المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 724 - بتاريخ: 19 - 05 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٢٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 724

- بتاريخ: 19 - 05 - 1947

ص: -1

‌من مذكراتي اليومية

حلوان في يوم الجمعة 28 فبراير سنة 1947:

زوجة مدير الفندق يوغسلافية حسناء، يحلو لها أن تلبس في ساعات العمل القميص الرياضي الأبيض، والبنطلون الرمادي الطويل، وأن تسرح شعرها وتصففه على الأسلوب الغلامي الفاتن فتكون أشبه الناس بأبناء الذوات حتى في النتوءين الجميلين المكورين في أعلى البطن وفي أسفل الظهر. ثم يعجبها ويعجب الناس أن تمشي البخترة في الشرفة أو في الردهة أو في البهو فتوزع التحيات والبسمات على من تعرف ومن لا تعرف من نزلاء الفندق. فأينما تمر ينبثق منها على القعود الخمود أشعة من الصبا والفتوة فلا تجد غافيا إلا صحا، ولا غافلا إلا وعى، ولا مغضيا إلا فتح عينيه، ولا ساكنا إلا رفع يديه، ولا شيخا إلا تمنى أن تقف لحظة على طلله فتسأله كيف أمسى وكيف أصبح!

كانت تصد عامدة عن الشباب وأشباه الشباب حتى لا تفسر نظراتها وبسماتها بغير المجاملة التي تقتضيها طبيعة عملها من مواساة المريض ومؤنسة الوحيد ومباسطة المنقبض؛ ولكنها كانت تؤثرني بقسط موفور ِهذه المجاملة الغزلة، وتعلل هذا الإيثار بأنني مصري وهي ترتاح لهذا الجنس، وبأنني حي وهي تطمئن إلى هذا الخلق.

أقبلت على ضحى اليوم إقبال الربيع في لونه وحسنه وعطره، وكان المرض ساعتئذ قد أحرج صدري وأفرغ صبري وتركني لا أتقار من الضجر، ولا أنفرج من الضيق. فلم تكد تحيي وتجلس حتى أحسست في جسمي ذلك الخدر العجيب الذي يسكن الألم ويحرك النفس. ثم أخذت تساقطني أعذب الحديث حتى جرى ذكر هذه الطغمة التي تنعم بخير مصر وتنكره، وتنتشي برحيق النيل ثم تعكره؛ فقالت لا تعجب أن يجحد هؤلاء اللئام فضل مصر؛ فإن منفعتهم قائمة على أن تظل موسومة بالعجز موصومة بالجهالة! لقد خالطت بحكم عملي أنماطاً شتى من الأجناس فلم أجد أنبل فطرة ولا أسجع خليقة ولا أندى راحة من المصري الأصيل القح. أتذكر ذلك الرجل البذيء الذي كنت تجادله بالأمس في مشكلة فلسطين؟ إنه أغنى أرمل في يهود الإسكندرية. ومع ذلك طمع يوم نزل الفندق أن ينام دون أن يأكل؛ فلما أبينا عليه ذلك اتفق مع يهودية مصدورة تقيم في إحدى الغرف المفروشة على أن تشترى غداءه وعشاءه بستين قرشا؛ ولها فوق البيعة أن تتمتع بشمس الفندق

ص: 1

وحديقته وأثاثه وحفلاته؛ وبذلك ينام هو بستين قرشا ويأكل بعشرين، وتنام هي بعشرين قرشا وتأكل بستين! فأين هذا الشحيح القذر وأمثاله منك وأنت لا تكاد تأكل خمس ما تنفقه، أو من المصري الآخر م. باشا، وطعامه يأتيه كل يوم من داره فيفرقه؟ إن المصري سمح سهل، لا يساوم في (تعريفة) الأجرة حين تعرض عليه، ولا يراجع قائمة الحساب يوم تقدم إليه. فقلت لها: من هنا يا سيدتي جاءته الخيبة! فلو أنه كان بخيلا لاستدرُّوا بالتقبيل كفه، ولو أنه كان فظاً لاستماحوا بالتدليل عطفه!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌هي الحرية

للأستاذ محمود محمد شاكر

قالوا في قديم الأمثال: (ليس المتعلق كالمتأنق)، فالرجل الذي أنعم الله عليه بسعة العش، وأرخى باله من هموم الحياة، مطيق أن يتأنى فيما يختار لنفسه متذوقا ومتخففاً حتى يرضى، أما الذي قدر الله عليه رزقه فهو كالسهم قي الوتر المشدود ترمي به يد الحاجة إلى هدف يتخايل له أو يتحقق، وهو لو أراد لما أطاق إلا الذي فعل لأنه مدفوع بالاضطرار. ورب سارق لم يجد من السرقة بدأ لأنه دفع إليها بحاجة طبيعية لا يطيق أحد خلافها، وهو التعلق بالحياة والإبقاء على النفس، فهو يريد أن يطعم الغريزة التي تلهب أحشاءه بالجوع المهلك. ومهما تكن روادع نفسه، ومهما تكن قوتها، فهو منتهٍ إلى ساعة لا يجد عندها إلا أن يمد يده ليخذ شيء يمسك عليه رمقاً يوشك أن يتبدد. وما مد الرجل يده، ولكن الحياة هي التي مدتها، فهو خليق أن لا يكون عندئذ مسئولا عما فعل. وكذلك الشأن في أحداث كثيرة تكون في هذه الحياة الدنيا وفي هذا الناس، فإن المجتمع الإنساني يعنف بأبنائه أحياناً ويعتسف بهم أضل المجاهل، لأنه لا يبالي بأن يكفل لأبنائه جميعاً حاجتهم التي لا غنى لأحد منهم عنها، ولأنه يغفل في فورانه عن الطبائع الأولى التي تتطلب زادها من الحياة، والتي إذا فقدت هذا الزاد لم تبق على شئ، ولم ترع شيئاً، ولم ترعو عن شئ. وهذا ضلال قديم في النظام المجتمع الإنساني، أراده الأنبياء بالإصلاح، وأراده عقلاء المفكرين بالتغير، فأدركوا شيئاً ووقف بهم العجز عن كثير، لا من عجز في هدايتهم أو آرائهم، بل من عجز المجتمع عن أن يدرك سمو الأغراض التي رمى إليها الأنبياء والمفكرين.

وفي عصرنا هذا أمثال كثيرة على تغلغل الفساد والجهل والعسف وقلة المبالاة في قلب المجتمع الإنساني. أمثال يكون فيها الأفراد هدفا منصوباً لاضطهاد جماعة الأمة أو الشعب، وأمثال تكون فيها الأمة هدفاً لاضطهاد جماعة الدول أو الشعوب.

فليس في الأمم اليوم أمة لا تتداعى وتتنادى باسم الحرية: حرية الفرد، وحرية الفكر، وحرية العقيدة، وحرية التجارة إلى أخر هذا الحشد من الحريات، فهي بذلك تقرر جميعا أن الحرية أكبر أغراضها، وهذا طبيعي، لأن الحرية هي إحدى الطبائع المستقرة في الإنسان الفرد، وهو يطلها طلباً حثيثاً ملحاً، حتى ولو اضطر أن يستعبد نفسه لعملا يكدح في سبيله

ص: 3

طول حياته، ولكن غايته من هذا الكدح هي أن يتحرر من الكدح وهذا إحدى عجائب الطبيعة البشرية.

نعم أن الحرية غاية الفرد التي يسعى إليها وهو وحيد في مشاعره وفي بعض وجوده، ولكنه إذا صار فرداً من جماعة كان للجماعة سلطان على هذه الحرية وتصرفها، وهو شيء من حقها أيضاً. ولكنها إذا إرادة أن تتعسف وتحرمه حريته فقد أساءت من حيث أرادت الإحسان، ولا تكون الجماعة رشيدة حتى تعرف أن الحرية حاجة طبيعية لابد للفرد من الاستمتاع بها على وجه من الوجوه، فلابد إذا من أن تتيح أوسع ما يمكن من مجال تتصرف فيه الحرية على الأسلوب الذي يجعلها وافية بحاجته الطبيعية. ومن هنا يأتي الفرق بين نظام ونظام، فيكون هذا بغيضا مملولا، وذاك محببا مألوفا.

والأمم اليوم في جماعة الدول بمنزلة الأفراد في الجماعة، فلا بد للنظام الذي يريد أن يكون محببا مألوفا من أن يتيح للأمم جميعا أوفر قسط من الحرية يتيح لها أن تتصرف على الأسلوب الذي يجعل الحرية وافية بحاجتها الطبيعية، فإذا لم تفعل ذلك جماعة الدول انتقضت الأمم المسلوبة حريتها ورأت ذلك النظام بغيضاً مملولا، وكرهته وكرهت أهله، وصارت حرباً على الجور والعسف حتى تنال حريتها وتستمتع بها طبقاً لحاجتها الطبيعية. ومن أجل ذلك فيما زعموا، أنشئوا هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية.

ولكن ماذا نرى من فعل جماعة دول اليوم؟ إنها جميعا قد أنكرت بأسلوب يجمع بين الخسة والمكر والنفاق، أن تكون فلسطين المضطهدة أمة عربية مستقلة حرة كما تشاء الفطرة الإنسانية، وأرادوها أن تكون يهودية تفتح أبوابها لأنذال أمم الأرض، فهم يتدسسون إليها من كل حدب ومن كل فج، وهم يزمعون أن يغزوها بأجساد يهودية تتساقط من الطائرات على أرضها، وأرادوها أن تظل ساكنة هادئة مطيعة حتى تمتلئ جنباتها بالإنذار الذين يريدون أن يحولوها من عربيتها إلى يهوديتهم.

وهذه الأمم التي كانت، ولا تزال تتداعى وتتنادى باسم الحرية، تسمع وتبصر، فينسكت بعضها ويمالئ بعضها، ويعاضد بعضها، وتأذن جميعها للصهيونية الخبيثة أن تزرع بذورها الخبيثة في الأرض الطيبة. فإذا قامت العرب تناديهم باسم الحرية حاوروها وداوروها وتنذلوا معها بكل أساليب الخسة والخداع والنفاق، لأنهم يريدون أن لا تكون

ص: 4

الحرية حقا لهؤلاء العرب، ويريدون أن تكون عونا لهم على سلب هذه الحرية من العرب، ولن يبلغوا بأذن الله ما يريدون.

ثم هذه مصر والسودان ظلت اكثر من خمس وستين سنة وهي تتفزع من ثقل النير المضروب عليها، فلما جاءت الساعة التي لا تطيق معها صبرا على ضروب الذل والهوان التي لقيتها من احتلال جيوش بريطانيا، ومن احتلال شذاذ الأفاق الذين نزلوا أرضها فرتعوا في نواحيها كما يرتع السوس في الصوف في الصيف، كما يقولون، ولما جاءت الساعة وطلبت الفطرة الإنسانية في مصر حاجتها من الحرية التامة التي تتنادى بها تلك الأمم، لاذت تلك الأمم بالصمت ولجأت إلى الخداع وتلفعت بالنفاق، ويوشك أن تنكر على مصر والسودان حقوقهما في هذه الحرية العامة التي ينبغي أن تستمتع بها البشرية كلها أمما وأفرادا.

بل أعجب من ذلك أنها لجأت إلى أدنى الأساليب يوم أرادت تفريق كلمة المصريين بأن يوقعوا الشقاق بين أهل دينين ظلا أجيالا يتعاشر أهلهما بالمعروف. فلما سقط في أيديهم وأخفق سعيهم وحبطت أعمالهم، انحازوا إلى أسلوب آخر هو تسليط جماعة من المرتزقة يقال لهم المراسلون الصحفيون، يذيعون عنا كل خبيث بكل لسان لا يرعون حرمة ولا ذمة ولا عهدا. وحرضوا أيضاً أعوانهم من الأجانب الذين عاشوا في مصر طويلا أو قليلا، ليجلسوا في المجالس ويذيعوا أن بلادنا وبلاد العرب جميعا تسئ اليوم إلى الأجانب. ويعنون بذلك أنه منذ جلا الإنجليز عن جزء من مصر، صار المصريون وحوشا مفترسة تعتدي على الأجانب وتهينهم وتزدريهم قولا وفعلا. وكل ذلك يتناقله المراسلون الصحفيون من المرتزقة، ويرسلونه ليذاع في الصحف في جنباتالأرض ونحن نعلم علم اليقين أن هذا ليس من فعل المرتزقة أنفسهم، بل هو من حث بعض الدول وإغرائها لهم بأن يقولوا هذا ويذيعوه ويتناقلوه بينهم وبين من يلقون.

هذا، والأجانب أنفسهم قد عاشوا في مصر مع بريطانيا خمساً وستين سنة وهم يمتهنون المصريين ويسيئون إليهم في أنفسهم وأموالهم وأرضهم وعقائدهم، حتى ألفوا هذا النوع من الغطرسة، فلما جئنا اليوم نأباها عليهم كما تأباها بريطانيا وأمريكا وكل بلد قل شأنه أو أرتفع، تصاخبوا علينا، وراحوا يبسطون ألسنتهم وأفعالهم فينا وفي أخلاقنا وعاداتنا، فإذا

ص: 5

أراد أحدنا أن يكفكف من شر أحدهم، أنطلق يزداد صخبا وجلبة يستصرخ الدنيا كلها على هؤلاء المتوحشين الذين يسمون المصرين. ومع ذلك فمصر منذ عشر سنوات هي مصر اليوم لم يزد ما كان يلقاه الأجانب أمس فيها من رد وقاحتهم وجرأتهم علينا، على الذي يلقونه اليوم من ذلك، ولكنهم سمعوا السنة هؤلاء المرتزقة تذيع عنا الأباطيل، فانطلقوا يتصايحون علينا كأننا صادرنا أموالهم وأجليناهم عن بيوتهم، ونصبنا لهم المشانق، وأعمالنا فيهم استئصال الشأفة كما كان يفعل طاغية ألمانيا باليهود!!

ثم تأتى المرتزقة من المراسلين فتزعم أن بلادنا قد أصبحت متطرفة في الحماسة للحرية، وأن كلمة (مصر للمصريين) قد أصبحت أهم كلمة في مصر، ويقوم صعلوك منهم يقول:(ولذلك لا يعجب المرء كثيراً يراهم (يعنى المصريين) قد ضلوا الطريق! ولكننا نعجب حينما نتساءل إلى متى سوف يستمرون في اندفاعهم الذي لا يكبح جماحه من أجل الحرية؟).

ونحن نأسف لأن الشعب المصري لا يزال هادئا صابرا على كل هذه الوقاحة التي يصبها علينا مرتزق بين ظهرانينا، ونأسف لأن حكومتنا المصرية لا تزال هادئة صابرة بل مجاملة أشد المجاملة لهذا النوع من المرتزقة. وكان خليقاً بأية حكومة في الدنيا - لا حكومة مصر - أن تعرف لولئك الذين أذاعوا أنباء غير صحيحة في طائفة من المسائل التي تتعلق بمصر، وان تقول لهم إنكم كذبتم فإما أن تكفوا عن إذاعة هذه الأكاذيب، وإما أن تغادروا بلادي. ثم ترفع كل الأدلة التي تصبح كذب هؤلاء الكذابين من المرتزقة إلى حكوماتهم، وأن تبرأ ذمتها من دخيل لا يرعى أدبا ولا خلقاً، ولا يعرف قدره ولا أقدار الناس!

إننا نطلب الحرية وسننالها، وسنكون أحراراً في بلادنا نسوسها بالسياسة التي نرتضيها لأنفسنا. ونحن لن نرضى لأنفسنا إلا الأنصاف، ننصف أنفسنا، وننصف من يعاشرنا من الأجانب. ولكن إذا ظن الأجانب أن هذا الإنصاف الذي لهم ينبغي أن يكون على ما تعودوه منذ خمسة وستين سنة، من امتهان المصريين ومن الغطرسة عليهم، ومن بقاءهم طبقة واحدة ترى أنها أنبل منا، واشرف منا، واحسن عقلا منا، وأولى بثروتنا منا، وأحرى بالامتياز من كل مصري يعيش على أرض مصر - فيومئذ سوف ننصفهم أيضاً، ولكن بما

ص: 6

نرضى به نحن غضبوا أو رضوان وضجوا أو سكتوا.

أما الدول التي تتنادى باسم الحرية، والتي تنكر على مصر والسودان، وعلى فلسطين، وعلى العراق، وعلى بلاد المغرب كلها - أن تكون أمما حرة، فلتفعل ما تشاء، لأن هذه العرب لن تهادن إلا من يهادنها، ولن تجامل إلا من يجاملها، ولن تعاون إلا من يعاونها، ولن تمد يدها إلا من يمد لها يدا نقية من الغدر والفتك والنفاق.

الحرية حق طبيعي، فنحن بالغوه ومدركوه شاءت الأمم أم أبت. والقوة الدافعة إلى طلب الحرية غريزة فطرية، فنحن خاضعون لها حتى تتحقق غايتها شاءت هذه الأمم أم أبت. والإنصاف طبيعة فينا، فنحن سننصف أنفسنا وننصف من يعاشرنا، رضى بذلك من رضى كرهه من كره وهذا كله شيء ليس لنا فيه خيار، لأننا كدنا نموت ونريد أن نحيا. ونحن نتعلق في حياتنا هذه كالجائع المشرف على الهلاك حين يتعلق بكسرة خبز ورشفة ماء، هي الحرية، وأما هم فيريدون أن يتأنقوا ويتنبلوا ويتفاصحوا باسم الحرية التي يريدون بها حريتهم هم مقرونة بالاعتداء على سواهم من الشعوب المتعلقة بالحرية أمثالنا نحن.

