أن أكتفي بحب الأمومة. فيجب أن أكتفي بملاحظة (سو) وهي تنمو من طفلة قوية البنية صحيحة الجسم إلى بنية صغيرة مرحة حلوة المحيا، ولقد علمتها بعض الأغاني والشعر الخفيف، وكنت أتروح معها كل يوم ماشيتين نجمع في الشتاء أوراق الشجر الزاهية أو ننزلق على الجليد - وكنت أشعر بالكبرياء تملأ نفسي عندما يلتفت الناس إليها فيبتسمون معجبين بخطواتها القصيرة السريعة وشعرها الناعم الذي يتلاعب به الهواء وعينيها الجميلتين البراقتين. لقد كانت جميلة حساسة سريعة الحركة بشوشة الوجه شديدة المرح. . . لقد كانت ابنتي. . وهي لي وحدي آه يا (سو). . . (سو) عانقي أمك يا ابنتي واملئي حياتها الموحشة سعادة وعزاء.

كان حب (سو) يعزيني في أغلب الأحيان، ولكنه لم يكن كل العزاء الذي تتعطش نفسي اليه، فلقد كنت امرأة كما كنت أما. وكنت لا أزال صغيرة جذابة كمثل ما كنت يوم تركني (تيد) والآن أريد (سو) وأريد (تيد)، ولكني كنت أعلم - كمن وقع في الفخ - إنني لن أستطيع أن أجمع بينهما. فإن روني لن يتخلى عن (سو) أبدا، ولقد كان ينذرني بذلك كلما حدثته في أمر الطلاق فكان يقول:(حسنا يا بام لك أن تطلبي الطلاق إذا كنت غير قادر على إسعادك - ولكنك لن تأخذي سو أبدا).

ومع ذلك كان تفكيري في (تيد) يعذب نفسي، لقد كنت أحلم به في الليل وفي النهار. لقد كنت أتساءل: أين هو؟ وحيثما كنا نذهب - وكنا كثيرا ما نغادر البيت - كنت أبحث عنه بنظري بين الجماهير، حائرة، آملة. يقفز قلبي كلما رأيت رجلا طويل القامة عريض الفك مجعد الشعر. . . إذ كنت أتخيله (تيد).

ص: 59

كنت أشعر إنني مندفعة في طريق الجنون. ولو إنني عرفت على الأقل أخباره وطريق حياته لاطمأنت نفسي وهدأت أعصابي فصممت آخر الأمر على أن أكتب إليه، معنونة الكتاب بعنوان بيته القديم الذي لا يزال في رعاية أبويه اللذين لاشك في إنهما يعرفان مقره الجديد وسيحولان الخطاب إليه.

(لها بقية)

سعبد الحميد حمدي

ص: 60