وسوف يأتي على الناس يوم وتظهر العرب، وتعلم هذه الأمم كيف تكون الحرية، ثم تقودها إلى هذه الحرية مرغمة كما يقاد الجمل

محمود محمد شاكر

ص: 7

‌من أحاديث الإذاعة

بين الوحوش والبهائم!

للأستاذ على الطنطاوي

أيها المستمعون الكرام. أنتقل بكم هذه العشية إلى بقعة في مصر، جمعت فيها عجائب البلدان، وغرائب الحيوان، فوضح فيها البحر بحيتانه وتماسيحه، وأفراسه وسباعه، والبر بصحاريه وغاباته، وأسوده وفهوده، ووعوله وغزلانهن وأقيمت بها الذرى المخضرة من لبنان تتفجر منها الينابيع وتتحدر السواقي، وتغني عليها البلابل والشحارير، ومدت فيها القفار والجرداء من الجزيرة تسعى فيها المها وتتسابق العير، والأحراج الملتفة من الهند تمشى فيها الفيلة، والثلوج المبسوطة من القطب تخطو عليها الدببة. وعاشت فيها الحيات والثعابين إلى جنب الحمام والعصافير، وصحبت فيها المعزى الذئاب، والثعالب الدجاج، والسباع البشر. وفيها (الجبلاية) هذا الجبل المسحور، تدخل منه إلى مسارب منحوتة في الصخر ولا صخر، وكهوف تتسلسل فيها العيون ولا عيون، وقاعات في باطن الأرض كأنما أعدت لتكون مخادع للحب أو محاريب للتأمل، وكأنما هي أحلام شاعر قد تحققت، وأمنية حالم قد تجسمت، وطرق ظاهرة وخفية تنقلك في خطوات من حر الصيف إلى برد الشتاء، ومن جلوات الطبيعة في أعراس الربيع، إلى خلوات النفس في نشوات الرؤى، تلك هي (حديقة الحيوانات).

وهي بعد هذا كله معرض للإنسان، ترى فيه طباعه وأزياءه، وخلائقه ولغاته، تسمع فيه أشتات الملاحظات، وعجائب التعليقات، تمشى مع الناس فتجد فيهم من يسير على هدى فيرى كل شيء ويقف عليه، ويخرج وما فاته مشهد، ولا ناله تعب، ومن يدع اللوحات الدالة على الطرق، والحراس المرشدين إلى المسالك؛ ويسيرعلى غير الطريق، فيدور دوران السانية، فيتعب نفسه، ولا يبصر شيئا، ولا يخرج بفائدة، فكأنه الرجل الضال الذي يترك هدى الأنبياء، وحكمة الحكماء، ويتبع عقله الأعوج وهواه، فلا يسعد في دنياه، ولا يسلم في أخراه، وتمر على حراس الحيوانات فتجدهم قد فرقت بينهم الحظوظ إذ ساوت بينهم الوظيفة، فحارس القرد والفيل والدب الأسمر، يلعب حيوانه فيقف عليه الناس، وتلقى عليه القروش، فيتسلى ويغتني، وحارس الخنزير لا يلتفت إليه أحد.

ص: 8

زرت الحديقة، ومشيت مع الناس أنظر كما ينظرون إلى أنواع الحيوان، وأرى فيهم أمثالها، ولكنها قد تلففت بالثياب، ففيهم أسد له بطشته وإن لم تكن له لبدته، وفيهم ثعلب له حيلته وإن لم تكن له فروته، ودب له غلظته، وحمار له غفلته، وطاووس له خيلته وذئب له عدوته، حتى وقفت على الأسد وهو يدور في قفصه متألما في صمت، صابرا في استكبار، كأنه النابغة من الناس حبسوه في (قفص) من وضيفة صغيرة، أو إفلاس شامل، أو قرية منقطعة، يلحظ الناس بطرف عينه يقول: آه، لو كنت طليقاً في البادية يا أيها أل. . . بشر! ورأيت الحارس يخرجه إلى متنزهه، إلى قفص الضيق، بعد القفر الواسع والفضاء الرحيب، يذله بعصاه، ويستطيل عليه بسوطه، كما يستطيل الفرنسي اللئيم على المغربي الكريم، ويذله بسيف العدوان وقوة السلطان، وسمعته يزأر مقيداً، كما يصيح المصلح في أمة أفسدها التقليد، فلا يفزع من زئيره إلا الصبية الصغار، ولو زأر عند العرين لخلع هذي القلوب وزلزلها حتى قفزت من حناجر أصحابها.

ووقفت على الفيل وقد تواضع، حتى غر الناس منه لينه فنسوا شدته، وهان على أحدهم حتى أركبه صبيته، وصرفه الفيال واتخذه لعبته، كما يطيع الرجل امرأته، فيضيع رجولته، ويفقد منزلته.

ووقفت على دبين متجاورين، أبيض كبير، قد اتخذوا له في قفصه من الجبس كهيئة الجليد، ووجهوا مسكنه إلى الشمال حتى يظل باردا لا تدخله الشمس، فيظنه موطنه، وموطنه هناك على حدود القطب الشمالي. . . ولكنهم لم يخدعوه، إنه ينظر فيرى قوماً لا يشبهون قومه، إذا لم تستعبدهم فئة قليلة منهم ولم تظلمهم باسم العدل، ولم تخرسهم حرية الكلام، ولم تملك دونهم كل شيء وتستمتع بكل متعة، بشريعة ماركس ودين لينين!

ودب أسمر صغير. . .

يدور الأبيض النهار كله، غضبان أسفاً لا يهدأ ولا يستريح فلا يصل إلى شئ، ويلعب الأسمر بكرة من الحديد، ويراوغ الحارس، ويضحك النظارة، كلاهما سجين ولكن هذا ينسى سجنه، وذاك يذكره أبداً، كالناس منهم من يذكر المصيبة، ويدنيها من خياله، فيراها أبداً أمامه، ومنهم من (يخادع نفسه في الحقائق) فتصفو له الحياة.

والأبيض على جمال شكله ونعومة جلده، ثقيل سمج، والأسمر على قبحه لطيف خفيف،

ص: 9

لأن الجمال جمال الروح، لا جمال الجسد، فرب حسناء تنبو عنها القلوب، وغير ذات حسن تهواها الأفئدة، وتعلق بها العيون.

ووقفت على القردة، وهي تعيشن العمر كله مجلس لهو ولعب تقلد كما يقلد (قردة) البشر، ولكنها تقلد فيما تنفعها وهؤلاء يقلدون فيما يؤذيهم، وعلى الببغاء وهي تردد ما يقال بلا فهم، كهؤلاء الذين يعيدون علينا كل ما يقول الغربيون، وعلى الحيات وهن ناعمات الملمس، ناقعات السم، كالصديق المخادع، يخالك ليخاتلك. ويسقيك من قولة العسل وفيه من قبح مقصده الحنظل

ومررت على فئات الحيوانات على اختلاف أشكالها وألوانها، ومطامعها ومشاربها، من كل سائر أو سابح أو طائر، مما يحار بمخلبه ونابه، كالشجاع الأبي، وما يدافع بسمه كالنمام المفسد، وما يقاتل بثقل جسمه كثقال الروح من الناس والقنفذ وسلاحه شوكه كسليط اللسان، بذئ المنطق، والسلحفاة وسلاحها درعها كالمنطوي على نفسه، المعتصم بصمته، والطاووس وهو كالمرأة سلاحه جماله وحسن منظره. . . والذي يعيش في الماء نظيفاً مطهراً كالسمك، والذي يغسل في اليوم عشر مرات كالدب، والذي لا يطيب له العيش إلا في الأوساخ والقاذورات كالخنزير، يلغ فيها كما يلغ المغتاب في أعراض الناس، وينغمس انغماس الفاسق في حمأة الفجور، وسبع البحر وهو أعلاها صوتا، وأضخمها زئيراً وأقلها غناء، وأضعفها قوة، كالجبان الفخور، والجاهل المدعي، وما ينحط على فريسته من عل كالنسر، وما يأخذها قوة واقتداراً في وضح النهار كالأسد، وما يسلك إليها المسالك المظلمة، ويتسلل صامتاً خلال الحجارة وفي أصول الجدران كالحيات، وعلى الغزلان والعصافير، وهي أبهى الحيوان فلا يقف عليها أحد لكثرتها ويقفون على حيوان قبيح لأنه نادر لأن قيمة الشيء بندرته لا بمنفعته، ولولا ذلك لما كان الهواء أرخص شئ، والألماس أغلاه.

. . . حتى إذا مررت على طائفة من الحمير محشورة في زريبة، طائفة من حمير الشارع تأكل وتهز أذنابها، تتلفت ترقب العصا تنهال عليها كما يرقب الذليل المهانة، ويعجب إن افتقدها، فلما لم ترها وعرفت أنها في أمان منها بطرت بطر حديث النعمة، وترفعت ترفع اللئيم يسود في غفلة من الدهر، ونسيت ما كانت فيه كما ينسى غنى الحرب عهد الفقر، ويأنف من السيارة الفورد وكان لا يجد عربة الكارو، ويدخل أولاده المدارس الأجنبية وكان

ص: 10

لا يعرف طريق الكتاب

يستخشن الخزَّ حتى يلبسه

وكان يبرى بظفره القلم

وفكرت هذه الحمير وقدرت، فانتهى بها التفكير إلى أنها لم تعد حميراً وإنما صارت بشراً، أليس في البشر (حمير)، فلماذا لا يكون في الحمير بشرا؟

ومر حمار مسكين، يجر عربة مثقلة بالحشيش لطعام حيوانات الحديقة فنظر إليها، فلما رآها. . . أجفل وارتد. . .

ما هذا؟ حمير مثله؟ إنه يفهم أن يكون في الحديقة نسور وصقور، وفهود ونمور، وزرافات ونعام، وأن يكون فيها حمير الوحش لأنها غريبة المنظر، بعيدة الموطن، نادرة الوجود، أما أن يكون فيها حمير مثله، تسمن وتخدم ولا تعمل، فهذا ما لا يفهمه أبداً.

ووقف ونهق لها يحييها فترفعت عنه، وتألمت من تطاوله عليها، ومدت شفاهها الرقيقة، وضمت آذانها القصيرة، ولوحت بأذنابها استنكاراً واستكباراً، ونسيت أصلها وتجاهلت أخاها، كما يفعل الموظف الصغير الذي يعيش بمال الأمة إذا وقف عليه أحد أبناء الأمة يسأل حاجة، أنه يظنه يسأل صدقة، أو يطلب إحساناً، أو الشرطي حين يلقى البائع السيار من أهل بلده، وترجمان المستشار حين كان يقابل واحداً من بنى قومه. . .

فلما رأى ذلك منها، بصق ومشي يلعن الحظ الذي جعل (الحمير. . .) سادة، وأقام (الناس) لهم خدما وخولا وبكى على خلائق الجنس (الحماري)، لقد ضاعت تلك الخلائق، وهبطنا حتى صرنا مثل بنى أدم، لا نعرف أقدار أنفسنا ولا أقدار إخواننا.

وجعلت أعاود الحديقة، وأكرر زيارتها، فأرى هذه الحمير محشورة في الزريبة، تأكل وتشرب، وتتعجب لماذا لا يقف عليها أحد! إنها لا تلعب لعب القردة، ولا تغنى غناء البلابل، ولا تملك هيبة السبع، ولا ضخامة الفيل، ولكن لها فنها وجمالها، وما الفرق بينها وبينها، ألا يقرأ الناس لأدعياء الرمزية ولصقاء الأدب، ولصوص البيان، كما يقرئون لأئمة البلاغة، وملوك الكلام؟ ولكن هذه (الفلسفة) لم تقنع أحداً فظل الناس معرضين عنها، لا يحفلون بها. وماذا يبتغون منها؟ وهل قلت الحمير حتى ما تشاهد إلا بقرش صاغ؟ إن الحمار يبقى حماراً ولو وضعته في القصور، وأركبته السيارات، وكسوته الحرير، وأطعمته الفستق المقشر. . .

ص: 11

حتى كان أمس فرأيت القائمين على الحديقة، قد عزموا على إخراج هذه الحمير منها، كي يوفروا على بنفسهم ثمن طعامها، وينتفعوا بجهدها وعملها، ويجملوا الحديقة بأبعادها عنها. . . فعلمت أن هذه آخرة كل (حمار) يتجاوز قدره، وينسى أصله، فليعتبر سائر (الحمير)!

يا سيدات ويا سادة. العفو إذا لم أجد ما أحدثكم به إلا حديث الوحوش والحمير، فالحديث عنها، أكثر فائدة وأسلم عاقبة من أحاديث الناس.

والسلام عليكم ورحمة الله.

على الطنطاوى

ص: 12

‌القفجاق

للأستاذ أحمد رمزي بك

(له براثن تحت إبطيه وصدر وجنبات عليها أطواق وأتراس

ملونة، ليس لأقمشة الترك والتتر أن تحاكيها. . . . . .)

جحيم دانتي

القفجاق أو القبجاق أو الخفشاق أو القبجق كلمات وردت في الكتب العربية القديمة ويعادلهابالإفرنجية

هل القفجاق إسم مكان أطلق على السكان، أم هم قبيل من الناس أطلق اسمهم على الأراضي التي سكنوها فعرف المكان باسمهم؟

هذا بحث يقصر عنه الجدل.

فمن قائل إن القفجاق في لغة الأتراك القدماء هو الصعيد المتسع أو الفيافي من الأرض الواسعة المنبسطة أي حيث يكثر المرعى وينبت الزرع، ثم يأتي الجدب فتصبح الأرض كالصحراء ولذلك كثر ورود اسم صحاري القفجاق في كتب العرب

وعليه فسكان هذه البقاع هم أهل السهول والبوادي مثلهم كأهل البادية من العرب الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته بقوله (لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن) وعليه فالقفجاق قوم يعشقون الحرية ولا يخضعون لنظام، اختلفوا عن غيرهم من سلالات الترك الذين هم أهل جماعة وسلطان ونظام، الذين تجمع بينهم وحدة التعاون والخضوع للرآسة وما يمليه قانون الجماعة، فإذا تركنا أهل المشرق في آسيا جانبا يقول علماء الأجناس إن أهل فنلنده وبعض سكان اسكندنافيا والبشكاريين وفريق من سكان القوقاز المستوطنين هم أهل حضارة وباقي سكان هذه المناطق من أهل هجرة العناصر التركية الأولى في فجر التاريخ: قفجاق.

ويقول الباحثون إن العناصر التركية البدوية اتجهت من هجراتها إلى ناحيتين: صحراء جوبى في الصين وصحراء القفجاق في الروسيا، وأقام ملوك الصين سداً لحماية بلادهم، أما في أوربا فقد عبر القفجاق نهر الفولجا (أتل) ودخلوا السهول واتجهوا إلى الغرب

ص: 13

فوصلوا إلى الدانوب جنوبا والى المجر وسهول بولونيا فأينما اتجهت جماعاتهم ووصلت سنابل خيلهم فهي امتداد للقفجاق

ويطلق اسم القفجاق على القبائل التي هاجرت ودخلت بلاد الرمال بألوانها المختلفة. الرمال السوداء والحمراء والبيضاء وغيرها قرة، قزل، آف، باثان قوم، وهي هذه السهول الواقعة بين الفولجا وجبال الكربات. وفي مسالك الأبصار عن بلاد القفجاق إنها (كانت قبل استيلاء التتار عليها معمورة الجوانب وإنها لا تزال في بقايا تلك العمارة والغراس) وعدد ما فيها من أنواع المزروعات والفواكه وأسماء بعضها بلغة القفجاق.

وفي أسماء البلاد ما يشير إلى ألوان الرمال التي مر ذكرها، فمنها مدينة أفجا كرمان الواردة بمسالك الإبصار وصبح الأعشى وهي بقرب مدينة أوديسا الروسية وفى مقابلها صاري كرمان، وفي القرم آق مشهد وآق شيار (سباستبول) وآق بلغات الترك معناه: أبيض؛ ولو فتحت خريطة مفصلة لأراضى الروسيا الجنوبية لهالك ما تجد من أسماء القرى والمحطات التي لا تزال تحمل أسماء مشتقة من لغة القفجاق سكان البلاد.

ويحاول بعض المؤلفين أن يجمع بين القازاق والقفجاق فيقول بأن القيرغيز وهم أهل بداوة إلى اليوم يطلقون قازاق على التائه أو الشارد، والقفجاق في لغتهم هم الذين انقطعوا عن قومهم وانفصلوا وشردوا.

فالقازاق أو القفجاق هم الذين تركوا العشيرة الكبرى وحكم عليهم بالغربة، فإذا استقروا في جهة ما وشغلوا أنفسهم بفلاحة الأرض: استفلحوا وظهرت عليهم مزايا الشعوب المستقرة ومظاهر ضعفها، ولكن إذا جاءت سنوات القحط وأجدبت الأرض أو أصابهم ظلم الحكام عادت إليهم غريزة الكفاح الأولى ووقفوا أمام الطبيعة وأمام الإنسان، فإن أخطئهم التوفيق بدءوا غربة جديدة وواجهوا مصاعب الزمن وتحكم الأقدار، وهم في بلاد الروسيا وقد تغيرت مذاهبهم ولغاتهم ولكن يطلقون إلى اليوم على الدواب والمحاصيل وما تحت أيديهم من منقول كلمة (مال) وعلى سكنهم كلمة (ايزبة) وهى عزبة عندنا.

وليس معنى رجل السهول والبادية أنه يأنف من سكنى المدن بل هو يفرح بحياة الاستقرار ويضع مزايا البداوة في تحسين حياته الجديدة، فالقفجاق قوم أشداء طوال القامة أعصابهم قوية ذوو شدة ومراس على الحروب، ولكن الأقدار لم تكن تسمح للرجل منهم بحياة الراحة

ص: 14

في صحاريه التي تحيط بها الأطماع، فما أن يهاجم في عقر دياره أو تأتي سنوات القحط حتى يبدأ الهجرة إما شارداً من عدو أو باحثاً عن الكلأ ويسير في هذا الطريق الصعب الشاق الذي يذكرنا بتغريبة بنى هلال فيأخذ بالبكاء على الأطلال والغابات ومساقط المياه، ولهم حوادث سجلتها الأغاني الشعبية، ولا يزال قوزاق الدون ينشدون جماعات ذكرى هذه الهجرات ويبكون الأطلال ويرسلون التحية للأسير الغائب والابن الضائع والفتاة المسلوبة، ولكن بلغة غير لغة آبائهم وأجدادهم، وإن حملت أغانيهم وعبرت عن مشاعرهم تلك النغمة الحزينة التي لازمتهم من أواسط آسيا حيث مشرق الشمس ومنبع سراج الدنيا.

ولقد أخرجت المطابع العربية بمصر الكثير من الكتب والأبحاث التي عرضت لتاريخ مصر الإسلامية، وكان من الطبيعي أن يتعرض واضعو هذه المؤلفات إلى بعض المسائل الجغرافية أو الأمور المتعلقة بشؤون الأجناس، فكان مما رأيت أن البعض أخذ لفظ جبال القبق على أنه الفقجاق، وأن القفجاق هم سكان القوقاز بل رأيت خريطة جغرافية وضع راسمها جبال القفجاق على أراضي القوقاز، ولما كان القبق وباب الأبواب والدربند في البلاد الواقعة بين بحر الخزر والبحر الأسود وهي المعروفة بسكانها من الجراكسة والكرج والداغستانيين وغيرهم وهي غير صحاري القفجاق الواقعة حول شبه جزيرة القرم والممتدة من نهر الفولجا شرقاً، رأيت أن أجمع بعض ما عثرت عليه في الكتب العربية تأكيداً لذلك.

فقد ورد في صبح الأعشى عند كلامه على بلاد الدشت قوله (وهي صحاري في الشمال وتضاف إلى القبجاق بفتح القاف وسكون الباء الموحدة وفتح الجيم وألف بعدها قاف وهم جنس من الترك يسكنون هذه الصحاري أهل حل وترحال على عادة البداوة) وفي كلامه عن القفجاق قال (هذه المملكة متسعة الجوانب طولا وعرضاً كبيرة الصحراء قليلة المدن وبها عالم كثير لا يدخل تحت حصر)

ونقل عن صاحب التعريف: إن صاحبها في أيام الناصرية (يعني الناصر محمد بن قلاوون) هو سلطان أزبك خان، وما زال بين ملوك هذه المملكة وبين ملوكنا اتحاد قديم وصدق وداد من أول الدولة الظاهرية بيبرس وإلى آخر الوقت. وفي مادة تركستان عدد ياقوت أصناف الترك وذكر القفجاق تحت اسم خفشاق، وفي المسعودى أنه كان في البلغار من قديم الزمن دار إسلام ومستقر إيمان نقل ذلك صاحب المسالك وأضاف (أما الآن فقد

ص: 15

تبدلوا بإيمانهم كفراً وهم يتدارون سلطان القفجاق لعظيم سلطانه وأخذه بخناقهم لقربه منه.

ويقرر الأصطخري أن لغة البلغار والخزر تفترق عن لغة الترك، وأن لهجات القيرغيز والقبجاق تركية محضة وهذا يتفق مع أبحاث العلماء الأوربيين الذين وصلوا ما بين القيرغيز والقبجاق كما قلنا. ويقرر الأمير شكيب أن لغة الترك الرحالة الساكنين حول نهر الأنيل وهو الفولجا، أنقى من لغات أهل المدن وهو قول صريح في أن لغة القفجاق كانت من أنقى لغات الترك.

ويقرر علماء العرب أن نهر أنيل هو المركب عليه مدينة سراي وهي تقع جنوبي ستايلنجراد وهو ينبع في ذيل جبل قاقونا ثم يتجه جنوبا آخذاً بغرب في صحاري القفجاق على شمالي معادن الفضة حتى يصب في بحر طبرستان.

وفي ياقوت عند كلامه على مدينة (كرش) بلدة صغيرة على ساحل بحر الأزق أهلها قبجاق كفار، ويقابلها من البر الآخر الطامان. وفي كلامه على (كفا) يقول (هي على ساحل بحر القرم وهي شرقي صوداق وعليها سور من لبن ومن شماليها وشرقيها صحراء القبجاق. وعنه حينما تكلم على حملات التتار (وقتلوا القبجاق في بواديهم حتى انتهوا إلى بلغار في نحو عام واحد).

ومدينة (كفا) هي الميناء الذي كان أهل جنوا والبندقية ينقلون منه فتيان المماليك من أهل هذه البلاد لتسليمهم إلى ملوك مصر مدة دولتي المماليك البحرية والجراكسة، ولقد وصل الظاهر بيبرس إلى تسهيل هذه التجارة باتفاقه مع ميخائيل باليولوج ملك بيزانطة للترخيص بمرور السفن عبر البوسفور في ذهابها إلى البحر الأسود وعودتها إلى مصر.

وجنى أهل جنوا والبندقية أرباحاً طائلة من هذه التجارة كما كانوا يتاجرون بالرقيق الأبيض من فتيان الشرق إلى أوربا، ومن نقل فتيان المجر والصقالبة وغيرهم من أوربا إلى الشرق، وقد عثر على سجلات بالأثمان التي كان يباع بها الرقيق، وأن عدد المماليك الواردة من نواحي البحر الأسود لمصر كان لا يقل عن. . . 2 مملوك تضم كل سنة إلى جنود سلاطين مصر.

وليس هنا موضع بحث هذه الناحية فقد يتسع البحث ويعرض لموضوع تنظيم هذه التجارة والاتفاقات التي كانت قائمة والقواعد التي كان معمولا بها وهذا مما يخرجنا عن موضوعنا.

ص: 16

ولكن أهم ما يربط التاريخ المصري بالقفجاق هو ما جاء بصبح الأعشى نقلا عن مسالك الأبصار وهو (ومنهم معظم جيش الديار المصرية من ملوكها وأمرائها وجندها، إذ لما رغب الملك الصالح نجم الدين أيوب في مشترى المماليك منهم، ثم صار من مماليكه من انتهى إلى الملك والسلطنة، فمالت الجنسية إلى الجنسية، ووقعت الرغبة في الاستكثار منهم حتى أصبحت مصر بهم آهلة المعالم، محمية الجوانب فهم بقمار مواكبها وصدور مجالسها وزعماء جيوشها وعظماء أرضها).

(وحمد الإسلام مواقفهم في حماية الدين حتى إنهم جاهدوا في الله أهليهم).

إذ يظهر أن جل المماليك الذين أطلق عليهم اسم البحرية كانوا من قبائل القفجاق مثل بيرس وقلاوون وفارس الدين اقطاي وغيرهم فأحاطوا أنفسهم بمماليك وأمراء من جنسهم.

ويفسر النزاع الذي قام بين المعز وهو تركماني وبين المضفر قطز وهو خوارزمي بعد ذلك وبين البحرية من جهة أخرى هو اتفاق الجنسية بين المماليك البحرية وتفاهمهم وتعاونهم وعدم وجود قوة منظمة متماسكة تقف في سبيلهم، ولذلك وصلوا إلى فرض إرادتهم على من نازعهم من الجناس التركية الأخرى وبرزوا في التاريخ.

وللمماليك البحرية موقفان: أحدهما في المنصورة والثاني في عين جالوت، وفي الثاني يقول صاحب مسالك الأبصار (وكفى بالنصرة الأولى يوم عين جالوت في كسر الملك المضفر قطز عساكر هولاكو بعد أن عجز عنهم عساكر الأقطار واستأصلوا شأفة السلطان جلال الدين محمد بن خوارزم شاه) وقتلوا عساكره مع أن الجيش المصري بالنسبة إلى العساكر الجلالية كالنقطة في الدائرة والله يؤيد بنصره من يشاء).

وفي تاريخ المماليك الأتراك فترات غامضة يفسرها لنا النزاع القائم بين الأجناس المختلفة، فالمعز أيبك التركماني اعتمد على البحرية في وقت ما ثم حاربهم، وقطز وهو خوارزمي حاربهم وصالحهم ثم قتلوه، وحاول زين الدين كتبغا أن يوجد حوله عصبية من جنسه فضاع الملك منه، وكان بيبرس الجاشنكير من البرجية فلم يثبت له ملك، وتمسك الأمراء ببيت قلاوون لأن الغالبية منهم وهم من جنس واحد مع أولاد المنصور قلاوون وهكذا عاش هذا البيت رمزاً للرئاسة مدة أطول من غيره.

وفي الجزء الرابع من صبح الأعشى: (أما في زماننا فإنه منذ قام السلطان الملك الظاهر

ص: 17

برقوق من جنس الجركس رغب في مماليك من جنسه وكثر من المماليك الجراكسة حتى صار منهم أكثر الأمراء والجند، وقلت مماليك الترك من الديار المصرية حتى لم يبقى منهم إلا القليل من بقاياهم وأولادهم).

ويؤكد هذا النص ما سقناه من الحديث، وإن بحث المشاكل التي قامت بين أمراء المماليك يجب أن يكون قائماً على النصوص وعلى الاستقراء والبحث في كتب التراجم مع الإلمام بأجناس الترك والجركس وعصبياتهم.

في القرن السابع الهجري أتم جوني ابن جنجيز خان فتح بلاد المسلمين وأخضع إيران واتجهت كتائبه شمالاً إلى القوقاز حيث اقتحم الدربند وباب الأبواب، وفي الشمال التقى على نهر الدون بقبائل تركية هي القفجاق فخضعت لأول وهلة للفاتحين كأبناء عمومة وأخوة، ولكن المعاملة القاسية التي لقيتها أقنعت غيرها من سكان بحر الأزق (أزوف) أن الأفضل لها وأسلم هو أن تتجه غرباً، وكان ذلك من أسباب مطاردتهم والفتك بهم وتشريدهم لإعادة القطيع الضال إلى حكم الخان الأعظم. وترتب على هذه المطاردة أن توجه فاندان جوبي وسابوتاي بحملة إلى وادي الدنيبر فأتموا إخضاع الجزء الجنوبي من روسيا الحالية وهو المسمى بأراضي القفجاق.

في هذه الأثناء أي سنة 639 كانت إحدى قبائل القفجاق لا تجد مأوى أمامها، فاتجهت إلى القرم بجواد صوداق حال البحر بينها فكاتبت أنس خان ملك الأولاق ليعبروا البحر إليه فراراً من جحافل التتار، وأجابهم إلى ذلك وأنزلهم وادياً بين جبلين وكان عبورهم إليه سنة 640 فلما أطمئن بهم المقام غدر بهم وشن الغارة عليهم فقتل منهم وسبي، وكان من بين السبي غلامان هما بيبرس الملك الظاهر وبدر الدين بيسري الشمسي ناقل هذا الحديث، وكان عمر بيبرس أربعة عشر عاماً فكان أن بيع في مدينة سيواس وأخذ إلى حلب وانضم في مصر إلى جماعة من جنسه القفجاق يعملون في خدمة سلطان مصر.

أما في بلاد القفجاق فاستمرت المطاردة ضد القطيع الشارد إلى أن جاء الأمر من جنجيز خان باستدعاء قائديه، ومات الخان الأعظم فإذا حفيده على عرش أراضي القفجاق وما يستجد من الفتوحات.

والآن بعد مضي مئات السنين على هذه الحوادث يرقد الملك الظاهر في مدرسته بدمشق

ص: 18

وتزول من الوجود دول التتار وعظمة الخان، ولكن ملايين الخلق من القفجاق والعناصر المغولية والأسيوية قد استوطنت روسيا الأوربية منذ قديم الزمن وتركت عوائدها وتقاليدها وآثرت الحياة الفكرية والتكوين العقلي وصبغت اللغة والأناشيد، إن هذا التأثير كان قوياً عميقاً لدرجة أكثر من أن يعترف بها الروس أو يحاول أن يشعر بها أو يسلم بها الباحثون في شؤون روسيا من أهل أوربا الغربية لأنها تقلب المقاييس والقواعد.

ذلك لأن روسيا بأكملها خضعت لخانات المغول الذين حكموها وامتد سلطانهم إلى ما وراء غاليسيا وأتى وقت لم يبق للروس غير نوفو جورود، ثم خضعت هي بدورها، ولذلك يقول الدكتور رابوربورت صاحب (تاريخ روسيا) ومؤلف كتاب (لعنة الرومانوف)

(موسكو وارثة المغول، كان القيصر الوارث الروحي لأمراء المغول الذي تجري دماؤهم في عروقه، أن جودونوف كان مغوليا وكان القياصرة يفخرون بأنهم أصحاب عرش القفجاق).

وفي تعليقات الأمير شكيب على ابن خلدون يقول (أما الروس فكانوا يفرقون دائماً بين القفجاق وغيرهم، فكانوا يطلقون من أواسط القرن الثاني عشر المسيحي على جميع أصناف الترك ما عدا القفجاق سرنيكلوبوكي أي (الطرابيش السود) وهذا دليل على أنهم قدماء في تلك الأرض.

في القرن السادس الهجري وصل أحد أمراء القفجاق إلى جند من أجناد المسلمين فقال واحد منهم (رزقه الله الإسلام) فأسلم القفجاق ودخلوا الدين الحنيف. والآن في القرن العشرين نقول (هل يأتي وقت يذكرون فيه أنهم كانوا مسلمين) مرة أخرى (رزقهم الله الإسلام).

أحمد رمزي

ص: 19

‌الأخطل والمرأة

للأستاذ مهدى السامرائي

يستلهم كثير من الشعراء والأدباء قصائدهم وتخيلتهم من شياطين مختلفة. والمرأة من هذه الشياطين التي توحي لهم بمختلف الغرر والأفكار، ولكن أثرها فيهم يختلف من فرد لآخر كل حسب نوع تأثره بها.

والأخطل من الشعراء الذين أثرت فيهم المرأة، ولكن أثرها كان فيه سلبيا حتى أنه وقف منها موقفا أقرب إلى العداء منه إلى المحاباة والتلطف. فهناك كثير من الشذرات موزعة في أنحاء ديوانه صرح الأخطل فيها بآرائه في خلق المرأة ونفس المرأة وعقل المرأة وموقف المرأة من الشباب والشيب، ولكنها آراء لا ترضي كثيرا من النساء والمتعلمات منهن خاصة. والحق أنه كان متحاملا عليها شديداً في القسوة معها.

لم يكن يرى الاخطل في المرأة إلا ألعوبة يلهو بها كيف شاء ومتى أراد، فعندما تلعب برأسه بنت الحان وعندما تداعب شياطينها وعندما يأخذ السكر منه مأخذه، هناك يتذكرها فيقصدها ليقضي منها وطراً من لذاذة ولعب حيث يقول:

ولقد شربت الخمر في حانوتها

ولعبت بالقينات كل الملعب

فهو لا يرى في المرأة إلا دمية لحمية يقضي معها لياليه، وإلا وسيلة من وسائل لهوه عندما يكون ناعم البال مرتاح الفكر.

طهوت ليلة ناعم ذي لذة

كقرير عين أو كناعم بال

ويبدو أن المرة قد أذاقت الأخطل مر الفعال وسقته كاس الأهوال فهو حتى في نومه وأحلامه لا يرى منها غير الويل والثبور إذ يقول:

طرق الكرى بالغانيات وربما

طرق الكرى منهن بالأهوال

ولا يكتفي بهذا وحسب، بل يصفها بالتلون والتبدل ويشبهها بجنية مروعة تذيق الرجال طعم الأهوال

فتغدّلت لتروعنا جنية

والغانيات يرينك الأهوال

فهو من أعداء المرأة القدامى حاربها بكل قوة، وكشف عن جانب الشر في نفسها ولم يكن يؤمل منها غير الشر وغير الجنة، وغير اللوعة والهول قريبة وبعيدة، حاظرة وغائبة، حية

ص: 20

أو ميته:

فلو كان مبكي ساعة لبكيتها

ولكن شر الغانيات بديل

وكنت صحيح القلب حتى أصابني

من اللامعات المبرقات خبول

وأني لأعجب كثيرا من نساء العصر الأموي أن سكتن عن الأخطل وهو يعلن عليهن حرباً عواناً ويهيب بالرجال أن يبتعدوا عنهن وان يكفوا عن وصالهن إذ هن لا يبيتن لهم غير الحيلة والغواية وما هن إلا بلاء أبتلى به الرجال وغول يقض عليهم حياتهم.

وهن على أحبالهن يصدنني

وهن باليا للرجال وغول

وإن امرءاً لا ينتهي عن غواية

إذ ما اشتهتها نفسه لجهول)

هذه الحكمة يقدمها الأخطل لأبناء جنسه لا ترضى المرأة في أي عصر من العصور ولا في أي حال من الأحوال، إذ لا شك في أنها لعنة في الصميم من حياتها، فلو كف الرجال عنها وانتهوا لبارت وثقلت على أهليها ولأصبحت حياتها مملة خالية من الأمل لا يمكن أن تطاق. ويكشف لنا الأخطل عن ناحية خفية من نفسية المرأة فكأنه اطلع على خفايا هذه النفس ونفذ إلى قرارها، فعلى الرغم من بعد غور المرأة وكتمانها الشديد لدفائن قلبها لكنه استطاع أن ينفذ ببصيرته القوية إلى أعماقها وأن يستشف من وراء ظل حركة تأتيها معنى بعيداً لا يصل إليه إلا من عرف المرأة معرفة جيدة وإلا من ذاق منها مرارة العذاب والصد، فقوله:

المهديات لمن هوين مسبة

والمحسنات لمن قلين مقالا

يدل على أنه عرف أساليبها الملتوية، تلك الأساليب التي تستعملها مع من تحب ومع من تكره، ويدل أيضاً على أنه قد درس هذه النفسية التي لا تريد إلا أن تريد أن تبطن غير ما تظهر وتظهر غير ما تبطن.

والأخطل لا يتحرج من وصف المرأة بالمكر والخديعة إذ يظهر أنها قد لعبت به كل ملعب وأذاقته من أحابيلها وحيلها ما جعله يفرغ ثورته المكبوتة ضدها بقوله:

ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى

فينا ولا كحبالهن حبالا

كما إنه لا يتحرج من وصفها بالجهل، ولكن أي جهل هذا الذي يصفها به، انه جهل أشد من العلم والذكاء فعلا وأقوى من المكر والثقافة تأثيراً، إنه جهل يرمي أقوى الرجال تحت

ص: 21

أقدامها صريعا مجندلا بسهامها النارية مفكراً بإيماءاتها الخفية:

يمددن من هفواتهن إلى الصبي

سبباً يصدن به الغواة طوالا

ويذهب الأخطل إلى أبعد من ذلك في إظهار معايب المرأة الخلقية فيصفها بالمماطلة في العهود، وبعدم الوفاء بالوعود، فهي مشهورة بالخلف، معروفة بالمطل فيقول:

وإذا وعدتك نائلا اخلفنه

ووجدت عند عداتهن مطالا

وأروع من هذا المعنى في وصفه لهذا النوع من خلف بعض النساء قوله:

إذا مطل الدين الغريب فأنها

على كل أحيان تحل ديوانها

والأخطل لا يني عن التهجم على المرأة ونعتها بسرعة التبدل وكثرة التحول فهو يقول:

يرعين عهدك ما رأينك شاهداً

وإذا مذلت يصرن عنك مِذالا

فما دمت بقربها تقدم لها فروض الحب والطاعة، وما دمت حاضراً بين يديها تطري جمالها وتصفها بكل ما في قاموس الجمال من أوصاف، فهي تحبك وهي باقية على عهدك وإلا فنصيبك النسيان إن قصرت في ذلك أو نأيت قليلا عنها.

ويلتفت الأخطل التفاته أخرى تدلنا على ما في نفسه من نقمة على المرأة وحقد عليها فهو يصف غرابة تصرفها مع الرجل وشذوذ سلوكها معه، فهي تتخاذل أمام من يظهر لها الضغينة، وتتفانى في حب من يمتنع عليها ويظهر لها الجفوة، ولعل هذا يعزي لضعفها الطبيعي من جهة ولروحها الخيالية من جهة أخرى، فالرجل الذي لا يظهر لها ضعفاً ولا يبدو أمامها متخاذلا لا شك يشعرها بقوته وسلطته، كما أنه إذا ما ابتعد عنها ولم يتقرب كثيراً منها ستبقى تنسج حول شخصيته أخيلتها وتتصور فيه فتى أحلامها فيزداد حبها له ويكثر تعلقها به. والأخطل يصور لنا ذلك بقوله:

اذا احتثها الركبان كان ألذها

إلى ذي الصبي ذو ضغنها وحزونها

أما رأي الأخطل في عقل المرأة فرأي يكاد يغضب كل النساء، والمتعلمات منهن كما قلت خاصة، فهو لا يرى فيها غير ضعف العقل وخطل الرأي وقلة التفكير، فالمرأة في نظره لا تصلح للحياة العقلية ولا تصلح لإبداء الرأي السديد ولكنها حاذقة في تسديد السهام إلى القلوب، ماهرة في اللعب في العقول عن طريق العيون:

يبرقن بالقوم حتى يختبلنهم

ورأيهن ضعيف حين يختبر

ص: 22

وأكثر من هذا سخرية بعقل المرأة وحطاً من قيمته ذلك الكيل العجيب الجائر الذي يزن به الأخطل عقل المرأة فهو يقول:

وإذا وزنت حلومهن إلى الصبي

رجح الصبي بحلومهن فمالا

يوضح لنا الأخطل ناحية أخرى من نواحي نفسية المرأة، تلك هي موقفها من الشيب والشباب فيصور لنا فرار الغواني من هؤلاء المساكين الذين بلغوا من العمر عتيا والذين استنزف كر السنين منهم ماء الحياة وسطر مر الأعوام في وجوههم تجاعيد الكوارث والأحداث فهو يقول:

يا قاتل الله الغانيات وصل الغانيات إذا

أيقن انك ممن قدزها الكبر

أعرضن لما حنا قوسي موترها

وابيض بعد سواد اللمة الشعر

لا يرعوين إلى داع لحاجته

ولا لهن إلى ذي شيبة وطر

يظهر أن الأخطل كان تبع نساء ولكنه ليس موفقا كعمر ابن أبي ربيعة، فهو لم يقعد عن متابعتهن وعن مضايقتهن حتى في أيام شيخوخته حتى اضطررن آخر الأمر إلى طرده بقسوة واستهزاء فهو يخبرنا عن ذلك بقوله:

يقلن لا أنت بعل يستقاد له

ولا الشباب الذي قد فات مردود

وقول الأخطل:

هل الشباب الذي قد فات مردود

أم هل دواء يرد الشيب موجود

يحمل المرء على الرثاء لحال هذا الشيخ الذي يبكي صباه ويحن لأيام شبابه ويفتش عن ذلك الدواء الذي أعيا العلماء والأطباء إيجاده، ويجد المرء نفسه اكثر من هذا عطفا على الأخطل حينما يسمع قوله:

اعرضن فن شمط في الرأس لاح به=فهن منه إذا أبصرنه حيد

قد كن يعهدن مني مضحكا حسنا

ومفرقا حسرت عنه العناقيد

فهن يشدون مني بعض معرفة

وهن بالود لا بخل ولا جود

فقوله: (وهن بالود لا بخل ولا جود) مما يبعث في النفس الرثاء لحال ذلك المسكين الذي تقف الغواني منه هذا الموقف الحيادي، فهو من قلة الأهمية ومن التفاهة بحيث لا يثير في نفوسهن حباً ولا بغضاً كما لا يثير في قلوبهن العواطف المضطربة والأحاسيس المتباينة

ص: 23

ورجل كهذا حري بالرثاء والعطف.

ويصف لنا الأخطل منظرا لا يخلو من ظرف ودعابة مع ما فيه من مرارة، منظر تلكم النسوة اللواتي اجتمعن يهمهمن ويهسهسن وقد علت وجوههن الكدرة وأصبن بالهم والحزن لدخول الأخطل عليهن وهو في حالة شيخوخة وتضمر وهزال فيقول:

ورأين أني قد علتني كبرة

فالوجه فيه تضمر وسهوم

وطوين ثوب بشاشة أبلينه

فلهن منك هساهس وهموم

وأخيرا بعد أن يئس الأخطل من وصل المرأة، وبعد أن عجز في هذا الميدان لا يريد إلا أن يبث الدعاية السيئة، ويأبى إلا أن يحرض الرجال في الابتعاد والكف عنها فيقول:

فدع الغواني والنشيد بذكرها

واصرف لذكر مكارم ومقال

ولكني متأكد أنه لم يقل ذلك إلا بعد أن عجز عن جلب ودها إليه وإلا بعد أن خابت سياسته معها.

حاولت أن أجد الأسباب المبررة لهذا الموقف العدائي الذي يقفه الأخطل من المرأة فلم أجد سوى خبرين قد يمكن أن نستشف من ورائهما شيئاً عن ذلك العداء، أحدهما خبره أو قصته المشهورة مع زوجة أبيه تلك التي يقول فيها:

ألم على عتبات العجوز

وشكوتها من غياث لمم

فظلت تنادي ألا ويلها

وتلعن واللعن منها أمم

وقد كانت زوجة أبيه تناصبه العداء وتسئ معاملته وتؤثر أبناءها بالعطف والحب كما تؤثرهم بأطايب الطعام والشراب وتحرمه هو من كل ذلك؛ فلا شك أن هذه القسوة في المعاملة من زوجة أبيه قد أثرت في نفسه تأثيراً بالغاً وتركت في قلبه جروحاً لم تندمل فنقم على المرأة متمثلة في زوجة أبيه فأراد أن ينتقم منها فصور لنا ما رأيناه فيها من مساوئ ومعايب.

والخبر الثاني الذي يفسر لنا ثورة الأخطل على المرأة هو ما رواه صاحب الأغاني في الجزء السابع من كتابه قال: (طلق أعرابي امرأته فتزوجها الأخطل، وكان الأخطل قد طلق امرأته قبل ذلك، فبينما هي معه إذ ذكرت زوجها الأول فتنفست فقال الأخطل:

كلانا على هم يبيت كأنما

بجنبيه من مس الفراش قروح

ص: 24

على زوجها الماضي تنوح وإنني

على زوجتي الأخرى كذلك أنوح

من هذا الخبر يمكننا أن نستنتج أن الأخطل لم يكن موفقاً في حياته الزوجية، فهو لم يسعد مع زوجته الأولى ولم ينجح في حياته معها فاضطر إلى تطليقها، كما إنه لم يستطع أن يرضي الثانية أو يجلب ودها وحبها فينسيها زوجها الأول فهي تعيش معه بجسمها ولكنها تعيش مع مطلقها بروحها وقلبها، ولا شك أن هذا يدلنا على أن الأخطل كان فاشلا مع المرأة، لم يحذق ذلك الفن الصعب (فن سياسة المرأة) وربما يكون هذا الفشل الواضح في حياته الزوجية مما جعله ينقم على المرأة نقمته المرة التي رأيناها في شذراته السابقة والتي لا نوافقه في أكثر آرائه فيها.

(العراق)

مهدي السامرائي

ص: 25

‌مؤتمر آثار الشرق

للدكتور جواد علي

قررت اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية عقد مؤتمر في مدينة دمشق في شهر أغسطس أو أوائل شهر سبتمبر من سنة 1947 لدراسة آثار الشرق الأدنى يدعى (مؤتمر آثار الشرق) وقد عينت اللجنة التحضيرية التي وضعت منهج المؤتمر أغراضه بما يلي:

1 -

الاهتمام بالثقافة الأثرية وتبادل الآراء العلمية والفنية.

2 -

المحافظة على تراث الشرق العربي ووضعه في الإطار اللائق به.

3 -

تقوية الصلات بين أمم الشرق، وتذليل العقبات في سبيل تحقيق التعاون فيما بينها من الناحية الأثرية.

وقد تصفحت التقرير الذي وضعته اللجنة التحضيرية ليكون جدولا لأعمال المؤتمر فلم أجد فيه - وآسف لذلك - أية إشارة إلى عرب ما قبل الإسلام. كما أنني لم أجد في قائمة الموضوعات العامة التي ستبحث فيها المحاضرات التي تلقى في المؤتمر أية محاضرة قد تناولت تاريخ ما يسمى (بالجاهلية) أو (العصر الجاهلي) وكل ما وجدت هو أن سلسلة المحاضرات بدأت بالعلاقات بين مصر والشرق الادنى، ثم تطرقت إلى العلاقات بين بابل وأشور والشرق الأدنى، فأثر الفينيقيين في حضارة الشرق الأدنى، فالعلاقات بين الشرق الأدنى والإغريق. ثم انتقلت رأساً إلى موضوع أثر العقائد الدينية في حضارة الشرق القديم، ثم إلى حظ الشرق من الحضارة الإغريقية في العصور الهلينية فيدخل في ذلك حظ مصر من تلك الحضارة ثم حظ سورية فبابل ثم تنتقل السلسلة إلى مظاهر الحضارة الإسلامية في دول الشرق العربي وتلك طفرة عجيبة بالطبع، وتنتهي بموضوع الحفائر الأثرية في ممالك الشرق العربي فموضوع ترميم الآثار.

وكنت أطمع في أن أرى للتاريخ العربي القديم المحل الأول في قائمة الموضوعات التي ستدرس في هذا المؤتمر، إذ أن اللجنة الثقافية التي وكلت إلى اللجنة التحضيرية أمر تهيئة خطط المؤتمر هي مؤسسة من مؤسسات الجامعة العربية، وأنها وضعت نصب عينها إحياء التراث العربي القديم وحرصت على ذلك في كل مناسبة. فالأولى بها أن تعني بتاريخ عرب ما قبل الإسلام فتجعله الهدف الثقافي الأول نظراً إلى أن التاريخ العربي القديم يكاد

ص: 26

يكون حتى اليوم في حكم المجهول، ولأن الآثاريين الغربيين لم يتمكنوا من التنقيب فيه لأسباب كثيرة، منها أن الدول العربية التي تشتمل على المناطق الآثارية، لم تسمح لهم بالعمل، خوفا من النفوذ الأجنبي ومن تسرب تلك الآثار إلى الخارج، وإن اللجنة الثقافية ستنتهز هذه الفرصة فتثير لذلك هذا الموضوع في مؤتمر الآثار لتحث الدول العربية على العناية بآثار العرب وبتاريخ العرب القديم، ولتطلب إلى حكومات الجامعة القيام بحفريات علمية بنفقتها أو بنفقة الجمعيات العلمية الأوربية التي توافق على التنقيب بإشراف الجامعة. أو أنها ستسعى لأن تسهل لمن تخصص من أبناء دول الجامعة العربية بتاريخ العرب القديم الدخول في مناطق الآثار لدراستها والكتابة عنها والقيام بحفريات علمية فيها أن أمكن ذلك من الوجهة العلمية والمادية.

وقد قام نفر من العلماء المستشرقين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أمثال (هاليفي) و (أرنو) و (كلاسر) وغيرهم بزيارة مختلف أنحاء بلاد العرب المجهولة وفي ظروف حرجة فتعرضوا إلى مختلف الأخطار والمهالك فعادوا بأنباء مهمة تشير إلى وجود أماكن آثارية على جانب كبير من الأهمية. وقد نقلوا معهم بعض الألواح والأحجار المكتوبة التي عثروا عليها على سطحالأرض وهي توجد اليوم في المتاحف الآثارية الكبرى وهي تؤيد هذه النظرية وتتحدث عن حضارة عربية قديمة أصيلة.

وقد بذل هؤلاء العلماء جهوداً كبيرة حتى تمكنوا من حل رموز الحروف اليمانية القديمة المسماة بالحروف الحميرية. واستطاعوا بعد معرفتها أن يقرءوا ما هو مكتوب فنشروه، وقد دل ما نشر حتى الآن وهو قليل بالطبع على أن الحضارة اليمانية قديمة قدر عمرها بعض العلماء بما يزيد على ألف وثلاثمائة عام قبل المسيح.

كما انهم بحثوا في النصوص الآشورية والبابلية والمصرية وفي التوراة، وفي النصوص السريانية واليونانية واللاتينية فكونوا من هذا البحث مقدمات لمن يريد في المستقبل الكتابة عن تاريخ عرب ما قبل الإسلام.

ولا يمكن أن يكتب للأمة العربية تاريخ قديم إلا إذا سهلت الدولة العربية للمستشرقين وللشبان العرب الذين تخصصوا بتاريخ ما قبل الإسلام الدخول في المناطق الآثارية وقاموا بحفريات علمية بأشراف تلك الدولة أو الدول العربية على أن يحفظ ما يستخرج من أثار

ص: 27

من متحف الدولة أو متحف جامعة الدول العربية مثل. وأني أرجح اشتراك دول الجامعة كلها في نفقات الحفرحتى لا تتسرب الآثار إلى الخارج فتنتقل إلى المتاحف الأوربية أو الأمريكية، وأن تكون عمليات الحفر بأشراف المتخصصين العرب.

ولما كان المؤتمر لم يعقد بعد وأن هناك متسعاً من الوقت لتدارك الحال أرجو من اللجنة الثقافية أن تهتم بهذه الناحية اهتماما كبيرا بان تجعل في رأس المواد التي ستدرس في المؤتمر موضوع دراسة الآثار العربية القديمة، وان ترجو من دول الجامعة ولا سيما اليمن والمملكة السعودية بذل العناية لخدمة التاريخ العربي القديم، وأن تطلب من المتخصصين العرب أو المستشرقين التطوع للقيام بحفريات علمية أو دراسة الأطلال الموجودة تمهيدا للقيام بالحفر، وأن تمنع الناس من نبش تلك الأطلال لسرقة الآثار أو هدمها لاستعمالها مادة للبناء. فالعبث بهذه الآثار عبث بتاريخ الأمة العربية الذي نريد إحياءه. وأن تقوم الجامعة بتخصيص المبالغ لإرسال المتخصصين إلى مواقع الآثار كما فعلت بإرسال نفر من العارفين بالمخطوطات إلى سوريا لتصوير ما هو موجود من المخطوطات.

وأن تخصص في قائمة المحاضرات مكاناً للتاريخ العربي قبل الإسلام وأن نرجو بهذه المناسبة من الذين سيمثلون دول الجامعة في مؤتمر الآثار توجيه أنظارهم نحو خدمة كإثر عربي قديم، وأن يكون لآثار العرب نفس الحظ الذي نالته الآثار القديمة الأخرى في الأقل، وإن كنت أطلب المزيد لأنه تاريخنا المباشر، ولأنه يوازي الآثار الأخرى في القدم والدرجة، إذ أن من العار على العرب أن يتركوا متاحفهم عارية من آثارهم وهي كثيرة مطمورة فيتصور العالم أنهمأمةهمجية لم يتكون لها تاريخ قبل الإسلام وانهم كانوا عالة على حضارات الأمم الأخرى أو أنهم كانوا نقلة تعوزهم قوة الإبداع والابتكار.

جواد علي

ص: 28

‌أنديتنا الموسيقية

للأستاذ حسني كنعان

كانت الموسيقى قبل ربع قرن، تصدر في بلاد الشام عن مصر بطريق أسطوانات الحاكي، وكان الموسيقيون لدينا يجهلون النوتة الغربية، فيضع أحدهم الحاكي أمامه ويدير مفتاحه وينقل عنه الأغنية أو الدور أو البشرف أو الدولاب أو السماعي كما يسمعه دون تحوير أو تبديل. وكان أرباب هذه المهنة محتقرين لديناحتى أنالأب إذا علم أن ولده قد ظهرت فيه مخايل المواهب الموسيقية تبرأ منه وأخرجه من داره، ولبثت الحال على ذلك حتى انبثق فجر النهضة الكبرى في بلادنا عقب الحرب العالمية الأولى فتأسس أول ناد للموسيقى في دمشق ضم الصفوة المختارة من رجالات الفن عندنا، فيهم المحامي والطبيب والموظف والتاجر والمزارع والصحفي وغيرهم ممن كان يمنعه الحياء ومسايرة البيئة من الظهور، وبعد أن تمرن أعضاؤه على القطع الموسيقية الصامتة والغنائية والموشحات وسواها، وحذقوها على أساتذة فنيين معروفين بخبرتهم الواسعة وكفاءتهم، بدءوا بإقامة أول حفلة موسيقية على مدرج الجامعة السورية الفخم فلم يبق أحد في دمشق ممن حضرها إلا وقد سرًّ بما سمع وبما شهد من تنسيق وإبداع وانسجام بين أعضائها الذين ظهروا على المرشح بمظهر من يبغي إعزاز هذا الفن وإزالة ما علق في نفوس القوم من احتقار أربابه واشياعه، ولا تزال ذكرى هذه الحفلة عالقة في النفوس برغم بُعد العهد بها. وأطلق على هذا النادي اسم (النادي الموسيقي السوري) وهو أقدم أنديتنا، وقد قام بفضل أموال أعضائه المشتركين، وريع حفلاته وكان رئيسه الفخري وهو أحد الرجال الوطنين المعروفين، لا يألو جهداً في جمع الإعلانات له وإقامة حفلات خاصة لعظماء الرجال الذين يؤمون سوريا للاصطياف أو في مناسبات خاصة، أذكر أن المرحوم طلعت حرب باشا باعث نهضة مصر الاقتصادية قد دعي مرة إليه، وأقيمت له حفلة رائعة خرج منها مغتبطاً مسرورا، وجادت يداه رحمة الله بإعانة مالية كان لها الواقع الحسن والأثر الحميد.

بقى هذا النادي محلقا في سماء الفن حقبة من الزمن، إلى أن أصابه ما يصيب كل حي في هذا الوجود من ذرور قرن الخلاف والشقاق بين أفراده. وظهر فيه داء الغرور والمنافسة فتفرق أعضاؤه بعد اتفاق، واختصموا بعد وئام، وكانت عاقبة ذلك أن انقسم النادي إلى

ص: 29

أندية عدة ظهرت باسم (الرابطة الموسيقية) و (دار الألحان والتمثيل) و (المعهد المعهد الموسيقي) و (الموسيقى الوطنية) و (معهد الآداب والفنون) و (ندوة أصحاب الفنون) بيد أن هذه الأندية جميعا لم تؤلف فيما بينها وحدة فنية عامة، فأعضاؤها على كثرتهم، من الهواة الذين تخذوا الفن ألهية خاصة، وقد سعى الكثيرون من الذين يغارون على هذا الفن، إلى هذه الأندية فما قدر أحد منهم على ذلك، ولذا فأخذت هذه الأندية تنحل الواحد إثر الآخر بسبب الضائقة المالية، ولم يبق منها ثابتاً قوياً إلا الاقل، وانقلب بعضها إلى دور اللعب الورق والنرد وغيرها من ألعاب المقاهي، ولو أن أولى الأمر مدوا يد العون لهذه الأندية وساعدوها بالمال والرجال لعاشت في تقدم وازدهار ولضارعت بنهضتها أندية العالم الكبرى، لأن مواهب رجال الفن عندنا مشهود لها بالسمو والقوة، وقد زادت قوة في هذا العهد الاستقلالي الجديد بعد أن ذهب الأجنبي عنا لا رده الله، ومما يسرنا اليوم أن نرى القائمين على محطة الإذاعة في دمشق قد افتتحوا مدرسة فنية لتعليم ناشئة البلاد النوتة الموسيقية على أحدث الطرق، وأحياء موات الموسيقى القديمة والموشحات الأندلسية الرائعة، وتعاقدت مع أساطين الفن في دمشق وحلب الذين يندر وجود مثلهم في الأقطار العربية الشقيقة، وكل من ينبغ من طلاب هذه المدرسة يؤخذ فورا إلى محطة الإذاعة ليذيع منها فنه ويظهر مواهبه، وهذا مما يبعث على التنافس الحميد بين الطلاب، ونحن نرجو أن تعيد دمشق مجد الأندلسيين الزاهر في مختلف الضروب الموسيقية والأصوات والأنغام، والرقص المسمى برقص (السماح) وبطل هذه النهضة عندنا هو نائب دمشق السيد فخري البارودي الذي يشتغل اليوم في وضع مؤلف قيم شامل في الموسيقى العربية، ومدير الإذاعة الفنان السيد شفيق شبيب، والمدير العام الشاعر المعروف الأستاذ سليم الزركلى. وحبذا لو أن محطة الإذاعة فاوضت الأستاذ توفيق الصباغ نابغة (الكمان) لا في سوريةوحدها بل في الشرق العربي كله، وهو الذي عرفته مصر في المؤتمر الموسيقي الذي انعقد في عهد جلالة الملك فؤاد رحمه الله. وكان جلالته بمواهب الأستاذ، فالأمم لا تنهض إلا إذا قدرت نابغيها حق قدرهم وأحلتهم المنازل اللائقة بهم.

دمشق

حسني كنعان

ص: 30

‌من وراء السور الحديدي

جامعة عربيةأماتحاد فرنسي؟

للأستاذ عبد الهادي الشرايبي

يتحدث الرأي العام الفرنسي حكومة وشعبا، وفي صحفه ومجتمعاته عن الاتحاد الفرنسي الذي أحدثه الدستور الجديد وحار في كيفية تطبيقه على بلدان ما وراء البحار. كأنما يحاول بذلك أن يسدل الستار على تاريخ الاستعمار القائم المظلم، ليبدله بلون أخر قد يكون اشد هولا وأشنع عاقبة.

إن نقطة الضعف في هذا القرار هي أنه لم يحترم إرادة هذه الشعوب ولم يستشيرها ليأخذ رأيها بالموافقة أو الرفض، حتى إذا شرع في تطبيقه كان مبنيا على أساس متين، واستطاع أن يؤتى ثماره المطلوبة. على أن الحكومة الفرنسية، فيما يظهر، كانت أعمق تفكيرا، فلم تقدم على اتخاذ هذا القرار إلا بعد أن خير الرأي العام في البلاد، وخرجت مقتنعة بغرام شعوبها بالحكم الفرنسي، وهيامها بكل ما يقدمه إليها الدول الفرنسية، وما (تضحي) به في سبيل سعادتها وتطورها من مال ورجال وعتاد!

أما الشعب المغربي فإنه بدوره يزداد كل يوما أيماناً بفوائد هذا (الاتحاد الفرنسي) وما سيجره إليه في مستقبل الأيام من خير ورفاهية ونعيم. خصوصا بعد (حوادث الدار البيضاء) التي تركت السنة الناس تسبح بحمد الإدارة الفرنسية، وحسن تصرفها، وسداد موقفها، فقد فتحت هذه الحوادث الأعين، وعرفت الناس مزايا الدخول في (الاتحاد الفرنسي) عن طيب خاطر، وأنهم سيعيشون في عهده في ضلال الأمن الطمأنينة والسعادة والسلام! أن هذا الحدث الجديد الذي يراد ربط مصيرنا به، يتطلب منا أن نقف عنده قليلا وندرسه على ضوء التفكير السليم، والمنطق الصحيح. فالشعب المغربي، ككثير من الشعوب الإسلامية العربية التي أريد لها أن تسمى (شعوب فرنسا ما وراء البحار) هو الآن في مفترق الطريق. وإمامة: أن يختار الانضمام إلى جامعة الدول العربية أو الاندماج في (الاتحاد الفرنسي) وشعوب فرنسا ما وراء البحار.

أما جامعة الدول العربية فتربطنا بها، أو تربطها بنا، روابط متينة راسخة الأعراق الأصول، كونها مختلف العوامل النفسية، والتاريخية، والجغرافية، على ممر العصور

ص: 32

والأحقاب وجمعتنا بها عوامل لا انفصام لها ولا يمكن أن تعمل بها يد الدهر، مهما كانت قاسية: فالدين واحد، وهو الذي جمع الهندي والمغربي ويوغسلافي في صعيد واحد، وهو الذي وجههم جميعا إلى قبلة واحدة ووحدهم في عقيدة واحدة. والتاريخ قد جمعنا في السراء، فتنعمنا بأيام عزه وازدهاره، كما تحملنا آلامه واقتسمنا مرائره وشدائده.

أما الوضع الجغرافي فإنما هو سلسة واحدة متصلة الحلقات ابتدعتها يد الآلة متماسكة البناء. ممتدة من ضفاف البحر الأحمر إلى شواطئ المحيط الأطلسي، وهي وضعية اقتصادية وسياسية ممتازة قلما ظفرت بها أمةمن أمم الأرض.

أما العوامل النفسية التي كونها القرآن، ومتنت عراها تعاليم الإسلام، وصهرتها حوادث الأيام، فإننا نلمس آثارها في كل يوم، ونشاهد نتائجها عند كل حادث، فوقائع فلسطين، ومعارك الهند الصيني والهند الهولندية، تدمى قلوب المغاربة، كحوادث المغرب، والدار البيضاء عند شعوب الشرق الأدنى والأقصى. وقد نشا عن هذه العوامل الكثيرة المختلفة، عوامل سياسية ربطت مصير الأمم العربية بعضها ببعض، وجعلت سعادة البعض منها متوقفة على سعادة الكل، بحيث لا يطمئن لإحداها خاطر، ولا يقر لها قرار، ومهما نالت من أسباب السيادة والعزة، إذا كان البعض الآخر لا يزال أنينه يتردد صداه في انتحاء المعمورة، تحت وطأة الاستعمار الثقيلة.

هذه طائفة من الأسباب التي تربطنا بجامعة الأمم العربية، وتجعل مصيرنا مرتبطاً بمصير أخواتنا الشقيقات، بلاد الشرق العزيزة، فلنقالآن نظرة أخرى على ما يمكن أن يربطنا بالاتحاد الفرنسي من أسباب وما يمكن أن يجمعنا به من علائق ومصالح.

أما صلاتنا بهذا الاتحاد، أو بالأحرى، بالدولة المبتكرة له، فتبتدئ منذ نيف وثلاثين سنة. وإن نظرة عجلي على هذه الفترة من تاريخنا القومي كافية لبيان ما هية هذا الاتحاد، وشرح الأسس التي يراد بناءة عليها. فهي فترة مهولة، مليئة بالنار والدم والحديد، وبمعارك وحروب، وسجون ومناف، وأنواع من الإرهاق والعسف، لم يشهد لها التاريخ مثيلا حتى في العصور التي تسمى (مظلمة)!

هذه نظرة قصيرة على كلا الاتجاهين، وعلى الطريقين المقترحين أمامنا. فما الذي يختاره الشعب المغربي من ذلك: سبيل (الجامعة العربية) أم سبيل (الاتحاد الفرنسي) الجديد؟

ص: 33

لقد تفضل جلالة مولانا الملك، ترجمان الأمة الصادق، ولسانها الناطق، فأجاب عن هذا السؤال الذي يختلج في صدر كل مغربي، وقلب كل عربي في تصريحه الأخير لرجال الصحافة قبيل مغادرته لمدينة طنجة. قال جلالة الملك المحبوب:

(. . . ومن جهة أخرى، فإن المغرب يحرص أشد الحرص على تمتين صلات الود مع جميع البلاد التي حاربت من اجل الحرية، ولا تزال تواصل الكفاح في سبيل نجاح قضيتها، أن المغرب ليأمل بكل ما أوتي من قوة، أن ينال حقوقه كاملة. ومن الواضح الجلي أن المغرب بلد عربي، مرتبط مع بقية بلاد الشرق العربي بروابط قوية متينة، وإنه يرغب في أن تتقوى هذه الروابط يوما بعد يوم، خصوصا منذ أن أصبحت (الجامعة العربية) تلعب دورا هاما في السياسة العالمية. وأننا لمقتنعون بأن الصلات الثقافية ستساهم بقسط وافر في تحقيق هذا الاتحاد. وهذه هي الأسباب التي تحدو بنا إلى إنشاء مؤسسات للتعليم العالي لإنارة عقول الشعب المغربي، تكون برامجها مستمدة من برامج التعليم في جامعات القاهرة والشام ولبنان والعراق.

إن همنا الأكبر منذ اعتلائنا العرش المغربي هو أن نمنح رعايانا نعمة التمتع بالحقوق الديموقراطية التي يصبون أليها. وأن أملنا أن أملنا القوي في الحصول على هدفنا الأسمى الذي سنواصل السعي لإدراكه).

هذه تصريحات جلالة الملك المفدى لرجال الصحافة الأجنبية. وهي كما ترى - قد حددت الاتجاه، وكانت القول الفصل في هذه المسألة التي أثارت مخاوف وشكوكا، سرعان ما انقشعت وتبخرت في مهاب الرياح. فما على شعبنا العزيز، إلا أن يقتفي الطريق التي اختطها له جلالة العاهل العظيم، والرائد الخبير، ويسير على النهج الذي سنه له. واضح المعالم، موفق الخطى.

المغرب الأقصى

عبد الهادي الشرايبي

ص: 34

‌هل الموت نتيجة لازمة للحياة؟

الحيوانات والنباتات الخالدة - الشيخوخة وأسبابها

للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

الشيخوخة وأسبابها:

رأينا فيما تقدم أول مظهر من مظاهر الشيخوخة في الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة وهو عجزها عن الانقسام إلى أن تتلاقح فتعود إلى شبابها، وقد بينا أن هذا ناتج من تراكم بعض المواد الإفرازية السامة داخل أجسامها وعدم تصريفها في الحال بأكملها إلى الخارج لنقص في تكوين الكائنات الحية وعلى الأخص نظام التغذية والتصريف.

وما يحدث للخلايا المنفردة يحدث للخلايا المجتمعة في النباتات والحيوانات العليا ومن بينها الإنسان فإن الدم في الحيوانات والسوائل المماثلة له في النباتات تنقل إلى جميع الخلايا المواد الغذائية وهذه تحترق ببطيء أي تتأكسد داخلها فتتولد الطاقة (القوة والحرارة) التي تستعين بها الكائنات الحية على القيام بمختلف وظائف الحياة. ونقول أجمالا أن بقايا احتراق المواد الزلالية هي التي تسم الجسم تدريجيا وتسبب الشيخوخة.

وتفصيلا لهذا الأجمال نقول أن المواد الغذائية مهما تنوعت مظاهرها تنقسم ثلاثة أقسام: المواد الهدروكربونية مثل السكر والنشء، والمواد الدهنية، والمواد الزلالية مثل اللحوم والبيض والجبن والخضراوات البقولية كالفول والعدس والفاصولية والبسلَّي وغيرها.

فالمواد النشوية السكرية والمواد الدهنية نظرا لأنها مكونة من هدروجين وأوكسجين وكربون تحترق داخل الجسم احتراقا كاملا فتتحول إلى ماء لا ضرر منه والى غاز حامض الكربون تفرزه الرئتان بأكمله على اغلب الظن. فهذه المواد لا تلحق في الغالب ضررا بالجسم، ولكن قد تتولد منها أثناء احتراقها التدريجي مواد كيميائية ضارة تشترك في تسميم الجسم بطريقة غير محسوسة في الفترة القصيرة التي تمكث فيها قبل أن تحرق هي أيضاً بدورها.

ص: 35

آما المواد الزلالية فإنها الفاعل الأصلي حقاً في ذلك التسمم التدريجي الذي يسبب الشيخوخة فالموت، فهي أهم غذاء وفي الوقت نفسه أكبر عدو لنا لأنها مواد رباعية يدخلها الازوت إلى جانب العناصر الثلاثة سالفة الذكر ولهذا فإنه يتخلف عنها عند احتراقها في الجسم عدا الماء وغاز حامض الكربون - مواد أخرى تشمل الازوت وهي المواد الإفرازية المعروف بعضها مثل المادة البولية والحامض البولي وأملاحه ومثل الصفراء وأحماضها وأملاحها. وهي جميعها سامة وضارة وكثير منها غير قابل للذوبان في الماء فلا يفرز بتاتاً ويتراكم داخل الخلايا وفي الأنسجة المختلفة وعلى جدران الشرايين فيصلبها وبالتالي يقلل من قدرتها على تأدية وظائفها ويؤثر تأثيراً سيئا في الجهاز العصبي وفي جميع الأعضاء الأخرى ويضعفها فتنحط ولا تقوى على القيام بأعمال الحياة وهذه هي الشيخوخة بعينها: تصلب عام في الشرايين، وتيبس في الأنسجة، وقصور في وظائف الأعضاء الخ.

يضاف إلى هذا السبب في تسمم الجسم سبب أخر وهو تخمر فضلات الطعام في الأمعاء، ونتيجة هذا التخمر هي تولد مواد عفنة سامة يمتصها الجسم مع المواد الغذائية النافعة خصوصا وان الأمعاء عضو ملائم للامتصاص اكثر من غيره

ويضاعف أسباب الشيخوخة المتقدم بيانها فعل كريات الدم البيضاء التي كشف عن وظائفها متشنكوف فخطا بالعلوم البيولوجية والعلوم الطبية خطوات واسعة عظيمة النفع نظريا وعمليا. فإن من يفحص تحت الميكروسكوب نقطة من دم الإنسان أو أي حيوان يجد أنها مكونة من سائل شفاف تقريبا يشتمل على كريات حمراء عديدة هي التي تكسب لونه الأحمر وكريات بيضاء اقل عددا، ومن أهم صفات الكريات البيضاء أنها تفترس بشراهة كل ما يقابلها في الجسم من البكتريا والميكروبات والجراثيم الحيوانية الأخرى.

غير أن فعل الكريات البيضاء غير مقصور على افتراس الميكروبات والجراثيم والمواد الغريبة عن الجسم بل أنها لا تحترم حتى زميلاتها من الخلايا الأخرى في مخلف أنسجة الجسم لأنه لا عقل لها يجعلها تميز بين النافع والضار فهي تحاول على الدوام التهام كل ما يقابلها لأنها حيوانات حقيقية مفترسة لا تقف شراهتها عند حد. غير أن الخلايا والأنسجة حين تكون في كامل صحتها وعنفوان شبابها تصد بسهولة تلك الكريات المشاغبة الجشعة بأن تفرز عند اقترابها منها مادة كيميائية تمنعها من الاعتداء عليها، ويتم ذلك بطريقة آلية

ص: 36

طبيعية. ولكن خلايا الجسم وأنسجته، متى أضعفتها تلك السموم التي تتراكم في الجسم تدريجيا على النحو المتقدم بيانه، لا تقوي على الكريات البيضاء وتضعف مقاومتها لها فتنخر الكريات البيضاء في جميع الأنسجة كالعضلات والغدد والأعصاب والمخ فتزيد الجسم هبوطاً بعد أن تكون تلك السموم قد أنهكته، وتجتاز تلك الكريات البيضاء الشرايين الرفيعة الشعرية وتتكدس في جميع أنحاء الجسم وتتكون منها أنسجة جامدة وحتى جذور الشعر لا تسلم من اعتدائها فتسبب الشيب سامحها الله

والذي يراه البيولوجيون (علماء الحياة) إنه متى اهتدى العلماء في المستقبل إلى وسيلة لتطهير الأمعاء والدم تطهيرا تاما أول بأول عقب كل أكلة دون المساس بعمليات التغذي المختلفة أمكن التغلب على الشيخوخة وتطول حياة الإنسان إلى مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر. وقد تكون الفيتامينات الجديدة والمطهرات المدهشة التي اكتشفت أخيراً كالسلفيناميد والبانيسلين مقدمة لذلك الاكتشاف العظيم الذي يصبو إليه الناس من قديم الزمان. وقد يستنبطون عقاقير تنشط بعض الغدد الصماء المعروفة أو غدداً جديدة يكشفون عنها فيما بعد في مجاهل الجسم فتفرز هرمونات من شأنها تطهير القناة الهضمية كلها والدم والأنسجة تطهيرا تاما مستمرا من تلك السموم مع تصريفها بأكملها في الحال إلى الخارج أولا فأولا.

ولكن تبقى عقبة كؤود لا أرى وجها للتغلب عليها وهي وضع الكبد ونظام صرف إفرازه. فإن البول الذي تفرزه الكليتان يجتمع في المثانة ويصرف إلى الخارج رأسا. أما الصفراء التي تفرزها الكبد فإنها لسوء حظ الإنسان والحيوانات لا تنصرف إلى خارج الجسم مباشرة بل تصب مع شديد الأسف في الأمعاء وتبقى فيها فترة من الزمن قبل أن تصل إلى الخارج عن طريق المستقيم، بل أن الأمعاء مملوءة على الدوام بالصفراء التي تفرزها الكبد باستمرار فتمتص (أي الأمعاء) كميات منها (أي من الصفراء) وهي مادة سامة ضارة كل الضرر بالجسم، ولولا ذلك لكان هناك أمل أن يصل العلم يوما من الأيام إلى قهر الموت نفسه ومنعه منعا باتا وذلك أمر لا يراه العلماء مستحيلا من الوجهة النظرية بدليل الحيوانات والنباتات أولية ذات الخلية الواحدة الخالدة التي تقدم لنا الكلام عليها. وقد رأينا كيف أن البيولوجيين عالجوا الشيخوخة التي تطرأ عليها عقب الانقسامات المتكررة وأعادوا إليها شبابها ونشاطها الانقسامي الذي يضمن لها الخلود. والذي نقصده بالخلود هنا

ص: 37

هو أو تبقى حية لا تموت إلى أن تمسي الأرض غير صالحة للحياة بفعل العوامل الطبيعية بعد عدة ملايين من السنين على ما يقدرون

غريزة الموت:

ويتوقع متشنكوف أنه متى تغلب العلم على الشيخوخة وباقي الأمراض وعاش الإنسان حياة طويلة لا تقل عن المائتين أو الثلاثمائة من السنين عيشة سليمة من كل علة أو ضعف فإنه حين يصل إلى أخر هذا العمر الطويل يشعر بحاجة إلى الراحة النهائية ويستقبل الموت بهدوء وارتياح كما يشعر المرء في أخر النهار بالحاجة إلى النوم ويرتاح إليه. وهذا ما يسمونه بغريزة الموت، تحل في أخر الحياة محل غريزة حب البقاء. وحين تنشأ هذه الغريزة في البشر يكون العلم قد قهر آخر عدو للإنسان وهو الموت، إذ يكون الناس قد حلوا فبل ذلك المعضلة الاجتماعية الكبرى الخاصة بتوزيع العمل وخيرات الطبيعة بين الناس توزيعا عادلا مع تحديد النسل، وتكون الغريزة الأخلاقية قد تأصلت في النفوس بمرور الزمن الطويل كما هو الحال في النمل فتمتنع الجرائم والحروب وترتقي الأخلاق وتعم الفضيلة ويكون الطب قد تغلب على جميع الأمراض، بل أن الطب الوقائي سوف يمنعها قبل وقوعها فيعيش البشر في سلام ونعيم دائمين، ذلك النعيم الذي ظلوا العصور الطويلة يحلمون به ولن يحققه لهم إلا العلم

نصيف المنقبادي

ص: 38

‌إلى طلبة التوجيهية

شاعران في المنفى

للأستاذ أحمد محمد الحوفي

(تتمة ما نشر في العددين السابقين)

- 3 -

شوقي أثرى صوراً، واطرف خيالا، وأبرع معنى، فنحن لا نجد في معاني البارودي مبتكراً مستحدثاً، وإنما هي معاني شائعة سبق بها، وطالما كررها في شعره وهو بسرنديب.

ونزعته إلى محاكاة الأقدمين غالبة على تصوره ومعانيه، حتى أن بعضها لا يلائم العصر الذي عاش فيه كالدعاء للمنزل بالسقيا، وهو دعاء يلائم الصحراء حيث الجفاف وندرة الإمطار، وبأن تهب عليه ريح الصبا، وهي ريح كان يستطيبها أهل الحجاز لأنها تهب لطيفة من الشرق، وطالما تغنى بها الشعراء، ولكن ريح الشرق في مصر سموم ورمال، ومثل تعبيره عن مصر سموم ورمال، ومثل تعبيره عن مصر بوادي الأراك من شجرها، وذكره شجرة الرند وليست من نباتها، وتقديره إطراب شعره بأنه ألذ من الحداء وقد انقضى زمن الحداء ونعم الناس منذ زمن بعيد بالموسيقى والغناء، وفي بعض معانيه ضعف مثل قوله لسيفه:

أقول له والجفن يكسو نجاده

دموعاً كمرفَضِّ اُلجمان من العقد

فليس في تشبيه دموعه بحبات اللؤلؤ براعة، لأن هذا التشبيه يستجاد من شاعر يشبه دمع محبوبته قاصداً الجمال والنفاسة، ولكن البارودي في حال باك حزين لا يلائمه إلا تصوير الدموعبأنها حارة تكوي، أو غزيرة لا تنقطع كما صور شوقي، على أن البكاء ليس من مفاخر الرجال. وفي خياله تناقض مثل شكواه من الوحدة وانه لا يرى صديقا بعد عدت أبيات من تقريره أن العائدات يعدنه ويعطفن عليه.

ولكنا نجد في صور شوقي ومعانيه ما يهز النفس، كتصويره حال الطائر الغريب اللهفان إلى وطنه، الظمآن إلى مائه يجرر ساقيه وذيله باحثا عن دواء، وكتصويره حال مصر نفته مرغمة وهي تحبه وتود سلامته وتأمل عودته بحال أمموسى ألقته في اليم وامقت به مسلمة

ص: 39

أمرها وأمره لله ذي الرحمة، ضارعة إليه أن يكلأه بعنايته، وكطلبه من المطر أن ينزل بردا وسلاما في نغم رتيب وإيقاع عجيب، وكوصفه للأهرام هذا الوصف البارع.

على أن قصيدته لم تخل من تراكيب قليلة متأثرة بالتصوير القديم مثل قوله للبرق:

بالله إن جبت ظلماء العباب على

نجائب النور محدودا بجبرينا

يقصد بنجائب النور المشبه للنوق المسرعة، وليس هذا بشيء.

ومثل قوله: (ريش الفراق لنا سهماً) وليس السهم المريش ولا غير المريش من أدوات القتال في العالم المتحضر.

- 4 -

أجاد شوقي في اختيار المفردات وصوغ التراكيب إجادة أشاعت في القصيدة موسيقى ورنيناً، وأجاد اختيار القافية نونا بعدها ألف لينة تلائم الحنين والألم، وأجاد البارودي في انتقاء كلماته، وجنح إلى الجزالة والفخامة وإن حرمت قصيدته موسيقية شوقي، على أنه استعمل كلمات مبهمة المعنى مثل (لا يعيد ولا يبدي).

- 5 -

وبعد فكل من القصيدتين مرآة لنفس قائلها، تتجلى في قصيدة البارودي صرامته وشجاعته وجنديته واعتداده بنفسه وبآبائه المماليك، وولعه بمحاكاة الأقدمين في أساليبهم ومعانيهم وأخيلتهم.

وتتجلى في قصيدة شوقي ثقافته التاريخية، وحبه لمصر، واعتزازه بماضيها المجيد، وفخره بماضي العرب، وتغنيه بجمال الطبيعة في مصر، وكلفة بموسقة أسلوبه وابتداع معانيه وافتنان خياله.

على أن قصيدة شوقي خير من قصيدة البارودي فيما اتفقنا فيه من أغراض، ومتفردة ببعض أغراض، وإذا كان شوقي قد تتلمذ للبارودي فقد بزه، وما اهنأ للأستاذ أن يفوقه تلميذه.

أحمد محمد الحوفي

المدرس بالسعيدية الثانوية

ص: 40

‌الأدب والفن في أسبوع

حول جائزة الآداب:

أثير في أول الأمر بعض الغبار حول قرار لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للآداب الذي أعلنه معالي رئيسها الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا في حفلة توزيع الجوائز بالجامعة، قال معاليه أن الوقت لم يتسع أمام اللجنة للمفاضلة فرأت تأجيل منح الجائزة إلى العام القادم.

وكاد يسكن ذلك الغبار لولا أن أثاره عالية كثيفا الأستاذ عباس محمود العقاد في مقال عنوانه (علامة الاستفهام في قرار لجنة الآداب) نشرته (أخبار اليوم) وجه فيه الأستاذ الكبير النقد إلى تصرف اللجنة لأنها قبلت العمل وأجابت الدعوة وهي تعلم الموعد المقرر وتعلم المهمة المطلوبة، وتسأل:(ولماذا لم تتنحى عن العمل منذ اللحظة الأولى إذا كانت قد علمت أنها لا تستطيع الوصول فيه إلى نتيجة؟).

ومما قاله الأستاذ العقاد أن اللجنة تشهد على نفسها أنها لم تطلع على ثقافة وطنها اطلاعاً يكفي للفصل فيها وأن اللجان التي تقبل أمثال هذه المهام ينبغي أن تكون مرجعاً يستفاد منه العلم بحركة الثقافة الأدبية في بلادها؛ ورد على اعتذار اللجنة بتنوع الموضوعات الذي يحتاج إلى وقت أوسع للموازنة والتمييز، بأن تعدد الموضوعات هو الذي أعان لجنة العلوم على الفصل فيما عرض عليها، فاختارت لجائزة هذا العام موضوعاً خصته بالتفصيل وتركت الباب مفتوحاً للموضوعات الأخرى في الأعوام المقبلة. ولم صنعت لجة الآداب مثل هذا الصنيع لما كان أيسر عليها من تخصيص هذه السنة بجائزة الشعر أو بجائزة القصة أو بجائزة البحوث والدراسات وما اليها، فيتسع وقتها للفصل والتمييز.

وخلص الأستاذ العقاد بعد ذلك وبعد عبارات (حريفة) وجهها إلى اللجنة، وبعد أن ذكر أنه في خلال سنوات الخمس التي قررها المرسوم أصدر ثمانية عشر كتاباً جديداً، لا تقدر اللجنة أن تسقطها من الحساب أو تهملها في ميزان الترجيح، خلص الأستاذ بعد كل ذلك إلى (أن قرار اللجنة معناه تفسير المرسوم على معنى لا يفهم له معنى سواه: وهو أن الجائزة مشروطة في هذا التفسير بأن يعطاها صاحب الآثار الأدبية في السنوات الخمسة الأخيرة ما لم يكن شخصا يسمى عباس العقاد. . .).

ص: 42

وقد سمعت في بعض المجالس الأدبية على هذا الموضوع فوجدت الكثيرين يوافقون الأستاذ العقاد على صميم نقده، وإن كان الكثيرون لا يرون رأيه في الإعلان عن إنتاجه بنفسه مع تقديرهم له وإحلاله محله اللائق به، أما اتهامه اللجنة بالقصد على مجاوزته في منح الجائزة فهو من قبيل الحكم على النيات.

الشعبة الثقافية العالمية:

كانت بعض المدن الأوربية في أثناء الحرب الماضية موئل كثير من رجال الأمم التي غلبت على امرها، وفيهم وزراء المعارف في هذه الأمم ورؤساء الهيئات الثقافية والتعليمية، فكان ذلك داعيا إلى التفكير في تكوين هيئة ثقافية عالمية تكون شعبة من هيئة الأمم المتحدة، وولدت هذه الفكرة في لندن سنة 1945 وتألفت الشعبة فعلا ووسعت مدى الانضمام إليها بإباحته لمندوبي الأمم غير المشتركة في هيئة الأمم المتحدة، وواصلت نشاطها في سان فرانسسكو، حتى اقتنعت هيئة الأمم بفكرتها واعتمدتها من شعبها بمقتضى المادة (57) من ميثاقها. ثم انتقلت الشعبة بعد ذلك إلى باريس حيث اخذ في تنظيم أعمالها ووضع الخطط التي تكفل تأدية رسالتها.

وفي مساء الاثنين الماضي وبنادي الخريجين المصري تحدث الدكتور محمد عوض محمد بك رئيس قسم العلوم الاجتماعية بتلك الشعبة في (رسالة الشعبة الثقافية في هيئة الأمم المتحدة) فبين أغراضها التي تتلخص في تثقيف الناشئة والكبار تثقيفا إنسانيا يرمي إلى خدمة قضية السلم العالمي ببث الأفكار الصحيحة والتقريب الثقافي بين أبناء العالم، لا فرق في ذلك بين الشعوب والأجناس، فتنتفي الأفكار المخطئة ويجنب الناشئون التربية التي تحض على كراهية الشعوب الأخرى، مما كان يؤدي إلى سوء التفاهم فالحروب.

وقال المحاضر إن هيئة الأمم إذا كانت تعالج المشاكل السياسية والاقتصادية فإن الشعبة الثقافية تريد وقاية العالم من هذه المشاكل.

ثم أفاض الدكتور عوض في الحديث عما أقامت به الشعبة في باريس فقال أنها جعلت لكل فرع قسما مختصا، فهناك قسم الصحافة والإذاعة والسينما، وقسم التربية، وقسم الآداب والفنون، وقسم العوم الاجتماعية، وقسم العلوم الطبيعية، وأخذ كل قسم يبحث فيما خصص له، ومن الأمثلة التي ذكرها بنشاط هذه الأقسام وبيان عملها موضوع الآداب المقارن الذي

ص: 43

اقترح أن يكون به قسم الآداب والفنون، وذلك بأن يقوم الأساتذة المتمكنون في اكثر منأدب واحد بدراسة مقارنة بين الآداب المختلفة ونشر هذه الدراسة بمختلف وسائل النشر

ومن تلك الأمثلة ما اقترح أيضاً من إنشاء معهد دولي للدراسات المختلفة، وعقد مؤتمرات سنوية تمثل فيها الهيئات تمثل فيها الهيئات الثقافية في أنحاء العالم.

وقد أجاب المحاضر عن السؤال عن علاقة لجنة التعاون الثقافي في الجامعة العربية بالشعبة الثقافية العالمية بأن الجامعة العربية هيئة سياسية والشعبة ثقافية بحتة، وكل ما يمكن أن يكون من الصلة بينهما أن تدعى لجنة التعاون الثقافي العربية إلى مؤتمرات الشعبة الثقافية العالمية، وتكون هذه المؤتمرات فرصة للعمل على تحقيق الأهداف الثقافية المشتركة.

الشاعر المكار:

هو الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وقد وصفه بالمكر الأستاذ عباس محمود العقاد في مناقشة دعابية دارت بينهما في (أخبار اليوم) حول ما كان قد أعلنه الأستاذ المازني منذ سنين من إنكار الشاعرية على نفسه وبراءته من الشعر والشعراء، فقد خاطبه الأستاذ العقاد واصفاً ذلك بأنه (مكرة صغيرة صنعتها أنت أيها الصديق بيديك وانتظرت عاقبتها حتى الآن أربع سنوات أو خمس سنوات) وقال له (ولعلك قدرت أن الناس لا يسمعونك تنكر الشاعرية على نفسك وتتأخر من صف إلى صف ومن رعيل إلى رعيل، حتى يتسابقوا إليك في الصف الثاني، أو الصف الثالث، أو الرابع، ليجدونك قابعا هناك تنتظر المطاردين والكاشفين، فما هو إلا أن يلمحوك في زاوية من الزوايا حتى يلقوا عليك القبض ويسلسلوك ويحملوك إلى الطليعة في أول الصفوف، ثم يمثلوا معك دور (الشاعر على رغم انفه) كما مثلوا دور الطبيب على رغم أنفه في رواية موليير)

ورد الأستاذ المازنى على ذلك بإقراره إذ قال (كل ما قاله صديقي الأستاذ العقاد صحيح، ولست استثنى قوله أنى مكار وأني شاعر)

ثم علل الأستاذ المازنى كفة عن قرض الشعر بأنه كان بطئ النظم، ولم يكن يرضى عما يقول، وانه أساء الظن بصدق سريرته فيما نظم من الشعر وتوهم أن العواطف التي وصفها والتي ولدت ما أعرب عنه من أراء لم تكن صادقة وإنما كانت تقليدا لا اكثر، وأنه

ص: 44

كفر بالخلود والأدب كله (وطلع في دماغه) أن ينكر أنه أديب.

أفيكون الأستاذ المازنى قد رجع عن تجريد نفسه من الشاعرية إذ يعترف الآن بأنهشاعر؟ وكل ما في الأمر أنه مورط بما اقره من مكره الذي كانت نتيجته كما قال الأستاذ الاتقاد: (أن يصغي الناس إلى المطيبين في ركاب المغنيات والمغنين، ولا يصغوا إلى المازنى في أغانيه وأناشيده، ولا إلى المازنى في مترجماته التي لو نظمها الخيام أو هاينى أو شيكسبير عربية فصيحة لما جاوزه في التجويد والإتقان)

ولكن هل يستطيع الأستاذ المازنى أن يتلافي (مكرته) ويخرج من ورطته فيعود إلى قرض الشعر؟ ما احسبه يستطيع، فقد اكتفى الناس منهأيضاً بما بلغة من الشان في الكتابة، وذلك حسب الناس وحسبه، وهو الذي طغى على شعره، ولولا لكان من المحتمل أن يتلمسوه حيث يقبع هاربا ويحملوه إلى الطليعة في أول الصفوف ليقوم بدور (الشاعر على رغم انفه).

نواة الجيل الأدبي

خصت مجلة (المصور) الأدب بصفحة من صفحات عددها الخاص (المجتمع المصري) كتبها الدكتور طه حسين بك تحت عنوان (بعض بيئاتنا الأدبية) ويعتبر هذا المقال - على وجازته - الفصل الأول في تاريخ أدبنا الحديث. فهو حدثنا عن نواة النهضة الأدبية التي نبتت في مستهل القرن العشرين والتي اطرد نموها حتى أثمرت الأدب العربي الحديث الذي اصبح يعد أدبا من الآداب العالمية الكبرى.

يحدثنا الدكتور طه عن البيئة الأدبية الأولى التي اتخذت لها مكانا مختارا في الممر الضيق الذي يفصل بين إدارة الأزهر القديمة وبين الرواق العباسي في مدخل الجامع الأزهر حيث كان مجلس جماعة من الأزهريين يعرف الناس منهم في هذا الجيل (محمود حسين الزناتي، وأحمد حسن الزيات، وطه حسين)

كانوا يختلفون على ذلك الممر قبل أن يرتفع الضحى لينتظروا درس الأستاذ المرصفي في الأدب، وبعد صلاة العصر لانتظار درس الأستاذ آلاما في البلاغة وتفسير القرآن الكريم.

يقول الدكتور: (وكانت هذه الجماعة تتحدث حين تلتقي بما تسمع من الأستاذين - أحدهما أو كليهما أحاديث الإعجاب والاكبار، وبما تسمع من الأساتذة آخرين في الفقه والنحو

ص: 45

والمنطق والأصول، أحاديث السخرية والعبث، ثم كانت تعلق على إقبال المقبلين وانصراف المنصرفين، وعلى ما يكون بينهم من تفاوت في الأشكال والأزياء والسمات. تذهب في هذا كله مذهب النقد أو مذهب العبث والتشنيع، لا تحفل ولا تأبه لأحد ولا تتحرج من لفظ!)

واتصلت هذه البيئة ببيئة أدبية جديدة من طراز أخر هي (الجريدة) التي كانت يديرها أستاذ الجيل (أحمد لطفي) السيد باشات الذي كان يحدثهم عن مونسكيو، وروسو وفولكير، وجولسيمون. وكانت (الجريدة) ملتقى الشباب من الأزهر ومن المدارس العليا يزخر بهم مكتب مديرها معممين ومطربشين، يقول الدكتور (وكذلك التقى الشباب) الناشئ بعضهم ببعض فأخذت الأسوار تنهار بعض العمائم والطرابيش، والتقوا بالشباب الناضج والكهول والشيوخ من إعلام الحياة المصرية على اختلاف فروعها، فأخذ دم جديد يدور في جيل جديد من المصريين) ويتقدم الزمن وتتعاقب السنون وتتخذ هذه البيئة الجديدة في نفسها ناديا أخر في دار العبد الرازق التي أثرت في الحياة العقلية المصرية أقوى أثر وأبقاه.

ولا شك أن خرجي هذه البيئة في مقدمة اللذين قادوا الحركة الفكرية ووجهوا النهضة الأدبية في صدر هذا القرن - لذلك رأينا أن نسجل هنا بعض تضمنته من حديثها ما قال الدكتور طه حسين بك الذي أحسنت به (المصور) إلى المجتمع الأدبي في عددها (المجتمع المصري)

(العباس)

ص: 46

‌تحية الأمام

للأستاذ أنور العطار

(ألقيت في الحفلة الكبرى التي أقامها النجف احتفالا بالوفد

الثقافي السوري في آذار (مارس) 1947)

سلم على النجف الأطيب

سلام على ورده الأعذب

على مهده عالم الذكريات

ودنيا توقد كالكوكب

وكون كآذار جمَّ العبير

أنيق كمنظوره الأهدب

تنشقْ ففي الترب مسك الخلود

تهادى، وفي الجو عطر النبي

وطُف بالهدى والندى والعلاء

وبالجدث الطاهر الطيب

وسلم على العبقري الهمام

على نبعة الخير من يعرب

وسلم على أرج الكائنات

وريحانة الشرق والمغرب

هنا الحسب السمح عم الفضاء

وأسنت به مقلة الغيهب

سرى العبق الطهر ينشئ الصرود

ويورق نديان في السبسب

يموج من النور في موكب

ويندى من الطيب في موكب

يطوف على الناس مثل الصباح

إذاافترعن مبسم أشنب

ويختال في الكون مثل الربيع

يرن بفينانة المعشب

وعرج على موئل النعميات

وعلى الأريحي النجيد الأبي

أخي الحزم والعزم والمكرمات

أخي النائل الأطول الأرحب

وهم بالبيان السني الشهي

وأعذبْ بمنهله أعذب

وزد مورداً حافلا بالخلود

وما شئت من ممتع مطرب

على! ويا سحر هذا النداء

واعجب بروعته اعجب

تحن إليك القلوب اللهاف

حنين الصغار لصدر الأب

إذا أغطش الليل كنت الشعاع

وكنت رجاء الغد الأصعب

وكنت الحنان ورمز الندى

وكنت المعين على المنصب

ص: 47

ولم لا وأنت رفيق النبي

وأنت شذا الطهر من يثرب

وأنت قريش العلي والبطاح

وأنت مدى السؤل والمآرب

فيا ساكني النجف المستحب

سلام القريب إلى الأقرب

سلام الشآم كشدو الهزار

على حافة الجدول المذهب

بنى الجود الخلق المستطاب

من الأفرخ الزغب والشيب

رفاق الكفاح رعاة الذمار

حماة المسالك والمشعب

صبغتم طريق البقاء الحبيب

بهذا الدم الثائر المغضب

فكنتم ضحايا النضال الطويل

مشيتم على حده المرهب

وطهرتم الوطن المستضام

من الصل ينفث والعقرب

نقمتم على الظلم والظالمين

وثرتم على الغاصب الأغلب

فيا ثورة النجف اليعربي

غضبت وحقك أن تغضبي

يسيل الفرات بها صاخباً

ونهر العلي إن يثر يخصب

ولولاك ما كان فجر الخلاص

ولم يجل عن دارنا الأجنبي

سأذكر ما عشت هذا الجهاد

وأفني بملهمه الملهب

وأحيا لهذا الحمى نغمة

وقلبيَ إِما يهمْ يطرب

فيا طير هذا الغناء الرقيق

فان شئت ترتيله فأندب

ويا جفن هذا سبيل البكاء

فإن رمت ترويحه فاسكب

ويا قلب هذا قريض الخلود

فإما استباك العلى فاكتب

ويا نفسي من ورده فانهلي

ويا فكر من مائه فاشرب

شباب الحياة شباب الجهاد

يشق المتاعب بالمنكب

مضى يستهين بغلب الصعاب

ويدفع بالناب والمخلب

تدرع بالحزم يوم الهياج

وأزرى بمرهقه المتعب

وما الحق إلا الطماح الصراح

بغير الرجولة لم يطلب

إذا ما توانيت عنه استبيح

وإن تغف عن صوته يسلب

فشيد منار العلى بالدماء

وبالمثل الرائع المعجب

ص: 48

(دمشق)

أنور العطار

ص: 49

‌البريد الأدبي

أبو هريرة والصعيدي:

كان الأستاذ عبد المتعال الصعيدي نشر - في العدد 715 من الرسالة الغراء - كلمة حول كتابنا (أبو هريرة) فأجبناه بما نشرته الرسالة - في عددها 718 - جنحنا في جوابه إلى الدعة لا نسأله عن شيء مما غالط به أو غلط فيه كالعصمة التي حمل بها حملته على غير روية، فإن العصمة من الذبوب - التي تثبتها الأساسية للأنبياء وأوصيائهم - شئ، والعصمة من الجرح المسقط لعدالة المجروح - التي يثبتها أهل السنة لكل صحابي شيء آخر

واليوم وافانا العدد 721 من الرسالة فإذا به - يعترف بالغلط في نسبة وضع الحديث إلى محمد العثماني المذكور فقال: والحقيقة أنه من وضع غيره إلا من وضعه.

ثم ضعف سنده بما لا تتنزه عن مثله أسانيد كثيرة من الصحاح، على أنه لم يستند في تضعيفه إلى أئمة الجرح والتعديل وإنما أرسل تضعيفه كسائر مرسلاته.

ونحن نستند في تصحيحه إلى إمامين مسلمي الإمامة في الجرح والتعديل عند أهل السنة، حجتين عندهم في السنن لا يدافعان، الحاكم في المستدرك، والذهبي في تلخيصه (ص48 من الجزء الرابع).

والأستاذ لا يجهل دأب الذهبي في تعقب الحاكم وإفراطه بتضعيف كثير من صحاح المستدرك وإسقاط بعضها بأقل شبهة، لكنه مع ذلك لم يتعقبه في هذا الحديث بل صرح بصحته عن أبو هريرة. فقال: صحيح منكر المتن فإن رقية ماتت وقت بدر وأبوهريرة أسلم وقت خيبر 1 هـ.

وما كان الذهبي ولا الحاكم مع حسن ضنهما بأبي هريرة ليثبتا عنه هذا الباطل لو وجدا إلى حمله على غيره سبيلا، لكنها الأمانة لا يحمل وزرها إلا من (كان ظلوما جهولا).

وقد حاول الحاكمصرف الباطل عن أبي هريرة - كما جاء في كلمة الأستاذ - لكنه لم يفلح.

نقل الأستاذ أن كلا من الأمام السيوطي والشيخ الخولي وصاحب المنار وشيخ الجزائري طعنوا في بعض أحاديث المستدرك ونحن نقول: أنهم طعنوا في البعض من حديثه، لكنهم

ص: 50

لم يذكروا هذا الحديث بسوء، ولو كان ضعيفاً لنبهوا إلى ضعفه، ولو كان من الأحاديث الموضوعة لنضمه السيوطي وغيره في سلك الموضوعات، ما علمنا أحد من أئمة الحديث فعل ذلك.

أما ما نقله الأستاذ عن الفاضل الجمجموني - من انقطاع الحديث لأن المطلب بن عبد الله لا يعرف له سماع عن أبي هريرة - ففيه نظر، وقد قيل أن الذي لم يدرك أبي هريرة إنما هو المطلب ابن عبد الله بن المطلب بن حنطب، وراوي الحديث إنما هو المطلب بن عبد الله بن حنطب، فهما - على الأصح - اثنان يروى الأول منهما عن أنس وجابر وابن عمر وعائشة وأبى هريرة، وروى عنه الأوزاعي وعمر بن أبى عمر، وقد وثقه أبو زرعة والدارقطنى وحديثه ثابت في السنن الربعة وغيرها.

وهب أنا صرفنا النظر عن هذا الحديث ولوازمه الباطلة فما رأى الأستاذ وسائر المنصفين فيما يلزم أبا هريرة من أحاديثه الثابتة عنه في الصحيحين؟ وحسبهم منها ما اشتمل عليه كتابنا (أبو هريرة) في جميع فصوله فليمعن به الأستاذ، وليدع توجيهه الجديد جانباً وليسلك جادة العلماء المنصفين (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) والذي دعانا إلى هذا إنما هو الذود عن السنة المقدسة والغيرة على الإسلام والمسلمين بتمحيص الحق المتصل بحياتنا العملية والعقلية اتصالاً مباشرا، أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.

صور - لبنان

عبد الحسين شرف الدين

إلى الأستاذ علي الطنطاوي:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فإنني من المعجبين بك وبما تكتبه، وبهذا الأسلوب السهل السلس الذي يجرى من النفس مجرى الطبع والذوق السليم. هذا أما من حيث مناقشتك للآراء فهي مناقشة القاضي العدل الذي ينظر إلى كل شيء فاحصاً مدققاً ثم يناقش على أساس راسخ وعلم غزير.

وإن حميتك العربية وفضائل الإسلام التي تتدفق في عروقك والخير الذي ترجوه للمجتمع الإسلامي من الاتحاد هو الذي رفعك لنقد هذا الكتاب (في مقالة بالعدد 722 بعنوان إلى

ص: 51

علماء الشيعة) بالرغم من أن هذا الكتاب هو طبعة ثانية لكتاب صدر منذ ستة عشر عاماً. فإن مجرد وجوده دون هذا التعليق كان دليلاً على أن النزاع سيظل قائماً والجدل سوف لا ينتهي إلى حد. ولهذا فقد أحسنت يا سيدي صنعاً. وان حرصك يا سيدي على الوحدة والتئام شمل المسلمين في هذا الطرف العصيب لما هو جدير بالتقدير ولكن قل من يعرف المواقف وما تقتضيه في هذا الزمن.

وإن رغبتك يا سيدي في نبذ الجدل بين السنيين والشيعيين لمما يقتضيه الموقف في هذه الظروف الحاضرة، ولكن هنالك في التاريخ الإسلامي سابقة هي أن العالم الإسلامي أتحد في ظرف عصيب على يد شخصية بارزة إلا هو البطل صلاح الدين الأيوبي - طيب الله ثراه - اجتمع العالم الإسلامي كله من سنيين وشيعيين لمواجهة خطر داهم، إلا وهو الخطر الصليبي. وهذا الخطر يهدد الأمم العربية اليوم ولكن بصورة أخرى. فالقوى الاستعمارية تريد أن تكيف العالم كما تريد. وتريد أن تجعل فلسطين العربية طعماً خالصاً لليهود! لا لشيء سوى أن الدول الكبرى تريد أن تهيئ لليهود وطناً في أرض مقدسة ليست لليهود وحدهم وتأبى أن تستقل فلسطين العربية دماً ولحماً.

لقد أحسنت يا مولاي بقرع جرس الخطر وبالنداء للوحدة والتكتل. فعسى أن يفيق القوم من سباتهم العميق ويهبوا ليحملوا السلاح للدفاع عن فلسطين وليستعدوا مجدهم التالد الخالد. ويا حبذا لو ذكر لنا أستاذنا العلامة المحقق أحمد رمزي بك طرفاً من حياة صلاح الدين وتوحيده شمل العالم الإسلامي ومقاومته للصلبيين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شفيق أحمد عبد القادر

كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

كلمة صغيرة: -

كان بودي أن تكون كلمتي في الرد على الأستاذ طاهر الجبلاوي هي الأخيرة لولا شبهه صغيرة أتى بها في رده الأخير، رأيت أن أوضحها إظهاراً للحق - فقد أراد الأستاذ أن يثبت صحة ترجمته بالوعي الروحي بأن الوعي هنا بمعنى الضمير استشهاداً بالآية الكريمة (والله أعلم بما يوعون) أي يضمرون. . . وليسمح لي الأستاذ أن اقدم أمامه هاتين

ص: 52

الحقيقتين الواضحتين:

1 -

الوعي ليس مصدر (يوعى) أي يضمر بل هو مصدر (وعى) وهو في الأساليب الحديثة يأتي بمعنى الانتباه مثل الوعي القومي ولا يأتي بمعنى الضمير، وفي ذلك مراعاة لمعناه الأصيل في اللغة العربية.

2 -

ليس في الفصل كله جملة واحدة تؤيد رأى الأستاذ في أن الروح يجب أن يدرك ضميرها الاشياء، والفصل كله يؤيد رأيي في أن الخطوة الأولى لمعرفة الحقائق هي معرفة الروح، فليتفضل الأستاذ بمراجعته مرة ثانية قبل أن يتهمني بالتزييف والتحريف!!.

وقد ختم الأستاذ باتهام مبهم لوح فيه بأخطاء في ترجمتي للسادهانا غير موجودة، وهذا الكلام المبهم مما لا يرد علية؛ لأنه يحتاج إلى دليل يؤيده.

هذه كلمة صغيرة في هذا الموضوع. وأؤمل أن تكون الأخيرة.

أسيوط

محمد محمد علي

إلى أصدقاء أحمد محرم:

المرجو من أصدقاء ومقدري فضل شاعر العربية المغفور له أحمد محرم أن يرسلوا مشكورين ما قد يكون في حوزتهم من آثاره الأدبية (شعراً ونثراً) - ما نشر منها بالمجلات والجرائد وما لم ينشر إلى الأستاذ محمود أحمد محرم بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول.

ص: 53

‌القصص

الاختيار الذي كسر قلبي

معربة عن الإنجليزية

بقلم الأستاذ عبد الحميد حمدي

تتمة ما نشر في العدد الماضي

وفي الحق كان هذا الخطاب أول ما شعرت به من عوامل الارتياح منذ أشهر طوال. فلقد أخبرته فيه بما يحيط مركزي من حرج يدعو إلى اليأس. خبرته بمبلغ حبي ابنتي حباً يحول بيني وبين اللحاق به ولكنني اعترفت له بأنني كنت شديدة الحماقة في تصرفي الذي أدى بعد الواحد منا عن الاخر، وقلت إنني أود على الأقل أن أتعزى في شقائي بمعرفتي أحواله ولقد كنت أعلم على كل حال أنه قد انتظرني وأنه لم يستبدل بي أحدا. وطلبت منه أن يبعث برده على خطابي إلى شباك البريد.

قضيت أسبوعين في عذاب متواصل تنتابني على التوالي عوامل الخوف والشعور بالجريمة واليأس والأمل إذ كنت اذهب كل يوم إلى دار البريد لأسال سؤالي المألوف: (هل جاءتني خطابات)؟ وأتلقى الجواب المألوف أيضاً: (لا، يا سيدتي)

وأخيراً جاء الرد، فكان أشبه بالمعجزة أن أقرأ العنوان وكلمات (تيد) مكتوبة بخطه الذي ألفته زماناً طويلا فكان من أعز الأشياء على نفسي. وكأنما كانت تلك الكلمات صوتاً خارجاً من القبر وقد استهلها بقوله (عزيزة نفسي) وقد قال لي في ذلك الخطاب أن شيئاً واحداً كان ثابتا في حياته التي اكتنفها الاضطراب، وأنه كان متنقلا من مكان إلى مكان وكان خطابي يتبعه حيثما ذهب. وأنه قد عاد الآن إلى لندن، وسيغادرها بعد قليل ليبحر مرة أخرى إلى الشرق الأقصى. وقد رجاني أن أذهب إليه، وأن لا أكلف نفسي أكثر من حمل طفلتي معي.

وتبادلنا المراسلات شهراً كاملا محاولين أن نصل إلى حل لمشكلتنا. وقد خيل إلي أنني بعثوري عليه مرة أخرى أستطيع أن أتجمل حظي في الحياة. ولكني لم ألبث أن أدركت أن هذا الوضع الذي أريد وضع الأمور فيه غير عادل ولا مقبول، فهناك في لندن يقيم الرجل

ص: 54

الذي أشتاق لقاءه وهو ينتظرني ويرجوني أن أذهب أليه. فلم أضيع الحياة الوحيدة الصالحة لي احتفاظاً بعقد زواج مجرد من الحب؟

ومع ذلك لم أكن لأستطيع التفكير في هجر ابنتي (سو) وكنت أعلم أنني إذا حاولت أخذها من (روني) فإنه يقدم على كل مستحيل للحيلولة دون ذلك.

وهناك إلى جانب ذلك شعوري الشخصي بروح العدل والأنصاف لا يسمح لي بأن آخذ الشيء الوحيد الذي يعيش من أجله في هذا العالم وما كانت القسوة لتبلغ بي إلى حد أن آخذ (تيد) ولا أترك (لروني) شيئاً. كذلك لم أكن لأسمح لنفسي بأن أعرض (سو) للحياة في مركز حربي ببلاد نائية حتى لو استطعت أن أخرج بها من هذه البلاد.

احتفظت بخطابات (تيد) وكنت أكرر قراءتها المرة بعد الأخرى باحثة عن حل لهذا الأشكال، وكنت في كل يوم أعتزم أن أحرق هذه الخطابات، ولكنها كانت جميلة جداً وكان حرقها في نظري أشبه بالتخلص من الحب الذي كنت متعطشة إليه، بعد أن أصبح بين يدي. فكان احتفاظي بهذه الخطابات هو الغلطة الكبيرة الثالثة التي ارتكبتها. فقد كنت أدرك جيداً الخطر من وجودها عندي، وكنت في خوف دائم من أن يعثر (روني) عليها ولو أنها كانت محفوظة في صندوقي المقفل.

وفي يوم من الأيام انحنيت فوق الصندوق أبحث عن شيء من القصاصات لأجعل منها ملابس لعرائس (سو) وكانت (سو) إلى جانبي فمالت إلى نصفها داخل الصندوق وقالت بلهجة الطفولة العذبة (ورق).

ولم تسترع هذه الكلمة نظري بادئ الامر، ولكن بعد بضع دقائق كانت (سو) جالسة على الأرض تعبث ببعض الأوراق عندما دخل روني الغرفة.

فأغلقت الصندوق مسرعة وقد دق قلبي دقاته العنيفة وهو يقول:

- لقد عدت لأخبرك أنني لن أحضر الغداء اليوم هنا.

ثم حمل (سو) بين يديه وقبلها، وهو يقول:

- كيف حال ابنتي الصغيرة. . أترسمين؟ ألا فدعي أباك يرى ما عملت)

وعلى حين فجأة وفي ثورة جنونية عرفت ما كان في يدها، فصحت في حماقة بالغة:

- لا. . أريد أن أقول. . إنها لا شئ. . هاتها لي) فنظر روني إلي نظرة غريبة. . ثم

ص: 55

أنزل (سو) إلى الأرض فاستمرت ترقص وهي متعلقة بساقيه، ونظر إلى الخطاب الذي أخذه من ابنته، فحاولت أن أختطفه من يده ولكنه أمسك بيدي ورفع يدي على رأسي، وكان لون وجهينا قد استحال إلى صفرة الموت وثقل تنفسنا، وقال في إيجاز:

- لقد اشتبهت في شيء من هذا القبيل منذ عهد بعيد ثم ترك يدي وبدأ يقرأ الخطاب، فانحنيت على الصندوق وخبأت وجهي بكفي واندفعت في بكاء عنيف، علماً بأن ما وجدت كان الخاتمة والبداية. فقد كان علمه بما بيني وبين (تيد) عذاباً لي وراحة في وقت واحد. فمعناه مواجهة الحقيقة ثم الاستقرار على أمر

ثم قال وقد تجهم وجهه وتقلصت شفتاه واشتعلت عيناه بنار الجرح الذي أصابه:

- حسناً، ولعل الخير في أن تذهبي، ألا ترين ذلك؟

فضممت (سو) بين ساعدي وضغطت جسمها الصغير الدافئ إلى صدرى، وقلت في لهجة منقطعة بالتنهد:

- لا أستطيع أن أتركها وأبتعد عنها.

فعانقتني الطفلة وهي تقول بلهجة الطفولة المرحة:

- لا تبكى يا أمي. . لا تبكي. . وانظري (سو) فهي تحبك لا تبكي. . .

فانتزع روني الطفلة مني وقال بلهجة مخيفة:

- لابد من أن تفارقيها، فإنك لن تأخذيها معك ولن تبقي هنا معها. . . إذهبي إليه إن كنت تعنين به فوق ما تعنين بأهلك! إنك تحبينه، فلن تبقي هنا تخادعينني

فقلت متوسلة:

- أرجوكيا روني. . . أرجوك أن تفهم!

- فأجاب في ثبات:

- أني فاهم. . . لقد كنت تحبينه دائماً. . . ولم تحبيني قط! فاذهبي إليه. . . ولكنك لن تأخذي (سو) أبداً.

فقلت باكية: إن لي فيها النصف. فقال:

- إنها لن تعرف لها أباً غيري. . . وسأقف معك أمام أية محكمة في البلاد يا (بام) وسأبرهن على أنك أم غير صالحة لكفالة ابنتك. وسأعمل الآن على كل شيء لإبعادها

ص: 56

عنك.

فتدلت شفة (سو) واضطربت وانحدرت الدموع على وجنتيها الصغيرتين. فامسك روني بها ولكنها مدت إلي يديها الصغيرتين وهي تبكي وتقول:

- لا تبكي يا أمي. . . أرجوك لا تبكي. . .

وإني لأستيقظ في بعض الليالي فأتخيلها أمامي وأسمع كلماتها الأخيرة لي: (لا تبكي يا أمي!) ولعل هذا هو السبب الذي لا يعينني على البكاء.

حمل (روني) ابنته إلى الغرفة الثانية، وسمعته يكلمها في رقة وهو يلفها في معطفها المصنوع من الصوف الأحمر ويلبسها قبعتها الجميلة ويداعبها ويسألها هل تحبه وتحب الخروج معه.

ثم سمعتها تتحدث فرحة مبتهجة. . . والحق أنهما سيعيشان عيشة سعيدة، فلقد كان أباً صالحاً جداً وكانت الطفلة تحبه حباً مفرطا. . . فهما يستطيعان أن يعيشا من غيري.

ووضع (روني)(سو) في الردهة ثم عاد فوقف بباب غرفتي وقال:

- سأعطيك ورقة طلاقك ولكني سآخذ (سو) معي اليوم. فاسحبي من البنك أي مبلغ من المال شئت، وخذي أي شيء أخر تريدينه.

أي شيء آخر أريده؟ وأي شيء يمكن أن أريده غير ابنتي؟ فشعرت بأن قلبي قد جمد في صدري وقلت باكية:

- ألا تريد حتى أن أبقى هنا!

ولقد كنت حتى تلك اللحظة مستعدة للبقاء معه إذا هو قبل ذلك. فهز رأسه وقال:

لم يعد ذلك الآن بممكن، فمن الخير (لسو) أن تعيش بعيدة عن أم لا تستطيع حتى أن تخلص لزوجها.

وسمعت صوت خطاهما يجتازان الردهة، ثم سمعت صوت إغلاق الباب وصوت تحرك السيارة، ثم وثبت إلى النافذة كمن أصيب بفاجعة مفاجئة وأزاحت الستار، فرأيت وجه ابنتي الصغير ملتصقاً بالزجاج الخلفي وقد تفرطح أنفها وهي ترسل لي بيدها قبلة في الهواء قبل أن تبتعدا عن نظري.

فاستولى الخبل على نفسي وأسرعت إلى آلة التليفون وطلبت لندن ثم بدأت أعد حقائبي،

ص: 57

وكان كل ما أخذته مما يتصل بابنتي التي لا أحب شيئاً في الوجود حبي لها حذاء من أحذيتها الصغير وصورتها الفوتوغرافية. . . وترك صورتي الفوتوغرافية وقائمة مشوشة مما يلزمها من طعام، وحمام، ودواء إذا أصابها برد.

وكتبت في أخر القائمة بخط مضطرب: (وغطها في الليل)

وكان من عادة الطفلة أن تتقلب ليلا فيجئ رأسها مكان رجليها وتنفض الغطاء عن جسمها، وكان نوم (روني) عميقاً، فليساعده الله في أن يعمل لها كل ما كنت أعمله أنا.

ودق جرس التليفون دقاً شديداً وأخيراً سمعت صوت (تيد) المحبوب الذي كدت أنساه، فلما سمع بأنني قد أصبحت آخر الأمر له ابتهج وصاح.

- لا تشحني شيئاً في القطار، إنك ستركبين الطائرة يا حبيبتي؟ وسأرسل لك المال بالتلغراف. . . آه. . . يا بام. . . سأعد الدقائق عداً!.

فلأسرع. . . نعم فلأسرع. . لمغادرة البيت ولأنهب الطرقات في إحدى سيارات الأجرة. . . ولأمض لا أتلفت ورائي إلى لعب ابنتي المبعثرة في أرض الغرفة. . .

ولأنظر إلى الأمام. . إلى تيد!. . تيد: الذي يستطيع حبه أن يعيدني (الفتاة) التي كنت من قبل. . جميلة محبوبة! آه. . يا تيد. . تيد. . إنك ستنسيني كل هذه السنوات. . . ستنسينيها نسياناً تاماً فلا يصحبني شيئ منها!.

ولقد حاول (تيد) فعلا أن ينسيني أيام المتاعب. ومن حسن الحظ أننا أبحرنا في الحال، فالبحر، والبلاد الجديدة وليالي شهر العسل في المناطق الاستوائية كل ذلك كان حلماً ساحراً. وشفاهه العاطشة وساعداه القويتان الضاغطان، واجتمعنا معاً ناسين العالم كله، وهو يريني هذه الأراضي الجديدة التي يقيم فيها. . هذه هي السعادة، هذه هي الجنة. .

ولكن الطلاق من (روني) والزواج في اطمئنان من الرجل الذي أحببته. . . لم يكن كله ليمحو عن رأسي ذكرى هاتين السنتين التين عشتهما أما لطفلة صغيرة. . . لا أدري أين هي الآنومع من هي، وماذا هي فاعلة؟ وهل لا تزال تصلي الصلاة التي علمتها؟ وهل أوصيت في القائمة التي تركتها بأن تستحم مرتين في اليوم؟ ومن الذي يتولى أمر استحمامها بينما يكون (روني) في عمله بعيداً عن البيت؟ أهي خادمة؟ إن قلبي ليرتجف رعباً عندما أتصور إحدى الخادمات تزجر ابنتي في خشونة وعنف. . .

ص: 58

والآن تكاد (سو) تبلغ السنة الثالثة من عمرها. . . أو هي تقرب من السنة الرابعة. . . ومن الذي يغطيها في الليل؟

وغالبا ما أستيقظ في الليل على حين فجأة وقد خيل إلي أنني سمعت تنفسها المرتجف الذي يدلني على أنها تشعر بقسوة البرد.

وما زلت أتوهم مثل هذه الأوهام، وإن كانت ابنتي أشرفت الآن على السنة السادسة من عمرها. . . فهي على أهبة الذهاب إلى المدرسة. . على أن (تيد) الذي كان يشعر باضطراب نفسي، لم يكن ليبتعد عني كثيراً فهو دائماً إلى جانبي يحاول أن يواسيني ويهدئ من روعي. . وعلى الرغم من أنني، من أجله أحاول أن أنسى، فإنني لا أستطيع النسيان ولا تزال سعادتنا يضللها شبح آلامي وعذاب نفسي.

ليس في الوجود شيء كامل. وليس فيها شيء كافي لإقناع النفس. فكما كنت من قبل أشتاق إلى (تيد) أنا الآن أشتاق إلى (سو)، وكما كان رأسي يداعبه الأمل في أن أجتمع (بتيد) ها هو ذا رأسي يداعبه الأمل في أن أجتمع يوما بابنتي. . . وحيثما ذهبنا، وبخاصة الآن بعد أن عدنا إلى إنجلترا، تصفحت وجوه الأطفال، أبحث عن طفلة براقة العينين، راقصة الساقين، يداعب الهواء حلقات شعرها الجميل. وقد تكون في مكان يبعد أميالا عديدة عن مقامي، وقد تكون على مقربة مني تمر بي في الطريق.

لقد كتبت علي أن لا أعرف شيئاً من أمرها، ولعلي لن أعرف منه شيئاً أبداً. . . وكل ما أستطع أن أفعله هو أن أصلي من أجلها وأن أدعو الله (أن يحفظها. . . وأن يغطيها في الليل)

عبد الحميد حمدي

ص: 59